نصوص أدبية
ناجي ظاهر: كنفوشة
وضعت أمي صحن فتة الشاي على المنضدة أمامي:
- كل. رجتني قائلة.
- بديش اوكل. أجبتها بحرد، هي تعرفه عني أكثر من أي إنسان آخر في الوجود.
- ليش بدكاش توكل..؟ عادت تسأل.
- لأنها الكنفوشة ـأكلت مبارح من هذا الصحن. عدت أرد عليها.
تناولت أمي الصحن من ـأمامي، وتوجّهت به إلى مطبخ بيتنا ذي الباب المخلوع، وعادت بعد قليل لتضع صحن فتة جديدًا وهي تقول لي:
- هذا صحن جديد.
ووضعت ملعقة من النحاس إلى جانب صحن فتة الشاي. شكل الملعقة حملني إلى أمس عندما وضعت أمي صحن المجدرة أمام كنفوشة وأمها، انتابتني حالة من الاشمئزاز وأنا أتصوّر كنفوشة تملأ تلك الملعقة بالمجدرة وتدخلها إلى فمها معيدة إياها بعد لمحة قصيرة لتعاود ملأها من الصحن. لاحظت أمي ما أدخلت نفسي فيه، فعادت تقول.
- كل هذه ملعقة نظيفة.
لم أستجب لأمي ولم آكل، فقد تصوّرت أنني إذا ما أكلت من صحن الكنفوشة أو ملعقتها، فإنني سأصبح كنفوشًا مثلها. ورحت أتصوّر الكنفوش يمشي بصحبة تلك الكنفوشة، وأنهما يتوهان في الغابة، فيضطر للبقاء معها وإلى جانبها، وعندما يجوع يأكل معها من صحن واحد، فشعرت بمزيد من الاشمئزاز. وانطلقت باتجاه بوّابة الدار في محاولة منّي للمغادرة إلى الحارة. قبل خروجي من بوّابة الدار، دفعتني كنفوشة إلى الداخل وهي تقول لي:
- وين رايح فوت.. أنا جاية العب معك.
كانت كنفوشة في الثامنة، أكبر منّي بثلاث سنوات، وكانت تأتي إلى بيتنا المستأجر، في حي السوق بصحبة أمها، فتجلس أمها بالقرب من أمي وتأخذ الاثنتان في التحدّث وشرب القهوة معًا.. وكثيرًا ما كانت لبيبة، أو كنفوشة، تطلب منّي أن العب معها، فكنت أرفض، الغريب أنها كانت كلّما رفضت أن العب معها، تزاد رغبتها في اللعب معي. تهرّبت من كنفوشة وخرجت إلى الحارة، ناديت على توفيق ابن الجيران، لم يرد، حاولت أن العب وحدي، لم أتمكن. أحاطني الملل من كل جانب، فاضطررت أن أعود إلى الدار. في باحة الدار الصغيرة تصنّعت اللعب، وأنا أعرف أن كنفوشة ستأتي إلي وسوف تطلب منّي أن العب معها. وحدث ما توقعته. وجاءني صوتها من ورائي:
- تعال نلعب سوا.
أرسلت نظرة مشمئزة نحوها:
- شو بدك نلعب؟
ابتسمت كنفوشة:
- بيت بيوت.
وأردفت في محاولة لإقناعي: لعبة حلوة كثير. مبارح في نص الليل شفت أمي وأبوي بلعبوها.
تصوّرت نفسي رجلًا ذا شارب مثل أبي.. ينهى ويأمر، فأعجبتني الصوّرة. قلت لها:
- بلعب معك بس على شرط إنك متقرّبيش مني.
وافقت كنفوشة دون أن تفكّر على ما بدا. وابتدأنا اللعب. أقمنا بيتًا صغيرًا في إحدى زوايا باحة البيت.. أدخلنا إليها ما تحتاج إليه غرفة النوم، وابتدأنا اللعب. اتخذت هيئة رجل عائد من العمل إلى بيته، فيما اتخذت كنفوشة هيئة زوجة تستقبل زوجها العائد من العمل.. ورفعنا الستار.
أنا: وين انت يا كنفوشة؟
كنفوشة: هاي أنا هون يا زلمة. فوت.. فوت.. الله يعطيك العافية.
أنا: الله يعافيك.. شو طبختيلنا اليوم؟
تضع كنفوشة أمامي صحنًا فارغًا: كُلّ يا زلمة بالهنا والشفا. طبختلك ملوخية اليوم.
أمد يدي إلى الصحن، أقبِل على صحن الملوخية إقبال الرجل الجائع، أنا جوعان كثير.. الله ما أطيب اكلك. آه هيك لازم يكون الأكل.. تسلم إيديك.
- الله يسلمك حبيبي.
تلك كانت أول مرة تقول لي فيها امرأة "حبيبي"، نسيت نفسي ونسيت اشمئزازي من كنفوشة، بل نسيت أنني لا أريد أن أشبهها، واندمجت بالدور. نظرت زوجتي كنفوشة. تمعنت في وجهها، كانت جميلة، أجمل ممّا خطر في بالي، ها أنذا أراها أول مرة في حياتي كما هي في الواقع وليس كما يبشّعها لي الخيال. اقتربت منها حدّ الالتصاق، فاحتضنتني:
- انت بتعرفش قديش اشتقتلك يا زلمة.
- وأنا كمان اشتقتلك..
اندمجنا بالدور. مرّت اللحظات خفيفة لطيفة. شعورٌ طاغٍ جذبني إلى كنفوشة. في المساء كان لا بدّ للعبة من أن تنتهي. انتهت اللعبة ليبدأ يوم آخر ولنستأنفها معًا. لقد بنينا حياتنا معًا.. ولا بدّ من المواصلة... رحلة الحياة مع كنفوشة كانت الأجمل في الحياة.. فقد كانت أول من أدخل الفرحة الحقيقية إلى قلبي وروحي.. عندما قالت لي: الله يسلمك حبيبي.
***
قصة: ناجي ظاهر