نصوص أدبية
ذكرى لعيبي: السجن الكبير
الفصل الثالث من رواية: غابات الإسمنت
السجن الكبير
جئته أحمل ثماني سنوات سجنٍ عليّ أن أقضيها فيه.
تسللتْ لنفسي مشاعر الخريف بلغتهِ ولحنه، بلونهِ الكهرماني الأصفر، هو ليس فصلا من فصول السنة فحسب، بل نافذة صريحة ومشرعة نحو ما مضى وما سيأتي، محطة بين قيظ المشاعر وصقيع العمر، له زوايا كثيرة ومختلفة وكل منا يراها من باب ذاكرته ومشاعره.
خلتُ نفسي ابتعدت عن العالم تماما، هكذا حسبت؛ لكن العالم في الخارج كان يسعى إليّ، لا أريد أن أتعجّل الأحداث، فقد دخلتُ إلى هذا المكان بعد صدور الحكم، وطالعتني وجوه، بعضها كئيب وبعضها الآخر حادّ النظرات، وهناك الذابل الكتوم، غير أنهن جميعهن كن متلهفات لسماع السبب، هل قرأن الصحف من قبل؟ لا أظن.
أم محمد العجوز التي حكمت بسنتين في قضية تهريب، دعت أن يفرّج الله الكرب عنّي وسألتني فيما إذا كنت أحب أن تقرأ لي كفّي؟ تقول إنها محترفة في قراءة الكفّ.. تعرف الودع؛ لكن الحارسات لا يسمحن بدخول الحصى للسجن، لذلك يمكن أن يحلّ الكف بدل الحصى، وإن كان الأخير أكثر دقّة! نائلة العاصي كانت تنظر إليّ نظرات غريبة غير واضحة، هزّت رأسها وانصرفت، أمّا مديحة نعمان فقد أصبحت صديقتي حقا، جميلة رائعة ذات وجه بريء ناعسة النظرات، غير أن شحوبا ما يخيم على وجهها! لا أظنه بسبب قتام السجن، فنحن نخرج معظم النهار إلى الباحة، نغادر القاعة بضع ساعات ونعود إلى التنظيف أو سماع درس أو نقضي ساعات تأهيل، كنت أفضّل الخياطة، مهنة المستقبل التي أحلم بها.
مديحة نعمان التي أصبحت صديقتي، كانت معلمة في إحدى المدارس، حكايتها سمعتها منها على فترات بعد أن توطدت العلاقة بيننا، ولم تكن تشرح لي كل شيء قبل أن تتركني أجرّب بنفسي، لفت انتباهي أن الحارسة استدعتها، فابتسمت نائلة العاصي بخبث، غابت ليلة وعادت قبل طلوع الفجر بساعة، عادت أكثر حزنا وأقل رغبة في الكلام، كنّا نجلس أنا وإياها ذات مساء في باحة السجن، وحدنا حين اقتحمت عوالمنا أم محمد، سألت بفضول:
- هل قضيتِ الليلة في غرفة الحارسة تكنسين وتعملين الشاي كالعادة؟
- أرجوك لا تسأليني.
رجعت لصمتها فالتفتت إليّ:
- أعطني كفك لأقرأه لك!
ابتسمتُ وقلت: لا داعي.
- لا أطلب نقودا، اعتبريه للهو.
وواصلت حديثها، صدقيني ستجربين كل شيء بنفسك وتجدينني صادقة، هناك نساء قبل أن يخرجن من السجن تنبأت لهن بأحداث؛ والكثيرون والكثيرات ضربتُ لهم الحصى عندما كنت طليقة، فحدث لهم ما قرأت، وما زالت السجينة أم كامل تزورني في السجن بعد أن خرجت، وتحققت أمور ذكرتها لها.
تمعنت في وجهها وأنا أطارد أحلامي، لاحقتني الكوابيس بالمشنقة، حكم عليّ الليل بالموت، والنهار بالحياة والعقوبة، أمّا هذه المرأة فتصرّ على أن تجعل الزمن ضمن إطار المرح واللهو داخل مكان معتم مغلق.
بسطتُ يدي: تفضّلي.
