نصوص أدبية

جودت العاني: الصدفة وكاتدرائية (Jeronims)..!!

عند المنحدر في متنزه تحيطه الأشجار الممتدة حيث الفناء الخلفي لبركة تتدفق منها المياه وتسبح فيها الطيور، كانا يسيران على مهل ويتحدثان، وبين آونة وأخرى، تتشابك ايديهما ويتابعان سيرهما، وورائهما صغيرهما يداعب كلبه فوق العشب الأخضر الذي تزينه أزهار شقائق النعمان البرية، التي ظلت على حالها دون ان ينال منها احد.

كان يسأل نفسه بعض الأسئلة البليدة، كما اعتقد أول الأمر.. كيف اجتمع هذان المخلوقان الجميلان، وأي صدفة جمعتهما معاً ؟، وتوقف عند كلمة الصدفة؟ وكيف تحدث، ولماذا تحدث.. وهل تحدث تلقائياً ؟ وهل تأتي في شكل إقرار لكي تتشكل الأشياء عند حركتها، بغض النظر عن ملابسات الصدفة، وهي ملابسات ذات طابع عرضي واحتمالي.

فكر، ووجد نفسه لا يدري كيف له ان يصف ذلك، وربما لا يحتاج كل ذلك الى كبيرعناء.. فالصدفة يمكن ان لا تتحقق اذا لم تتوافق عناصرها.. وان وجود احدهما صدفة قد يلغى بمجرد وجود صدفة لا تتقاطع معها.. فهل ان وجود هذا الكائن في توافق او عدمه عن طريق الصدفة؟، أي ان وجوده كان طارئاً وزائداً واضافياً وغير ضروري في العالم.. فماذا بشأن الأنسان هذا، فهو يشعر ويتحسس بأنه كائن قد قذفته الصدفة الى الوجود دونما وجهة محددة عدا تلك التي يختارها لنفسه بمحض ارادته.. أجل ان ذلك الشيء يجعله في مواجهة الحرية ويمنحه رؤية خاصة للأختيار.

مشى خطوتان واخرى ثم توقف عند حاجز من الآس، وكان الطفل ما يزال يداعب كلبه وصوت والدته يتنائى من بعيد.. انه الآخر جاء نتيجة الصدفة التي قذفت به الى الخارج وليس لديه اي خيار في ذلك.. ولو لم يكن لقاؤهما صدفة او ان صدفة عارضة قد تدخلت وألغت تلك الصدفة من ان تتشكل لما كان هذا الوجود الفعلي للطفل، ولما كانت تلك الصدفة الرائعة التي تجمع الطفل مع كلبه في مداعبات لآحدود لها.!!

الانسان كائن محكوم عليه بالقلق لمجرد شروعه في تأمل حقيقة وجوده أو إشكالية هذا الوجود كحقيقة انتولوجية (Ontology)، وهذا الشيء يمنعه من ان يعيش وجوده بهدوء، ويخلق بينه وبين نفسه مسافة تجسد ما يمكن ان نسميه حرية الضمير، غير ان الحقيقة لا تتوقف هنا، فالمشكلة هي ان هذه الحرية صعبة، لأنها تلقي على كاهل الانسان من دون غيره من المخلوقات مسؤولية ضخمة يستحيل عليه الفرار منها، إلا إذا حاول ان يكذب على ذاته وعلى الآخرين.. بيد أن هذه الحرية تسمح كذلك باتاحة الفرصة امام إبراز مظاهر عظمة الانسان حين يتحمل مسؤولية الحرية في مواجهة كل الحتميات التي تحيطه، والتي ينبع بعضها من داخله، مثلما هو الأمر مع اللآشعور.

غابا عن الأنظار مع طفلهما والكلب ولم يتركا سوى تأملات وخيالات عابثة مع تجربة الاحساس بهشاشة وجود الانسان والاشياء، حيث يكون الوجود كله غير ضروري.. وهنا يمكن التوقف قليلاً عند خلق صدفة تتقاطع بين وجوده كصدفة وبضعة طيور هبطت لتأكل شيئاً كان قد أعد لها، وسرعان ما ادرك ان فرقاً كبيراً بين وجوده والموجودات التي تحيطه من الخارج، يراها ويتحسسها، اما الوجود الكلي فهو شيء يختفي عن مجال رؤيته عادة حيث يظل فعله غامضاً ومستعصياً عن التفكير.

يسير انسان في الشارع او على ساحل البحر او في متنزه عام ولا يعرف شيئاً عن ما سيجري منذ خروجه وحتى عودنه الى منزله.. ولكن الآف الصدف تمر به وتقترب منه او تتجاوزه.. ان وجوده هناك واحدة من تلك الصدف، قد تكون من صنعه وقد تتقاطع مع صدفة اخرى وربما تلغيها من اساسها، اي تلغي وجودها بعدم التقاطع معها، وربما تتشكل معها بمحض الصدفة انه التأمل في صدفة الوجود التي تضفي معنى لهذا الوجود حين يبدأ الانسان يفكر بحرية.. وطالما يشعر بأنه يفكر بحرية، يشعر بثقل المسؤولية وهي تجثم على ظهره ولا تترك له مجالاً لذاته المسؤولة.!

تابع سيره الى حيث يتدفق الماء بغزارة، وبالقرب من اشجار الدردار الباسقة ذات الأخضرار الزاه، جلس على حافة مقعد خشبي تتسلل اليه اشعة الشمس الدافئة من بين الاغصان لتضفي على جسده النحيل دفئاً من نوع يبعث على الأرتياح.. اخرج لفافة تبغ واشعل عود ثقاب وسحب نفساً عميقاً وهو يحدق في الغيوم البيضاء المتقطعة التي تتراكض باتجاه المحيط، فيما كانت طيور الماء تسبح في تلك البركة وتتمتع بدفئ الشمس.

