نصوص أدبية
عبد الله الزعبي: في غفوة الأحلام

رحلة أيوب بين حلم حالم وحلم يقظه
في أشهر مقهى أدبي وسياسي يقع في جانب المصرف العربي في وسط العاصمة الأردنية، جلس أيوب وحيدًا في زاوية تعلوها مصابيح، على شكل فوانيس ذهبية مزخرفة، تُلقي بضوء خافت على وجهه الشاحب. كان رجلاً في منتصف العمر، ذا شعر أسود قصير ولحية رمادية، يرتدي بدلة سوداء وقميصًا أبيض، وكان وجهه يحمل تعبيرًا عن الحزن العميق، كرجل محاصر في متاهة أفكاره. بينما كانت طائفة من الأدباء تتجاذب أطراف الحديث بحماس في المقاعد المجاورة له، منغمسين في سيمفونية من الأفكار التي تختلط بالحنين إلى الماضي وواقع الحاضر. كانت رائحة القهوة تفوح في الهواء، وتتخلل الأجواء أصوات السعال الجاف أو الضحك المتزايد، مما يوحي بأن المحادثات التي تجري في المقهى مثيرة وممتعة في ظل سحابة من الشك والحزن.
انسابت أنظاره بعيدًا نحو النافذة وما وراءها، كمن يراقب مشهدًا يتبلور أمام عينيه ثم ينحل. راح يتأمل حقيقة الأشياء، ويتأمل الأسئلة الكُبرى حول معنى الحياة والغرض منها. إلّا أنّ أفكارًا غيرَ منتهيةٍ كانت تتلاطم بعنف في ذهنه، بعضها يسبح في فلك الحيرة والتساؤل والألم، والبعض الآخر يتفكر في ماهية الحب والجمال، وما تبقى يدور حول الاغتراب والانتماء والمعنى والفناء والحرية. بعد دقائق قليلة، وجد نفسه محاصرًا بين جدران الشك والحقيقة والتشتت، كسفينة تائهة في بحر من القلق والحزن، مثقلا بشتى صنوف المعاناة.
مرَّت ساعة دون أن يعكِّر صفوَ أيوب شيءٌ، حتى لمح هيئة صديقه علي، المفكر الذي يكن له جل الاحترام والتقدير. عرف أيوب علي منذ أيام الدراسة في المدارس الحكومية، وكلاهما لم يعرفا اليأس بعد. أصبح علي كاتبًا وشاعرًا بارعًا ومؤرخًا ثنائي اللغة، في حين تحول أيوب إلى مترجم يستند في أسلوبه إلى أُسس الفلسفة والأخلاق والثقافة الكامنة وراء النص الأدبي. لم يكد أيوب يراه مقبلًا عليه وابتسامته البشوشة المعهودة تملأ وجهه المستدير، حتى استوى قائمًا، وقال باحترام بالغ: "أهلاً بالرجل النقي، باهر الحضور في حركة الثقافة العربية." مد علي إليه بكفِّ يده يُحيِّيه تحية المساء، ثم همس بصدق حقيقي: "اترك كل شيء وتابع كتابة الرواية." وأردف علي وهو يلاحظ ذبول روح أيوب وبداية انكسارها، قائلًا بنبرة رزينة: "أنا على يقين أنك الآن قادر على تحويل فكرة الرواية إلى حبكة عذبة فهي تُظهِر تماسكًا داخليًّا قويًّا ولا يمكن إلا أن تُعتبَر إرثَ مفكِّرٍ عظيمٍ بحق."
وجد أيوب نفسه مشتتًا بين الأحلام القديمة والتساؤلات الجديدة حول مكانته في العالم، واستمر في الإصرار على قراره بالابتعاد عن تطوير الرواية. فقد باتت الرواية خارج نطاق اهتماماته، بينما رأى علي في الرواية التي أطلعه أيوب عليها قبل أشهر قليلة إمكانية خلق عمل أدبي يتسم بالعمق والجاذبية، مشجعًا إياه بكلمات خارجة من القلب.
لم يكتف علي، المفكر الذي لا يحظى بالشهرة، وبادر أيوب بالقول: "لا تستعجل الحكم على الأمور، فأحيانًا لا تظهر الحقيقة إلا بعد انقضاء الزمن واستكمال دمج أدقّ ديناميكيات القصة تباعًا." ثم ألقى أيوب نظرة حزينة نحو الأفق عبر النافذة، وكأنه يحلق في فضاء الظلام الطاغي وخاطب صديقه علي بكلمات مستمدة من عقله اللاواعي: "أتذكر تمامًا ما قلته لي وأنا لا أزال يافعًا، مجتهدًا في الثانوية العامة... إن قوتنا الفطرية تدعونا لاستكشاف أعماقنا والبحث عن قيم الروح الإنسانية، مثل الأخلاق السامية وروح المغامرة والنزاهة والصبر والتضحية والشجاعة." ثم نهض يهم بمغادرة المقهى.
رفع علي يده بتأثر واضح وقال: "إلى أين؟"
رد أيوب كما لو كان رجلاً آليًا: "المعذرة... أشعر بالإعياء ويجب أن أغادر." ثم تابع وفكره غارق بتأمل عميق: "الحياة، يا صديقي، لا قيمة لها إلا إذا كنا قادرين على رؤية الجمال في الأشياء البسيطة."
