نصوص أدبية
يوسف أبو الفوز: نِساءٌ وَمَنادِيلُ
(... مثل الجفافي...)
تعلمت ان تروض نفسها. تحسب خطواتها المرتجفة، كلماتها المترددة، حركة شفتيها الجافتين، مكياجها الخفيف لاخفاء شحوب وجهها، لون الكحل تحت عيونها الوجلة، طريقة جلوسها الى الكرسي أيضا...
ـ ابنتي، عيون الناس لا ترحم وأنتِ ...
ما أن اجتازت باب القاعة الرئيسي، حتى هاجمتها وواجهتها الاضوية المشعة، اللافتات الملونة، البالونات في صدر القاعة مع باقات الورد البلاستيكي وابتسامات نساء ورجال التشريفات الذين صاحبوها خطوة خطوة وهي تتجه نحو مكانها في مقدمة الصفوف. شعرت أن ظهرها النحيل تخترقه عشرات الازواج من الأعين المتفحصة لكل شيء فيها وتتابع خطواتها. رجال ونساء مجهولين لها، لكنهم يعرفونها جيدا. بعضا منهم قابلته في مناسبات سابقة، ربما تحدثت معهم، ربما شدوا على اصابعها النحيفة المرتجفة، حدقوا في عينيها الذابلتين الوجلتين وسمعت كلماتهم المعادة التي يقولونها دائما بصوت خافت، بتلك النبرة التي صارت تؤلمها. تعرف ان كثيرين ربما حتى نسوا اسمها، وحتى ان عرفوه فهم يتجاهلونه، لم تعد بالنسبة لهم سوى:
ـ ارملة الشهيد!
طلقات كاتم الصوت الجبان، التي تسللت تحت الظلام في غفلة عن يقظة حبيبها الذي عرف بين اصحابه بأنتباهته وذكائه، رسمت مسار حياتها الجديد تحت عنوان في بدايته كان مبهرا ومشرفا، لكنه يوما بعد اخر صار ثقيلا جدا:
ـ أرملة الشهيد!
سنوات وهي تتحرك داخل هذا الأطار المعقد. في البدء كانت تتفاخر به كثيرا، لكن ما ان راح الاخرون يدفعونها اليه، مستغلين حبها ووفاءها لحبيبها، حتى صارت تضيق منهم. في كل مناسبة، في كل حدث يرن هاتفها المحمول الذي صار الجميع يعرفون رقمه:
ـ ...، ولأحياء هذه المناسبة قلنا ان من المفيد ان تشارك ارملة الشهيد لذا اتصلنا بك ونعتقد ان ...
صارت تعرف متى يستدعونها ومتى يتذكرونها. تعتقد انهم يضعون اسمها في نفس القائمة لتهيئة قماش اللافتات والبالونات والورد الاصطناعي. اذكياء في استغلال حبها ووفائها لحبيبها. تنتهي الاحتفالات الصاخبة ليعودوا الى زوجاتهم واطفالهم وصخبهم وتعود الى غرفتها حيث صورته المأطرة بالاسود لترى وجهه النحيل وعينيه الواسعتين تلومناها بأستمرار. حبيبها سبق الجميع في رؤياه لهذه الايام، وكأنه يستشف أيامها القادمة:
ـ لا أريد لنبرة الشفقة ان تحيط بك وبحياتك.
قالها وكانت قد مرت بضعة اسابيع على اغتيال أحد أصحابه المقربين. ظل لايام حزينا مهموما، يجلس الى النافذة القريبة يحدق الى الفضاء البعيد وعيناه تلمعان بالدمع. وقف عند باب الحمام بجسده النحيل، يفرك بالمنشفة شعر رأسه الكث، ثم فجأة ناداها بنبرات كانت تخشاها، اذ طالما ما سمعت منه أراء حازمة وواضحة يقولها بتلك النبرة التي تلازمه بعد تفكير عميق:
ـ حبيبيتي، اتعرفين بماذا كنت أفكر وانا تحت رشاش الماء؟
من أين لها ان تعرف أي رؤيا خطرت له هناك وهو يتطهر من غبار وتعب نهارات العمل المضني في المستشفى، وفي رأسه وروحه تتفاعل افكار حية واحلام نضرة لحياة جديدة للبلاد لما بعد سقوط صنم الديكتاتورية؟
ـ الظلاميون لن يتوقفوا عن محاولاتهم لقتلنا، فنحن من نقف بوجه مشاريعهم الظلامية، وأعرف ان اسمي، مثل كثيرين، على لائحتهم ...
وارتمت على صدره المبتل، فاحتواها بذراعيه الحانيتين والقويتين، ورفع باطراف اصابعه وجهها، لثم شفتها وواصل:
ـ لو ... اقول لو نجحوا ...
