نصوص أدبية

نصوص أدبية

- انتبه أيّها السيّد. سحق حذاؤك قدمي.

التفت السيّد إلى مصدر الصوت المشبع بالألم والأنين وصرخ:

- ليتني سحقت جسدك يا نذل، كدت تسقطني لولا عصاي وكلبي، يا لك من عبد حقود.

- أقسم لك يا سيّدي، أن حذاءك الجلدي الصلد، المستورد، قد رفس قدمي الحافية.

- لا تقسم أيها الجرذ النتن. أردت عرقلتي بغرض إيذائي وإسقاطي أرضا لأمسي محل سخريّة أمام المارة من أمثالك.

- لا، أيها السيد، أنت الذي أردت إيلامي دون سبب. وكأنّ الواجهة ملكك، والطريق طريقك.

- وتطيل لسانك أيضا. ومهما يكن فأنت لست أهلا للحديث مع أسيادك. هذه عاقبة تقصير المسؤولين عن هذه الواجهة البحريّة الجميلة. كان عليهم أن يخصصوها لنا فقط. أما أنت فإنك تفسد علينا متعة التنزّه. تلوّث نسائم البحر، وتستهلك الأوكسجين دون فائدة.

- أيّها السيّد. بدأت قدمي تؤلمني. انظر إلى كدمات حذاءك الخشن.

و رفع مولود قدمه كي يراها السيّد، لكنه تجاهل الأمر ونهره قائلا:

- الكلاب هي التي ترفع رجلها عند التبوّل.

- أنا وأنت من تراب، ووطننا واحد، ومصيرنا واحد.

- صه، ماذا تهذي يا مغفّل؟ ألا تعلم من أنا؟

انتابت السيّد نوبة قهقهة. بينا طوقت الدهشة ميلود وسمّرته الحيرة.

ـ2ـ

 كان السيّد بدينا، ذا وجنتين متوقدتين كأرجوان الأصيل.على جسده بدلة سوداء براقة كبدلات السحرة، وربطة عنق متدلية على بطنه المنتفخة كبطن حامل في شهرها التاسع. بطيء الخطو كمن يتمشى على كثيف رمل. يتوكأ على عصا بديعة الشكل واللون، وكلبه أمامه.

قبل أيام زاره طبيبه في قصره. وبعد فحصه بدقة وعناية أخبره:

- نسبة الكولسترول عالية، والسكر فوق المعدل.وهذا خطر على حياتك.

- لكنني لم أوقف الدواء يوما.

- لا مفرّ لك من الحمية. الدواء وحده لا ينفعك. الوقاية خير من العلاج يا سيّدي.

 واستفاض الحكيم في الشرح. وكتب له وصفة من الممنوعات، كاللحم والدجاج وطائفة من السكريات، والأطعمة الفاخرة.

- سوء التغدية لا تعني الندرة فقط يا سيّدي، بل الأكل بشراهة، ودون ضوابط. كل ما زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه، يا سيّدي.

 تفحّص السيّد الوصفة. امتقعت سحنته. رمق الحكيم من خلف نظارته، ثم ردّد:

- وماذا آكل إذن؟ لم تدع لي شيئا ممّا أشتهي.

- عليك بأكل النخالة، والإكثار من شرب الماء، والمشي كل يوم، والأفضل أن تتمشى على واجهة البحرلاستنشاق نسائمه.

- ولكنّني أحب الأكل. بماذا سأملأ هذه البطن؟ أأعذبها؟

 وقبل المغادرة، أوصاه بوجوب الالتزام بالحمية، والسير بكرة وأصيلا، وإلا فاض شحمه، وتوقف قلبه واختنقت رئتاه، وكان مآله الموت.

 لما تناهت إلى سمعه كلمة (موت) ارتعدت فرائصه، واقشعر بدنه حتى نضح جبينه عرقا باردا. ثم قال:

- حاضر يا حكيم. سأفعل.

ـ3ـ

لم يتعود المشي أو التنزّه على واجهات بحر بلاده. ربّما هي المرة الأولى أو الثانية. لولا إلحاح الحكيم. كأنّ نسائم بلاده لا تروق مقامه. كم من واجهة بحريّة إفرنجية عرفها، منذ علت به الدنيا، وأصبح من رجالات الأعمال في بلده. وينعتونه بالمليونير ؛ صاحب (الشكارة) فنسائم بلاده في نظره لا تصلح إلا للفقراء والمعدومين.

 لم يولد غنيّا. ولم يرث مالا وفيرا عن أبيه، ولم يتملّك معملا، أو مزرعة، أو قصرا، أو مجرد دكان، ممّا خلّفه المحتلون الأوربيّون وراء ظهورهم، عندما رنّ جرس الاستقلال والحرية. لكن الفتى صفوان - الذي أصبح سيّدا – والذي ارتمى ذات ليلة في أحضان العاصمة، حافيّ القدمين، أشعث الشعر، طاويّ البطن، ناسيّا خبز الشعير، وكسكس البلوط، وحبيبات الزيتون المنقعة في الماء والملح والبسباس البريّ، وكوخ أبيه الذي لطالما حاصرته الخنازير. ناسيا أيضا قرّ الشتاء، وعواء الذئاب، وصفير الريح الشرقية المشبعة بالرطوبة، وروائح العرعار والصنوبر الحلبي.

 دخل ماخور السياسة. وقد لا تأتي الفرص إلا مرة واحدة، كما يقال، وباسم النضال، أصبح مجاهدا وهوالذي لم يطلق رصاصة واحدة على المحتل. كانت رصاصته الوحيدة تلك التي أطلقها ذات مساء على كلب الجيران. أتقن فنون الكذب والمجاملة والتملق والتسلق والتملص والنميمة والخداع والديوثة. وألفى نفسه مديرا عاما برتبة وزير. امتلأت جيوبه، وطالت مخالبه، واشتدّ عوده، ونبتت له شركات أمام البحر ووراءه. من يحاسبه؟ فالسيّد صفوان لم يأخذ إلا حقّه. لم يضع يده في جيب أحد. بل هو ريع البايلك اقتسمته النفوس الجشعة، الطمّاعة. أما مولود فلا يعدو كونه خرقة بالية موضعها القمامة. مواطن بلا مواطنة. واجبه السمع والطاعة والقناعة والصمت. وإن تكلّم فلا يتعدى حدود الهمس. وإلا هوت على دماغه العصا الغليظة. ليته ولد أخرس حتى لا يزعج السيد صفوان بصوته الخشن.

 وللتذكير فقد سقط مولود منذ أسبوع فقط مغشيا عليه أمام مدخل البلدية. حملوه إلى عيادة كل الناس، والتي يأتيها الطبيب متأخرا، متثاقلا مرتين خلال الأسبوع. فحصه على عجل، وأمطره قائلا:

- أنت تعاني من سوء التغذية.

- عليك بالأكل.

وذكر له قائمة من المأكولات كاللحم والأسماك والفواكه المحلية والمستوردة وووووو

فتّش عن مهرب أملا في الإفلات من شباك الحقيقة المرّة، الدامية.

- ليست لي شهية يا حكيم.

- صحتك في الأكل ياهذا. سأسجّل لك أدوية تفتح شهيتك.

 وكادت القطرة أن تُفيض كأس أحزانه، وتدغدغ رواكد همومه. أيبوح له بمكنونات يومياته؟ أيفتح له كراسته السوداء سواد حبات التوت البرّي؟ أيعترف له، أنّه لم يذق طعم اللحم والدجاج والسمك منذ مدة؟ أيقول له، أنّه نسيّ مذاق الموز والتفاح والجبن؟ ولولا أكياس الحليب التي يقف من أجلها في الطابور ساعات، لكان الدود قد نسيّ طعم جسده النحيل. قد لا يصدقه، ويتهمه بالافتراء وكفر النعمة. ويقول له: أنت إنسان طمّاع وحقود وكذّاب. لقد منحتك الحكومة عملا وبيتا وبطاقة شفاء وأبناؤك يتمدرسون ويأكلون مجانا ويذهبون في حافلة النقل المدرسي يوميا ويعودون. ماذا تريد أن تفعل لك الحكومة؟ تزوّجك بامرأة ثانية؟ تعطيك مالا وأنت نائم في حضن زوجتك؟

 ونبح كلب السيّد صفوان. يبدو أنّه لم يستظرف المكان. قال السيّد:

- أيّها الشرطي دوّن:

 ـ قبيل غروب شمس هذا اليوم، تعرّض السيّد صفوان - والذي كان يتنزّه رفقة كلبه – إلى اعتداء سافر. حيث وضع أحد الجرذان قدمه تحت حذائه الفاخر بغرض إسقاطه. ولولا لطف الله ورحمته، لوقعت المصيبة. وقد كانت نية هذا المخلوق كسر ظهري وفقر بطني وقتلي. وذلك بسبب دوافع الحقد الطبقي. اكتب كل شيء. لا تغفل حرفا واحدا. أفهمت؟

و نبح الكلب ثانية: (هوهوهو)، وكأنه يخاطب صاحبه:

(أحسنت يا سيدي. أدّبه حتى لا يتجرأ مرة اخرى. نحن أيضا في مملكتنا عندنا أمثاله. لو أنّ كلبا من فصيلة هذا المخلوق رفس قدمي، أو عض ذنبي، فمصيره الإعدام).

ثم ربت السيد صفوان على كلبه وقال:

- لا تقلق يا عزيزي. لو كنا نتنزّه على واجهاتنا البحرية هناك، ما أصابنا مكروه. لكن هذا مصير من يتنزّه في واجهة بحرية يقصدها كل من هبّ ودبّ، ولا تقدّر أمثالنا.عفوا إن كنت أرهقتك معي.

و تشمم الكلب ساقيّ مولود، فـأوجس مولود خيفة، وقلبه يعصف غيظا، وتمنى لو خنقه،

 ثم ردد:

- حتى أنت أيّها الكلب النتن. ألم يكفيك ما نالني من صاحبك؟

قال الشرطي بفظاظة:

- لا تتزحزح حتى لا يعوجّ الخط.اثبت جيّدا. دعني أكتب تقريري بهدوء حتى لا أعيده من أوله. لا تتعبني.

وكان الشرطي قد اتّخذ ظهر مولود طاولة لكتابة تقريره.

- عفوا، استمر، ولينكسر ظهري، وتتناثر فقرات عموده الفقري، ويبتلعها البحر.

و أحيا دونه. ماذا أفعل به؟ وإن تعبت من الوقوف، فاركب فوق رقبتي، واكتب ما شئت حتى تشرق شمس الغد. من أنا كي أعترض؟

ثم استدار نحو السيّد صفوان وقال:

- هل تريد إضافة شيء آخر يا سيّدي؟

- لا بد من جعله عبرة لمن تسوّل له نفسه إيذاء أسياده.

- ارحمني يا سيدي، تعبت من الانحناء. ظهري انكسر.

نهره الشرطي قائلا:

- صه يا وقح. أترفع صوتك في حضرة السيّد؟

- ظهري ليس طاولة.

- وهل أكتب على مؤخرتك يا طويل اللسان؟

- أرأيت، أيها الشرطي، كم هو حقود، لا يحترم أسياده ولا الحكومة.

- كان جدّ أبي مجاهدا في جيش الأمير عبد القادر، وأبي استشهد في جبال الظهرة، وأمي طحنت وخبزت وخاطت الأعلام. وأنت، هل كان جدك وأبوك وأمك كذلك؟

- تعب كلبي من الوقوف. هيا انصرفا. أود مواصلة التنزّه رفقة كلبي.

أدرك مولود أنه مُدان مع سبق الإصرار. وأن قانون الواجهة البحرية لا يحميه من كدمات الأحذية الصلدة ورفسها الدامي.

(تمت)

***

بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

همسًا يتحدّثُ

كي لا تسمعَهُ الريحُ

وتنقلَ أصداءَ الكلماتِ

إلى صدفاتِ البحر

*

يقولُ لها:

ها قد شَحَّت أمطاري

جفّ النهر

*

ها قد شِختُ أخيرًا...

شِختُ كثيرًا

عيناي تنكّستا

شفتاي تيبّستا

ويداي تشقّقتا

وتقوّس منّي الظهر

*

وتغضّن هذا الجلدُ

وودّع رأسي الشَعر

*

وما هي إلا بضعةُ أنفاسٍ

حتى أُسْبِلَ جَفنيّ ّ

وينسلَّ العمرْ

*

وتُعِدَّ ولائِمَ من جسدي

ديدانُ القبرْ

***

2

وتجاوبُهُ ضاحكةً:

محضُ هُراءٍ!

ما زلت شقيًّا كالصبيان

تشاكسُ عيناكَ نساءَ الأرض جميعًا

من خلفِ عويناتكَ

ما زالت روحُكَ تعدو

متراقصةً

تختالُ كموجِ البحر

وما زال فؤادك

في ريعانِ الشِعرْ

***

نزار سرطاوي

ليس في النهايات ..

بداية مشتهاة

كل الخواتيم ..

كما آخر مشهد

احترقت فيه جان دارك

معقوفة .. على الصليب

لتنيخ الأسطورةُ أحمالها

في حضن الانهيار

تنصب الظلماتُ دهشتها

وتظل الصخرةُ .. على كتف سيزيف

كلما بلغ القمة ..

تدحرجت

يعود .. ليحملها من جديد

تلك عقوبةُ "زيوس " الأبديةُ

يطلع منها السواد .. نشيدا

يهزُّ كل الجهات

انتقاما لآلهة الموت

عند ملتقى السماء بالسراب

نشاغب براءةَ الحلم

في عيون نساء غابرات

سيوفِ رجالٍ ..

يستبسلون توبيخَ المعمدان

في سبيل رقصات ..

تشعلُ الفتنَ

لم تشفع براءةُ سالومي

في إنقاذ يحيي

بل كانت له المقصلةَ

كنا جمهرةً تجيدُ التصفيق

ننظم قصائد التبجيل ..

في ساحات الذبح .. نرددها

على مسمع كاليغولا .. نقرأها

أحلامُ اليسار واجمةٌ

أمام عواصفِ اليمين

محورُ الجسد نقطةٌ حمراءُ داكنةٌ

هي بوصلة الحياة..

وسط هستيريا الكون

الكوابيس .. ليست سهلة الهضم

شُربُ الشِّعرِ لا يساعدُ ..

على ابتلاعها

سماؤنا أنفاقٌ سحيقةٌ ..

للألم الإنساني

وحشةُ اللحظات تتوغل..

في الأجساد العطشى

محملةً بأسرارِ النار

تهاويلَ الاحتراق

بين ضفةٍ ..

ترعى عليها قطعانُ الوجع

وظلالٍ هاربة نحو مصبٍّ مجهول

خطواتُ الغربة ..

لا تبرح الأعماق

الانعتاقُ مكانٌ تحتيٌّ ..

يخفيه النزيفُ....هناك

حيث تدورُ صحائفُ الفصول

بعد قليل ..

ترحلُ الذاكرة

يضحكُ الرماد

ينسى الجميعُ كلَّ شيء :

جان دارك

صخرةَ سيزيف

جدارَ برلين

عددَ الغرقى عند مثلث برمودا

على صفحة التعايش والتسامح

تنفتحُ الظهيرةُ

تنسانا القصائدُ ..

التي ابتلينا بها

و هي بأوجاعنا تتعكّزُ

وحده الحزنُ ..

سيبقى حاضرا ..

بين حنايا أجساد ..

لا نعرفها إلا بقدر ما..

تتلقى من طعنات ..

ما تتقيأ من صباحات كاملة ..

أمسيات مخمّرة .. في جرار الانهيار

كلما اهتز رصاصُ الوعي

انطلق زئيرُ الموت

يترصّدُ الأحلام ..

في أزقة الشرايين .. يختفي

رافضا الخروجَ في تباريح الكلمة

هذي أصواتنا..

مثقلةٌ بالغيم

وثمارِ حلمٍ إلهيٍّ

لا تسّاقط مهما .. هززنا الجذع

يشدّها زمنٌ يطاردنا

يهزمنا .. كما اعتلال الغسق

كما انتحار الشمس ..

في زرقة البحر ..

لتعلن خيبتها الكبيرة

في قدرتنا ..

على صياغة ثورة عذراء

تحطم أوثان الناس ..

وتكون السجدة ..

خالصة لله

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

بعد أن أكملت تنفيذ جميع مفردات خطتها وحققت كل ما خططت له وأصبح البيت وباقي العقارات باسمها في دائرة التسجيل العقاري والشركة عند مسجل الشركات والسيارات في مديرية المرور قررت الجلوس على كرسي الاعتراف وذكر كل ما قامت بأمانة وصدق وإخلاص.

استعرضت شريط حياتها الحافل بالالام والماسي مذ كان عمرها عام واحد عندما قتل والديها في حادث سير على الطريق الدولي ولم يبقى لها أحد فتكفلها خالها وعاشت في بيته مع ابن وبنتين وعلى مدار السنين كان خالها يعاني عوزا ماديا ويسكن في البيوت المؤجرة  مما كان ينعكس هذا العوز على معيشة الاسرة لكنها كانت قنوعة وتكتفي بأقل الاحتياجات وتشعر أنها ضيف ثقيل عليهم لكن لا ملاذ آخر فتحني رأسها دائما وتقبل بأقل الضروريات عندما تهب عواصف الاحتياجات حتى أكملت الدراسة الجامعية بتفوق وقدمت أوراقها لأكثر من دائرة لتتمكن من إعانة خالها وعائلته خصوصا وأن البنتين متلكاتين في الدراسة وترك الولد المدرسة وعمل في محل نجارة ليعين والده .

كان خالها قد تقدم في السن وكثرت امراضه فعجز عن العمل وبقي في الفراش لمدة عام كامل مما راكم مبالغ ايجار البيت الذي يسكنه وكان صاحب البيت ثريا معروفا يملك عدة عقارات وشركة لإنتاج الألبان لكن الإنسانية لا تعرف إلى قلبه طريق وكان يسكن في بيت فاره هو وزوجته وابن شاب وبنت معاقة وجاء ذات يوم لاستلام مبالغ الإيجار المتراكمة أو طرد خالها وإقامة دعوى عليه في مركز الشرطة .

طرق صاحب البيت الباب ففتحت هي له بابتسامة ووجه بشوش فنسى غضبه وسألها عن خالها وأخبرته انه مريض راقد في الفراش فطلب منها أن تسمح له بزيارته متصورا  أنها ابنته .

جلس قرب سريره ولاطفه وتمنى له الشفاء ولم يكلمه عن ديونه لكنه اضمر في قلبه شيئا وجلس المريض بصعوبة وبدأ يعتذر له عن عجزه عن التسديد واعدا إياه خيرا قريبا لكن صاحب البيت لم يكن مصغي له تماما وكان تفكيره مشغولا بمن فتحت له الباب ويسأل نفسه يا ترى هل هي ابنته أو ضيفة ؟ وعندما أنهى خالها اعتذاراته ووعوده اجابه صاحب البيت : دعنا من الأعذار والوعود انا عندي حل يرضي الطرفين شرط أن تخبرني من تكون هذه الشابة ؟ فأخبره الخال بكل شيء عنها من يوم وفاة والديها حتى تخرجها من الجامعة هنا انبسطت اسارير الرجل وعرض عليها خطبتها لابنه مقابل مهر ضخم لها وإسقاط الدين عنه مع سنة أخرى من الايجار .

كان صاحب البيت ينظر للأمر على انه صفقة مفيدة للطرفين لكن الخال له رأيا آخر ورفض في قرارة نفسه بيع بنت اخته حتى لو أدى هذا الرفض إلى موته في السجن فقرر مداراة الوضع وطلب مهلة أسبوع للتفكير وعرض الأمر على صاحبة الشأن في حين ظن الاخر أن الأمر منتهي وماهي إلا  ايام وتتم الصفقة ونهض مودعا ومتمنيا الشفاء العاجل ووضع تحت وسادته مبلغا من المال .

فكر الخال بالامر كثيرا ثم اتخذ قراره مفضلا الموت على بيع بنت اخته وقرر من باب العلم اخبارها بالأمر فناداها ولما دخلت عنده أمرها بإغلاق الباب لخلوة بينه وبينها وأخبرها بما كان بينه وبين صاحب البيت وقراره هو بالرفض القاطع فاطرقت مليا ثم رفعت رأسها وطلبت منه أن يمهلها يومين للتفكير والرد فطلب منها أن لا تفكر وأن الموضوع بحكم المنتهي لكنها اقنعته بمنطقها فوافق على مضض .

قررت أن تتعامل مع الوضع كصفقة تزيح عن كاهل خالها ما يثقله من ديون وترد له  جميل تربيته لها كل هذه السنين وتلقين صاحب البيت درسا ربما يكون الأخير في حياته واخبرت خالها بالموافقة وهددته أن رفض فإنها ستقوم به بنفسها فوافق مجبرا لكن من غير اطمئنان .

تمت الخطوبة والزواج بوقت قصير وزفت إلى بيت زوجها لكن خالها كان مشغول البال بخصوصها واستيقن انها قامت بذلك تضحية من أجله هو وعائلته أما هي فتصرفت بلباقة في البيت الجديد حتى هام بها زوجها حبا وتعلقت بها البنت واحبتها الام وافتخر بها الأب  وسيطرت على الجميع وأصبحت ملكة القلوب .

بعد مرور عدة أشهر بدت بتنفيذ مخططها فماتت البنت جراء الالام في المعدة ومرضت بعدها الام ثم توفيت على إثر جرعة دواء زائدة وبعد شهرين اصيب الوالد بعدة جلطات ثم مات جراء عجز في القلب وخلا البيت عليها هي وزوجها فبالغت بحبه وتدليله وذات يوم بعد عودته من العمل مات مصعوقا في الحمام عندما كانت في عيادة الطبيبة النسائية .

كانت وحيدة تسير في الباحة باتجاه كرسي الاعتراف بزيها الاسود وحزنها الظاهر وهيبتها كامرأة ناضجة لم تصل إلى مشارف الثلاثين بعد يغطي وجهها نقاب شفاف مدللة به على الحزن فاستقبلها عند اعتاب كرسي الاعتراف المسؤول عنه وجلست فوقه بكل زهو المنتصرين وبدأت تتلو اعترافتها كيف قتلت البنت وكيف قضت على الام وكيف اجهزت على الأب وبماذا ألحقت بهم الزوج وسط ذهول الشخص المستمع لها ثم خرجت بكل كبرياء الفاتحين فلحقها مسلوب الإرادة. 

شعرت في الطريق أن صاحب الكرسي لازال يتابعها ربما ليعرف من هي أو ليستدل على البيت الذي تسكنه فقررت معالجة الوضع بطريقتها المعتادة .

انحرفت قليلا عن الطريق واحتمت بجدار حتى لحق بها فدعته إلى الجلوس بـ (كافيه) قريبة وتجاذب  أطراف الحديث واالاجابة عن كل ما يدور في رأسه من استفسارات فوافقها فورا ولما جلسا طلبت لنفسها قهوة وسط وطلب هو قهوة مرة وعند احضار القهوة كان هو في المغاسل فاخرجت من حقيبة يدها بقايا (قاتل الجرذان) ووضعته في فنجانه وعندما كان يشربان القهوة إجابته على كل أسئلته بعدها دفعت الحساب وخرجا وضربت معه موعدا في نفس اليوم والوقت والمكان من الاسبوع القادم ثم ودعته بحرارة ورحلت .

