نصوص أدبية
ذكرى لعيبي: رفيقتي
الفصل الثاني من رواية: غابات الإسمنت
استقبلني السجن الكبير بأجوائه المعتمة ووجوه السجينات المتباينة، كما لو أنّني رأيتها منذ زمن بعيدٍ، ثم توارت وعادت ثانية في أحد الأحلام المبهمة الكئيبة، كان النور في ذلك المكان خافتا؛ لكنني على الرغم من ذلك، ميزت بين وجوه عدّة؛ وجه متعب بدت عليه آثار السجن، وآخر ناضر كأن صاحبته لم تعانِ في هذا المكان المغلق أي همّ.
السجن نفسه بضوئه الخافت، يرسم وجوهنا كيفما يشاء، بألوان البؤس والسرور والخوف والنضرة والذبول بشتى الألوان، ومن مفارقات القدر أن نجد وجها ريّان المحيّا متهلل الأسارير لمحكومة بالإعدام، وآخر متعبا لمن حُكِم لبضعة أشهر.
مفارقة عجيبة غريبة.
كنت قبل صدور الحكم عليّ قد قضيت في الحجز المؤقت بضعة أيام لغرض التحقيق، وجدتُ في الغرفة ثلاث نساء سبقنني: جميلة وعادلة وكريمة عبد الحي، جميلة وعادلة وقعتا في فخ الشرطة في يوم واحد وفي المكان ذاته، بتهمة تهريب العملة وتزويرها، هما تعترفان بالتهمة ولا تنكرانها، تدخنان ويأتيهما أحسن طعام، لا أشك في كرمهما وتفاؤلهما، أما كريمة فلها قصة أخرى تختلف تماما؛ لكنها تشبه قصتي وتفصيلاتها المثيرة أو المملّة، ويبدو هذا كافيا ليجعلها صديقتي، كنت آمل أن أجدها في سجن النساء إذا سبقتني؛ لكن التحقيق في قضيتي سار بسرعة كبيرة، لأن أهل زوجي أغروا الصحافة وبعض وسائل الإعلام للتحريض، غير أن القضاء لم يتأثر بما راح ينشره الإعلام من وصف لي وتحريض عليّ.
انتشرت قصص وأحاديث لجعل القتيل هو الضحيّة.
قيل إنّه متزوّج من الفتاة التي ضبطتها معه في الشّقّة.
واتهمتني إشاعة أنني سهّلت له الأمر، جعلوني قوّ...!
وذهبت بعض التخرّصات إلى أنّ عملية القتل حدثت بسبب الاختلاف في المصالح، لأن زواجنا كان مبنيا على صفقة تجارية.
أمّا كريمة فلم تأكلها الصحافة ولا الشارع العام بالأقاويل، لأنّ زوجها شخص عادي لا ينتمي للطبقة الأرستقراطيّة التي تمدّ مخالبها إلى جهاز الدولة وتحشر نفسها في قرارات الحكومة.
كريمة نفسها تنتمي للطبقة دون الوسطى.
فلم يهيّج فعلها المجتمع؛ سوى حديث عابر لم يشغل الناس.
لقد قالت لي إنها يئست من الحياة بعد أن وقع عليها حكم بالنشوز من زوجها الثاني، اتضح لها بعد تحرٍّ دقيق أن لزوجها الأوّل يدًا في موضوع النشوز، سألتها بفضول:
- كيف عرفتِ؟
أجابت إن زوجها الثاني الذي كان محلّلا اعترف لها، قصّة يمكن أن تعيد نفسها في أيّ زمان ومكان ولا تبعث على الملل إطلاقا على الرغم من أننا نعرفها من قبل.
كان كل شيء يسير على ما يرام حتى اكتشفتْ نقطة ضعف زوجها الأول، عصبي المزاج مقامر لا يأوي إلى البيت إلا بضع ساعات كأنه في سفر دائم.
خلاف يومي.
جحيم.
صراخ.
زاد الأمر سوءا أنها رزقت منه بطفلين تصفهما كأنهما وردتان، وتضمّ يديها إلى صدرها ثم تسحب نفسًا عميقا كأنها تشمّ وردة بين يديها.
