نصوص أدبية
قصي الشيخ عسكر: سيرة قبر متنقّل

أو
سيرة ثلاثة قبور
قصّة كولدج:
***
السمفونيّة الأولى
لون بنفسجيّ1
منذ اشتريت قطعة الأرض تلك نظرت إلى نفسي ميتا.
كلّ اسبوع أمر عليها. أقف لحظات أو دقائق أو ساعة أتأمل المكان، وأسمع هدير السيارات. المكان رائع يقع في شارع النروبرو وسط مدينة كوبنهاغن، يحدّثني الدنماركيون أن الشارع لم يكن بمثل هذه الحيوية قبل ثلاثين عاما. من النادر أن ترى فيه أي أجنبيّ، أما الآن فقد انبعثت فيه الحركة والحياة بفضل العرب والقادمين من الشرق. على الرصيف الآخر انتشرت محلات الصاغة والأقمشة ومطاعم الشاورما والفلافل وأنا بطبعي أكره السكون والصمت، وأخاف منهما، أما يوم السبت فتمتد المناضد على طول الرصيف القريب إليّ من الصباح إلى ما بعد الساعة الثالثة ليبيع أصحابها مختلف البضاعة القديمة التي لا يرغبون فيها والحق إن ضوضاء الشارع جذبتني إليها ففكرت أن أجد فيه موطئ قدم هنا على الرصيف أيام السبت أو أكون أحد مالكي المحلات على الرصيف الآخر.
كنت أقف أمام قطعة الأرض تلك أتأمل الشواهد والأشجار وعند بعد قريب من الشارع المكتظ بالسيارات تتهادى إلي أصوات مختلطة لحركة تطرد عني الوحشة ن أما في الليل وحين يقفل الباب الواسع فلما تزل حركة ما وأنوار كثيفة تتسلل من السياج الذي يزيد ارتفاعه عن مترين بقليل.
هذه المرة قطع علي تأملاتي بستاني المقبرة ذلك الرجل المرح العملاق الذي تعرفت عليه يوم اشتريت قطعة الأرض تلك عشرة ألاف كرونه مبلغ ليس بالقليل لكن ذلك أفضل من أن تدفنني البلدية على نفقتها الخاصة في أي مكان تشاء ثم إنني سوف أدفن هنا وسط المدينة حيث الضجة والأنوار فلا أشعر بالعدم يأكلني.
أنت من المحظوظين فلم تعد هنا من أراضي للبيع بعد هنا في مقبرة اسستانت كركه كورد.
قال عبارته، وقبل أن ينصرف إلى عمله مددت يدي إلى جيبي ونقدته بعض الكرونات وأنا أقولك
فعلا تستطيع أن تبتاع بعض الورود لتزرعها حول القبر وأضفت تذكر أني أحب اللون البنفسجي!
***
السيرة الأولى
القبر الأوّل
عام 1986 عملت في الدنمارك
وقتها ظننت ألّا عودة لي إلى بلدي.
اكتسبت جنسية البلد، وعملت جامع قمامة.. سكنت في نرروبرو قريبا من مقبرة اسستانت كيركه كورد، الحقيقة جمع القمامة ليست شغلتي الأصليّة، فأنا من قبل احترفت مهمة الطبخ واشتغلت في مطاعم عديدة في بلدي، وأتقنت الطعام الغربي الحديث برغر كوتليت، بفتيك... ولم أكن من قبل مع عملي أهتمّ بالحياة والموت وأرسم حياتي تحت الأرض لكنّي بدأت أفكر بالحياة والموت مع عملي الجديد، لعلّه يبدو من الأعمال الساذجة أو الوضيعة، أحيانا أراه مقرفا وأعدّه عملا مؤقتا أهجره حالما أحصل على عمل جديد. وأقرف أكثر إذا تذكّرت أن بيوت الدنماركيين في شارع نيروبرو وسط العاصمة لم تكن بها حمامات إلى عام 1945 فكان ساكن البيت يعملها ثمّ يلفها بكيس ويرميها من الشباك لتهوي على الرصيف.