***

راضي المترفي

حياة ...

ويتحدرج منْ يقفز بروحه عاليًا

مثل حجر لا عقل له

يرتطم ليشقى بصمت

لا تشرب نفسكَ حدَّ الموت؟

هذا ما يقوله الشاعر

بعد أن يدرك النهاية

ويحسبها خاتمة

سوف تسدل الستار

لينتهي هذا الصوت الذي أتعب الذين حوله

لينصرف من كان يراقب هذا الألم

ولا يُحسن سوى النظر

نموتُ ويبقى السؤال

سوف يأتيكَ

أيها الجالس تحت شجرة

لا تغادر مكانها

لكنّها تجعل النهارَ حياةً

تحت سماء تعيدُ زرقتها

مثل امرأة تخدع الوجود بزينتها

وأنتَ تبحث عن جواب

كلما رأيت السعادة تتلاشى

كطائر يحرّك الزمن بجناحيه

ليوقظ ساعته الأبديّة..

***

عقيل منقوش – ملبورن

 ٢٠٢٣

.................

.................

بلاد..

زقاقٌ يصل بين صباي

وخطوتي الضائعة

لطالما تعثّرت بملائكةٍ

يقفون على عتبة امرأة

دموعها تملأ يديها الفارغتين

بين طاق على باب السماء

وبين مراث في خرائب  منسيّة

يركض العمر بجوار حمامة تائهة

تطير حدّ سواد المآذن.

***

عقيل منقوش – ملبورن

 ٢٠٢٣

دافئةٌ

شمس امرأة ٍ

فاتحة أحضانها!

2

بلا أجنحةٍ

صافَحَتْها الريحُ

تغريدة!

3

شتاءٌ حار

يبحثُ عن مَظَلَّتِهِ

في جَيْبِ الصيف!

4

حِبْرها: العِطر

فستانها: الكلمات

زهرةٌ أنيقة!

5

تَتَنَزَّلُ

بين يديكِ الفضولتين

نُبُوءَاتي!

6

أغنيةٌ زرقاء

بلا أعمدةٍ

يَسْمَعها الكون!

7

مَسْغَبَةٌ جماعيةٌ

تحْتَضر

قمامةٌ مُتْخَمَة!

8

أَقْدَامٌ فارغةٌ

في طريقٍ عاثرْ

شوكة ٌ عرجاءْ!

9

هذي التي أَلْهَبَهَا ظَهْري

مقطوعةٌ من شجرة

عصا والدي!

10

إلى  المزبلة

حَمَلَتْ صاحبها

كلمة نابية!

11

دون ثقةٍ

كبيت العنكبوت

صداقةٌ واهنة!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

سلامٌ لمن لم ترتضَ منّي السّلامْ

سلامٌ جريحٌ لعشقٍ عتيقٍ

وللدّمعاتِ

وللأحلامْ

*

أهُنتُ كثيرًا مع الأيّامْ؟

أصارَ السّلامُ ثقيلاً عليكِ؟

أصارَ الكلامُ بغير لقاءٍ

عليّ حرام؟

سلامٌ عليكِ

فأنتِ الحبيبةُ مهما هجرتِ

وأنتِ القريبةُ مهما رحلتِ

وأنتِ الغرامْ

*

سلامٌ لأجلِ العيونِ الكحيلةْ

لأجلِ الرّموشِ..

لأجلِ الجديلةْ

لشامةِ نورٍ.. لضحْكةِ وردٍ

سلامٌ لكِ

منّي يا جميلةْ

*

وقبلَ الختامْ

سلامٌ عميقٌ بعمق الودادِ

سلامٌ صدوقٌ كخَفقِ الفؤادِ

يدقُّ اللّيالي

ويسهر عمرَهُ

يرجو حبيبةَ عمرٍ

قبولَ السّلامْ

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

17/9/2020

بعد أن قدمت طلبا للطلاق، وبعد رفضها لكل محاولات الصلح والتي عرض الزوج خلالها تنازلات كثيرة سعيا للحفاظ على لحمة الأسرة وأسرارها سيما وأن المطالبة بالطلاق له منها إبن، تقف الزوجة أمام القاضي مؤكدة إصرارها على الطلاق.. تنتصب في تحد مقلق بين كل من حولها، كأنها تريد أن تعلن عن انتماء طبقي ارستقراطي ذي نسب رفيع، ومجد في التاريخ تليد، وغنى فاحش موروث، تتعالى في كبر، متعمدة ابراز فتنة مما بالغت في ارتدائه من لباس، وما تحلت به من دهب وعقيق، ترنو الى زوجها بنصف إغماضة ساخرة، مما أثار القاضي الذي ظل يتابعها بنظرة متفحصة، تكشف بعضا من انزعاج يحاول إخفاءه..

"شيء ما غامض وراء هذه السيدة هو ما تبديه غرورا وحبا في الظهور بهيأة متصنعة، ومعرفة زائفة، فهل تستغل وجودها كاسم مشهور في سوق المال والمعاملات التجارية بهذا الحضور؟.. "

الى جانبها يقف الزوج ممتقع اللون، خجلا من موقف لم يفكر يوما أنه سيجد نفسه فيه، يترقب في حياء، مضطربا نقمة على امرأة، استحلت أن تضع نظارات سوداء على عينيها فتتنكر لكل أفضاله وخيره، يطرق برأسه الى الأرض.. "ترى بماذا ستعلل طلبها؟".. وأي الحجج لديها غير ما اعترف به هو نفسه تلقائيا قبل أن تجره للمحاكم؟متوسلا منها سترا به تحقق كل ما تريده منه، لكن الطمع الذي أعماها، والغرور الذي ركبها، وسوء قراءة أثر أم زوجها وأثرها البليغ في تنشئته أنساها كل ما قدمه لها.. يرفع الزوج رأسه، يعب نفسا قويا ثم يلتفت وراءه مستنجدا بأمه الجالسة خلفه، يستمد منها قوة.. باطمئنان راسخ تنظر الأم اليه، وبسمة صادرة من راحة ضمير بدعم يقيني وكأنها تريد أن تقول شيئا، تستحيي أن تبديه أمام هذا الحضور فلاتملك غير الصمت، لكن عيونها تنفث بسمات القوة، لسانها قلب فمها لا يلهج الا بدعوات الرضا وهي تترقب ما ستصرح به زوجة ابنها:

ــ سيدي القاضي !.. زوجي هذا قد اهانني، أدخل بيتي متشردة، أولجها حمامي، وكساها ثيابا من خصوصياتي، ثم نام معها على سريري، أحط بكرامتي وسمعتي ـ سيدي القاضي ـ، اصرعلى الطلاق كما أصر على تعويض مادي لا يقل عن خمسمائة مليون درهم كرد الاعتبار، وان يقتسم معي كل ثروته التي بنيتها بذكائي واجتهادي، بجمالي وجهدي وثقة الزبائن في ذوقي، حتى مكنته من اكتسابها وجمعها.. ..

يقطب القاضي حاجبيه، ويحرك عينيه علامة اندهاش، فكأن المرأة الواقفة أمامه لا يتلخص حضورها الا في تشريد الزوج انتقاما، لا لتطلب حقا منطقيا يخوله لها القانون.. يلتفت القاضي الى الزوج ثم يقول:

ـ مارايك في الذي تدعيه زوجتك؟

يتنهد الزوج بعمق ثم ينظر بلا تركيز في وجوه الحضور سهاما من حوله، خصوصا من جمعيات نسائية اقبلت لمساندة الزوجة، يحاول ان يخفي اضطرابه بإطلاق يديه وتشبيك أصابعه..

كل صور الماضي تتدارك تباعا أمام عينيه.. من اين سيبدأ؟

حاويات القمامة، جيوش الذباب، نباح الكلاب، مواء القطط، مشردون يفجرون أكياس الأزبال، روائح النتانة..

توهم أن كل الاسرار النتنة عن ماضي هذه الماثلة أمامه قد رماها في بئرعميقة، وعليها بنى بلا رجعة، لكن ها هو البناء يتفجر فترمي البئر خبثها من حيث لا يدري.. يفتح فمه، ويمرر لسانه على شفتيه يبلل جفافهما، يبلع ريقه ثم يبدأ كلامه بهمس: اللهم احلل عقدة من لساني:

سيدي القاضي: ما قالته زوجتي صحيح، لكن اسمحوا لي أن ابدأ من حيث أنهت كلامها..

يصمت قليلا وكأن صوت أمه يهزه من الداخل: "مشاكلك يا بني من ضعفك هزمتك في بؤسها وفي غناها، فاحذر ان تهزمك في دعواها ومن ورائها حماية ممن لايعرفون حقيقتها "..

يحس ضيقا في صدره، يتنفس بقوة كأنه يحاول أن يعب هبة برد تشرح ماضاق ثم يتابع:

زوجتي هذه الماثلة أمامكم بكل هذه الحلي والحلل، وهذا المظهر الباذخ لا يعدو غطاء لخواء باطني عن حقيقة الانسان واصله، زوجتي هذه هي نفسها لم تكن غير متشردة تدق أبواب البيوت يوميا، شحاذة، تتسول وتطلب الصدقات..

همهمات تتحرك بين الحضور، ونظرات استغراب من بعضهم لبعض حينا وللزوجة حينا آخر، ادعاءات لا تصدق!!.. مجنون !!.. كيف يرمي سيدة وشهرتها في سوق المال ذائعة مذ عرفوها، بتهمة استجداء البيوت؟

يضرب القاضي بمطرقته ليعيد للقاعة هدوءها، وهو لا يقل استغرابا عن الحضور لما فاجأه، ثم يطلب من الزوج أن يتابع كلامه..

- زوجتي هذه صادفتها ذات يوم وانا عائد الى البيت قلب مزبلة تبحث بين ركامها، تزاحم القطط والكلاب صناديق القمامة، رق قلبي لها، خصوصا وانها كثيرا ما طرقت باب بيتنا متسولة اذا سبقها جامعو الأزبال الى صناديق الحي؛ ترجلت من سيارتي متوجها اليها، أخذت بيدها، الى السيارة ثم تابعت الطريق الى البيت، أدخلتها حمام أمي، وقدمت لها مما في دولاب أمي من ثياب، كما ناولتها عطرا ومساحيق من خزانة أمي، لما اغتسلت وخرجت من الحمام، انبهرت لما رأيتها !!..

تغيرت كلية وصارت امرأة ثانية، فوارة بمظهر الحسن والجمال فوران حوريات الجنة في أحلامنا؛ وأنا على وشك توديعها بالباب أقبلت أمي بعد زيارة لاحد اقاربنا، لما رأتها، حسبتها أنثى من صديقاتي، أو احدى كاتبات شركتي، لكن حين سلمت عليها ودققت فيها النظر، استغربت أمي من ان الواقفة أمامها ترتدي ثيابها، وان عطور أمي هي ما يفوح من الزائرة..

نظرتْ اليَّ امي نظرة استفسار، فغمزتها بعيني واضعا يدي على فمي، كأني اتوسلها الا تغضب، او تطرح اي استفسار، يجرح الزائرة أو يحط من كرامتها..

يتوقف الزوج هنيهة:كأنه يسترد أنفاسه، في وقت تبدأ الزوجة مترنحة في مكانها متضايقة مما صرح به زوجها، لم يخطر ببالها لحظة أن الزوج الوديع الصامت الخجول الذي كان لا يتحرك الا بإذنها وأمرها، والذي كم كرهت سلبيته تنصب عليها كعدوى مما جعلها تهمشه في كل أعمالهما التجارية، من أين استمد كل تلك الشجاعة التي تجعله يفضحها امام الحضور، كل ما تعرف ان وداعته وخجله كثيرا ما كان يلزمه صمتا ليس أمامها فقط ولكن مع الكثير من الناس.وهي من كانت تستغل حياءه هذا في تحقيق كل رغبة هفت لها نفسها.ماذا صار ومن أنطقه؟؟..

 ـ"لعلها أمه التي استعادت صرامتها مما عانته معي، وما عرفته عني وما أخطط له، ولئن ربته على الخنوع والاستسلام فهاهي تحول سكونيته وضعفه الى قوة تباغتها في زوجها..

تعلو همهمات الحضوربين استغراب، وتكذيب، ومتباغثة، وشك يهدئها القاضي بدقات ملتمسا هدوءا يسمح بمتابعة القضية..

يأخذ الزوج نفسا طويلا ثم يتابع:

كان وقت الغذاء قد حان، فأقسمت عليها أمي ان تتناول غذاءها معنا؛

بعد الغداء تركتها أمي منشغلة بعروض التلفاز وشرب الشاي، وأتت الي

تستفسرني عنها.. عن دولاب ملابسها الذي انتهكه ابنها اكراما للزائرة، عن عطورها ومساحيقها التي تعتز بها كبقية من هدايا المرحوم والدي؛ لم أخف سرا على أمي، ولم أحاول ان اتكتم على أي شيء بل أخبرتها حتى عن أسمال الزائرة اين وضعتُها..

وفاجأتني أمي القوية الصبور بدمعات تنحدر على وجنتيها قالت:

ــ كم من جمال مسخه الفقر وغيبه الإهمال والحاجة !!.. حرام أن تذوي هذه الفتنة بين صناديق القمامة وركام الأزبال، هذه البنت لو طاوعتني فمحال أن تخرج من بيتي بعد اليوم..

مرة أخرى يتوقف الزوج عن الكلام قليلا وكأنه يشحن صدره بقوة تمنحه القدرة على المتابعة.. .او ربما كان يفكر كيف يختصر حديثه، وكيف ينتقي الكلمات التي لا تجرح الواقفة بجانبه، فماحكاه كاف كتحقير يمسها كوجه تجاري في سوق البزنس، كما يطول سمعته كونها زوجته وام ابنه..

هكذا سيدي القاضي بدأت هذه السيدة حياتها معي؛ظلت معنا في البيت تتشرب من عاداتنا، وطقوسنا، وطريقة حياتنا، أعادت لها والدتي تربيتها دقة دقة كما يقولون الى أن صارت واحدة منا، ألفناها وألفتنا، فصار لها ما لنا، وعليها ماعلينا، والحق يقال أننا تلمسنا فيها ذكاء بعد ان تغيرت حياتها، صارت تقرأ وتكتب، تحاور وتناقش، تلتهم المجلات وتنتمي لأكثر من جمعية نسائية، وكشهادة انصاف انها كانت تختزن قدرات هائلة مكنتها من تجاوز كل عارض يحول دون بلوغها ما تريد.. .ثم بدأت تتقرب مني، واليها بدأت أميل.. .

وكانت المفاجأة من والدتي أن أتزوجها..

وبعد احاديث طويلة، وتفكير عميق، ونقاش عن الغير من حولنا، عن زيف المظاهر والأسماء والألقاب، عن ألسنة المجتمع الطويلة وأبواقه القوية، اقتنعت بان الامر يخصني وحدي ولا يهم احدا غيري..

بعد سنة من زواجنا، لاحظت اهتمامها بالتجارة وبافكارها التي قد تمكنها من اختراق عالم التقليعات، وبايعاز من والدتي مرة أخرى، فتحت لها متجرا للألبسة النسائية ثم آخر للعطورات والماكياج، لكن بعد ان انجبت ابننا الوحيد بدأت تتغير.. صارت لا تستقر في مكان، متنقلة بين دور العرض والموضة، وبين اكثر من مدينة وعاصمة عالمية، جوابة للمراقص والملاهي، وكنت المهضوم الذي صار نكرة وانا من حول النكرة من العدم الى علم في مضامير الحياة وأسواق المال والتجارة.. .

يتوقف الزوج قليلا وكأنه يكتم غصة خنقته، يبلع ريقه، ثم يتابع ٠٠

- اهملتني سيدي القاضي، وأهملت بيتها وابنها، ولولا أمي اطال الله في عمرها، ما وجدت من يسهر على ابني او يهتم بشؤوني.. .

يحس الزوج وكانه يخرج من بين الأمواج، يتصبب عرقا، لكنه أخف مما كان قبل ان يحكي.. . يلتفت الى أمه، ابتسامة رضا وتشجيع تتربع على وجهها.. ثم يمسح الحضور بنظرة خاطفة جعلت أكثر الأفواه تنسد حيرة أو تعلن لعنة، بل وكثيرات شرعن في الانسحاب من قاعة المحكمة حفاظا على لحمة الانتماءات..

كان القاضي يتابع القصة مستغربا أن تكون التي أمامه قد كانت من شحاذات الشوارع، وهي اليوم تشكو زوجها لسلوك كانت هي أول من غرفت منه وارتوت.. يلتفت القاضي الى الزوج ويقول:والمتشردة الثانية؟ !! سؤال تطاولت له الأعناق وارتخت الأسماع بترقب.. وجوه بين الدهشة والسخرية والتأنيب.. .

يتنحنح الزوج، ثم يتنفس بغصة عميقة من قهر:

ما فعلته مع المتشردة هو نفسه ما حدث مع زوجتي، مع فارق ان زوجتي بقيت في بيتنا واستطابت الحياة فيه واكتسبت عادات البيوت الكبيرة ولكنها لم تتعلم ان الحر من دان انصافا كما دين..

يشرئب برأسه جهة أمه، فيلاحظ القاضي أنها تشجعه فيستعجل الزوج على الحديث..

زوجتي هذه سيدي القاضي لم تستطع ان تتخلص من أمراض نفسية تتلبسها، ربما هي نتاج تربية ومعاناة، وسنوات قهر، فاقة وحرمان، ومن شب على شيء شاب عليه: الطمع، وعدم القناعة والرضا، والتطلع لما عند الغير.. .وهذا ما ولد فيها صفات: الكذب والجشع، وتزوير تاريخها وحقيقتها امام غيرها.. .

ينظر القاضي الى الزوجة وكأنه يتابع اثر كلام زوجها على محياها من تذمر وقلق، ثم يحول النظر الى الزوج وكأنه يدعوه لمتابعة كلامه:

حين كنت اودع المتشردة بالباب اعطيتها مالا وألبسة أخرى، وعطورا، ثم قلت لها:

ـ لا اريد ان اراك بعد اليوم تتعاطين التسول، لك سأبتاع احدى الشقق الاقتصادية تأويك، وستصير لك نفقة شهرية لتدبيرشؤونك، فحرام أن يذوي هذا الجمال على عتبات التسول..

ارتمت علي وعانقتني وهي تبكي ثم قالت:

ماذا بقي لم تقدمه الي يا سيدي؟

أحسست برغبة تشدني اليها فهمست لها:

لك كل ماتريدين.. . فقط اياك ان تمارسي التسول بعد اليوم.. أكره أن أرى أنثى بحمالك تذل نفسها، تحتقر ما وهبها الله من أنوثة وقد ممشوق..

ودون شعور منا وجدنا نفسينا معا فوق سرير غرفة نومي.. .

سيدي القاضي، أن أكون قد سقطت في الحرام فهذا لا أنكره واني به اقر وأعترف، أسأل الله تعالى ثوبة نصوحة منه، لكن جرمي لا يمكن أن يغيب ما فعلته مع هذه المرأة كحق من حقوق الله، قد صادفها حظا من حظوظها دون غيرها، يكف عنها مذلة السؤال والتشرد، وربما هي احق به من غيرها ممن صاروا يملأون الطرقات وابواب المساجد حتى صرنا نعثر بينهم على من يمتلكون شققا ودكاكين في اكثر من حي، بل وفي اكثر من مدينة يتنقلون في سيارات يملكونها..

سيدي القاضي !

انا اخطأت، وذنبا قد ارتكبت، ولن أقنط من رحمة الله، لكن ما قمت به مع تلك السيدة هو خير قدمته ما كان في اعتقادي ولا نيتي - يشهد الله -استغلالا، او انتظار جزاء، او مقابل.. ان ماحدث ـ سيدي القاضي ـ هوضغط من حرمان، وغصة من اهمال، واغراء من شر النفس وكيد الشيطان، يلزمني اصلاحه عاجلا، لذلك اطلب مهلة قصيرة، اعقد فيها قراني على المتسولة، ولزوجتي حق الاختيار ان تقبل بضرة او تصر على الطلاق، لكن اكراما لابني منها لن أطالبها بتعويض عما صارته، وعن نقلتها النوعية من حياة المزابل مع القطط والكلاب والحشرات، والنوم في الازقة والشوارع الى حياة أهل البيوت الكبيرة الذين يحسون معنى أن تكون انسانا فقيرا ثم يغنيك الله من فضله، ولن أطالبها برأس المال لما تدره عليها متاجر انا من فتحتها بمالي وعرق جبيني.

يطرق القاضي برأسه الى منصة الحكم، يستحوذ عليه تفكير واحد، وكمشة من الأسئلة تتسابق الى لسانه فارضة عليه أجواء من التصورات والظنون.

ماذا يغري هذا الشاب في الفتيات المتسولات؟

ما نوعية الإثارة التي تحركه نحوهن؟ هل هو جمالهن الذي قد وأده الفقر؟

أم هي بصمة نفسية خاصة لديه يستقبلها بلذة ومتعة قدلايستحليها غيره؟

لماذا كانت نظراته تتحول الى انكسار، فيبادرالى الالتفات لأمه يستمد منها القوة والشجاعة؟ هل هو الخجل وحده ام في حياته ما يحسسه بالدونية رغم غناه؟ واذا كانت الرحمة قصده لماذا ينساق الى ما حرم الله؟

***

محمد الدرقاوي  ـ المغرب

تُوفّي الثلاثة..

تُوفّيت البنتُ الأولى، ثم الأم فالأب..

ماتت البنتُ بالمرض الخبيث، فلم ينفع الأطباء ولكان للأدوية مفعولْ.. وتركتْ وراءها طفلة صغيرة لم تتجاوز العامين من العمر..

أثناء الدفن بكاها والدُها كما يبكي كل أب فقيده.. وبعد تسوية القبر ودعاء التثبيت، انعزل الأب بابنه الأكبر بعيدا عن الحاضرين وقال له: ـــ بعد أن أموت..ادفنوني بجانب ابنتي الحبيبة ! هذه وصيتي لا تنسوا ذلك!..

ومرت الأيام.. وبعد عشر سنوات تُوفّيت الزوجة، بعد أن أقعدها المرض الفراش لمدة قاربت السنتين. وحرصوا على أن يدفنوها بجانب ابنتها، لكن لم يجدوا المكان، فالجبانة أسرع ما تمتلئ وتضيق..

دُفنتْ في الجهة الشمالية من المقبرة. وبعد أن وروها التراب وأنهى الحاضرون دعاء التثبيت، أمسك الأب ابنه الأكبر من يده، وأشار هامساَ في أذنه: ـــ هنا.. بجانبها..

أراد الولد أن يقول شيئا، فأشار إليه أن يصمت وقال: ـــ أنا متيقن بأني لن أعيش بعدها طويلاَ..

وبعد أحد عشر سنة مات الزوج..

دفناه الأمس.. دفناه بجانب حليم..