فتأمّلت لحظة وقالت: أنت في محنة، ستعيشين بخير، وسيكون الزمن في صالحك، حلوة هي الأيّام ومرة في فمك، سيقع في حبك الأبيض والأحمر والأسود، وبعد أن تخرجي من هنا تعيشين في الغربة؛ لكنك لا تحتاجين لأحد..
وقطع عليها القول والإسهاب في التفاصيل صوت صرير الباب، فتوقفنا عن الحديث والهمس، تخطت الحارسة الممر وتوجّهت نحوي قالت: تعالي معي إلى الإدارة لتكوني في مكتب السيدة المديرة.
أتذكر أني حين وصلت السجن استقبلتني حارسة سمراء بوجه متجهم؛ لكنها كانت طيبة القلب على ما يبدو.. بدا وجهها غاضبا ثم تراخى إلى حد أنها بدت مسالمة وهادئة لا تبعث على الخوف، فتحتْ ملفي وتطلعت في وجهي والصورة وقالت: أنتِ إنعام؟
- نعم.
سلّمتني ملابس واستلمت مني أشيائي الخاصة، ساعة يد وبعض الأوراق المالية وقلادة ذهبية، وضعتْ كل شيء في مظروف وقالت:
- اسمعي.. السيدة مدير السجن هذا وعموم سجون النساء، ابتسام علّام في إجازة اليوم وغدًا، ولا بدّ أن تراكِ وتتحدث معكِ حين تعود.
بعد عودة المديرة استدعتني في مكتبها.
كنت هذه اللحظة أواجه المديرة برأس منكّس وعينين كسيرتين، سيدة في الثلاثين من عمرها ببدلة أنيقة، سمراء ذات حمرة، وجه مدور بعينين حادّتين كأنهما عينا صقر، حلوة وفيها خشونة.. أنوثة ورجولة معا.. طلبتْ من الحارسة أن تخرج والتفتت إلي، قالت:
- إنعام.
- نعم.
- أنت هنا لكي تتعلمي (تلاشت الرهبة منّي) إذا أطعتِ ولم تتسببي في مشاكل؛ أيّة مشاكل ومشادات، فسأكتب عنكِ خيرًا كثيرا، فتقضين عندها نصف مدة الحبس.
- سأفعل إن شاء الله.
نهضتْ من مكانها واستدارت عن المنضدة نحوي، نظرت إليّ بتأمل وتمعن، خلتها نظرة غريبة، كأنها تعرفني، أشكّ في أنّنا التقينا ذات يوم في مكان ما.. عيناها تسلطتا عليّ كعيني من يمارس التنويم المغناطيسي، فشعرت براحة واسترخاء.. قالت:
- ما كان عليكِ أن تقتلي زوجكِ لتأتي إلى هنا بثمان سنين، وهل يوجد في الدنيا رجل يستحق مثل هذه التضحية؟
دارت حولي وواجهتني بعينيها الحادتين، نظرة غريبة غير الحنان والإشفاق، وليست كذلك نظرة قرف أو اشمئزاز، قلت:
- إنها القسمة والنصيب، والأمر مكتوب سيدتي.
فمسحتْ على يدي برفق: هل كنتِ تحبينه؟
- ربما.. يحدث أن يكون الوجع على هيئة حُب، فقد تزوّجنا زواجا تقليديّا؛ لكنه جعلني أتعلّق به بعد الزواج، إنه الرجل الذي جعلني أعيش مترفة، وأوّل إنسان يلمس جسدي.
- اللعنة! أحببن بكل ما أوتيتن من قوّة؛ لكن تريثن في إظهار مشاعركن وتصديقها، لتتجنبنّ حجم الألم والمعاناة فيما لو اتضح أن الطرف المقابل لا يستحق.
وضحكت بشماتة قائلة:
- أنتِ امرأة شجاعة وسأساعدكِ على أن تقضي نصف المدة!
هل تعدينني أن تطيعي النظام؟
أجبت من دون تردد:
- أعدكِ سيدتي.
