نصوص أدبية

نصوص أدبية

لا تفرحي تاء التأنيث بانفتاح مستعار..

حروفك بوصلة ليل يهتك عذرية الأحلام..

نقاطك ألـ أتعبتها أوزار التاريخ لن تمنع عبور السيل المملح.. ليقبر زغاريدك المكتومة.. ويقايض الباقي من العمر بأوهام مشبعة بالفراغ.. تجيد حشرك في الزاوية

بحمرة وحشة تجملك.. في الربع الخالي من الصمت.. تسكنك.. أبواب الذهول.. توصد عليك.. وحيدة تظلين داخل مساطر القيود.. الألفية الثالثة عاجزة عن رفع حصار النفي.. فلا تنتعشي بسهرات تحترف فيها سراويل الجنز بهلوانية الرقص.. هو سفر بين اختزالات العطش يؤدي حتما إلى زيف الأمنيات.

ومضة غواية أنت في قاموس فحولة لا تستسيغ الشعر

مهما رسمت من صور واتستجلبت من استعارات..

لا تمحو وشم الأحقاد.. لن تؤخذ بعواهنها.. وستُخضع الابتسامات لميزان الصحيح والضعيف.. كشفا لسرك ونجواك.. أمام طيش يتملك الفكر والأحشاء.

يا أنوثة تهتز تحت مخالب الجهل.. فوق تموجات الخطابات.. تائهة أنت في دهاليز الاعياد الكاذبة

عيد الام.. عيد المراة.. عيد الحب.. الخ

فمن يطوق خاصرة النار كيما تحترق نون النسوة

وما تجهش به الأرواح من أحلام العذارى في زمن مقنع بالانفتاح.. مشيد قصوره بعهن منفوش.. بان خطابه بحجارة من سجيل.. على ظهر قصيدة تنداح في عباب

الطيبة...والحب..

في الدماء تشتعل المايات.. صرخات وجع تختفي خلف زيف الأعراس.. مواويل جرح نازف تفشي الأنوثة لفظاعة القيم والممنوع من كشف المستور.. اطباقا على القصائد

بتهمة اعوجاج الحروف..

نحن العصاة على الخضوع.. المتمردات على الخنوع..

لا يعلمون أننا نحترف العطش إن نضب الماء في الكفوف.. شهبا حارقة نظل.. لا تعتنق الانطفاء مهما أتخمتها زخات الغيوم المهربة بين الفصول..

لا نريد للغفوة أن تقيم فينا وهما يعاند اليقظة.. امتصاصا لغضب الانتفاض !

***

مالكة حبرشيد

 

 

الفصل الخامس من رواية: غابات الإسمنت

وقد أقبلتْ الليلة الموعودة..

همستْ صديقتي بأذني: (شدّي حيلك) ستقضين نصف المدة.

لو كنت خارج السجن، لقلت إن هناك طبخة ما يعدّها لي طباخ ماهر، مديحة تلمّح ولا توضّح، ربما هو التحفظ والخوف، فنحن خلال فترة التعارف القصيرة لا نقدر أن نكشف كل ما في نفوسنا؛ لكننا نتشابه في الحنين الذي تتنفسه المساءات الموحشة!

وذهبتُ إلى الإدارة.

هناك وجدتُ السيدة النقيب، الحارس نجيّة تؤدي التحية وتقول: هل من شيء سيدتي؟

- سأصحب السجينة إلى الطبيب، انتبهي جيدًا.. كوني بقدر المسؤولية.. لا أريد فوضى.. سأعود قبل الفجر.

وضعتْ القيد في يدي، أهناك من مرض أصابني؟

قلق لاحقني بعض الوقت غير أنه سرعان ما تبدّد.. لا أشكو من شيء.. صحتي جيدة وقوامي رشيق.. لا شحوب على وجهي، سوى تراكم آثار الأحلام والكوابيس ما قبل النطق بالحكم..

دفعتني برفق إلى المقعد الخلفي، لم تستقلّ سيارتها الخاصة، ولم يكن المكان الذي ذهبنا إليه يبعد عن السجن، حسب ظني أكثر من عشر دقائق، يبدو أننا دخلنا مجمّعًا سكنيًا، فقد توقفت السيارة في موقف معتم، ترجلتْ وفتحت الباب الخلفي، فكّت قيدي، ورمت إليّ بثوبٍ طويل واسع، وقالت بحزم:

- البسيه الآن، إنه كاف ليغطي كل ملابس السجن التي عليك.

أجبت بهزّة من رأسي.

همستْ ضاحكة: لا تحاولي الهرب.

- أين أذهب؟ أنا لا أعرف المكان ولا شوارع المدينة والطرقات، وليس لي من بيت أو معارف هنا.

انفرجت أساريرها، لا عليكِ.. أمزح معك.

سرتُ جنبها وكان الهدوء يلّف المكان، تساءلت كيف نكون في مشفى ولا أسمع حركة؟ والبناية تبدو لمن يراها عمارة للسكنى.

دخلنا مصعد العمارة، فارتقى بنا بعد لمسة من أصبعها، ثم فتحت أحد الأبواب وبسطت يدها قائلة: تفضلي ادخلي.

كشف الضوء المفاجئ عن صالة جميلة الأثاث؛ أريكة جلدية، وفترينة زجاجية لأشكال متباينة من الكريستال؛ نخيل وثلاثة خيول، وفي الطابق الأسفل طيور متفاوتة الحجم.. ترتيب يدلّ على ذوق رفيع وحياة ترف، نقيض ما هو مألوف عن حياة الذين يعيشون حياة مهنية خشنة في سلكي الشرطة والجيش.

- أظن أنكِ تناولتِ الطعام هناك، مرّت أكثر من ساعتين ولن يضركِ الحمّام، ادخلي ستجدين بيجامة وكل ما ترغبين فيه من شامبو وعطر، هذه شقتي، اعتبري نفسك في بيتك.

لكن.. هممت أن أقول شيئا فتردّدتُ.

- لا عليك، لا تفكري بالأمر، سنعود قبل الفجر وسأخبرهم أن يعفوك من أي واجب كما أمر الطبيب.

- متى نذهب إلى الطبيب؟

بضحكة خفيفة:

- انسي الموضوع.

وأغلقتْ الباب خلفي، تعريت.. كنت أقف تحت الماء، وأستحم بغسول الجسم المعطّر والشامبو، أدلّك جسمي فأرى له بريقا، وأجده عاد رائقا ناعما، كأن أيام التوقيف لم تؤثر فيه، أنا جميلة.. بشرتي ناعمة، وبهذا الشكل أكون رائعة مثل صديقتي الجديدة التي يزيدها الحزن وسرّ مخفي في عينيها مسحة من الجمال.. مسحة جمال لا يعكّرها إلا شحوب باهت لا تقدر أن تخفيه أية مادة من مواد التجميل.

شحوب أحسّه ينبع من عينيها الواسعتين، ولا يوحي أنه مرض فتاك.

هذا ماكان يبعث الراحة في نفسي.

طرقات خفيفة على الباب..

- هل أدخل؟

ودخلت.. هل أنتِ خجولة.. هل أدعك ظهرك؟

استديري..

راحت تضع الشامبو على راحة يديها وتفرك ظهري، يداها تصعدان إلى رقبتي وتهبطان على ردفي، ثم تنزلان إلى فخذي فباطن الركبتين.

- رائع جسدكِ ويا لحظّكِ التعس، هكذا هم الرجال لايقدّرون المرأة.

قالت ذلك وأردفت: أليس كذلك؟

- للأسف نعم.

ثم صعدت يداها ثانية إلى رقبتي كانت تدعك بحنو مفرط، وسمعت أنفاسها تهبط وتصعد، وكلما تصاعد شهيقها بطأت يداها في النزول:

- ردفاك رائعان.. كأنهما منحوتان من مرمر.

- حقا؟

- صدقيني صدقيني.

- شكرا لك سيدتي.

بقيت يداها لثوان على ردفي، وكانت أناملها تنقر نقرات خفيفة، وسألتني أن أستدير، قالت ذلك أشبه بالهمس.. استدرت نحوها، فجاءت عيناها بعيني فهمست:

- لا.. لن أترككِ للسجن، اطمئني.

بدأت شفتاها تسترجيان.. ثم اندفعت نحوي وضمتني إلى صدرها وهوت بشفتيها على شفتي.

غثيان مفاجئ أصابني.. دوار.

نفور..

أنفاس كاللهيب تحرقني..

حاولتُ أن أتخلّص منها، فدفعتها بعنف وتراجعت إلى الحائط، نظرت إليّ مذهولة بعينين حزينتين وقالت:

- هل غضبتِ؟ أنا أحبكِ ولا أروم بك شرا.

كنتُ ألهث.

رحتُ أنشج ثمّ انفجرتُ في بكاء محموم.

صفعتُ وجهي بأطراف أناملي.

وقبضتُ على شعري أجرّه.. لا أدري لِم جاءت ردّة فعلي بهذه الصورة، كنت حزينة ولم أكن خائفة، مع كلّ ذلك لم تبدُ لي السيدة النقيب بشكل وحش يحاول أن يفترسني، فتقدّمتْ نحوي، وعلى شفتيها ابتسامة حنون أنسني البكاء وطعم القبلة الغريبة.. كل ما أحسّهُ أني بحاجة إلى البكاء.. نسيت الكلام، فقالت:

- ابكي.. ارتاحي.. البكاء يريحك.. أنا نفسي أحيانا ألجأ إلى البكاء.

خلتُ أنها تهمّ بالمغادرة، فخشيتُ أن تتركني وحدي في الحمّام ولا أحد يوقف بكائي، ظننتُ أني أظل أبكي طول العمر، وشَخصت لعيني بركة من دم يسبح بها زوجي وصديقته، مشهد تجاوزته من المشنقة إلى السجن عبر ليالي قاتمة، فهل هناك شيء أبشع من مشهد ترسمه الدماء؟

فازددت هلعا، نسيت القرف واندفعت نحوها، ارتميت على صدرها وأنا ألهث وأنشج ويداي تطوقانها، فكانت تمسح على شعري وتضمني إلى صدرها.

قالت: انسي الحياة الماضية، وابني حياة على النقيض منها.

نسيت القرف تماما، كان هناك عالم آخر ينتظرني لم آلف له شبها من قبل.

أنا الآن غيري..

امرأة أخرى من عالم جديد.

من كوكب آخر.

لم أفكر مثل قبل أين أذهب، وماذا أفعل حين أقضي حكم السجن، أيّ مكان يؤويني وأي مجتمع يقبلني.. على الأقل هناك في هذه اللحظة يد رحيمة تمتدّ لي، تعاملني صاحبتها معاملة طيبة، تجفف دموعي، وتعدني بالأمان، تطلعتُ في السيدة التي تبحر عيناها في عيني وقلت لنفسي:

لأكن امرأة أخرى.

***

ذكرى لعيبي

 

من قصص الومضة

مقابل كل قصيدة أكتبها يقول العراف ينقص عمري شهرا

مازلت أكتب الشعر كأن الخبر يعني شخصا آخر.

2

عرفتُ من مركز تجميد الحيامن أن هناك 500 أمرأة تلقحن مني، ولائحة القانون تمنحني الحق في رؤية ابنائي الموعودين وقتما أشاء، كنت فرحا بالخبر وتساءلت من من ابنائي وبناتي الخمسمائة سيكون الأحبّ إليّ؟

3

سرق لصوص الصخرة التي يبث كل منا سرّه عندها، مازلنا منذ ذلك اليوم ونحن نبحث عن مكان نلقي فيه أسرارنا.

4

كنت أظنّ ابني رمزي يمزح حين يصف نفسه بالملحد، فلم يكن ليعنيه وهو المولود في بريطانيا أنّ أبويه من العراق وأنّهما كاثوليكيان، وغالبا ما كان يذهب معهما إلى الكنيسة ويحتفل شأنه شأن الجميع بالمناسبات الدينيّة.

لقد سُعِدتُ حين أنهى المرحلة الابتدائية، فرغبت في أن يتقدّم إلى المدرسة الكاثوليكية لا لغرض أن يدرس اللاهوت بل لأنّها من أرقى المدارس في مدينة نوتنغهام.

لكنّ الأمر الذي يبدو غريبا أنّ رمزي قلب المزحة إلى جِدٍّ يوم كتب في استمارة المعلومات الرسميّة الخاصة بالمدرسة الكاثوليكيّة في حقل الدين أنه ملحد!

والأكثر غرابة من ذلك لو كان كتب دين أبويه لأُعفِيَ من ضريبة النقل والطعام التي تشكّل عبئا على ميزانيتي.

سألته وأنا أكبت غضبي: لماذا فعلت ذلك

قال مزهوا بما فعل: أنا ملحد هذا أمر يخصّني.

لكننا في هذه الحالة سندفع كلّ شهر 250 جنيها أجور نقل وطعام

فأجاب بهزّة من كتفيه: هل تريدني أن أكذب من أجل التوفير؟

صُدِمت

حقّا صُدِمتُ.. رحت أسير معه إلى البيت بخطى مثقلة وكأنّي ماش في حفلٍ جنائزيّ بطئ.

***

د. قصي الشيخ عسكر

  

 

اجبرهم الفقر وضيق ذات اليد وخلافهم مع صاحب الدار الذي كانوا يسكنونه، بسبب مطالبته بزيادة في الايجار على البحث عن منزل اخر يناسب دخلهم المادي، ونصحهم أحد الاصدقاء بأن يبحثوا في الاحياء القديمة للمدينة، التي غالبا ما تكون ايجاراتها زهيدة ومناسبة لمن هم في مثل ظروفهم، وبعد البحث والسؤال استطاعوا ان يجدوا منزلا يعود لأرملة، استأجروه مقابل مبلغ بسيط، لقدمه ولأنه منزل مهجور، وبدا هذا واضح للعيان من سياجه المائل وبنائه القديم، وحين دخلوه وجدوه مليئا بالقطط والجرذان فقد جعلت منه البيوت المجاورة له مكبا للنفايات .

باشرت الزوجة بتنظيفه ورفع النفايات عنة، كلفهم الامر وقتا وعناء استغرق ما يقارب الاسبوع، بمساعدة زوجها وابنتيها كشف بعدها النقاب، عن جمال هذا البيت الذي زين بزخارف في الجدران، وأقواس ونقوش زينت باللون الفيروزي . بدا وكأنه قصر لأحد السلاطين أدهش جماله الزوجة وبناتها، واضاف الفرحة على الزوج الذي كان قلقا بشأن هذا البيت الذي ربما لا يعجب الزوجة والبنات . بينما اثنت صاحبته عليهم وعبرت لهم عن شكرها لأنهم جعلوا منزلها يبدو بهذا الشكل الجميل.

كان المنزل يحوي سبع غرف، يتوسطة حوش كبير مفتوح باتجاه السماء، و سرداب تحت الارض اغلق بابه بإحكام، والغرف السبع تم غلق والغاء البعض منها، لأنهم لم يكونوا بحاجة لها جميعا. زينت الزوجة الحوش الكبير بأصص من ورد الجوري والرازقي وبعض النباتات الظلية الاخرى . ليبدو كحديقة داخلية اضافت للمنزل روحا حية، اما البلاط فكان من الطابوق الاصفر المربع الشكل، الذي يصبح أكثر اصفرارا كلما قامت بتنظيفه .

بعد يومين من سكنهم فيه ترددت عليها بعض الجارات، اللواتي تعرفن عليها مبدين دهشتهم وإعجابهم بشكل المنزل الجديد . واستغربت كيف سكنت فيه، فمنذ زمن بعيد لم يطرق بابه احد، كما حدثنا وذكرنا لها تاريخ هذا المنزل فقد اشترته امرأة غنية سقط ابنها الوحيد من إحدى شرفات المنزل، ومات فتشاءمت منه وباعته لأحد التجار الكبار في المدينة الذي انتحر هو الاخر، بعد ان خسر تجارته ثم آل به الامر الى صاحبته المرأة الارملة الثرية التي لم تسكن فيه بل عرضته للإيجار بعد ان سمعت تاريخه، واقصى زمن امضاه مستأجر فيه كان شهرين، لكنها لم تعر لكلامهم اي اهتمام لأنه من الواضح انهم يشعرن بالغيرة والحسد، لما آل اليه المنزل من نظافة وشكل جديد، وهي بالإضافة الى ذلك كانت تبخره كل يوم وتقرأ فيها الادعية وماتيسر من كتاب الله..

شعرت هي وبناتها براحة كبيرة فيه، ولكن بعد اسبوعين من سكنهما فيه حدث شيء !! اثار استغرابها وشكوكها وقلقها فقد خرجت أعداد كبيرة من النمل، وحشرات اخرى غريبة من فتحات في ارضية المطبخ والحوش، وإحدى الغرف وانتشرت في المنزل واصبحت تقلق نومهم بشكل كبير، بالإضافة الى انهم بدأوا بسماع بعض الاصوات الخافتة، التي كانت تخرج من السرداب والتي تشبه الحديث المستمر.

حدثت نفسها بالقول: نحن في فصل الشتاء ومن الغريب ان تخرج تلك الحشرات بهذا الشكل المفاجئ، كما ان هذه الاصوات التي يسمعونها لا يمكن الشك فيها، شعرت بأن هذه الامور ربما تكون نذير شؤم واكثرت من النظافة والادعية، لاسيما وأنها كانت امرأة متدينة .

بعد ذلك بيومين وبشكل مفاجئ سمعت صراخ احدى بناتها في الحمام، هرعت اليها لتجدها جالسة عارية ترتجف، في إحدى زوايا الحمام وهي تبكي بهستيرية، وتقسم بأنها شعرت بأن يدا قد لامست جسدها حين كانت مغمضة العينين ويغطي وجهها الصابون . استغربت الام، وزاد قلقها الذي حاولت ان تخفيه عن ابنتها، هدأتها وقالت لها: انها اوهام لا يوجد أحد غيرنا في المنزل، لا شيء يدعو للقلق او الخوف..

أحكمت الام غلق النوافذ جيدا وتفحصت ابواب الغرف جميعها، وأصبحت مستيقظة بحواسها الخمس، وشرعت بتبخير الغرف وقراءة الادعية، ورش الملح ونقيع ورق السدر في كل زوايا المنزل، لكنها مع ذلك لم تشعر بالارتياح، أصبح المكان يضيق بهم كثيرا، على عكس ما كان عليه في بادئ الامر، مع كثرة الكوابيس التي تراود بناتها والتي غالبا ما تنتهي بـ فزع وصراخ وسماع أصوات تصدر من المطبخ كقرقعة الصحون في منتصف الليل . زاد ذلك شعورها بالقلق والخوف، واخذت الموضوع على محمل الجد، حدثت زوجها بذلك قائلة: يجب ان ننتقل الى بيت اخر، يبدو بأن كلام الناس صحيح عن هذا المنزل فالبنات يشعرن بالخوف ولا يستطعن النوم ولن نبات يوما اخر في هذا المنزل. طمئنها وحاول تهدئتها، فخاطبها: لا تكوني اسيرة لأوهامك عليك ان تكون أكثر عقلانية، لم اصدق اننا وجدنا منزلا بهذا الايجار الرخيص، لا تدعي كلام الناس والخرافات تسيطر عليك، تحملي قليلا لحين حصولي على عمل إضافي يكفينا لإيجار منزل أفضل منه . وصمتت على مضض هذه المرة، ذات مساء بارد وبعد وقت الغروب، حينها كان الجو غائما وقطرات المطر بدأت تنزل تباعا تطرق نوافذ المنزل، هبت ريحا شديدة جعلت أبواب بعض الغرف تصطفق، وتسببت ايضا بقطع التيار الكهربائي، عندها غطى الظلام المكان فقد اختفى القمر ليلتها، فجأة سمعت طرقا على الباب، طرقا خفيفا متقطعا حملت الفانوس وهي تتلمس طريقها، فمن ياترى يأتي لزيارتهم في مثل هذا الوقت المتأخر وهذه الاجواء الممطرة ؟ صاحت من الطارق ! وجاءها الرد وكان صوتا لامرأة كما يبدو : انا جارتك افتحي الباب، فتحت الباب وضربات قلبها تتسارع، تسمرت مكانها بعد أن صدمها مارات وكادت ان تفقد وعيها لولا انها تحلت ببعض الشجاعة ورباطة الجأش، رأت ثلاث نسوة تتوسطهن امرأة برأس ماعز، كن أقصر قامة منها كلاهما يضعن فوق رؤوسهن عباءات سود، يقفن صامتات وعيونهن يتطاير منهن الشرر قربت الفانوس نحوهن وهي لا تصدق ما ترى !! فلربما كانت تحلم، لكنه لم يكن حلما وما اكد هذا زخات المطر التي كانت تبلل ثيابهن واجسادهن، سرت في جسدها قشعريرة كادت على أثرها أن تفقد وعيها لكنها تماسكت مرة اخرى، قالت لها المرأة التي برأس الماعز بلهجة آمرة وصوت مخيف جدا، اتركوا المنزل فورا فقد تحملنا منكم الكثير انت تحاربنا لكنك لن تهزمينا، ارحلوا قبل ان نفعل بك وبعائلتك شيئا تندمين عليه مدى حياتك يا امرأة. ثم اختفت النسوة في الظلام الدامس وبقى صوت المطر....

***

 

نضال البدري - بغداد/ العراق

 

لا يذكر سالم بالتحديد كم كان عمره حين غادر القرية، ما يذكره أن ذات مساء عاد ابوه بعد غيبة طويلة ومعه خاتم ذهبي وصدرية فضفاضة صفراء هدية لأمه، أما حظ سالم من عودة أبيه فلم يتعد بعض الحلويات، ذوب سالم خيبته في التظاهر بالتلذذ بها وهو يتابع عيون أبيه تكاد تلتهم أمه، لا تتوقف يداه عن ملامستها،أما اليه فقد اكتفى بقبلة ونظر؛ ليلتها رافق سالم أمه الى عين ماء قريبة ، تعرت في ظلام الليل رغم رياح الخريف الباردة، وبصابونة معطرة مما كانت تجلبه خالته من المدينة؛ اغتسلت أم سالم تحت بعض النجوم التي كانت تطل خجلى من بين غيوم تتبدد في حزن .. ثم عادا،وأمه ترزم ثيابها الرثة بين أحضانها وكأنها تحتمي بها من رياح الليل بعد أن غيرتها بالصدرية الصفراء الفضفاضة ..وسالم خلفها يرافقها خطوة بعد أخرى متمسكا بطرف الصدرية يصغي الى مديح أمه ودندنات السعادة تقفقف على شفاهها من جو الليل البارد وكأنها تحاول أن تغيِّب عنه صوت عواء الذئاب البعيدة ..

بعد اطلالة على والده الذي غفا في ركن البيت، ضمته أمه الى صدرها، وعلى خده طبعت قبلة حارة وناولته رغيفا وزيتونا،،ثم حرصت على أن ينام بعيدا عن فراشها .وقد اثاره أن يرى لأول مرة كحلا في عيون أمه وصباغة حمراء تلون وجنتيها القمحيتين ..

تعوَّد سالم من أمه في غياب أبيه ما أن تضع راسها على الوسادة حتى تشهق بغصات وأحيانا تبكي قبل أن تضم صغيرها اليها وهو معها على نفس الفراش لاكما أبعدته اليوم،وآثرت أبوه بمكانه بجانبها ..وبغطاء دافئ يقيه برد الخريف.. بعض القلق ما أستحوذ على سالم وغطاؤه المهترئ لايقيه من نسمات برد تخترق شقوق الباب والنافذة ..

عتاب قوي كان يسري في الظلام بين أمه وأبيه وحديث طويل عن المدينة وملاهيها ومغرياتها وبناتها اللواتي " كيطيحو الشهر بالنهار جهر" ، قبل أن يتحول الفراش الى معركة قوية من زفيروشهيق وكلمات لم يفهم لها معنى ..

كان ينام ثم يصحو وحديث الفراش بين أمه وأبيه كالقصص الطويلة التي ترويها جدة صديقه حسن والتي تتكرر يوميا ولا تنتهي،الى أن ينام الأطفال من حولها دون أن يسمعوا للقصة نهاية أوختام ..

ما أن اصبح الصباح حتى وجد أمه قد بادرت الى إخراج كل ما استأثرت به ولديها مخزون من سمن وعسل وبيض،واعدت حرشة ومسمن لم يتذوق مثلهما مذ غادر أبوه القرية ..

تمنى سالم أن تحدثه أمه عما وقع واي شيء جعلها أكثر حيوية ونشاطا كطير لا يتوقف عن الزقزقة والقفز لإرضاء أبيه والثناء على هديته اليها ..

"ماعرفتش واش هديتك باش تسكتني ولا كنت عايشة ف بالك "

لم يكن يهيمن على تفكير سالم بذكرى غير صبيحة خالته التي تخاصمت مع زوجها وأتت ذات ليلة للمبيت عندهم، فارة من غضب زوجها بعد غياب دون إذنه،فلحق بها ثم تصالحا بتدخل من أمه،لكن ما أن هم بها حتى ركلته بقدميها فتحول الفراش الى معركة من سب وشتم وضرب ثم خرج الزوج بلا عودة وقد ترك خالته وهي طالق..

تعمدت أمه أن تحمله ليلتها وتخرج به الى الحوش حيث أكمل الليل على تليس من الحلفاء .. ظلت خالته شهورا بعد طلاقها تشاركه وأمه غرفة نومهما الوحيدة، تعيش معهما دون أن تغادر القرية، ثم رحلت أياما لتعود محملة بما لذ وطاب من فواكه وخضر، حلويات وألبسة ..

غصة تصعد الى صدر سالم وقد اكتشف أن لغة الحب لدى خالته كانت أقوى مما يملكه أبوه ..

صحا ذات صباح ليجد أمه قد أعدت رزما مما خف من الألبسة ، واهتمت خالته بتغيير ثيابه استعدادا للرحيل عن القرية.. كانت أمه تكح وتشكو ألما في صدرها، يعاتبها أبوه لانها كثيرا ما تفرط في العناية بنفسها خصوصا في فصل خريفي يتقلب جوه بين لحظة وأخرى ..

كانت الرحلة شاقة متعبة والمسافة طويلة الى محطة صغيرة ثانوية لا يتوقف فيها القطارالا ثواني ..

لم يدر سالم كم مر من الوقت قبل أن يصل القطار الى محطة المدينة، فبعد المسافة وتعب الطريق قد هدهم بعياء فخلدوا جميعا الى النوم، داخل القطار... كان سالم لا يفتح عينيه الا على أصوات الكراسي التي تكركر كرحى طاحونة القرية،و سعال أمه وقد راعه أن يصير وجهها ممتقعا شاحبا ..

لم يكن البيت الذي ولجوه بأحسن مما كان في القرية، فالفرق كان في المساحة فقط، غرفتان صغيرتان ضيقتان بسقف قصديري لا يتسع كل منهما لأكثر من فراش صغير محصور بين جدران الطوب الأربعة ، استأثرت أمه بواحدة مع أبيه والثانية كانت له ولخالته بعد ان تم اقتطاع زاوية منه لاستغلالها كمطبخ، اما الموقع فلم يكن غير درب طويل في حي هامشي غابت عنه نسائم القرية وحضرت روائح الصرف الصحي ..

خالته أول من اعترضت على السكن وموقعه:

" تسرعت يازوج أختي ،توجد هوامش بها مساكن أحسن وقريبة من مدخل المدينة "

ثم قطعت وعدا بتغيير هذا الجحر بما هو احسن، في حين أن أمه كانت راضية مستسلمة لا يهمها غير حضور أبيه الذي كانت تحرص ألا يغيب عن عيونها بالنهار وأحضانها بالليل ..

تفاقمت حالة أمه و اشتد داء صدرها حتى صارت تلفظ دما كلما سعلت ، لم ينفع معها علاج ولا افادتها إقامة في مشفى عمومي طيلة شهر فاسلمت الروح ..

بعد أيام تم الانتقال الى سكن جديد وفي موقع أحسن قريب من أحياء سكنية جديدة،و بسرعة تقلدت خالته مهام أمه في كل شيء وكأنها ما فارقت زوجها الا استعدادا للاستحواذ على أبيه والاستلاء على مكان أمه، وكأن أباه كان يترقب موت أمه ليبدا حياة جديدة مع خالته ..

كانت خالته تغادر البيت بمجرد خروج ابيه الى عمله كحارس في أحد الأحياء ثم لا تعود الا بعد منتصف النهار ومعها ما يكفي من أكل ..

شتان بين أمه وخالته فلئن كانت هذه أصغر، وربما أجمل،فهي أكثر اهتماما بنفسها وبأصباغ لا تخلو من وجهها تجاوزت ما وضعته المرحومة أمه فرحا بعودة أبيه الى القرية، لكن سرعان ما تبادر خالته الى غسل أصباغها بمجرد رجوعها الى البيت وقبل رواح أبيه من عمله ..