وبعد تسوية شاهدة القبر والدعاء، أنبأنا ابنه الأكبر وهو يبكي:

ــ  أراد أن يدفن بجانب ابنته.. ورغبَ أن يُجاور زوجته الحبيبة.. لكن لم يُكتب له سوى أن يُدفن بجانب صديقه القديم حليم، الذّي قُضي عليه في حادث سيارة بجانب المستودع البلدي..

وإني أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي غضب فيه على أمي لأنها لم تهافته وتخبره.. بكى صديقه بكاءَ متألماَ لأنه لم يحضر جنازته..

وها هو اليوم يُجاوره في المقبرة..

رحمهم الله جميعا..

***

بقلم: عبد القادر رالة / الجزائر

 

كل مرة ارفع رأسي عن الوسادة

أرى الليل مستيقظا قبلي

يَحشر ظلامه الحالك

عميقا بين الانفاس دون هوادة

حتى ايقنت ان الرحمة

أضلت سواء السبيل

او على حين غرة

ابتلتها الحمى فأحرقت ما تبقى من حلم

*

انت أيها الهزيع المر

المبجل بالوساوس والعتمة

يا لك من كائن مارق

اراك استبحتني

كف عني لجاجتك

لقد تركتَ الاماني يابسة

بين ملفات القضاة

دون ان يهدأ لك بال

قل لي‎ ‎

كم من الاخذ يكفي لخلاصي منك؟

***

عبد الستار جبار عبد النبي

ساندنس٢٠١٦

 

كلُّ أرجاءِ

المدينةِ

لَم تَسَعْ خُطاي

أبحثُ عن قَلبٍ

مسروقٍ

عَن سِرٍّ

بينِي وبينَ الله

أبحثُ عنكِ، وعنِّي

في لُجَّةِ النِّسْيانِ

عن ضمَأِ الروحِ

وهي تروى بهَسِيسِ  الجمرِ

وهَسِيسِ الذكرياتِ

أحلاماً  لم تعدْ بمقاساتِنا

هل ضاقَ الأفقُ

وجفَّ نهرُ الأمنياتِ

كلّما شَحَّ الغيثُ؟

أتُرانا

نَتضرَّعُ للربِّ

ليُرطِّبَ  أرواحَنا

ببعضِ الأُمنياتِ

وبعضِ الدفءِ لأرواحٍ استباحَها البردُ

كما استباحَ مشاعرَها؟

يبدو أنَّ عيدَ الحبِّ ماعادَ يَصلحُ لّلقاءِ

فهلْ يَصلحُ للحربِ؟

كما تدَّعي نشراتُ الأخبارِ

رائحةُ الدمِ تُزكمُ الأنوفَ والمشاعرَ

***

كامل فرحان حسوني - العراق

على بابي رأيتُ الماءَ يجري

متى يأتي بريدُكَ ضاقَ صدري؟

*

وبي بحرٌ من الأحزان أنّى

أسيرُ وقد غدوتُ غريقَ بحري

*

تسائلني الدروبُ ولم أجبها

لأني قد فقدتُ طيورَ بِشْري

*

فكم كنّا جلسنا في سرورٍ

وغنينا على إيقاع نهرِ

*

ففي ذاك المكانِ جلستَ يومَا

وما  أدري  بمن يمضي وتدرِي

*

وفي هذا المكانِ رفعتُ صوتًا

وأخفيت الدموعَ وراءَ صخرِ

*

تحدثُنا عن الأحلامِ حينًا

وحينًا تنضوي في ظل سرِّ

*

أقولُ سنلتقي في فجرِ يومٍ

نسابقُ خطونا شبرا بشبرِ

*

متى تشدو البلابلُ من جديدٍ

وتأتينا الرسائلُ بعد عسرِ

*

يمرُ الوقتُ في عجلٍ وأنِّي

أرى ظلِّي على أعقاب قبري

*

يسائلني النهارُ عن الغوالي

وينكتُ فيَّ بعد الهجرِ صبري

*

كتبتُ الشعرَ منذُ صِبايَ غرّاً

فأينَك من تباريحي وشعري؟

*

يقول السامعون كفاك دمعا

أليس الموتُ يأخذُ كلَّ برِّ

*

دع الذكرى وما في القلبِ وامضِ

فما جدوى التذكرِ بعد سفْرِ

*

كلامكمُ يزيدُ النارَ نارًا

وينكأ جرحَنا من دون عذرِ

*

ففي هذا التذكرِ بعضَ سلوى

وفي هذا التذكرِ كلَّ عمري

*

وأن الذكرياتِ تشدُّ ظهري

وتفتحُ ألفَ نافذةٍ وثغرِ

*

وتعطيني من الآمال جيشًا

عظيمَ الجأش من كرٍّ لفرِ

***

د. جاسم الخالدي

كان نهاري سيئا

قلت لا باس..

ساشرب قهوة

مع صديقي الليل

واغتاب

في حضرته

كل الباعة الذين كنت امنحهم

ابتسامتي واموالي

ويعطونني بالمقابل

بضاعة فاسدة

سأخبره عن الغلاء الذي جعلني

على حافة الافلاس..

سأشكو له طويلا..

غدر الاصدقاء

وظلم الاهل

وإهمال الاحبة..

سأخبره عن الكلاب الضالة

التي تثير رعبي

كل مساء عندما أعبر

من ذلك الطريق

المظلم..

سأشكو اليه

مدير عملي..

وعامل النظافة

وعامل البناء

ونادل المقهى

والسباك ..

وسائق التاكسي الذي

يصدع رأسي كل صباح

باسطواناته الدينية

الليل مستمع جيد

أعطيه القهوة

ويمنحني المزيد من

الأرق..

إنتهي كل الكلام

وحل الصمت محله

نام الليل ..

لم آخذ غمضة واحده

مرت الساعات طويلة

و ثقيلة..

كانت ليلة سيئة جدا

غدا صباحا

سأقدم إعتذارا مطولا

للنهار ..

وشكرا لكم

***

بقلم: وفاء كريم

وهو يتألم دون صوت ولا حركات

نادتني عينان في عشق الرحيل

أنك كاتب شاهد قبري

أن

هذا قبر من مر من الحياة مرور الكرام؛ فلفه الظلام في أحزان وآلام.

طفق يمسح كل الأيام

كل الأوهام

من الأوراق

لينام بسلام

في

وطن اللئام

وقعت عيناه شاهد القبر

أنا أنت وما أنت إلا أنا

***

عبد العزيز قريش

 

كلُّ القوافي لي تقولُ أنا لَها

حسـناءُ في شـوقي ألِـمُ ظِلالَها

*

كلماتُها الوسنى تعيش بخافقي

وإذا أفاقـتْ لـوّعـتْ مَـنْ قالَها

*

هي سِدرةُ الحبِّ المُعرشِ بيننا

مَرستْ ومن ضوء النجوم حبالَها

*

تتوسدُ الوردَ المشاكسَ خِلسةً

فيضوعُ حـرفًا كي يَـفِـكَّ عِقالَها

*

تبدو قناديلًا عـقودُ حروفِها

والليـلُ سـامرها يحـوكُ سِلالَها

*

والكــبرياءُ يشدُّ أزرَ متونِها

لحــنًا يُـماهي بالحـنين خصالَها

*

هي مَنْ هي الحسناءُ عندي يا تُرى

هي غادتي السكرى أرومُ وصالَها

*

تـبدو الى طَرْفي كأنَّي موشـكٌ

أن أحـتـوي شــذراتِها وأنـالَـها

*

لـولا الجموحُ المستبدُّ بطبعها

قـد حالَ وا لهفي أطولَ خيالَها

*

حسناءُ لو جاءتْ بذلتُ مطارفي

شـوقي وأحـلامي تكـون مـالَها

*

هيَ يا أخا ودّي قصيدةُ شاعرٍ

يرجـو بأنْ يـجـدَ الحبيبَ خلالَها

*

تتنفسُ الوجـدَ القديمَ حروفُها

زمَـنًا فـقـامَ الــلامُ حـتى طـالَها

*

فتشاكلَ الحالانِ بين سطورها

ظِـلٌّ لـشــوقي قـد أجَــنَّ ضَلالَها

*

هي شـرقةُ الحبُّ المُعتقِ أسفرتْ

مـن أيـنَ لي صبــرٌ يـــردُّ نِـبـالَها

*

عادتْ بيَ الذكرى فكان حصيلتي

مـنــها بــأن زادتْ عـلَـيَّ دلالَـها

*

ما بين ازماعي الرحيلَ تجسدتْ

فوقفتُ أرنــو كي تَحِـطَّ رِحــالَها

*

حسناءُ حلّـتْ واسـتـقَـلّتْ لامَها

تـحـدو وبيْ وجَعُ المُحبِّ جِـمالَها

*

وتـلـونتْ قُـزحًا يَـلـمْ قُـطـوفَها

وجـدي وأرقـبُ في السماءِ هلالَها

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

السبت في 24 كانون أول 2022

 

ما أكذبني يا سيّدتي

حينَ وعدْتْ

وقلتُ بأنّي أُنهي حبّكِ

أُنهي عشقَكِ

كم كذّبْتْ

فرغمَ بهائي

ونارِ جنوني

ورغمَ صمودي

وطيشِ ظنوني

كنتُ ضعيفًا حينَ وعدْتْ

وكسيرًا في ليلِ غرامكِ

مهزومًا.. وهزيلًا كُنتْ

*

ما أكذبني يا سيّدتي

حينَ وعدْتْ

كيفَ جعلْتِ كلامي يجري

كيفَ تركتِ خيالي يسري

في ليلٍ مجنون الصّمتْ

آهٍ يا سيّدتي منكِ

من حبٍّ يسبحُ في الوقتْ

لا يعرفُ حدًّا ينهيهِ

لا يعرفُ عُمرًا يكفيهِ

لا يرضى إلّاكِ أنتْ

*

يا سيّدتي

إنّي الآنَ أعودُ إليكِ

وجناحُ غرامي مكسورٌ

والحُبُّ مُذَلَّلُ مقهورٌ

والفارسُ أضناهُ العشقُ

وسمائي يضربها البرقُ

ما أحوجني الآنَ إليكِ

ما أحوجني أسمعُ صوتَكِ

ما أحوجَ أيّامي عندَكِ

تتعلّمُ في حضرةِ حبّكِ

كيفَ يكون حديثُ الصّمتْ....

آهٍ منّي

آهٍ منكِ يا سيّدتي

حينَ وعدْتُكِ

كم كذّبتْ

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

17/9/2020

تأكدي

أن النجوم الزاهراتُ عرائسي

يلمعنَ في غزل ٍ حديث ٍ

يَستفزُ خيامك ِالبيضاء

مقصورات لم يَطْمِثْ مِحَارتهنَّ مَكْرُ أبالِس ِ

*

فتأمليها تأملي

من دون أن تتعجلي

كي تعشقيها تذوقاً

وتلذذاً...

ووصولا  !

*

وتأكدي...

أن السماء عرائساً أخرى

نَفَحْتُها بالفرائد ُرقةً... وقبولا

إني أراك ِفراشةً

تتنقلين على البديع بُطُهْرها

معسولةً.. وعسولا

وأرى بجَنّتك ِالنعيمُ فماً شهياً

ناضجاً... مأمولا

وهواها أبياتاً مُفَتَّحَةً نوافذ ها

تطل بشُرْفَة ٍ

قامت على أهداب عزفك ِ

ياهنائي مُثولا.

*

وتأكدي...

أن الكواكب في مدارها لاتدورُ

بلا قواف ٍ مُفعمات ٍ

بالحياة ِدلائلاً

وبالجمال ِدليلاْ

*

فأنا بدولتيَ الحميمةأستعيدُ حضارةً

كادت تُحَنًطها السنينُ خُمُولا !

فتمدني

- إنٍ رُمْت ِفيها تمدُناً -

وحلاوةً...

وطلاوةً لبديعِك ِ

وجزالةً... وجزيلا

*

لم تُكْرهِ الدنيا على فستانها أحداً

ولم تعهد إليه ِ

بالصلاة ِعلى هدى خطواتها تقبيلا

فأنا هنا

أحيا على أمل ٍ يعيشُ بِحُبِّه ِ

وأموت حباً  لا يعيشُ طويـــــــلا!!

***

محمد ثابت السميعي

٢٠٢٢/٨/١٥

 

سحبني من نومي في آخر الليل طرق على باب شقتي الصغيرة. فتحت عيني ثم أغمضتهما، لعلّ الطارق يخجل على نفسه ويدعني اواصل نومي الجميل في تلك الليلة الليلاء، ألا أن الطرق ما لبث أن تواصل. عندما أيقنت أن الطارق معنّد ولن يفك عني.. فكّرت في أن أفتح الباب له. إلا أن سلطان الكرى ما لبث أن الحّ عليّ غامزًا بعينه.. نم يا رجل.. نم آلان.. والصباح رباح. تواصل الطرق دب فيّ نوعٌ من القلق، هل حصل شيء للأحباء وجاء مَن ينذرني؟ هل خشي علي مُحب أن أقضي في شقتي الوحيدة ولاحقه كابوس رأى فيه أنني أموت ويتحلّل جسدي في شقتي الوحيدة دون أن يعلم بي أحد؟.. هذه الاسئلة دفعتني إلى نوع من اليقظة.. فتحت عينيّ وسط تواصل الطرق، وكان لا بد هذه المرة من المواجهة فإما.. وإما.. توجّهت نحو باب شقتي. دون أن أفتح الباب سالت مَن الطارق؟ فأجابني صوت أنثوي.. افتح الباب.. اعتقدت أنها إحدى الجارات.. أو إحدى الصديقات جاءت تطلب المساعدة في أمر ضروري لا يحتمل التأجيل، فبادرت إلى فتح الباب. رفعت نظري في صاحبة ذلك الصوت لأتفاجأ بأنثى أشبه ما تكون بالملكة، بل هي ملكة تضع على رأسها التاج وتتراقص قُبالتي:

-مَن أنت سألتها؟ فردّت: أنا السيدة كورونا.. ألا ترى علامتي المميزة على رأسي؟.

ما أن سمعت كلماتها هذه حتى بادرت إلى اغلاق الباب، غير أنها دفعته ودخلت غصبًا عنّي، تراجعت إلى الوراء وأنا أشعر أن بدايتي انتهت، وأن كلّ أحلامي في كتابة القصص وإقناع العالم كله بأن تشيخوف آخر ظهر في الناصرة.. ذهبت أدراج الوهم.

جلست السيدة كورونا على مقعد قبالتي، وغمزت لي بعينها سائلة:

-ممَ أنت خائف؟ ما أنا إلا زائرة.. قد أمكث عددًا من الايام معك هنا في شقتك الدافئة.. بعدها قد أرحل.. وتختفي آثاري إلى لا رجعة.

-ماذا تريدين منّي أيتها السيدة.. قلت وأضفت مرسلًا نحوها نظرة توسّل: ألا يمكن أن تكوني اخطأت الطريق؟ ودخلت شقتي بطريق الصدفة؟

عندها أخرجت دفترًا من تاجها وتمتمت قارئة فيه.. ورفعت رأسها غارسة عينيها في عيني الوجلتين الخائفتين:

-ألست ناجي ظاهر.. الكاتب المعروف؟

التقطت كلمة المعروف من فمها وأهملت اسمي في محاولة مني للنجاة بجلدي. قلت لها:

-إما انني ناجي ظاهر فهذا صحيح.. وإما أنني أنا الكاتب المعروف.. فإنني لا أعتقد.. أنا أشعر بأن حضوري وغيابي لا يعنيان أحدًا.

ضحكت السيدة الجالسة قُبالتي:

-لنتفق أولًا.. ألست ناجي ظاهر؟

هززت رأسي موحيًا إليها أنني أنا ناجي ظاهر بلحمه وشحمه. ضحكت الزائرة:

-إذا وافقتني على أنك المقصود من طلعتي هذه الليلة الشتوية الباردة. بإمكانك أن تترك لي أمر انك كاتب معروف أو غير معروف. فأنا مَن يقرّر هذا الامر وليس أنت.. يا كاتبنا الجميل.

ما إن سمعت كلماتها هذه حتى انتابني شعور بالنهاية.. غلى الدم في عروقي.. شعرت برعدة تزلزل أركاني.. توجّهت إليها:

-والآن ماذا ستفعلين بي أيتها الملكة المبجّلة؟

افترّ ثغر السيدة الزائرة عن ابتسامة حفلت بكمّ هائل من السخرية. نهضت من مكانها وسط تجمّد أطرافي خوفًا منها. دنت مني. ربّتت على كتفي:

-لا تخف. كل ما أرجوه حاليًا هو أن يتسع سريرُك الضيّق لاثنين، أنت وأنا، سأمكث هنا في زيارتك، فإما أن آخذك معي بعد فترة من الزمن وإما أتركك تواصل كتابة القصص.. وأمضي في طريقي عائدة من حيث أتيت. وباحثة عن صيد أسمن منك.

-لماذا لا تتركيني الآن وتذهبي في حال سبيلك؟ لماذا لا تختصرين عليّ أحمالًا تنوء بحملها الجبال من الهموم؟ هتفت بها، فابتسمت مرة اخرى:

-تروَّ يا صديقي.. تروَّ قليلًا لا تكن متسرّعًا عجولًا.. سأمكث معك هنا في هذه الشقة الوحيدة المشوّشة.. سأقوم باصطحابك فترة من الزمن.. فإذا أنست إلى صحبتي أخذتك معي وأرحتك من هذه الهموم التي تعيشها ليلًا نهارًا، أما إذا عرفت كيف تتعامل معي.. فقد أدعك لمواصلة أحلامك الفارغة.

قالت هذه الكلمات دون أن تترك لي مجالًا للردّ عليها.. طلبت مني أن أسترخي على سريري.. وعندما فعلت مدّت يدها إلى جانبي موحية لي أنه لا مفرّ أمامي من إفساح المجال لها لأن تنام بقربي وإلى جانبي. استلقت إلى جانبي.. وأغمضت عينيها فأغمضت عينيّ.. بعد قليل فتحت عيني لعلّي أكتشف أن كلّ ما حدث حتى تلك اللحظة ما هو إلا اضغاث أوهام، إلا أنني فوجئت بها تتحرّك إلى جانبي وتفتح عينيها.. عندها أيقنت أنني أعيش لحظات قد تكون الاصعب في حياتي الصعبة أساسًا.. فزائرتي.. تلتصق بي كلّما مرّت لحظة أكثر فأكثر.. ورغم محاولاتي الهرب منها كانت تفلح في كل مرة في الالتصاق بي.. الغريب المريب أنها كانت تفلح في كل اقتراب لها.. في حين أنني كنت أفشل في المقابل..

عند هذا الحدّ شعرت بالنعاس يهاجمني من كلّ جهة وناحية، وكان لا بدّ لي من النوم. فنمت..

كانت تلك من أصعب الليالي في حياتي..

فتحت عيني بعد ثلاثة أيام من النوم والمعاناة.. لأجد نفسي أطلق السعلة تلو الاخرى.. وليأتيني صدى سعلتها إلى جانبي مماثلًا لسعلتي.. في كل شيء.. لقد باتت السعلة واحدة.. والتنفسة الضيقة واحدة.. موحّدة.. هل انتهى كل شيء. لا أعرف.. لأنتظر.. ماذا سيحدث ولأكن يقظًا كعادتي.. فأنا اؤمن أنه لا يُطلب منّا أحيانا في لحظات القسوة خاصة.. إلا أن نمرّر الوقت.. لأمرّر الوقت إذن ولأنتظر لحظة الفرج.. لأتخلّص من زائرتي .. ضيفتي الثقيلة.

في الليلة التالية في الهزيع الاخير منها.. سمعت طرقًا خفيفًا على باب شقتي. شعور غامر بالأمل والتساؤل حملني لأن أتوجّه إلى الباب. رفعت رأسي رفعت السيدة الزائرة رأسها. مشيت نحو الباب فمشت إلى جانبي. ألا يمكنك أن تتركيني أيتها الثقيلة ولو لحظة واحدة؟ الغريب أنها هزّت رأسها علامة الرفض.. لا لن أتركك.. إلا عندما تنجح في الامتحان فإما تكرم بالحياة وإما تهان بالموت.. طيب سنرى أيتها الزائرة. سنرى.. على كلّ لنرى مَن يطرق بابي الأن.. سمعت طرقة أخرى على الباب.. فعرفت مَن الطارق.. أنا أعرفها.. أعرفها من طرقتها اللطيفة.. خمسون عامًا مضت علي وأنا أستمع إلى طرقتها.. إذن هي القادمة.. هي .. هي.. هي.. قصتي الرائعة الجميلة.. مددت يدي إلى اكرة الباب وكلّي أمل أنها هي.. وأتاني صوت زائرتي أشبه ما يكون بفحيح أفعى توشك أن تختنق:

-لا تفتح الباب لها.. شقتك الصغيرة المشوشة لا تتسع لاثنتين. أذا كانت القادمة أنثى سيكون علي أن أذهب.. لا تفتح الباب.

شعور بالقوة والامل يجتاح أطرافي.. هل أتى الفرج بتمرير الوقت؟ ما أذكاك يا ناجي ظاهر.. عرفت كيف تدير المعركة أخيرًا.. قصتك ستخلّصك من ضيفتك الثقيلة.. ما أحلى هذا.. آه ما أحلاه.. ومددت يدي بسرعة غريق طرق بابه أمل الخلاص.. مددتها إلى اكرة الباب،، وفتحته بكل ما لدي من قوة وحلم.. لتدخل تلك.. ولتخرج هذه.. الزائرة الثقيلة.. بل اللعينة..

