نصوص أدبية
سنية عبد عون: حدثني أديم الأرض..
رفقا بهم ايتها الحسرات
حروب قد ولىّ أوارها
وغصاتها ما زالت
بين ضلوع الأمس
يتأخر خزعل عن موعد التعداد الصباحي خلال حرب طال أمدها فيعاقبه نائب الضابط ولكن بعد عودة الجنود الى ثكناتهم يتذكر هو شتائم نائب الضابط الخادشة لروحة فقد نعته بأبشع الألقاب شعر بداخله ان عليه ان يضع حدا لهذا الوضع السيء.
فلماذا عليه ان يتقبّل هذه الاهانة ولماذا أضمر غضبه وحنقه في قلبه، وهنا هاجت روحه المشحونة بغضب مكبوت وهو الشاب القادم من أعماق الريف.
لم يسمع هنا سوى كلماتهم الجارحة لكرامته، شتائمهم ليست من ضمن قاموسه.
وحين هاجت روحه لم يجد أمامه سوى زجاج النوافذ ليحطمها بضربات متتالية وان ادى ذلك لجروح في كلتا يديه لتتوزع قطرات دمه في أرجاء القاعة دون ان يشعر بذلك الوجع.
ومع دهشتهم لكنهم حاولوا ان يمسكوا بجسده الهائج والمتوثب لضرب كل من يقف حائلا بينه وبين زجاج النوافذ وبعد محاولات عديدة منهم جعلوه يخلد للهدوء والسكينة وبدأ يستعيد وعيه وبنبرة العتاب بادر أصحابه برمي اللوم عليه واستهجان فعلته، قال أحدهم: الا تدري انك ستعرضنا للريح والبرد القارص وخصوصا في وقت الليل، نحن من يتضرر وليس نائب الضابط عندها ندم وبكي بحرقة شديدة ظاهرا أسفه ثم قال:ـ انهم جعلوني أفقد عقلي.
والله والله (مو بالقسطني) وأخذ يكررها عدة مرات وكأنه لا يعرف كلمات اعتذار سواها بادروا بنصحه ان لا يكررها مرة أخرى لان نائب الضابط قد سامحه هذه المرة من أجلهم حين أخبروه ان خزعل لأول مرة يجرب حياة العسكرية
اما ان فعلتها مرة أخرى فعليه ان يقدمك مذنبا أمام آمر الوحدة وهو الذي عرف عنه بانه يمتلك قلبا قاسيا ولسانا سليطا فأقل عقوبة لدية هو حرمانك من اجازتك الدورية مع رميك بالسجن لعدة أيام.
وها نحن نحاول ان نلفت انتباهك لهذه الأمور والتي عليك ان تتحاشاها في هذا المعسكر.
ثم سأله أحدهم: هل استوعبت ذلك.؟، يومئ خزعل برأسه علامة التفهم والخجل.
شعر بالندم أمام الجنود الذين شاركوه قصعة الغداء وبدا أسفه وعدم تكرار ما فعله في قادم الأيام.
بعد عدة أيام وحين كان واقفا في طابور التعداد الصباحي أنتبه له بقية الجنود ان ملابسه متهدله وحضر التعداد الصباحي بنعله الإسفنجي الا انهم تغاضوا عنه فلعل لم ينتبه نائب الضابط الذي لا يطيق خزعل واعذاره.
لكن نائب العريف الذي عرف عنه بحقده على كافة الجنود لم يسكت فصاح غاضبا بصوته ذي الحشرجة التي يمقتها جميع الجنود: أخرج يا غبي يا من اسمك خزعل أخرج من الطابور، ولكن في تلك الأثناء بعث آمر الوحدة طالبا نائب الضابط فخرج مسرعا لتلبية هذا النداء دون ان ينتبه للموقف.