وغامت عيناها وشهقت:
ـ كيف لي بالحياة من دونك؟
ابعدها عنه قليلا، ولكنه لم يفلتها من بين ذراعيه:
ـ بالضبط هذا ما اريد قوله لك يا حبيبتي، علينا ان نقول لهم بشكل فعلي ان حياتنا لن تتوقف، وعليك ان تواصلي الحياة لا تجعليهم ينتصرون علينا بمفخخاتهم وبرصاصات غدرهم، فالحياة لا تتوقف عند موت رجل او امراة!
كيف لها ان تكون قوية مثله، وهو يحلم بالمستقبل البعيد؟
ـ نحن لا نعمل لحاضر قريب، نحن نعمل لمستقبل ربما لن نراه، لاجيال يجب ان لا تعاني مثلما عانت اجيالنا!
كيف لها، ان تخرج من إطار حبها له، وتتفهم حبه للناس والحياة:
ـ نذرنا نفسنا لفكرة سامية، وعلينا ان نكون مخلصين لسمو هذه المباديء وليس لذواتنا!
كيف لها ان تكون مثلما يريد حبيبها والاخرين يطوقونها بأسمه ويستفزون حبه لها ووفاءها له. لم تعد عندهم اكثر من كونها:
ـ ارملة الشهيد!
في الاحتفالات، المناسبات، المهرجانات والاجتماعات، لها كرسي محجوز دائما، في الصفوف الاولى، ما ان تصل حتى تسمع الهمس بنبرات خافتة:
ـ وصلت ارملة الشهيد!
ـ افسحوا الطريق لارملة الشهيد!
ـ هات نسخة من البرنامج لارملة الشهيد!
ـ ..... !
دائما هي هناك، في الصفوف الاولى، خافضة العينين، شاحبة الوجه، مكللة بالسواد، تتخاطفها عدسات المصورين، الى جانب القادة وجلاس الكراسي الامامية بربطات عنقهم البراقة وكروشهم المندلقة، صورها تظهر احيانا في الصحف وبخط عريض يكتبون تحتها:
ـ ارملة الشهيد!
اذ تمر بين صفوف الناس، ينحنى لها بعض الواقفين احتراما بصدق ومحبة، ترتفع الايدي تحييها، ابتسامات تفترش الوجوه، وتسمع الهمس والاعين تشير لها خفية:
ـ ارملة الشهيد!
امها وعمتها وزوجة خالها، وكأنهن متفقات:
ـ ابنتي، انت عاقلة وذكية، انت ارملة شهيد كان اسمه يهز جبال كردستان، انتبهي الى نفسك، عيون الناس لا ترحم، فأنتبهي الى ...!
صارت تخاف صوتها، صارت تخاف الوقوف الى المرآة لتتملى وجهها وجسدها الناحل، لم تعد تبال للتجاعيد التي صارت تظهر تحت عينيها، لم تقرب طلاء الاظافر من سنين، في خزانتها تتكدس ألبسة من لون واحد، ملابسها الداخلية وقمصانها وثيابها من لون واحد. الاسود ولا لون غيره. أختها التي تشابهها في القياسات ولم تتزوج بعد، لم تعد تشتري لنفسها اي ثياب بلون اسود، ففي خزانتها تجد كل ما تريده، فالاسود هو عالمها. اختفت الاغاني والموسيقى من سماء روحها، لم يبق سوى صدى لاغان سمعتها يوما وطربت لها، واهتزت لها شغاف قلبها ...
(ثاري البنات اشكال .... !)
هز منديله، ضرب الارض بقدمه فتطاير التراب فأشاح القريبين منه وجوههم واشرأبت برقبتها من خلف كتف اختها تنظر الى قامته الناحلة، وعينيه تلاحقانها وعيون امها تفيض بنظرة فرح غامضة. سنين طويلة، لم تقرب المذياع لترفع صوته بأغان طالما سمعتها واياه. كان يملأ لها حياتها، لم تستطع بعد غيابه ان تتصور انه يمكن لرجل غيره ان يملأ غيابه في حياتها. تقدم العديدين لخطبتها، اعتذرت للجميع. شعرت بالقرف من اللذين فهمت انهم يريدون الزواج من "ارملة الشهيد". لم تعد تعرف من عالم الرجال سوى التحايا والايماءات. يوم ان صافحهها أحدهم بحرارة، همست عمتها:
ـ لم اطلتِ الوقوف معه؟
ـ كان من اصحاب زوجي!
ـ لكن هذا الرجل بالذات يوجد عنه قصص كثيرة مع النساء و ...
