نصوص أدبية
سُوف عبيد: السّبعُون
سَنةٌ فِي سَنةٍ يا سَنواتْ
هذه السّبعونَ لاحَت
كيفَ مرّتْ سنواتْ
ذكرياتِي تَتَوالَى
لحَظاتٍ لحظاتْ
لَكانّي الآنَ طفلٌ
تِلكَ أختِي
بعَرُوس منْ قُماش
يحملها هَوْدجٌ من قَصَبْ
بأهازيج الغِناءْ
هَدْهَدَتْنِي
والصّدَى تِلْوَ الصّدى
شَقّ المَدى
زَغْرداتٌ زغرداتْ
**
سَنواتٌ سَنواتْ
غَارُنا والحَوْشُ رَحْبٌ
فِيهِ أُولَى الخَطواتْ
عَثَراتٌ عَثراتْ
كمْ سَقَطْنا
ونَهَضْنا
وَسَقَطْنَا
فَوَقَفْنا
ثمّ سِرْنا
فأمامٌ
وأمامٌ…وأمامْ
وعَلى الشّوْكِ القَدَمْ
أوْ حُفَرْ
لا نُبالي بالخَطرْ
وعَلى حَادِّ الصُخُورْ
كمْ حُفاةً قد جَريْنا
وإذا الأقدَامُ سَالتْ بالدّماءْ
فَبِشِيح وَبِرَمْلٍ نَتَداوَى
مِن أعَال كمْ قَفزْنا
فاِنخَدَشْنا واِنكسَرْنا واِنجَبَرْنا
وأعَدْنا القَفزَ دَوْمًا
بسُرورْ
كمْ قَطَعْناهَا البَرارِي
وسَلَكْنَاهَا البَوادي
في دُروبٍ ودُروب
وتَسلّقنا الجِبال
فَعَجِبْنَا مِنْ رُسُوم
لغَزالٍ
وَلِفِيلٍ
فِي كُهُوفٍ ومَغَاور
وعَجِبْنا
مِنْ خُطُوطِ ونُقُوشٍ
لأيَائِلْ
بقُرُونٍ مِثْلَ أغْصَانِ الشّجَرْ
وَلِصَيّادٍ بِسَهْم وَرِمَاح
بَيْنَ عُشْبٍ يَتَخَفّى
وَعَجِبْنَا مِنْ رِجَالٍ ونِسَاءٍ
كالعُرَاةِ
فَضَحِكْنا
مَا عَلِمْنا وَقْتذَاكَ
أنّ عَصرًا منْ زَمانٍ قد مَضَى
كانَ…قَدْ كانَ اِخْضِرَارًا
وَبِغَابَاتٍ تَوالتْ فِي المَدَى
وشِعَابٍ سَامِقَاتٍ
وسُيُولٍ كَالْعَرَمْرَمْ
ثُمّ جَفّتْ
يَا جَنُوبًا صَار قَفْرًا فِي قِفَار
مَا عَلِمْنَا وَقْتذاكْ
أنّ فِي هَذا الجنُوب
كانَ عاشَ الدّينَصُورْ
مُنذُ أحْقابِ الزّمَانْ
فخُطَانَا ـ يَا عَجَبًا ـ
وَطَأَتْ أو شَابَهتْ مِنهُ الخُطَى
كمْ عُصُورٍ قَدْ تَوالتْ وعُصُورْ
يَا زمانًا قدْ مَضَى
سَنواتٍ سَنواتْ
**
سَنواتٌ سنواتْ
بِئْرُنا والدّلوُ فيهَا
فِي نُزُول وصُعُود
والثّقُوبُ
قَطراتٌ قطراتْ
كَمْ سَقَيْنا مِنْ شِياهٍ في الْحِياضِ
وَحَلَبْنا بالأيَادِي
لَبَنًا مِثلَهُ شَهْدُ
كمْ مَلأنا مِنْ دِلاءٍ للرُّعَاةْ
ثمّ سَارُوا فِي الفَيافِي
بِسَوِيقٍ وتُمُور
في المَخالِي
مِزْوَدُ المَاءِ رفيقٌ والسَّراب
**
سَنواتٌ سَنواتْ
كمْ كِلابٍ نَهشَتْنا
كمْ أفَاعٍ لَدَغتنا