فتعرض خزعل للإهانة والشتم بأقذع الكلمات السوقية من قبل نائب العريف ذي الصوت القبيح فما كان من خزعل وبعد عودتهم الى قاعة الاستراحة الا ان يهجم مرة أخرى وبنفس الطريقة على زجاج النوافذ وكأنه ثور هائج لا يردعه أضخم الرجال وهكذا تكررت المسألة جروح ونزف من كلتا يديه وصراخ وبكاء شديد ويكيل اللعنات الى كل من يحاول ان يقترب منه.
بادر الجنود جميعهم الى شتم نائب العريف أمامه ورموا كل اللوم على نائب العريف ذي الصوت القبيح وبالمقابل نعتوا خزعل بأجمل الصفات وانه الشجاع الوحيد بينهم فهدأ روعه وسكنت روحه، ثم جلس على الأرض وهو يردد كلمة مع الأسف
سأله الجميع بعد ان هدأ لماذا فعلتها مرة أخرى.؟؟
ومن حسن حظك ان نائب الضابط لم يكن موجودا.
أعتذر منهم وهو يقول والله (مو بالقسطني) فضحك الجنود جميعهم لأنهم يعرفون هذ اللازمة وقد حفظوها جيدا.
لم يخرج خزعل لساحة التعداد الصباحي في اليوم التالي مدعيا أنه لم ينم خلال الليل دون ان يطلب اجازة من أحدهم. فتعرض للشتم والركل من قبل نائب العريف ذي الصوت القبيح ثم أخذه الى غرفة نائب الضابط الذي بدوره اسمعه ابشع الكلمات لكنه قرر أخيرا ان يقدمه مذنبا الى آمر الوحدة.
ضرب نائب الضابط الأرض بكل قوته رافعا يده اليمنى بمحاذاة أذنه ليؤدي تحيته لآمر الوحدة ثم أردف قائلا:
سيدي لقد بلغت وقاحة الجندي المكلف خزعل ان يحطم زجاج النوافذ في الغرف والقاعة دون ذرة خجل أو رادع.. وكذلك بلغ استهتاره ان يقف في طابور التعداد الصباحي بنعله الإسفنجي (أجلكم الله) ثم تغيب عن التعداد في اليوم التالي
آمر الوحدة: دعه يدخل.
دخل خزعل وقدم تحيته بإشارة من يده اليمنى دون اكتراث للطريقة العسكرية النظامية وأمتثل أمام آمر الوحدة وقد طأطأ رأسه وبدا مخذولا ومغلوبا على أمره وهو ينظر نحو الأرض.
وجه له آمر الوحدة كلاما قاسيا ونعته بالمجنون ثم سأله
لماذا تفعل ذلك، أجابه والله يا سيدي (مو بالقسطني)
الآمر: اتمنى ان أعرف ماذا تعني هذه الكلمة يا حيوان وبماذا تفيدنا ؟؟؟ الحل الوحيد أزاء تصرفاتك الرعناء اني أرميك بين جدران السجن ثم صرخ بعصبية خذوه من أمامي هذا الكلب.
هاجت روح خزعل واحمرت عيناه وانتفخت أوداجه وهو يصرخ بكلمات غير مفهومة وشعر برعشة تسري في جسده ودون وعيه سال دم يديه بغزارة وهو يحطم زجاج نافذة غرفة الآمر بضربات عديدة ولم يتمكن أي منهم ان يتقدم نحوه، فهو يحمل كسرة زجاجة حادة أطرافها مهددا كل من يتقدم نحوه.
عندها أيقن آمر الوحدة أنه أصبح خطرا عليهم مما اضطره الى مسايرته وتهدئة روعه ثم قام الآمر من كرسيه وأخذ يشتم نائب العريف ونائب الضابط أمامه طالبا منه ان يرمي كسرة الزجاجة بأسلوب أبوي رقيق ثم مسك يده وامر نائب العريف بإحضار الضماد المناسب له.
وأخيرا سأله: ما بك يا ولدي؟
فبكى خزعل بحرقة وقدم اعتذاره للآمر وهو يقول والله يا سيدي
(مو بالقسطني)...!!!
***
قصة قصيرة
سنية عبد عون رشو
......................
(مو بالقسطني)...كلمة باللهجة الريفية العراقية تعني غير متعمد