***

قصة ناجي ظاهر

 

لم أرتكب إثما

شيعت سرب الأمنيات

حتى

خذلان الأخير

وعدت

ليس ذنبي

ان تصيب اللعنة

قصائدي وان أكتبها

بعيون ينكسر

فيها الضوء

ليس ذنبي

ان أصدق وعود الموت

بأن يمنحني إسما

اكثر وجاهة من إسمي

ولكنه يعود في كل مرة

بمزيد من الأحجيات

الغامضة

فأنسى إسمي الأول

ليس ذنبي أنه

كلما أيقظني

الفجر لأتهيئ للصلاة

يراودني إثم جديد

عن نفسي

كان ذنبي الوحيد

هو ولادتي

المتعسرة

كل المرايا كانت تنتظر

ولادتي

بفارغ الصبر

وعندما تكلم صمتي

نظرت في اعماقي

كانت الصور ممزقة

وعلي ان اعيد تركيبها

من جديد

لطالما اردت كسر تلك

المرايا الصامتة

المخيفة

بالامس وجدتها

تعبث بملامحي

كان وجهي بلا

الوان

وعيناي منطفئة

كان علي ان افتح

للضوء

عيني

لأتذكر إسمي

الأول

ولأتذكر متى مر

الموت بجانبي اخر مرة

وترك لي داخل

اخر أحجية

غامضة

مزيدا من

السنوات الضائعة

علي ان أتذكر إسمي

الأول

وتاريخ هذياني

الأول

وان أفك اربطة

الزمن

لأعقده من جديد

فلا يتشابك مع

ذاكرتي

***

بقلم: وفاء كريم

أمّة الروحِ وروحُ الأمّةِ

أوْقدَتْ نوراً بفَجْرِ النهْضَةِ

*

وتَبارَتْ في عُلاها كوْكباً

يَتهادى بصراطِ العِزَةِ

*

وعلى الآفاقِ مَدَّتْ فِكْرها

مِثلَ إشْراقٍ مُبيدِ الظلمَةِ

*

إنّها أمٌّ نُهاها إسْتقى

مِنْ رسالٍ بفَضاءِ القدرةِ

*

ورسولٍ قادَها نحوَ العُلى

وبَنى فيها عمادَ القدوةِ

*

وكتابٍ إحْتوى كُنهَ الرؤى

ومَضى نَهْجاً لرأي الحُقبةِ

*

وبها جيلٌ بجيلٍ إحْتذى

وتنامى رُغمَ هَوْلِ الهَجْمَةِ

*

علةُ الدنيا برأسٍ فاسدٍ

وغريرٍ مِنْ رَعيْلِ الفتنةِ

*

كانتِ الأرضُ بلاداً للوَرى

أطْعَموها مِن رَحيقِ الثورةِ

*

جُلّقٌ قادتْ وبُغدٌ بَعدها

برجالٍ وببَيْتِ الحِكمةِ

*

سرّ من را ولدتْ منْ رَحْمِها

كوَميضٍ بمَسارِ القوّةِ

*

واوها حَرْفٌ أميرٌ ثائرٌ

يَتحدّى بصراطِ النَخوةِ

*

أبْهرَ التأريخَ فعلٌ واعدٌ

بمَزايا مِن خِصالِ الرِفعَةِ

*

أيّها الساعونَ في مَجدِ المُنى

أمّة الفرقانُ صوْتُ الرحْمةِ

*

عاصَرَتْ كوناً بكوْنٍ إنْطوى

واسْتجابَتْ لنداءِ اليَقظةِ

*

وبإقرأ فيضُ حَقٍّ أطلقتْ

أجْلَتِ العقلَ بعَزمِ الفِكرةِ

*

أمّةٌ قادتْ وأحْيَتْ أمَما

أنقذتها مِنَ وَجيعِ الرَقدةِ

*

أعْيَتِ الأزمانَ دوماً والقِوى

وأقامَتْ برياضِ الرَوْعةِ

*

وبضادٍ مُرْتقاها للذرى

إنّها عَزّتْ بضادِ اللغةِ

*

لا تقلْ غابَتْ بعَصْرٍ هادرٍ

بلْ تراءَتْ كوَقيدِ الجَمْرةِ

*

أمّة كانتْ وكوْنٌ ضَمَّها

سَوفَ تَحْيا بانْطلاقِ الكثرةِ

*

كمْ تَبارتْ بعُصورٍ واعْتلتْ

عَرشَ مَجْدٍ برفودِ الهمَّةِ

*

مُنتهى الإشراقِ في قلبِ الوَرى

وهجٌ دامَ وَضيْئَ الطلعَةِ

*

أذكتِ الأفكارُ أرْجاءَ النُهى

قدْحَةُ الرأسِ لهيبُ اليَقظةِ

*

أمّة تَرقى بعَقلٍ قائدٍ

وبشَعْبٍ مُسْتهابِ القيمَةِ

*

أيّها التأريخُ تباً للضَنى

أمّة الإخلاصِ بيْتُ الوَحْدةِ

*

ولها فينا مُرادٌ واجبٌ

فتصدّى بعتادِ العَوْدةِ

***

د. صادق السامرائي

24\11\2022

 

غدا لن أكون هنا،الليلة سأغادر وكرا بلا فواصل،عشا بلا خصوصية، غدا قد تكون نهايتي أو خلاصي من ليالي الأرق، والإحساس الداخلي بعريي أمام نظرات الجيران...، فقدان الرعاية وكتم الأنفاس، وماض من سنوات عمري فوق لحاف من تبن مهترئ، خانق برطوبة، تزاحمني فيه أختي الصغيرة..

دمعات أمي الزائفة وخوفها الكاذب من الغد يذكرني بيوم نعى فيه أهل الحي موت أبي، كانت أمي تهتز بشهقات وأنا أحملق فيها بهدوء نفس لا أجد سببا لعويلها ولا أثق في دموعها؟ ألم يكن في رحيلة راحة مما عانيته بعلمها وأمام عيونها من انكسار قاهر مذل: آلام نفسية وحروقات أشد من طعنات السكاكين؟.. ربما كانت تشهق لفقدان رجل كان بادئ الليل يؤنس سريرها، ثم لا يلبث أن يتركها مدمدما أو زافرا، وأحيانا لاعنا غاضبا قبل أن يندس الى جانبي!!.. ألم تكن تعلم اني كنت أسمع وأرى؟.. بلا.. كانت تعلم لكنها كانت تتناسى وجودي ككيان من لحم ودم واحساس!! ربما بنت الخامسة التي كنتها في عرف أنانيتها سريعة النسيان، لا إدراك لها ولا وعي بما حولها، فأحرى أن تمتلكه أختها الصغرى في عامها الثالث الوجلة بين أحضانها.. صاحيتين كنا، تتسربل دموعنا،لسان أخرس و قلب يتصدع فرقا، حين يرتمي أبونا الى جانبنا حيث لامكان غير هذا قد يأوي اليه في كوخنا القصديري.. ربما كانت أمي تستلذ بفعله، وبه تطمئن،راضية، لأننا كنا لها قربانا هو أهون عليها من أن يتحول زوجها الى امرأة أخرى غيرها تشاركها نذالته ووساخته أو قد تستأثر به عندها..

لم تخبرني أمي شيئا عما قد يحدث لي غدا،رغم تساؤلات الرعب التي كانت تقرأها في عيوني، لقد تركتني لنفسي وكأنها لا تدري مصيري المنتظر اذا ما صرت وجها لوجه مع رجل بلا حماية، كما كانت لا تدري أثر استغلال أبي لجسدي بعد غضبه حين ترفض له رغبات سريره..

صديقة عاشت تجربتي هي من تكفلت بحالي،لازمتني لتشجعني، وتذيب مخاوفي،محاولة وأد الفزع بين أضلعي:

ـ لا تخافي، مصطفى لم يخترك زوجة الا انبهارا بجمالك وتعلقا بك مذ كان يسكن قريبا من حينا، واحمدي ربك انه مقطوع من شجرة ؛ الكبسولة التي معك ستبعد ه عن كل سوء ظن أو ارتياب،تشجعي، أغلب بنات حينا مررن بنفس اللحظة واستطعن الخروج بسلام.. منهن من اكتفت بكبد دجاجة، ثم لا تنسي قوة التميمة التي سأعطيها

لك، يكفي ان ترددي في نفسك وهو يخلع عنك ثيابك: "بزولة أمو تلقم فمو".. ثم تظاهري ببعض الألم اذا ما حاول أن يعاود مسك...

كنت اسائل نفسي:اين تعلمت صديقتي كل ما تريدني أن أتلبس به من خداع ومكر، أوهام، ودسائس؟

مرت الليلة بسلام، فقد كان زوجي لطيفا لبقا،خفف عني الكثير من التوترالذي انتابني من جراء ما استبد بي من رعب، فقد كنت مستعدة للانتحار اذا ما كشف زلتي.. فما ذنبه إن كان رجلا لازال يؤمن بالبكارة كعلامة للشرف والعفة ثم يجد نفسه ضحية بلا سفك دم؟ وما ذنبي وقد تم سفك دمي اغتصابا بلا إرادتي لكن برضى من كان عليها أن تقاوم نذالة أبي؟

لم تحاول أمي أن تسأل كيف مرت ليلتي؟أشك أن يكون الخجل هو ما منعها!!.. فمثلها لا يعرف الخجل، ربما تعمدت الا تثير ماض عانته مع أختي الصغيرة وهي من فضحت سلوكات أبي وخالي من بعده بين أترابها، او ربما هي الثقة التي وضعتها في خبرة صديقتي وقد مرت بنفس التجربة وهي اليوم أم بتوأمين..

مع الأيام شرعت تنتابني آلام حادة أسفل بطني كلما جامعني زوجي، احتفظت بالسر في نفسي لأني خشيت ان أنا أخبرت أمي ان تتنمر علي كما فعلت ذات صباح حين أخبرتها بأن أبي قد أذلني و اسال دمي بلارحمة ولاكرامة، شدت بخناقي وقالت:

سر يجب ان يظل في صدرك والا قتلتك اذا خرج لغيرك،أن تكوني انت خير من أن يهجرني أبوك الى غيري..

هكذا خافت أمي على رجل أن يتركها لغيرها ولم تأبه لحرمة وشرف ومستقبل ابنتها، ربما هي نفسها قد أتته بلا شرف وقد التقطها متسولة تطرق الأبواب..

تفاصيل كثيرة شرعت ألاحظها على مصطفى ، لا انفلت من رقابته، يمنعني من زيارة أمي الا إذا كان معي، ولفترة قصيرة محدودة، يكره زيارتها لي خصوصا في غيابه، كما أنه يقلق من وجود أختي عندي ؛ كنت أحاول ان اتجاهل سلوكه حتى لا افاجأ بما قد يكون يعرفه عن أختي وأمي، وما صارتاه بعد مغادرتي الوكر،فألسنة النميمة لا تنخرس أبدا فهي كبخور الأضرحة اذا لم يكتسحها دخان تنشر روائحها..

توقفت آلام أسفل بطني بعد زيارة لطبيب خاص والذي زف لزوجي خصوبة رحمي بعد شهرين من زواجي، ثم زودني الطبيب إثر زيارة ثانية بأدوية تخفف من تعبي الشديد وإرهاق منعني من القيام بواجباتي نحو زوجي،خصوصا وقد تلبسني خوف مما كان يستحوذ على أمي ويثيرهواجسها:هل يتركني زوجي الى غيري مبكرا؟.. ما يحيطني به مصطفى من عناية يكذب ذلك، وانصافا له فقد شرع يحاول ان يحسسني بالأمان والرعاية، كف عن الجلوس في مقهي الحي أسفل سكنانا بعد نهاية عمله حتى يساعدني في اعمال البيت، يمدح كل مجهود أبذله لارضائه.. وبصراحة فقد تعلقت به كإنسان ثم كزوج شرع يمحو بسلوكه معي كل أثر سيء عن بعض الرجال..

صرت أعاني بعضا من مضاعفات الحمل، ارتفاع الضغط وتراكم السكر في دمي مع آلام حادة في القدمين.. ربما كنت السبب في تفاقم ذلك، فقد أفرطت في الأكل وقد تفتحت شهيتي لخير زوجي وما يجلبه من حلويات أحبها..

تَم نقلي ذات مساء على وجه السرعة الى المستعجلات، ثم لزمت سرير المستشفى أياما في شبه غيبوبة حتى أظل تحت المراقبة.. لم يزدد أمري الا استفحالا بعد عودتي الى البيت، وفي احدى الليالي ايقنت موتي لا محالة..

كان زوجي لا يفارقني، افقد الوعي ساعات وحين أصحو لا أجد غيره بجانبي.. كنت أحس قلقه علي وأتابع رغم وهني مزيجا من نظرات الحب و الشفقة والعطف في عينيه..

بدأت الوساوس تأكلني، لماذا يمتنع عن الاستعانة بأمي؟ حتى أختي يرفض ان تظل بجانبي؟ لا شك أنه يخفي سرا يؤخر البوح به حتى لا يضاعف به آلامي خوفا على ما في بطني منه.. مسكت بيده في إحدى لحظات صحوي وتوسلته أن يستدعي أمي، وضع يدي بين راحتيه ثم رفعها الى شفتيه ؛ انفتقت صرة غيم في عينيه.. كانت أول مرة أرى دمعة تتدحرج على خد زوجي.. قال:

ـ أنا أحببتك كوثرلجمالك وقلبك الطيب العطوف رغم الحزن الساكن في عيونك والألم الذي يعصرك مما مورس عليك من ظلم وتطاول

ولا اريد أن أتعبك أكثر خوفا على جنينك، لكن اصرارك على استدعاء أمك يلزمني بالصراحة.. هي ليست أمك، فلا أم تغض الطرف عما فعله بك ابوك الندل الوضيع الى ان مات مقتولا في معركة لم يكن في مستواها،أما أختك فلا داعي لتعرفي ماصارته وحتى أختصر لك الطريق فلك الخيار بعد الوضع، بيتك أو بيت أمك؟

أكملت في سري: أو مأواي الأخير..

لم أكن في حاجة الى ان اصارحه بواقعي، فقد كان يعرف كل التفاصيل، أدركت الآن انه منذ أن تعرف علي والى اليوم قد مارس معي بلا تبجح ولا تعالي أوفرض سيطرة فضيلة الستر بدل مذلة الفضيحة وهذا لا يقوم به الارجل شهم يريد المرأة لذاتها وما يثيره فيها من صفات، وأنه لا يأبه بما يمارسه غيره من سلوكات وكما عبر عن ذلك مرة:"كل شاة برجلها معلقة "..

تم نقلي قبل الفجر الى المستشفى:كنت موقنة من نهايتي.. لو يمهلني عمري فاشكر يدا اصطفتني باختيار ونفسا رفعت قدري بعد انحطاط، وعقلا قرأ دواخلي بوعي وتقديرومراعاة..

بعد أسبوع من غيبوبة و الكل من حولي متأكد بمن فيهم الطبيب والممرضات اني لن اصحو منها.. فتحت عيني لاجد بنتي تبكي قريبة مني وأجد زوجي يمسح عرق جبهتي وهو يحمد الله على ان وهبني الحياة من جديد..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

حينَ يجفُّ الضياءُ، يَنسَرِبُ في التيهِ .. يسقطُ فَحمُ الله، تَنطفيء كلُّ الألوان، فَتَفغَـرُ الحواسُّ،

تصرخُ بما لا تَدري من الإيقاعاتِ.. بِـدءاً من ولادة الصمتِ.. حتى رُقادِه.. بأنغامٍ وهواجِسَ ..

لاعلاقةَ لهـا بمهارةِ العازفِ، بلْ بحالةِ " آلةِ العزفِ وأوتارها، مشدودةً كانتْ، أم مُنسَرِحَةً ... "

تَتَحَـزَّمُ بالصمتِ، تُحاولُ العودةَ إلى ما قبلِ ظهورِ اللغةِ، وبِـدءِ الزَيفِ..

ستنسِفُ ألغامَ اللغـةِ، كـي تتحاشى الفَصاحةَ، ألاعيبَ التَوريَةِ، وتَهويماتِ المجـاز..

فالوقتُ، وقتُ الجدِّ، لا مجالَ فيه للهزَلِ والتَفَكُّهِ... إلاّ مُخاتلةَ الصدفةِ كي تنجـو بجلدكَ...

كَفاكَ تنتَظرُها (الصدفَة) بصورةٍ منُتَظِمَة !!

ودونماَ قَصدٍ منكَ، ستَنفَتِحُ ستائرُ النسيانِ، وسيستقبِلُكَ (النسيانُ) بممحاته الحنون،

يمسحُ عن قلبكَ كَدَمات الذِكرى، ويغفرُ لكَ أَحزانَكَ،

فَتهرَبُ من دهاليزِ الذاكرةِ أَبخِرَةُ الماضي ..

قبلَ أن"تحتَرِفَ" الغربةَ و"تستوطنَ " الضياعَ مُتظاهراً أَنكَ سائح ...

يومَ فَتحتَ بابَ الرمادِ فسقطتَ في بئرٍ مـن الحمّى...

إذا كان الزمن يتكفَّلُ، حقاً، بإشفاءِ جروحِ الماضي .. فمنْ أَينَ أَينَعَتْ جِراحاتُنا،

حتى إكتَسَتْ شفاهُها بالشوك؟

::::::::::::::::::::::

 قُلنا وكَتَبْنا، على كلِّ درجاتِ السُلّم الموسيقي ونَغَماته،

حتى بَلَتْ عَتباتُـه فصارت نَغَماتُه نشازاً كورالياً من كثرةِ الترديد..

ولم يتبدّلْ شيء !!

نحنُ أيتامُ الفَرَحِ وأَرامِلُه!

مُدُنٌ نزَفَتنا ذاتَ زمنٍ، وتقيأتنا ذاتَ ضحىً مُشمِسٍ...

تَرَكَتْ فينا خوفاً غامضاً،

ظلَّ ينمو بداخلنا، له طعمُ الخطيئة ..

جُرحَ الزمانِ غَدَوْنا... مُتغرّبينَ صِرنا،

نتكيءُ على أرواحنا بصمتٍ مديـدٍ،

مُـدنٌ ضَيَّعتْ يَقينَها.. تأريخَها وأساطيرَهـا، فَغَدَتْ مثل بَغيٍ بلا ذاكرةٍ،

بلا قلبٍ.. يمتلكها مَنْ يُريـدُ أنْ يسفَحَ فيها ماءَ فحولَتهِ !

فَرُحنا نَنْزِفُ خلفَ أَقنِعتِنا البهيجة...

وبعدَ أنْ رَحلنا كَمَـداً، إعشوشَبَ الحنينُ، حتى تَفَضّضَتْ أَوداجُهُ !

وغَدَونا أطفالاً نَقْرَعُ أبوابَ الذكرى،

.. صَيَّرنا رَجعَ صدى صرخةِ أَيـوبَ*.. نصباً من مرمرٍ!

شَبَقُه، يصولُ بدَمِنا، فَنَتَعَثّرُ بِظِلٍّ مُفتَرَضٍ.. !

**

طريدةَ "عيونِ السلطانِ " صِرتَ ...

هرباً من مُطاردةِ العَسَسِ، دَلَفتَ إلى خربة في الشواكة،

شاخَ فيها الزمنُ، تُعمي الموشورَ وتُجَنِّنٌ إبرةَ البَوْصَلة...

تَمشي على هُدُبِ الهاجسِ، كـي لا تتعثَّرَ، فتُزعجَ " صُرمايَةَ " الخَرِبَـة، سَكينَتَها ..

ظُلمَةٌ مُطبِقةٌ، تُقيمُ فيها الصراصِرَ عُرساً من صَفيرٍ يستولِدُ الوحشةَ..

مُثخناً بوطنٍ، منفيَّاً فيه وإليه..

ستظلُّ تَنـوءُ بِجُثَّـةِ وطنٍ تتدلّـى من عُنُقِكَ.. وستنطوي على نفسِكَ، كَمَـنْ يحتضنُ جُرحَـهُ..

ستُسنِدُ ظهركَ للحائط، فتزوركَ زَخَّـةٌ عابرةٌ من غَفوٍ..

إيّاكَ أَنْ تخلعُ حذاءَكَ أو جواربكَ، حتى لا تتزحلقَ في المنام بدمكَ...!

وفيما تُنصِتُ لآلامٍ تَناسَيتَها في زحمةِ "العيش".. وتُطَرّزُ العتمةَ بدمعاتٍ سِرّية،

يَلسعُكَ جسم باردٌ.. لا تَراه...!

أخرَسَتْهُ الظلمة ...

مُتَوَجِّساً، تَمُـدُّ يدكَ نحوه، ولا تزالُ تُرهِفُ السمعَ، للتأكُّدِ منْ أنَّ أَحَـداً، مِمّن يُطاردونكَ،

لم يهتدِ إلى مَخبئك .

بأصابعكَ سَتَراه أَملَسَاً، صامتاً.. ستَحتَضِنُهُ، لتَتعرَّفَ على تفصيلاته..

تُقَرِّبُ أُذنَك منه، فلا تسمع فحيحاً في صدره ...

إذن، هو ليس بمدّخنٍ، تقولُ لنفسِكَ، ولا تَصدِرُ خَرخشة عن رئتين هَدَّهما النيكوتين والربو..!

يا له من محظوظ !!

تتسلَّقُ أناملُكَ إلى أعلى، سترى أنَّ لـه وجهاً أملساً كالقوري (إبريق الشاي)

.. كمْ هو محظوظٌ !! لأنه لا يحتاجُ لحلاقة ذقنه مرة كلَّ يومينِ، على الأقَل !ْ

........................

تروحُ تُجري سياحةً في تضاريسِه..

ها هو بدونِ نظّارةٍ طبية، تَترُكُ حفرتينِ عندَ مَنبَتِ الأَنف...

عيناه بِلا رموشٍ، أو أَجفانٍ تشبهانِ عَدَساتِ التصويرِ..

أُذناهُ عاديتان، سوى أنَّ الصِوان خالٍ من منفذٍ ...

فوراً يقفزُ إلى ذهنكَ الصَمَمُ، الذي أصابَ بتهوفن ...

لا بُـدَّ أنـه كان سعيداً، إذْ تخلَّصَ من سماع التُرَّهات وتَفاهاتِ المحيط ..

أُخدودٌ صغيرٌ حولَ الفم، لنْ يكبر، ولن تُعَمِّقه تجاعيد السنين ..

...................

تُطَوِّقُـهُ بيمينكَ، فيعتريكَ شعورٌ بالحَسَدِ إزاءه، لأنـه لا يُعاقِرُ ثنائيـِّةَ النسيان

والذكرى.. أو غيرهـا من الثنائيات !! أملساً عندَ الصدرِ ينتهي...!

إذن هو بلا رجلين.. وبالتالي لا يُعاني من ركبتينِ معطوبتين !!

يا لسعادته !!

وقبلَ ذلكَ، لا بطنَ له، فلا يشعر بالجوع أو التخمة، ولا يعرفُ ما هي القُرحـة،

لا يفقه معنى أَن يأخذَ تسعَ حبّاتٍ في الصباح وخمساً في الليلِ، كلَّ يوم ..

ولا يخاف أنْ يَصيرَ لـه كرشٌ قبيحٌ !

والله ! لولا الحياءُ، لَقُلْتُ ما شَتَّتَ المَلَلا !

.......................

هو لا يحتاج أَنْ يُشغِلَ نفسَهُ بالتأريخ ولا بـ"نهايته"!، التي إنتهتْ !

ولا حاجةَ به لأَنْ يَنْقَلِبَ إلى لقيطٍ فِكريٍّ، يَنْزَلِـقُ على ظهورِ مَنْ رَفَعوه،

فإنزوى تِذكارهم في ظلامِ الحاضِرِ ..

ولا حاجَـةَ به للخَجَلِ من الشهداء !!

هو ليسَ بحاجةٍ لمُراجَعةِ "دوّامةِ " سارتر ** وغيرها ..

يكتفي بوجوده الساكن، هكذا !!

......................

يا هذا من أين أتيتَ؟

عفواً، لماذا عافَكَ أَهلوكَ؟! أَتُراهم نَسَوْكَ؟

أَم كانوا، مثلنا، نَجَوا بجلودهم؟! فبقيتَ ساهراً على أطلالهم ها هنا؟؟

أنتَ الغريبُ " اللا أَحَـدَ " هنـا .. لـنْ تستطيعَ الهَرَبَ ...

كيفَ تهرَبُ من أشياءَ تسكُنُكَ..!

كُلَّما حاولتَ الهرَبَ منها، ستجدُ نفسَكَ وحيداً معها .. ستنفردُ بكَ .. هِيَ،

أَمّـا أنـا، فسأظلُّ أطوَي حقولَ الليلِ، خارجَ كوكبِ الخوفِ..

أجلسُ، حيثُ أُريد ..

