نصوص أدبية

أمينة شرادي: الصمت

سلمى، موظفة بسيطة تعيش في هدوء نفسي وسلام داخلي. لا تتدخل في شؤون الغير ولا تهتم بحياة الغير. حياتها تختزل في شغلها كموظفة في شركة استيراد وتصدير، وفي أسرتها المتكونة من والدتها التي تعيش معها وزوجها وابنيها. تراها صباحا ذاهبة الى عملها بسرعة لا تلوي على شيء، أو عائدة في المساء الى بيتها، لا تلقي بالا لما يحدث حولها. منحنية الرأس، تضع تحت ذراعها حقيبة متوسطة الحجم. لونها أسود. تقول دائما "انه لوني المفضل. يمدني بطاقة غريبة وراحة بال لا أفهمها. لست أدري لماذا ينعتونه بأنه لون الحزن؟". وهي دائما تسرع الخطى وتحاول أن تنتصر على المسافات التي تبعدها عن بيتها حتى تصل في الوقت المناسب وتلبي طلبات أسرتها الصغيرة. نادرا ما تأخذ سيارة أجرة. ترى أنها مصاريف غير ضرورية. حتى وهي في عملها، تكون منشغلة بما ينتظرها بالبيت من أشغال. قالت يوما لزميلة لها:

- لم أستطع أن أطبخ اليوم، ولست أدري كيف سأتصرف.

أجابتها زميلتها بصوت واثق:

- اطلبي من زوجك وهو عائد الى البيت أن يحضر معه أكلا. وهكذا سترتاحين.

ابتسمت سلمى وأجابت بافتخار:

- في البيت لا يحبون أكل المطاعم. يعشقون أكلي.

ظهرت علامات التوتر على ملامح زميلتها. وسألتها بعنف رغم أنها لم تكن تقصد ذلك:

- لا أفهمك يا سلمى. تشتكين من الإرهاق في البيت ولا ترغبين في المساعدة. زوجك لديه سيارة ولا تطلبين منه أن يتركها لك بعض الأيام في الأسبوع حتى ترتاحين من المواصلات. أمرك غريب.

وتذكرت ساعتها سلمى يوم فاتحت زوجها بخصوص السيارة وطلبت منه أن يوصلها الى العمل أو يتركها لها. قال لها:

- أنت تعلمين جيدا أنني لا أستطيع الذهاب الى العمل بدون سيارة. وأنت تعلمين أيضا أنني أكره سيارة الأجرة. ومع ذلك، تفتحين هذا الموضوع. انسي تماما السيارة.

فهي تحاول أن تترك حياتها الخاصة بعيدا عن ألسنة زملائها بالعمل. تخاف كثيرا من أحاديثهم التي تكبر وتكبر وتصير مثل كرة الثلج كلما تدحرجت، كلما ازداد حجمها. تفضل الصمت على الخوض في هذه المواضيع. حتى رفضها حضور احتفالات الشركة أو دعوة غذاء، كانت تجيب دائما من يبادرها بالسؤال: "بيتي أولى بكل دقيقة" ولا تقول لهم الوجه الآخر من الحقيقة.

تلك الحقيقة التي اكتشفتها يوما بعدما تأخرت بعض الشيء عن وقتها المعهود للعودة الى البيت. ولجت يومها بيتها، وكانت منهارة من التعب والقلق. وجدته بالمطبخ، كثور هائج. قال لها أمام والدتها وابنيهما:

- أين الأكل؟ آخر مرة أحضر الى البيت ولا أجدك..

حاولت أن تشرح له سبب تأخيرها، رفض الاستماع وخرج.

ووبختها والدتها وقالت لها:

- معه حق. بيتك أولا. وهو وافق على عملك بشرط أن تكوني دائما بالبيت.

نظرات متفرقة بين زوجها الذي خرج غاضبا وأمها التي تؤنبها وولداها اللذين ينتظران الآكل في صمت.

سألتها يوما احدى زميلاتها: " متى ستهتمين بسلمى؟" أجابتها بطيبوبتها المعروفة ودون تفكير:" من سلمى؟" ضحكت زميلتها وقالت لها "الى هذه الدرجة، نسيت اسمك؟".

وسط صخب الحياة اليومية، نسيت نفسها. وكانت تسارع الزمن والتعب والإرهاق حتى تلبي طلبات أسرتها دون انتظار أي اعتراف. فكلام والدتها لا يفارقها حتى وهي في الحمام." الزوجة التي تهتم ببيتها وزوجها وأولادها، هي الزوجة الصالحة...الزوجة التي تكون أول المستيقظين وآخر النائمين، زوجة محبوبة عند زوجها..." كلام يتطاير حولها من الصباح الى المساء حتى نسيت أن اسمها "سلمى".

