نصوص أدبية

جمال العتابي: رُفعَت الجلسة!

كان الصباح شاحباً، والسماء تلبس لون الرماد، تجمّع عدد من الأمهات والآباء، مع الأشقاء، والزوجات والأطفال، كنت من بينهم، الجميع ينتظرون سيارة السجن التي تنقل المعتقلين، إلى المجلس العرفي، كان أحدهم أبي، وجوههم مشدودة، عيونهم تتطلع إلى اللحظة التي ينزل فيها المتهمون من السيارة نحو قاعة المجلس، " كاكا درويش" الوحيد الذي أُقتيد من بينهم نحو قاعة المحاكمة في معسكر في قلب المدينة، كان مركزاً لتدريب الجنود ومقراً للمجلس العرفي الذي تتشكل هيأته القضائية من ضباط برتب مختلفة، رئيسها برتبة عقيد، انسجاماً مع طبيعة النظام الذي يقوده ضابط عسكري أيضاً.

دُفعَت الأبواب الثقيلة لقاعة المحاكمة، فارتجّ صدى الحديد على الجدران الحجرية، دخل درويش، مكبّل اليدين لكنه منتصب القامة، بخطوات ثابتة كأنه يدخل قاعة للمؤتمرات. لم يلق نظره على أحد، حتى أفراد عائلته الذين انتظروا موعد يوم محاكمته، لم يلتفت لوجودهم، عيناه صوب القفص الحديدي، ثم إلى هيأة المجلس.

كان الصمت كثيفاً، حتى أن أنفاس الحضور على قلّتهم كانت مسموعة كصفير خافت، لا يسمح لأهالي المتهمين بالدخول باستثناء المحامين، ورجال الأمن، والآخرون ينتظرون خلف الجدران!

قاعة المحكمة فسيحة، جدرانها عالية، تتدلى من وسطها ثريا قديمة، مطفأة، علا زجاجها التراب. المقاعد الخشبية تصدر أزيزاً خفيفاً عند كل حركة، خلف المنصّة جلس العقيد رئيس المجلس، بوجه أحمر جامد، يقطر جبينه وقاراً زائفاً. على يمينه ويساره عضوا المحكمة، مختلفان في الرتب، ومتشابهان في حجم كرشيهما، وملامح وجهيهما القاسية. بينما كان المقدّم المدعي العام أشبه براقص يتمايل في عرض مسرحي، يوزع الاتهامات المجانية، منحازاً ضد المتهم.

بدأت الجلسة بصمت مطبق بددته أسئلة العقيد عن اسم المتهم وعمله ومحل سكناه، ثم وجّه اتهامه لدرويش:

ـ أنت متّهم برفع السلاح ضد الحكومة مع (عصابات) تتحصن في الجبال. ما أقوالك؟

رفع درويش رأسه بثبات، صوته قوي وواضح:

ـ هذا اتهام باطل وافتراء، الصحيح، نحن الذين لنا الحق في توجيه الاتهام للنظام الذي يمارس سياسة القمع ضد القوميات والأقليات، وأضاع ثروة البلاد في حروب لا معنى لها، نعم أنا ضد الديكتاتوريات وحكومة الاستبداد.

همهمة خافتة تتصاعد في القاعة، أحياناً تتحول إلى ضجيج، رجال الأمن يتحركون،

العقيد يصرخ بأمر التهدئة ويطرق على الخشب:

اسكت! هذه محكمة وليست منبراً سياسياً. أنت وقح تجاوزت حدودك. ثم يأمر بإخراجه، لكنه استدرك وأعاده إلى القفص بعد أن هدأ الهرج. ثم نادى على أول شاهد، رجل خمسيني بوجه متردد، يرتدي بدلة رمادية، عيناه كانتا تفضح قلقه. ثم نادى على الثاني، كان أشد وقاحة من الأول، شاب مشحون وعيون مراوغة. ثم نودي على محامي الدفاع المنسّب من المجلس، رجل أشيب ببدلة فاخرة، وربطة عنق مبالغ فيها. حال شروعه بقراءة لائحة الدفاع عن المتهم:

ـ درويش بصوت مرتفع.. أنت لا تمثلني، لم أطلب أحداً ليدافع عني، أنت جزء من المسرحية!