أتأمَّـلُ قوافِلَ زمانـي ..

............................

............................

فعِمْ مساءً، ولا تَبْتَئِسْ من حَسَدي لصِفاتِكَ !!

طابَتْ وحشتُكَ، سميرَ الظُلمَـةِ !!

***

 يحيى علوان

...................

* "العهد القديم"، إصحاح 42

** مسرحيةٌ لسارتر، تقولُ أنَّ قتلَ "الطاغية" لايعني، دوماً الخلاصَ من الأوضاع والظروف التي أدّتْ إلى خلقِ الطاغيةِ ..

فالأخيرُ، هو في نهايةِ المطاف، نتاجُ شعبٍ مُتَخَلِّفٍ وظروفٍ سياسيةٍ سيئة .. وأَنَّ تصفيته فقط، لا تعني إلاَّ إستبداله بآخر .

لأنَّ " أيَّاً كان " الذي يحلُّ محلّه، سيجدُ نفسه مضطراً للتصرُّفِ بالأسلوبِ نفسه...

"لا يُغَيِّرُ الله ما بقومٍ، حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم "!! أي الظروف والمعطيات ... إلـخ

Life maker.

مع ترجمة الى اللغة الانلكيزية بقلم:

الدكتور يوسف حنا. فلسطين.

***

حجرة قذرة مخيفة مليئة بصور مخلوقات غريبة. ملائكة تجر عربات حديدية ملآى بشواهد القبور، حيوانات برؤوس بشر، وطيور لها سيقان زرافات، وأجنحة غزيرة غريبة،وهياكل عظمية متنوعة.

فاجأته وهو غاطس في خلوته يتفحص جمجمة من العسير جدا الوقوف على حقيقة إنتسابها لأنثى أم لذكر .

لم يتجاوز العقد الثالث طويل مثل حبل المشنقة. نحيل وأحدب كما لو أنه الكونت لوتريامون في حفلة جنائزية مريعة.

لا تيأسي يا جمجمتي الغالية. سأنفخ فيك من روحي وأعيدك إلى عالم الكون والفساد.

لن أطيق موتك وسكونك ولا شيئيتك الآهلة بصفير العدم.

أنت جديرة بوجه إلاه أبدي لا يقهر.

كان يرتدي قناع شيطان رجيم.

دفن ساقه اليمنى منذ انتحار ساعي البريد في الكاتدرائية المجاورة . صنعوا له ساقا خشبية تشبه مجذاف قارب فرعوني.

ها هو يتمتم وتحلق كلمات غامضة في الحجرة تطفر مذعورة من شفتيه المتورمتين.

ح ي ا ة . ح ي ا ة . ح ي ا ة .

ع و د ي . ب . إ ذ ن ي . ب . ق و . ة . س ح ر ي .

وضع الجمجمة في إناء نظفه بفرشاة أزال طبقة الغبار الذي يطوقه ألصق عينين نابضتين في محجريها إختلسها من جسد إمرأة حديثة الموت.

لاتنسوا أنه كان مولعا بنبش القبور وسرقة أعضاء الأموات.

لم يكن يتاجر بها بل كان يخبئها

في ورشته المعزولة في دوارق من السيراميك

رائحة الدم والجثث والفناء تضفي على المكان ميسما تراجيديا عميقا.

وضع مكان أنفها أرنبة أنف مهرج سفسطائي. وأدخل طاقم أسنان في فمها الأدرد. راسما بالقلم الأسود حاجبين رقيقين. واعدا إياها بزرع شعر غجري آسر الأسبوع القادم.

كان ضوء المصباح خافتا جدا.

تتسلل عناكب عدمية من عينيه الغائمتين. وإيقاع أمواج متكسرة تضرب قارب هواجسه الكثيفة.

الآن إنتهى كل شيء . الآن أتممت عليك نعمتي وعما قليل ستعودين إلى الحياة. وكذا نتخلص من شأفة الموت والخراب.

الأشياء الجميلة لا يجب أن يطالها الفناء في ملتي واعتقادي .

الموت هو ذئب مخصي يعدو وراء ضحاياه منذ البدايات.

أنا صانع الحياة وباعث الموتى من الأجداث.

أنا الإلاه الذي سيسر العالم من فتوحاته الخارقة.

***

بقلم فتحي مهذب تونس

.........................

Life maker

By Fathi Muhadub

Tunisia From Arabic Dr. Yousef Hanna / Palestine

***

A scary filthy room filled with pictures of strange creatures. Angels pulling iron chariots filled with tombstones، animals with human heads، birds with giraffe legs، strange abundant wings، and various skeletons.

*

I surprised him، immersed in his seclusion، examining a skull that it is very difficult to identify its affiliation، female or male.

*

He was not older than the third decade of life، as long as the noose. Skinny and hunched، as if he's Comte de Lautréamont (1) at a terrible funeral party.

*

Do not despair، my precious skull. I will blow on you from my soul and return you to the world of the universe and corruption.

*

I will not bear your death and stillness، nor your objective inhabited with the whistle of nothingness.

*

You are worthy of a face of an eternal، indomitable god.

*

He was wearing an accursed demon mask.

*

He has buried his right leg in the nearby cathedral since the postman committed suicide.

*

They made a wooden leg for him، similar to the oar of a Pharaonic boat.

*

Here he is murmuring and mysterious words are circling in the room، sputtering in panic from his swollen lips:

*

ـ L i f e... L i f e... L i f e...

*

ـ Come back with my permission، with my magical power.

*

He placed the skull in a vessel، cleaned it with a brush، removed the layer of dust surrounding it، affixed two pulsating eyes in their orbits which he stole from the body of a recently dying woman.

*

Do not forget that he was fond of exhuming graves and stealing organs of the dead.

*

He was not trading it but hiding it

*

In ceramic beakers in his insulated workshop.

*

The smell of blood، corpses، and annihilation gives the place a profound tragedy.

*

He replaced her nose by a nose tip of a sophistic clown. And inserted a denture into her edentulous mouth. He drew thin eyebrows with a black pen. Promising her to transplant captive gypsy hair next week.

*

The lamp light was very dim.

*

Nihilistic spiders sneak out of his cloudy eyes. The rhythm of the breaking waves hit the boat of his intense obsessions.

*

Now it's all over. Now I have completed my blessing on you، and you will return back to life. As well as get rid of the scourge of death and devastation.

*

Beautiful things should not last to annihilation in my beliefs and multitudes.

*

Death is a castrated wolf running after its victims since the beginnings. I am the life maker and the emitter of the dead from graves.

*

I am the god who will delight the world through its marvelous conquests.

...................

(1) Comte de Lautréamont was the nom de plume of Isidore Lucien Ducasse، a French poet born in Uruguay. His only works، Les Chants de Maldoror and Poésies، had a major influence on modern arts and literature، particularly on the Surrealists and the Situationists. Ducasse died at the age of 24.

ندى الحُلمِ لَثمَ شَفتيَّ فَتفَتحتْ زَنبَقتانْ

ألمَحُ دَمعةَ فَرحٍ تَلمعُ  بين سَنابِل عَينيك

فَصَدى قُبلاتِنا شَقَّ الضَّبابَ الأسْمرَ!

وتَلألأَ جَبينُ القَمر

حمَلَنا العشقُ على أَجْنحةِ الرُّوح

والسماءُ احْتَضَنتنا نجمتين ...

فَجأَةً أبرقت غيومٌ نرجسيةٌ

اغتالت ألوانَ قَوسِ قُزَح

وصُقورٌ رماديَّةٌ نَهشَتْ خاصرتي الحُبلى

فَهَوتْ نيازكُ الأملِ إلى بحورٍ

لا نهايةَ لها

وطارَتْ من قلبي فَراشةُ ثَلج ٍ

تاهَ حبيبي عَني

وتَوارى عَن ذاتهِ

بين شَواطِئِ اليأسِ

فكيفَ السَبيلُ إلى الخُلود؟

وغَفوَتُكَ صَمَّاءُ؟

اِنهَضْ من أُرجوحَةِ الصَّمت

و اخلعْ عنكَ عباءةَ الوَهم

لا تغرقْ يا نَورسي

رفرفْ صَوبَ الضوء

أمدُّ لك شَوقيَ وحنيني جُسوراً

لنَعبُرَ إلى جُزرِ النورِ

هناكَ سَتولَدُ فينيقاً أَبيض

أَسقيكَ صِبَايَ

وأمْنَحُكَ بَقايا فُؤادي...

منْ رحِمِ الرَّمادِ تولَدُ أَزهارُ النار

ليَفوحَ عَبقُ جَمْري

بَلَى

لا حُبَّ يَخلدُ إلا تحت الشمس

***

سلوى فرح - كندا

 

مقعدكِ الشاغر شوّه وجه القاعة وأفسد يومي.

رسالتك على هاتفي جافة كقطعة خبز يابسة في حلق طفل جائع. " آسفة، ظروفي لم تسمح بالحضور ".

كم مؤلم أن يحضر الجميع وتغيبين !

أقصد يغيب الجميع وتكونين وحدك الحاضرة، في بؤبؤ العين وفي الذاكرة.

أعددتُ لك ما استطعت من شوق ونسجت لعينيكِ غزلا رقيقا، لكن حين اعتليتُ المنصة ونظرت أمامي، قابلني وجه الغياب المجرم وسمعت الشعر يبكي على كتفي فقرأتُ قصيدة في رثاء الوطن.

شعرت وأنا أرى غيابك بفراغ كاسح يملأ القاعة ويملأني ويقفز من كتب الشعر والنثر.

الغياب: ثقوب سوداء في جسد الحضور.

أتعبني عشقك يا امرأة، وتمنيت  لو أنّني امتلأ بحضورك حدّ التخمة، لدرجة يتساوى فيها حضورك والغياب.

لو أنّ حبي الذي زاد عن حدّه ينقلب إلى ضدّه. لو أبكي من فرط  شوقي بكاء غزيرا  يدوم لأيام، لأسبوع، لشهر ثم أتوقف، وأبحث عنك في ملح دموعي  فلا أعثر لك على أثر.

لو أنّي أنفق اهتمامي بك وقلقي عليك حتى آخر قطعة فأصبح مفلسا منك ومن كل شعور له علاقة بك.

لو أنّي أنادي عليك في كل ثانية مثل ببغّاء إلى أن يتساوى اسمك في سمعي مع أية لفظة أخرى.. يصبح مرادفا لــ " لاشيء" .. مجرّدا من كل معنى.

يومٌ أدبيّ ختامه خيبة.

غادرتُ دار الثقافة قاصدا قريتي التي تحارب العشاق ولا تعترف بالشعراء. كان طريق الخروج مزدحما. توقفت عند إشارة حمراء انتظر الضوء الأخضر، ووجدت نفسي أفكّر في الدائرة الصغيرة الخضراء التي تتزيّن باسمك في الجدار الأزرق.

الأخضر.. يا لون الغواية!. الأخضر لون عينيك. الأخضر جنة. الأخضر جحيم. الأخضر حضور. الأخضر غياب. الأخضر سلم. الأخضر حرب. الأخضر قصيدة.

الأخضر.. يا لون الفرح. الأخضر أنت.

"آسفة، ظروفي لم تسمح لي بالحضور "! هل كان يجب أن تذكري الكلمة ؟ لو أنك فقط كتبت " لن أحضر" أو" سأغيب لهذا اليوم " أو " استمتع بيومك" أو أيّة عبارة أخرى.. لماذا لفظة" ظروف"؟

مستفزّة ، تذكّرني بتاريخي ومعاركي معها.

يحدث أن يكون لك تاريخ مع... كلمة.

يوم بدأت أعي معنى الكلمات ونتفا من معاني الحياة صدمتني كلمة " ظروف". ظروفنا صعبة"، كنت أسمع أبي يقول،" ظروفنا لا تسمح ". أما أمي فتتمتم بقلب مشبع بأمل صلب لا يعشّش سوى في عيون الأمهات " انتظر يا ابني حتى تتحسّن الظروف".

و لكنها لم تكن تتحسّن، ربما قليلا فقط ونادرا.

كنت لا أفهم  لماذا ظروف عمي دائما تسمح  بينما ظروف أبي دائما لا تسمح!

أتذكر ذلك اليوم كأنّه الأمس. كانت نهاية السنة الدراسية، في المتوسطة. كنت متحمّسا لمباراة لكرة القدم بين  مدرستنا وبين المدرسة التي يرتادها محمد ابن عمي. التقيت به عشية الموعد. كان مبتهجا، متباهيا بحذائه الرياضي الجديد غالي الثمن. عدت إلى البيت وطلبت من أبي أن يشتري لي حذاء ، لكنه قال " ظروفي لا  تسمح يا ابني". ابتلعت حزني  ولعنت الظروف، ولعبت بحذاء لم يبق فيه  سوى الهمزة على سطر الفقر. ورغم ذلك ولحسن حظي انتهت المقابلة بحدثين سارّين: الأول، لا أحد تفطّن لحذائي الممزّق والثاني.. كان الفوز حليف مدرستنا.

يومها تعلمت أن الظروف متناقضة وعشوائية، وليست بالقوة التي نعتقد. لقد أدخلتني مباراة مدرسية بحذاء رياضي متهرئ، لكنها جعلت مني مديرا لشركة كبيرة وشاعرا كبيرا أيضا. تعثّرت في سنتي الجامعية الثانية لأني كنت أدرس نهارا وأعمل ليلا كي أوفّر ثمن دواء أمي المريضة ومصاريف مدرسة أخواي سمير وأحمد. أبي كان قد غادرنا باكرا متأثرا بسرطان الرئة. سألني عميد الكلية لمَ أريد ترك الجامعة فأخبرته أنّها الظروف. قال وهو يحدّق في وجهي  بنظرة تأنيب حاد  " الظروف مشجب يعلّق عليه الضعفاء فشلهم ".

يومها كسرت المشجب وتقدّمت.

في الحقيقة لم أكن أتخيّلها مشجبا، بل امرأة / لم لا رجل؟ ..لا أدري / امرأة  رأسها كوكب تسكنه الملائكة والشياطين. نصفه الأيسر أسود مظلم بارد كليل الشتاء والأيمن مضيء متلألئ ناصع الحظ. ذراعاها طويلان ينتهي الأيمن بخمس وردات بيض وينتهي الأيسر برأس أفعى تستطيع شوكتها أن تمتد لمسافات بعيدة وتقطف كل أمنية في قلب طفل فقير. كم تمنيت أن ألتقي بالظروف وأطبق يديّ على عنقها بقوة  إلى أن تلفظ أنفاسها وأرتاح منها ويرتاح  العالم، خاصة حين تيقنت أنّها لا تحب من يستسلم لها ولا ترضخ سوى لمن يقف في وجهها ويلوي ذراعها- الأفعى، ويقتلعها من الكتف ثم يرميها بعيدا.

لولا الظروف... الــ... اللعنة ! ها أنا مرّة أخرى أذكر الكلمة التي أكره ! لولاها لكنت الآن معي. بجانبي، على هذا المقعد الشاغر، نستمع لفيروز ونستمتع بمنظر أشجار اللوز المزهرة على جانبي الطريق.

بدأت تمطر. ذلك المطر الذي يجتهد لكي يكون غزيرا . لكن لا جدوى فالشتاء يحتضر والربيع بكل عنفوانه يطرق الأبواب. رحت أقود وفكري مشغول بك وعيناي تتابعان ماسح الزجاج يتراقص  يمينا وشمالا، ومع  كل حركة، يرسم أمامي وجها من وجوه حياتي. وجه أبي ثم أمي، ثم عمي. ثم وجه الظروف نصف المظلم نصف المضيء.

ثم سطع وجهك. ابتسامتك الشهيّة  ألهبت نار الشوق في قلبي. أحكمت قبضة يديّ على المقود وانطلقت مسرعا  كأنني على موعد معك. بعد مسافة لم أستطع تحديدها، انتبهت لرجل الدرك، علي بعد أمتار أمامي، يشير لي بيده أن أتوقف .

خفضت السرعة وتوقفت على جانب الطريق .

" الرادار سجّل سرعة مفرطة"  قال لي.

وسلّمني ورقة قرأت فيها جنحتي: قيادة في حالة حب.

***

آسيا رحاحلية – قاصة

.........................

* مجموعة: حبّة رمل على شاطيء بعيد، دار خيال 2020

 

خُطّاف يسحر مجدافَهُ

بِصُوَر الإيقاع يَنبهر

لاَ تجذبه أشوَاك تحتلّ الحقلَ

هَتَفَ الطّيرُ:  لاَ أصونُ الغَدرَ

وفِي تَمرّدٍ شَائِكٍ لَن تَضْمَحِلّوا

ما شأن شِعارِكُم المُسافِر

اِنطلق اِحتلال القُلوب

أرضي ترحل نحو

الأرجوان العَتيق

ناداني سَمعان إلى منبره الحجريّ

أربكني حرصُهُ المنخفض

المَغارة تَصطدم بالقمّة

كشُموخ الألم السّاقي

ولم يُترَك إلاّ سبيلُ المغزى

سَأَلُوم خَيمةً يَتوارى

في أوتادِها بَيع واِستسلام

يَعرِضُ رمادَهُ لِأُفق مُتخاذلٍ  بالقرابين المُضيئة

ومَهما صَانت الْعَودةُ أَريجَها

بقيت مُصافحة لِلمبحث

عَبرَ الكُثبَان

وَعَبْرَ الرَّوابي ناشدتُ دَيرًا مُمتدّا

وحَنينًا وعِتابًا

لا يَلُومه الشُّعاعُ

مهما كَان في الْفَاصلِ

الْمَلمَح حزينًا

جِسْر عَتيق

يُلوّح فَوق رَتل

ثُقوبُ الزّخارف

فيها وَجَعٌ

وَ صَوْت أَصداف عَليلةٍ

في مِيناء يَضحك

لِتَلٍّ ومُنحدرٍ

تَرَيَّثْ ولاَ تَعْتَبِرْني

رَفيقًا  ولاَ  ٛرَقیبًا

مَهْمَا خاطَت الإِبرةُ الكاسِرةُ

رُتوقَ المُخْمَلِ ...

***

سامیة سالِم رمّان

(سمیاء رمان)

 

ذات ظهيرة من أيام الصيف، وفي زمن لم تكن الحياة إلا فضاء تجتمع المحبة فيه مع ألفة أبناء المحلة والجيران. هنالك في منطقة تقترب من مدرسة الشرقية الابتدائية، عند بدايات ستينيات القرن المنصرم، إذ لم يتجاوز عمري الخمس سنوات. كان والدي في بدايات مراتبه الوظيفية، وكنا نسكن في محلة، أو حي أسمه البلدية، والذي تم تخصيصه حصرا لموظفي البلديات في مدينة الناصرية.

كانت الظهيرة تستهوي أخي الكبير عبد الحسين الذي اعتاد اصطحاب دراجته الهوائية السوداء لاصطياد السمك بصحبة أخي الثاني علي والذي يصغره بسنتين.

وكانا يذهبان  في أيام العطل وبعد الدوام المدرسي إلى ما يسمى (الموحية) وهي عبارة عن بحيرة تقع في منطقة المتنزه، في الصوب الثاني من المدينة.

 عند الساعة الرابعة والنصف من مساء يوم داكن، كانت الأجواء تميل إلى اللون الرمادي، وفي البيت الصغير، كنت انتظر احتساء (قنينة البيبسي كولا) والتي اتذكر منها تلك السطور البيضاء المكتوبة على الزجاجة.

رن جرس الهاتف الذي كان بلون أسود، وبصوت مرتفع، توجه أبي للرد، لكنه فجأة وبعد برهة قصيرة، لم أسمع إلا نحيب، ونواح دب في المحلة كلها بطريقة مريعة.

خرجت والدتي تصرخ وتضرب على رأسها ما يجعلني استحضر مشهد (أم مساعد) في فلم بس يا بحر الذي شاهدته في نهاية سبعينيات القرن المنصرم.

اجتمع أبناء المحلة في الساحة التي تقع البيوت على جوانبها؛ فلاح، وصبحي وغيرهم ، كان الجيران كأنهم يجمعهم نسيج  اجتماعي واحد- النساء، والأطفال، والكبار، الكل خرج مذهولا من الصعقة للمواساة حيث بكاء أمي الذي أشغل مشاعر الجميع.

بقيت الحكاية غامضة بخطوطها، وخطواتها، رغم أن هنالك إعصارا من الهواجس صار يضطرب في داخلي، يحثني لأن أطلق دموعي التي احتبست، ثم راحت تحترق في داخلي على شاكلة عويل أخرس، لم أكن حينها عارفا بما جرى، لا أحد يلتفت لاسئلتي، أضحيت مهشما خائر القوى، ألوذ بأجواء الحزن وطقوسها الشاحبة، ليتني استنطق تلك الجدران، أتحدث إليها أو أدنو نحو خطوات أمي التي انصعقت مع نوبات بكائها على أمل أن أعبر عن بعض مواساتي أسوة بغيري.

لحظتئذ جاء رجل يظهر على ملامحه الوقار، وأبلغ والدي بخبر لم اسمعه حينها.

اتضح فيما بعد أن أخي الأكبر والذي كان يمازحني، لم يعد بعد كعادته بدراجته السوداء، رحت مع صور، وخيالات لا أقوى أن أحلق بين طياتها، أواستنطقها، خاصة عندما أطبق الغروب أسوار هيبته مع الظلام.

حل الليل رويدا رويدا، قفز إلى ذهني سوال تحشوه تفاصيل غريبة،  ترى أين ذهب عبد الحسين؟ قال أحدهم أن النهر ابتلعه، قال الثاني أنه انقذ أخاه الذي يصغره سنا، وأخذته الأمواج بعيدا.

اختمرت الحكاية في عقلي ومشاعري، لتنمو على شاكلة لغز ما زال يبحر في عمق التفاصيل، لعله يستقرئ معنى الرحيل، مع صيحات النوارس التي كنت اسمع عنها، وأقترب نحوها دون أن أخوض في مساحات معانيها،  مضافا اليها هتاف أمي الذي امتزج بشوط الفراق المبكر، لولدها البكر الذي استهون الموت، لينقذ حياة رفيقه الذي اصطحبه لرحلة الصيد.

***

عقيل العبود

 

مهداة الى المجالس الثقافية ..