لم يكن سالم كأبيه يرى ويتجاهل و يتعامى، ربما لمسٍّ من عدوى أصابت اباه من أمه فصار تعبا منهوك القوة، بل كان سالم كثير التساؤل عن خروج خالته اليومي، أين تذهب؟ وما عملها بالضبط؟ هل حقا تشتغل في بيت أحد الموسرين كما تدعي بعد أن شرع سالم يحاصرها بأسئلته؟ وهل العمل في البيوت يتطلب كل تلك المساحيق التي تداوم على استعمالها قبل الخروج للعمل؟

كان استسلام أبيه لخالته وضعفه أمامها هو غير استسلامه مع المرحومة أمه التي كانت تؤثراباه عليه وعلى نفسها، كان أبوه طيعا لدرجة أنه يلبي كل ما تأمر به الخالة، حتى حين أراد ان يسجله في مدرسة رفضت،ونصحته بأن يبحث لابنه عن عمل في أي مكان يكتسب منه خبرة ويذر دخلا ولو قليلا الى أن تتدبر هي أمرتشغيله فخضع الأب لاقتراحها ..

كان سالم في دراز قديم لنسج الأغطية الصوفية حين وقف عليه ثلاثة من افرد الشرطة يسالونه عن ابيه وأمه، تملكه خوف لم ينقده منه سوى معلمه حين استفسر الشرطة عما وقع ..

"أمي ميتة من سنوات، وأبي تزوج خالتي بعدها.. يخرج باكرا الى عمله كحارس بالنهار في أحد الأحياء وخالتي تشتغل في أحد البيوت،لا اعرف له عنوانا "..

من خلال حديثه مع رجال الشرطة أدرك أن خالته تشتغل بالدعارة كواجهة وتوزع المخدرات على من يطلبها بأوامر من مالك البيت الذي يأويهم ..

أصابه الذهول، معاول تضرب راسه وتهدم كل ذرات نفسه ..كيف أحكمت قناعها فتقبل كذبها حين أخبرته انها تعمل في أحد بيوتات الموسرين؟ ...

صار يعيش وحيدا في البيت فخالته محبوسة بتهمة الدعارة وبيع المخدرات، وأبوه محبوس على ذمة التحقيق حيث يشك في علمه بما كانت تقوم به زوجته، بل وربما يساعدها في ترويج سموم ما توزع ..

متاهة مظلمة صار يحياها، تدمر حياته ..باي وجه يقابل غيره؟

صار لا يعايش غير طيوف امه أرقا بالليل وتفكيرا بالنهار..

"ماذا جنيت يأ امي من رجل نسي ابنه بلاهدية بعد غياب طويل؟ ومن خالة استحوذت على من ابعدتني عنك من أجله،وأثرته بدفء في ليلة خريف باردة؟

"ماذا أعطتني المدينة من طفولتي الى لحظة شبابي غير البطالة والجهل ومزيد من الفقر والمذلة والعار؟

"لو بقيت في مسكننا القروي لا نقد ت نفسي ولو كراع أجني قوت يومي" ..

ذات ليلة وقد هدَّهُ السهد،هيمنت عليه فكرة العودة الى القرية فربما يجد عملا في معمل الدوم الذي انشئ مؤخرا ..

كان سالم يلملم بعض الثياب من خزانة البيت حين لفتت انتباهه صدرية أمه الصفراء مكومة في قعر الخزانة وكانها مليئة بتبن، لما فتحها كانت المفاجأة ..عشرات الأوراق المالية من مختلف العملات الوطنية والدولية .. وخاتم أمه الذهبي ..

أعاد الأوراق الى حالتها مكومة في صدرية أمه، وأدخل الخاتم الذهبي في خنصره، وضع كومة الصدرية في قفة بالية كانت في البيت وغطاها بثياب أخرى خفيفة ثم خرج الى محطة القطار عائدا الى قريته حيث طيوف أمة وحبها يهاتفه من أعمق أعماقه..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

 

نفسي لوصْلُك ِبالمُنَى تَتَلَهَّفُ

ولِحُسْن ِغُصْنك ِتَستفيضُ وتنْزِفُ

*

ما أرْهَفَتْ لُغتي أماليدَ الهوى

أبداً ولاعَكَفَتْ حُرُوفيَ تَعْز ِفُ

*

إلاَّك ِ ضَاءَتْ في سمائيَ نجمة ٌ

آنَسْتُ منها وِدَادُها يَتَلَطَّفُ

*

ويَؤُمّني عَلَمَاً بعينيه ِ اسْتوى

ويَحُوطني بِحفاوة ٍ تتشرَّفُ

*

ماكان تَنْشُدني البُرُوجُ جميعُها

إلا لأني فضاءَهــُنَّ الأنظفُ

*

فَلَكَاً لَهُنَّ يَدُرْنَ في ملكوتِه ِ

مَهْوى الحِسَان ِ وكل مَنْ تَتَعَفَّفُ!

*

تُهْديني * واثِقَةُ الهوى * باقاتِها

ما أنْكَرَتْ ظِلِّي ولا تَتَأَفَّفُ!

*

صلى عليها العُمْرُ خَمْسَ تَبارَكَتْ

وسَلَامُ حتى...هَمْسِنا يَتَوَقَّفُ!

***

محمد ثابت السُميعي

 

حين تأتيني هواجسي

مُثخنةً بأهداب الحنين،

يمتدّ فـيَ الأفق،

وتنفتح الأشواقُ على غدٍ هَروب.

وتمضي بنا الأوقات إلى منتهى العمُـر

حيث الزّادُ ما اقترفت

الجوارحُ والأفهـام.

وأنا ذاك المُــــرابي..

أَقرِض الشّعر وضياءَ الفجر،

لأرقب انكسار الشمس على شَفا الكون.

وكنتُ إذا ما الليل ألقى إليّ

بسِرّ من أسرار النّدامى،

تأوهَتِ الأفلاكُ وأبدتْ

على وجنة الأفــق خجل الأَبْكــار..

لكنّي كلما أحاطت بيَ الهموم

أتأبطُ شعري وأحتنك يراعي،

وأوراقي ميدانُ لهوي وانزوائي.. !!

وبيني وبين ذاتي

مسافات من التّـيه والحنين،

تُبعِدني عن عيون الشعر

وهواجس السائرين على درب

الأنين ..

لله ذرك يا لَحظة مِـنّـي،

تنفلتُ كما الصبح من عقال

الليل الطويل الطويل.. !!

***

محمد المهدي – المغرب

14/04/2023

أحبّ بلادي ..أحبّ بلادي

فحبّ بلادي هوى بفؤادي

**

أغار عليها وفي غيرتي

جنون كمس الهوى في اعتقادي

**

أحبّ بلادي وفي حبّها

غرام يؤرقني بالسهاد

**

رضيت بحبّك رمزا وفخرا

وسحت بأرضك كلّ البوادي

**

وطفت الصحاري وجبت البراري

وفي كلّ شبر أنادي: بلادي

**

وحملني الحبّ ما لا أطيق

فأعلنت حبّك في كل نادي

**

وإن سألوني .. لم ذا الغرام؟؟

لقلت: غرام الهوى والوداد

**

شربت من الحبّ صفو الأماني

ونلت بحبّك كلّ مرادي

**

فإن كانت الأرض مهد الأنام

فأرض الجزائر مهد الجهاد

**

ومهد البطولات مهد الفدى

وجنّة خلد لكل العباد

**

وموطن أهل النهى الفاتحين

وأحرار شعب أبيّ جواد

**

أحبّ بلادي وإن سألوني

لقلت: الجزائر حبّي وزادي

***

تواتيت نصرالدين

 

في صَباح يَومٍ رَبيعيٍّ مُشّْرِقْ.

شَاهَدّْتُ حِمَاري (أَبا الرَّيْحَانِ) يَبكي بُكاءً مُحْرِقْ.

قُلتُ يا حِمَاريَ العَزيْزِ:

أَجاركَ اللهُ مِنْ كُلِّ أَمرٍ مُرهِقْ.

ما الامرُ يا (أَبا الرَّيْحَانِ) وأَنتَ للدُّموعِ تُطّْلِقْ؟.

قالَ لي (أَبو الرَّيْحَانِ):

اسكتّْ يابنَ (سُنْبَه) ... فالأمرُ جِدُّ مُصّْعِقْ.

قلتُ يا (أَبا الرَّيْحَانِ):

فَضْفِضّْ ما بقَلّْبِكَ مِنْ هَمٍّ مُخّفِقْ. (مخفق من الفشل).

تَكَلَّمّْ مَعي فأَنا صَديقُكَ المُصّْدِقْ.

قالَ حِمَاري (أَبو الرَّيْحَانِ):

نعم ... أَشكو إِليكَ يَا ابن (سُنّْبَه)، فأَنّْتَ أَخٌ مُشّْفِقْ.

لَقَدّْ وَصَلَني مِنْ بَعضِ إِخوَتي؛ خِطابٌ مُقّْلِقْ !.

قُلتُ يا حِمَاري يا (أَبا الرَّيْحَانِ):

هَلّْ مَاتَ زَعيمُكُم ذَا القَوّْلِ المُفّْلِقْ؟.

صَاحِبُ الرأْي السَّديْدِ والمَنّْطِقْ؟.

ذُو الخِطَابِ الرَّصِيْنِ المُذّْلِقْ ؟. (المذلق : الفصيح)

قَالَ حِمَاري:

قَبَّحَكَ اللهُ مِنْ مُتَشَائِمٍ مُفّْتِقْ. (يَفتِق الهموم).

قُلْتُ:

يَا حِمَاري يَا (أَبا الرَّيْحَانِ)؛ أَخبِرني بِخَطّْبِكَ المُحّْدِقْ؟.

قالَ حِمَاري (أَبو الرَّيْحَانِ):                                                

كُلُّ هَمّْي مُسْتَقّْبَلُ شَّعبِ العِرَاقِ المُقّْلِقْ.

فَأَكثَرُ الأَطفَالِ يَعيْشونَ الفَقّْرَ المُزعِقْ. (مزعق : مُرّ).

وَ الشَبَابُ يُعانُونَ شَظَفَ العَيّْشِ المُرّْهِقْ.

العَطَشُ أَهلَكَ الأَنْعَامَ والحُكومَةُ لا تُشّْفِقْ.

وَ لا وزيرٌ مِنْ حُكومَتِنا؛ يهمُّهُ الأَمّْرُ وبالحَقيّْقَةِ يَنّْطِقْ.

فَيَشّْكوْ حَالَنَا للعَالَمِ؛ لَعَلَّ (الأَتراكَ) بِنَا تُرفِقْ.

و (تُركيَا) لا تَرعى للجِوارِ حقاً وللمَاءِ تُطّْلِقْ.

وَ لا الفَاسِدونَ يَرحَمونَ هذا الشَّعبَ المَزِقْ. (المَزِق: الممزق)

فَهُمّ بهِ نَهْبَاً وأَكلاً ... أَكلَ الذِّئابِ لِحَيْوانٍ نَّفِقْ.

للهِ دَرُكَ يا عرَاقُ؛ كَمّْ نُورُكَ عَلى العَالمينَ مُشّْرِقْ.

فَلِلْعراقِ في سَمَاءِ العِلّْمِ نُجُومٌ تُبْرِقْ.

أَسَاتيْذٌ في كُلِّ عِلّْمٍ لِلمَعَارِفِ تُخْرِقْ.

أَطبَّاءٌ في فُروعِ الطِّبِّ لَهُمْ راياتٌ تُخْفِقْ.

مُهَنّْدِسُونَ في العَمَائِرِ لَهُمّْ شَأْنٌ مُشّْدِقْ.  

و أَضَافَ حِمَاري (أَبو الرَّيْحَانِ) بصوتٍ مُفّْرِقْ:

و نحنُ الحَميرُ ؛ لا وَظائِفَ لنَا والبَطالَةَ بِنا تَحّْرِقْ.

فلا بَضَائِعُ نَحّْمِلُ؛ فكُنّْا بأَحمَالِنَا مِنَ النَّاسِ نَسْتَرزِقْ.

كُلُّ هذا يا ابنَ (سُنبَه)، وتُريدُنِي أَنّْ يكونَ وَجّْهي بَهيّْجٌ طَلِقْ؟.

قُلتُ يا (أَبا الرَّيْحَانِ):

لقَدّْ أَدميّْتَ قَلّْبي ... وأَكادُ أَموتُ وأَنا فَرِقْ.

و من الحزن كأَنَّ السماءَ عَلى رَأْسِي تُطّْبِقْ.

يا (أَبا الرَّيْحَانِ) ... يا ابنَ الرَّافِدَيْنِ، كَمّْ أنْتَ وَطنيٌّ مُشْفِقْ؟.

فالفَاسِدونَ خَانُوا الضَّميرَ، وسَاروا بالطَّريقِ الزَّلِقْ.

لقَدّْ خَانُوا الشَّعبَ، وكَفَروا بِحَقِّ كُلِ مَخْلُوقٍ قَدّْ خُلِقْ.

لقَدّْ خَانُوا الشَّعبَ، وكَفَروا بِحَقِّ كُلِ مَخْلُوقٍ قَدّْ خُلِقْ.

***

محمد جواد سنبه

  

البحر أمامي، الأمواج تتكسر عند الصخور الناتئة، فتتحول إلى موجات صغيرة،الأفق يعانق زرقة الماء التي تتحول إلى خضرة مشوبة بالبياض وأشعة الشمس المنفلتة من بين الغيوم الرصاصية تعكس ألوانا متداخلة على سطح البحر، على بعد خطوات مني اعتلى صياد في متوسط العمر صخرة متشحة بالسواد وطرح صنارته في البحر،علَّ سمكة تعلق بها، كان منشرحا مستمتعا بالأجواء.

تقدمت خطوة إلى الأمام،أصبحت على مستوى واحد مع الصياد، رش رذاذ الموج وجهي ومناطق أخرى من جسمي، أحسست برعشة نشوة سرت في كل ذاتي، التفت إلى الخلف رأيت زوجتي منشغلة بجمع أصداف البحر وقطع الأحجار المتناثرة بين الصخور وعلى الرمل، تركتها لحالها، وعدت لأحضن بفرح طفولي سحر المنظر المبهج الذي كانت ترسمه الطبيعة أمامي، قلت لنفسي : "أريد هدنة تبدد بعضا من ثقل السنين الماضية، وتُسكّن إلى حين أوجاع الخاطر والبدن، وتسمح لي بمواصلة الرحلة دون توترات طارئة، فالطوارئ لا تحمل إلا ظلال الكآبة و بؤس اللحظة، وتزيد شدة التمزق والتشظي."

نادتْ عليَّ زوجتي تدعوني لمغادرة المكان، رفعتُ يدي مطالبا إياها بالتريث لحظة، وافقتْ، ثم عادت لأصدافها وأحجارها، وعدت أنا إلى عالمي أمارس طقوسي بصيغة خاصة بي، سألتني موجة حمقاء وهي تلقي بمائها وزبدها نحوي :"أتبحث عن الزمن الضائع عند البحر؟.."

لم تترك لي فرصة الرد وأجابت عن سؤالها:" لن تجد هنا إلا الضياع دون زمن، ولن ترى إلا الوجع المضمر في سحر المنظر وجمال الصورة".

استفزني الأمر وأيقظ داخلي مرارة لم أفهم سِرّ انبلاجها، هناك طبعا شيء غير طبيعي يقلب مزاجي ويضعني في مواجهة حقائق ووقائع ذات حمولة سلبية تقتل ذلك الإحساس السابق وتصيبني بالخرس، تراءت لي فجأة بين أحضان الموج المتلاطم جثثا آدمية تطفو على سطح البحر، تذكرت نصيحة قديمة لوالدي :" احذر يا بني البحر والنار والمخزن".

اهتز وجداني بقوة، تلاشت جمالية المنظر، وقفزت الى الذاكرة جُملة من التساؤلات الغامضة، وفُتِحتِ الأقوس، وتناسلت الجمل الاعتراضية في نسق ناشز لا يقود الى معنى.

للبحر جوع من نوع خاص، فهو يعشق ابتلاع المغامرين الباحثين عن لقمة عيش افتقدوها في أوطانٍ ضاقت بأحلامهم ودفعتهم قربانا لأمواجه القاسية، حتى إذا صعدت أرواحهم لباريها عاف جثثهم وقذف بها بعنجهية.

أحسست فجأة بِيدٍ تضغط على كتفي، وصوت يوقظني من سهوتي، تبينت أنه لزوجتي التي هتفت بي:

- عُد إلى رشدك يا فيلسوف عصره، فأنا لم أعد قادرة على تحمل لسعات البرد.

***

محمد محضار

14أبريل 2023

 

بعد أن أنهى الدراسة في كلية العلوم سيق لكلية الضباط الاحتياط لأداء الخدمة الإلزامية وتخرج منها برتبة ملازم مجند ونسب إلى مدرسة القتال في الديوانية ورغم أنه لم ير مدينة الديوانية سابقا إلا أنه حرص على السؤال عنها ومعرفة أحوال أهلها وكيفية التعامل معهم من معارفه الذين لهم اطلاع على أحوالها واعتبر تنسيبه للعمل فيها خلال خدمته الإلزامية فرصة للتعرف على أحوال أكبر مدينة في الفرات الأوسط وتمنى أن يتعلم من أهلها ما اشتهروا به (الحسجه) .

. اعتاد سريعا على جو المدرسة والتدريبات العسكرية فيها وكون شبكة علاقات صداقة مع الضباط والجنود إذ كان حريصا على أداء واجباته التدريبية والشؤون الأخرى وكان متعاونا فحظي بمحبتهم وتلقى عدة دعوات للزيارة في بيوتهم وتعرف على المدينة وبعض احيائها بشكل جيد وذات يوم دعاه زميل ملازم أول إلى بيته على طعام عشاء في حي المعلمين فقبل الدعوة شاكرا واتفق معه على اللقاء في أحد مقاهي الحي قبل موعد العشاء بأكثر من ساعة وأثناء جلوسه في المقهى كان يراقب المارة ويعجب بالزي العربي الخاص بالمدينة حيث يضع رجالها على رؤوسهم (عقال) تتميز به الديوانية عن غيرها من المدن وأثناء هذه المراقبة مرت شابتان جميلتان بزي حضري جميل ودقق بملامح اطولهما فكانت زميلته في الكلية والقسم حسيبة حميد الجاسم فهب واقفا بقصد إيقافها والسلام عليها لكنه تذكر أن بغداد غير الديوانية فتوقف عند باب المقهى ملاحقا بنظره تلك الزميلة التي تركت سيرة حسنة في الكلية لمدة أربعة أعوام دراسية .

. في هذه الأثناء وصل صديقه فاتجها سيرا على الاقدام وفي منتصف الطريق وجدا الفتاتين بنفس الاتجاه فرمى عليهن صديقه السلام وحياهن بحرارة وقدمه لهن باعتباره صديق ورفيق سلاح وعرفه باسمائهن هنا ابتسم هو وابتسمت حسيبة ومدت يدها مصافحة وقالت: نزار عبد الكريم جواد زميلي في كلية العلوم وفي نفس القسم لأربع سنوات اهلا بك في مدينتنا الديوانية .

. في الطريق تحدثا عن ذكرياتهما في الكلية وكبريائها الذي وصل حد الغرور إذا لم تشارك الطلاب في اي فعالية خارج الدروس ولم ترتبط بأحد وصراحتها ووضوحها وحصر وجودها في الكلية على تلقي العلم فقط فلم يقترب منها أحد الطلاب ولم يكن لأحد معها غير الزمالة والاحترام بعدها أخبرها أنه يؤدي خدمته العسكرية في الديوانية وهو اليوم في زيارة لبيت صديقه وأخبرته هي أنها عينت مدرسة وتقضي فترة التدريس في القرى والأرياف الآن في منطقة ريفية من نواحي منطقة الدغارة ثم توادعا عند باب بيت مضيفه على أمل صدفة أخرى لكن صديقه دعا حسيبة للعشاء باعتبارهم جيران فتشكرت واعتذرت ودخلت الثانية البيت فعرف أنها اخت صديقه .

. عندما عاد إلى مكانه كانت حسيبة تشغل كل تفكيره بجمالها الأخاذ وشجاعتها كامرأة متعلمة وكبريائها واعتدادها بنفسها وتمنى لو أن الوضع هنا يكون أفضل انفراجا من جو الكلية ويستطيع مفاتحة حسيبة ومعرفة رأيها به لو تقدم لخطبتها من أهلها لكنه لا يعرف ظروفها وهل للعلاقات العشائرية سطوتها حتى على خريجات الكليات أو لا وسهر أغلب ليلته بحثا عن حل يصل به إلى ضفاف حسيبة وخطبتها والاقتران بها وتكوين أسرة حتى داهمه النعاس .

. إعادت صدفة لقاء نزار في نفس حسيبة ذكريات ايام الكلية وسنواتها وكيف حددت نفسها بتصرفات مشددة حيث لم تشارك الزملاء جلساتهم وسفراتهم ولم تقهقه أمام أحد قط كما لم تساير الموضة وكانت مثال للاحتشام والعفة طوال تلك السنوات لكنها تساءلت وماذا بعد كل هذا ؟ ألم يحن أن يكون لي زوج وبيت وأسرة؟

هل اتزوج على طريقة امي وجدتي وانا المتعلمة ؟

ثم قالت لنفسها كان نزار طيلة أيام الدراسة شابا مؤدبا لم تسجل عليه شائبة من أحد وعلى حين غرة سالت نفسها .. لو تقدم نزار لخطبتك هل توافقين به ؟

فضحكت ساخرة من نفسها ودست رأسها في وسادتها .

. منذ دعوة العشاء ونزار يتغير كل يوم وتظهر عليه اعراض الشرود وكثرة التفكير والإهمال لنفسه وقلة الأكل ففطن له صديقه وطلب منه الخروج معه في نزهة في المدينة بعد الدوام لكنه مانع في البداية وفي الاخير رضخ لامر صديقه وفي زاوية مقهى غير مكتظ طلب منه صديقه أن يبوح له بمشكلته عله يستطيع مساعدته لكنه رفض وبعد الحاح اشترط نزار على صديقه القسم بالكتاب المقدس على أن يبقى الأمر سرا بينهما فاقسم صديقه وصغى له بمحبة أخ فأخبره بحبه لحسيبة وعجزه عن إيجاد طريق لمعرفة رأيها بالزواج منه هنا تهللت اسارير صاحبه وأخبره أن الأمر ليس بتلك الصعوبة وحسيبة جارتي مذ كنا أطفال وأبوها رجل متعلم متفهم لكن حسيبة ذا شخصية قوية وصريحة ماذا لو رفضتك ؟

إذا كان رفضها مبرر سأعيش اليأس فترة واعرف أنها ليس لي بعدها ربما اشفى من حبها مع علمي أنها لم ترتبط بأحد طيلة أعوام الكلية ..

طيب امهلني يومين ولا تسألني ماذا سأفعل فقط تذكر اني أقسمت لك على سرية الموضوع .

. في اليوم الثالث دعاه إلى بيتهم ولم يسمح له بالرفض أو الاعتذار وأخبره أن هناك مناسبة في بيتهم وهو ضيف الشرف وعليه أن يكون نزار الذي عرفه اول مرة من شياكة وأناقة وحسن تصرف واختيار المفردات وفي المساء كان البيت يزدحم بالضيوف ومن ضمنهم حسيبة وأبوها وكانت المناسبة عيد ميلاد اخته وشعر نزار بالحرج إذ جاء من غير هدية للمحتفى بها لكن صديقه اجلسه وطلب منه مفتاح سيارته وخرج لحظات وعاد مسرعا وبيده علبة هدايا فاخرة وأعلن أمام الجميع عن هدية صديقه نزار عبد الكريم جواد وفتح العلبه أمام الحضور وطلب من نزار أن يقدمها بنفسه فكانت اغلى هدية قدمت في الحفل وسط انبهار الجميع وظن البعض أن نزار سيعلن خطوبته على المحتفى بها .

. دارت حوارات جانبية شارك فيها نزار مع حسيبة منفردا ثم عرفته على أبيها وتحدث مع آخرين ثم طلب بعض الحاضرين من نزار أن يبين لهم كيف رأى مدينتهم وهل يفكر بعد انتهاء خدمته العسكرية أن يتزوج من امراة ويعيش في المدينة؟ فوقف نزار شاكرا الجميع وأخبرهم أنه ليس غريبا عن المدينة وانهم يشاركونه اليوم الاحتفال بعيد ميلاد اخته وهو المضيف وبخدمة الجميع فهناه الجميع بحرارة وصفقوا له وهنا سأله صديقه .. وماذا بعد ؟ فقال

كل خير ان شاء الله

فاضاف ابو حسيبة القصد هل اخترت فتاة من الديوانية ؟

. نعم بكل تأكيد ياعم

. وهل فاتحتها؟

. ابدا والله يتحول خجلي إلى خوف أمامها

. والحل ؟

. فكرت بكل الحلول لكني اخاف الرفض

. هل تعرفها ؟

. عز المعرفة ؟

. ماذا تحتاج لمعرفة رأيها؟

. مساعدة من رجل بحصافتك

. هل تحبها ؟

. كل الحب ياعم

. ماذا لو رفضتك ؟

. ساحترم رأيها واكتم

. انت مدعوا عندي في بيتي وحدد الموعد

. اسمح لي ياعم بتقبيل جبينك ويدك

. جبيني نعم يدي لا

. انت بمقام والدي

. وليكن

. هنا تمشى نزار خطوات باتجاه مكانه ومر من قرب حسيبة فابتسمت له وقالت :

كنت خطيبا مفوها فشكرها وسألها ماذا تقدمين لي في بيتكم ؟

. ما يقدم للضيوف ؟

. طلبي أكبر

. ماهو ؟

. فهمس وكست الحمرة وجهه .. انت

. ضحكت وقالت يالك من خبيث ماكر

. ودع المحتفلون أهل البيت وخلت غرفة الضيوف على نزار وعائلة صديقة وهم معجبون بشجاعته الأدبية ولباقته وحضوره الجميل وشكرته اخت صديقه وامها على الهديه ثم اختلى بصديقه وعانقه وشكره بامتنان فضحك صديقه وقال له :

لم يساورني الشك بذكاؤك لكنك اليوم كنت مذهل وضربت عصفورين بحجر

. رد نزار هذا بفضلك وجهودك وكرم اصلك وعائلتك ثم ودعه وخرج .

. زار نزار بيت حسيبة وجلس مع أبيها وحدثه بكل صدق ووضوح عن نفسه وعائلته ووضعهم الاجتماعي والمادي ولما وجود قبولا أخبره أن يرغب بالاقتران بحسيبة أن لم يكن عنده أو عندها مانع ، فأخبره الوالد بموافقته لكن شرط موافقة حسيبة وقبل أن ينهض ليسالها رأيها دخلت حسيبة بابهى طلعة واخبرت والدها أنها موافقة لمعرفتها بسمو أخلاق نزار والرأي الأول والأخير لك .

قال الوالد: على بركة الله بعد أن ينهي خدمته العسكرية وتنهين انت فترة القرى والأرياف.

. وبعد عدة أشهر اندلعت الحرب فنقل نزار إلى المعركة ثم وقع في أسر العدو وانقطعت أخباره وبعد قرابة السنة تزوجت حسيبة من آخر وأنجبت وتوفى زوجها ومرت السنين وفي عمرة شعبان هذا العام التقيا على صعيد عرفات وهما ارملان متقاعدان فاتفقا على الزواج

***

قصة قصيرة

راضي المترفي

 

ما زالتْ عينِي ترْبُو إلى النّرْدِ

تتَلمَّسُ نَظَراتُها الزَّواياْ

تبحثُ عنْ رُكنٍ تأتِي منهُ الغَنيمةُ

وهَلْ في النّرْدِ غنيمةٌ؟

أصابعُ الفتيةِ تَقَلُِبُهُ بمهارةٍ

عينِي تَقَلِّبُهُ بتعجبٍ

كلٌّ منَّا يَنتظِرُ منهُ أنْ يثبتَ

على ما يَتَمنّاْهُ

ما زلتُ أنا أيضاً أتمنَّى

وتلكَ اليتيمةُ أيضاً تَتَمنَّى

وعيناهَا تربوانِ لفُستانِ العيدِ

هي تَحلُمُ

وأنا أحلُمُ

بوطنٍ   تسُودُهُ العدالةُ

الاجتماعيةُ بينَ الأفرادِ

أترى النّرْدَ مُتكافِئَ الفرصِ؟

على اللوحِ البُنِّي

يَتَدَحْرَجُ

بكلِّ ما أُوتِي من قوةٍ في الدفعِ

ليستقِرَّ مَذهُولاً

لِفَرحِ بَعضٍ، وَبكاْءِ بعضٍ

كرَصَاصَةٍ طَائِشَةٍ

في عرسٍ

أو جِنَازَةٍ

أو نائِبٍ قذفتْ بهِ الصدفةُ

ليَصُوغَ تَشريعاً على مقاسِ يدِهِ

***

كامل فرحان حسوني

 

القسم الثاني

أطلق ضحكة مكبوتة أعقبتها ابتسامة صفراء مثل زهور النرجس في المنتزه التي بدأت تتلاشى منذ بدأ الدفء يدبّ:

لأنني أحبها َ

فتظرت إليه بأسف

وهل نضرب الذين نحبهم؟

قال من دون تفكير:

أمك طائشة تبدّل رأيها دائما لاتثبت على فكرة ولا وسيلة عندي لأعيدها إلى صوابها إلّا بالعنف.إنّها تدفعني لسلوك أهوج.هل اقتنعت؟.

