نصوص أدبية
جميل حسين الساعدي: مقطع وقصيدة عن العراق
المقطع
هـــــذا العـــــراقُ فسجّلْ أيّها الزمـــنُ
حـــــــرٌّ أبـــيٌّ وإنَّ الحـــــرَّ مُمْتَحـــنُ
*
مثلَ الجبــــالِ رسوخاً لا تحرّكـــــها
ريــــــحٌ إذا عصفـتْ يوماً بــهِ المحنُ
*
أولى الحضارات مِن نهريهِ قد رُويتْ
مِنْ سِحرها الكون حتّى اليـــوم مُفتَتنُ
*
الأبجديّـــــةُ لـــمْ تُوجدْ فأوجــــــــدها
فعلّــمَ الناسَ كيــــفَ العلمُ يُختـــــزنُ
*
لا لسـتُ أنســــاهُ مهما عشتُ مغتربا
فيـــهِ وِلدتُ ويكفــــي إنّــــهُ الوطــنُ
...................
....................
القصيدة
يا كوكبــا ً فـــي سمــاءِ الشـرقِ يأتلـقُ
هــذا حنينــيَ مثـــــل السيــلِ يندفـــق ُ
*
لا ما نسيتُــك َ مهما طـالَ بِــي ســــفرٌ
الحــبُّ يكبــرُ فينـــا حيـن َ نفتـــــرقُ
*
إنّــي جعلتُك َ وِرْدي غيرَ مُكتــــــرث ٍ
بمــا يصــــوّرُ شكّـــــاك ٌ ومُتّثــــــقُ
*
شــــوقي كبيـــرٌ كبحرٍ لا حـــدودَ لــهُ
فهــــلْ يُترجـــمُ عنــه الحِبْر ُوالوَرَقُ
*
أنتَ الحبيــبُ الذي في الروحِ مَسْكنــهُ
ورسْمُـــهُ بشَغــافِ القلْبِ مُلتصـِـــقُ
*
أنتَ العراقُ الذي أحببتُهُ وطنـــــــــا ً
شــوقي إليكَ لهيــبٌ والهوى حَـــرَقُ
*
روحــي تحنُّ إلـــى لقيــاك َ ظامئــة ً
مثل الصحارى وتدري أنّـــك َ الغَدَقُ
*
مِنْ عودِ زريابَ أذكـــى شوقها نَغَـمٌ
كالبرقِ فـــي مُدلهــمّ الغيمِ ينبثـــــــقُ
*
إنّــي أحبــــّك َ بعْــدَ اللهِ يا وطــــني
كما أحبّك َ أجــــدادي الألــى سَبقــوا
*
إنّـــي أحبّكَ حتّــــى لوْ تنكّــرَ لِــــي
أهْلــــــي وأغلقَ بابا ً مَـنْ بـهِ أثـــــقُ
*
يــا سِحْر َ بابلَ حـــارَ الساحرونَ بِما
تُوحــــي رُقاك َ وأعيا سَعْيَهــم رَهَقُ
*
أنتَ العراقُ عصــيّ ٌ فِي تمنّعـــــــه ِ
فمـــا يهزّكَ إرهــــابٌ ولا حَنَـــــــقُ
*
بغــدادُ مسقط ُ رأســـي حينَ أذكرُهـا
ينتابــني الوجْدُ مثل المــوجِ يصطفقُ
*
أحسّـــها مثلما بالأمْـــسِ فاتنــــــــة ً
كنـجمةِ الصبـــحِ كالألماس ِ تأتلــــقُ
*
ظلّتْ برغـــمِ تحدّي الدهــر ثابتـــة ً
يختــالُ فــي كبرياء ٍ فرْعُـهُا السَمِـقُ
*
مِنْ جـانبِ الكرْخِ حَـيّـتْ بابتسامتها
وفي الرصافة ِ ألقـتْ سحْرها الحَـدَقُ
*
حبيبتــي أنتِ يا بغـدادُ مِـنْ صِغـَري
ريحانتي أنتِ، مِسكْي ، ورْديَ العَبِقُ
*
ذوّبتُ فيكِ شراييـني التـي رَفَضــتْ
أنْ تؤْثـــرَ الثلجَ والنيــــــرانُ تسْتبـقُ
*
لأنّهـا النفْسُ إنْ لمْ تحترقْ صَــدِأتْ
وإنّــــــهُ القلبُ يحيـــا حينَ يحتـــرقُ
*
الحبّ في القلبِ يا بغــدادُ موطنُــــهُ
لا فـي الدعاوى التي تُرْوى وَتُـعْتنـقُ
*
الحبّ ما كانَ كسْبـــا ً أوْ مُتاجــــرة ً