تعهدها الله تعالى بالإزدهار الدائم

***

إشــراقـةُ الـمجـالـس البَـهـيّـه

مَــدارِسٌ، تُـعــزِّزُ الـهُـويـّـه

*

في صدرها اوْسِـمَةُ الثـقافـه

تَـفْخَرُ في أقلامها الصحافـه

*

أجـواؤها تـزْهو بعِطْرِ الأدبِ

تُــزوِّدُ الفِـكْـرَ بِـنـور الكــتُـبِ

*

فــي نهـجها الـوِئامُ والسـلامُ

مُزدهِـرٌ فـي رَوْضِها الكلامُ

*

يستأنِسُ الحاضرُ في أشعارهـا

يَسْتـلهِمُ العِـبْـرَةَ  مِـن أخبارهـا

*

طموحُها صَوْبَ خُطى الأجـدادِ

ومِــن سَــناهـا قَـبَـسُ الأحــفـادِ

*

أهدافها الـتـنْويرُ فـي الدِّراسَه

بَعـيـدَةً عــن محـوَرِ السـياسه

*

تَـسـودُها الأُلـفـةُ في المسِـيـرِ

ورِفْـعـةُ الآدابِ فـي التعبـيـرِ

*

مِنهاجُـهـا يـبْـعـَثُ فـي النـفـوسِ

أطايـبَ المَـوروثِ والـمَـدروسِ

*

الضّــادُ فـــي بـحـوثهــا وِســامُ

يــزْهو  بــه الـمِــنبـرُ والمَـقـامُ

*

مِن مِربَدِ الشعرِ، اسْتقتْ نكهتَها

ومِــن عُـكاظٍ، وثّـقَـتْ بصمَتَها

*

مَـحْـفِـلُهـا، يزهـو  بــه اللقـاءُ

يـسُــودُه الـتوقـيـرُ، والـنـقــاءُ

*

يغيـبُ فيهــا الفخْرُ  بالمناصِبِ

ويَـحتَـفي الحضورُ بالمَـواهِـبِ

*

مَـناهِـلُ التـثـقـيـفِ فــي آدابِهــا

طُوبى لِمَن يسعى الى أعتابِهــا

*

فـمَـن عَـلا  كعْـبُه فــي الآدابِ

يـسْـمو عـلى أوْسِـمَة الأنـسابِ

***

(من الرجز)

شعرعدنان عبد النبي البلداوي

لَيْتَ شِعْري أَيَّ مَكْرٍ بَيَّتُوا

إِذْ تَنَاجَوْا في بَهيمٍ أَليَلِ

*

أَنْ هَلُمُّوا، إِنَّ هَذا يَوْمُكُمْ

فاَنْظُروا مَا بَعْدَهُ، أو" إرحل"

*

كَبُرَتْ هَاذي عَلَيْهِمْ كِلْمَةً

فَأَحاطُوا بِالْكِرامِ الْبُسَّلِ

*

أُسْجُنوا زَيْدًا، وَعَمْرًا فَاقْتُلُوا

وَأَرُوا أَسْمَاءَ، مَا مِنْ مَوْئلِ

*

إِذْ غَدَتْ سَادِرَةً في غَيِّهَا

أَنْ:أَطيحوا بِالَّذِي لمْ يعْدِلِ

*

وَهْيَ تَخْتالُ وَأَتْرابٌ لَهَا

هَلَكتْ،بَلْ وِزْرَها فلْتَحْمِلِ

*

مَا ظَلَمْنَاهمْ،إذا قُلْنَا أَيا

قَلَمٌ أُكتُبْ،عَلَيهمْ سَجِّلِ

*

قَدْ بَغَوْا فَاشْهَدْعَلَيْهِمْ صَادِقًا

ثمَّ قُلْنَا ياقَضَاءٌ، إِعدِلِ

*

قدْ وَجَدْنا في الْأَوالِي مَثَلا

لمْ نزَلْ نُعْلِنُهُ، فلْتَسْأَلِ

*

كَمْ جَأَرْنا،أَنْ شَبيبٌ قَصْدُنَا

بَعْدَ لَأْيٍ أَدْرَكوا في الْمحْفلِ

*

بَلْ تَغابَى سَادَةُ الْمَحْفِلِ إِذْ

صَدَّقوا،فَلْتَحْذَرُوا منْ مُقْبِلِ

*

هاكُمُ هذا الْوَبا، قَدْ جاءَكُمْ

منْ جَنوبٍ،وَكَذا مِنْ شَمْأَلِ

*

قَالَ سَعْدٌ لِسُعَيْدٍ:أَيْ أَخِي

دَعْكَ مِنْ حُرِّيَّةٍ إِنْ تعْقِلِ

*

مَا يَطيبُ الْعَيْشُ لي إِلَّا بِهَا

فَارْعَوي،آهٍ أَخي، يَا وَيلَ لي

*

أَيْنَ مِني ثَائِرٌ لاَ يَرْتَجي

قَيْصَرا، لَا يَكْتفي بِالْمَأْكلِ

*

أَيْنَ مِني ثَائِرٌ لَا يَخْتَشِي

أَيْنَ أَيامٌ الربيعِ الْأَوَّلِ

*

بَيْنَما السَّعْدانِ في أَمْرِهِمَا

صَاحَ بُوتِنْ بِالرُّجومِ الْهطَّلِ

*

فَإِذا بِالْوَيْلِ وَيْلانِ فَمَنْ

لِخُروجٍ آمِنٍ، مِنْ هوْجلِ

*

وَتَنَادَى النَّاسُ وَاغَوْثاهُ يَا

رَبَّنا هلْ مِنْ مُجيبٍ حُوَّلِ

***

محمد العربي حمودان

كلنا متواطئون.. لا استثنيني

كلما تجلت الحقيقة عارية

رجمنا النهر...

ولعنا الظلال الطافحة بالقهر

الرياح المعاكسة لأمان سخيفة

لا تتعدى مقعدا في مقهى

وسيجارة رديئة تشعرنا انا

مازلنا على قيد الموت

ننتشي بالمآسي ...ونرقص على نواح الفقد

على وجه الماء...ترتسم الحقائق الفاضحة

ونحن عرايا الا من الخبث

من نوايا سيئة تستلذ انهيار الاخر ...

ولعنات الدهر التي تشعرنا

بانا اخوة في الوهن...اشقاء في الذل

في رحلات كر وفر

بين امس ممعن في الصمت

وغد ماهر في الهروب

كلما هاجمنا التاريخ بحكاياته المحبوكة

باساطيره المنسوجة على مقاس الصبر

تداعت الجغرافيا

معلنة رفضها تناسُلنا المضطرد

تكاثُرنا العشوائي

وتأففنا من البرق والرعد

من العواصف ال تعري سوأة اولي الامر

العقارب ال تقوم بدورها على اكمل وجه

حتى ازعجت الجماجم المتخمة بالرقص

السهرات الباذخة باللامبالاة

والليالي الحمراء ال تتلألأ في سمائها

نجوم استخفاف... واقمار استغباء

كما تتلألأ في سمائنا

ارواح قتلانا....اشلاؤهم المتناثرة

ابتساماتهم المغتالة...على حين غرة

ومخاض القبائل ينجب الموت

توائم ...مثنى وثلاث.........

هكذا صرنا معلقين ...معتقلين

بين دمع الحق

وانياب الباطل

نتآلف...نتخالف...ونتحالف

على الاجساد طحالب تتراكم

هزائم تتزاحم....تتراحم

ودموع تحفر طريقا على خد الوطن

استسهالا لمرور السفاحين الجدد

المستشرفين لانهياراتنا القادمة

المخططين لميتات متنوعة

وهجرات مختلفة تشتت الملتئم

تحت قبة الوطن

منذ الف عام وعام

واصوات الرماح تشق الجباه

كلعبة يتنافس فيها الذئاب والثعالب

عند الانتهاء ...يتسلم الاسد الغنيمة

ونصفق نحن للهزائم المتراكمة

كلما ضاق صدر الصمت

رسم على الجدران

احلاما معاقة تقودنا توا نحو رابية الجهل

هناك نرتوي حتى يصبح الانسان كومة هم

شعب يزن البشر بميزان الجزار

يقيسه بمقياس الخياط

ليعرف كم مترا ستحتاج تكاليف الدفن

لن تطلع عليه شمس وان تجلت في الافق

هي بعض رؤى مغرضة

تثبت انا مجرد هياكل اثقلها الصدأ

وامثالنا الشعبية ال تغلغلت

في بوصلة الراس=

سير الحيط الحيط حتى يبان الخيط

والمخيط فقأ عين الحلم

كلنا متواطئون

ظالمون ومظلومون

كلنا جاهلون

علماء ...فلاسفة ...

وشعراء الزمن المغبون

كلنا مازوشييون

بالفعل ....بالحديث

وبالخيال المربوط

الى كعب فتاو طازجة

وخطابات معدة

كما الاكلات الجاهزة

تسمن الاجساد

وتغلف الوعي بحكايا امنا الغولة

حتى ينام الغضب مطمئنا

على سرير التسويف والتصفيق

كلنا ساديون

نرقص على الجراح

ونستلذ مشاهدة الدماء

نتبادل فعل التعذيب

شهوة...هواية ...غواية

وفي الزوايا نرسم لوحات سريالية

طمسا لحقائق

لا يفك لغزها الا الراسخون في

الحقد...في الكراهية

في ادوار تمنح الشر مشيمة

تقودنا جميعا نحو الهاوية

كلنا....كلنا متواطئون

لا استثني منكم احدا

ولا استثنيني

نعرف جميعا ان الاحلام تعفنت

الاشجار اصابها العقم

ولن تورق بعد

الطيور تشردت على اطراف الكون

بلا اعشاش صارت

حتى اصبح اصطيادها سهلا

في متناول كل ذي

رصاصة طائشة ...

مقلاع متين...

او عقرب متعطش للدما البريئة

ونحن في نفس الباحة

نرقص رقص الدراويش

دورات حول النفس

لا احد يخرج عن الايقاع

وان كنا ندرك جميعا

ان الدف مثقوب

والعود مقطوعة اوتاره

*

كلنا....كلنا متواطئون

كلنا متواطئون....لا استثنيني

كلما تجلت الحقيقة عارية

رجمنا النهر...

ولعنا الظلال الطافحة بالقهر

الرياح المعاكسة لأمان سخيفة

لا تتعدى مقعدا في مقهى

وسيجارة رديئة تشعرنا انا

مازلنا على قيد الموت

ننتشي بالمآسي ...ونرقص على نواح الفقد

على وجه الماء...ترتسم الحقائق الفاضحة

ونحن عرايا الا من الخبث

من نوايا سيئة تستلذ انهيار الاخر ...

ولعنات الدهر التي تشعرنا

بانا اخوة في الوهن...اشقاء في الذل

في رحلات كر وفر

بين امس ممعن في الصمت

وغد ماهر في الهروب

كلما هاجمنا التاريخ بحكاياته المحبوكة

باساطيره المنسوجة على مقاس الصبر

تداعت الجغرافيا

معلنة رفضها تناسُلنا المضطرد

تكاثُرنا العشوائي

وتأففنا من البرق والرعد

من العواصف ال تعري سوأة اولي الامر

العقارب ال تقوم بدورها على اكمل وجه

حتى ازعجت الجماجم المتخمة بالرقص

السهرات الباذخة باللامبالاة

والليالي الحمراء ال تتلألأ في سمائها

نجوم استخفاف... واقمار استغباء

كما تتلألأ في سمائنا

ارواح قتلانا....اشلاؤهم المتناثرة

ابتساماتهم المغتالة...على حين غرة

ومخاض القبائل ينجب الموت

توائم ...مثنى وثلاث.........

هكذا صرنا معلقين ...معتقلين

بين دمع الحق

وانياب الباطل

نتآلف...نتخالف...ونتحالف

على الاجساد طحالب تتراكم

هزائم تتزاحم....تتراحم

ودموع تحفر طريقا على خد الوطن

استسهالا لمرور السفاحين الجدد

المستشرفين لانهياراتنا القادمة

المخططين لميتات متنوعة

وهجرات مختلفة تشتت الملتئم

تحت قبة الوطن

منذ الف عام وعام

واصوات الرماح تشق الجباه

كلعبة يتنافس فيها الذئاب والثعالب

عند الانتهاء ...يتسلم الاسد الغنيمة

ونصفق نحن للهزائم المتراكمة

كلما ضاق صدر الصمت

رسم على الجدران

احلاما معاقة تقودنا توا نحو رابية الجهل

هناك نرتوي حتى يصبح الانسان كومة هم

شعب يزن البشر بميزان الجزار

يقيسه بمقياس الخياط

ليعرف كم مترا ستحتاج تكاليف الدفن

لن تطلع عليه شمس وان تجلت في الافق

هي بعض رؤى مغرضة

تثبت انا مجرد هياكل اثقلها الصدأ

وامثالنا الشعبية ال تغلغلت

في بوصلة الراس=

سير الحيط الحيط حتى يبان الخيط

والمخيط فقأ عين الحلم

كلنا متواطئون

ظالمون ومظلومون

كلنا جاهلون

علماء ...فلاسفة ...

وشعراء الزمن المغبون

كلنا مازوشييون

بالفعل ....بالحديث

وبالخيال المربوط

الى كعب فتاو طازجة

وخطابات معدة

كما الاكلات الجاهزة

تسمن الاجساد

وتغلف الوعي بحكايا امنا الغولة

حتى ينام الغضب مطمئنا

على سرير التسويف والتصفيق

كلنا ساديون

نرقص على الجراح

ونستلذ مشاهدة الدماء

نتبادل فعل التعذيب

شهوة...هواية ...غواية

وفي الزوايا نرسم لوحات سريالية

طمسا لحقائق

لا يفك لغزها الا الراسخون في

الحقد...في الكراهية

في ادوار تمنح الشر مشيمة

تقودنا جميعا نحو الهاوية

كلنا....كلنا متواطئون

لا استثني منكم احدا

ولا استثنيني

نعرف جميعا ان الاحلام تعفنت

الاشجار اصابها العقم

ولن تورق بعد

الطيور تشردت على اطراف الكون

بلا اعشاش صارت

حتى اصبح اصطيادها سهلا

في متناول كل ذي

رصاصة طائشة ...

مقلاع متين...

او عقرب متعطش للدما البريئة

ونحن في نفس الباحة

نرقص رقص الدراويش

دورات حول النفس

لا احد يخرج عن الايقاع

وان كنا ندرك جميعا

ان الدف مثقوب

والعود مقطوعة اوتاره

***

مالكة حبرشيد

 

 

تَأَرْجَحي...

وذري السياسة جانباً

إن السياسة أَرْجَحَتْنَا

وبا .............عَدَتْنَا

وحَطَّمَتْنَا بأَقْبَحِ!

حق الطفولةِ أن تطيري

في الهواءِ وتطمحي

وخيالُكِ...فيهِ اسْبَحي

مُدِّي جناحيكِ الفضاء الرحب

يانظمي الأثيرِ وصافحي:

ألعابكِ الكسلى...

هداياكِ الأليفةْ

عُلْبة الألوانِ...

قِطَّتكِ الظريفةْ

شخبطات رسومكِ الجذلى...

مواقيت الصلاةْ!

مصروفكِ اليومي...

هوايتكِ الفريدةِ...

حلمكِ الوردي...فستان الحياةْ!

إنَّ السياسةَ لعنةٌ

- تسري دماها في عروقِ خبيثةٍ -

بالخطيئةِ تَنْبُتُ!

وجنازةٌ

يمشي بها حيٌّ ولايدري بأنهُ ميِّتُ!

إن  الحَرَابيَّ لايُؤَمِّنُ بعضها...كنَواطح ِ!

فَلْتَصْدَحي............

جُرْمٌ بحقِّكِ أن تَظلي...

وأن تغُضي وتسمحي!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

بضعف شديد، كانت تحرك جفنيها، بادلة جهدا عساها تتبين ماحولها، يتغشاها الدوار، فتعيد إغماض عينيها من جديد، فكل مرئي أمامها يثيرها بغثيان، رائحة بخور كريهة كأنها تهف من أرواح شريرة فتملأ خياشمها، تحاصر صدرها، فتوشك على التقيؤ، تحاول النهوض فتترادف عليها مطارق راسها، فتهوي قاعدة، ركبتاها الى صدرها دون أن تدري أنها مكشوفة بلا أدنى غلالة من ستر، نسمة برد تهب ضعيفة، بتثاقل تحرك يدها فتضعها على صدرها، تنتبه انها عارية تماما، تجفل !!.. ويهتز قلبها باعصار قاتل، ماذا وقع ؟ من جردها من ملابسها ؟ وكأن الخوف قد ايقظ حواسها، فتتذكر كاس الشاي، ثمالة الاسياد الذي أعطته لها الجارة قبل أن تدخل خلوة الفقيه، مقصلة اعدامها، سمعت خطوات بعيدة كأنها آتية من قلب بئرعميقة، تحسست راسها، اين حجابها ؟....

ترقبت ان تصل اليها الخطوات فتفتح باب الغرفة، قد يتسرب منها هواء ينعشها فتعرف حقيقة ماحل بها، بصعوبة استقامت في مكانها، تحاول أن تتكيء على جدار يسند ضعفها.. لأول مرة تتذكر أنها لم تأت وحدها عند الفقيه، كانت معها جارتها، أين هي؟، بدأت تقاوم ضعفها، تمسح غبش عيونها عساها تتبين ما حولها، على الأقل لتجد ثيابها فتستتر..

ينفتح الباب، ومع انفراجه يشع ضوء كهربائي في الغرفة، لم تكن غير جارتها، كانت تراها بين تلافيف من كثافة دخانية هي ما يحجب رؤيتها رغم قوة المصباح الكهربائي الذي يشبه مسقاط الضوء لدى المصورين..

اقبلت عليها الجارة ضاحكة بعد أن فتحت أحدى نوافذ الغرفة، عانقتها مهللة مكبرة:

مبروك !.. تسعة اشهر او أقل ونفرح بالضيف العزيز..

وكأنها لم تسمع ماقالت، كانت لا تسأل الا عن ثيابها وقد تكومت على نفسها ووضعت راسها بين فخديها تقي عيونها من وهج الضوء المسلط على وجهها، كانت تريد ان تستتر أولا ثم تعرف ما وقع..

كلما خفت رائحة الغرفة الكريهة استعادت هي بعضا من وعيها، لمحت ملابسها مرمية ككومة غسيل في زاوية من الغرفة، اشارت بيدها الثقيلة الى الجارة التي امدتها بها.. كانت هذه فقط تتابعها دون كلمات وكأنها مرتاحة لما وقع، لكنها حذرة من أن تنبس بأكثر مما هي مأمورة به، وما تعودته في مهمتها كسمسارة مساعدة للفقيه، حدقت في جارتها طويلا بعد ان شعرت بقدرة على التركيزثم سألت:

الآن أخبريني ماذا وقع بالضبط ؟

رسمت الجارة ضحكة نفاق، باهتة صفراء على وجهها ثم قالت:

ـ لا شيء، عادي، كثير من النساء العاقرات مررن من هنا فصرن أمهات..

أرعبتها العبارة فصاحت بملء صوتها، ورغوة زبدية تتطاير من فمها:

ـ أمهات !!.. أمهات بالحرام !!.. والفاعل من ؟ الفقيه !!..ماذا أقول لربي يوم الحساب ؟ ان حقيرا ادعى العلم والبركة صارباسمك يعبث بالارحام ؟!!.. فيكيف أواجه زوجي ؟كيف انظر الى المولود يوم يلفظه رحمي ؟

بدأت الجارة تربت على كتفيها، تمسح على راسها وكأنها تقوم بمهمة قد تعودت عليها، وفي قليل من اهتمام بدأت تردد أمامها:..

مابك ؟ قلق لامبرر له، ومبالغة فوق الحد...الزلة مغفورة لانها مستورة، لاشيء قد تغير منك، هل نسيت ضغوط عشر سنوات وما كنت تعانينه من أهل زوجك ؟هل غاب عنك كم دمرتك نظراتهم ؟ماذا نقص منك امام غبنك واحساسك بالنقص والقصور والعجز امام النساء ؟هي لحظة و قد مرت بسلام.. بلية لكن مستورة لن يعاقب الله عليها !!..

- هل انت تعرفين الله حتى تتكلمي باسمه ؟لو كنت تعرفين الله ما سقتني كشاة بلا إرادة الى مجزرة فقيهك اللعين !..ماذا فعلت بي؟ وكيف تواجهين ربك يوم الحساب ؟...

تركت لدموعها العنان، أخذت تضرب على فخديها، تلطم وجهها وقد صار صدرها كمنفاخ صاعد نازل يعصره ندم شديد:

ـ انت لم تخبريني أن الامر يصل الى حد الاغتصاب، أنت فقط قلت أن الفقيه سيدخلني الى غرفة البخور وأنت معي، ويرسم خاتم سليمان على بطني من فوق ثيابي، لانه يسخر جنا مسلما يخاف الله...هل أنتما معا تخافان الله؟ !!.. وهل انا استحضرت قوة الله حين وثقت بك؟. يا ويلي من غضبك ياالله !!!..

وقفت الجارة وكأنها تدعوها للانصراف، وقد صارت تخشى ان يصل صوتها الى الخارج حيث تنتظر أخريات خاتم سليمان من بركة الفقيه !.. أبدا ما عادت هي الصديقة التي تقربت منها ولازمتها، تغريها بالأولياء الصالحين، وبركة الجن المسلمين، وقدر ة الفقيه على فك عقدة عقمها، وجدت أن الجارة صارت امرأة أخرى تتعامل بغير ما تعودته منها من نصائح واغراءات بحمل سعيد من بركة الفقيه الذي يعرف مابينه وبين الله، عاودتها هزة من بكاء وقبل أن تكمل وقفتها قالت لها الجارة:

الفقيه يريد بقية أتعابه مع فتوح بنجاح المسعى..

صاحت في وجهها:

الفتوح !!.. أما كفاه ما أخذ ؟ كل ذهبي وما سرقته من زوجي من أجل ان اسقط في لحظة زنا لاتغتفر..فتح الله أبواب جهنم في وجهه ووجهك..

قالت الجارة في لهجة آمرة وكأنها تحكي عن عقيدة وعلم ويقين:

ليس هو من يأخذ، هي طلبات الأسياد التي لا تنتهي، وليس هو من يفعل وانما ينفذ أوامر سلطان الجن الذي يأمره بما يفعل وكيف حتى يكتمل المقصود..

ارادت أن تخرج فمنعتها الجارة وهي تقول:

ليس قبل أن تحددي متى ستدفعين الباقي والاعرض الفقيه صورك على زوجك..

ضجت بصراخ كمن أصابها مس من جنون، وقد أرعبتها العبارة:

صور!!..أية صور ؟!!، ومن أخذ الصور ؟ومتى؟.... ادركت من سريان الم يتغشى جسدها لماذا تمت تعريتها بالكامل ؟وما علة وجود المسقط الكهربائي؟ احست بانهيار تام وضعف لم تعد تستطيع معه وقوفا، جثت على ركبتيها، دموعها حفرت سواقي على خديها، ماعادت تستطيع شهيقا ولا صدرها عاد يقبل هواء:

بدات تسعل وكانها على وشك الاختناق..اية ورطة وضعت فيها نفسها ؟ ماعادت تريد خلفة، ليت حرقة عشر سنوات من العقم تحرقها بنار ذات لهب ثم تحولها رمادا بدل ان تجد نفسها في موقف كهذا..شرف ضائع وكرامة مهدورة ثم فضيحة على رؤوس العباد وبالصور..أي عقاب أمكر مما تحسه الآن في نفسها؟

ضاع الزوج، وانهد صرح بيتها، قتلت عشقا قويا، هو ما يكنه لها زوج أحبها ووثق بها، وقد جعل منها صندوق اسراره العملية والمالية، والذي كثيرا ما كان يهدئ من الهوس وسوء الظن الذي يأكل صدرها، وهو يعايش غيرتها خوفا عليه من أن تحول انثى غيرها مجرى حياته معها..

