نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: طين في يد خزاف

كل من تعود أن يقطع الزنقة الهامشية الواقعة بين زنقة وادي الصوافين وبين الثانوية الأصيلة في عقيبة الفئرات بفاس لا يمكن ان تغيب عنه طفلة صغيرة تفترش ورقا مقوى وتعرض كل ما تلاشى مما استغنى عنه أصحابه من أواني منزلية وزجاجات فارغة، براغي ومساميروحبابات كهربائية تعطلت عن العمل..

كانت الصغيرة لا تحرص على ما تعرضه على المارة فهي لاتطمع في دخل كبير فتركيزها كان منصبا على كل ما تقرأه من دفاتر ممزقة،وكتب متلاشية، بل وحتى لفات أوراق مما لعب به الصغار ككرات ورقية في الزنقة قبل ان ينصرفوا ويتركوها لمنظفي الممر من البلدية والذين قد لا يمرون بالممر ويتجاوزونه الى الطريق الرئيسية للثانوية..

كانت الطفلة لا تطلب ثمنا او تحدد قيمة فكل ما أعجبك فهو لك مقابل أي شيء تتركه ولو كان درهما واحدا..

كثيرا ما شغلتني بمتابعة: قمحية اللون،نحيفة،عيونها لامعة بوميض،نبضات من ذكاء،وتقاطيع محياها جمال يترقب لحظة بلوغ ليعلن عن حضورآسر. كانت لاتنتبه لمن مر أو توقف بل لا تعير اهتماما لصغير أو كبير خصوصا اذا عانقت اناملها القلم واستغرقتها كتابة باهتمام..

تصنعتُ رغبة في رشاش مائي كان من بين المتلاشيات فسالتها عن الثمن؟ لم ترد بل اكتفت برفع بصرها الي ثم حركت كتفيها ويديها وهي تقول:

ـ اي ثمن تريد، باش ما سخر الله..

رميت ابتسامة رضا على وجهها، لم تنتبه وعادت عيونها لما كانت تقرأه في مجلة قديمة اسمها "هنا كل شيء ".

بعيدا عن إحراجها تركت لها خمسين درهما وانصرفت.. لكني وجدتها خلفي راكضة:

ـ سيدي الكريم لقد سقطت منك هذه..

ـ لا،لا لم تسقط مني، بل لك قد تركتها هدية مني..

ـ لكنك لم تأخذ أي شيء في المقابل..

تبسمت في وجهها وعلى كتفها وضعت يدي..

بكل لباقة وأدب ازاحت يدي وتأخرت قليلا الى الخلف:

ـ لا،أخذت، يكفيني اني تعرفت على صبية قارئة تتاجر بشرف..

أصرت على ان استعيد مالي فألححت عليها في إخفاء الورقة فقد ينتبه اليها أحد اللصوص من يتخذون من وادي الصوافين وكرا لاختفائهم ثم يتسللون الى الأحياء المجاورة عبر الزنقة بعيدا عن أنظار الحراسة..

شكرتني بعمق وعادت الى مكانها..

فضولي دفعني لادخل الثانوية الأصيلة أزور مديرتها كصديقة مهنة ثم أسألها عن الطفلة ان كانت لها بها دراية..

ما فاجأني في كلام المديرة أني من القلة القليلة التي لا تعرف خديجة التلميذة النجيبة الذكية التي تتابع دراستها حسب رغبتها دون أن تتقيد بوقت في مدرسة ابتدائية مجاورة "عرصة الشريفات "، وهي تتعاطى عرض كل قديم متلاش حتى تصرف على أمها المريضة وتشتري لوازم مدرستها.. كثيرا ما تتغيب عن المدرسة أياما لظرف قاهر قد يصيبها لكنها حين تعود لا يمكن ان تلاحظ نقصا في معلوماتها وخبرتها أوتهاونا في انجاز واجب مدرسي أسعفها به أحد التلاميذ..

ـ لا اخفيك حقيقة أننا هنا نترقب وصولها الى الثانوية فقد تكون سببا في تحريض التلميذات على الاقتداء بها خصوصا وقد بلغني ان لها باعا طويلا في كل ماهو رياضيات وهندسة..

