نصوص أدبية
ناجي ظاهر: الغضنفر الرهيب
القبو يغرق ما بين العتمة والضوء، رائحة الموت تنبعث من كلّ الانحاء، جسد الغضنفر مُسجّى على سرير، في إحدى الزوايا يسترخي بيانو قديم يعلوه غبار الزمن. الحيرة تفترش وجهي أخويه. رجل يرتدي الاسود يدخل الغرفة. يرسل نظرة إلى الجسد المسجّى، تظهر على وجهه قسمات الرهبة. حتى وهو على فراشه الاخير مُرعب. طوال حياته القصيرة، (أربعون عامًا)، دبّ الفزع في كلّ مكان حلّ فيه، هابطًا من سمائه الرهيبة، نشر رائحة الموت في كلّ مكان سار فيه أو توقّف، وها هو بعد مصرعه يدُبّ الرهبة في الغرفة.
الصمت يُهيمن على أجواء الغرفة، لا يشق سديمه إلا رجل آخر يدخل الغرفة مرتديًا الاسود، يقترب من الجسد المُرعب، هذه هي نهاية كلّ كائن، لا فرق بين موت أسد الغابة وقطّ البيت، كل منهما يموت نفس الميتة، كان الغضنفر رجلًا مهابًا، لا أحد يمكنه أن يرفع رأسه فيه. لم يكن يعدّ للعشرة، ما إن كان أحد يتسبّب له بأية مضايقة، قد تتسبّب بتعطل أي من أعماله، حتى يجد نهايته بانتظاره، لا يعرف كيف تأتي تلك النهاية المُهلكة، ولا بأية طريقة، حينًا تأتي عن طريق حادث طرق مؤسف، لا يعرف أحد مَن يقف وراءه إلا إذا رؤي الغضنفر يمشي في جنازته، وحينًا آخر قد يسقط معترض طريقه.. من أعلى بناية في المنطقة، قضاءً وقدرًا، وفي أحيان أخرى قد تختفي آثاره نهائيًا، تبتلعه جهنم في أتونها، بعدها لا أحد يعثر له على أثر، ويتقبّل أهله اختفاءه، متوكلين بإعالة من خلّفهم من ابناء وبنات وزوجة ثاكلة، بانتظار عودته العبثية. بعد أن حقق الغضنفر كلّ ما أراده ورجاه وحالفه التوفيق، فأضحي واحدًا مِن أثرياء المنطقة، عاد إليه حُلمُه القديم حُلم الطفولة في أن يكون عازفًا فنانًا وموسيقار يُبدع وينتج ما يخلُب الآذان ويسحر الالباب، فلجأ إلى طريقة أخرى غير تلك التي اتبعها مع أعدائه واخصامه ومعترضي طريقه نحو قمتها المنشودة المستقرة. تمثّلت تلك الطريقة في أنه بات يلي كلّ فشل له في تعلُّم الموسيقى، تفتقد الحياة الموسيقية في البلدة واحدًا من أعلامها، أما الطريقة فقد تمثّلت في أنه كان يدعو مَن يقع عليه الاختيار، فيقدّم له مسدسًا ذا باغة تتّسع لسبع رصاصات، إلا أنها لا تتضمن إلا رصاصة حيّة واحدة، والموسيقار المسكين، يصوّب مُرغَمًا نحو رأسه ويضغط على زناد المسدس، مرةً، فيما يضغط الغضنفر على الزناد في المرة التالية، ومَن تكون الرصاصة الحيّة مِن نصيبه، يكون الموت بانتظاره، حتى ما قبل أشهر، قال الرجل ذو الملابس السوداء لنفسه، قُتل في حضرة الغضنفر اثنان مِن خيرة موسيقيّي البلدة، أما أمس فقد قَتلت الرصاصة الروليتية الطائشة الغضنفر ذاته، ليأتي مَن يعود به إلى ذلك القبو وليُسجّى في وسطه بانتظار امحائه من دفتر الوجود واختفائه الابديّ، بحضور أخويه وقلة من مرتدي البدلات السوداء. أمّا ذلك الموسيقار الناجي من الموت المُحتّم، فقد وضع رأسه بين يديه بانتظار ما قد يوقعه أخوا الغضنفر وأقرانهما من الرجال السود به من عقاب.
مرتدي الاسود الثاني هذا، يبتعد عن الجسد المسجّى، متوقّفًا عمّا مرّ في خلده من صور وأخيلة عن اللحظات الاخيرة في حياة الغضنفر، يبتعد مُخليًا مكانه قرب الجسد لآخر يرتدي الاسود، هذه هي النهاية إذًا، يرسل نظرة إلى الجسد المرعب، يقول له بصوت خفيض، يحرص على ألا يسمعه أحد خارج الغرفة، ذلك الموسيقار المسكين، حائر فيما يمكنه أن يفعل، كان غارقًا في بحر من الرهبة. منذ تلك اللحظة لم يرفع رأسه من بين يديه ويتوقّع في كلّ لحظة أن تنتهي حياته وأحلامه، في الابداع والمجد، وتوجّه إلى الجميع في مقدمتهم أخوا الغضنفر، حمّلني المسكين رسالة حافلة بالرجاء، كلّ ما يريده هو أن يشارك في التشييع، وأن يتمكّن من رؤية وجه الغضنفر قبل تغييبه الثرى... قلب المسكين ملئ بالرحمة والموسيقى.