هي دوما كانت تطمع في بنت أو ولد يعمي عيون اعدائها ومن ينظرون الى الزوج بعيون الشماتة رغم ما يبديه لها من تفان وحب:

ـ "لا تقلقي ياحبيبتي فالعقم مني وأنا راض بحياتنا يكفيني وجودك معي..."

كم مرة نصحها ان يتبنيا طفلة من الملجأ تبهج حياتهما، لكنها كانت تمتنع ايمانا منها أنها ستحمل ذات يوم لانها تريد خلفة من صلبه..

دخل عليهما الفقيه، وقد اتسعت على وجهه ضحكة شماتة، فقد فاز بأنثى بجمال كتحفة فنية، تبهر بقدها المتناسق، ووجهها المشرق ببسمة لؤلؤية، وعيون واسعة حجلية، كانت تتركه مقتولا بسحرها كلما زارته مع الجارة؛ لأول مرة تراه كخنزير بري بلحيته السوداء وعمامته الصفراء الفاقعة ؛ قال بعد ان امر الجارة بإعادة ترتيب الغرفة:

ضيوف جدد قد أتوا، لابد ان تنصرفي، غدا سأنتظر مابقي بذمتك..

اشتعل في عقلها أمر، فهي الآن بين يقين اليأس والموت الآتي ولن تتصور بان حياتها سيجري فيها نهر من امل في الزوج والبيت كما جرى من قبل، جفت الحياة من حولها، و الفضيحة آتية لا محالة مهما طال لها زمن، وما اكتشفته في الجارة زاد من مخاوفها، هي امرأة حقيرة قادرة على كل شيء، بين لحظة وأخرى تصير حرباء يتغير لونها، حية رقطاء لا ترحم كل من منها قد اقترب.. تطأطئ برأسها الى الأرض، "ليته ينقطع تحت مقصلة تنهي حياتي ؛غدا يصبح

 ويفتح "..

تخرج وهي تشيع شابة جميلة في بهو الدار تنتظر دورها مع إحدى قريبات جارتها، تستوعب الدرس وتبلغ الحقيقة، لكن بعد ان ذبحتها سكين الطعم الذي رمته لها الجارة مذ لازمتها بالاغراء والتخويف، بان العيون مسلطة على زوجها من سكان الحي، ، وحقيقة الغول الذي ابتلعته كضحية لتنشئة لا تخضع لتبرير عقلي أو مفهوم علمي، حقيقة التصديق بفقهاء الرقية الشرعية وعلماء اغرقوا المجتمع في مغاور التخويف بالجن وقدرته على امتلاك البشر والسكن في اعماقهم، تعرف الآن من تكون الجارة وقريبتها هذه التي مع امرأة أخرى، ينتظرها الفقيه لصب مكبوتاته بلا خشية من خالق او خوف من قانون.. عصابة تستغل جهل الناس بدينهم فتزين لهم طقوس الشعوذة كوعد بتحقيق ما استعصى على العلم والطب.. لم تقصد بيتها، فلابيت عاد لها، وانما كانت الى مركز الشرطة اسرع...

***

محمد الدرقاوي - المغرب

دائماً أُحبُّ المَشْيَ وحيداً وحُرّاً

في طُرقاتِ المدينةِ الشاسعةْ

وشوارعِها الشاغرةْ

خاصةً في الصباحاتِ المُشمسةِ

والعليلةِ النسيم

والعاليةِ المزاجِ

حدَّ الدهشةْ والمَسَرّاتْ

*

هَلْ تُريدونَ الصراحة؟

أَنا لمْ أَعُدْ أُطيقُ الحبيباتِ

والصديقاتِ المزاجيّاتْ

ولا الأصدقاءَ النَفعيين

ولا الأَعدقاءَ الذينَ يتربّصونَ بي

وبخطواتي الطليقةِ في الوجودِ

ولا الذينَ يوهمونني ويوهمونَ الآخرينَ

بأَنهم اصحابي ورفقتي

ولكنَّهم في الحقيقةِ

يضْمرونَ لي الشرَّ والكراهيةَ

والحسدَ والضغينةَ ومآربَ شتّى

والمُضحكُ في نواياهم وخطاياهم

أَنني أَحترمُ وأُحبُّ البعضَ منهم

ولكنَّهم وياللسُخريةِ والمرارةِ

يفُكّرونَ بالقضاءِ عليَّ

والخلاص مني آجلاً أَمْ عاجلاً

بالطبعِ لا لشيءٍ

إلّا لأنني وسيمٌ

/ محبوبٌ / شاعرٌ مُتَوهّجٌ  /

وعاشقٌ للطبيعةِ والأُنوثةِ والجمال

*

أَحياناً يُبهجني أَنْ أَصطحبَ معي

كلبي الأَسمرَ الوديعْ

لا ليحرسَني طبعاً

ولكنَّها الرفقةُ الحانية

والاحساسُ أَنني بصحبةِ كائنٍ

وفيٍّ وطيّبٍ ونبيلْ

وهذا ما هوَ عليهِ حقاً

كلبي وصديقي الحنونُ جداً

*

الحياةُ الآنَ قَدْ أَصبحتْ بالنسبةِ لي

محضَ مناسبةٍ كبيرةٍ

وصعبةٍ وقاسيةٍ أَحياناً

ولكنَّها جميلةٌ حقاً

وأُريدُ أَنْ اعيشَ فيها

ماتبقّى من حياتي،

هادئاً وحُرّاً وسعيداً

بلا أَعداءٍ وبلا أَعدقاءٍ دمويينْ

وبلا اصدقاءٍ مُنافقينَ ومُحتالينَ

ونَصّابينَ وقفّاصينَ وبلا معنى

حتى لايجعلوني أَكرهُهم

وأكرَهُ كلَّ شيءٍ،

في هذهِ الحياةِ

الزاحفةِ نحوَ الجحيم

***

سعد جاسم

2022 - 8 - 15

ضاقت بي الدنيا فكدتُ أضيقُ

وانفضَّ من حولي أخٌ وصديقُ

*

وانهدَّ حَيلي رغم أني باسلٌ

فأنا بحزني لا البحارِ غريقُ

*

ماكان وقع النائبات يُضيقني

لكنَّ هجر  الاقربين الضيقُ

*

وأشدُّ ما يُدمي الفؤادَ ظلامةٌ

وقعت عليه فشبَّ فيه حريقُ

*

عمر تقضّى والحياة سريعة

والروح ثكلى و الهموم عثوقُ

*

تتراكض الأحزان نحوي بعده

ويضيق من فرط الشجون طريق

*

صور  واحلام وحزن هائل

يا طول حلمي كيف منه أفيقُ

*

يمشي معي حلمي  ويجلس جانبي

ظلان إنّا : سيدٌ ورقيقُ

*

عامانِ مرّا والحدائقُ تشتكي

ما يشتكيهِ من الذبولِ رحيقُ

*

حاولت كتمانَ الشجونِ ولم أجدْ

مطراً تجود به عليَّ بروقُ

*

أغلقت بابي وانزويتُ بمعبدي

وبكيتُ حتَّى  جفَّ منِّي ريقُ

*

ووجدتُ أحداقي تزخُّ سخينها

أملاً لِيُدني العاشقَ المعشوقُ

*

يا أيُّها الدهرُ الذي أفجعتني

هلّا رحمتَ الْغصنَ وهو وريقُ

*

أوغلتَ في طعني وتعرف أنني

ليلٌ بلا نجمٍ جفاهُ شروقُ

*

عجبًا تطالعني بوجهٍ باسمٍ

وتذيقني مرًّا كأنّكَ موقُ

*

ايقظتُ فيّ الجرحَ وهو مكفّرٌ

فكأنني للنائباتِ رفيقُ

*

ولدتني أمي والشجونُ مواطرُ

يُتمٌ طويلٌ والحِمامُ يحيقُ

*

فعلامَ هذا الدهرُ أثقلَ عاتقي

وأنا الذي قد ضاق منه الضيقُ

*

وطني فقدتُك بعد  فقد  أريكتي

وأضعتُ زهوي، وهو فوقُ طليقُ

*

ودفنت احلامي وكل سعادتي

وحملتُ جرحي، وهو جدُّ عميقُ

***

د. جاسم الخالدي

من الشعر السرياني المعاصر

شعر وترجمة: نزار حنا الديراني

***

البيضة ، هي التي تحمل الوجود

فلولا البيضة !!!

كيف لك أن تسمع صوت الديك وتحضن كل يوم مار بطرس1

لولا البيضة !!!

لكان المهد مجرد ألواح من الخشب اليابس

ولخلا المهد من سر الوجود ..

والحب ...

والأنسانية ..

وإن عجزت البيضة عن حمل الوجود

فباطلا هو عيد الفصح

ولتلاشى في الأفق ألوان قوس قزح

ولأختفت كليا من تزاوج ألوان البيض2 ..

والشعب ..

وضحكة الطفل ..

وسيخفت صوت الأطفال من البكاء والغناء

فلو كانت البيضة عاجزة ان تحمل الوجود !!

لما أخذ القلب والتفاح شكل بيضة

ولما غوى آدم بجمال حواء

ليترك ، نعيم الجنة

*

البيضة ! هي الولادة والانبعاث

وإن لا !!!

لكان باطلا عيد الفصح وسر القربان المقدس

ولما عاد تموز من العالم السفلي

لتتباهى الأرض بالخضرة والحب

ولما قرأ ششكلو3 سفر أينوما أيلش

ولما إحتفلنا بمسرحية كياسا في الكنيسة يوم العيد

*

البيضة دائرة

وإن لا !!

لما دارت الأرض وإعتكفت شمس السريان عن الشروق

ولما تقمطنا البداوة ونصبنا خيمنا كل يوم في جهة

ونحن نبيع في شوارع المهجر مهدنا وقماطنا

ولولا دوران الأرض

لما أستطاعت الحية أن تلدغ الأنسان من السرة

وتسرق منه  عشب الخلود

ليخلو المشرق من كلكامش وحبر مار أفرام وتوما أودو4 و...

نعم ... سيفرغ المشرق

من أحاسيس بولس بيداري وآغا بطرس وآشور خربوت و...

*

ولو لم تدر الارض

لما سفكت دماؤنا على أرصفة بغداد والموصل وكركوك و...

ونصبح غرباء في قرانا ومدننا

ونستمر بالرقص على ألحان شاذة من أجل زوالنا

ألا يكفي وعلى مدى 7000 سنة دماؤنا ولحومنا تتزاوج

لتحبل الارض ويولد لنا برعما صغيرا

ناديه بما تشاء من أسماء أجدادنا

الممتدة من سومر الى سورث

آلاف الأطنان من الأسماء وترانا اليوم نلصق أوصال أضلعنا لنصنع قطاراً ليكون إسماً لنا

***

.....................

1- مار بطرس: أحد تلاميذ المسيح الذي نكره حين صاح الديك

2- في عيد الفصح يلون المسيحيين في العراق البيض

3- ششكلو: رئيس كهنة معبد بابل

4- ادباء سريان

 

كلما ألقيتُ بنظري إلى

منتهى الأفــق،

داهمتني أهدابُ المعني

المتواري خلف سديم الغروب..

فتصير عينايَ ملتقى للعشاق

لحظة السمر الملفوف بالشوق المضمر خلف الدروب..!!

*

جنوب الرّوح

أيها الساكـن فينا كما الهم..

كما الحلم المتسارع،

نحو غـد هَروب نحو فجر

مغمض العينين..

تثقله أحمال الوهم المتربصة بالأحلام

*

كلما أتعبَني انسلاخ الأحلام

من دُجـى الوهم،

توَسّلت قواميس الهزيمة إليكَ

لعلّي أجدُ مخرجا لخيباتي التليدة..

*

أيها هذا الشقي..

عُج بنا إلى مفرق التاريخ

لعلّنأ نُلْفِي أسباب الهزيمة

بين تفاصيل الأوقات والدروب المعتمة.. !!

*

تشرَبني الكأس عند كل غروب

فتندلقُ الأشواق على مدمعي.

فألوذ دفاتري القديمة

حيث أجد هيكلي المُـسَـجّــىى

وبقايا من أحلامي المردومــة.. !!

*

عندما تنعدم الجاذبية

يصير تخاطر الأفكار بين الكواكب

واتساقُ السّيقان ضربا من جمــال،

وطيفا خافتا من خيال.. !!

*

تعاندني وساوسي الشريدة

كلما جَـنّ الليل وآوى كل إلى مرقده،

فتُلزِمُني على امتشاق مُهــنّــد البوح،

وأسرار الرؤيا تعانقني وتحلق بي

بين جوامع الكلم و تمنع المعانى.. !!

*

هي كما رأيتها منذ الولادة الأولى..

جميلة جذابة وآسِــرة،

وديعـة وواسعة عيون أمّــي.. !!

*

أنت أيها الشقي المنسي..

أَبَعدَ كل هذا الشقاء الأبدي

والحلم العصي ..

ألا زلت لاتعلم أنك مَخْصيّ ومخصيّ ومَخصيّ..؟؟

***

محمد المهدي

تاوريرت

14/01/2023

 

 

يا للحظ السيء!

قبل أن يأتي الربيع

وتشتعل الربوة بالذهب

قبل أن تحمل اللقالق

بريده إلى الله

وترميه الغيوم بالفواكه والدراهم

مات تشارلز

في حجرة ضيقة مختنقا بالغاز

والأسئلة الحرجة

حتى الملائكة فرت مذعورة

من ثقابة عينيه المسمرتين

نحو الأعلى

من أجنحة صلواته المحترقة

من ديدانه القرمة

عاش وحيدا

يشبه أحد الكلاب السائبة

في شمال إفريقيا

يفكر كثيرا في أسرار الحياة والموت..

هبوب المومسات آخر الليل..

زئير نهودهن البضة..

طقطقة كعوبهن

على أديم عظام الأسلاف..

تشارلز يحب الحياة

شطائر البطاطس والهامبرقر

عجيزة جارته الراهبة

نواقيس الكنيسة العذبة

أيقونة العذراء

النور الذي يزرب من دم المسيح

الذين يمشون على أطراف هواجسهم

الحدائق المكتظة بالعميان والمجوس

متناقضاته التي تعوي تحت الشرشف.

تشارلز آخر من يودع الحانة في الليل

ممتلئا بسم الشوكران

بقناديل الدموع والنوستالجيا

يلاحقه تنين الفراغ القاتل

متطوحا مثل سفينة عذراء

في عرض البحر

شاتما مؤخرة العالم الزنخة

غير آبه بعواء ذئاب الموت

ساخرا من لا شيئية الأشياء

من الأشباح التي تعض شحمة أذنيه

من صفير عظام كتفيه.

تشارلز الذي يشيع الأموات

مثل قس من القرون الوسطى

يرتاد المقابر حافيا

يقفز مثل كنغر

يتقرى شواهد القبور

محمولا على أكف النعاس

مطوقا بغربان الشك وفراشات اليقين.

فعلا مات تشارلز الجميل

مات جائعا مريضا مقرفصا

مثل ملاك في دهليز

تشارلز الذي قاوم عاصفة اللامعنى

تشارلز الذي يحبه المارة النائمون

السحرة والمجانين

صانعو قنابل السخرية

المصطافون في براري الأسئلة

منظرو الحروب الباردة

والذاهبون إلى الوراء

***

فتحي مهذب - تونس

اعود الى موتي بعد كل

قصيدة

ارمي السلام

و اترك الكلام

كل الكلام خلفي

و اسير امام

جنازتي..

افرغ جيوبي من الالوان

و أبقى بين الاسود والابيض

أغسل يداي

جيدا

أزيل حمرة شفاهي

و أعود الى شحوبي

لا شيئ يرفعني

الى الضوء

لا أغنية

لا حلم مرصع

بالندى

يهز اوراق الصباح

و لا صباح يفرغ

جيوب الليل من كل الأحلام

تعود الرمال لتغرق

في شحوبي

تطاردني َمن جديد

أترك لها الصحراء

فتزحف

نحوي ببطء

تحاصرني

حتى مثواي الاخير

زرعت لها الاشواك

على الارصفة

لأتصالح معها

و مع جراحي القديمة

و مع عيون حزينة

تختنق في حلمي

كل ليلة..

هل علينا نحن الأموات

ان نرمي السلام

على القصيدة

الأخيرة

و نمضي

كأننا لن نعود ابدا

و لماذا حين نخرج

من باب حتفنا

يتهاطل علينا البكاء

كالمطر ..

فنعود ونرتطم بالوقت

من جديد

بين الأسود والأبيض

خطاي على طريق طويل

تغرق في الرمل

أكسر صمتي قليلا

لعل الضوء يرفعني

فأرى اثر خطواتي

لا شيئ في القاع

يغري بعودة ناقصة

إذا لن أنهض من غفوتي

سألقي سلامي الأخير

على القصيدة

و أمضي

***

بقلم: وفاء كريم

تمعن آمنة بالتحديق فلا ترى إلا ضوءًا تغيم فيه الوجوه، تتأمّل الضوء وتحدّثه وتسأله فيشرق وجهها ويغيم، يتورّد ثم يشحب ثم يعود يتورّد. تبقى واقفة مثل دمية خشبية فتتخلّى عن الصارمين صرامتهم، والقساة قسوتهم، وعن العتاة عتاوتهم، وتنحشر في أماكن وقوفها أنهار من دموع. (كان الصباح شبيهًا بالمساء، والمساء شبيهًا بالصباح، والليل يرتشي بالنميمة والضحك، وتصيد الغرباء حتّى وهم ميتون). كان الرجال يرتقون إلى السماء، يذهبون ويعودون، يذهبون ثمّ لا يعودون، فتخرج النسوة للانتظار، وقد هزّ الخوف أبدانهنّ، وحفر أخاديده في وجوههنّ. شاهدت آمنة كلّ شيء: الرجّال وهم يتلوون من الهوى والسهر وإيقاد الدموع، الشعراء وهم ينثرون نصوصهم عند قدميها؛النساء ينتظرن، لطم الخدود، الإشاعات وهي تتحوّل لحقائق، والعويل الذي يقطع الفضاء ويشطره ثم يقطع الصمت كما تقطعه أصوات العبوات الناسفة ورشق الرصاص.

علت صرخة في الفضاء فجأة ثم اختفت، لم تكن صرخة استغاثة ولا فزع، بل انفلات أصوات ملوّعة لم تحط بها علمًا. أصاخت السمع، لم يكن هناك إلا الصمت حاضرًا مسموعًا وملموسًا يجلّل الصرخة ويؤكدها، سارت محدّقة بالأبواب والوجوه الجامدة، بدا الطريق مهجورًا وساكنًا ولكنّ الصوت يأتيها بهمهمات مكتومة وعويل مخنوق، أحسّت أنّ حزنًا غريبًا يسري كالعدوى في النفوس، جفّفت عرقها، وتنفّست بعمق ثمّ واصلت السير، تتبّع الأصوات ثم تصغي لها باهتمام، ثم تبزغ من بعيد حشودٌ من الناس، يؤكّدون لها أنّها تنقّب عن عيوبٍ لم تكن بحاجة إلى تنقيب. كانت الجغرافيا خللًا، والتاريخ خللًا، والمجتمع خللًا، والدور الذي أتقنت تمثيله ورطة، وكانت تصغي لهم وهي تنتفض وتهدأ، وتشتعل وتنطفئ، ثمّ تتطلّع إلى السماء وقد بهتت نجومها وكادت أن تسقط. يقولون لها إنّ الحياة جميلة فلا تصدقّهم لأنّها تخشى غدرها، ولكنها لا تفصح أبدًا بل تكذب، حتّى على قلبها.

٢

آمنة تخشى الحياة ولكنّها تكذب على قلبها، تشخص بعينيها في الظلام وتلهج بالدعاء. تهمس وتتوسّل، فتلتمع وتتوهّج كأنّها واحدة من النجوم اللامعة التي تطرّز السماء. تخاف من إذعانها المستمر لعقلها ومع ذلك فهي تخشى أن تقودها عاطفتها المتأجّجة إلى أن تهدم مستقبلها بيديها. وتخشى الزمن أيضًا، تضع وجهها في المرآة لعدّة ساعات، تتحسّس التجاعيد التي قد تظهر، تنهمك في ما تفعله دون أن يطمئنها كلّ ذلك. وسرعان ما تقفز إلى عينيها نظرة الرعب كلّما فتح أحدهم سيرة العمر. آمنة تخاف الحب وتكره الضعف الذي يصاحبه، عمومًا هي تكره الخوف والضعف مع أنّها تتقن الاثنين، لكنّها لا تعترف بذلك وإنّما تصرّح دائمًا بأنّها لا تخاف إلّا من ذاتها وعواطفها الجامحة. طبعها حاد ينطوي على كثير من الرغبات المعلنة وغير المعلنة. آمنة ليست آمنة، وهي في الواقع لا تحمل من صفات اسمها إلّا القليل، ولا أدري إذا كان الله قد شاء للأكوان المظلمة التي في داخلها أن تتجلّى وتضيئ، الأكوان التي كُتِب عليّ أن أتبعثر فيها إلى الأبد.

(أحاول الكلام..

مثل طفلٍ لم يعرف نارًا أكبر من عود ثقاب.

وعليه الآن…

أن يصف غابةً كاملةً تحترق).

٣

بقايا النجوم في السماء، كتاباتٌ عنكِ، جمعتها واخفيتها ثم نسختها ووزّعتها على أقنعتي الكثيرة: لكل واحد منّا نسخة…

نقف لنطاردكِ. فتدهسنا عجلات الوقت وهي تنحدر على الطريق أينما تؤدّي، غير آبهة بمن يقف هنا مشدوهًا، حائرًا، وشاعرًا بالبرد. كتابكِ ينفتح كلّما ألقى الله على ظهر هذا الكون بالزُّهر يا آمنة.

ولكنّ الواحد منّا حالما يلمح قبسات منه ويحاول القراءة: يتعاطف مع جمالكِ.. ثم يبدأ بالمغفرة صفحة بعد صفحة، ويقرّر أن يشعل نارًا: يلقي فيها نسخته من الحكاية. حتّى لا يتتبّع أثركِ أحد. كتابكِ ما زال يرتجف تحت النيران ويهتزّ على الأرض، فوقه يعبر النهر، يتقلّب فيه الأحياء والموتى، كان قد ترك عند احتراقه أسرابًا من الفراشات قد حطّت على جسد كلّ واحدٍ منّا وروحه. يومها حلّ طوفان وفرّق حكاياته المحروقة وبعثرها. وفي اليوم التالي كان صباحًا راكدًا، وفي قعر العالم دموع متجمّدة مثل حصاة يتيمة. تذهب الأعاصير بكلّ شيء، النخلات والبيوت، والمحلات التجارية، والعيادات الطبية وتبقى هذه الحصاة في مكانها متألقة بخفوت. وأبو تمّام يراقبها وينشد:

(أَما تَرى الأَرضَ غَضبى وَالحَصى قَلِقٌ

وَالأُفقَ بِالحَرجَفِ النَكباءِ يَقتَتِلُ).