بابتسامة تحمل تفهما كبيرا قال علي: "أحيانًا الأشياء البسيطة هي الأكثر قيمة. لكن، ماذا حدث؟ لماذا تبدو الآن بهذا الحزن؟ كلنا نخوض تلك التجارب المقدرة علينا في الحياة. لكن هل فكرت في قوتك الداخلية؟ يا صديقي، القوة ليست دائما في الفوز، بل في القدرة على الوقوف مجددًا بعد كل هزيمة. قلبك يبحث عن شيء خالد وغير محدود، أليس كذلك؟"
تراجع أيوب نحو مقعده بتأني، إلا أنه لم يجلس بل تسمر في مكانه، ثم قال: "قوتي؟! أنا ضائع بين أحلام قديمة وتساؤلات جديدة. لم يعد لدي القوة للتمييز بين هزائمي وانتصاراتي. لا أشعر بالاتحاد مع أي شيء في هذا العالم. ستقول انهارت أحلامي، أليس كذلك؟ وتعود لتحدثني عن قوتي؟! ولكن أين يمكنني العثور عليها؟"
بتأمل يكسوه التفاؤل، قال علي بحنان: "الجواب قد يكون في البحث داخلك، في اكتشاف قيم الروح الإنسانية." ثم استطرد بانفعال شديد وملحوظ، قائلاً: "لا تستعجل الحكم على الأمور، الحقيقة تظهر بعد مرور الوقت. دع الحياة تكمل تجميع دينامياتها وفقًا لخطاها."
قال أيوب بنبرة لا تخلو من النحيب الهامس: "ربما، ولكن الحياة تشعرني بالحيرة والشك." ثم نظر إلى النافذة باندهاش وأردف قائلاً: "كيف يمكن للأمل البقاء في ظل هذا الظلام؟"
رد علي بثقة حانية: "الأمل يولد من تحملنا للألم وقدرتنا على استكشاف أعماقنا. ابحث عن القوة في دواخلك، أيوب."
ابتعد أيوب عن الطاولة بخطوات ثقيلة، كأنه يحمل على كاهله وزر الحياة. ظلّ يتلوى في متاهات الظلمة، وعيناه تحملان عبء الألم الذي لا يمكن إخفاؤه. بينما علي، صديقه الوفي، بقي جالسًا يراقبه بعيون ممتلئة بالتفهم والقلق، يعلم أن أيوب يحمل على كتفيه ليس فقط وزر الحياة، بل وثقل الذكريات والهموم العميقة.
تأوه أيوب وهو يدفع بأقدامه نحو الشارع، وبعدما قطع مسافة بضع خطوات، اختار الجلوس على قارعة الطريق، كأنه أصيب بنوبة قوية من الحزن والألم بسبب فقدانه الفتاة التي لم يتسن له خطبتها، ورحلت عن عالمنا بحادث سير مؤلم.
مرت ساعة وهو جالس على رصيف الشارع، وفي عقله تتلاطم أفكار لا يمكن له أن يحللها وهو يحاول ويحاول. تزايدت معاناة أيوب وتفاقمت وهو جالس على الرصيف، واستفحل ألمه كمن يفاجأ بضربة قاسية على رأسه كالصاعقة. ولكنه يرى عصفورًا يحلق في السماء، فلا يملك إلا أن يرفع يده تحيةً واحترامًا لذاك الزائر المحلق وهو يتلاشى في أفق السماء.
بعد عودته بكل صمت إلى منزله، وهو تقريبا في حالة عدم وعي، بدأ ينزع ثيابه بحركاتٍ بطيئة، ثم اتجه إلى سريره وألقى رأسه على الوسادة ككائن يعاني من الإرهاق منذ سنين.
مرت عليه برهة وهو مشغول ومستغرق في مخيلته المشحونة المكتظَّة، التي تَفُوق سعة الجحيم الشاسع، حتى أُصِيب بنوبة من الهوس الخفيف أطاحت بصفاء ذهنه، ترافقها سرعة توارد الأفكار مع خيال خصب مفرط الحساسية. اسرع وتناول حبة مهدئ ثم أرخى رأسه على الوسادة.
خيل إليه أنه يشهد حلمًا يتَمثَّل أمام عينيه، وتحجر كالتمثال مكانه عندما لاح طيف خطيبته بظهوره السار أمامه. سمع صوتها الرخيم وهي تقول بنبرة أنعشت قلبه وأحيت روحه: "أنا فرحة للقائنا في الغد." اعتقد أيوب أنه فقد صوابه وضاعت آماله، وتردد بين الاستسلام للطبيعة المتناهية والزائلة والتمسك بالطبيعة الخارقة اللامتناهية الخالدة.
لكن خطيبته الغارقة في البعد عادت وظهرت له في نومه وقالت أخيرًا بنبرة مطمئنة: "لا تسعى كي تجدني... لن تعثر عليَّ إلا إذا استكشفت ذاتك في غمرة الألم." ثم تابعت بثقة: "البحث عن الذات يكمن في خضم الألم، وكل تحدٍّ يمثل فُرصة جديدة لاكتساب المعرفة والنضوج مع تقدم الزمن. أيوب، لا تخشَ الألم، بل استثمره وتجاوزه، فسيكون هو الدافع الحقيقي لتحقيق إشراقةٍ جديدة في حياتك. ففي خضم الألم، ستجدني، وستجد نفسك."
أفاق أيوب في الصباح وأدرك أن رحلته للعثور على ذاته ستكون صعبة ومؤلمة. لكنه كان مصممًا على مواجهة تحدياته. لم يعد خائفًا من الألم، بل أصبح يراه الآن كفرصة للنمو والتغيير. وقرر أيوب العمل على استكمال كتابة روايته. كان يعرف أن الكتابة ستكون طريقة له لاستكشاف ذاته والتعبير عن حزنه.
***
عبد الله محمد الزعبي – كاتب ومترجم / الاردن