لزمت الصمت، فقال:

ألا يحب الطفل لعبته (وتساءل من غير أن ينتظر جوابا مني)لماذا يكسرها إذن؟

بقيت صامتا واستمرّ:

ستفهم حين تكبر

هل تذهب معي

سأذهب معك إلى البيت لكن شرط ألا تكون عنيفا.

لن أذهب إلى المنزل سآخذك إلى السينما ثمّ نتعشى في أيِّ مكان ترغب.

فغادرت المسطبة متذمرّاً:

لا سأذهب إليها

هذه المرة ، قبل أن أترك المنتزه، راودتني فكرة مجنونة حقّا

من دون تردد

أغيّر طريقي

لن أهرب إلى المنتزه، أمامي قسم الشرطة، أكشف الحقيقة لهم أفضح سرّ البيت سوف يأتون ويرون الكدمات على وجه أمّي، إما أن نعيش نحن الإثنين سعيدين وقد يعود إلينا أبي أليفاً بعدما يتعهد أمام الشرطة بالتخلي عن العنف وضرب أمّي.

لكن

جاءت النتيجة على وفق أحلامي

بعض تأنيب الضمير

ولا أظنّ أنّي أخطأت

لو طاوعت أبي وذهبت معه إلى السينما ثم تعشينا خارج البيت ، لما طلع عليه الموت من مكان ما.

التقرير الطبي يقول:كان في حالة سكر شديد، سائق السيارة التي صدمته نفسه كان قد تخطّى حدود السّرعة داخل المدينة وبذلك تكون في قبضة أمّي حفنة كبيرة من المال دفعها لنا التأمين.وحسب شهادة بعض المارة إنّه كان يزعق، رآه حارسا البار الواقفان عند البوابة يندفع بجنون إلى وسط الشارع

تهوّر..

لامبالاة

لا أحد يظن أن رجلا بإرادة أبي يمكن أن ينتحر

الأدهى

أنّه إذا سَكِرّ أصبح أليفا كالحمام

وأظنّني ولا أخدع نفسي سمعته يتغنّى باسم أمّي حتّى يغفو من ثقل سكره

والأغرب

أنّي وجدت أمّي تبكي عليه بحرقة، أمّا أنا فلم أحزن كثيرا.سوف أفتقده.كان يرغب في أن يكسب صداقتي لكنني فرحت في الوقت نفسه بمبلغ التأمين الكبير.

أتابع باهتمام قضية أمي.. لعلّ أفضل صديق ينفعني بحلّ اللغز شبكة النت

لماذا بكت أمي على أبي الذي كان يضربها بقسوة ويرسم على وجنتها بكفيه الغليظنين علامات زرقاء؟

ولم تفرح بالتعويض بل فكّرت أن تتصدّق به.لا تريد أن تأكل من دم أبي، وهمّت -لولا اعتراضي -أن تتبرّع بالمال على روحه لفقراء يعيشون في الشرق البعيد أو تحفر بئرا في بلد إفريقي باسمه يسقي العطاشى.

أمنح صديقتي الشبكة كلّ المعلومات فتصل حالات تضايقني

قد تكون مقنعة غير أني أشعر بحنق منها

أكتب:

هل أحبت أمي أبي قبل الزواج؟

اللاب توب:

أمّك أحبّت أباك ثمّ اكتشفت بعد الزواج طبعه الحاد

اللاب توب يضع خطّا اخضر تحت كلمة تحبه وترى فيه ماضيها الجميل

أكتب:

هل أحب رجل آخر أمي؟

اللاب توب:

الاحتمال الآخر أمك أحبها رجلان أحدهما وسيم وآخر رجل وسيم فيه خشونة كانت تحب الآخر.. لكنّ الرجل الأقلّ وسامة هجرها، فاغتنمها أبوك فرصة لكي يحقق حبه وانتقامه

تحت كلمة هجرها خط بني وتحت يحقق انتقامه خط أحمر

أنا: هل تعلم يا صديقي أن أمّي اعتادت في جميع المناسبات المشهورة أن تزور قبر أبي وبيدها حزكة ورد بيضاء!

اللاب توب

التعليل الثالث

أمك منحت نفسها لشخص أحبته فستر عليها أبوك شرط ألا تعترض على أيّ تصرف منه

خط أحمر تحت كلمة منحت وآخر داكن تحت ستر

اعترض:

أمي مولودة في الأصل من مجتمع شرقي محافظ.

اللاب توب

هي ليست ملاكا

أسخر.. أستهزئ فاللاب توب يشعرني أنّه صديق في بعض الأحيان فأحاول أن أدفع عن شرف أمّي:

تذكرتُ أيها الصديق العزيز شيئا مهما أمي كانت تحبّ التين كثيرا والرجل الذي راودها من أمريكا اللاتينية

اللاب توب يسأل جادا بقسمات صارمة.

ماعلاقة الأمر؟

جوابي بسفاهة لا متناهية:

سميت اللاتينية ليس بها تين.

You are vile

أصمت.

اللاب توب يبعث لي علامة تعجب.لايغشني.يعرف درجة يقظتي ومهارتي في التعامل معه للمرة الأولى أسخر منه ومن نفسي وأمي والعالم.وهو يحاول أن يتفاعل مع أبعد الاحتمالات بدرجة اليقظة ذاتها التي يتعامل بها مع الاحتمالات القريبة..

أسأل باهتمام:

إلى أي احتمال أنت تميل؟

- الثاني

أغذي اللاب توب بمعلومات أخرى أخفيتها عنه:

أبي قبل الزواج كان ملاكما.عمره ست سنوات حين جاء مع والدية إلى بلد المهجر.لم يمارس أية هواية غير الملاكمة.. حصل على بطولة محلية.وكان يطمح إلى العالمية.يحلم أن يصبح مشهورا مثل محمد علي كلاي في أحد النزلات انتكس فتخلى عن أحلامه.جاءنا بوجه متورم، مزرق، ذي كدمات داكنة حتى إن والدتي خشيت أت يكون تعرض لارتجاج في المخ من قسوة الضربات..

بعد الإضافة الجديدة...

جاءت النتيجة مطابقة للاحتمال السابق وكنت أظن اللاب توب يغيّر رأيه أو يُرجع عنف أبي إلى اعتزاله هوايته المفضلة الملاكمة التي كرهها عقب هزيمته القاسية ولم يعد يتابع أخبار الملاكمة وأبطالها عبر شاشة التلفاز..

هناك أكثر من مجال أمامي

أغيب في المجال الواسع جدا الذي يمنحني أيّ شئ ماعدا البراءة فيما لو فعلته:

أتابع بريئا

أطلع في تلصصي على ملفاته، وأتساءل:

هل يمكنني أن أصبح مليونيرا؟راتبي ضخم وحياتي مرفهة.أعيش وحدي بعد وفاة أمّي، مع ذلك وجدت نفسي مثل التمساح.

كوسجا

حوتا

لا...

الحوت والكوسج لا يكمنان لفريستهما ولا يذرفان عليها الدمع بل يهاجمان بكلّ وضوح ويطاردان جهرا

أما أنا التمساح فأكمن لكلّ ما أراه غريبا...أليفا كان مثل الغزال أم متوحشا كالأسد

لحدّ الآن لم أهاجم بريئا

هناك فرق جوهري آخر بيني وبين التمساح: صورة السِّلفي التي التقطتها من الهاتف تثبت أنّي غير منفر ولا كريه...شكلي ملامحي فيها بعض الحيويّة وليست بقاسية ربما أتمتع ببعض الوسامة طولي 175 سنتمترا

لا أعتقد أَنّ هناك عيبا في صورتي

أقصد المرآة فأجدني عاديّا

أما الآن فأبدو أمام هدفي بصورة أخرى تثير القرف

أتابع الرجل البرئ المليونير

منذ أوّل خطوة يخطوها في الشبكة العنكبوتيّة

أخترقُ مستشاريه وأتتبع أرقامه السريّة فينتهي بي المطاف معه إلى أحد المصارف في سويسرا

أتحسس خيوط الضّعف

غنيّ ّ

ثروته في هذا المصرف خمسة ملايين ولعلّ له رصيدا في مصارف أخر

ماذا لوحققت ضرية لا تخيب في ربح مليون؟

أقدر أن أتجاوز إلى أكثر من هذا الرقم لكني حتى في سرقتي وانتقامي أريد أن أكون رحيما

مذهل

أين كنت من قبل عن أمثال هؤلاء؟

لن يضيره شئ

هل يضيره حين يخسر، مبلغ مليون.. أقلّ قليلا أم أكثر، يمكن أن يفقده في جلسة قمار أو سباق خيل.. لِمَ أستبعد ذلك؟

سيذهب ضحية وسيط آخر

مثلما أجيد صيدَ المخترقين أقدر أن أكون واحدا منهم

رئيسهم الذي لا يكشفه أحد

أتممت الخطّة في ثلاثة أيام

غذّيت بوهم

وحقائق

زوّرت

وتسللت

التنفيذ جاهز.. لِمَ لا أصبح مثل المتلصصين الألمان والرّوس.. على الأقل أحقّق لقب مليونير في بضع ساعات؟

وصورة السِّلفي معي وربما هي التي ذكرتني بصديقتي داليا

فلمحّت إليها

هناك مليون.. ثلاثة ملايين أي رقم.. ينتظرني

كيف؟ لم أفهم قصدك؟

تابعت أحد أصحاب الملايين

معقول!

لِمَ لا هو في قبضتي الآن!

أنت الذي أنقذتني من عملية احتيال!

وهل أنا ملاك؟

نعم أنت ملاك

صحيح؟

ملاك ملاك انت أطيب قلب

لا أريد أن أصبح جشعا خلال لحظة تمرق كالسهم

أخيب ظنّ داليا بي

الخير وحده يطاردني

التناقض في أن تأخذ بيد إنسان وتصفعه في الوقت نفسه

تحيي وتقتل

هناك إنسان يظنني لا أفعل الشّرّ

داليا هل صَدَّقت؟‘ني أمزح معك ألا تحبين المزاح؟

طبعا لا أصدّق

أعود فالغي خطتي

اذن من أجلك أنت لن أتعاطى بالشر حتى من باب المزاح

اقتربنا أكثر وأكثر

ورفع كل منا السِّتار عن نفسه أمام الآخر

كانت تستشيرني في كثيرٍ من الحالات التي تواجهها في العمل ولحياة الخاصّة

عواطفنا أيضا كبرت

تعقّدت

تشابَكَتْ

عزيزتي كيف حالك؟

انا بخير كيف أنت

أكون أكثر مرحا حين أحدثك

:الوجه المدور يزيده التماعا بريق الشاشة.يبتسم لي

حسنا اتصلت بي ٌقبل أن أخلد للنوم.

الآن انتهيت من عملي قبل دقائق!

أنا أصبحتُ مثلَك: اليوم أخبرني المدير أنّي يمكن أن عمل من اللبيت.

ذلك رائع.. ما الذي كنت تفعلينه قبل أن أتصل يك؟

أنسِّق برامج عمل الشركة ليوم غد.

جميل جدا

تساوينا اذن

أَمَّا اذا التبس عليك أمر فيمكنك الاتصال بي لأطردَ أيّ طفوليّ أو مُخترق

لكننا وان انعزلنا يمكن ان نلتقي ذات يوم

بلاشك

تصبحين بخير

قبلاتي

تصبح على خير

بعد وقت ما قد يكون بضعة أشهر أو سنة ربما أكثر سألتها:

هل لك علاقة سابقة؟

لا أدري لِمَ تمنحني الكتابة للآخر بعدا أفضل مما لو أتحدث معه بلساني وجها لوجه.عليّ أن أكون ذكيا في الاستنتاجات فليس هناك من تعابير وجه ولا حركة يد ولا نبرة لسان تساعدني ومثلما أنا عليه أجد الآخر في موضعي:

لا أنكر علاقة عابرة نعم

ماذا تقصدين بعابرة

لا تتصنع عدم الفهم

ولِمَ لا تقولين إنّه الفضول أو...

أو ماذا؟

أظنّها وهواجسي لن تخطئ هي المرأة التي أحقّق فيها رجولتي:

الغيرة

جاءت المراسلة على الشكل التالي:

نحن في بلد أوروبي متحرّر...هنا الفتاة متحررة إن لم تتخلص من عذريتها تثير قلق أهلها

قصدك هل أنا عذراء؟

أنت ذكية

بل السؤال سخيف

شكرا

أظنها تبتسم، هل احتقرت سؤالي:

لا تستغرب إذا قلت لك إني عذراء نحن شرقيون مسيحيون ربما اندفعت في مراهقتي فقبلني صديق في المدرسة لكن بقيت البكارة ترافقني هل ارتحت؟

تقصدين لن بحدث ذلك إلا من خلال الزواج؟

- نعم

- بالتأكيد

في تلك اللحظة وبعدها بأيام أو أعوام جلست أفكر.صديقي العنكبوت له شبكة واسعة تغطي الدنيا

يدخل البيوت ويتغلغل في غرف النّوم ، يعرف الأسرار والخفايا.. كنت أجده هذه المرّة في هيئة شخص مهيب.رجل في الأربعين من عمره يضع قبعة على رأسه ويرتدي ملابس متضاربة الألوان سترة سوداء وسروالا أبيض.حذاء أحمر لماع لكنه كان يسدل القبعة على عينيه ويمدّ رجليه على الكرسي المقابل لي.

هكذا كنا أنا وإياه

لم أنزعج لجلسته الرزينة العبثيّة، فهو يظهر لي -كلّما ألتقيه- بشكل آخر جديد يختلف عن الشكل الذي قبله.

أمازحه:

أنت حرباء.

فيبتسم من غير ردّ

هل يتنكّر، فهناك الكثيرون يعرفونه ولا برغب في أن يتحدّث مع أحد.

من حقي أن أسئ الظنّ بأصدقائي فقد شاهدت الكثير الكثير من الغش والخداع وأحبطت أعمالا جبارة مخيفة واصطدت حيتانا كبيرة فتّاكة

بعضها خرافيّ انقلب إلى حقيقة لا شكّ فيها

طلبت لنا آيس كريم، فرفع القمع من دون أن يحرّك القبعة إلى هامته.كانت نيتي أن أطابق صحة المعلومات التي قرأتها عن داليا مع مايقوله صديقي.دوّنت:

داليا النسور.مسيحية من الشرق.آنسه تعمل في مؤسسة النقل العامة.أمها موظفة في المطار.أبوها يعيش في أمريكا.

بدأ الفأر يرقص,الفأر المؤشر:

ماذا ترغب في أن تعرف.

أدرك جيدا أن صديقي لا ينطق إلا إذا سألته.حيادي.يمنحني المعلومات الجيدة.لن ينبهني إذا حاول هاكر أن يخترق حياتي.لكنّه ينفعني في أغلب المواقف:

ماذا ترغب في أن تعرف.

عذراء

نعم ولا.

هذا لغز؟

عذراء 80% 20% غير

بريئة؟

نعم

طماعة؟

جاء الرد:

طموحة

كتبت ثانية

تطمع

10%

باردة الأحاسيس

لا 80% 20% نعم

هل أجرت عملية ترقيع لعفتها

توقع10%

بدت السعادة تلوح على أساريري حين جاءت أجوبة الصديق المفترض مطابقة لما سمعته منها، فانسحبت من المفهى الغاص بالزبائن ومشاهد الرصيف الجميل إلى البيت، جلست أراقب المخترقين وأتابع صفقات المديرية وحركات موظفيها.تناولت غدائي على عجل.. بعض الجبن وخضار، وحين حلّ المساء طلبت من الممطعم القريب (بيتزا) بعد ربع ساعة دفعت للعامل ثمن الطعام والبخشيش ولم أتعمد النظر إلى وجهه، أغلقت االباب والتهمت طعامي على عجل ثمّ رحت أواصل عملي، قضيت اثنتي عشرة ساعة ، ثمّ جاءني طلب من السيد المدير في أن أبقى أستمرّ في الشغل لظرف طارئ يتعلق بصفقات جديدة.استلمت الرقم السري للصفقة بالهاتف النقال، تحاشيا لأيّة محاولة تلصّص وعدت أكمن وأطارد.

مازال الوقت مبكرا والسعادة تفيض من وجهي:التقطت نفسا عميقا.. إحساس بالصداع والنعاس ينتابني.جاءتني بعد ساعتين إشارة من المديريّة، فأغلقت حاسوب العمل، واضطجعت على الأريكة الطويلة في صالة الاستقبال.الوقت متأخّر قليلا. الحادية عشرة.يمكنني أن أتصل بها.المشاعر تلغي الزمن، وهناك رغية تلح.وجدتها صاحية تسهر مع النت.

داليا.

هل أنهيت عملك؟

قبل ساعات.

هناك أمر جدي أودّ أن أحدثك عنه.

طبعا لم تغامر باالسطو

الحق فكرت.موهبتي تغريني لكنني لم أرد أن أتحول إلى شيطان.

يوما عن يوم تكبر في نظري.

إذن هل تتزوّجينني.

ههه ههه

ماذا؟

ههه ههه

لِمَ تسخرين.

كنت أعرف ذلك قبل أن تنقذني من مصيبة الهاكر.

هذا ضرب من الخيال

بل الواقع

هل أنت واعية لما تقولين؟

وأصر على أني صاحية تماما ومسؤولة عمّا أقول.. !

أتأمّل قليلا:هل كانت تطاردني في غلة منّي؟

كيف كنت تعرفينني؟

إسمع هل تؤمن بالعرافة؟

لا أدري؟

إسمع قبل أن ننقذني من ورطة الهاكر بشهر زارت أمي الشرق هناك التقت عرافا مشهورا كانت تثق به قبل أن يأتي أبي بها إلى الغرب قال لها أشياء عن المستقبل وعندما رجعت سألتني هل أحب مسلما؟

هل فاجأك الخبر

ذلك الوقت لم أكن أعرفك فأجبت بالنفي

النبؤءة.. الخرافة.. الهاجس.. على وشك أن تتحقق.. خطوات بيني وبينها، فأتفق معها على موعد، وأغادر الجهاز.

ارتميت على الأريكة ، وسرعان ما غرقت في نوم عميق.لا أدري كم طالت نومتي.كأني قبلها يقيت صاحيا دهرا.حلمت أني أطير، وأستقلّ الحافلات، أركض في الشارع، أدندن مع نفسي، أعرف جميع لغات العالم، اخترق الجدران

سوبرمان..

لاحدود لقوتي التي مارستها في شبكة العنكبوت

وحين صحوت، بعثت رسالة إلى السيد المدير أخبره أني مريض ولن أقدر على العمل اليوم.

من حسن حظي أني تآلفت مع الشارع في الحلم

قبل الحلم راودتني شجاعة مذهلة في أن أحدد لقاءنا في مكان آخر غير منزلي أو مكانها.. هي المرّة الأولى التي أخرج فيها بعد أن مارست عملي الوظيفي من البيت.

***

رواية جيب

د. قصي الشيخ عسكر

 

 

إلى صديقٍ، أيقظ الفرح الحزين

لم نلتق، وما زلنا، منذ أربعة عقود

قيس لطيف

***

وأنا أقرأ أو أكتبُ في خيالي البعيد

كنتُ أريد أن يقتربَ مني ذلك الزمن

أن أمسكَ اللحظات وهي تتهاوى أعالي الروح

أن أمسكَ بيد ذاكرتي لتتفتّق شقوقها، تشتعلُ فيها الدموع

تتفتّح أبوابها العصيّة على كل آه ذُرفتْ

أسقي بها ذلك الصدى، وتلك الحجارة الصماء

تبوحُ لي عمّا غاب واندثر

كأصوات الظلمة حين يتسربلُ في طياتها دعاء

تبحثُ عن فم المدينة الذي ابتلع مصائرنا

وشحّ في عروقها الياسمين

نامتِ المدينة، وبقي الصمت يطوّح هذي الأعمار

وكلما صنعَ لي الضوء نافذة،

تُقرّبُ المجازات والاستعارات ما يشاء الرب مني،

أستكين

رويدا رويدا..

قلتُ : إذ كان طيفكَ عليّ يمرُّ ويتّسع

يوقظُ صباح الغرفة،

يقلّبُ الجرح

يخشى المكان نفسه من أعجب الذكريات

لِما باب بيتنا القديم دافئا ما يزال!

لِما الحروب سيّجتْ كلامنا وجوعنا سنوات!

**

اقتربتْ شاشة العرض الآن

وانمحى عنها السراب..

حاولتُ أن أجدكَ في المشهدِ

أو أجد المشهد فيك

لكنّي متراكما ما زلت في حبال الوهم المتراصفة

هي تنفلتُ مني، بل انفلتُ أنا منها صوبكَ

لتصحو نار العناق المؤجلة لأربعة عقود

شققن الدروب والغناء والكتب والهجرة والعناد

فلا تبكِ يا صديق و يا حبيب

فقد نضجتْ قهوة الصباح

والشِعر دمدم، أينع بما نشتهي

أو قد نسكر به مرّة .

فأطلق عصفورك في فضائهِ..

آه ..... لا تؤاخذني بما نسيتُ

الفضاء ورقة !

***

زياد السامرائي

 

الفصل الرابع من رواية: غابات الإسمنت

حين عدتُ وجدت السجينات نائمات في أسرتهن، نور خافت؛ والوحيدة التي رفعت رأسها وهمهمت هي نائلة العاصي.

كانت صديقتي مديحة مسترخية على فراشها، لا يبدو أني أستطيع الكلام خلال هذه الأجواء، غير أنني لاحظت حركة نائلة العاصي، وشعرت بها تخطو وسط الممر، خمّنت أنها ذاهبة إلى الحمّام؛ لكنها اقتربتْ من سريري.. كدتُ أرى عينيها تنطبعان على وجهي، ومالت بفمها نحو أذني:

ـ هل جلبتِ سجائر؟

ـ آسفة لا أدخن.

ـ إذا طلبوك المرة القادمة، أرجوكِ اجلبي سجائر.

ـ لا بأس.. حسنا.

وعادتْ وهي تتمتم بكلمات لا أفهمها.

في اليوم التالي انفردتُ بصديقتي مديحة، وحكيت لها عما جرى مع السيدة النقيب مديرة السجن، فهزّت رأسها وقالت:

ـ إذا أردتِ حقـًا أن تقضي نصف المدة، فأطيعي.. لا حيلة لك سوى تنفيذ الأمر مهما كان، وستفهمين كلّ شيء فيما بعد.

ـ هل أكون جاسوسة؟

ـ أبدًا، لا.. هذا تفكير غير صائب.

ـ هل تخبرينني؟

ـ الأفضل أن تكتشفي بنفسك.

ـ هل مررتِ في نفس التجربة؟

ـ نعم وبشكل آخر.

وبعد فترة صمت:

ـ ما الذي تعرفينه عن نائلة العاصي؟

فابتسمت وخفضت صوتها:

ـ سألتكِ عن سجائر؟

ـ البارحة تسلّلتْ إلى سريري.

ـ هذه مدمنة.. المخدرات استهلكتها، يبدو أن لها قريبة أو صديقة تدعمها بالنقود كلما حلّ موعد الزيارة؛ لكنها انقطعت عن زيارتها لسبب ما؛ قد يكون افتضاح أمرها أو مرضا جعلها ترقد في الفراش، وقد بانت أعراض الهستيريا على نائلة، وأظن أن أمرًا ما سيحدث لها!

اجتاحتني لحظات استغراب:

ـ ومن يجلب لها المواد؟

فتلفّتتْ وهمست في أذني:

ـ أم خالد؛ الشرطيّة نجيّة عبد الرحمن، ألم تقابليها البارحة؟

ـ نعم؛ لكنني سمعتها تكيل المديح لمديرة السجن.. وجهها عبوس ولسانها حلو.

ـ منافقة.

ـ هل تعلم السيدة النقيب أنها تهرّب؟

ـ لا لا.. لا أظن.. محال.

ـ لكنها لم تلمّح لي ولو بإشارة.

ـ هي لا تغامر إلّا إذا بدأ الطّرف الآخر.

وما كدنا نكمل الحديث، حتى تعالت صيحة من وسط العنبر اهتزت لها الجدران، استغاثة أم هلع؟

رعب.

خوف.

تراكضنا إلى الداخل فوجدنا، نائلة العاصي مستلقية على الأرض منفرجة الساقين، وقد انحدر ثوبها أسفل ركبتيها، كانت هناك رغوة تتلاطم كالموج على شفتيها، ويداها قابضتان على السرير، كأنما تحاول أن تسحبه باتجاهها ليهوي عليها، راودني خوف وهلع، صرخت: إنها حالة صرع.. وصاح صوت مكلوم: اللهم أخزِ الشيطان، أما مديحة فقد نظرت إليّ بيأس كأنها تعترض على ظنّي البريء.

حزن.

ويأس.

قبضتُ على عضد صديقتي كأنني ألوذ بها.

أهرول إليها.

كنا جميعا مسمّرات حول نائلة، يئسنا تماما ولم نقدر أن نفعل شيئا، ما عدا سجينتين؛ واحدة هرعت الى الحمّام وملأت كوبا من الماء رشّته على وجه نائلة التي زاد صراخها، والأخرى راحت تدق باب العنبر بيديها تنادي على السجّانة.

كان كل شيء يشير إلى الريبة والفوضى.

مشهد جعلني أمام تجربة البكاء بذل حقيقي..

ذلّ الدنيا التي أجبرتنا على تحمّل العيش وكأننا فزاعات في حديقة رجال بلا ذمة ولا ضمير؛ رجال كالقمامة يتفاخرون بذكورتهم القذرة، وآخرون بلحاياهم وعمائمهم المزيفة، التي أتاحت لهم التلاعب بعقول الناس وإصدار فتاوى البؤس، بل تأويل آيات القرآن وتفسيرها حسب منافعهم وملذاتهم، رجال بسببهم أدمنت نائلة المخدرات، وكريمة ارتكبت جريمة قتل، وثالثة زورّت، ورابعة سرقت... وأنا بنت ليل وهوى.. أي قهر هذا؟

***

ذكرى لعيبي

 

الديدان

والجراد

صوب ارخبيل

الخراب

تعكرها شهوة العنادل

الى دالية الامان

ورفرفات عصافير

الحقول الخضراء

وقرب ينبوع

من الق الماء

والفضة البيضاء

تنصب الايايل

والغزلان العاشقة

فخاخها في

طريق

النمور

الفهود

والذئاب

اما انا فساقضي مسائي

مساء تيقنت به

بان العالم في

طريقه الى

الانكسار

مساء سابذر في

تربته بذور

الامل الناجز

بذور التعاطف

والسلام

بذور الحكمة

الخضراء

والامان .