هكذا حدّثوتي عن حياتهم السابقة القريبة ليلمزوا حسب ظنّي إلى مجتمع الرفاهية الذي يفتخرون به الآن.
أحمد الله على أنّي حصلت على هذه الوظيفة عام 1986 ومن محاسنها على الرّغم من قرفها الظاهر أنّها علمتني أن أفكّر بالموت والقبر.
يمكن أن يكون ذلك حدث فجأة
ويمكن أن تكون المفاجأة فيه أقرب إلى الواقع.
هكذا هي الحياة كلّ شئ يصبح نفاية والأرض نفسها تبدو أكبر مقبرة في الكون. الأفكار السابقة شخصت لي واضحة بعد ليلة عيد الميلاد... يوم أبصرت ثلاثة أصابع مشوّهة في حاوية الأزبال التي تقابل مخزن فوتكس.
أصابع..
ثلاثة... مشوّهة
تجثم أمام عينيّ والدهشة تلعب بخاطري في أن لعبة رأس السنة قطعت أصابع صبيّ وألعابا أخرى سببت حرائق وأذى للآخرين.
قلت مع نفسي: مستقبلي هنا ولست أدري متى أموت. مازلت شابّا غير أن القدر لا يعرف سنّا، ومادت أعمل فبإمكاني أن أشتري قبرا، فلو متّ في شقّتي الصغيرة وحيدا مثل مغترب مات بجلطة، وبقيت جثته داخل الشقًّة ثلاثة أيّام حتى افتقده بعض أصدقائه فاتصلوا بالشركة التي كسرت الباب فوجودوه جالسا على كرسيّ وأمامه فنجان قهوة.
يذكرون أنّ جثّته لم تتعفّن.
أمّا أنا فعلاقاتي قليلة.
كان الزمن غير هذا الزمن.
بلون آخر..
عام 1979 1981
يمكن أم تصل إلى أوروبا بيسر وسهولة. لا أحد يسألك عن تأشيرة الدخول، تختار خطوط النقل التي تعجبك.. في المطار يمنحونك.. الفيزا
اللجوء.. يستقبلك
عالم جديد
وتحصل على عمل يغنيك
جامع قمامة
تغسل الصحون
تعمل في المجاري
تصبغ الجدران
هو الزمن الجميل
إما إذا مت في شقتك فقد تتعفن.. أقول قد...
ولأني التفت إلى قضية الموت أخيرا، فقد تجوّلت في مقبرة أسسستانت كيركه غورد، وتحدثت مع الحارس.. الرجل الطيب الذي يعتني بقبور من ماتوا وقبور من سوف يموتون.. يقول أن هناك بضعة قبور.. ثلاثة أو أربعة، وما عليّ إلّا أن أتعجّل، فالأسعار تزداد في المستقبل:
سألته:
هل لك قبر هنا؟
أجاب بهزّة من رأسه:
لا؟
راودني فضول مضاعف:
في مكان آخر؟
فمط شفتيه، وهزّ كتفيه:
لم أقرر بعد أين أكون!
اقتنعت بجوابه، وتبعته وهو يقودني إلى الأماكن الباقية الخاوية من الجثث، فوقع اختياري على قطعة أرض عند زاوية المقبرة الخلفية:
- هنا
فقال باهتمام:
عليك إذن أن تذهب لمكتب البلدية لتدفع أجر القبر وتعجّل قبل أن يحتلّه أحد غيرك.
فهززت رأسي وقلت:
سأفعل ذلك غدا
زنت أحلم بالبنفسج يحيط قبري.
***
السمفونيّة الثانية
نبتة الحوذان2
في مدينة ما
صحا الناس ذات يوم
ليجدوا أن شواهد القبور
غيرت اماكنها
لتختار أية شاهدة القبر الذي تهواه
عندئذ
قالوا
ربما هو الضجر الخفي دفعها لذلك!