استيقظت ذلك الصباح وهي غير مرتاحة. كانت تشعر بتعب وارهاق شديدين، كأنها لم تنم منذ زمن. قاومت ذلك الشعور الذي يستوطن جسدها، واتجهت صوب المطبخ لتحضير وجبة الفطور وسندويتشات لابنيها. تركت الأكل جاهزا على المائدة، وخرجت الى عملها. تضطر الذهاب باكرا حتى لا تتأخر في المواصلات. كل يوم، تعيش نفس الحكاية، تنتظر سيارة أجرة، ويمكن أن يطول الانتظار أو يقصر. دائما تضع في حقيبتها حذاء بكعب عال خاص بالعمل. وتلبس حذاء رياضي يساعدها على الوقوف والانتظار في صمت.

لازمها ذلك الإحساس بالتعب حتى أغمي عليها وهي وراء مكتبها.. حملت الى المستشفى. كلموا زوجها، لم يحضر لأنه كان لديه اجتماع. طلبوا والدتها في البيت، لم تستطع الحضور لأنها لا تعرف كيف تـأخذ سيارة أجرة. حيث أنها طيلة حياتها، لما كان زوجها على قيد الحياة، كانت لا تغادر البيت بتاتا. وكان زوجها هو الذي يتكفل بكل ما يخص البيت من الخارج. حتى زيارة أهلها، كان يصطحبها بالسيارة ويعود اليها بعض ساعات.

ظلت سلمى بالمستشفى اليوم كله، عادت الى بيتها مساء، تحمل أوراق التحاليل وبعض الأدوية. لم يكن زوجها قد حضر بعد. استقبلتها والدتها وحضنتها ثم قالت لها:

- انه التعب يا ابنتي. قلت لك اتركي العمل واهتمي ببيتك أحسن.

كانت سلمى ساعتها منهارة. ابتسمت لها ابتسامة باهتة وولجت غرفتها. عادت والدتها تشاهد التلفاز وتتابع مسلسلها المفضل، دخل الولدان غرفتهما بعدما عاتبا أمهما على الـتأخير لأنهما لم يجدا ما يأكلانه.

نامت سلمى بعد يوم شاق.  تركت التحاليل جانبا مع الأدوية. ونامت دون ان تغير ملابسها.

استيقظت في الصباح على صوت ولديها، يطلبان الفطور لأن وقت المدرسة قد حان. وعلى صراخ زوجها الذي من عادته، إذا لم يجد الأكل جاهزا، يصرخ ويثور ويغضب ويلومها على اهمالها. صراخه تجاوز غرفة نومها، حاولت والدتها تهدئته فقالت له:

- لقد عادت بالأمس مرهقة. سأوقظها.

دخلت غرفتها وحاولت ايقاظها فقالت لها بصوت خافت لكنه عنيف:

- زوجك ينتظر فطوره. انه سيتأخر على عمله. قومي ...ما هذا التهاون.

لم تفهم لماذا في تلك اللحظة، افتكرت ما قالته لها زميلتها يوما" ألهذه الدرجة، نسيت سلمى؟"

ظلت تتأمل الأدوية التي بين يديها، وأوراق التحاليل على الطاولة. والبلبلة الآتية من المطبخ. فقامت بشكل آلي، غيرت ملابسها وحملت حقيبة يدها ووضعت فيها الأدوية والتحاليل لأنها ستبدأ رحلة جديدة مع المرض. خرجت من غرفتها وكانوا هناك ينتظرونها ويصرخون كل واحد يريد منها أن تلبي طلبه. كثرة الطلبات التي تهاجمها كالحجارة منذ ولوجها البيت الى أن تغادره. تأملتهم ومرت من أمامها عشرون سنة تتسابق بشكل هيستيري. لم تنتبه للزمن. رأت كما يرى النائم في منامه، عشرون سنة من حمل ورضاعة وغسل الأواني وكوي الملابس ومراجعة الدروس والاستيقاظ الباكر لإعداد الفطور وكذلك وجبة الغذاء. سألت زوجها:

- هل تعلم اين كنت بالأمس؟

لم تنتظر منه جوابا. أردفت بكل قوتها الغائبة منذ سنين وقالت له:

- كنت في المستشفى. واتصلوا بك ولم تحضر. واتصلوا بوالدتي ولم تحضر. كنت وحيدة، مع أنني أهديتكم عمري.

اتجه صوب الباب وقال لها:

- أحسن لك الاستقالة من عملك وتتفرغين لأسرتك.

تأملته مليا وقبل أن يغادر البيت طلبت منه مفاتيح السيارة ومرت من أمامهم كما مرت سنوات عمرها وكسرت حائط الصمت وخرجت.

***

أمينة شرادي

 

في نصوص اليوم