***

سالم الياس مدالو

جرى لقائي الأول به في بيته القائم فوق الجبل تحت الاشجار، كنت يومها في زيارة لصديقي، أخيه الاصغر، وبما أن أخاه كان مسافرًا، كان لا بدّ لي من الجلوس إليه ومشاركته شرب فنجان القهوة العربية الاصيلة، كما تقتضي العادات والتقاليد. بسرعة كبيرة تمّ التعارف بيننا، في البداية جرى الحديث عن الربيع الاخضر، بعده انتقل بمبادرة منه، لا أعرف كيف.. للحديث عن الخريف، وعبثًا حاولت أن أحدّثه عن الربيع، فقد كان يمتلك قدرةً هائلةً على جرّي إلى ما يحب من حديث خريفي أصفر، وأعترف أنه جرّني إلى خريفه، فأقمت معه وإلى جانبه فيه طوال تلك القعدة، وقد كان بإمكاني أن أنصرف عنه بسهولة.. لما فاض به من أفكار سلبية من شأنها أن تدمّر جبلًا راسيًا.. وليس كاتبًا مبتدئًا مثلي فقط، غير أن حبّي لارتياد مجاهل النفس الانسانية دائمةَ الغموض شدّني إليه، وجذبني إلى أقراص ابتسامته الدافئة الحنونة. هكذا بإمكاني القول إن لقائي الاول به كان مصادفة، أمكنني الانصراف عنها ومغادرتها إلى لا رجعة، إلا أن لقائي الثاني به كان عمدًا وقصدًا وحبًّا في المغامرة، التي يحتاج إليها كلّ انسان مبدع وعاقل، فكيف أذا كان هذا الانسان كاتبًا في بداية طريقه.. من قرية مهجرة وتضيق بأحلامه ربوع بلاده؟

في الفترة التالية لعلاقتي به، لاحظت أنه مجبول من طينة غريبة، فيها كلّ ما تريده وترغب فيه النفس وعكسه، فهو طيّب وشرير في الآن وهو عازف عن النساء زاهد فيهن وفي الآن ذاته مقبل مجنون بهن!! أما بالنسبة لي فقد اكتشفت أنه عاشق متيّم بي وكاره رهيب لي في الآن ذاته، بل إنني كثيرًا ما ألقيت القبض عليه خلال محاولته سرقة بعض من أحلامي.. وأصدقائي المقرّبين، إلا أنني سامحته لإيقاني أنه إنسان غير مُضرّ، وأن كلّ ما يفعله ويقوم به إنما يُدخل نفسَه فيه دون إرادة منه، ورغبة في إثبات الذات في عالم.. أعرف أكثر من سواي أنه يسحق أكبر ذات إذا أمكنه، كما سحق العملاق جولييت الجبار نملة.. تائهة عاشت في جواره.

لم يكن صديقي هذا يُحبّ العمل، وكان من الصعب وأكاد أن أقول من المستحيل عليه، أن يتواجد في مكان واحد أكثر من ساعتين، بعدهما كان يبدأ في الغليان، إلى أن يخرج منه- من المكان- كما يخرج العريس من بيته، وقد وجد بما اتصف به من حيلة مُضمرة وخبث موارى، أن يعثر طوال الوقت على من يعيله ويقدّم إليه كلّ ما نَشدَه وطلبه على طبق من صبر وتضحية. وحدث بعد معرفتي به أن قمت بنشر عدد من القصص، فاتصلت بي إحدى القارئات واقترحت عليّ أن ازورها في قصرها الفاره، القائم في أعماق البلدة القديمة من مدينتي الاثرية التاريخية الحضارية الناصرة. خلال زيارتي لها، فهمت أنني مهجّر ومعتّر في الآن ذاته، ولا أجد المكان الملائم لمواصلة كتابة القصص الحبيبة.. العزيزة على قلبي وحياتي. عندها أرسلت نظرة واسعة نحوي، وارفقتها باقتراح نادر، أعتقد أن جبران خليل جبران هو الوحيد الذي حظي بمثله في أدبنا العربي من بطلته الاجنبية ماري هاسكل. اقترحت عليّ تلك الفاضلة أن أقيم في إحدى غرف قصرها وأن أتفرّغ لكتابة القصص، وهي ستتكفّل بمقامي ومعاشي.. فرحت بالاقتراح، وشرعت في الكتابة مثل مجنون عثر على عقله فجأة.. وعلى غير توقّع. أعترف هنا أن ما حظينا به، أنا وقصصي، من اهتمام لفت انظار القراء في بلادي وفي عالمي العربي أيضًا، إنما كان بفضل تلك الفاضلة أطال الله في عمرها وكثّر من أمثالها.

مثلما يحدث عادة في الحياة.. والقصص أيضًا، ما إن نبه اسمي حتى اتصل بي صديقي إياه، وتحدّث عما قمت بنشره من قصص في الفترة الاخيرة، والجِمال تشيل، وكان من الطبيعي والذوق السليم، أن أدعوه لزيارتي حيث أقضي جلّ وقتي. لم تمض سوى دقائق حتى شعرت بطرقة قوية على باب غرفتي، هرعت إلى الباب وفتحته برقة كاتب قصص.. كان هو يرسل ابتسامة نحوي، وإلى جانبه السيّدة صاحبة القصر.. أما هو فقد دخل غرفة الكتابة وأما هي فقد استأذنت لإعداد القهوة العربية الأصيلة.. احترامًا وتقديرًا لضيفنا العزيز.

بسرعة متوقّعة اتخذ مجلسه قُبالتي، وراح يرسل إليّ نظرات غامضة فسّرت نفسَها بنفسِها بعد وقت قصير من دخوله الغرفة. في البداية أجرى تحقيقًا موسّعًا معي عن العزّ الغامر المحيط بي، فأجبته بمحبة صديق، بعدها تحوّل إلى الحديث عمّا نشرته من قصص منذ أتيت إلى تلك الغرفة في ذلك القصر، ولا أعرف كيف زحف كعادته قالبًا لي ظهر المجن، وبدلًا من أن يواصل مديحه لما كتبته وأنتجته في أعماق القصر، راح يكيل لي النقد ويصف كتاباتي بأنها نمطية، وبأنني يجب أن أخرج إلى آفاق أرحب من العالم، لأكتب عن تجارب أوسع وأرحب. أعترف أن انتقاداته هذه لم تكن الاولى، فقد سبق وطرحها في لقاءات أخرى ماضية وسبق لي وأجبت عنها بأن الانسان الكاتب المبدع قد يرى الله في أصغر الامكنة وأضيقها!!

دخلت علينا، في تلك الاثناء، صاحبة القصر، وبيدها صينية وعليها غلاية قهوة وإلى جانبها ثلاثة كؤوس، وضعت الصينية على الطاولة أمامنا، ولا أعرف ما الذي دفعني لأن أطلعها على انتقادات صديقي لي..، ما إن سمعت صديقتي ما قلته لها، حتى اشرأبت برأسها، وتوجّهت إلى صديقي ذاك مثل لبؤة تعرّض شبلها لخطر مُحدق، ونفرت به قائلة ما مفاده إن هذا الرجل، وأشارت إلى، يخصّني، ومضيفة انني سأقوم بسحق كل من يتعرّض له أو يُعرّض بكتابته، وأنهت قولها الغاضب بقولها: يكفي انني أنا أعرف قيمة ما يكتبه كاتبنا النصراوي المبدع.

ما إن نطقت بقولها الاخير هذا، حتى رأيت صديقي يستأذن في الخروج، ويولّي مثل طائر رُخٍ أتعبه السفر من الف ليلة وليلة إلى أعماق الناصرة، كان يبدو حزينًا.. في ذروة الحزن، وعبثًا حاولت أن أفسر حزنه، هل دفعه إليه مقارنته بين وضعه، وبين ما صارت إليه أموري من انتعاش، هل شعر أنه أهين أمامي، وأنني لم أدافع عنه كعادتي، هل وضعته تلك المرأة صاحبة القصر، أمام فشله المزمن وجهًا لوجه، فلم يطق نفسه وهرب منها ومني.. من القصر.. ومن.. وقبل أن أنطق كلمة: الناصرة، انتابني شعور أنه قد يخرج فعلًا من الناصرة وأن تلك ستكون المرة الاخيرة لرؤيتي إياه، عندها جنّ جنوني وطرت وراءه مثل طائر رخ آخر. أرسلت نظرة متفحّصة متمنّية أن تجري أموره بسلام، وبعيدًا عن كلّ توقّع قريبًا منه، رأيته هناك يجلس تحت إحدى الاشجار العارية، ويضع رأسه بين يديه. كان أشبه ما يكون بكومة من الحزن طلعت من أعماق الارض لتتخذ مكانها تحت تلك الشجرة. تقدّمت منه بخطى حافلة بالمحبة والتسامح، وضعت يدي على كتفه بشعور مبلّل بأحاسيس الفقد والخسارة المتوقّعة، وقلت له إنني لا أريد شيئًا منه وإنه إذا كان يسره أن أترك غرفتي في ذلك القصر وأنطلق معه في طريق العودة إلى الشارع فإنني سأفعل. عندها رفع رأسه وأرسل نظرةً مرفقةً بدمعة مَن فشل في كل شيء، وربّت على كتفي قائلًا عُد إلى غرفتك.. عُد إلى هناك.. فهناك مكانك الصحيح. في تلك الغرفة وبين جدران قصصها.. ومضى في طريقه محنيّ الظهر.. وكأنما هو يحمل جبالًا من الأسف.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

 

لم تكن تدرك يوما ما أن الشجرة الكبيرة التي احتضنت لقاءهما تحت ظلها الظليل وترنحت بحفيف أوراقها اليانعة لهمسهما الجميل.ستبقى شاهدا على حبها الموؤد في لحظة من لحظات الخيبة لأمل راودها في الواقع والخيال أياما وشهورا إلى أن استفاقت على وقع الصدمة.. على أن من كانت تظنه فارس أحلامها قد سافر دون علمها إلى عالم غير عالمها وقارة غير قارتها وموطنا غير موطنها وموطن الشجرة التي كانت تجمعهما ذات لقاء.

لقد أدركت بعد هذه الصدمة حجم الخيبة كما أدركت أن البكاء على الأطلال لايجدي نفعا وأن الحياة لابد وأن تستمر وأن الإستسلام ضعف وهوان.. لملمت أحزانها وضمدت جراحها بما أفرغته على نفسها من صبروجلد. ورغم ذلك كانت الذكرى تؤلمها كثيرا إلا انها كانت متشبثة بأمل قد يزهر أيامها وسنواتها القادمة.

لقد أرهقتها الأيام بصنيعها ولم تكن تضع في حسبانها أن فارس أحلامها غير الذي كانت تحلم به سوف يزهر حياتها بلقاء جميل سيدون على دفاتر العمر. لقد قررت أن تعيش حياتها من غير بأس وكدر وأن تؤمن بالقضاء والقدر. وكعادتها كأنت تذهب إلى عملها كل يوم الذي جعلته ملاذها الأوحد في الحياة.. وبينما هي جالسة في مقعد من مقاعد الحافلة أثناء توجهها إلى عملها تلتقي صدفة بفارس أحلامها الذي جلس إلى جانبها.. وبعد أن حياها وبادرها الحديث وتشعبا معا في حديثهما إلى تفاصيل كثيرة من حياتهما.. وتسرب لكل منهما شعوررهيب بلآخر.وأثناء نزولهما في إحدى المحطات وقبل أن يتوجه كل واحد إلى وجهته طلب منها أن يكون بينهما لقاءآخر فوافقت على ذلك وقدمت له رقم هاتفها حتى يتسنى له مكالمتها لتحديد موعد اللقاء. وبعد أيام قليلة وانتظارلسماع المكالمة.. يرن هاتفها فتكلمه ويكلمها وعلى وقع همسهما الجميل اتفقا على تحديد موعد اللقاء الذي اختاره هو بأن يكون تحت الشجرة الكبيرة التي جمعتها دون علمه مع من فارقها إلى الأبد. فتتعجب من صدفة تحديد هذا اللقاء وفي صبيحة الغد تخرج كما خرجت من قبل لتصل إلى تلك الشجرة فترتسم نصب أعينها ذكريات الماضي بكل صغيرة وكبيرة. وقبل وصول فارس أحلامها بدقائق معدودات. ترفع رأسها إلى أعلى وتخاطب الشجرة بلغة المتفائلة: اليوم لقاؤنا هاهنا وسأبايعه على المحبة والوفاء وسأسميك شجرة البيعة وبينما هي على هذه الحال يربث على كتفها.. يحيها.تبادله التحية بوجه بشوش وابتسامة عريضة ويسترسلان في الحديث ودفء الهمس الذي يقودهما في النهاية إلى تحديد موعدا متجددا للقاء آخر.

هكذا كان يجتمعان ويفترقان. وكم كانت دهشتها كبيرة عندما كان يقول لها:

سأبايعك على الحب والوفاء تحت هذه الشجرة التي شهدت لقاءنا.وما هي إلا أشهر قليلة بلقاءات مثمرة بالحب والوفاء اتفقا على أن يكون بينهما ميثاقا غليضا. فتقدم لخطبتها من أهلها. وبعد فترة الخطوبة. جاء يوم الزفاف والفرح المنتظر لتنقل إلى البيت الزوجية في موكب بهيج وطقوس فرح مبهرة. وأثناء مرور الموكب بالشجرة في وسط المدينة. يأمر العريس صاحب السيارة التي كانت تقيلهما وتتصدر الموكب بالوقوف.فيتوقف الجميع وينزلان يدا بيد متجهان نحو الشجرة على أنغام الفرح ليلتقطا من الفرح صورا تذكارية حينها تخبره أنها قد سمت الشجرة بشجرة البيعة. فيردّ قائلا : لقد صدقت ياحبيبتي فهنا كان لقاؤنا وهنا كانت بيعتنا على الحب والوفاء. وهكذا يعودان إلى سيارتهما ويواصلان السير في موكبهما الجميل نحو حياة زوجية صنعها حبّ رائع ونقي تحت شجرة سماها شجرة البيعة.

***

تواتيت نصرالدين

........................

ملاحظة: القصة مستوحاة من قصة (يوم من حياتي) للأستاذة والأديبة المحترمة سليمة أحمد

كانت ليلة دافئة واستقبال كبير بعد فراق طويل مع اهله، لفه الحب والشوق وشعور بالراحة والحب وسط قبلات جدته التي ضمته الى صدرها وراحت ترقيه بالآيات القرآنية، والادعية وسحب البخور التي طافت فوق رأسه وعفرت ثيابه الانيقة التي كان يرتديها والمؤطرة بإحدى الماركات العالمية، اما والدته فقد طوقته بذراعيها وامطرته بالقبلات الممزوجة بالدمع بالكاد أفلت يدها، وراح يقبلها وهو يقسم بشعرها الاشيب انه لن يتركها ابدا.

اختلف مظهره كثيرا عما كان عليه قبل ان يغادر بلده فقد أصبح ذا جسد ضخم وعضلات مفتولة تلفت نظر المارة، خصوصا الفتيات المراهقات من اقاربه اللواتي اقبلن بلهفة لرؤيته في منزله..

كان يشعر بشوق كبير لمدينته ورغبة للتجول بين شوارعها التي مازال يذكر كل تفاصيلها، وان يتفقد اصدقاء الطفولة وسياج مدرسته الذي ملء بصور الذكريات، الا ان أكثر ما كان يشده ويثير لهفته هو رؤيته للطائر الذي حدثه والده عنه. كان يود ان يرى ذلك العائد من كبد السماء والذي حط برحاله في المدينة قبل أن يصلها.

في اليوم التالي وبعد أن أخذ قسطا من الراحة من عناء السفر، قرر الخروج مع والده، حاملا كاميرته، قاصدا الاماكن التي شده لرؤيتها حديث والده. كانت الزحام يسود المكان الذي اكتظ بالمارة، واصوات الحمالين الفتية بمظهرهم وانحناءة ظهورهم المتعبة والمائلة الى الامام وهم يتقاطعون في سيرهم بخطوات متعرجة بين المارة والسيارات.

راح يتأمل الأبنية وهو يرى الصروح القديمة من بعيد. ثم صوب عدسة كاميرته حول المكان، الذي كان يحمل طابعا تراثيا جميلا. فكان أول ما وقعت عينه عليه، جامعا كبيرا زين سياجه بزخارف قديمة بالغة الروعة، ويعلو مأذنته هلال من النحاس قد اكتسب اللون الاخضر الفاتح، اما الجانب المقابل له فقد كانت هناك كنيسة قديمة كبيرة جدا، بنيت فوقها قبة نصف دائرية يعلوها صليب وبالقرب منه جرس كبير وضع داخل بناء مربع الشكل من الطابوق. اطال النظر ثم سأل والده والابتسامة تعلو وجهه: أليست هذه هي الكنيسة يا أبتي؟

- نعم هي بعينها.

- واين اللقلق؟ لم أره!!.

صمت الأب برهة.. ثم أجابه متلعثما: أنظر هناك، لذلك السوق الكبير الذي امامنا يسمى (سوق الغزل) لعلك تتذكره حينما كنت صغيرا اصطحبك معي. مازالت تعرض وتباع فيه كل انواع الطيور وحتى الجارحة منها والكلاب والغزلان والحيوانات الغريبة. بإمكانك أن تلتقط الصور التي تعجبك وتشتري لو أحببت الطائر الذي تريد.

صمت برهة ثم أعاد عليه السؤال.. أبي سألتك عن طائر القلق أين هو؟

أنا حتى لم أر عشا فوق الكنيسة كما حدثتني.

ظل الاب صامتا، مدهوشاً... لولا صوت رجل كبير كان ينصت لحديثهما، بدا وكأنه من قدامى سكنة هذه المناطق: اتسألان عن طائر اللقلق؟.

لقد طار بعيدا ولم يعد، بعد أن غادر القس الكنيسة التي كان يخدم بها الى خارج البلد ولم نعد نراه، ربما غير اتجاه هجرته أو استقر بمكان آخر، من يدري!!. الطيور عندنا تعيش وتتكاثر في اقفاص وليست حرة كما تظن. والنادرة منها والمهاجرة غالبا ما تحنط وتعرض هناك، بإمكانك ان تشتري واحدا من السوق الكبير الذي امامك فهو مخصص لبيع جميع انواع الطيور والحيوانات الأخرى، ثم نهض وسار مبتعدا بخطوات متثاقلة.

من يكثر من السؤال تتعمق هاويته. التفت الى ابيه، وخيم عليهما الصمت ثم غادرا المكان دون جدوى.

***

نضال البدري - بغداد / العراق

 

مذ فتحت عائشة عينيها على الحياة وهي لا تعرف غير وجه أمها، وحدها من تملأ سمعها وبصرها، وتجاويف صدرها، تخرج الأم كل صباح، بعد ان تملأ بطن الصغيرة بما توفر لها من أكل مما جلبته معها وهي عائدة مساء، ثم تتركها في غرفة صغيرة ليس فيها غيرحصير مغلف ببطانية صوفية باهتة، وبعض اللعب اللدائنية الرخيصة؛ لا تقلق الصغيرة الا من اقماطها حين تتبلل، وتمتليء بما تتغوطه طيلة يومها، فتشرع في البكاء الى أن ينكتم لها صوت بنومة على الحصير..

لم تكن أم عائشة غير شغالة في البيوت، يوم هنا ويوم هناك، تقفل باب الغرفة على الصغيرة بالمفتاح حيث تقضي عائشة يومها فوق الحصيرة، عليها تلعب، وعليها تنام، الى أن تعود الأم مساء، فتنظف حالها، ثم تقسم ما جلبت قسمين، بعضه تسد به عشاء عائشة، وبعضه يظل زادا ليوم غد..

صور بين الضبابية والوضوح في مخيلة عائشة عن ابيها، كورقات تتموّج في ذهنها، ما أن تتبدى حتى تغيب ثم تعاود الظهور كشمس الخريف قبل أن تستقر بأثر، ثم تترسخ في ذهنها عبر لحظات كانت تصحو فيها من نومها على صوته يشتم ويلعن، وقدمه تركل أمها الضعيفة وقد تكومت مستسلمة في احدى زوايا الغرفة تتقي بدراعيها رفس قدميه وضربات يديه، وشتائم من قاموس لسان بديء قذر، ذاك ما كان يحدث اذا عاد ليلا والسكر يطويه، او قبل ان يغادر البيت صباحا، لا يستطيع فتح عينيه قبل أن يدخن حشيشه.. فقدغبشت صورة الأب في عقل عائشة وظل عنفه إشارات دماغية قوية تصدر رنينها كلما رأت احدى صور العنف ولو على حيوان ..

كانت عائشة لا تعرف لماذا يسلط أبوها كل هذا القهرعلى أمها، فعمرها لم يكن ليسمح لها ان تعي الكثير، ثم لم يلبث ان غاب الأب عن البيت نهائيا بعد خصام شديد حضره بعض الجيران وأطلقت أمها زغرودة لم تغادر سمع عائشة أبدا...

قبل المدرسة لم تدخل عائشة روضا ولا كتابا، لكن في المدرسة تعرفت على أطفال الحي وكونت مع بعضهم دائرة اجتماعية ضيقة وحذرة، خففت عنها وحدتها، فشرعت كدودة تخرج من شرنقتها، تسمع، وتشارك، وتتبادل الحديث باختصار شديد، فهي لا تستطيع التحليق في أفق ابعد من قدراتها، وهي أصلا لا تفهم للتحليق معنى أو تملك له وسيلة، فالخوف والحذر ما يلازمها، الحرمان والاحساس بالنقص هو قشرة حزنها، خصوصا حين تسمع الأطفال يتحدثون عن آبائهم، وعن حب هؤلاء الآباء لهم، عن الهدايا التي يجلبونها لهم.. كان صدرها يضيق أسى كلما وجدت نفسها بينهم لاترتدي الا ما تأتي به أمها من بقايا ملابس أوسع أو اضيق من مقاسها حسب ما يجود به أهل الاحسان ممن تشتغل عندهم أمها ..

كان الألم يعصرها كلما خرجت من المدرسة ووجدت آباء وأمهات في انتظار أبنائهم، فتسير وحيدة دامعة العينين او متمتمة مع نفسها: أين غاب أبي؟اين أهل أمي؟ لماذا لايزورنا أحد؟

كانت الام تدرك لوعة عائشة وتحاول كلما وجدت فرصة أن تخرج بها الى حديقة عمومية، فتشتري لها مما توفره حلوى رخيصة، وأحيانا تزويقة شعبية، ان تتظاهر أمامها بالشجاعة والايجابية، فهي تدرك ان البنت في حاجة ماسة الى ذلك للتخفيف من وحدتها وغياب الأب من حياتها ..

لم تكن عائشة تلميذة متقدمة في دراستها فهي بالكاد تحصل على معدلات تمكنها من النجاح، حتى الام لم يكن باستطاعتها ان تساعدها، فهي نفسها لم تتجاوز الصف الثالث ابتدائي من تعليمها كررته مرتين بعد أن دخلت المدرسة وهي كبيرة السن، ثم أوقفها ابوها عن الدراسة بعد موت أمها، وحين أراد الزواج فضل ان يتخلص منها صغيرة بزواج حتى لا تضايقه في كوخ صغير ودخل هزيل..

كان زوج أم عائشة في عمر والدها، تزوج قبلها بثلاث نسوة لم ينجبن له، فكان لا يمكث مع زوجة سنتين او ثلاث حتى يطلقها، كان من النوع المزاجي المتقلب، فسَّخ الخمر دواخله، وخرب الحشيش عقله وقوته الذكورية ..

لم تنجب ام عائشة الا بعد ثلاث سنوات من زواجها بعد توليفة نباتية هدية من عمتها العجوز، طفقت أم عائشة تضيفها للطبيخ اليومي بالتقسيط، وما يمكن تمريره الى الزوج من خلال ما يشرب من شاي وقهوة وغيرهما، وقد كانت فرحة الزوج بعائشة كبيرة رغم أنه لم يكن بالزوج العطوف الحنون كما كانت تمني نفسها، وكما أوهمها أبوها حتى يتخلص منها، ولكنها تحملت تسلطه وخشونته غصات تتشربها حتى تعيش في ظله بعيدة عن قصر ذات يد ابيها، لكن سرعان ما تغيرالزوج وصار أكثر شراسة مُذ زارها ابوها ومعه أخو زوجته، فقد داخل الزوج الشك في ام عائشة وفي عائشة نفسها، وهل هي حقا من صلبه، فطلاقه لثلاث نسوة قبلها لم ينجبن، جعله يشك في رجل لم تعرفه ام عائشة من قبل سوى ان اباها صادفه وهو في الطريق لزيارتها فدخل معه البيت ..

رفضت ام عائشة أن تدخل مع الزوج أروقة المحاكم من أجل العدة والنفقة، فالقرف الذي غطى على نفسها جعلها تمقت رجلا لا يتقن غير الضرب والشتم، ثم انها صارت تخاف منه على البنت، فرجل ينكر بنوته ويغيبه السكر والحشيش لا تدري ماقد يوسوس به شيطانه على اقترافه ؛ وهي قادرة ان تعري على ذراعيها وتنفق على بنتها، وطلاقها منه كاف لان يمنحها حريتها وراحة نفسية لم تتذوقها مذ تزوجته، وقد تدخل الجيران وطردوا الزوج العربيد من البيت بعد شكايات متعددة استجابت لها السلطات ..سكنت أم عائشة البيت بدل طليقها حفاظا على بنتها مقابل أن تؤدي كراءه الشهري ..

كانت عائشة تنمو وقد طبعها الصمت، لا تتكلم الا لضرورة، بلغت المرحلة الثانوية من دراستها وهي لا تبالغ في علاقات صداقة مع تلاميذ الثانوية التي تدرس فيها، ورغم ذلك كانت لاتفارق وجهها بسمة اصبغ الحزن عليها مزيدا من الملاحة والقبول، لون قمحي زادته ملامحها الطفولية جاذبية هي ما كان يثير الشباب اليها، وخدان قلما يغيب عنهما لون الرمان الأحمر، عينان واسعتان بلون بني غامق، وشعر اسود يرتاح على كتفيها في رقة وانسياب، أضاف لأنوثتها وحزنها حشمة مما يوحي للرائي انها أنثى غامضة، رغم ملاحتها المبهرة و المثيرة ؛ كانت اقل لمسة عفوية من صديق قد تحسسها ببرودة تسري في ذاتها فيهتز جسدها ويضطرب، او بحرارة ترتسم حمرة ..على وجنتيها فتكسبها جمالا..

حين عادت هذا المساء من الثانوية فاجأها أن تجد أمها مع أستاذ الاجتماعيات بباب المنزل، كانت الأم قد عادت من عملها فوجدت الأستاذ في الانتظار!!..

ركب الخجل عائشة كعادتها وقد احمرت وجنتاها والأستاذ يمد يده للسلام عليها، بسرعة سحبت يدها من يده بعد أن حاول الضغط عليها .. تذكرت انه كان يتابعها بعيونه اثناء حصصه الدراسية، وانه تجاوز عن سؤال لم تجب عليه في مراقبة اول أمس ومنحها نقطة عالية ..

أبعدت عن عقلها فكرة خطرت ببالها:لا يمكن!! .. رجل تجاوز الأربعين يأتي لطلب يد تلميذة يتيمة، فقيرة في السابعة عشرة من عمرها، ولماذا هي بالذات ومعها من التلميذات من هن اغنى وأجمل، ولهن عائلة ونسب يسيل له اللعاب؟وكثيرا ما توددن اليه بإغراء كان يستحليه خصوصا اذا كان بعيدا عن رقابة الذكور من التلاميذ ..

انسحبت عائشة، وولجت الباب تاركة أمها مع الأستاذ ..

حين دخلت الام بادرت اليها عائشة تسألها عن سبب الزيارة

ضحكت الام وعانقت عائشة وهي تردد:

ـ الله يحبك ياحبيبتي!! فقد ساق اليك رجلا بوظيفة، غني، يعشقك، ويريد ان يتزوجك، هو أرمل، وأكبرمن سنك، لكن الرجل لا يعاب..!!

حركت الام رأسها دورتين وقد أغمضت عينيها كمجذوب في لحظة انتشاء وسط دائرة الجذبة ثم تابعت بنغمة خاصة:

"أقرع وبفلوسو ارى ذاك الرأس نبوسو"!!..

تنثرت عائشة من أمها ودعَّتها بقوة عدوانية فاجأت الأم التي كادت ان تسقط على قفاها، وقد ركب عائشة غضب حانق:

ـ ماذا؟يخطبني!! .. لنفسه أم لأحد ابنائه الكبار!! .. أدركت الآن لماذا منحني نقطة عالية لا استحقها، من يفعل هذا لايمكن ان يثاق، وهل ترضين لبنتك أن تقبل بشيخ على وشك الهرم، وان تتحمل وهي صغيرة تربية أطفال ربما في عمرها وأكبر؟هو لايريد زوجة، هو يريد خادمة صغيرة تقوم بأعباء بيته، تكمل تربية الصغار من أبنائه، و يستعيد بها شبابه، ثم يفرض عليها سطوته بالليل، وإذا لم تلاعبه كما يريد تحول الى جلاد ..هي سطوة لن يستطيعها مع من يلتففن حوله باغراء، آباؤهن يحتلون مراكز ادارية اواقتصادية كبيرة، فما معنى انا؟ أم "ظهر الحمار القصير"، ورقة مقطوعة من شجرة؟؟!! ..

انخرست الام، جحظت عيناها، هل من تتكلم هي عائشة التي تخجل من ظلها؟ عائشة الصامتة التي لا تحرك ساكنا في البيت، ويشكو اصدقاؤها عزلتها التي تفرضهاعلى نفسها؟ "ما اغرب ما اسمع وكان عائشة أمرأة خبرت الحياة والرجال"!!