لا يستـوي في القياسِ الحبُّ والنـَــزَقُ
*
غنّي مواويلَ عشقي، أرجعي فَرَحا ً
أضـــاعَهُ مُنذُ أنْ فارقْتــــُك ِ القلَـــقُ
*
رُدّي إليّ سمــاء َ الأمـسِ مُشرقــة ً
فمُنــذُ أن غبْـت ِ عنّــي أظلـم َ الأفقُ
*
وحرّري من إسارِ الصمتِ حُنجرتي
ففــي المهاجـرِ صوتي راحَ يختنتقُ
*
البحرُ ما عــادَ مأمونا ً فأشــرعتي
بلا حــراكٍ علــى أمواجــهِ مِــــزَقُ
*
الموج ُ يغمــرني مِن كلّ ناحـــية ٍ
مُـدّي شــراعكِ إنّي هالك ٌ غـَـــرِقُ
*
إنّـــي انا ذلكَ الهيمــانُ يُطــربــهُ
بيـتٌ إذا مـــا تغنّى الشــاعرُ الحَذِقُ
*
وزّعــتُ نفسـي في بيت ٍ وقافـية ٍ
فـراحَ يأكــلُ مِــنْ أعصابـيَ الورَقُ
*
في الليل ِ حينَ عيونُ الناسِ مُغمضة ٌ
تظلّ عينــــايَ يشــدو فيهمـا الأرَقُ
*
أغيبُ والنهـر في نجـوى تُسـامرها
نجوى النخيل ِ علـى الجرْفين ِيتّسقُ
*
أظلّ تحْت َ النجيمــات التي مَــلأتْ
سمـاك ِ بالزهو ِ كالقدّيسِ أحتـــرقُ
*
عُمْري هوى ً ومِن النيران ِ مركبتي
يطلّ منــها إلــى عُمْق السمـا عُنُقُ
***
وجّهـتُ للنورِ وجْـهي واستعذتُ بـهِ
مِــن الظــلامِ وممّـا راح َ يختلــــقُ
*
وقلْت ُ لا ضيْرَ يا شمسَ السمـاءِ إذا
ما غبت ِ فالضوءُ في الأعماقِ مؤتلقُ
*
وصحْتُ بالشرّ إذْ هبّتْ عواصفــهُ
الحقّ دربــي وعنْــــهُ لســـتُ أنزلـِـقُ
*
أهْــلُ العراقِ نسيــجٌ واحــــدٌ أبــدا ً
مهمــا تعـــددتِ الأفكــارُ والطُــرُقُ
*
عاشوا معا ً مِنْ زمــأن ٍ أخوة ً لهم ُ
مِنْ مصدر ٍ واحـــد ٍ أصلٌ وَمُنْطلقُ
*
كلٌّ لـــهُ مـذْهـب ٌ لكنـّـــهُ أبــــــدا ً
لمذهبِ الحُبّ ، حُبّ الأرضِ مُعْتَنِقُ
*
لا يعرفُ الله َ في عليــا مكانتــــــه ِ
مَنْ لم ْ يَكـُنْ بتراب ِ الأرضِ يلتصقُ
*
نحنُ البلاد، وما يبني البلادَ سوى
روح التسامح والعقبى لِمَـنْ صَدقوا
*
حــبّ العراق ِ مع الأيّامِ يجمَعُنــا
ونحــنُ مهمــا اختلفنا سوف َ نتّفقُ
***
جميل حسين الساعدي
........................
شرح المفردات
الوِرْد: الجزء من القرآن يقوم به الإنسان كلّ ليلة أو الجزء من الليل يكون على الرجل أن يصلّيه، والمقصود في البيت ما يقوم به الإنسان من قراءة.
مُتّثق: واثق من الشئ .
الشّـغاف: غلاف القلب .
الحَرَق: النار ولهيبها.
اَلغَدَق: الماء الكثير.
زرياب: موسيقار ومطرب عاش فترة من حياته في بغداد في عصر الخليفة هارون الرشيد ثم انتقل الى الأندلس.
رُقى: جمع رُقْية: وهي أن يستعان للحصول على امرٍ بقوى تفوق القوى الطبيعية.
الرَهَق: حمل المرء على ما لا يطيقه.
الألماس: حجر شفاف شديد اللمعان .
السَمِق: الطويل.
الحَدَق: العيون
مِسْك: طِيب من دم الغزلان.
العَبِق: الذي تفوح منه رائحة الطيب.
الإسار: ما يقيّد به الأسير.
مِزَق:ممزّقة.
غَرِق: غريق.