نصوص أدبية

سنية عبد عون: المتهم رقم واحد

داست أقدامهم أزهار النرجس والجوري وأوراق الريحان الممتدة على طول الممشى. كأنهم أشباح تحاول ان تنتقم من بني البشر لا يغرسون سوى اليأس والحقد. وتصرفاتهم بمجملها رديئة وتحمل من الدناءة الكثير. كانوا يطاردون شابا ليس لصا. ولم يقتل أحدا. ولم تذكره أي امرأة بسوء.
إذن ماهي جريمته ولماذا يطاردونه. ؟؟ لا أدري
يسحبونه كأنه خروف صغير يعدونه لوجبة شواء دسمة. نحيل الجسد أهيف القامة ووجهه مثل اشراقة الصباح قميصه المتهدل بلون السماء وبنطاله اسود تغطيه بقع داكنة متربة من جهة محل جلوسه ومن ركبتيه يجر بقدميه نعلا اسفنجيا أصغر من قياس قدميه. وايضا لا أدري لماذا. !!
لم يتجاوز السابعة عشر من عمره. ربما أقل أو أكثر
شعره قد طال قليلا وهناك خصلات مبعثرة فوق جبينه خلتها لأول وهلة كأنها لطفل رضيع يصحبها بريق عينيه البريئتين
في ذلك اليوم أخبرتنا مديرة المدرسة والارباك واضح على طريقة كلامها طلبت منا نحن المدرسات جميعا ان لا نغادر قاعة الدرس بعد انتهاء الحصة الأولى وان نحافظ على هدوء المدرسة وعدم السماح لأي طالبة بالخروج من الصف لأي سبب أو عذر. كان ذلك الحدث في منتصف التسعينيات. وكما هو معروف بتعليمات تلك المرحلة اتباع سياسة نفذ ثم ناقش. لا نعرف ماذا يجري وما وراء ذلك الموضوع الذي يحبس الأنفاس بالتأكيد. ولا يسر من عايش تلك الحادثة بالذات.
كنت في غاية القلق والتوتر داخل قاعة الدرس وكان موضوع درسي في مادة الأدب العربي عن الشاعر أبو القاسم الشابي وقصيدته إرادة الحياة. فهمست مع نفسي وأين هي إرادة الحياة. وكيف ومتى يستجيب لنا القدر وشبابنا يعامل بهذه البشاعة وباللاإنسانية وليس باستطاعتنا سوى الصمت.
نعم اقتادوه صباحا مكبلا بسلسلة تربط كلتا يديه الغضتين ينظر مفزوعا يمينا وشمالا دون ان يركز بصره على شيء معين. كان يحاول ان يسحب كلتا يديه بقوة وكأنه يحاول ان يقول لهم انه انسان ومواطن في هذا البلد وله حقوق فيها مثلهم تماما وعليهم احترام انسانيته ومواطنته على الأقل وكونه يؤمن تماما انه بريء من التهمة التي ألصقت به.
يجره خمسة من أصحاب الكروش المتهدلة والذين لا يعرفون معنى للرحمة والانسانية. ولا تحمل وجوههم سوى التجهم والغضب فكيف والحالة هذه ان يثبت لهم هذا الفتى براءته.
وأول مشاهدتي لهم وطريقة تعاملهم الفضة والغير محمودة مع هذا الصبي اليافع تيقنت ان لا أضمن ان يبقى الفتى على قيد الحياة فيما بعد. يا إلهي كيف يتحمل قلبي الضعيف.
يتجولون في كل زاوية وكل ممر في المدرسة ما عدا قاعات الدرس لم يدخلوها. ثم حضرتْ العاملة لتبلغنا طلبهم بغلق أبواب قاعات الدرس. وتم لهم ما أرادوا.
لكني كنت أتابعهم من خلال النوافذ. وفي كل مكان يتوقفون فيه كان يدور حديث بيهم ثم يستنطقون الشاب ويبدأ يتحدث معهم وهو في غاية الخوف والهلع. طبعا لم أتمكن من سماع ما يدور بينهم وكأني أشاهد فلما صامتا. لكني فهمت بعضا من المعنى المخفي من خلال اشاراتهم مستعينين بأيديهم وهزة رؤوسهم وكذلك كان يفعل الشاب. وهو يتحدث بانفعال شديد وربما مع بكاء ونشيج وهذا واضح من مسحه لعينيه وانفه باستمرار وبكلتا يديه المربوطتين بسلسلة.
لم يكن فهمي لما يجري بالضبط لكنه استنباط لبعض الجوانب الغامضة. ما أحزنني وأبكاني في تلك اللحظة رجفة يديه الواضحتين عندما يرفعهما قبالة وجهه.
لم استطع ان أعطي درسي حقه كما يجب بل اكتفيت بقراءة قصيدة إرادة الحياة عدة مرات من قبل الطالبات. لكني بقيت أجتر بمخيلتي تلك الأفكار التي تراودني عن مصيره وماهي جريرته التي تستحق هكذا عقاب وتمنيت ان أفهم ما الذي فعله وما علاقة ممرات المدرسة وساحتها بالموضوع. لحد الان لا أدري ايضا.
ليتني لم أرَ ذلك المشهد وليتني لم أبصر الفتى في ذلك اليوم المشؤوم والذي بقيتْ صورته تلاحق مخيلتي حتى بأحلامي وكوابيسها التي لم تنقطع طيلة سنوات عمري.
وحين قدموه لقاضي التحقيق. كان الفتى قد تسمّر في مكانه ولا يدري كيف يتصرف وكيف يثبت براءته من تلك التهمة الباطلة احمر وجهه ودمعتْ عيناه وتهدج صوته برجفة واضحة وهو يقول :ـ يا سيدي صدقني أنا بريء وانا مغتاظ من اعتدائهم على كرامتي ابتسم القاضي كعادته فالأمر بات معروفا بالنسبة له وعليه ان ينتزع اعترافا من فم الفتى وبكل الطرق والوسائل وان كانت على حساب حياة الفتى.
القاضي يبني حكمه كما يشاؤون وليس كما تمليه عليه شرائع الله. ليبقى المتهم بريئا حتى تثبت ادانته. لكنها لم تثبت. أو هكذا يقول المنطق السليم.
فمن ذا الذي مسكه بيده ساعة ارتكابه بالجرم المشهود.؟؟
ومن ذا الذي رآه ليلا وهو يكتب شعارات مناوئة للسلطة داخل ممرات المدرسة. وهل استعانوا بخبراء خط اليد ليثبتوا انه يعود لهذا الفتى بالذات. لا ندري ايضا.
بكته قلوبنا وأرواحنا قبل العيون صمتا دون ان نتفوه جميعا بكلمة واحدة وكانت نظراتنا هي التي تتحدث.
بكته جدران المدرسة وممراتها وساحتها والنخلة الوحيدة في حديقتها وهي من شهدت ذلك البؤس ولمسة الصدق في بحة صوته وكيف بللت قطرات دموعه المنسابة فوق تربتها. وأنين الأرض ونوح اليمامة في أعالي قلب النخلة الحزينة.
وساعة تشيع جثمانه في فجر يوم ممطر ودون ان تقام على روحه مراسم الفاتحة وكما يعمل لبقية الأموات.
فليس بوسعنا سوى ان نتذكر اخفاقاتنا في هذه الحياة
***
قصية قصيرة
سنية عبد عون رشو

في نصوص اليوم