بصعوبة قالت الام وكانها تقتلع الكلمات طعما من سنارة عالقة بلسانها:

مابك عائشة؟أهذه انت؟ام مارد يتكلم على لسانك؟

ترد عائشة بتحد فسرته الام وقاحة من بنتها:

ـ ذي انا يا أمي العزيزة، اذا اتعبك العمل فارتاحي وانا أخرج بدلك، لا اريد تعلما اصير فيه بضاعة للمقايضة، يساومني من هو مؤتمن على تربيتي وتنشئتي وتوجيهي، أبدا لن أتزوج رجلا أراد ان يستغل موقعه ويجدد شبابه على حسابي، كما استغل فقري وظروف امي ..

أدركت الام ان عائشة لم تكن البنت التي توهمت صمتها حشمة وحزنا، بل كانت خزانا صامتا مشحونا بالبارود، وها هو قد وجد ثقبا صغيرا منه قد انفلت كعفريت من قمقم .. سألتها ما بك؟ اقنعيني وسيكون ردي عليه غدا بالرفض..

ضحكت عائشة في حنق وقد كادت أن ترتمي على سرير نومها ثم تراجعت، حولت وجهها الى أمها وقالت:

هنيئا لي بك!!..هل هذه سلبية منك ام تخلصا مني؟، تماه منك أم طمع!!.. معناه انك وافقت واعطيت وعدا برد..

ضربت يدا بأخرى ثم تابعت:

معناه مسحتني من الحياة، صحيح محجورة تتكلمين بلسانها، هل تريدين ان اقنعك؟

اسالي جسدك عن اثر الركل واللكمات، اسالي ذاكرتك وما اختزنت من كلمات العهارة حتى صرت انا نفسي بعد ان وعيت اكاد اثق ان ليس لي أب حقيقي، أسمعيني زغرودتك التي انطلقت منك بعد خروج أبي بلا عودة، هل تريدين ان تعيدي حياتك في بنتك؟ هل تعرفين لماذا لا احصل على الرتب الأولى كما يصلها غيري؟ هو أني اتحول كل ليلة قطعة من ليل طويل، أنا والليل تغسلنا دموع اليتامى ومن قهرهم الزمان، واستأسد عليهم الرجال بلا حظ، حتى نصبح وطريقنا سالكة لغيرنا بلا اسى على جدران المباني ..

بدات ام عائشة تستعيد احداثا توهمت انها صارت في لفائف النسيان،، لكن هاهي تستعيدها ألما على كل عضو من ذاتها، قلبها يصعد حتى حلقها، تضع اصبعي يديها في مسامعها عساها تمنع تلك الكلمات النابية القذرة التي كان يتجنى عليها بها أبو عائشة، ظلما وكذبا، لكن ما فاجأها هو عقل الصغيرة كقناص ماهر بوعي لما كان يتردد ويقال، فكيف استطاعت أن تختزن كل ذلك العنف في ذاكرتها الصغيرة؟..صمت عائشة إذن لم يكن الا أحداثا تلعب على مسرح دواخلها، تستعيدها بعيدة عن كل رقابة خارجية، آلة صامتة تعيد طحن ماضي أسرة غاب فيها رجل بعد ان بصم حياتها بكل قسوة وجبروت واهمال ..

بادرت الى عائشة ضمتها الى صدرها وقد تركت دموعها تعبر عن اسفها والخطأ الذي ارتكبته في حق بنت ما عادت طفلة صغيرة بل هي اوعى وانضج مما كانت تتوهم، شتان بين من عضته الحياة، دخل المدارس، تعلم وقرأ الكتب فسبح وغاص واستوعب، ومن لسعته الحياة بأنيابها بلا علم فنهشت حقيقته وحياته ثم رمته على الهامش يعيش على الفتات

بعد يومين طرقت عائشة باب الإدارة بعد أن عدلت من هندامها وهي تهتز، فهي تخشى هيبة المدير رغم البشاشة التي تتربع على وجهه حين يكون واقفا بالساحة او متحدثا مع بعض الأساتذة، ثم دخلت بعد أن أتاها من الداخل اذن يسمح لها بالدخول .

كان المدير يراجع أوراقا بين يديه، رفع بصره اليها بعد أن خلع نظارتيه ثم قال نعم، ماذا تريد زائرتنا اللطيفة؟

أحست أن قلبها سيخترق صدرها، وان خداها صارا كتلة نارية من خجل، تنفست بعمق وهي تفكر .. كيف ابدأ؟

لا حظ المدير اضطرابها، ووجهها تتناوب عليه الصفرة والحمرة، وقف من مكانه وخرج اليها يدعوها للجلوس على كرسي وراء مكتبه ..قال:

مابك لا تخجلي، أنا كأبيك، تكلمي، هل انت في حاجة الى شيء؟

كلماته قذفت في نفسها نوعا من الهدوء والسكينة، فتحت فمها وقالت:

ـ سيدي!! .. عندي مشكلة، اريد مساعدتكم على حلها، على شرط أن تظل هنا، لايعلمها الا الله ..

تعبير سليم من تلميذة مؤدبة، رجع الى اريكته ثم قال:

خير ان شاء الله، أسمعك قولي:

قالت وهي تضطرب:

الأمر الأول سأحكي لكم عما وقع، والثاني أتمنى ان تستدعوا صاحب الامر ونعالج المشكلة هنا جميعا بهدوء وصفاء نفس، بلاحقد ولا شوشرة، أكره أن يتفزفز الشخص المقصود بين ألسنة الأساتذة والطلبة ..

وجد المدير نفسه امام بنت عاقلة تتكلم برزانة وثبات رغم الخجل الذي يلفها، لكن امام طلبها لم يكن يتصور ان المشكلة تتعلق بأستاذ بل قد يكون طالبا أو حارسا حاول المزاح معها بما لا تريد، فقال:تفضلي..

لملمت عائشة كل شجاعتها، بلعت ريقها ثم قالت:

ـ احد الأساتذة أتى الى بيتنا لخطبتي، وقد استغربت ان يكون الحريص على مستقبلي هو من يطلب يدي رغم كبر سنه

وأولاده الذين قد يكونون في مثل عمري أو أكبر، ربما استغل فقري، ربما توهم اني لن اعارض وانا أسهل من غيري، فأوافق على ان اصير خادمة وزوجة ومربية لأبنائه، انا حقا لست بالطالبة الذكية التي قد تأتي منها المعجزات، ولكني اثابر واعمل حسب قدراتي وما يسمح به فقري وظروفي المنزلية، انا سيدي أكره أن أصير كما صارت امي وقد زوجها جدي لرجل أكبر منها فعانت قبل ان يطلقها وظلت تدعو على جدي حتى مات ..

انخرس المدير لما كان يسمع، شرع يقارن بين وعي ووعي، وعي أراد ان يمارس سطوة خيالية، مشوشة وغير واقعية، ووعي تألق داخليا عقلا ونفسا، استجمع جرأة بواقعية وصراحة ودخل الكلام من وضوحه، وجد المدير نفسه بين أستاذ غافل، حالم، يحاول فرض واقعه على غيره بالتباس او غرور، وبين طالبة بارعة تصرفت بأبدع ما يقتضيه موقف وهي قادرة أن تتسلل الى قلوب الناس والأحداث برشاقة ..

"هؤلاء من يحتلون المناصب والمواقع وكأنهم ما خلقوا الا لذلك " .. ردد المدير بخبرته مع نفسه ثم تنبه وقد غيبته أفكاره عن الجالسة أمامه وقال:

ـ اعتذر ابنتي من هو هذا العاشق العبقري الخاطب؟

ــ السيد حمدون، أستاذ الاجتماعيات!!...........

لم يتفاجأ المدير لما سمع الاسم، فمن طبع الاستهتار على نفسه لن تغيره قوة ولا تجربة لان "النفس حين تفقد جمالها الابدي لاتحافظ الا على انانيتها العرضية " ..

مرة أخرى يقوم من مكانه ويقول للتلميذة التي اعجب بها ايما اعجاب:

ـ هل تسمحين باقتراح ولك حق الرفض أوالقبول؟..

تبسمت في وجهه وقالت: نعم سيدي اسمعك .

ـ مارأيك تتركين لي الامر وساحل المشكلة بلاحضورك ولا يعلم استاذنا بمجيئك أصلا الي ..؟؟

فكرت قليلا وقالت: حسنا لكم ماتريدون، انا فقط لا اريد ان تتشوه له سمعة بين الأساتذة والطلبة ..

قال المدير وهو اشد اعجابا بها:

وانا من رايك، فشكرا بنيتي ومكتبي مفتوح في وجه تلميذة ذكية مثلك ..

خرجت عائشة وكانها ازاحت عنها جبلا ثقيلا، تشعر بخفة جسمها وبشائر السلوى و النور من حولها ..

***

محمد الدرقاوي

 

عُودي لماضينا العتيقِ وجُودي

بالفُلِّ.. والريحانِ.. والمَوْعـــُود ِ

*

ماكان ذِكْرُك ِفي الحياة ِبِوَارد ٍ

لو لم تكوني في نطاق ِحُدودي

*

فأنا الذي أسماك ِحُبّاً خالداً

وأقامَ عَرْشُك ِفاستوى بوجُودي

*

وأحاطَهُ مِن كل نافِثَة ٍغَوَتْ

أو لامَّة ٍ.. بنَبَاهَة ٍ .. وجُنُود ِ

*

فإنْ اهْتَدَيْت ِ فعانِقِيها دَيَانتي

وإنْ أبَيْت ِ عليك ِ إثْمَ يَهُود ِ !

*

هذا صِراطي واضِحاً لا غَرْوَ فيه ِ

لاعاشَ مَنْ خانَ الهوى وعُهُود ِ

*

فَلْتَحْفَظِيها كي تظلِّي حَظِيتي

ولِعَهْد ِماضينا العتيق ِ فعودي

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

 

 

تفتحين عناوين البحر من نافذة تبلسم ارتواء اليقين وهمسات الغروب

ترنو إلى عمقها عيني تحلق وبنفسجات السفح وشهقات خرير السماء في نغمات الظلوم

تقتادني بسماتها في افقها الممتد لأرتوي من صدرها عذوبة اللحن البنفسجي

تتداخل لحظات الأصيل في ذاكرة الرعشة وارتشاف وخزات العليق البري

جديلتها سلم تصعد فيه الروح ترتسمها صفحات الشتات والجمال يعانق الخيال

بيمناها تتسع دائرة الأفق الممتد بين الحنايا نجما وحيدا يدندن لحن ما تبقى من غرام

روحها الزرقاء مشرعة في دهاليز نجمة الليل ونافذة الوداعة في ضفيرة العناب

تتغامز عيون النحل تجلب العسل من رضابها تصفر الغمازات تحتشد حالات الرذاذ

يعبرني الوجل في انهمار فتاة تساقط البرد فتتكون من بقايا حلمي غصات العناق

بحرها اللجي يظلل احلامنا في المنافي لينساب الوجد في هذيان الياسمين

هي المنافي تضيق وتمطرنا عيون الحواف تعبرنا لسعات الليمون في غزل النشميات

هذه نوارس الشاطيء الممتد من وجد النساء الممهورات حتى تلظي قطيع الظباء

مرج الأحداق يلملم وجدها الزاهي في حدقات الليل وهدوء ضجيج المسافرين في الغياب

قصيدتي لعبة يشكلها طفلي في رعشة البرعم الغض ودلال همس الفراشات هيام

تقيم الروح في سهواتها وقميص الحداثة في شرنقات الخطاب ولذعة زهرة الجلنار في خطاي

تهمس شرفات نصها المرمري يلازمني الحنين في وشوشات قبرة وقبلات الرذاذ

يا زمن الغياب في الرحيل تنثر صورتين في شعراء الصيف ورعشات الخريف في الذكريات

تتساقط البسمات من رعشات ورق الدمع على عتبة سيدة تتصابى في ممرات رقصات الوفاق

زهوها المضبب يشعل لوعة المصابيح في مفازات حلم الينابيع وحلم لوركا في الكتاب

تتوشح من صرخات الوجوم محبرة في حدود خارطة نزيز المطر في خاصرة السؤال

تبقى لسعات الحنين تدور في خلدي ثغرها يتفتح منه الزهر ويذوب في شفتي هدب الغلال

من بسمتها تورق حواف القمر ويورق صمت المدينة حين ابتلاع أضواء الغناء

هي الغيوم البعيدة تأتي محمرة الوجنات تلامس أهداب العين لينهمر العشق والتحنان.

***

نادي ساري الديك - رام الله

إليها وهي تحاورني في اختناق الممرات ونوارس ترشد السابلة على عتبات الابواب .

 

هو أبٌ حنونٌ لقصائِدِهِ

ربّاهُنّ على الطاعة

واحترامِ المَمَاحي والأحبار

ولأنهنّ يتيماتُ الأم

فقد تولى رِضاعتُهُنّ من أنامِلِهِ

فتعلّمنَ بأنّ للآباء عشرةَ ثدِيّ في كلتا اليدين

وعلى صِغرٍ

ألبسَهُنّ الحجابَ المقاومَ للرطوبة والصدأ

فاختلفَ فيهنّ النقّاد

منهم من ظنّهُنّ يُعانينَ من ضمور الرأس

ومنهم من ظنّ لرؤوسهنّ براعم وأغصان

لكنهم لم يختلفوا على أن قصائِدَهُ تخمِشُ الوجوهَ

فهي لم تُكتبْ بالقلم

بل بمِقراضِ الأظفار

**

تُرى من أية رَحِمٍ نَسَلَتْ قصائدُهُ المشاكسة

بصوتها الساحقِ للعظم

وبشفاهها النازفةِ من كُثرة الشتائم

لطالما طردهنّ من مسوداته

لكنهنّ يَعُدنَ من نَخْرِ الأسنان

وفي أعقابِهِنّ قاضمو الزجاج

وشاحذو السواطير

**

أيها الشاعرُ المُبتلى بذريّتِهِ الورقية

قصائِدُكَ تُذكّرني بخيبتي في استبدال السكاكين

من أشداق جِرائي بشتلاتِ زنابق

لقد استعدَوا عليّ حتى وزارة الدفاع

بتفكيكِ سِرفِ دباباتها

***

شعر / ليث الصندوق

هبطَ اللّيلُ عليّْ

و أنا أمشي وحيداً في دروبٍ شائكةْ

أتحدّى الشوكَ،

و الظلمةُ كانتْ حالكةْ

فَجأةً حطَّ غرابٌ في يديّْ

وأحاطتني جموعٌ وحشودْ

مِنْ نِمورٍ وأُسُودْ

وصراخٌ يملأُ الأفقَ ضجيجاً

عابراً كلّ الحدودْ

ليُغَطّي أُذُنَيّْ

كنتُ أستغرقُ في قيلولتي

لَمْ أكُنْ أعرف أنّي

سأرى الكابوس يأتيني نهاراً

فكوابيس النهارْ

علّمَتْنا أنْ تجيء

خارجَ النّومِ، توافينا جَهاراً

باِنهمارْ

عندما استرجعتُ نفسي

هالني أنْ أَبْصُرَ البابَ موارَبْ

و أرى الشّباكَ مفتوحاً على آخرِهِ

مَنْ تُرى يمتلكُ المفتاحَ غيري

ما جَرى ...

كَيْفَ جَرى؟

لَمْ أُصدّقْ ما أرى

كَيْفَ لي تصديق ما كان مُحالْ

كَيْفَ لي تبرير ما لستُ أرى

هَلْ سيأتي من يُريني

يا تُرى؟

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن – أستراليا

حين يستدعي السيد المدير أحد الموظفين فإن ذلك يدلّ على أمرر جلل أما أن يشكره لخدماته أو يويخه بسبب إهمال ما، وفي أفضل الحالات ـوهو المألوف، أن يستدعي سيادته رؤوساء الأقسام ليبلغهم معلومات تخص العمل والموظفين بعضها يمكن أن يكون في غاية الكتمان.

أمّا أن يقع الاختيار عليّ وحدي فذلك يشير إلى أمر جلل!

وخلال اجتيازي الممر بكل هدوء وثقة شأني كلما استدعيت للقاء مسؤول أعلى تواردت في ذهني احتمالات كثيرة تأرجحت بين السرية والاستحسان وربما العقوبة أو التنبيه لخطأ ارتكبته عن غير قصد.

لو أخطأت أي خطأ مهما كان تافها لتعرض المركز الذي أعمل فيه إلى هزة حقيقية.أضع في بالي:

الاقتصاد.. ضرر مالي

سمعة المؤسسة

الصحافة والسياسة

ليقل ذلك الآخرون على وفق مايشاؤون

لكنّ الذي زادني ارتياحا أني رأيت السيد المدير ينهض بقامته المديدة ويمد يده إليّ مصافحا وهو يقول:

مرحبا بك أيها العبقريّ

شكرا يا سيدي أظنني أعمل بإتقان فأنا منتبه طول عمري ولن أغفل مادمت أتمتع بخاصية الحذر والانتباه

تقول والدتي إنني كنت حذرا ومنتبها منذ الصغر.

أشكّ في كلّ شئ حتى أتحقق من صحته

ربما يعود الفضل في شحذ ذهني وتوقده في هذه الدرجة الإيجاية إلى سلوك أبي مع أمي

كان يعاقبها بعنف

يضربها بقسوة

إلى درجة أني تحاملت عليه

لا أقول أكرهه أو أحقد عليه

لعلّ شخصا بمواصفاتي لا يحقد ويكره

فليس هناك من عدوّ لي سوى الهاكر

ويوم مات وجدت راحة كأنّ شيئا ثقيلا انزاح عن صدري

وأنني وإن أكن ولدت في الغرب فإنّي أحيانا أعدّ نفسي لاجئا في أي مكان في العالم

منفيا باختياري

لقد أصبح كل ذلك ماضيا

اظنني استفدت منه خاصية الانتباه

لم أخش أحدا

ولا أخاف قط

لكنني

أحذر الآخرين وأتربص بهم

لا أدري لم تذكرت أمي وعنف أبي اليوم بعد أن أخبرني السيد المدير أنني أقدر أن أتابع عملي من البيت ولا حاجة لحضوري في مبنى المديرية

في الوقت نفسه، وبعد أن خرجت من المؤسسة ي إلى منزلي الذي سوف يصبج برجا أراقب منه العالم كان يسبقني يومٌ مختلفٌ يطبع ذاكرتي بشتاته.

ساعتها

فررت فزعا من البيت

رأيت والدي ينهال لسبب ما على أمي ضربا

كان قاسيا الى حد ما

غاضبا بشكل هستيري مثل إله قديم يتجمع الدم في وجهه والشّرر بين عينيه

فقد عقله تماما ولا سبيل إلى إبقافه

ولم يكن بامكاني فعل أيّ شئ

عاجز

على الرغم من أنه لم يضربني قط

أو

يهددني

بل

يدللني

يشتري لي كثيرا من الهدايا وقبل هزيمته الأخيرة جهل يعلمني غنّ الملاكمة

مع ذلك، أشعر بالنفور منه، حالما يدير وجهه أنظر إليه بحنق.

.وأظنّه يرى والدتي العدوّ الوحيد له في العالم..على الأقلّ حسب تصوري.

لم يكن أمامي حلّ آخر سوى أن أنهزم

أفرّ من البيت.

وقد قادتني قدماي من دون أن أعي إلى مسطبة ما في المنتزه القريب

وضعت رأسي بين يديّ ورحت أفكر

منذ ذلك اليوم اعتدت أن ألجأ إلى المكان نفسه كلما اندلع شحار بين أبي وأمّي

من يصدق انني لم أكن أبكي

حاولت

استعصت الدموع

تمرّدت

مراراً فأحفقتُ

توقّد ذهني

فأدركت أنّي لا أقدر على البكاء لكني يمكن أن أؤدي أعمالا مذهلة.

لديّ حالة غير عاديّةٍ من الاحتراس

كان ذلك أوّل اكتشاف لي عن نفسي

ولم أستفق من شرودي إلا حين أحسست بكفّ تهبط على كتفي .

يد مفعمة بالدفء

ناعمة

فوقع بصري على أمي التي بدت بوجه مزرق من كدمات واحمرار

Mumلماذا لا تشتكين عليه

عيب يا ابني نحن أصولنا شرقية ومازلنا نحتفظ ببعض تقاليدنا

هذا إنسان متوحش متوحش جدا

لا تتكلّم عليه بهذه الصورة إنّه أبوك.

راودتني فكرة أن أخبر معلمتي في المدرسة بما حدث ولعلّ أمي قرأت هواجسي فحذّرتني.كانت تخشى من أن تتبناني البلدية وتبعدني عن البيت أوتقوم الشرطة باعتقال أبي الأمر الذي لا ترغب فيه قط.

لم أكن خائفا وأنا أعود معها إلى البيت

أمّا بعد سنوات فإنّي أبدو سعيدا جدا حين استقبلت الخبر

شخص جديد يجد نفسه يصبح أكثر حرية بالعزلة

مثل متصوف قديم

أو

نبي يرمي نفسه في كهف فيرى الأفق الواسع والدنيا أمامه

.شغلي نفسه الذي يمتاز بخاصيّة فريدة لا يتطلب مني أن أذهب مثل بقية الموظفين إلى العمل.يمكن أن أكون في البيت وأراقب الكومبيوتر.أحمي المديرية التي أعمل فيها، من المتطفلين والمزعجين والسراق، ومن بحاولون أن يبتزوا الزبائن، أو يتحايلوا على البنوك.

وقد وجدت في العمل داخل المنزل راحة لا متناهية..أجلس في شقتي المتواضعة وأراقب..أصطاد الهاكرز والطفيليين عصابات السرقة.

راق لي العمل والجلوس في البيت

وتحولت إلى كتلة من النشاط.

أظنني تحررت من الكآبة تماما.

وتحولت شقتي إلى نواة للعالم

بالضبط مثل النواة التي تتمركز وسط الشمس ..

النواة في عمق الأرض وحبة الجوز وكلّ شئ مدور

وسوف يصبح لمكونات شقتي طعم آخر:

المرحاض

المغسلة والمطبخ

فراش النوم

أجلس صباحا، أفكر وأعدّ نفسي للعمل.

بدلا من أغادر منزلي في أثناء تساقط الثلوج أو الحرّ فترة الصيف، وقد أُصْبِحُ عرضة لهواء المدينة الملوّث والزحام والفوضى، وأوبئة تفاجئ من حيث لا نعلم أكون بدأت عملي الساعة الثامنة بذهن صاف ومزاج رائق.

راتبي الشهري يدخل في حسابي عبر النت..أطالع باهتمام الفاكهة والخضار واللحوم والألبان على الصفحات الألكترونية فيصل إلي ( الدلفري) وقتما أشاء.

كلّ شئ يصلني إلى البيت حتى اكثر الفنون متعة مسرح وسينما انتقلت إليّ في البيت.

أما صلتي بأصدقائي فكانت عبر الهاتف ثمّ انقطعت تماما.

أكتشفت أنّي يمكن أن أعيش من دون صداقات.

ولا يشكّ أحد في أن العمل من المنزل منحني الراحة والأمان في الوقت نفسه جعلني أراقب العالم من دون أن يشعر بي.

ماعدا أمرا مهما لم أكن لأستغني عنه.

هو الذي يلتهب بمشاعري وأحاسيسي.

الحب

المرأة

العاطفة التي قادتني إلى الآنسة داليا..

في أوقات الفراغ

وليست هي المصادفة

عثرت على أحد المحتالين يحاول أن ينصب على فتاة فاخترقت بطريقة احترافية رقمه السريّ

ثمّ كشفت تلاعبه أمامها:

إنّها تندفع عن غير وعي

أراقب بفضول

تعرف الكثير من أسرار الشبكة فتظنّ حسابها محصّنا من الاختراق

أستدعي بعض خصوصيتها

شابة في العشرين من عمرها

داليا النسور

اسم الأب جميل النسور

عشرون سنة

موظفة في شركة نقليات

تتقدم بطلب قرض :ثلاثبن ألف باوند

فجأة

مثل الفايروس فايروس اللاب توب يزحف هاكر عبر وسيط وهميمن بنك آخر

يمكنه ولا أشك في قدرته فهو محترف وذو سطوة أن يضيف مايشاء من الأصفار يمين المبلغ فيحولها من دون أن تعي عبر حساب الوسيط إلى حسابه مبلغا بالملايين ّ، فتبدو الآنسة داليا باليقين القاطع مختلسة من دائرة النقليات المبلغ الهائل..

الكوسج يناور مناورة ذكية

كنت أجد وأنا أطارد الهاكر الكوسج صعوبة في اقتناص الروس والألمان..يتعبونني حقا..قأحبط محاولاتهم قبل أن يخترقوا حسابات دائرتي

شرطي الكتروني حاد الذكاء

أمامي الآن حالة خاصة ليست ضمن عملي

فضولي في البحث ساعات تفرغي جعلني أعثر على ضحية جديدة لهاكر محترف

لا أنكر أن اسم الضحيّة لفت نظري.لايهمّ من أيّ بلد الشرق واسع.

أتابع الهاكر فأراه يقترب من الرقم المليون

خطوة واحدة ويحقق النجاح

هل يعنيني الأمر

إنها فتاة شابة مفعمة بطموح وأحلام واسعة فهل بمقدوري أن أصبح مثل زائر السفاري يجلس في سيارته ويراقب بشغف ولذة حيوانا مفترسا ينقض على غزال فينشب فيه مخالبه وأنيابه فلايمدّ يده إلى سلاح جنبه في السيارة فيطلق النار؟

عتدئذٍ تتحرك أناملي

أرسم دائرة حمراء

وأزرع فايروسا حول الهاكر

أراوغه

ثمّ

أدخل ببعض التفاصيل معها

ولعلها عدتني بطلا

فارسا من فرسانا القرون الوسطى بعثته السماء لنجاتها

كتبت لها إنّ الأمر عاديّ ولايستحق كل هذا الثناء

ونصحتها ألا تقترض مبلغا كبيرا من دائرتها عبر النت فهناك هاكر يتربص

فأعجبت أكثر بتواضعي

وبدأنا نتراسل

فاتحة مريحة لبداية صداقة عوّضتني عن أصدقائي

وبمرور الوقت

حدَّثتني عن نفسها وحدثتها عن بعض خصوصياتي

كلّ ليلة قبل أن أنام أكتب لها تقول :إنها لا تقدر أن تنام إن لم أكتب لها

اندفاع

تعاطف

وشيئا فشيئا

تحولت العادة إلى حب

حب جارف بيننا

هي المخلوق الوحيد الذي أحدثه فكلّ يومي أقضيه في متابعة الكومبيوتر .

ألغيت الخارج من ذهني

وأقصر عمل أقوم به أفتح نوافذ البيت للتهوية

أو

ألقي نظرة على الشارع العام من نافذة غرفة الاستقبال

أصبحت محور العالم

كلّ ما في الخارح يأتي إلى حيث أكون

هل أصبحت مغرورا إلى درجة لا تطاق

مازلت أشعر بالزهو قليلا

لا بدّ أن أشكر التطور الهائل المخيف الذي جعلني أعود إلى البيت

قصة الهرب من المنزل إلى المنتزه أعدتها مرات كثيرة

استنسختها

ببعضٍ من التواضع هي التي استنسخت نفسها بشكل جديد:

آخرها أني خرجت بعد شجار حام بين أمي وأبي

لا حاجة لأن يكون هناك سبب

أحيانا يختلق أحدهما عذراً تافها للشجار وتكون أمي هي الخاسرة نهاية كلّ صدام... وجه متورم بكدمات على الخدين زرقاء أما أنا فأفتح الباب وأهرب إلى المنتزه القريب

ذلك اليوم كما أعود الآن إلى المنزل وحدي جلست على المسطبة ذاتها وضعت رأسي بين يديّ، وحاولت البكاء

كل مرة تتمرد عيني علي الدموع

هل لا أستطيع البكاء إلى الأبد.

وماذا عني حين كنت طفلا

أمي تفاخر بي المدرسة والجيران تدّعي وهي صادقة أنّي في الطفولة لم أكن أتبوّل في الفراش شأن الأطفال الآخرين أمّا عن بكائي فلا تذكر شيئا

أحسست بيد تهبط على كتفي فأزحت راحتيّ عن عينيّ ورفعت نظري فإذا هو أبي:

هل تأتي معي

رحت أعضّ أسناني من الحنق و وددت لو أقدر على أن أقذف بوجهه سيلا من التقريع واللوم:

لماذا تضرب أمي

أطلق ضحكة مكبوتة أعقبتها ابتسامة صفراء مثل زهور النرجس في المنتزه التي بدأت تتلاشى منذ بدأ الدفء يدبّ:

لأنني أحبها َ

فنظرت إليه بأسف

***

رواية جيب

قصي الشيخ عسكر

أفق للغواية

يغريه الموج كل مساء

وهو يراود زرقة الأفق

يصير الموج عناقا

يصير العناق رذاذا

يصير الرذاذ لوحة فنية

تصير اللوحة في عيون العاشق

نورسا..