وقد حصلت بينهما خلافات لمرات ومرات، وفي كلّ مرة يتحقق الطلاق، قال لها بعد أن رأت ندمه في الثالثة، أنه يعرف محلّلا يمكن أن يصبح زوجها مدة ثم يطلقها.
هكذا بيسر وسهولة اقتنعت..
أقسمَ لها أنه لن يعود لغضبه.
وما عليها إلّا أن تمتثل لطلبه، لا إكراما لعينيه بل كرمى للولدين..
تلك هي نقطة ضعفها..
والطعم الذي بلعته من دون أن تعي أنّه سمّ زعاف.
وافقتْ ولم تعرف أن زوجها السابق ذا الطلقات الثلاث، كان يمارس هذه التجارة مع جماعة من الأغنياء، تزوج وطلق وكانت بعض زوجاته يعدن إليه وأخريات لا يرجعن.. وفق هوى التجار وسوق الرغبات السائدة، ولأن كريمة استفزته فقد ركب رأسه العناد.. هكذا جرت الأمور حتى جاء محلّل رفض الطلاق، أراد زوجها أن ينتقم منها فاتفقا على أن يصعّد الخلاف بينهما إلى درجة أن يحصل الزوج الجديد على حكم بالنشوز، يبدو أنها لم تكن رائجة في سوق النخاسة، فلم يرق للزوج أن يرجعها بعد الاتفاق مع المحلل فكان النشوز صدمة لها.
نهاية مستقبلها.
ما أقبح الرجل الديوث، الجبان!
فغلى بعروقها الدم، وفار الانتقام بنفسها؛ لم تقصد المحلل بل قصدت زوجها وانتقمت منه، فمن يصدّقها غيري أنا رفيقتها في الحبس على ذمّة التحقيق، وأنا مثلها أدانني المجتمع قبل القضاء؟
لم تكن مغفّلة أو ساذجة، عقلها كبير يزن الأمور، ولا أظنّ غريزة الأمومة تشكّل نقطة ضعفها حين قبلت بالزواج من المحلل للعودة إلى أبي ولديها، فكلّنا نحن النساء في مجتمعاتنا العربية نبقى - بخاصة المطلقات - عرضة لمطامع الرجال حتى يتحقّق الهرب بالزواح، فتجد الواحدة منا نفسها في مأزق جديد؛ وكريمة هي جرح آخر ينزف فينا وما زال ينزف.
غير أنّ لقائي الأوّل معها ورفقتي انتهت حين دخلتْ السجّانة لتطلبني للمحكمة، فغادرتُ التوقيف إلى المحكمة التي كنت متشائمة منها، كنت أتوجس خيفة أن تصدر بحقي أقصى عقوبة وهي الإعدام، تصوّر رسخ في ذهني، أو أنني افترضته لأنني توقعت أن تؤثّر حملة الصحف والإعلام والرأي العام الغاضب في مجرى التحقيق، وربّما يزيدني هذا التصوّر الغريب قلقا حين آوي إلى الفراش وقت النوم؛ إذ حالما أغفو أجدني أحلم أحلاما غريبة:
مشيت في صحراء مترامية الأطراف، فجأة انقلب المشهد من صباح واضح المعالم إلى ليل معتم خال من القمر والنجوم، صورة زوجي وهو يخرج من باطن الأرض وبجنبه ترقد عشيقته التي قتلتها معه يوم الحادث، أراه يمدّ إليّ يديه يدعوني إلى حضنه، اقتربت من دون خوف ولا تردد حتّى أصبحت قريبة منه على بعد خطوات، وقبل أن أصل إليه انشقت الأرض من جديد وابتلعته، وفي أقلّ من لحظات سطعت الشمس من جديد، فالتهبت الرمال بالنار، سقط نيزك أسود من بقايا الليل.. فأحدث حفرة في الأرض، اقتربت منها ووقفت على حافتها، وجدت زوجي داخلها يسترخي جنب ضبع ملطخةٍ ببقع سوداء وحمراء، مربوطة بحبل يقيّد عنقها، انقلب على جنبه، فسمعت للضبع شخيرا يتصاعد نحو رقعة سوداء ما زالت من بقايا الليل، فلم يبق من البقع عليها إلا الحمراء، كان حذرا من أن تستيقظ الضبع لحركته، وضع إصبعه على شفتيه محذّرا، وفتح عقدة الحبل من عنق الضبع بحذر، كأنه في بطئه ينجز عملا يعادل ساعات، فصنع من الحبل على هيئة مشنقة وقفز من الحفرة، طار نحوي وهو يقهقه ويصرخ.