يرسل كلّ مَن في الغرفة نظرة حائرة إلى الآخر، الظلام يغشى العيون، يتقدّمون نحو الجسد الممدّد أمامهم، في محاولة لمعرفة رأيه، حتى في غيابه له حضور، يمعنون النظر لحظات طويلة كأنها دهر، الجسد يغرق في بحر غيابه وفنائه، يعود كلّ مِن المحيطين به لتبادل النظرات والتشاور بواسطتها. تسود الاجواء نظرات تقبل، الاخ الاكبر يهز رأسه بإمكانه (الموسيقار)، المجيء، والمشاركة في تشييع الجثمان. كان من الممكن أن يكون هو المقتول. كتب الله له عمرًا جديدًا، فهل نحرمه نحن إياه. رحم الله الغضنفر.. علينا أن نتقبّل النهاية.. مهما كانت صعبة وقاسية.
أصحاب القبو وأهله، وبينهم الجسد السجّى على سريره، يستقبلون بعد أقل من ساعة موسيقار الليلة الاخيرة في حياة غضنفرهم، عظّم اللهُ ساعةَ الفراق، يدخل الموسيقار الغرفة، مرتديًا الاسود، يُدني وجهه من وجه الغضنفر، تمرّ بخاطره اللحظات المُرعبة الاخيرة في هذه الليلة المُظلمة الظالمة، إنه لا يعرف ماذا يفعل، كان بالإمكان أن يكون هو المُسجّى في غرفة أخرى ومكان آخر، إلا أن الله ستر. رَحمهُ الله كان يُحبّ الموسيقى، أراد طوال حياته أن يكون موسيقيًا.. حُلم الغضنفر دمّره، ودمّر كلّ ما حوله، لو وجد اليد الحانية ما فعل كلّ ما فعل، وما وقعت حوادث سير قاتلة ولا.. وقع أناس من أعاليهم المرعبة الرهيبة، بل ما غيّبت نار الحياة أناسًا أبرياء أوقعتهم حظوظهم ومصائرهم في بوتقته الملتهبة.
الصمّت يرين على الوجوه مجدّدًا. الموسيقار الضيف يشعر بأصداء موسيقية تأتي من بعيد، تمتلئ أذناه بالانغام والالحان، إنها تحمل نكهة الرحيل والنهاية، يتوجّه نحو البيانو المُسجّى هناك في إحدى زوايا الغرفة، متخطّيًا الجميع يتوقّف قريبًا منه مثل غضنفر حنون، يتّخذ مَجلسه لصقه، يمُدّ يده الاولى، يُمرّرُها على عدد من مفاتيحه، يرسل البيانو أنغامًا جنائزية، تتوقّف يد الموسيقار لحظة خاطفة لتمتد يدُه الأخرى كأنما هي تودّ مساعدتها، تمتدُّ اليدان معًا وفي آنٍ واحد. تنطلق الأنغام ما بين الرهبة القاتلة والفرح الحيّ، تهتز الغُرفة، يهتزّ وجه الغضنفر، لأول مرة يهتز، ولآخر مرة للأسف. لقد أغلقت الصفحة الاخيرة في كتاب حياته، شعور غامض يخيّم على وجوه مرتدي البدلات السوداء، "لو انطلقت هذه الالحان والانغام في بداية حياته لما كانت هذه نهايته"، توحي الوجوه دون أن تنطق، ويندفع الجميع في إتمام الترتيبات الجنائزية، لقد تأكدوا أن الغضنفر الرهيب لم يعد هنا بينهم، وأنه غادرهم تاركًا لهم حُلمًا رائعًا.. عليهم مواصلته حتى ذراه العالية المرتفعة.
بعد إتمام مراسيم الدفن، في الليلة ذاتها، وليس في ضحى اليوم التالي.. كما كان مُرتبًا، نفض كلٌّ مِن المشيّعين غُبار المقبرة عن قدميه، مبتعدًا عنها، ومقتربًا من الحياة وموسيقاها الملازمة الابدية. تلك كانت اللحظة الاصعب في حياة الغضنفر الرهيب.. في حياة الموسيقار المبدع، وفي حياتيّ أخويه وأصدقائهما مِن أصحاب البدلات السوداء.. فقد راح كلٌّ منهم يبحث عن بداية جديدة بعيدة عن سابقتها.. ماضين في طريق الحياة ومسالكِها الخلّابة الغامضة.. الحافلة بالألغاز.. والاسرار أيضًا.
***
قصة: ناجي ظاهر