وسفرا...

ومرفأ...

ومزارا ..

*

ضفاف للمتاهة

حافي القدمين كمريد

فوق طين نهر النيل يسير

يمضي به العشق لفيض الماء أنى شاء

رويدا .. رويدا كمياه النبع

تتدفق رؤاه

***

عبد الرزاق اسطيطو

 

الفصل الثالث من رواية: غابات الإسمنت

السجن الكبير

جئته أحمل ثماني سنوات سجنٍ عليّ أن أقضيها فيه.

تسللتْ لنفسي مشاعر الخريف بلغتهِ ولحنه، بلونهِ الكهرماني الأصفر، هو ليس فصلا من فصول السنة فحسب، بل نافذة صريحة ومشرعة نحو ما مضى وما سيأتي، محطة بين قيظ المشاعر وصقيع العمر، له زوايا كثيرة ومختلفة وكل منا يراها من باب ذاكرته ومشاعره.

خلتُ نفسي ابتعدت عن العالم تماما، هكذا حسبت؛ لكن العالم في الخارج كان يسعى إليّ، لا أريد أن أتعجّل الأحداث، فقد دخلتُ إلى هذا المكان بعد صدور الحكم، وطالعتني وجوه، بعضها كئيب وبعضها الآخر حادّ النظرات، وهناك الذابل الكتوم، غير أنهن جميعهن كن متلهفات لسماع السبب، هل قرأن الصحف من قبل؟ لا أظن.

أم محمد العجوز التي حكمت بسنتين في قضية تهريب، دعت أن يفرّج الله الكرب عنّي وسألتني فيما إذا كنت أحب أن تقرأ لي كفّي؟ تقول إنها محترفة في قراءة الكفّ.. تعرف الودع؛ لكن الحارسات لا يسمحن بدخول الحصى للسجن، لذلك يمكن أن يحلّ الكف بدل الحصى، وإن كان الأخير أكثر دقّة! نائلة العاصي كانت تنظر إليّ نظرات غريبة غير واضحة، هزّت رأسها وانصرفت، أمّا مديحة نعمان فقد أصبحت صديقتي حقا، جميلة رائعة ذات وجه بريء ناعسة النظرات، غير أن شحوبا ما يخيم على وجهها! لا أظنه بسبب قتام السجن، فنحن نخرج معظم النهار إلى الباحة، نغادر القاعة بضع ساعات ونعود إلى التنظيف أو سماع درس أو نقضي ساعات تأهيل، كنت أفضّل الخياطة، مهنة المستقبل التي أحلم بها.

مديحة نعمان التي أصبحت صديقتي، كانت معلمة في إحدى المدارس، حكايتها سمعتها منها على فترات بعد أن توطدت العلاقة بيننا، ولم تكن تشرح لي كل شيء قبل أن تتركني أجرّب بنفسي، لفت انتباهي أن الحارسة استدعتها، فابتسمت نائلة العاصي بخبث، غابت ليلة وعادت قبل طلوع الفجر بساعة، عادت أكثر حزنا وأقل رغبة في الكلام، كنّا نجلس أنا وإياها ذات مساء في باحة السجن، وحدنا حين اقتحمت عوالمنا أم محمد، سألت بفضول:

- هل قضيتِ الليلة في غرفة الحارسة تكنسين وتعملين الشاي كالعادة؟

- أرجوك لا تسأليني.

رجعت لصمتها فالتفتت إليّ:

- أعطني كفك لأقرأه لك!

ابتسمتُ وقلت: لا داعي.

- لا أطلب نقودا، اعتبريه للهو.

وواصلت حديثها، صدقيني ستجربين كل شيء بنفسك وتجدينني صادقة، هناك نساء قبل أن يخرجن من السجن تنبأت لهن بأحداث؛ والكثيرون والكثيرات ضربتُ لهم الحصى عندما كنت طليقة، فحدث لهم ما قرأت، وما زالت السجينة أم كامل تزورني في السجن بعد أن خرجت، وتحققت أمور ذكرتها لها.

تمعنت في وجهها وأنا أطارد أحلامي، لاحقتني الكوابيس بالمشنقة، حكم عليّ الليل بالموت، والنهار بالحياة والعقوبة، أمّا هذه المرأة فتصرّ على أن تجعل الزمن ضمن إطار المرح واللهو داخل مكان معتم مغلق.

بسطتُ يدي: تفضّلي.

فتأمّلت لحظة وقالت: أنت في محنة، ستعيشين بخير، وسيكون الزمن في صالحك، حلوة هي الأيّام ومرة في فمك، سيقع في حبك الأبيض والأحمر والأسود، وبعد أن تخرجي من هنا تعيشين في الغربة؛ لكنك لا تحتاجين لأحد..

وقطع عليها القول والإسهاب في التفاصيل صوت صرير الباب، فتوقفنا عن الحديث والهمس، تخطت الحارسة الممر وتوجّهت نحوي قالت: تعالي معي إلى الإدارة لتكوني في مكتب السيدة المديرة.

أتذكر أني حين وصلت السجن استقبلتني حارسة سمراء بوجه متجهم؛ لكنها كانت طيبة القلب على ما يبدو.. بدا وجهها غاضبا ثم تراخى إلى حد أنها بدت مسالمة وهادئة لا تبعث على الخوف، فتحتْ ملفي وتطلعت في وجهي والصورة وقالت: أنتِ إنعام؟

- نعم.

سلّمتني ملابس واستلمت مني أشيائي الخاصة، ساعة يد وبعض الأوراق المالية وقلادة ذهبية، وضعتْ كل شيء في مظروف وقالت:

- اسمعي.. السيدة مدير السجن هذا وعموم سجون النساء، ابتسام علّام في إجازة اليوم وغدًا، ولا بدّ أن تراكِ وتتحدث معكِ حين تعود.

بعد عودة المديرة استدعتني في مكتبها.

كنت هذه اللحظة أواجه المديرة برأس منكّس وعينين كسيرتين، سيدة في الثلاثين من عمرها ببدلة أنيقة، سمراء ذات حمرة، وجه مدور بعينين حادّتين كأنهما عينا صقر، حلوة وفيها خشونة.. أنوثة ورجولة معا.. طلبتْ من الحارسة أن تخرج والتفتت إلي، قالت:

- إنعام.

- نعم.

- أنت هنا لكي تتعلمي (تلاشت الرهبة منّي) إذا أطعتِ ولم تتسببي في مشاكل؛ أيّة مشاكل ومشادات، فسأكتب عنكِ خيرًا كثيرا، فتقضين عندها نصف مدة الحبس.

- سأفعل إن شاء الله.

نهضتْ من مكانها واستدارت عن المنضدة نحوي، نظرت إليّ بتأمل وتمعن، خلتها نظرة غريبة، كأنها تعرفني، أشكّ في أنّنا التقينا ذات يوم في مكان ما.. عيناها تسلطتا عليّ كعيني من يمارس التنويم المغناطيسي، فشعرت براحة واسترخاء.. قالت:

- ما كان عليكِ أن تقتلي زوجكِ لتأتي إلى هنا بثمان سنين، وهل يوجد في الدنيا رجل يستحق مثل هذه التضحية؟

دارت حولي وواجهتني بعينيها الحادتين، نظرة غريبة غير الحنان والإشفاق، وليست كذلك نظرة قرف أو اشمئزاز، قلت:

- إنها القسمة والنصيب، والأمر مكتوب سيدتي.

فمسحتْ على يدي برفق: هل كنتِ تحبينه؟

- ربما.. يحدث أن يكون الوجع على هيئة حُب، فقد تزوّجنا زواجا تقليديّا؛ لكنه جعلني أتعلّق به بعد الزواج، إنه الرجل الذي جعلني أعيش مترفة، وأوّل إنسان يلمس جسدي.

- اللعنة! أحببن بكل ما أوتيتن من قوّة؛ لكن تريثن في إظهار مشاعركن وتصديقها، لتتجنبنّ حجم الألم والمعاناة فيما لو اتضح أن الطرف المقابل لا يستحق.

وضحكت بشماتة قائلة:

- أنتِ امرأة شجاعة وسأساعدكِ على أن تقضي نصف المدة!

هل تعدينني أن تطيعي النظام؟

أجبت من دون تردد:

- أعدكِ سيدتي.

صمتتْ.. أخذتها لحظة تأمّل وانشراح، راودني إحساس أنها تجول بعينيها حول جسدي أو تجعلني ألفّ حول نفسي، وعيناها ثابتتان على جسدي، كأن لعينيها مفعول منوم مغناطيسي، كانت تنظر إليّ وهي جامدة، أو مبحرة في مكان بعيد وزمن آخر.

تساءلتُ هل تلعب معي دور القط الذي يترك الفأر على سجيّته لينقض عليه فيما بعد؟ ربما هي مجاملة كاذبة، وبعدها بدقائق أو ثوان تنقضّ عليّ لتصفعني، أو تهوي عليّ بعصاها الغليظة، المركونة على إحدى عارضات الحائط الخشبية المخصصة للملابس.

لكن يمكن ألا يحدث هذا، فأنا سجينة إجرام، هكذا يقول الحكم الصادر بحقّي، قاتلة.. لست سجينة سياسية، فأعامل بقسوة.

لم أقد تظاهرة تطالب بإسقاط الحكومة، كنت بعيدة عن السياسة، لا تهمني الأسعار إن هبطت أو ارتفعت، ولا أبالي بالأحزاب وصراعها، بل سمعتُ أنّ مسجوني الجريمة والتهريب والمخدرات يعيشون في السجون بأمان من التعذيب، وهذه المرأة تعاملني على الرغم من رتبتها ومكانتها كأنني ضيفة.

هل أصدّق عينيّ أم أكذّبهما؟

ضغطتْ على الجرس، فقدِمت سجانة غليظة ذات قسمات صارمة تخشى عبوسها السجينات الأخريات، حتى خيّل إليّ أنها أكثر شراسة من الأولى التي استقبلتني في النهار أول يوم:

- نجيـّة.. خذيها إلى المطبخ لتنظّف المدخل ثم لتعدّ لي كأس شاي، وإن أحبت فلتعدّ لنفسها كأسا.

- حسنا سيدتي.

غبنا أنا ونجية في الدهليز، فالتقطت مكنسة؛ عندئذ قالت السجانة نجيّة بصوت رقيق تلاشت منه الحدة:

- ما دامت السيدة النقيب آمرة السجن قد رضيت عنك، فستكونين أميرة السجن.

- صحيح!

بالمناسبة يا ست نجية، شعرت إنها تعاملني مثل أختها أو ابنتها.

- السيدة النقيب غير متزوّجة.

- لكن لمَ كل هذا؟

- هكذا هو مزاجها، تحبّ الجميع وتتعاطف معهنّ.. ترى السجن تهذيبا وإصلاحا وتربية، ولا تترك السجينة التي يطلق سراحها تصارع الحياة لوحدها، فتجد لها عملا.

- ابنة حلال والله.

وأكّدت: المهم أن تكوني مطيعة ولا تخالفي أمرًا.

قصدتُ المطبخ وأعددت ثلاثة كؤوس شاي، فقد حسبت حساب نجيّة التي بدت لطيفة معي، وحملتُ الصينية برفقتها إلى مكتب المديرة النقيب التي وجّهت كلامها إلى نجيّة:

- دعيها تكمل كأسها براحتها.. ثم وجّهت كلامها مباشرة إليّ:

- سأصحبكِ غدًا بنفسي إلى الطبيب الخافر في المشفى، غدًا كوني مستعدة عند الساعة التاسعة!

رحت أتلذذ بكأس الشاي وفي بالي خاطر آخر، هل كلّ هذا اللطف من دون مقابل؟

لا أظن..

كل ما أراه وفق أسوأ الأحتمالات، أن السيدة النقيب وضعت في حسابها أن تجعلني جاسوسة أتنصت على السجينات، ربما تصرف لي مالًا مقابل ذلك، هذا أمر سيء يجعلني أحتقر نفسي؛

لكنه على ما يبدو، أسوأ من جريمة قتل ارتكبتها ساعة فقدت أعصابي أمام مشهد فظيع!

كلّ شيء جائز ما دمت في عالم غريب لا يغفل عنا بالمفاجآت.

وانتشلتني السجّانة من أفكاري وهي تطلّ من باب المطبخ لتقول:

ـ هل انتهيتِ؟ هيّا بنا.

ورحتُ أسير أمامها إلى العنبر.

***

ذكرى لعيبي

يا أيّها الزّعيمْ

يا أيّها الزّعيمْ

في القدسِ تعصِفُ ضجّةٌ

وأعاصِرٌ تهيمْ

- يا أيّها البَهيمْ

هذي أمورٌ كلّها لا تنفع الزّعيمْ

فَلتُحضِروا بعدَ العَشاءْ

عذراءَ من أحلى النّساءْ

للقصرِ حتّى أهتدي

في جسمِها النّحيلْ

لمزارع النّخيلْ

*

يا أيّها الزّعيمْ

في القدسِ ماتت ثُلّةٌ

والقبرُ ينظرُ والكفنْ

ألفًا من الرّجالْ

للموتِ حتمًا قادمونْ

طوعًا فليسوا يُظلمونْ

- يا أيّها البهيمْ

فلتحضِروا السّيوفْ

فزعيم أمريكا وصلْ

والكلّ فينا مُنشغلْ

في الرّقصِ والتّكريمْ

*

يا أيّها الزّعيمْ

أقصَوا عن الأقصى الأممْ

وتصاعدَتْ منه الحممْ

وخيالُ إبليسَ انتشى

من فعلِ أدناسِ العجمْ

- يا أيّها البهيمْ

أحضر لنا من أطيبِ الثّمارْ

وسنكتفي وعيونُنا

تلهو بنهدٍ قاصرٍ

أن ننظرَ الأخبارْ

*

يا أيّها الزّعيم

إنّي لأبصقُ آسفًا

على الزّعيمِ منبّهًا:

"أسفي على ريقي الّذي

أهدرته ظلمًا بكمْ

بزعيمنا البهيمْ"

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

أتنكرُ أني جئتكَ أحملُ

طقوسَ البلدَهْ

وعلى كفي ينمُو السحابُ

وتبرعمُ التلَّهْ؟

جئتك وفي دمي

ينابيعُ دجلهْ

تزهو ليلَ نهارَ

كأني عروسٌ

بل وردهْ

هل تنكرُ كمْ ضحكةً خبأتُ

في السلهْ

وكم حشرتُ من نجمةٍ

في القربهْ

أتنكرُ أني كنتُ محضَ

طفلهْ

أحملُ معي حمرةَ

الخجلِ معجوناً

بالدهشهْ؟

*

أعانقُ المدى الفيروزيَّ

وأرحلُ نحوَ المحارِ

وألوحُ بالخمسهْ

لي منْ سعفِ القمرِ

عمرٌ وبرههْ

ولي رقصةُ السنونُو

غطاءً وآنيهْ

تقتاتُ الشمسُ منْ عبيرِي

والنجمهْ

يخبئُ النهرُ في رمالِه

الرعشهْ

وأكسُو صدرَ أمِّي غابةً

وفرحهْ

أتنكرُ كلَّ هذا

أمْ أشقيك بالحقيقةِ

المرهْ

لقد كحلتُ قبلكَ حياتِي

نغماً... بالدبكهْ

وصُغت ليالي منْ معينِ

عدنَ

وجاورتُ أيلولَ

وجمعتُ العطورَ

في علبهْ

وأقمتُ معبداً

وطرَّزتُ النبوهْ

*

ثم كانتِ

الزلَّهْ

يوم ألقيتَ

التحيهْ

وكالثعلبِ أخفيتَ

الغدرَ

والقسوهْ

وقد برعتَ وأجدتَ دورَ

الضحيهْ

ولمْ أدرِ أنكَ تحوكُ منْ

فمِ الشيطانِ

ضربةً تلوَ

الضربهْ

وحررتَ في عينِي شعراً

وقصيدهْ

وقلتَ كلاماً...

وجعلتني أميرهْ

قلتَ إنَّ شَعركِ

يسيلُ كالليلةِ

ظلمهْ

هو كالستارةِ

يحجبُ عني الشمسَ

والحضارهْ

وعلى ثغركِ تختصمُ

الشهوهْ

كما في الحقيقةِ تتجادلُ

السّنةُ والشيعهْ

فهلْ يا تُرى أحظى منها

برشفهْ

وحول خصركِ

تنمو غاباتُ أقحوانً

وضيعهْ

ويتوسدُ خداكِ

وريقةً وزهرهْ

تنهلُ منَ الحمرهْ

أضفتَ بكلَّ دهاءٍ وريبهْ:

أنتِ امرأةٌ قدّتْ منْ

رحيقِ النشوهْ

وعيناكِ بهما حورٌ

تحبسُ الأنفاسً

وتصيدُ الرجفهْ

لهما صبغةٌ

كما القهوهْ

*

قلتَ كلاماً

ذهبَ بكلي

والبقيهْ

فماذا تبقى منْ تلكمُ

الصبيهْ؟

نجحتَ في الايقاعِ بي

عنوهْ

فعلى ضلوعِي ثمةَ

جثهْ

لم أكنْ أدركُ أنني مجردَ

صفقهْ

فجُدْ بما شئتَ

من سكاكينِ الغدرِ

والخسهْ

وزدِ الطينَ بلهْ

فأنا لا استحقُّ

الرّأفهْ

لأنَّني بسذاجتِي

فشلتُ في فهمِ

اللّعبهْ

***

لطيفة أثر رحمة الله

 

حـَنَّ إلى بيت الآباء والأجداد؛ هنالك بعيدا عن بنايات المدينة الأسمنتية؛ التي تمتد أطرافها الأخطبوطية؛ لتلتهم ما كان منبع عين، وما كان حقلا لعيدان سنابل في لون الذهب، وما كان بستانا لأشجار مورقة بالخضرة، ومثمرة بالعنب، والتين والزيتون، والليمون، يرتفع غبار الأسمنت على جميع الأشياء حارا يحبس الأنفاس، وأتربة الأرض يكون قد بللها ماء المطر، فتصير رطبة ذات رائحة، وفي باطنها جذور نبت أخضر، غدا هذا خيالا، وإن عين الإنسان لشوق عارم إلى رؤية ذلك عن كثب؛ لأنه يُحيي؛ إنه إكْسير آلحياة، ولا آدمية بدون تربة بنية اللون، ذراتها تركة أزمنة جيولوجية ضاربة في القِدم، وماء رقراق عذب يخرج من بين صخور غطاها الطُّحلب.

لنْ تمحو سِنُون عمره التي نيفت على الخمسين من مخيلته صورة بيت جده، كانت لبنات حيطانه من حَجَرٍ، شُدّ بعضها إلى بعض بالتراب، وغطِّيت بطبقة من التراب نفسه، وطُليت بالجير الأبيض. حُجُره فسيحة، سُقوفها من أعمدة متوازية، وأخشاب مصفوفة؛ مُلِّطت بمخلوط من التراب والجِص، تحيط بساحة واسعة. فُرُشه من حُصُر منسوجة بالدَّوْم، وبخيوط من صوف ذات ألوان زاهية، ولن ينسى أبَد تلك الأعوام زريبة البهائم، كانت إلى اليسار من باب البيت.

في لحظة كأنها نور أومض فجأة ثم آنطفأ؛ تذكَّر الآباء والأجداد وهم أموات، يدعو لهم بالرَّحمة والمغفرة وبمأوى الجنة.

لم يمْهله العمل؛ فلم يخْل لنفسه، ولو لزمن يسير؛ يطبق فيه جفنيه، ويغيب ذهنه وحِسُّه عن كل ما يدور حوله؛ فيَستسلم فيه لنوم عميق، أو لجلسة حميمية بين أفراد أسرته، وهو إلى جانب كثرة آنشغالات ذلك العمل، وآجتماعات مستعجلة، وأيام دراسية داخل البلاد وخارجه؛ حبيس حركة تراقصية في ذهاب وإياب؛ صباح مساء؛ تحمله خلالها سَيَّارته عبر شوارع متشابكة من مقر عمله إلى بيته؛ فتنهال عليه صور من الماضي، وذكرى أيام مضت، ووجوه أشخاص أحسنوا عِشْرته، فيجد في هذا عزاء، يُنَفّس عنه كُرْبته.

تساءل: «أما يزال بيت جدِّي على حاله، أم آنْدرست أركانه؟».

وهو منذ أعوام لم تطأ قدماه تلك الأرض الضاربة في آلامتداد إلى الشرق وإلى الجنوب، ولم يسلك ذلك المِسرب التَّرِب؛ يحاذيه بيت جده، تهبط أمامه أرض حَدَر؛ إلى بئر كانت مورد ماء للإنسان، والأنعام، والدواب، والطير.

وفي صباح يوم من أيام صيف أحد آلأعوام؛ لم يرافق أفراد عائلته إلى شاطئ البحر للاصطياف؛ كما دأب منذ سنوات، وأخبر زوجته وأولاده بأنه سيسافر بدونهم إلى مكان؛ سيُطلعهم عليه حينما يعود؛ فلم يهتموا بالأمر، وتركوه على سجيته، ولم يلحوا في السؤال، ثم آمتطى سيَّارته، وحررها من كوابحها، وترك أعضاء محركها تهدر في تناغم وآنسجام، وسار بتريث في أزقة وشوارع المدينة، ثم بعد ذلك لفظته الأبنية على طريق منعرج؛ يخترق أراضي آلبادية آلواسعة، فساحت عيناه في ذلك آلامتداد، بعد أن كانتا حبيستي أروقة طولية وقاعات ضيقة؛ تحيط بها جدران عالية، وأوراق بيضاء يظل مشدودا إليها، وعقله يخترع الأفكار، فيخطها مدادا، أو حبيستي شاشة الحاسوب يتفحص المواقع الإلكترونية، وأرشيف الإدارة.

مدّ ذراعه الأيسر خارج نافذة السَّيَّارة؛ فلفح يده هواء لاهِب، وكان قد آستخدم جهاز التبريد للتخفيف من السخونة التي تسربت إلى الداخل، لم يكن مُتعجلا؛ فخفف من السرعة حتى يتمكن من أن ينقل عينيه إلى حيث يشاء؛ إلى صف من جذوع الأشجار يسرع عكس اتجاهه؛ إلى بيت تفكك طينه، وآنهارت حجارات جدرانه، يتوسط أرضا بائرة، ولم يبق من السَّور المحيط به إلا أجزاء لا يستبعد أن تكون مأوى للأفاعي والعقارب .

قال: «إنه مكان قوم كانوا قد عمروه أفراحا وأتراحا، ولما تَحَدث الذين قدموا من المدينة عن غجريتها، واروا جثث آبائهم وأجدادهم في قبور من تراب وحجارة، وحزموا أمتعتهم ورحلوا، مُنجذبين بذلك البريق الذي تتلألأ به حليّ المدينة».

وهو في توغله في تلك التلال والسفوح، ويضمه سهل؛ يحلق نظره في أجوائه الرحبة؛ يشعر بالطُّهر يغمره، وأنه تخفف من تراكمات حياة مضنية؛ ظل يرزح تحت ثقلها منذ أن آنغلقت عليه الدّروب، وطبقات تزداد علوا من الأسمنت، وأسياخ الحديد؛ إلى حد أنه كاد أن يقنع نفسه بأنه لا مخرج له من متاهة؛ ينطلق من إحدى أركانها؛ ليعود إليها بعد رحلة بحث عن المنفذ المفقود.

أيكون قد عاد القَهْقرى إلى ذلك العهد الذي كان فيه طفلا ؟ وكان أحب شيء إليه ذلك المِسرب الأُحْدور، فتتوق نفسه إلى أن يستسلم لجاذبيته، فيركض في أرضه التّرِبة الممهّدة، وقد لمحه من بعيد، فنزت عيناه دمعا، وأفرز أنفه بقايا عطر منديل أمه عندما كان يتشبت بأطراف ثوبها، مُستعطفا إياها أن تتركه، وذلك الأُحدور الذي يجذب ساقيه الصغيرتين للرياضة.

وترجل من السيارة، وطفق ينقل عينيه في أصغر وحدة قياس من مربع ذلك المكان؛ فوجده كما هو: الحاشية التربة يحدها عشب بري أخضر، وزهور صفراء اللون؛ مازالت تقاوم حرارة الصيف القادم.

ثم آحتوت عيناه وبلهفة عجلة بيتا ما تزال الطريق إليه طويلة؛ فبدا صغيرا ومنعزلا وسط أراض ضاربة في كل آلاتجاهات الجغرافية، ويكبر كلما تقدم، ويترك عجلات سيارته تدور بلا هوادة، وهو يسمع من حين لآخر آحتكاكها بالحجارة وبفروع نباتات شائكة، وفرح طفولي اعتراه حين لاحت له من بعيد شجرة التِّين، تُظلل أوراقها العريضة والغامقة الخضرة بئرا؛ بجانب جِداره حبل قِنَّبيّ ودلو، وترسبت رائحتها الطبيعية الخالصة في خلايا جدارات أنفه، تتضوَّع في منخريه كلما ساحت بفيحان نفاذ، قال: «... ونحن صغار، أنا وأخي وآبن عمي، أقوانا يتعلق بفروعها ليُرسل إلينا حبات تين يانعة آلْقشرة، تفرز سائلا سُكَّريّا، ونحن في لهو لا ينتهي إلا بصوت آمر من الآباء والأجداد».

ثم أن هدير السَّيَّارة؛ إنفجار كونيّ دوَّى في أرجاء البادية، فنبح كلْب، ونهض يسترعي القادم إلى حِمَاه: « كفاك حيث أنت؛ وإلا فإن غشاء لحمك يتوق لعضَّة من أنيابي».

وفي أعقاب ذلك النُّباح؛ تحرك الهُوينى جسد شائخ، وخطا بثلاث قوائم بتُؤَدة، وفاجأ القادم من بين حجارة سور، كأن التلقائية التي تتحرك بها أعضاؤه؛ يعرف صاحبها، فنادى بصوت مسموع: هذه العَمّة!

وهي تنظر إليه بآنحناءة لاثمة، وبدموع بهيجة بللت خديه؛ فضمها إلى صدره، قالت له:

- أو تظن أنني نسيتك؟ ما زالت عيناك واسعتين، وحاجباك ممتدين بالسواد؛ كما كانا منذ زمن طويل.

ما زال إذن فرد من تلك الأسرة الأبوية التي تناثرت شظاياها في كل حدب وصوب؛ حيا يرزق.

شدت بعَضُده، وقادته إلى الداخل؛ فضمه فناء رحب، وسقوف وجدارات مُنهارة؛ إلا حجرة واحدة هي مأوى عمته.

جالت في أرجاء البيت، وقد غدت خيزرانة؛ أيقظ فيها القادم حنانا أمَويّا؛ ظل راكدا منذ عهد قديم، فجدد عنفوانه؛ تُعِدّ إبريق الشاي، وتستعد لشيء آخر كان مفخرة، وهو كرم متوارث، وموثق في كتب الطَّرَائف والمُلح.

قالت:

- كنت أنتظر مجيئك، وأدأب في سماع ما يرد عنك من أخبار؛ فكانت فخرا لي؛ قالوا بأن ابن أخيك كان تلميذا مجدا، وطالب علم مستغرقا فيه إلى حد الهوس؛ وقد صار له شأن؛ لم أستغرب ذلك؛ بل هي وراثة خَصْلَة؛ انحدرت من أصلاب أجدادك، وما آحتفاظي بذلك الصندوق الخشبي، الذي كان ملكا لأبي؛ أي جدك، وبما هو مرتب فيه؟

فتحاملت في مشيتها، وجلبت الصندوق؛ ففتحته؛ فتقدم هو، وشاهد محتوياته: كتب قديمة مجلدة ومذهَّبَة، وكيس جلدي؛ جُذب خيط من جنس جلده، فآنحبست فوهته على شيء محفوظ بداخله، كانت الكتب؛ كتاب الله المسطور، وأجزاء كاملة من مُوَطَّأ الإمام مالك بن أنس (رحمه الله)، وأخرج من الحافظة الجلدية ساعة جيب سويسرية؛ تُذيلها سلسلة؛ وكلتيهما من الفضة.

قالت:

- اِحْمل بني جميع هذه الأشياء؛ فهي دلالات لأبنائك من بعدك، وكذلك الساعة فهي دائما لصلاة وَقَتَها الله عز وجل.