صرنا نتقلّب كالزّبد الجريح على ساحل مقفر في رأسي. كأن الخليقة كلّها تصرخ اليوم باحثة عن شطرها الآخر. وفي غياب السجع والمحسنات البديعية نصغي إلى هذه الموسيقى التي تأتينا من لا مكانٍ مثقلة بعجائب الأخبار. كأنّنا اليوم قد استيقظنا وتتبعّنا أثر الندب والجروح التي أخفيناها عندما عدنا من مطاردتك. كلّ واحد منّا، يخشى على ندبه وحروقه الغالية من سلامة الآخرين. تركتهم يطاردونكِ بندبهم وجروحهم النازفة وحروقهم المتقرّحة، ثم خلعتهم بعد أن أصبحوا أقنعة بالية و متهرّئة فظهر أمين الذي تعرفينه، تنفّست بعمق وبكيت وأنشدت :

(الحبُّ في الناس أشتاتٌ مذاهبه

وللمتيّم من هذه متاعبه

والشوق ألعن لو طالت سحائبه

(والهجر أقتلُ لي ممّا أراقبهُ

أنا الغريق فما خوفي من البللِ)

ثم رفعت رأسي لأرى الغيوم مهرولةً عبر السماء تسوقها نذر مجهولة. لا أهل ولا أصدقاء وليس لي بلد والأرض غضبى والحصى قلقٌ..

٤

حكايتك مفتوحة أمام عينيّ، مصيدة لأرواح موتاي، يمرّون على صفحاتي وهم يرتجفون ويأنّون، أسمع أنينهم مثل لغتي الأولى. عندما يربكك السؤال عن إلحاحي وتشبّثي فيكِ بعد كلّ هذه السنوات، بعد أن عرفت عيوبكِ، ذلك السؤال عن معنى وجودكِ وكيف أنّ ألمي ينسج كلّ هذه الحكايات.

(تذكّري أن عشّاقكِ كانوا مثل الورد البريّ

يطلعون من شقوق النصوص التي تدعو للقتال، تدوسهم الجيوش فتتعطّر الهزيمة

عشّاقك الذين يسحبهم العالم من خندق صمودهم السريّ، حفرة أرواحهم وسقف جسدكِ)

عندما كانت الشوارع جروحًا، كانوا على جوانبها يعبرون نحو بعضهم البعض.. وأنا الضائع في ظلمة هجرك. أنا الدودة الساعية بأنفي الحسّاس في ظلام الرؤية، أنا الذي يعيش حياته ويراها فلمًا رديئًا يخرج المشاهدون في منتصفه . أنا اليائس من مقاماتي وأيّامي وسريري الموحش وأوراقي الملطّخة بتفالة القهوة والميرمية. أنا دمية الفرح الرخيصة التي تعطب بسرعة. أنا جثث القصائد الحزينة التي تحاول النهوض لتبقى في أذهان الناس، وصفّارة الله التي ينظّم بها ازدحامات أكوانكِ المبعثرة . أنا قلبٌ متروك في العراء مثل بوصلة مسافر مات من التّيه.

(أنا اليابسُ…

الذي كلّما عادت يدي منكِ:وجدتُ تحت أظافري غيمةً

وأنا البارد الذي يستعمل غصنًا شابًا من جسدكِ

لينبش رماد العالم: بحثًا عن الجمرة.. )

أنا الذي صنعتك من أخطائك ثم أحببتك، وأنا اللاجئ المستغرق في سرد حكايته، في أعلى المشارف، أو أوطأ الدركات. ومثلما تعرفين هناك دائمًا مقامة، وقصّتها ستروى. أنا سارد حكايتك المضحكة المبكية، الخارج من ثوب الزمان المتهرّئ الذي يجد دائمًا ملاذه أخيرًا لكل أجنّته المذعورة في بنيان الكلمات بضربة طائشة من القلم، لأنّ العالم بأسره في النهاية ليس سوى مقامة بانتظار أن تروى، مقامة تتلو لنفسها ما تبقّى من تفاصيلها، تلك التفاصيل الجديرة بأن تتلى ليسمعها من له أذنان. أنا الذي ربطت جرحي بجسدكِ، كثقّالة ثم قست استقامة العالم. وأنا الذي هزّ حصّالة اليأس، فرنّت في روحه الوحدة، ولعق أملاح الليل ثم قال لكِ أن السهر حلوى.. أنا الذي طليت وجه حزني وصعدت نحوك مثل ضحكة. أنا الذي لا أعرف ما الذي أكتبه لكِ الآن. أنا عشّاقك.

٥

بغداد نائمة. تسيل على أشجارها قطرات الندى. نوافذي مفتوحة تستقبل حاشية من البعوض، وثمّة من يحمل فانوسًا ويبحث عن شيء ما في الخرابات. مخدّتي تحت رأسي تتكهرب بالأرق وفرط التفكير، فأرمي بها إلى الجدار.

أخبريني دائمًا، أنّ كلّ شيء على ما يرام…عندما أكون حزينًا مثل مشطٍ يحاول أن يسرّح شعر الموتى. وعندما أمشي في الوهاد وأتعثّر بالجثث والهياكل وأستغرب ملمس الدم على وجهي. إنّني أحتاج أن تخيّطي لي هذا الجرح، أخبريني بأنّني لن أموت بسببه، اخترعي أيّ قصة وسأصدّقكِ. كلّ ما أحلم به أن لا تعصف بنا هذه الأعاصير، وأن نجد زاوية نختبئ فيها من ضجيج هذا العالم، صفحة بيضاء حيث لا تكذب الكلمات.

(أنا لا أتعمّد أن أعذّبكِ عندما أكسر حياتي..

وأطلب منكِ تجميعها

أنا فقط أريد أن أراقبكِ وأنت تلتقطيني: شظيةً بعد شظية

وأريد أن أشعر بالأمان عندما تقولين لي: يمكنك أن تمشي حافيًا الآن).

قولي إنّني ضعيفٌ وهشٌ وعاجزٌ وقبيح مثل جرحٍ متقرّحٍ في جثّة العالم لكنّني مهم. فعبري يتسرّب الألم: كلّما جرح الالم أحدًا ما..

(قاسميني تعبي يا مُتعبة، إننّي أحتاج صدرًا موجعًا أبكي عليه، إنّ بي مثلكِ شيئًا من زجاج وصدور المطمئنين رخام).

أخبريني بأنّ كلّ شيءٍ على ما يرام.. حتّى لو صرت كئيبًا لأنّني لا أملك الكثير من الحزن الجيّد للأيام القادمة، حتّى لو لم تتّخذ الأبواب شكل عينٍ عندما أحتاج أن أخرُجَ دمعة منها. أعلم أنّك غاضبة منّي لأنّني غفوت وتركت باب الأحلام مفتوحًا، وأعلم أنّني لست مرئيًا كما يجب لأحبّك في النهار، وأعلم أنّني كنت أدوس بأقدام الراكضين عنب الصراخ داخل روحي . قولي لي لا بأس حتّى لو افترقنا، برهني أنّكِ سيدةٌ مدبّرة وأنّنا سنعبر هذه الأزمات كما فعلنا سابقًا، أخبريني أنّكِ ستعلّمين غيابكِ وتدرّبينه قبل أن تذهبي؛ على أن يتصرّف معي كامرأة تخبرني دائمًا أنّ كلّ شيءٍ على ما يرام.

٦

كلّ ما أكتبه هنا في هذه المقامة حقيقةٌ يا آمنة، ما عدا الحقيقة ذاتها، كلّ الأوهام والأكاذيب والثرثرات لها صلابة الحقيقة، ووحدها الحقيقة هي الخاضعة للشك والريبة. لا يزال المشهد ذاته عتمة وشوارع ووجوه يكرّر أحدها الآخر، المشهد ذاته الذي أكون فيه وحيدًا وبعيدًا عنكِ، أرفع نظري إلى السماء. أحدّق طويلًا في فراغٍ كثيف معتمٍ وساكن، تنتابني رغبة مؤلمة بالصراخ. مجرّد صراخ يهزّ هذا السكون، فيتهاوى ويتحطّم ويتفتّت، فأرى خلفه زرقة، أو حقل ظلمة مزروعًا بكتل نيران يسمّونها النجوم. في زمانٍ كانت فيه الكلمات مجنّحة قادمة من اللّامكان، حيث كتل الضباب فيه تلعب بالبراري، وتجوب التلال. في غمرة يومٍ من ذلك الزمان، حين انبعثت من السماء أضواءٌ شقّت ستارة الظلام، وهبّت أبرد النسمات، في غمرة ذلك الضباب، وصل العشّاق من الصحراء إلى النبع، كانوا معفّرين بغبار الألم، معذّبين بأوجاع الضمأ. هرعوا إليه وشربوا، وارتووا وتعافوا، ونسوا تاريخ العذاب وأيّام الفراق والهجر وهم على ضفّته يقيمون، ومن مائه العذب يستلهمون. ثم حلّ زمانٌ يا آمنة، ظهر به جيل ضاق عليه ماء النبع، وقال أنّ له مذاق السّم، يعمي برذاذه العكر الأبصار، ويكبّل أجنحة الأحلام. جيلٌ رأى دروبًا من الضلال، فبحث في الأرض عن نبع آخر، إلى أن نال ماءً من أوهام. شربه فهام في طرق الضياع، هجر الآباء، واجتاز الجبال التي تصدّ الريح عنهم، صعد إلى قممها، ثم هبط إلى الوديان، في ذلك الزمان جفّت الكلمات المجنّحة القادمة من اللّامكان، وماتت اللغة، وأصبحت الكتابة حرفة لعديمي الموهبة، سار الجيل طويلًا في متاهات الوهم والعمى والخرافات. وصل إلى صحارٍ عديدة لا ترى فيها غير امتداد الكثبان. جرداء لا ماء فيها. لا غصن أخضر، لا ظلال. يسيرون كما يسير المرء في المنام متبّعين نداءً من الأوهام، ينهال في منتهى ذلك المدى، ثمّة بحار وشطآن، ثمّة ريح غاضبة، وسفنٌ تبحر في زرقة تمتدُّ إلى السماء، ثمّة أعاصير تدور وتغنّي، ومجهول يأخذهم إلى المجهول. علت في الجوّ صرخاتهم، وتلوّت أطرافهم، ابتلع الماء بعضهم ولم يصل إلى اليابسة غير جماجمهم وعظامهم. لا نايات تغنّي الريح، لا ريح تغنّي المدى. حينها. حينها أدركت أنّني طوال الوقت، في هذا الكابوس، أمام خيارين وحيدين: الأوّل أن أصبح شبيهًا بجميع الناس هنا، أملك وجههم وأشرب ممّا يشربونه، وأحيا بينهم بلا محن الاختلاف وعذاباته، والثاني أن أقتفي أثر ذاتي، أن أكون أمين، ممّا يعرضني لخطر العالم ورغبته في سحقي.

رأيت حزني ينهض. كانت الأكوان نائمة. لا النجوم منارة، وليس في الفضاء الشاسع إلّا خطاه. ورأيت أنّ ما أعيشه بغيابكِ لا يمكن أن يكون واقعًا، بل هو كذبة طويلة. كذبة مأساوية وتبعث على اليأس. بالقدر ذاته التي هي فيه مضحكة من شدّة حماقتها وتلفيقاتها وسذاجتها.

( أنا الذي من الذين يدلّلون يأسهم من العالم: ككلب حراسة..

أرمي له في بداية الليل لحم الضّحك.. وأنتظر

حتّى يشبع وينام

ثم أتسلّل إلى صدري: مثل اللصوص

وأخرجكِ هناك بكلّ هدوء، تحفةً من الأمل).

٧

العجز عجزان، التفريط بالأمر وقد أمكن، والسعي وراءه وقد فات…

حسن أوريد

ربيع قرطبة

٨

الجدران بيننا عالية، ولا أعرف كيف بدأت هذه المحنة وكيف ستنتهي. أنا أعتذر لكِ يا عزيزتي.. لقد علّمتكِ الدرس ثم طالبتُك بأن تخالفيه، وعلّمتكِ الكلام ثمّ تركت لكِ الأيام التي لا يمكنكِ التعبير عنها. أنا أكتب والقنابل تتساقط، والألغام تنفجر، لا طريق يقودني إليكِ، ولا مهرب عن الطريق المفروش بالخناجر والفخاخ. حتّى الشاعر الذي يكتب لك لم ينجُ، هو الذي كان يعرف كلّ شيء منذ البداية، أنا العبد. أنا العاجز، بعكازين تحت إبطيّ أعرج نحوكِ، ويتبعني الموت بأرجل عنزة سوداء، تتبع رأسي سكاكين القتلة وحراب العذّال ذات الرأسين، وأعرف أنّني رغم هذا، سأنجو لأكتب لكِ هذه المقامة التي تتلجلج في صدري، فلم أعد مالكًا لشيء سوى الرجاء ولعلّ هذا البوح أن يضمّد الجراح .

لا يوجد في مدينتنا الآن سوى الكلمات الرديئة، والناس الذين لم يموتوا بعد، وأنا ما زلت أعيش هنا وكلّ يوم أحاول النجاة ككلمة جيّدة. الجدران التي بيننا ترتفع أكثر والناس في الخارج نهشوا سيرتنا ومضغوها ثم شبعوا وناموا، وأنا أبحث عن الكلمات التي تركوها خلفهم محاولًا أن أصيغ منها رسالةً لكِ.

٩

أحبّكِ حتّى عندما تكبرين وتشيخين، وعندما تحاصرك الترهّلات والتجاعيد، ومهما كتبت عن جمالكِ فلا أمل لي على الإطلاق بالعودة إلى الماضي وإخبارك بحقيقة مشاعري حينها، فقط إن قمت بوصف خوفكِ وألمكِ وتردّدك وتفسير ابتسامتكِ الغامضة وعلاقتها بخسوف الأحزان من حولك. ستكون فرصتي حينها عظيمة للعودة هناك ولكن لفعل شيءٍ آخر: إرغامي على الكتابة عنكِ. أنا أحبّك أنت ولا شأن لي بالجسد الذي تسكنينه.

يربكني جمالك العادي تبهرني قدرته الهائلة على جعلك أجمل امرأة في الوجود . لستِ هالزي أو تايلر سويفت، ولا تمتلكين صوت سيّا ولا أديل، أنت بعيدة للغاية عن فتاة أحلامي، ولكن صدّقي إنّه إذا ما حدث واجتمعت كلّ الجميلات عند عتبة قلبي ومددن مفاتنهنّ وقلوبهنّ لي سأخبرهنّ بأسى أنّني أريدكِ وأحبّكِ أنتِ وحدكِ.

(لم أقع في حبك بل تعرضت لإصابةٍ مميتة به، إصابةٌ مباشرة بعثرت حصون القلب و أضرمت القصائد في أحشائي . أنا طَريحُ عِشقك يا هذه .. أنا مريضٌ بك وأكثر ما أخشاه في مرضي .. شِفائي).

١٠

آمنة تصاحب النجوم، إنّها أمّا أنجم ساقطة أو نذر ترعد في وجوهنا بالنبوءات، هناك من يُعبّئ الأجواء بالخوف، بالجنون، والريبة. والليل من العمق بحيث لا تصل الصرخات إلى السماء. الفرق الممزّقة تطفو في الداخل على شكل بقايا: صاحب المقتلة يبدو كأنّه الضحية؛ الصوت الذي لا يعرف صداه. يبدو أنّنا دومًا نأتي إلى هذا المكان. نعدّ خطانا كأنّ الغد يدعونا بجمع كفّه في الأفق، وإذا بنا نأتي بهذه الفسحة من الصمت، هذه التي لا تؤدّي إلى مكان، أريد أن أخبرها فيها وأخبر العالم بأنّني بخير ولكنّني لا أملك أيّة أدلة.

(أحتاج إلى إشارة منك،

إشارة تخبرني بأن كلّ هذا السواد سينجلي ولو بعد حين..

أحتاج أن تضع لي نقطة ضوء في نهاية هذا النفق الضيق والمظلم..

أن تدلني إلى زهرة غافية في هذا الحقل المحروق،

أن تُسمعني صوت قرقعة مفاتيح خلف هذه الأبواب الكئيبة الموصدة..

أحتاج يا الله لحافز صغير

كي أصمد).

كلّ ما أفعله هو الانشغال والابتعاد عنكِ ونسيانكِ، سلكت طرقًا متطرفًة من أجل ذلك، وآذيت كثيرًا من الناس، مرّة صرخت في أطفال الحي ووبّختهم بعد أن قالوا (نحبّك) تذكّرت أنّني أسرفت في قولها لكِ من دون أن أحصل على الجواب، كل الأدوية التي تعاطيتها، كل الكتب والأفلام التي حاولت أن أنساكِ وانا أتسلّى بها، وكل ما كان يحدث هو تكاثركِ وتعاظمكِ في قلبي. لكِ أسلوبكِ في الرفض ولي طريقتي في الندم لا ينقصنا الآن سوى التهوّر، واستجلاب إيقاع مكسور يليق بهذا الحب، هناك في مداراتك شاهدتُ كواكبًا صغيرة وأقمارًا ملوّنة ونجومًا مشتعلة، صادفت منها نجمة ناعسة تسرّح خصلة من خيط ضوءها، رأيت مذنبًا صغيرًا يلوّح لي، أتذكّر أنّني كنت عجوزًا عندما رأيتكِ في المرّة الأولى، في المرّة القادمة التي سأكتب فيها عنكِ، لن أنبّش عن طفولتك، ولن افتّش بقائمة أصدقائك ولن أستجوب صديقاتك عمّا تفعلينه وتقولينه وأنت بعيدة عنّي، سأواجهك بالأمر مباشرة وأقول: أثمّة كونٌ تخفينه عنّي؟

(أنظر إلى النجوم التي ترصّع الكون فيخيل لي أنني أحدق في عينيك..

لأن الحال كانت هكذا دائمًا بالنسبة لي :

أيّ ما يضمر الضوء لا بدّ و أن له علاقة بك،

و كل ما لا نهاية له

محاصر بك).

١١

بسم الله

حين تلتقط الشوارع خطواتي المتعثّرة، وتتبدّل عليّ الفصول، وحين تنعقد ألسنة الليل ويأفل نجمه وتلبسه المدينة، وعندما تنالني أفواه الغياب، وأصبح فريسة للوقت، ويأتي الفجر حاملًا اسمي نبوءةً خطرة، أكون فيها إشراقة المأساة على جبين العالم.

حين تمسي البيوت أقفاصًا رحبة، وتكون الشوارع أفاعيًا تلدغ الخطوات، وعندما يموت مغدورٌ واسم قاتله ينمو على لافتات الشوارع ونشرات الأخبار.

باسمكِ

حين أسير على الأرض حائرًا وعلى جبيني نجمة عشق، وفوق رأسي أدلّة على أنّنا الكائن نفسه.

باسمكِ وهو يمنح الليل خطورته، فتتفتّح فيه أبواب إيابٍ لأرواح مخطوفة، فينضجُ فيّ خوف الزوال، كما ينضج ورد الصباح في الحدائق، وتجيئ الساحرات حاملة كتابكِ، ليتوقّف على يديكِ الزمن.

باسم وجهك الجارح وعينيك السوداوين، وسمرة بشرتك وشمسها الساطعة حين يتثنّى منها الضوء ويهزّ قرارة الظلام وترتعد أشباحه، باسم الفراشات التي تحلّق حولك عندما تؤدين صلاتكِ وتقرأين الحمد والإخلاص.

باسمي وارث الجزع والمرض والوحدة، أحمل نهايتنا التي تحيّر الناس وأسألكِ . كم ميتة أحتاج يا آمنة حتّى أولدَ منكِ؟

***

أمين صباح كُبّة

 

وأنت تسافر بين الكلمات

طلبا لمتعة عابرة....أو قصة عاثرة

توخى الحذر

فتحتَ كل حرف قلبٌ ينزف

بين الفواصل جراحٌ لا تندمل

في جوف علامات الاستفهام

هزائمٌ...تنتفض

على ملمح النص دهشةٌ

اكبر من القصيد

من هوامش تبتلعُ لبَّ الحكاية

كيما يصابُ العابرون بوعكةِ ضمير

أو قلقٍ يفسدُ ترتيب الحواس

من أجل سهرة باذخة

أعدت سلفا لربطات عنق لماعة

لجلابيب تتنافسُ في القِصر والطول

وعطور تحمل تواقيع

الضفة الأخرى من الترف

لا تستعجل في القراءة

عل التلاوة تكون علاجا

لداء مزمن أصاب العبارات

فأصبحت عاجزة عن تبليغ الخطاب

ضمادا للغةٍ أثخنتها الجراحُ

وحروف جر.....لا تتوانى عن الجرجرة

مهما كانت المطباتُ سحيقة

ومهدئا لعلاماتِ تعجبٍ

ما عادت تقوى على الانتصاب

كم رخيصٌ جدا

أن يكون الأرق ثمنَ الهزيمة

والقلقُ نديما يجاذبك أطراف الهوان

كلما ارتفعت حرارتك

بادرك بعذرٍ يخفض حمى الخجل

بفيديو يرقيك من اضطرابات الحقيقة

وأدعيةٍ منتقاة بعناية

تبعدُ عفاريت الوقت ..ولو إلى حين

لتظل الجمجمة علبةً سوداء فارغة

همها متابعةُ الحلقات القادمة

من قصة الناس

اقتناعا بالمثل = إذا عمت هانت !

كلُّ عودٍ يابس النبرة لا يستهوينا

قد يداهمنا بنكزة ...وقد يعمينا

كلُّ كرامةٍ جفت على مقعد بالمقهى

لن تمنح اخضرارا

ولن يكون لها امتداد نحو الرصيف الآخر

حيث الانتظارُ يرتّب

وصفاتِ الزمن القادم

في قارورة نسيان يخبئها

ثم يلقيها في البحر عربونَ يأس

ما دام العلاج منعدما

والشفاء مستحيلا

فالحب لا يولد من تبغ المقاهي

ولا الكرامة تطلع من تطويحات

لا تتوقف على أبواب الملاهي

ولا الحرية تحيا في زيف الغضب

ونضالاتِ الأسماء المستعارة

على شاشة الفايسبوك

زادُ القبيلة خبزٌ معجونٌ بالدماء

ونحن نفرقعُ الخطبَ

في الدروب المغلقة للزجاج

ننشر الشعاراتِ في شوارعه

المكتظةِ بأبطال يغيّرون البروفايل

عند كل حدث ...بكلِّ جسارة

نستهزيء من عيون المخبرين

من أصدقائنا الأعداء

حلفائنا المخلصين المخادعين

هكذا يمضي النهارُ

يليه الليلُ وهو يصنّف الزهورَ

هذه حمراءُ للحب...الصفراءُ للموت

بينهما اخضرارٌ باهت ينحازُ للرمادي

حيث تفقد الحكاياتُ معانيها

بين برودة الازرار يموت الأبطال

يتوه الجمرُ عن ماواه

متّهمًا الألفية الثالثة

بإفساد الأخلاق والأطعمة

تسميم مفاجآت جميلة تحملها الأبراجُ

والحظُّ الهارب في أنفاق الوهم

ممتطيًا فرسَ الهوان

حاملا سيفَ الخيبة

وحصانُ طروادة وسط الميدان

ينتظرُ فرصةً سانحة ليحملنا جميعا

في رحلةٍ جميلة بين المآثر التاريخية

لأمجادنا الوهمية

***

 مالكة حبرشيد

 

في نصوص اليوم