***
السيرة الثانية
القبر الثاني
السمفونيّة الثانية
نبتة الخوذان البرّية2
كنت أقف وحدي هذه المرّة
مكان منعزل في BULWELL
قطعة صغيرة على حجمي
الطول
العرض
القطعة التي تضمّ رفاتي تحمل الرقم K2
لا سيارات، ولا وسائط نقل تمرّ قرب المقبرة سوى السيارات الخاصّة التي يقودها الزّائرون ممن تربطهم علاقة قربى بالموتى.
للمكان رهبة، ولا زهور تحفّ القبور سوى حزمة عند رأس الميت أو مزهريّة صغيرة يضعها الزائر أسفل الشّاهدة.
هناك نباتات برّيّة تنغرز في قبري
حشيش
ونبتة ذات وردة ذهبيّة
وأجمة صغيرة ذات أشواك.
أحمل معي آلة تصوير، التقط صورة للحشائش والنبتة الصفراء، هؤلاء ضيوفي.. للموضع صورة، ، وآمل أن يمرّ أحد لكي أطلب منه أن يلتقط لي صورة عند القبر. تدفعني رغبة حقّا لمعرفة أسماء النباتات التي تحتلّ تربة قيري. الحشيش أعرفه. بقيت النبة الصفراء، ونبتة أخرى ذات أشواك حتّى لو اقتلعتها فإنّها ستعود للظهور بعد فترة قصيرة مثل محارب قديم يغور في الخندق يرتاح ثمّ يطلّ برأسه.
قد أفكّر يوما أن أعرف اسم تلك النبتة
فأراجع القواميس اللغويّة فتقع عيناي على صورتها في قاموس ضخم
وردة الحوذان تجثم على قبري.. ستموت فوق صدري تماما، كلما جذبتها انقطعت فيبقي جذرها في الأرض. الاسم لا يعني لي شيئا. حوذان.. لا أعرفه من قبل أراها في كلّ مكان
لا أقتلعها..
أحبّ ضيافتها....
تتقابلها الشاخصة فيما بعد:
في وقفتي هذه أحلم بفكرة سخيفة تتلاعب مع الموت:
السعي إلى باطن الأرض إذ
لم يكن وصولي إلى بريطانيا عام 1999بالأمر الصعب. إجازتي السنوية أسبوعان.. وجدت في الإعلانات رحلة رخيصة إلى نوتنغهام... وفيها تسمّرت قدماي بالأرض
قلت لا عودة إلى الدنمارك
سحرتني المدينة القديمة، وقلعة روبن هود، والشوارع القديمة الضيقة، تطلّعت في محل غريب الاسم، SLUG&SLAG
كانت هناك لوحة تعلن عن حاجة المحل إلى عامل.، فتجرأت ودخلت، وبمرور الأيام نسيت القرف والقمامة.. لم تعد الدنمارك تخطر ببالي سوى الملامح الجميلة..
البحيرات..
القبّة السماويّة.
حوريّة البحر...
وتجاهلت القبر في مقبرة أسستانت كيركه كورد..
لم أعد بحاجة إليه.. كنت أضحك وأنا أمارس مهنتي بنشاط كلّ يوم.. العمل الروتيني الذي أحبّه.. كوتليت.. بفتيك. . برغر... بتزا أيضا.. أضحك أنّي اشتريت قبرا في الدنمارك لا أسكن فيه.. أبتسم وأردد مع نفسي: الحياة هنا أكثر حيويّة، واللغة، والناس.. ليس من المعقول أن أرجع.. وها هو الزمن يمرّ، فلم لا أجرّب القبر ثانية..
ألحّت عليّ الفكرة، فقصدت مبنى البلديّة، وقفت عند الدّكّة أواجه موظف الاستعلامات:
- بمن أتصل ياسيدي كي أشتري قبرا؟
تطلّع في ملامحي:
- هل أنت مسلم؟
- نعم.
بحث في الهارد دسك أمامه، واستنسح ورقة قدّمها لي، قال بلطف:
- لديك عناونين وهواتف أربع مراكز إسلامية هنا في نوتنغهام، وأسماء المعنيين في هذه المراكز بالقبور، اتصل بأيّ مركز ترغب.