فَشُفِينا ونَسِينا
سَنواتٌ سنواتْ
كَمْ عَجَنّا الطّين خَيْلا صَافِناتْ
عَادياتِ ضَابِحَاتْ
وعَلى الكُثبان راحَتْ
سَابقَاتْ
فَإذا كلّتْ أَرَحْنا
وجَلسْنا في الظّلالِ
لا نُبالِي
كمْ شَدَدْنا من حِبَالٍ
لِلْأراجيحِ صباحًا
أوْ مَساء
فَترَانا فِي الأعَالِي
بينَ أغصانٍ وريحْ
لكَأنّا قَدْ صَعِدْنا بجَناح وجناح
فِي الفَضاءْ
**
سَنواتٌ سنواتْ
كمْ بَنيْنا من صُخُور عَرباتْ
بسُقُوفٍ مِنْ جَريد
مِقْودٌ كانَ خَشبْ
والفَرامِيلُ عُلَبْ
كمْ بِلادٍ وبلادٍ أوْصَلتْنا
طُرقاتٌ طرقاتْ
وتَدُورُ العَجلاتْ
دَوَرانَ السّنواتْ
**
سَنواتٌ سنواتْ
سَنةٌ في سنةٍ حتّى بَلغتُ السّادسة
ذاكَ فَجرٌ
لاحَ نُورًا وجهُ أمّي
مِثلَ شَمسٍ في شُروق
رَجُلًا أصبحتَ قالتْ
كُنْ كذئبٍ عندمَا تلْقَى الذّئابْ
جَمَلًا كُنْ عندمَا تلْقَى الصِّعابْ
وَرَنَتْ لي مِنْ بَعيدْ
في اِلْتِيَاعْ
تلكَ أمّي
دَمَعَاتٍ كَفْكَفَتْهَا
لَمَعتْ مثلَ اللآلي
وأشَارتْ بالوَدَاعْ
لَكأنّي بعدَ أمّي
عِشتُ وحْدِي في ضَياعْ
**
سَنواتُ سَنواتْ
كَم زَهَوْنا في نَجاح هَانئِينْ
وضَحِكْنا
ضَحَكاتٍ ضَحَكاتْ
كمْ رَسَبْنا في اِمتحان
آهِ من دَرس الحِسابْ
فَمَعَ الصّفْر العقابْ
يا عَصَا رُدّي صِبانا
وأعِيديهِ الزّمان
لا نُبالي
رغمَ وَجْعِ الضّرباتْ
ضَربَاتٍ ضَربَاتْ
**
سَنواتٌ سنواتْ
قدْ مَشَيْنا
طرقاتٍ طرقاتْ
وتَعِبْنا…اِسترحْنا
اِنتصَرْنا…اِنهَزمْنا
وبَكَيْنا الحَسَراتْ
دَمَعَاتٍ دَمعاتْ
ورَسَمْنا
وَمَحَوْنَا
مَا اِرْتكبْنا في الزّوَايا
مِنْ خَطايَا
وطوَيْنا الصّفحاتْ
ذِكرياتٍ ذكريات
**
أبْصَرَتْني صَفحَةُ المِرآةِ ضَاءَتْ
فَاجَأتْني بمَشِيبِي
لا أبَالِي
كُلُّ شَيْباتِي قَصَائد
وحَكايَا
واِنتِظارْ
فَاكتُبِيهَا واُنشُريهَا يا مَرايَا
فِي مَحَطّات القِطار
فَحَياتِي كَكِتابٍ
بسُطور مِنْ سَحابٍ
هَطلتْ أمطارَ حِبرٍ
صَارَ بَحْرًا
فَكتبْتُ الكلِمَاتْ
دمعاتٍ…دمعاتْ
إنّمَا العُمرُ حِكايهْ
بِبدَايهْ
ونِهَايهْ
هَذهِ السّبعُونَ حَلّتْ
فَبِطُولٍ وبعَرْض قَدْ مَلأنَا الصَّفحاتْ
صَفحاتٍ صَفحاتْ
كيفَ مَرّتْ سَنواتْ ؟
ذِكرياتٌ ذِكرياتْ
وأعُدُّ السّنواتْ
سَنواتٍ
سَنواتِ
..سَنواتْ
***
سُوف عبيد - تونس