ـ وهل تظنين يا عمتي أني سأكون في قائمة نسائه بمجرد ان رددت عليه تحيته وسألته عن زوجته واطفاله؟
صارت تخشى ان تصافح من لا تعرفهم، ترى في العيون مشاعر القلق والتضامن والشفقة، ويوم صافحها أحدهم وضغط باصابعه على باطن كفها ظلت لايام ترتجف. ماذا كان يريد منها؟ ماذا كان يقصد بتلك الاشارة؟ هل كان ذلك عفويا؟ ام انه كان متقصدا؟ وماذا كان يريد؟ لم تعد تعرف من عالم الرجال شيئا؟ بل وتكاد تنسى نفسها وجسدها. حين يقبلها اقاربها وناسها على وجنتيها او جبينها كانت تشعر بحمى تلتهب تحت جلدها. صار جلدها يتحسس لكل فعل خارجي. اختها انتبهت الى ان وقت اغتسالها واستحمامها صار قصيرا على غير عادة النساء. صارت تخشى الانفراد بجسدها الناحل. اذ تنام ليلا صارت تضع ذراعها تحت الوسادة. كان حبيبيها قد انتبه الى طريقتها في النوم وهي تضع كفيها بين ساقيها المضمومتين، فأبتسم مشاكسا بشكل فاجأها:
ـ اتحمين شيئا هناك؟
كان الرجل الاول في حياتها. من سبقوه لم تجعلهم يقتربون منها كثيرا لتعرف منهم شيئا من عالم الرجال كما تسمع من صاحباتها وقريباتها وقصصهن. ابن الجيران الذي لاحقها طويلا، اذ شعر بأنها تستهويه راح يقذف لها رسائل ملفوفة بحجر، واكتشفت انه يكتب لها كلمات اغاني من الافلام الهندية التي يدمن مشاهدتها، فكفت عن متابعته عبر الحائط المشترك بين بيتيهما. حبيبها كان اول رجل تلامس اصابعه جسدها تحت ثيابها. تزوجا عن اعجاب متبادل سرعان ما تحول الى حب متكافيء. سمعت عنه كثيرا من اقرباء لها، عن ايام وجوده في الجبل ومقارعته للنظام الديكتاتوري. ابوها كان يعتبره بطلا لا يتكرر:
ـ هذا رجل لا يوجد مثيل لشجاعته، يأخذ طعامه من فم الاسد!
يوم حضرت زواج بنت عمتها كان هناك. مر بقربهما حين قالت اختها بصوت سمعه:
ـ أهذا هو؟
والتفت والتقت عيناهما وأبتسم، فلم تستطع الا ان ترد بأبتسامه. لم يكن يكبرها كثيرا كما قالت عمتها. نحول جسده يجعله يبدو أصغر سنا. في الحفل تطايرت الاغاني والدبكات، لمحته كيف طرب كثيرا لاغنية صارت لاحقا تتردد كثيرا في بيتهما المشترك:
ـ (ثاري البنات اشكال مثل الجفافي
بيهن تخون بساع وبيهن توافي).
لوح بمنديله وهو يدبك، يبدو ان كونه طبيبا بين المقاتلين، لم يمنعه من تعلم الدبكة جيدا. قيل لها انه كان يحضر المعارك كطبيب وكمقاتل. وصفوه بالجرأة التي لمستها وهو يرمقها عدة مرات بنظرات متفحصة، فأصلحت من منديلها على كتفيها، لمحت امها وعمتها يتابعن نظراته اليها. بعد أيام جاءتها اخته واختلت بها طويلا وجعلتها تغط بالعرق وهي تسمعها كلامه. بعد اسبوع لم تتفاجأ حين اخبرتها امها بقدوم بعض وجهاء المدينة لخطبتها له. ليلة الزفاف لم يقربها وتركها يومين ترتب قلقها. كان يقدر خجلها وارتباكها، وحين انتهى كل شيء، وهي تشهق كأنها تغوص في ماء عميق، أطلق ضحكة مجلجلة:
ـ (ثاري البنات أشكال..!)
كل هذا صار حلما. حلما مرّ وانتهى وصار بعيدا. تشعر احيانا بنظرات شبقة تتطاير من أعين رجال يصادفونها، فترثي لهم ولحالها. لم تستطع ان تكون وفية لوصية حبيبها، ان تواصل حياتها مثلما كان يريد، ان تعشق من جديد وتحب من جديد وان ترقص وتغني وتشهق وتغرق في مياه عميقة مع رجل غيره. حياتها توقفت حالما انطلقت رصاصات الغدر التي سلبت منها كل ملابسها ومناديلها الملونة والمزخرفة، طلاء اظافرها، ملابسها الداخلية الملونة، ثيابها القصيرة وتنانيرها المزخرفة بالدانتيلا، اغانيها والاشعار وطعم القبل وسر الشهيق.
يوما، وجدت نفسها لوحدها امام خزانة ملابس اختها فأرتدت دون وعي منها وعلى عجل أحد فساتين أختها الملونة. في المرآة اكتشفت نحول جسدها، تهدل نهديها، وتغضن جلدها. واجهتها أمراة ثانية لا تشبهها، لا تعرفها، امراة صارت تختفي خلف اسم اخر، جمالها بارع، لكنه خاص جدا، أمراة رقص قلبها يوما على ايقاع اغنية بعيدة ...
ــ (ثاري البنات اشكال مثل الجفافي!)
***
قصة قصيرة
يوسف أبو الفوز - هلسنكي
31 آب 2012