صدور القرار:

سحب العقيد ورقة مطبوعة معدّة سلفاً، من ملف أمامه على المنصة، لم ينظر فيها، بل قرأها كما لو أنها محفوظة منذ زمن: قررت المحكمة الحكم على المدان درويش بالإعدام شنقاً. رفعت الجلسة!

سكون عميق ثم تصفيق خفيف من رجال الأمن.

في لحظة صاعقة، وقف درويش في مكانه، ثم صاح بصوت اهتزت له جدران القاعة:

ـ لا.. لم ترفع الجلسة، ما زالت مستمرة!

ران ذهول عميق.. اتجهت العيون كأسهمٍ مشرعة نحو درويش صاحب الصوت، امتصت القاعة، والجدران، والهواء، لحظات الذهول...كأنما رفع عنهم مفعول سحر مفاجئ أغلق أفواههم.. فترة من الوقت، ثم عاد الصوت من جديد:

ـ عليك أيها العقيد أن تستقبل قراري الفوري.. سأنفّذه الآن:

حَكَمتُكَ أنا، بخُفين من نعليّ يصفعان وجهك القبيح، تذكّر دائماً أن فلاحاً من قرى الشمال نسجهما بإحكام. انحنى درويش نحو قدميه وسحب نعليه بسرعة خاطفة، ثم صرخ: خذ الأول، هذا للأحكام الجائرة، ورمى بنعله نحو منصة العقيد، وسط ذهول الجميع.

وخذ الثاني! هذا لعدالة تشترى وتباع!

سقط النعلان على المنصة، ارتجّ جسد العقيد، تراجع إلى الخلف، بينما انسحب العضوان بسرعة نحو الغرف الخلفية. تحرّك الحرّاس بسرعة خاطفة نحو المتهم، طرحوه أرضاً في ثوان، أوثقوا ذراعيه خلف ظهره وهو يصرخ، ويشتم، ويبصق في وجوه الهيأة. كاد صوته يمزّق جدران القاعة، وعيون الناس تتسع، بعضها متعاطفة وأخرى خائفة. آخرون تبادلوا نظرات حائرة. حركة الحرّاس كانت عنيفة، اندفع أربعة منهم باتجاهه دفعة واحدة فأحكموا إغلاق فمه بشريط لاصق، صوته محبوس، لكن عينيه كانت أبلغ من كل صراخ.

نودي على متهم آخر بينما كان العقيد يحاول أن يستعيد توازنه في غرفة المداولة، كأنّ يداً غير مرئية تسحبه للاستسلام إلى النوم، مرّت دقائق أغمض فيها عينيه:

كانت القاعة مكتظة بالحضور، لم يكونوا بشراً، بل أشباح رمادية بعيون مفتوحة على اتساعها، لا رموش لها، صمت ثقيل... يقف درويش في القفص من جديد، خلفه طوابير من الوجوه المحكومة ظلماً. يسمع العقيد طرقاً قوياً على باب القاعة، لا أحد يفتح الأنوار، فتشتعل وحدها. لا يجرؤ النظر في أعين المتهمين، كان وحيداً، لا موظفين، لاحرّاس، جلس على كرسيه، لم يعثر على شيء سوى نعلين استقرّا باطمئنان على سطح المنصة. وملف مغلق مختوم بشمع أسود، على غلافه كتب بخط مرتعش، "ملف قضية درويش لم يغلق بعد".

استيقظ العقيد فزعاً، وجهه يتصبب عرقاً، صدى المطارق يضرب قلبه، عيناه تغوران وصوته يخفت، حاول الصراخ لكن صوته اختنق.

كان أبيّ  مكبّل اليدين، يلتفت نحوي، تلك اللحظة ظلت محفورة في ذاكرتي مثل جرح لا يندمل..كأن العالم كله توقف هناك..بين نعلين على منصّة (الرئيس)، ويدين موثوقتين لرجل يحلم بالحرية.

***

جمال العتّابي

في نصوص اليوم