قال:

- كأنّني في حاجة إلى شيْء ما هناك من حيث قدمت.

قالت:

- أن تصل رحمك، وأن تتناول يداك تركات من ماض مجيد.

وعاد بعد أيام، وقد سرّته وأطْربته أحاديث العمّة؛ من روايات يشهد عليها بيت جده، وحكايات ونوادر من سالف أزمان أمة ما تزال تقاوم.

***

احمد القاسم

القبو يغرق ما بين العتمة والضوء، رائحة الموت تنبعث من كلّ الانحاء، جسد الغضنفر مُسجّى على سرير، في إحدى الزوايا يسترخي بيانو قديم يعلوه غبار الزمن. الحيرة تفترش وجهي أخويه. رجل يرتدي الاسود يدخل الغرفة. يرسل نظرة إلى الجسد المسجّى، تظهر على وجهه قسمات الرهبة. حتى وهو على فراشه الاخير مُرعب. طوال حياته القصيرة، (أربعون عامًا)، دبّ الفزع في كلّ مكان حلّ فيه، هابطًا من سمائه الرهيبة، نشر رائحة الموت في كلّ مكان سار فيه أو توقّف، وها هو بعد مصرعه يدُبّ الرهبة في الغرفة.

الصمت يُهيمن على أجواء الغرفة، لا يشق سديمه إلا رجل آخر يدخل الغرفة مرتديًا الاسود، يقترب من الجسد المُرعب، هذه هي نهاية كلّ كائن، لا فرق بين موت أسد الغابة وقطّ البيت، كل منهما يموت نفس الميتة، كان الغضنفر رجلًا مهابًا، لا أحد يمكنه أن يرفع رأسه فيه. لم يكن يعدّ للعشرة، ما إن كان أحد يتسبّب له بأية مضايقة، قد تتسبّب بتعطل أي من أعماله، حتى يجد نهايته بانتظاره، لا يعرف كيف تأتي تلك النهاية المُهلكة، ولا بأية طريقة، حينًا تأتي عن طريق حادث طرق مؤسف، لا يعرف أحد مَن يقف وراءه إلا إذا رؤي الغضنفر يمشي في جنازته، وحينًا آخر قد يسقط معترض طريقه.. من أعلى بناية في المنطقة، قضاءً وقدرًا، وفي أحيان أخرى قد تختفي آثاره نهائيًا، تبتلعه جهنم في أتونها، بعدها لا أحد يعثر له على أثر، ويتقبّل أهله اختفاءه، متوكلين بإعالة من خلّفهم من ابناء وبنات وزوجة ثاكلة، بانتظار عودته العبثية. بعد أن حقق الغضنفر كلّ ما أراده ورجاه وحالفه التوفيق، فأضحي واحدًا مِن أثرياء المنطقة، عاد إليه حُلمُه القديم حُلم الطفولة في أن يكون عازفًا فنانًا وموسيقار يُبدع وينتج ما يخلُب الآذان ويسحر الالباب، فلجأ إلى طريقة أخرى غير تلك التي اتبعها مع أعدائه واخصامه ومعترضي طريقه نحو قمتها المنشودة المستقرة. تمثّلت تلك الطريقة في أنه بات يلي كلّ فشل له في تعلُّم الموسيقى، تفتقد الحياة الموسيقية في البلدة واحدًا من أعلامها، أما الطريقة فقد تمثّلت في أنه كان يدعو مَن يقع عليه الاختيار، فيقدّم له مسدسًا ذا باغة تتّسع لسبع رصاصات، إلا أنها لا تتضمن إلا رصاصة حيّة واحدة، والموسيقار المسكين، يصوّب مُرغَمًا نحو رأسه ويضغط على زناد المسدس، مرةً، فيما يضغط الغضنفر على الزناد في المرة التالية، ومَن تكون الرصاصة الحيّة مِن نصيبه، يكون الموت بانتظاره، حتى ما قبل أشهر، قال الرجل ذو الملابس السوداء لنفسه، قُتل في حضرة الغضنفر اثنان مِن خيرة موسيقيّي البلدة، أما أمس فقد قَتلت الرصاصة الروليتية الطائشة الغضنفر ذاته، ليأتي مَن يعود به إلى ذلك القبو وليُسجّى في وسطه بانتظار امحائه من دفتر الوجود واختفائه الابديّ، بحضور أخويه وقلة من مرتدي البدلات السوداء. أمّا ذلك الموسيقار الناجي من الموت المُحتّم، فقد وضع رأسه بين يديه بانتظار ما قد يوقعه أخوا الغضنفر وأقرانهما من الرجال السود به من عقاب.

مرتدي الاسود الثاني هذا، يبتعد عن الجسد المسجّى، متوقّفًا عمّا مرّ في خلده من صور وأخيلة عن اللحظات الاخيرة في حياة الغضنفر، يبتعد مُخليًا مكانه قرب الجسد لآخر يرتدي الاسود، هذه هي النهاية إذًا، يرسل نظرة إلى الجسد المرعب، يقول له بصوت خفيض، يحرص على ألا يسمعه أحد خارج الغرفة، ذلك الموسيقار المسكين، حائر فيما يمكنه أن يفعل، كان غارقًا في بحر من الرهبة. منذ تلك اللحظة لم يرفع رأسه من بين يديه ويتوقّع في كلّ لحظة أن تنتهي حياته وأحلامه، في الابداع والمجد، وتوجّه إلى الجميع في مقدمتهم أخوا الغضنفر، حمّلني المسكين رسالة حافلة بالرجاء، كلّ ما يريده هو أن يشارك في التشييع، وأن يتمكّن من رؤية وجه الغضنفر قبل تغييبه الثرى... قلب المسكين ملئ بالرحمة والموسيقى.

يرسل كلّ مَن في الغرفة نظرة حائرة إلى الآخر، الظلام يغشى العيون، يتقدّمون نحو الجسد الممدّد أمامهم، في محاولة لمعرفة رأيه، حتى في غيابه له حضور، يمعنون النظر لحظات طويلة كأنها دهر، الجسد يغرق في بحر غيابه وفنائه، يعود كلّ مِن المحيطين به لتبادل النظرات والتشاور بواسطتها. تسود الاجواء نظرات تقبل، الاخ الاكبر يهز رأسه بإمكانه (الموسيقار)، المجيء، والمشاركة في تشييع الجثمان. كان من الممكن أن يكون هو المقتول. كتب الله له عمرًا جديدًا، فهل نحرمه نحن إياه. رحم الله الغضنفر.. علينا أن نتقبّل النهاية.. مهما كانت صعبة وقاسية.

أصحاب القبو وأهله، وبينهم الجسد السجّى على سريره، يستقبلون بعد أقل من ساعة موسيقار الليلة الاخيرة في حياة غضنفرهم، عظّم اللهُ ساعةَ الفراق، يدخل الموسيقار الغرفة، مرتديًا الاسود، يُدني وجهه من وجه الغضنفر، تمرّ بخاطره اللحظات المُرعبة الاخيرة في هذه الليلة المُظلمة الظالمة، إنه لا يعرف ماذا يفعل، كان بالإمكان أن يكون هو المُسجّى في غرفة أخرى ومكان آخر، إلا أن الله ستر. رَحمهُ الله كان يُحبّ الموسيقى، أراد طوال حياته أن يكون موسيقيًا.. حُلم الغضنفر دمّره، ودمّر كلّ ما حوله، لو وجد اليد الحانية ما فعل كلّ ما فعل، وما وقعت حوادث سير قاتلة ولا.. وقع أناس من أعاليهم المرعبة الرهيبة، بل ما غيّبت نار الحياة أناسًا أبرياء أوقعتهم حظوظهم ومصائرهم في بوتقته الملتهبة.

الصمّت يرين على الوجوه مجدّدًا. الموسيقار الضيف يشعر بأصداء موسيقية تأتي من بعيد، تمتلئ أذناه بالانغام والالحان، إنها تحمل نكهة الرحيل والنهاية، يتوجّه نحو البيانو المُسجّى هناك في إحدى زوايا الغرفة، متخطّيًا الجميع يتوقّف قريبًا منه مثل غضنفر حنون، يتّخذ مَجلسه لصقه، يمُدّ يده الاولى، يُمرّرُها على عدد من مفاتيحه، يرسل البيانو أنغامًا جنائزية، تتوقّف يد الموسيقار لحظة خاطفة لتمتد يدُه الأخرى كأنما هي تودّ مساعدتها، تمتدُّ اليدان معًا وفي آنٍ واحد. تنطلق الأنغام ما بين الرهبة القاتلة والفرح الحيّ، تهتز الغُرفة، يهتزّ وجه الغضنفر، لأول مرة يهتز، ولآخر مرة للأسف. لقد أغلقت الصفحة الاخيرة في كتاب حياته، شعور غامض يخيّم على وجوه مرتدي البدلات السوداء، "لو انطلقت هذه الالحان والانغام في بداية حياته لما كانت هذه نهايته"، توحي الوجوه دون أن تنطق، ويندفع الجميع في إتمام الترتيبات الجنائزية، لقد تأكدوا أن الغضنفر الرهيب لم يعد هنا بينهم، وأنه غادرهم تاركًا لهم حُلمًا رائعًا.. عليهم مواصلته حتى ذراه العالية المرتفعة.

بعد إتمام مراسيم الدفن، في الليلة ذاتها، وليس في ضحى اليوم التالي.. كما كان مُرتبًا، نفض كلٌّ مِن المشيّعين غُبار المقبرة عن قدميه، مبتعدًا عنها، ومقتربًا من الحياة وموسيقاها الملازمة الابدية. تلك كانت اللحظة الاصعب في حياة الغضنفر الرهيب.. في حياة الموسيقار المبدع، وفي حياتيّ أخويه وأصدقائهما مِن أصحاب البدلات السوداء.. فقد راح كلٌّ منهم يبحث عن بداية جديدة بعيدة عن سابقتها.. ماضين في طريق الحياة ومسالكِها الخلّابة الغامضة.. الحافلة بالألغاز.. والاسرار أيضًا.

***

قصة: ناجي ظاهر

ما زلت أذكر تلك اللحظة حين التقيت بها في المرة الاخيرة من ذلك الصباح الخريفي، ضباب يتجه نحو الأفق، يحجب الرؤية رويداً رويداً. وكنت غارقا في تأملاتي في واقع الحياة وقلبتُ الأوراق المبعثرة على المنضدة في مكتبي وكانت النافذة الوحيدة في الغرفة مغلقة في الطابق الثاني من البناية، وتردد وقع اقدام خفيفة وهي تصعد الدرج وتقترب الصوت روداً رويداً من الغرفة، فجأة انفتح الباب، ترددتْ في وقفته قبل الدخول ثم خطوت الى الداخل ووقفتْ قرب الباب الخارجي للغرفة كانت تبدو عليها الحيرة. ولم يكن على وجهها مرحها المألوف، وكانت صورة وجهها تلوح بسر ترتبط به أغوار نفسها وكانت هذه النفس كأنها مرعوبة او مهمومه لم أكن انتظر مجيئها، وقد شعرت بفرح ممزوج بقلق لمجرد دخولها الى غرفة المكتب.

- في البداية بدا عليٌ التردد وعدت اهز رأسي بقلق، أمِطْتُ اللثام عن مخاوفي.

- وقفتُ خلف المنضدة واحدى يديَ في جيب السروال والثاني مرفوعة لأحيها بحرارة وهي لم تستجيب، ضلت واقفة، ويدها اليسرى على خصرها المشبوب.

- قلتُ:

- تفضلي اجلسي،

- بقيت صامتة وتحدق فيٌ، استمريتُ في النظر اليها بهدوء وهي في حالة عصبية حادة، تركتها حتى تقرر بنفسها. بعد برهة، جلستْ على الأريكة القريبة من الباب واتكأتْ بظهرها على المقعد بعد أن أخذتْ نفساً طويلاً دون أن تنبس ببنت شفة! ضمت ساقيها وعيناها محددتان في السقف، كانت تضع شال من الحرير على كتفها.

- سيطرتْ عليٌ في هذه اللحظة شعور بحزن عميق، وأنين الظلمة ووحشتها تتسرب الى قلبي وكياني. لم تكن على عادتها، بعد فترة من الصمت، رددت كلمات لم أفهمها فقد كانت مبهمة وغامضة وهي ترتعش كما ترتعش نبتة وضعت في الماء، وبدا الانفعال واضحا على وجهها. وملامحها أقل صفاء مما كانت منذ أعوام.

قالت جوهرة:

- لم أتِ وحدي اخي طاهر معي وهو جالس مع الاستاذ علي في غرفة الانتظار.

اردفتْ:

- انك تسئ لي عند اصدقائك.

وقد تعجبت من كلامها، وهي تعرفني وتعرف طباعي جيداً، لم اقل شيئا تسئ إليها، وكانت تحكي بطريقة تود ان تسمعها وتشعرك بأنها ضائعة الحق في الحياة..

كدت اسمع دقات قلبها لعنفها، كانت كئيبة تلفها هالة من الحزن وتبدو متعبة ومرهقة بسبب مرض غريب أَلِمَ بها. كان الموقف صعبا ًماذا اقول لهذه الانسانة التي عرفتها مناضلة صلبة مثقفة لا تستكين وتضج بالحيوية والتألق وتستقطب الاهتمام. كنت حائرا لم اتفوه بكلمة.

في تلك اللحظة، نظرت إليها بدهشة، وكأنني رأيتها لأول مرة. يطاردها الحزن في كل مكان، ويحيط بها، ويدور حولها، دون أن يدمرها بضربة من مخالبه، أخذتُ أراقبها مراقبة المكتشف الذي يحاول معرفة الحقيقة.

- حاولتُ ان اغير مسار اللقاء وتفكيري لا زال مضطرباً منذ اللحظة الأولى من لقائي بها، سحبت نفسا عميقا بعدما فكرت أن أغير مجرى الكلام عساني ان أستطيع التغلب على حالتي وتقليل مساحة الحزن الذي تلبسني كقوة خارقة.

- ركنت الى الهدوء وزال عني التوتر، ولكن الأفكار والذكريات ظلت تتوالى علىٌ.

كنت أفكر فيما إذا مصارحتي لها بما يجول في خاطري تخفف من حدة توترها.

قلت لها بأعصاب هادئة:

- عندما تتوترين تتراءى لي انك أكثر جمالا!

يبدو أنني عندما نطقت هذه العبارة بدت كما لو كانت مغازلة أكثر مما كانت ملاطفة الجو.

لقد شعرتُ أنها تغيرت مشاعرها ورسمت على وجهها علامات الرضا لأول مرة في هذا اللقاء ربما شعرتْ بالسعادة. شعرتُ بهدوء داخلي عميق تسري في جسمها.

ونقطة البدء في تعارفنا معا، كانت صباح ذلك اليوم من الأيام، حين دخلتُ بيت أم سلام وكنت على موعد اللقاء بها في مهمة حزبية. كانت جوهرة تجلس في الغرفة التي تطل نافذتها على الباب وقد لمحتْ وجهي وعرفتْ من خلال تجربتها الحزبية على أنني شخص غير عادي، هكذا هي قالت لي، بعد أن تسلمتُ منها رسالة تطلبْ تنظيم عملها مع المنظمة

كانت جوهرة زهرة جميلة، فاتنة، بشرتها ناعمة بلون بياض السكر ممشوقة القوام، وشعرها الشقراء مسدول على كتفيها، كانت تتميز ببراعة مشيتها المتناسقة واناقة ازيائها، صحيح انها امرأة حادة المزاج، ولكن انسانة طيب القلب وكريمة النفس، شخصية ذكية وشديدة الحضور فهي كانت تتمتع بثقة بالنفس، وهي سيدة مشهورة على نطاق مدينتها. ويبدو للمرء في الوهلة الأولى عندما يقع المرء بصره عليها أنها ليست بحاجة إلى أحد، ظلت محبة للناس، قريبة منهم، تحاول أن تقدم لهم ما تستطيع وهي تسعى لمساعدة المحتاجين.

هذه المناضلة التي لم تنقطع عن المعرفة وعن النضال السياسي خلال المراحل الصعبة والخطرة التي يعجز القلم عن وصفه.

كانت تدخل الى غرفتها تقضي ساعات عديدة منكبا على الكتب. وكانت لها مكتبة عامرة بمختلف الكتب الادبية، والفلسفية، والاقتصادية، وغيرها.

صقلت جوهرة فكرها وشحذت مواهبها وانارت بصيرتها، فلم يعد مجرد انسان عادي تساق في خضم الحياة دون ارادة ووعي وإنما كانت في مجمل حياتها السابقة تتناول المسائل بالتفكير والتحليل والتدقيق والتأمل وقد قابلتها أيام عصيبة وواجهت ظروف شديدة التعقيد بعد حملات الاعتقالات التي شنت على رفاقها. فظن البعض أنها لا تقدر الصمود أمام هذه المصاعب، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، بل تخطت كل هذه الصعوبات والعقبات التي اعترضت طريقها وخرجت من المآزق كافة بطريقة ذكية.

ولكن في الحملة الاخيرة قبل ثلاثة عقود ونيف أصيبت بصدمة كبيرة بعد أن تعرضت الى التهديد والوعيد والتعذيب النفسي والبدني من قبل أجهزة الأمن والمخابرات للسلطة العراقية اثناء اعتقالها في بغداد في نهاية الثمانينات من القرن العشرين. حولت حياتها الى تعاسة، ومرهقة للغاية.

لقد كانت على مدى الأعوام الماضية وتأخذها يومياً حمماً من الحزن وتنتابها نوبات الخوف واليأس وخيبة الأمل وهي غير مقتنعة بما يقال لها، وهي تصر على ما تتخيلها هي واقعية وهذا ليس مرض كما يشاع عنها. ولا تشعر بالرضا والسعادة وتحولت حياتها ومن حولها الى جحيم منذ فترة طويلة وفي بعض الاحيان يساعدها الحظ ينمو ببطء وتعود إلى حالتها الطبيعية، في هذه اللحظات الجميلة تطل خيالاتها من عقلها الباطن وتهيمن الخوف مرة اخرى.

تسبب تخيلاتها التي تتكلم عنها ضيقاً لمن حولها وفي بعض الأحيان ما يثير سخريّةَ أبنائها. يصفها ابنها الأكبر بأنها متعبة بسبب توترها وخيالاتها.

خلال هذه السنوات ها هي تعيش الحالة نفسها وفي عينيها جفت الدموع، لا تزال تعاني من الخوف القديم الجديد، فقد خارت قواها وامتلأت رأسها بأفكار من نسج خيالها. وغالباً تنقبض قلبها وتدخل غرفتها وتغلق الباب والشبابيك على نفسها من شدة القلق. إن القلق ضلٌت تنهشها طوال هذه الفترة.

كما هو معروف أن الرأس تفرز عند التوتر الشديد دهوناً ومواد أخرى، وتساعد الدموع على إخراجها بعدها يشعر المرء بالهدوء، أما جوهرة كانت تحتقن الدموع في عينيها وتزداد التوتر.

في بعض الليالي، تستولي عليها كآبة غريبة. تأخَذَهُا عَلَى حِينِ غِرَّةٍ، ويستبد بها خوف، تشعر أنها الوحيدة، قد هجرها صديقاتها واصدقائها جميعا معانيا من اضطراب عميق دون تعرف لماذا تحدث لها. دون تدرك أنها ابتعدت عن العالم من شدة الخوف بعد مرضها.

تتحدث مع نفسها وتقول:

- لا أحد يزورني، كما لو كانوا نسوني، كما كنت، حقا، غريباً عنهم!

- نعم الجميع هجروني، بقيت وحيداً اصارع هؤلاء الحيتان، وحتى في بيتي لا أشعر بالراحة.

يُعدّ اضطراب الوهم من الأمراض النفسية المصنّفة تحت اضطرابات الذهان، وهو مرض يعاني فيه الشخص من مشكلة في إدراك الحقيقة، لا تدرك جوهرة سبب هذا الأسى الذي يزحف الى داخلها، وأن ما تعاني منها ليس مرضًا بحدّ ذاته، والاصعب من حولها لا يفهمونها وقد رفضت العلاج النفسي، مما اضطر أحد أقاربها طرح مرضها على طبيب الأمراض النفسية وكتب لها الحبوب، واخيراً أبدى استعدادها للعلاج الدوائي، وبعد أن تناول الأقراص، بدأت تقوم بتنظيم ما تدور في رأسها في فترة بسيطة وقد ساعدها على التهدئة في السنة الماضية، وأقلعت عن التخيلات والاوهام وبدأت تمارس حياتها بشكل طبيعي.

***

سهيل الزهاوي

لـِــكُــلِ أُفْــقٍ ... أســارِيــرٌ وأضــواءُ

وأفــقُ حَـــرفِــكَ ، فـي الأزمـان وَضّـاءُ

*

لَــمّا انْـتَـقَـيْـتَ الــقوافي كُــنتَ فـارِسَـهـا

في النّسْجِ حتى زَهَتْ في الوصفِ أجْواءُ

*

روافِـدُ الــتٍـبْـرِ ، مِـن يـنبوعِكَ انـبَثَـقـتْ

لــلـقــلـــب نــورٌ .... ولـلـظــمآن إرْواءُ

*

يا شاغِـلَ الـناسِ ، في سِحـْـر البيان وقد

شــــاعـَـتْ بــنــهـجـِـك ، اخــبارٌ وأنْـباءُ

*

وَظَّــفْـتَ ، مِـن مُعجم الألفاظِ ما نَدَرَتْ

ايـْــقَــظْتَ فـي ذِكْــرِها مَــنْ فـيه إغْـفاءُ

*

( انـامُ مِــلئ جــفـونــي عن شـوارِدِها )

أجـَـلْ ....لــهـا أنـتَ ، والإبــداعُ آلاءُ

*

إنّ انــسجــامَ الــمعاني ، في صياغـتـِها

مِــثــلُ الــقِــلادَةِ ، رَصْفُ الــدّرِ إيــماءُ

*

سُــمْــرُ الــقَنا مَضْربُ الأمثالِ صَوْلتُهـا

وفــــي هِــجــائـكَ ، لــلأضْــدادِ إدمـاءُ

*

ذو الـعقـل ، إنْ بـَـلَغ َالنـبوغُ بــه العُلا

فَــحِــكْـمَةُ الـرأي ، تـوثــيــقٌ وإدلاءُ

*

بـَـلَغـْـتَ فـــي حِكْمَة الأشــعار مَرتَبةً

أرّخْــتَ مَــجْـدا ، به الأهدافُ أضواءُ

*

(أنا الـذي نظرَ الأعـمى الى أدبي)

عَــزّزْتَ نـفسَكَ حـيثُ الحَسْمُ إجْـراءُ

*

مُــذْ جالَ فــيك شُــعورُ العَـزْمِ مُتّـقِدا

الســــيفُ مُـنـصَقـِلٌ، والشِعرُ إرسـاءُ

*

لا يـَذْوي غُـصنٌ ، وَجَـذْرٌ فيه يَرْفِدُه

جُـــودُ الــعـطاءِ ، لــه نَـسْغٌ وإثْـراءُ

*

( الــخـيلُ واللـيلُ والبــيداءُ تعرفني)

أعـــلنـْـتَ فيــهـا مَـسيراً ، فيه إحماءُ

*

أبـَـيْــتَ أنْ تُـنـشِدَ الممدوحَ مُنـتَـصِبا

حتى اسْتَـويتَ جُـلوسا ً،لا كما شاءوا

*

يــبـقى السـُّـموُ بِكبْرِ النـفس مُـؤتـلقاً

لا فــي الــبَـدانـَةِ ، أوْ مــا جـادَ آباءُ

*

يا مُـودِعـاً ، في ثنايا القلب سِـيرَتـَه

عـلى خُـطاكَ ، لنا فـي الشعرِ إسْراءُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

من (الحالمةْ)

يُسافرُ حرفي أثيراً

يُذيبُ الفراغَ الذي

امتدَّ أوديةً هائمة ْ

*

وايقاع َقيعانِ يأتيه ِ

من كل سِحْر ٍ عتيق ٍ

وعطر الرضى

بعناق ِ الطبيعة ِ للقادمين َ

صبايا شموس ٍ

بدفءِ الوداد ِلَهُ مُلْهِمَة ْ !

*

وأفئدة ً بالأهازيج ِبَشَّتْ

تُحَنِّي خُطَاها لهُ

ووجهها صِدْقاً صريح الهوى

يُحَيِّيهِ :أهلاً وسهلاً

هنا (العاصمة ْ)!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي – اليمن

 

هذا العراقُ وما أدراكَ معناهُ

شعبٌ عريقٌ ونُـبـلٌ في سـجاياهُ

*

به الحضاراتُ تحكي عِـزّ غابرِهِ

وحاضرٌ يشـتكي بـؤسًا مُحـــيّاهُ

*

كان العراقُ عراقُ الخيرِ لي وطنًا

واليـومَ تــاهَ وقَـبـلَ الـيـوم تَـيّــاهُ

*

فالحاكمون به بلـواهُ مُـذْ حكموا

بــه تجـلّـتْ عِـيـانًـا عـنـدَ مــرآهُ

*

فلا ضميرُ ولا دينٌ لِـمَنْ حكموا

ولا رجـالٌ وإنْ عُــدّوا فأشـبـاهُ

*

ذمّـوا الظروفَ وقالوا انّها سببٌ

هـذا الـتردي لها لسـنا فـعـلـناهُ

*

قلتُ النفوسُ تردّتْ فهي في دركٍ

يا أرذلَ الخلقِ أين الـحُـرُّ الـقـاهُ

*

مُـذْ كانَ لليـومِ حُـكامٌ هُـمُ خَـوَلٌ

طـبعٌ تَـطـبَّـعَ لا عِــــزٌّ ولا جــاهُ

*

صنيعةُ الغربِ باتَ الحُكمُ شهوتَهمْ

بـاعوا الـبلادَ لـهُ حسـبي هـو اللهُ

*

والشعبُ وا أسـفي ما زال في حُلُمٍ

متى يُـفـيـقُ يـرى للـمجـدِ مَـرقـاهُ

*

هـذا العراقُ وحُـكّامٌ بـهِ انـحـدروا

الى الـحضيضِ وفي الديجورِ مأواهُ

*

أدمى فـؤادي وقد عاينتُ حالتَهُ

وحـالَ شـعبٍ غـدا في الوهمِ مرعاهُ

*

فهو الطريدةُ يـغدو عـند سـكرتِهمْ

يـدورُ في فـلَـكٍ لا يــدري مَـغـــزاهُ

*

أرى عراقي عـراقَ الخيرِ مُـنتهبًا

شـعبٌ يُـعاني وحُكْمُ الـجـورِ أعـياهُ

*

لكـنَّ لي أمــــلًا يـومًـا يـعـودُ بـه

رجـالُ صـدقٍ الى الـعلـياءِ مـرقـاهُ

*

يبقى العراقُ عراقي والـدُنى دُولٌ

حتى وإنْ طالَ في الـوعـثاءِ مَـسراهُ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

الثلاثاء في 3 كانون ثاني 2023

لم يفلح معلما الإسلامية واللغة العربية في ردع بعض التلاميذ عند (حَلَّتِهم) عندما شاهدا هؤلاء ينبزون زميلهم (محيسن) لمرات متكررة بــــــ (إبن خيرية العَرجَه) فيذهب منكسر النفس إلى أمه، لا يجرؤ على إخبارها بما نبزوه، تلك الأم التي كانتْ (خَبَّازةً) ماهرةً تُخرِجُ من تنور طينها العراقي، رغيفَ الخبزِ الحارِ الذي تفوحُ رائحتُهُ فتشمُها الروح . كانت خيرية تذهبُ لبيعِ خبزِها بعبائتِها الباهتةِ المتهرئةِ فتفترشُ مكانَها في السوقِ الكبير، (محيسن) هو ابنها الوحيد لأبٍ كان عاملَ بناءٍ ماتَ إثرَ مرضٍ عضال. تحصلَ محيسن بصعوبة وتعثر على شهادة الابتدائية ... قالت خيرية يوماً لجارتها: (أهم شي محيسن صار يقره ويكتب) فطريق التعليم طويل ومهنتي لا تسمح بتوفير المال للدروس الخصوصية، عمل محيسن بائعاً للماء والمناديل في تقاطعات السيارات حتى أصبحَ وجههُ خشناً كالحاً بحرارة الصيف الحارق وبرودة الجو القارس، كان أكثرُ ما يحزُ في نفسه عندما يسأله أحدهم هذا السؤال: ابن من أنت؟ فيجيب أنا ابن خيرية الخبازة، فيباغته السائل (خيرية العرجه غير؟) فيجيب على استحياءٍ وخجلٍ (نعم) وتكمنُ الحيرةُ في نفسه ، فيتساءل لماذا تُعرف أمي بعاهتها لا بمهنتها ؟

يا لهذا المجتمع المتنمر!! .