غادرت صديقة مهنتي والطفلة تستحوذ على كل ذرة من كياني، اي توق هو يسكنها فيحرضها على تشكيل هيكلة جديدة لنفسها هي أكبربكثير مما يحرك من توفرت لهم كل وسائل التعلم فيحثها على طلب العلم بهذه الرغبة والشوق بعيدا عن الدراسة المنتظمة وعن المناهج المخططة،والكتب المقررة وعن معلم أو معلمة كلاهما قد يشهر صوته ويفرض سلطته ليقمط الأطفال في قوالب جامدة سكنت الأدمغة وصارت ايقاعا مفروضا على المتعلم أن يخضع لطاعته ويسير على منواله وإلا تعرض لعقاب، وبلقب كسول يصير له اسما ؟..

هكذا صار أطفالنا نموذجا واحدا خاضعا للطاعة والامتثال طيورا على أشكالها تقع..

في أطفالنا يغيب تجلي الخالق وتحضر ايقاعات عقول تكره ان تتغير أو يتغير لها مسار الا اذا كان التغير مادة فذلك ماهي عليه لاهثة بحرص ومتابعة..

في البيت تحدثت كثيرا مع أبنائي عن خديجة ونصحت كلا منهم أن يزورها يوما ويقتني منها ما يبرر ما يتركه لها من نقد، بل تجاوزنا الامر الى أن نلتقط لها صورا وفي تصورنا أنها لا تدري وقد تمكن أحد ابنائي وهو بالمناسبة مولع بالتصوير والإخراج السينمائي أن ينجز لها شريطا من خمسة وثلاثين دقيقة يصور حياتها اليومية الى ان ينتهي بجائزة نالتها اثر نجاحها في الدخول الى السادسة بميزة ممتاز..وقد كانت ردة فعلها في كلمة لها عبارة اطلقت تصفيقات حارة من الحضور صغارا كبارا:

 ـ أنا طفلة تتشبث بشجرة الحياة ولها تعمل بكل ما وهبها الله،لهذا كنت أغمض عيوني عما كانوا يلتقطونه من صور ففي ذلك صباي الذي لن أخجل منه، وحتى أساعدهم جعلت من نفسي طينا في يد خزاف..

هاتفتني المديرة يوما ان أم خديجة قد توفاها الله، لم اتريث وبادرت اليها بما يلزم كواجب وحق من حقوق فقير على ميسور. بعد أسبوع من الجنازة رن جرس البيت وكان الطارق خديجة..

لم تدخل البيت الا بعد إلحاح من زوجتي وما ان استوت في مكانها حتى فاجأتنا:

ـ جئت اليكم لتمنحوني فرصة أعمل خادمة خارج أوقات الدراسة مقابل ما قدمتموه لي في جنازة أمي..

جميعا سالت مآقينا دمعا حارا بل منا قد اهتزت الصدور، ارتمت عليها زوجتي وضمتها بين أحضانها:

ـ حشومة عليك أبنتي ما قدمناه فهو لله،خير من خير الله لمن هو به أحق، قدمناه بعد أن اكتشفنا فيك حقيقة جديدة: حب العلم والذي

 بدونه، ستكون الحياة على الأرض بلا جدوى ولا معنى لها.

تطلعت الى خديجة فوجدتها أنثى مطرزة بالقوة والوعي، صورة الحياة في اعماقها بحث عن حقيقة الوجود و الأشياء..

بحرارة شكرتنا قبل أن تقول:

ـ هذا بيت استعيد فيه أمي وأبي واخوتي الذين لا املكهم

نظرت اليَّ زوجتي كأنها تستأذنني ثم خاطبت خديجة:

ـ ما رأي خديجة لو ترضى بالعيش معنا ستجد متعة وألفة ومحبة بين أهلها..

تنهدت الصغيرة وقالت:

أعتذر سيدتي، إذا قبلت بطلبك سأحرك في نفسي قوة سلبية قد تدفعني الى الخلف، طموحي كبير وكبير جدا، الى الامام ساعية بتطور واكتشاف يومي لحياة جيدة اعاني في كيفية تحقيقها وتلك متعة وجودي..

أدركت ان البنت تنطق عن يقظة تضيء أعماقها، تريد أن تعاني من صباها وفي معاناتها طريق أخرى للحياة والوصول بلا مساعدة من أحد وانما بان تبذل من طاقتها ما يحقق لها تكاملا بين وجودها ووجود غيرها..

درس من طفولة خديجة أعاد ترتيب الأمور في بيتنا مما قد يحقق لنا وجودا متناغما أساسه الوعي وحرية الاختيار.

 ***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

 

في نصوص اليوم