وظهر أنّ اجراءات شراء قبر في بريطانيا أكثر تعقيدا منها في الدنمارك!
سبابتي تركتُها للمصادفة وحدها فوقع إصبعي على اسم السيد أسرار.. أسفل الورقة..
هذا ماكنت أفعله في المدرسة. أختار المكان الأخير فالصفوف الأولى أراها تحت بصر المعلم. غالبا ما يسأل من يجلسون في الصف الأول ومن لا يعرف يكون هدفا لعصاه التي يشير بها إلى ما يكتب على اللوحة ويهوي بها على راحات الأيدي.
السيد أسرار عضو الرابطة تكفّل بالقبور، أخذتي إلى رقعة داخل مقبرة كبيرة. مساحة تسع مائة قبر.. أشار إلى قبر في شمال المقبرة، وقال هذا قير والد زوجتي، المكان في أطراف المدينة، هناك صمت مطبق لا يشبه صمت مقبرة كوبنهاغن الذي يهبط في الليل، ولا صمت المقاعد الأخيرة وأمانها من عصا المعلّم في المدرسة الابتدائيّة..
حين عبرنا قطعة ال 100 قبر إلى الشمال وقع بصري على المقبرة الكبيرة، وشواخص القبور، وسنديانات الورد أسفل كلّ شاهدة. وقف السيد أسرار، وقال:
- هذه هي مقيرة المسيحيين، وقد أعطونا مساحة تكفي لمائة قبر.. أخرج ورقة من جيبه، دوّن عليها رقما واسما وأضاف: سعر القبور يزداد، وأنصحك أن تشتري الآن. اتصل بالسدة ليز وحدد معها موعدا لتزودك بكل المعلومات وطريقة الدفع.
وكنت بعد هذا اللقاء اسعى للقاء السيدة ليز... عبرت إليها شارع ليف برة، ومع الاستدارة، انحرفت إلى اليسار فاجتزت الممر الواسع، وبدا لي أن هناك طريقا يمتدّ إلى الأمام، وآخر يتفرّع منه. شواهد أسفلها ورد، وصلبان، ولوحة تشير إلى مكان فرقة الإنشاد والمحرقة.
وفقت أمام باب الإدارة..
ضغطت على الرز...
فظهرت بعد لحظات السيدة ليز.. أنيقة في الستين من عمرها ممتلئة الجسد، متوسطة الطول ذات شعر أسود مجعّد. استقبلتني بابتسامة باهتة أو هكذا خلتها.. باهتة لأنّها تلوح من شفتين يبتسمان على بعد خطوات من القبور..
اقتادتني عبر ممر إلى المكتب لأخرج بعدئذ منها وأنا أملك مكانا أبقى فيه 99 عاما
قرن واحد فقط من تاريخ شرائي لا تاريخ موتي، لن أزرع جوانب القبر أو فوقه شأن قبور الدنمارك، أمّا الشاخصة فسيحفر عليها فنان الحفر على الصخر ما أرغب فيه بعد موتي!
عمري الآن خمسون عاما.. وستبقى الشاهدة في الخفاء ما دمت حيّا..
لو عشت 20 سنة فسأبقى في قبري الثاني 70 عاما
أفترض
ثمّ
بعد نصف قرن
قرن لا أعرف ماذا يفعلون بي
يلقون بآخر فوق رفاتي
أو
السيدة ليز تقول: لا نعرف أُذكِّرُكَ أن مبنى الدوار حيث هو الآن للتزلّج على الجليد كان مقبرة في الأساس.. قبل 99 عاما...
الرقم 99 في أوروبا يحتلّ القبور.. والسلع.. 99 بنس سعر علبة الشوكولاتة
6. 99 ربطة العنق
2. 99 سعر علبة المربى
الحذاء
السترة
ولدي أيضا رقم الأرضK2
أنا محظوظ جدّا سأبقى في مكاني تحت الأرض قرنا إلأ عاما أو بضع عام هذا إذا افترضت أنّي أموت في أقرب وقت.