صرختُ بوجهه بغضب: لن تستطيع اللحاق بنا، لن تقدر أن تغادر الحفرة وتعود للحياة، ركضَ فتراجعت، ثقلت رجلاي ورحت أسير إلى الخلف حتى اصطدمت بشيء صلب، فالتفت فإذا بالشرطية خلفي، لا تخافي قالت، واحتضنتي ثم عضتني من أذني محذّرة: لا تخرجي وحدك في الصحراء عند النهار.. أشارت بيدها فانقشعت الشمس وحلّ ظلام دامس، وسألت عند الصباح كريمة: هل سمعتني أصرخ في نومي؟ فأجابت بالنفي.
وفي ليلة تالية اقترب الحبل مني أكثر.. حلم آخر، تأكيد لموتي وتحقيق لأحلام أناس لا أعرفهم يريدونني أن أموت.. أتذكّر الزمن هذه المرّة، إنّه الفجر، بعض الأحلام أنساها حين أستيقظ على صوت الحارسة، ولعلني أتذكّر حلم الفجر والحبل وقت مطلع الشمس، وحدي في غابة، أشجار فقط وسكون، لا صوت ولا حركة، مكان يعجّ بالشّجر والنبات ويضجّ بالصمت ويخلو من الحيوان والطير، أسير بين الحشائش حافية يأكل قدميّ نبات الحرّيق؛ فجأة من شجرة سرو ضخمة منتشرة الأغصان أحسست بشيء ما يلامس هامتي ثم يتدلى أمام وجهي، كانت مشنقة تتدلى من غصنِ ضخم، لم أر أحدا، ظننت زوجي بين الأغصان، وما زال الفراغ والخواء يحيط بالشجر، حبل على رأسي وغابة بصمتها تشبه القبور، فكرت بالهرب فاندفعت أهرول فقفزت المشنقة من الغصن تسبقني .. إنه الموت، بدأت فتحة المشنقة تعبر من هامتي ووجهي إلى عنقي..
التفّت،
ضاقت..
أنفاسي تهدجت،
رحت أصرخ.. صرخت وصرخت من دون جدوى، ثمّ جلست مرعوبة وأنفاسي تتلاحق، كانت جميع السجينات نائمات، ولو كنت أصرخ لسمعنني، ويبدو أن ما خلته صراخا لا يعدو كونه همهمة، لقد حكمت على نفسي بالشنق.. أحلامي قست عليّ ولم ترحمني، غير أن قرار المحكمة جاء رحيما بي، فقد وقفت في قفص الاتهام وخلّفت الخوف ورائي، كما لو أنّي نسيت الكوابيس التي داهمتني كلّ ليلة.
لم يأتِ أحد من أهلي.
جميع أقاربي أعلنوا لخلق الله البراءة منّي؛ إذ رأوا في سلوكي شذوذا، لأنّ الأفضل للمرأة وفق العادات والتقاليد والعرف السائد، أن تلزم الصمت أمام زوجها في كلّ الأحوال: حين يهينها تصمت، وإذا ضربها تصمت، أمّا إذا رأته متلبسا بالخيانة والزنا فما عليها قبل كلّ شيء، إلا أن تكبت بنفسها وتتستر كأنها هي المذنبة، وإلّا ستكون مضغة للأفواه، فكيف بي وقد وجّهت رصاصة نحو زوجي وعشيقته؟
كان الأدّعاء العام قاسيا عليّ.
ومحامي زوجي القتيل محترفا في قلب الحقائق.
أخيرًا راعت لجنة القضاء ظروفي النفسية وردّة فعلي، فأصدر القاضي علي حكمًا بالسجن لثمان سنوات، فتنفست الصعداء.
كذبت أحلامي.
وخابت الكوابيس.
ابتسمت.. نعم.. في عالم خرب لا بد من الابتسامة في وجه الوجع، فالهزيمة لا تليق بالقلوب النقيّة.
***
ذكرى لعيبي