بعد وفاة خيرية استقر محيسن الفتى الشاب اليافع بصندوقه الخشبي وعلب دهانه في باب المعظم (مُجَّمع الكليات) وهو يومئ للمارة من طلاب الجامعة والأساتذة والموظفين وبقية المارة بعبارة يكررها (أصبغ حذاءك بألف / أصبغ حذاءك بألف) كان يشعر بمرارة الحزن تسيل من قلبه، وهو يرى من بعمره من الطلاب وهم يتأبطون محاضراتهم متأنقين نظيفي الملابس، وهم يرتادون الجامعة، فيسحب نفساً عميقاً من دخان سجارته، وهو يتعوذ من الشيطان ويحمد الله على نعمة العافية، في يوم الجمعة يكون العمل قليلاً ؛ فيتصفح بعض الصحف والمجلات من (بسطية أبو جواد) جاره في الرصيف، وأبو جواد هذا رجلٌ مسنٌ، قضى شطرَ عمرهِ في حربِ الثمانينيات وبضعةِ سنواتٍ في الأسر، ما يميز أبي جواد، أن شاربه مصفراً جراءَ إفراطه في التدخين ... ناوله (أبو جواد) يوماً مجلةً، فقال له

محيسن: إقرأ هذا النصَ المتمرد للشاعر عدنان الصائغ، فكان النص الشعري يقول:

نظرَ الأعرجُ إلى السماء ...

وهتفَ بغضب ...

أيها الربُ ..

إذا لم يكنْ لديكَ طينٌ كافٍ ..

فعلامَ تعجلتَ في تكويني ؟!!.

مضت السنون ومحيسن يصبغُ أحذيةَ المارة، اكتشفَ من خلالِ مهنتهِ في صباغة الأحذية أنَّ كثيراً من الناس يَحرصونَ على تلميعِ أحذيتِهم لكنهم لا يَحرصونَ على تلميعِ رؤوسهم الصدئة، ومن جراءِ هذه المهنة، اعتادَ محيسن النظرَ إلى الأرضِ والأحذية ِ، فكانتِ الأرضُ والأحذيةُ أقربَ الأشياءِ إلى عينيه، لكنَّ الأقربَ إلى قلبه، وروحه هي الأرضُ التي أكلَ منها رغيفَ خُبزِ أمهِ الحار.  

***

مثنى كاظم صادق

  

الشّوقُ غالبني ومثلي يَضعفُ

إذما الفؤادُ بهِ اشتياقُكِ يَعصِفُ

*

كلُّ التّصبّرِ ليسَ ينفعُ عاشقًا

لمّا سهامُكِ يا جميلةُ تُحذَفُ

*

النّاسُ لا تدري بحالي ليتَ مَن

لامَ الأحبّةَ قبل لومِهِ يعطفُ

*

ليتَ العواذلَ واللّوائمَ ليتَهمْ

فهموا الهوى مِن قَبلِ منْهُ تأفّفوا

*

يا ربِّيَ الْطُفْ بالأحبّةِ مَن لنا

يا ربُّ إلّا أنتَ فينا يلطفُ

*

تمضي السّنينُ وحبُّها لي سيّدٌ

لا ما استراحَ ولا نوى يتوقّفُ

*

تمضي السّنينُ وحبُّها بي صامدٌ

ما كان يومًا يلتوي أو يَتلَفُ

*

تمضي سنينٌ وهْي دائي والدّوا

يشفي فؤادي خمرُها لو يُرشَفُ

*

كم كان صعبًا أن أُكتّمَ لوعةً

والحبُّ منّي ظاهرٌ يتكشّفُ

*

ضاقت بِيَ الآمالُ لكن ها أنا

أمشي طريقَ الحبِّ لا أتخوّفُ

*

أيكونُ حبُّكِ يا حبيبةُ صُدفةً

يا خيرَ حبٍّ في حياتي أصدفُ

*

أيكونُ حبُّكِ كالأماني نجمةً

وَيَدي أمدُّ لِنَجمَةٍ لا تُقطَفُ

*

سأظلُّ أُنشدُ في الغرامِ قصائدي

والحبُّ من فرطِ الصّبابةِ أنزِفُ

*

سيظلُّ وعدي يا حبيبةُ صادقًا

مهما مصيري في الهوى لا أخلفُ

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

 

تمرّدْتُ على المَدينة

ليسَ للآهاتِ فيها صَدىٰ

يعيدُ على مَسمَعي بوحَ سريرَتي الحَزنىٰ

وحينَ خانَتْني حانةُ الليل

مع النِساء ...

وعارضاتِ الهَوىٰ

وجرَّدَتْني الخداعَ ألسِنَةُ الشُموع ...

خرَجتُ مُنسلّا بين أوجُهٍ قرمزيّة

أبحثُ في جُيوبي

عن مسبَحةٍ مَنسيّةٍ

وأدعِيةٍ طواها ضَبابُ الذاكرة

**

في أزقّةِ يوتيبوري*

يتوسّدُ الشارعَ حَجَرٌ نَظير

يَكتمُ لونَهَ غَضَبُ الأحذية

إنتَظِر!!

بعدَ بلّةِ مَطَرٍ صَيفية

يُريك بألوانِ قَوسِ قزح

مُؤخّراتِ النِساء

**

تحتَ نُصبِ جوستاف أدولْف**

في ساحةٍ يَعبثُ في أركانِها التأريخ

تكَوّرَ شيخٌ عليهِ ثيابُ دُمىٰ الحُقول

تَهتزُّ يداهُ كالسَنابلِ الخاوية

يُحدّثُ لا مُبالاةَ العابرين

كأنما يسبُّ سخطَ الملائكةَ

لعَقَ من شَفَتيهِ سَكيبَ البيرة

ليَسلِبَ آخرَ زادِ السُكْر

نظرَ الى ابتسامةِ التمثالِ

فاعوَجَّ فكّهُ بضحكةٍ بليدة

دمدمَ ساخراً

مُحترَمٌ لأنك من حَجَر

لو أنتَ مِثلي لنالكَ البُصاق

**

في سُرّةِ يوتيبوري

يَنداحُ مُتنزهُ قَصرِ المَلِك

وتحتَ شَجرةِ تفّاحٍ ألِفَتْ رائِحةَ البشَر

على ضفةِ البُحيرة

سيّدةٌ تفتَرِشُ صَمتَ أحلامِها  

على بساطِ الأورادِ المَنثورة

يَلمعُ في خَصائِلها خَجَلُ الشَمس

ويرقصُ في مُحيّاها انعكاسُ الماء

تلتَذُ بدِفئ جُفونِها

تنأىٰ عن أعينِ القنّاصينْ

نَظرتُ لغَفلتِها ..

أُسائلُ خَيبَتي

تُرىٰ من يَحتَلُّ نَشوتَها العَمياء

**

الرَبيعُ في هذهِ البِلاد

لقيطُ الشتاء

يَدفنُ عارَهُ الصَيف

**

هنا...

الخَريفُ مَحفلُ العُري

حينَ ترمي صبايا الشجرِعفّتَها

تراودُ فيكَ غرائزَ الإناث

تعرضُ فتنَتَها

وانحناءاتِ سيقانِها الملساءْ

تفتحُ أذرُعَها

تهمسُ في نُعاسٍ شَهيّ

لستَ وحدكَ عاشقَ الأجساد

**

يوتيبوري .. ذاتُ الصيف

قارورةُ عِطر

أجسادٌ تثأرُ من ملابسِها

جنائنُها مواقدُ للشواء

دخانُها يَخِفُّ بالنبيذ

أنهارُها من خُمور

ليثملَ فيها التائبونَ من الصَلاة

الباحثونَ عن الفردوسِ بلا دُعاء

المعرضونَ عن أعمارِهم

يوتيبوري .. عِلَّتي

فقد صَحا بيَ عِرقيَ المَجنون

يقودُني الى الظلام..

الظلام ..

ذلكَ الذي يلحَقُ بي ..

من بلادٍ طغىٰ بها الأولياء

**

عادل الحنظل

.....................

* يوتيبوري ثاني كُبريات مدن السويد وقد عشت فيها منذ 2005

** جوستاف أدولف هو مؤسس المدينة، وينتصب تمثاله في ساحة برونز باركن المركزية والتي يسرح فيها المدمنون على الكحول بهيئاتهم الرثّة.

 

اهتزاز الدواخل يلطم الكريات ببعضها

في بؤرة الجسد.. يتكوم الألم

كل الأعضاء على أهبة التشييع؟

خائن هذا الحلم الرافض الاستحمام..

في طست النهار البارد..

خلاصا من اعوجاج الأحداث

الجسد أيضا خائن.. يرتدي معاطف أكبر من حجمه

فتتأرجح الأزرار بين اليمين واليسار

ناسية مشاق السير وما يتقاطر من سخافات على الجبهة

الجوع خائن.. الفقر كافر.. فمتى يعلن توبته

يكسر أصنام الوهم الـ يرتدي بذلته العسكرية

مزهوا بنجماته المتلألئة

غير عابيء بظلال الليل المتساقطة؟

*

تتقرفص السنون أمامي.. تسأل: وماذا بعد؟

الصفحات رمادية.. تسحب النهارات نحو حارات ضيقة

ونوافذ تفوح منها روائح الدخان.. والموت

كثير من الغموض يلف دروس التاريخ

والجغرافيا ليست مثقفة بقدر يجعل التضاريس

تفك لغز الأهرامات.. وأساطير مجرات

تغلغت في البحر.. قبل وبعد سكوت المدافع

*

الزجاجة رمادية..

تختصر مكونات النظام الدولي.. الإنسان الآلي

والطفل ذي الأربعة رؤوس

عند الأبواب المفغورة.. والمغفورة

البلاد تبيع الأحصنة.. لتبتاع ذلا وكثير مهازل

وأخبار الموت تتنزل عارية كالهواء

تغسل مناجل قطعت رقاب السنابل الناضرة

عمال النظافة يطاردون أقذار المدينة

من أعماق الظلمة.. حتى البياض المتربع في السفح

الأشعة تنفي وجود معادن.. كل ما هنالك=

مثقف يهدر الصحيفة

فيلسوف يتاجر بالمدينة الفاضلة

فنان يزوّر تواقيع اللوحات

ممثل ينثر المسرحية في خواء

بائع الفول.. المسجد.. المكتبة

وثرثرات المقاهي

لماذا لا أنام؟

بوصلة الرأس مكتظة بالرسوبيات

وتعلمون.. للقطيع تقاليده

له طقوس بدونها.. لا تتغير إعلانات الجدران

ولا يمسح وجه الوليد المثقل بالإسفلت

*

الأمس لا معنى له في أجندة مدرس

باع كتبه القديمة ليبتاع دواء السعال

حافل عند جارنا الذي يغير سيارته كل سنة

لتظل الأجنة عالقة بالأرحام

فلا مكان لها في مدينة

تعيش على دماء الفلذات كما العقارب

وللغد ألف معنى = هكذا يقول الفلكيون

الخوف.. القلق.. الجزع.. الهلع.. الانتظار

ثم البداية والنهاية

عند مدخل البداية.. محطات احتراق..

الغربان تتجرأ على نقر الرأس السوداء

ترغب في أكل الديدان.. الناخرة للدماغ

الأورام دثرته بوهم دافيء..

فظل مخزنا مضاء بنار استسلام

*

ألم يسري كالسم تحت الجلد

ودروس المدرسة تصطك

قوانين حمورابي..

وصول الفنيقيين والقرطاجيين

الفتح الإسلامي

تمثال الإله بعل ينتصب.. وأنهار أنا

وماذا بعد؟

*

أدخل مزيج الألوان والأشكال

بحثا عن معبد أقرأ فيه تراتيل القيامة

كل الساحات والميادين في علية الرأس ملأى بالموتى

مكتظة بالقيود.. شعارات القبور المجاورة:

الظلمة.. ورائحة الأكفان

أجدادنا فتحوا العالم.. نحن أغلقنا النوافذ

وقلنا= لبثنا يوما أو بعض يوم

ثم تناوبنا على تدخين سيجارة

قالت المرآة =عند مدخل الجنون بحيرة أثرية للزينة..

والاغتسال من مخلفات التاريخ

قال الجدار= ما بالك تهذين.. الميادين واثقة من الرؤيا..

ومن صحن الفول المغمس بالثرثرات الحزينة

أعمدة النور تصيح = اصمتوا =

المدينة تتآكل.. احفروا.. احفروا

صحن الفول يعادل وجها لا يحمل تراميم..؟

*

الزحام والعلل.. والأرق الملعون يخنق مداخل الشعر

القوافي باردة.. لا تذيب صقيع الروماتيزم

الجوع يلتهم ما تبقى.. وماذا بعد؟

لا أحد ينسى أول درس في الحب

أول قبلة سرقها تحت إبط الجدار

فكيف ننسى أول نقمة.. وآخر لعنة؟

أن تقتات الحقن.. تعتاش على الحبوب المهدئة

لن يمنحك هامش فسحة.. استراحة محارب

كلنا محاربون.. ما دامت قوى العالم

عاجزة عن مراقبة الظنون

*

وما ذا بعد؟

المرآة تنظر في اشمئزاز.. لا.. في عطف وشفقة..

لالالا.. في نفور تحدقني

كفرا بحواراتي الهوجاء

الآن علي أخذ حقنة.. لترقيق الضغط

و أخرى.. لتشذيب السكر

بعد قليل حقنة.. لتهدئة هيجان الغدة

ثم حقنة.. لتثمل الأمعاء الثائرة

حتى يرتدي النبض رداءه المستعار !

*

سأمعن النظر.. عندما أفقد البصر

سأركز مليا.. عندما تبيض الذاكرة

جدي كان بصره آية.. ولم ينتبه إلى القبعات الحمر

حين هدت صخرة الذكريات.. حيث كان يلتقي حبيبته

مازال يحضن المكان.. ويبكي

يشم دخانها ليستمد حيوية الموت

أبي كان ذكيا.. شديد التركيز

لم ينتبه إلى دموعه المتساقطة.. أسفل شعيراته الشعثاء

الريح الشرقية تحارب الغربية.. لكنه لم يحترز..

لزمهريرها وهو يضرب قلب الدار

أشعر بعطش قاتل..

سأوقف زحف الأفكار.. تكسير الأحجار

جرعات متلاحقة.. متنافرة..

سأغادر رأسي الفسيحة.. الأمسيات الباهتة

وأغاني الطرب

الثلج يتوسد مسام المدينة

الصمت يوغل في المجهول

وحرارة الرصيف عاجزة عن تدفئة الحرقة

*

وماذا بعد؟

للريح صوت أرق من نشيجي

يغتبط وهو يداعب الطفولة

يهز شوارب فحولة قابعة في كل مكان

وأنا أمام الزجاجة.. أنتظر انتهاء الدوام.. الديمومة

لا أفكر مطلقا في إجازة

علاوة على مهمة زخ العرق على الأزرار

على عبور لا منته بين أطراف الزجاج

هذه علبة تسعنا جميعا.. فيها نلعب لعبة الضجر

السباق في طبقات التفاهة.. ارتقاء الشرود والذهول

السوقية.. العنجهية.. تحرير الأوطان.. قتل الكفار..

وأحيانا =كوماندو = يزحف مثل الدود بين الحروف

عند انتهاء المهمات الصعبة..

يلتقي العشاق.. لتبدأ حصة الغرام

ننسى الوحدة العربية.. داعش.. داحس.. ويكيليكس

جنود الروم.... الخ

هي أطول حصة عربية..

تقدم في المدن المنسية.. والمسافات المتشابكة

*

وما ذا بعد؟

الموت يبث بهاءه.. بخارا ينهض برفق

يدعو الجيران إلى وليمة

هي النهاية كما تنبأ العرافون

فوق رأسي علاقات جدلية.. كشفت بشاعة اليقظة

مددت رأسي بعيدا.. نحو برنامج حداثي

نخرت ضيوفه.. صور ضاعت طراوتها

مزهرية كبيرة ضاقت بالغبار

وكؤوس اكتسبت أهميتها أمام الكاميرا

سأقرض الزجاج انتقاما

أكسر الأخبار تعرية.. لكل الهياكل المزهوة كذبا

*

أينع الصمت

سألقي حرفي.. وأرحل لليلة قادمة

و دوام عليل في باحة الزار

عيناي على الإيقاع

وجعي على نبرات الكيبورد

ورأسي أرجوحة فضائية !

***

مالكة حبرشيد

الفصل الثاني من رواية: غابات الإسمنت

استقبلني السجن الكبير بأجوائه المعتمة ووجوه السجينات المتباينة، كما لو أنّني رأيتها منذ زمن بعيدٍ، ثم توارت وعادت ثانية في أحد الأحلام المبهمة الكئيبة، كان النور في ذلك المكان خافتا؛ لكنني على الرغم من ذلك، ميزت بين وجوه عدّة؛ وجه متعب بدت عليه آثار السجن، وآخر ناضر كأن صاحبته لم تعانِ في هذا المكان المغلق أي همّ.

السجن نفسه بضوئه الخافت، يرسم وجوهنا كيفما يشاء، بألوان البؤس والسرور والخوف والنضرة والذبول بشتى الألوان، ومن مفارقات القدر أن نجد وجها ريّان المحيّا متهلل الأسارير لمحكومة بالإعدام، وآخر متعبا لمن حُكِم لبضعة أشهر.

مفارقة عجيبة غريبة.

كنت قبل صدور الحكم عليّ قد قضيت في الحجز المؤقت بضعة أيام لغرض التحقيق، وجدتُ في الغرفة ثلاث نساء سبقنني: جميلة وعادلة وكريمة عبد الحي، جميلة وعادلة وقعتا في فخ الشرطة في يوم واحد وفي المكان ذاته، بتهمة تهريب العملة وتزويرها، هما تعترفان بالتهمة ولا تنكرانها، تدخنان ويأتيهما أحسن طعام، لا أشك في كرمهما وتفاؤلهما، أما كريمة فلها قصة أخرى تختلف تماما؛ لكنها تشبه قصتي وتفصيلاتها المثيرة أو المملّة، ويبدو هذا كافيا ليجعلها صديقتي، كنت آمل أن أجدها في سجن النساء إذا سبقتني؛ لكن التحقيق في قضيتي سار بسرعة كبيرة، لأن أهل زوجي أغروا الصحافة وبعض وسائل الإعلام للتحريض، غير أن القضاء لم يتأثر بما راح ينشره الإعلام من وصف لي وتحريض عليّ.

انتشرت قصص وأحاديث لجعل القتيل هو الضحيّة.

قيل إنّه متزوّج من الفتاة التي ضبطتها معه في الشّقّة.

واتهمتني إشاعة أنني سهّلت له الأمر، جعلوني قوّ...!

وذهبت بعض التخرّصات إلى أنّ عملية القتل حدثت بسبب الاختلاف في المصالح، لأن زواجنا كان مبنيا على صفقة تجارية.

أمّا كريمة فلم تأكلها الصحافة ولا الشارع العام بالأقاويل، لأنّ زوجها شخص عادي لا ينتمي للطبقة الأرستقراطيّة التي تمدّ مخالبها إلى جهاز الدولة وتحشر نفسها في قرارات الحكومة.

كريمة نفسها تنتمي للطبقة دون الوسطى.

فلم يهيّج فعلها المجتمع؛ سوى حديث عابر لم يشغل الناس.

لقد قالت لي إنها يئست من الحياة بعد أن وقع عليها حكم بالنشوز من زوجها الثاني، اتضح لها بعد تحرٍّ دقيق أن لزوجها الأوّل يدًا في موضوع النشوز، سألتها بفضول:

-       كيف عرفتِ؟

أجابت إن زوجها الثاني الذي كان محلّلا اعترف لها، قصّة يمكن أن تعيد نفسها في أيّ زمان ومكان ولا تبعث على الملل إطلاقا على الرغم من أننا نعرفها من قبل.

كان كل شيء يسير على ما يرام حتى اكتشفتْ نقطة ضعف زوجها الأول، عصبي المزاج مقامر لا يأوي إلى البيت إلا بضع ساعات كأنه في سفر دائم.

خلاف يومي.

جحيم.

صراخ.

زاد الأمر سوءا أنها رزقت منه بطفلين تصفهما كأنهما وردتان، وتضمّ يديها إلى صدرها ثم تسحب نفسًا عميقا كأنها تشمّ وردة بين يديها.

وقد حصلت بينهما خلافات لمرات ومرات، وفي كلّ مرة يتحقق الطلاق، قال لها بعد أن رأت ندمه في الثالثة، أنه يعرف محلّلا يمكن أن يصبح زوجها مدة ثم يطلقها.

هكذا بيسر وسهولة اقتنعت..

أقسمَ لها أنه لن يعود لغضبه.

وما عليها إلّا أن تمتثل لطلبه، لا إكراما لعينيه بل كرمى للولدين..

تلك هي نقطة ضعفها..

والطعم الذي بلعته من دون أن تعي أنّه سمّ زعاف.

وافقتْ ولم تعرف أن زوجها السابق ذا الطلقات الثلاث، كان يمارس هذه التجارة مع جماعة من الأغنياء، تزوج وطلق وكانت بعض زوجاته يعدن إليه وأخريات لا يرجعن.. وفق هوى التجار وسوق الرغبات السائدة، ولأن كريمة استفزته فقد ركب رأسه العناد.. هكذا جرت الأمور حتى جاء محلّل رفض الطلاق، أراد زوجها أن ينتقم منها فاتفقا على أن يصعّد الخلاف بينهما إلى درجة أن يحصل الزوج الجديد على حكم بالنشوز، يبدو أنها لم تكن رائجة في سوق النخاسة، فلم يرق للزوج أن يرجعها بعد الاتفاق مع المحلل فكان النشوز صدمة لها.

نهاية مستقبلها.

ما أقبح الرجل الديوث، الجبان!

فغلى بعروقها الدم، وفار الانتقام بنفسها؛ لم تقصد المحلل بل قصدت زوجها وانتقمت منه، فمن يصدّقها غيري أنا رفيقتها في الحبس على ذمّة التحقيق، وأنا مثلها أدانني المجتمع قبل القضاء؟

لم تكن مغفّلة أو ساذجة، عقلها كبير يزن الأمور، ولا أظنّ غريزة الأمومة تشكّل نقطة ضعفها حين قبلت بالزواج من المحلل للعودة إلى أبي ولديها، فكلّنا نحن النساء في مجتمعاتنا العربية نبقى - بخاصة المطلقات - عرضة لمطامع الرجال حتى يتحقّق الهرب بالزواح، فتجد الواحدة منا نفسها في مأزق جديد؛ وكريمة هي جرح آخر ينزف فينا وما زال ينزف.

غير أنّ لقائي الأوّل معها ورفقتي انتهت حين دخلتْ السجّانة لتطلبني للمحكمة، فغادرتُ التوقيف إلى المحكمة التي كنت متشائمة منها، كنت أتوجس خيفة أن تصدر بحقي أقصى عقوبة وهي الإعدام، تصوّر رسخ في ذهني، أو أنني افترضته لأنني توقعت أن تؤثّر حملة الصحف والإعلام والرأي العام الغاضب في مجرى التحقيق، وربّما يزيدني هذا التصوّر الغريب قلقا حين آوي إلى الفراش وقت النوم؛ إذ حالما أغفو أجدني أحلم أحلاما غريبة:

مشيت في صحراء مترامية الأطراف، فجأة انقلب المشهد من صباح واضح المعالم إلى ليل معتم خال من القمر والنجوم، صورة زوجي وهو يخرج من باطن الأرض وبجنبه ترقد عشيقته التي قتلتها معه يوم الحادث، أراه يمدّ إليّ يديه يدعوني إلى حضنه، اقتربت من دون خوف ولا تردد حتّى أصبحت قريبة منه على بعد خطوات، وقبل أن أصل إليه انشقت الأرض من جديد وابتلعته، وفي أقلّ من لحظات سطعت الشمس من جديد، فالتهبت الرمال بالنار، سقط نيزك أسود من بقايا الليل.. فأحدث حفرة في الأرض، اقتربت منها ووقفت على حافتها، وجدت زوجي داخلها يسترخي جنب ضبع ملطخةٍ ببقع سوداء وحمراء، مربوطة بحبل يقيّد عنقها، انقلب على جنبه، فسمعت للضبع شخيرا يتصاعد نحو رقعة سوداء ما زالت من بقايا الليل، فلم يبق من البقع عليها إلا الحمراء، كان حذرا من أن تستيقظ الضبع لحركته، وضع إصبعه على شفتيه محذّرا، وفتح عقدة الحبل من عنق الضبع بحذر، كأنه في بطئه ينجز عملا يعادل ساعات، فصنع من الحبل على هيئة مشنقة وقفز من الحفرة، طار نحوي وهو يقهقه ويصرخ.

صرختُ بوجهه بغضب: لن تستطيع اللحاق بنا، لن تقدر أن تغادر الحفرة وتعود للحياة، ركضَ فتراجعت، ثقلت رجلاي ورحت أسير إلى الخلف حتى اصطدمت بشيء صلب، فالتفت فإذا بالشرطية خلفي، لا تخافي قالت، واحتضنتي ثم عضتني من أذني محذّرة: لا تخرجي وحدك في الصحراء عند النهار.. أشارت بيدها فانقشعت الشمس وحلّ ظلام دامس، وسألت عند الصباح كريمة: هل سمعتني أصرخ في نومي؟ فأجابت بالنفي.

وفي ليلة تالية اقترب الحبل مني أكثر.. حلم آخر، تأكيد لموتي وتحقيق لأحلام أناس لا أعرفهم يريدونني أن أموت.. أتذكّر الزمن هذه المرّة، إنّه الفجر، بعض الأحلام أنساها حين أستيقظ على صوت الحارسة، ولعلني أتذكّر حلم الفجر والحبل وقت مطلع الشمس، وحدي في غابة، أشجار فقط وسكون، لا صوت ولا حركة، مكان يعجّ بالشّجر والنبات ويضجّ بالصمت ويخلو من الحيوان والطير، أسير بين الحشائش حافية يأكل قدميّ نبات الحرّيق؛ فجأة من شجرة سرو ضخمة منتشرة الأغصان أحسست بشيء ما يلامس هامتي ثم يتدلى أمام وجهي، كانت مشنقة تتدلى من غصنِ ضخم، لم أر أحدا، ظننت زوجي بين الأغصان، وما زال الفراغ والخواء يحيط بالشجر، حبل على رأسي وغابة بصمتها تشبه القبور، فكرت بالهرب فاندفعت أهرول فقفزت المشنقة من الغصن تسبقني .. إنه الموت، بدأت فتحة المشنقة تعبر من هامتي ووجهي إلى عنقي..

التفّت،

ضاقت..

أنفاسي تهدجت،

رحت أصرخ.. صرخت وصرخت من دون جدوى، ثمّ جلست مرعوبة وأنفاسي تتلاحق، كانت جميع السجينات نائمات، ولو كنت أصرخ لسمعنني، ويبدو أن ما خلته صراخا لا يعدو كونه همهمة، لقد حكمت على نفسي بالشنق.. أحلامي قست عليّ ولم ترحمني، غير أن قرار المحكمة جاء رحيما بي، فقد وقفت في قفص الاتهام وخلّفت الخوف ورائي، كما لو أنّي نسيت الكوابيس التي داهمتني كلّ ليلة.

لم يأتِ أحد من أهلي.

جميع أقاربي أعلنوا لخلق الله البراءة منّي؛ إذ رأوا في سلوكي شذوذا، لأنّ الأفضل للمرأة وفق العادات والتقاليد والعرف السائد، أن تلزم الصمت أمام زوجها في كلّ الأحوال: حين يهينها تصمت، وإذا ضربها تصمت، أمّا إذا رأته متلبسا بالخيانة والزنا فما عليها قبل كلّ شيء، إلا أن تكبت بنفسها وتتستر كأنها هي المذنبة، وإلّا ستكون مضغة للأفواه، فكيف بي وقد وجّهت رصاصة نحو زوجي وعشيقته؟

كان الأدّعاء العام قاسيا عليّ.

ومحامي زوجي القتيل محترفا في قلب الحقائق.

أخيرًا راعت لجنة القضاء ظروفي النفسية وردّة فعلي، فأصدر القاضي علي حكمًا بالسجن لثمان سنوات، فتنفست الصعداء.

كذبت أحلامي.

وخابت الكوابيس.

ابتسمت.. نعم.. في عالم خرب لا بد من الابتسامة في وجه الوجع، فالهزيمة لا تليق بالقلوب النقيّة.

***

ذكرى لعيبي

في نصوص اليوم