***
السمفونيّة الثالثة
قارئة الشواهد3
لم تكن تحترف الفنجان من قبل...
كانت تصحب أيّ زبون إلى مقبرة المدينة تستعلم منه عن اسم امّه وعمره كما يفعل قارئ الفنجان أو الكف ثم تجعله يلمس بعض شواهد القبور فتخبره عمّا يخصّه من زمن ماكان وما يكون.
تدعي أن زمان الكفّ ولّى والفنجان أمّا مايخبرنا عن الماضي والمستقبل فهو شاهدة القبر وقد صدّقها كثيرون
أمّا قطعة الأرض الخاصة بي فمازالت تنتظر الشاخصة.
***
السيرة الثالثة
القبر الثالث
2003
يهمّني الرقم أعلاه كثيراً
فقد تمكّنت من زيارة أهلي أخيراً
بعد أن يئست
سمعت بسقوط بغداد
وبعد أن اشتريت قبرين
واحد لا أرغب في أن أدلف فيه
والآخر ينتظرني
أول ما فكرت أن أزور قبور اهلي والمدرسة الابتدائية لا تطلع في الصف والمقعد الاخير
ذهبت مع اخي الذي علمت منه ان المدرسة أصبحت جمعية خيرية فاصررت على رؤيتها بشكلها الجديد.
البوابة مغلقة، أمامها يقف حارس في الأربعين من عمره
قلت:
- أتعرف الفرق بين المدرسة والقبر؟
أجاب ضاحكا:
ا- لمدرسة تستقبلنا ونحن صغار، أما القبر فلا يهمّهبأيّ سنّ تكون.
قلت كلامك صحيح بعض الصحة لكن في الحقيقة المدرسة يمكن أن تخرج منها لكنك لا تغادر القبر
استهوته المقارنة، فعقّب:
- الغرب علّمك الفلسفة.
ثمّ
سرنا باتجاه المقبرة...
خيّل إليّ أنّ مدينتي كبرت بشكل مرعب، ولم أصدّق أنّ المقبرة نفسها اتسعت، وامتدّت بشكل يكاد لا ترى له العين نهاية، كنت قد زرتها قبل الهجرة. أودّع صديقا وقريبا، وقد وصلني نعي أبي وأمّي بعد هجرتي بسنوات... سرنا في العمق، وملنا عند مربّع كبيرا المساحة، توقف أخي، فطالعني وسط المربع قبران وشاخصتان
المرحوم....
المرحومة....
قال أخي، بنغمة ذات عمق حزين:
- اشترينا هذه المساحة لتخصّ العائلة
بدأنا نقرأ الفاتحة ولم أرفع عينيّ عن الشاخصتين، غير أنّي انزعجت من تشويه ظاهر أصاب قبر أبي، وكانت فطنة أخي تعقب دهشتي:
- القبر كان مبنيا من المرمر غير أن بعض اللصوص سطوا على المقبرة أيّام الحصار فاقتلعوه، وحين ماتت أمّي بنينا القبر بالطين.
وددت أن أظلّ بصمتي طويلا طويلا، ولم أصبر:
- ألا نعيد ترميمه من جديد؟
- الآن أصبحت المقابر أكثر أمانا في بالي ما تفكّر به وسأنفّذ فكرتي للقبرين يوما ما.
- آمل ألّا يطول الوقت!
واسترقتني نظرة خاطفة إلى بعض الزائرين الذين جاؤوا لموتاهم، فأبصرت سيدة تزيح شجرة عاقول عن قبر ثمّ تسكب سطلا من الماء عليه، فندمت لأنّي كدت أنسى قارئة الشواهد، فالتفتّ إلى أخي:
- هل تتذكّر قارئة الشواهد؟
فصعقته الدهشة:
- ما الذي ذكّرك بها؟ أووه ماتت من زمان.
- رحمها الله.
- مع الأسف لم أدعها لقراءة كفّي فتأخذني إلى إحدى الشواهد!
ردّ أخي مستنكرا:
- لو لم يكن للمكان هيبته لغرقت في الضحك!