صمتتْ.. أخذتها لحظة تأمّل وانشراح، راودني إحساس أنها تجول بعينيها حول جسدي أو تجعلني ألفّ حول نفسي، وعيناها ثابتتان على جسدي، كأن لعينيها مفعول منوم مغناطيسي، كانت تنظر إليّ وهي جامدة، أو مبحرة في مكان بعيد وزمن آخر.
تساءلتُ هل تلعب معي دور القط الذي يترك الفأر على سجيّته لينقض عليه فيما بعد؟ ربما هي مجاملة كاذبة، وبعدها بدقائق أو ثوان تنقضّ عليّ لتصفعني، أو تهوي عليّ بعصاها الغليظة، المركونة على إحدى عارضات الحائط الخشبية المخصصة للملابس.
لكن يمكن ألا يحدث هذا، فأنا سجينة إجرام، هكذا يقول الحكم الصادر بحقّي، قاتلة.. لست سجينة سياسية، فأعامل بقسوة.
لم أقد تظاهرة تطالب بإسقاط الحكومة، كنت بعيدة عن السياسة، لا تهمني الأسعار إن هبطت أو ارتفعت، ولا أبالي بالأحزاب وصراعها، بل سمعتُ أنّ مسجوني الجريمة والتهريب والمخدرات يعيشون في السجون بأمان من التعذيب، وهذه المرأة تعاملني على الرغم من رتبتها ومكانتها كأنني ضيفة.
هل أصدّق عينيّ أم أكذّبهما؟
ضغطتْ على الجرس، فقدِمت سجانة غليظة ذات قسمات صارمة تخشى عبوسها السجينات الأخريات، حتى خيّل إليّ أنها أكثر شراسة من الأولى التي استقبلتني في النهار أول يوم:
- نجيـّة.. خذيها إلى المطبخ لتنظّف المدخل ثم لتعدّ لي كأس شاي، وإن أحبت فلتعدّ لنفسها كأسا.
- حسنا سيدتي.
غبنا أنا ونجية في الدهليز، فالتقطت مكنسة؛ عندئذ قالت السجانة نجيّة بصوت رقيق تلاشت منه الحدة:
- ما دامت السيدة النقيب آمرة السجن قد رضيت عنك، فستكونين أميرة السجن.
- صحيح!
بالمناسبة يا ست نجية، شعرت إنها تعاملني مثل أختها أو ابنتها.
- السيدة النقيب غير متزوّجة.
- لكن لمَ كل هذا؟
- هكذا هو مزاجها، تحبّ الجميع وتتعاطف معهنّ.. ترى السجن تهذيبا وإصلاحا وتربية، ولا تترك السجينة التي يطلق سراحها تصارع الحياة لوحدها، فتجد لها عملا.
- ابنة حلال والله.
وأكّدت: المهم أن تكوني مطيعة ولا تخالفي أمرًا.
قصدتُ المطبخ وأعددت ثلاثة كؤوس شاي، فقد حسبت حساب نجيّة التي بدت لطيفة معي، وحملتُ الصينية برفقتها إلى مكتب المديرة النقيب التي وجّهت كلامها إلى نجيّة:
- دعيها تكمل كأسها براحتها.. ثم وجّهت كلامها مباشرة إليّ:
- سأصحبكِ غدًا بنفسي إلى الطبيب الخافر في المشفى، غدًا كوني مستعدة عند الساعة التاسعة!
رحت أتلذذ بكأس الشاي وفي بالي خاطر آخر، هل كلّ هذا اللطف من دون مقابل؟
لا أظن..
كل ما أراه وفق أسوأ الأحتمالات، أن السيدة النقيب وضعت في حسابها أن تجعلني جاسوسة أتنصت على السجينات، ربما تصرف لي مالًا مقابل ذلك، هذا أمر سيء يجعلني أحتقر نفسي؛
لكنه على ما يبدو، أسوأ من جريمة قتل ارتكبتها ساعة فقدت أعصابي أمام مشهد فظيع!
كلّ شيء جائز ما دمت في عالم غريب لا يغفل عنا بالمفاجآت.
وانتشلتني السجّانة من أفكاري وهي تطلّ من باب المطبخ لتقول:
ـ هل انتهيتِ؟ هيّا بنا.
ورحتُ أسير أمامها إلى العنبر.
***
ذكرى لعيبي