اقترب منه شخص كان يسير على مهل محدودب الظهر يحمل كيساً صغيراً من الورق.. جلس على حافة المقعد الخشبي من الطرف الآخر وألقى عليه التحية، ورد عليه بهمهمة وحركة من رأسه، لأنه لم يكن يعرف ما قاله الرجل، إنما فَهَمَ انه حياه تحية المساء، ثم اطلق بضعة كلمات واستمر بعد ذلك يتحدث، وكأن كلامه قد فهمه الآخر وانه سيرد عليه.. ولكن صمتاً قد ساد بينهما وهمهمات ممزوجة بحركة الرأس كانت هي الأجابة.!

ساد الصمت، وكل منهما دخل عالمه، بعد ان ادرك كلاً منهما انه لا يفهم الآخر، وربما كان احدهما يفكر بأن الآخر أخرساً أو معاقاً أو لا يريد ان يتكلم الى أحد.

تابع تفكيره بجدية لأنه كان على يقين من أن هذا الرجل لا يعكر عليه تفكيره وانه في عالمه الآن، ربما يفكر كيف يعيش يومه الآخر، وكيف يحسب مصروف البيت وحاجيات الزوجة التي تملأ رأسه يومياً بمتاعب لا أول لها ولا آخر، أنها ثرثرة نابعة من رأس قد يكون محشو بالقش... قال له، هل تتكلم الأنكليزية؟ فأجاب بسرعة وبلغته.!!

لو لم يكن هذا الرجل موجوداً في هذه اللحظة لكان تفكيره قد انصرف بعض الوقت أو كله الى امور اخرى، ولكن الصدفة، هي التي جمعتهما معاً في لحظة من الزمان وفي بقعة من المكان.. بيد انه لم يحصل توافق الصدفتين أو أن احداهما كانت غائبة عن الأخرى.

اخرج قطعة الخبز من كيسه الورقي الصغير ورمى بها على العشب، وسرعان ما تهالكت الطيور على قطعة الخبز فالتهمتها بشراهة، ثم بدأت تقترب حتى لآمست اقدامه وحطت بعضها على يديه المعروقتين، وهي تأمل في قطعة اخرى.. رمى لها بأخرى فتراكضت الأقدام وتزاحمت الأجنحة فمزقتها بمناقيرها الصغيرة الحادة، فيما كانت تطير وتحط على كتفه بدون خوف.!!

كان يعتقد انها صدفتان غير متوافقتين ولدت ثالثة في تشكيل ناقص ولكنه يبعث على التأمل.. اطلق صاحب الكيس الورقي ضحكة قوية في شكل قهقهة متتابعة والتفت.. وعلم منه انه لم يعد يستطيع الاستمرار في هذه اللعبة طالما لا يملك الخبز الكافي لأطعام الجياع من الطيور المتهافتة.. ذلك الخبز الذي خلق اجواء الصدفة الثالثة او ما يسمونه بالبعد الثالث لوحدة الكينونة حين تتشكل مع الخارج.. انه مشهد مذهل في اركانه الثلاثة، ولكنه بدون جدوى لأنها الصورة العابثة التي لن تتكرر على الأطلاق.

تحرك باتجاه دير (Jeronimos Monastery)، الذي يضم كنوز العالم القديم حتى ان بعض الناس يتسائلون باندهاش، كيف تمكن الاقدمون من هذا البناء المدهش، وكيف نصبوا اعمدة الرخام العملاقة؟ وكيف صمموا وزخرفوا واجهات هذا الصرح، وكيف استقام، وكيف خلدت لوحاته الجدارية الرائعة كهنتهم ومفكريهم وقادتهم؟، والآن يمر الاخرون يلقون نظراتهم على تلك الوجوه المصنوعة من زيوت نباتية ملونة وكأنها مجرد الوان وضعت بعبقرية فائقة، إلا انها لم تضف شيئاً اكثر مما ترسمه الطبيعة من الوان وتشكيل رائعين.

كان الآخر قد انحدر باتجاه الساحل حيث اصوات النوارس التي تمتزج مع ارتطام امواج البحر بصخور الشاطئ، ذلك الصوت الذي يبعث على الحزن والتأمل، أما الطيور الجائعة فقد انفرط عقدها، ولكنها في كل الأحوال تتجمع على اسطح البيوت القديمة ذات السقوف القرميدية المخضرة أو حافات النوافذ الرخامية لدير (جيرونيموش)، الذي بني في القرن السادس عشر في مدينة (Belem) الساحلية الرائعة.

هو والآخر والطيور الجائعة، كل ذهب باتجاه صدفة أخرى قد تتشكل او تنفرط او تلغي احداهما الأخرى من الوجود.. انه الشرط الغامض الذي يصنع للصدفة خوفها وقلقها.. انه قلق الوجود الانساني القابع في اعماقه يظهر في صورة من الصور، وكأنه شبح هذه الكاتدرائية الذي يحوك عنه القرويون قصصاً، وبملامح في كل حركة يقدم عليها حتى الجدية منها تبدو احياناً مضحكة أو عفوية تقريباً.. وظلت قدماه تسيران على الطريق وهو يصغي لوقع اقدامه نحو المجهول.!!

***

قصة قصيرة:

جودت العاني - Lisbon

51/ 21 / 2005

في نصوص اليوم