في البيت بعد زيارة المقبرة أخذ الحديث طابعا آخر، وردت في ذهن أخي عدّة اقتراحات وجيهة وشاركته الرأي أختي التي تسكن مع زوجها على بعد خطوات من بيت أخي. لم ينسوا خلال الحديث فضلي في مساعدتهم زمن الحوار، لاسيما أنّي لم أكن أعيش على مساعدات البلديّة، وتوفّر لي مال كثير بعد أن عملت في نوتنغهام. اعتدت أن أحفظه في صندوق وديعة الوثائق في المصرف خشية من الضرائب والسراق الذين يداهمون البيوت، وتلخّصت الفكرة التي طرحها أخي في أن أفتتح مطعما في البلد.. مطعم على الكورنيش أقدّم في الأكلات الشرقيّة والغربيّة، مشروع مربح، مادامت نقودي حاضرة.
صفنت
فكرت
سرح بي الخيال قليلا لكنّ صوت أختي انتشلني من غيبوبتي الخفيفة:
- أليس هذا أفضل من أن تموت في الغربة وحدك أنت الآن في الخمسين إلحق نفسك.. إستقرّ وتزوّج... بدلا من أن تموت وحيدا...
ابتسمت ابتسامة باهتة فيها بعض البريق:
- لم تعد الغربة حقيقيّة، انتشر النت، والهواتف النقّالة.. يمكنني أن أعرف ما يجري في أيّة بقعة من العالم وكأنّني أعايش الأحداث، وأقدر أن أتصل بكم كلّ يوم أراكم وترتوني.
قال أخي:
- لن تخسر شيئا جرّب.
وردّت أختي:
- إذا لم يعجبك البلد تستطيع العودة إلى أوروبا.
لا أريد ان افرض نفسي على الاحداث سوى أنّي تركت للقدر نفسه بحلوه ومرّه أن يجري كما هو، كنت بحاجة للتأمّل وحدي، وتعجلت السّهرة أن تنفضّ من حولي سريعا حتّى أرقد على فراشي لأفكّر بالقبر الثالث، كلام أخي معقول، في حالة الدنمارك سعيت لشراء قبر بعد أن دفعتني إليه أصابع مقطوعة مشوّهة في حاوية أزبال، وفعلت الأمر نفسه في بريطانيا ظنّا منّي أنّ الوضع يظلّ كما هو عليه إلى الأبد، أمّا هنا في هذه المدينة التي تركتها قبل عقود فقد وجدت قبرا جاهزا ينتظرني:
المساحة نفسها
الطول
العرض
هو دعاني إليه
أفضّل أن يكون مكاني - إذا متّ - جنب أبي- بحكم كوني الأكبر-، أمّا أمّي فسترقد أختي جنبها، البنات والـأمّهات، وسرح بي الخيال بعيدا... بعيدا.. تساءلت هل كنا نجتمع ثانية لو أنّ أختي هاجرت إلى بلد، وأخي إلى بلد آخر، كيف تتوزّع القبور.
لكنّني
قبل كلّ شئ
وقبل أن أسرح في النوم:
اقتنعت بالفكرة.. قلت بصوت غير خافت:
- نعم لأجرّب لِمَ لا!
***
السمفونيّة الأخيرة
ثراء4
لأبي قبر في بغداد
أختي ماتت في كندا وأخي في سدني
أمي ترقد في كوبنهاغن
وأنا أدفن بعد مديد العمر بلندن
أيّ سحاب
يعبر أيّ بلاد يوما ما
سيصيب لنا قبرا
***
د. قصي الشيخ عسكر
....................
1- هي قصّة قصيرة ترجمتها إلى الإنكليزيّة ونشرتها في مجلّة Poetry الأمريكية وقد اخترتها مع قصة أخرى وشعر مقدمات سمفونيّة لهذه القصّة.
2 - من قصة لمحة لي منشورة
3- قصّة لمحة لي منشورة
4- من شعر منشور في ديواني (الديوان الرشيق)