نصوص أدبية

سعاد الراعي: الوداع الاخير

كان جنوب اليمن في تلك الحقبة نابضًا بالحياة، يعجّ بعقول لامعة ورفاق متّقدين فكرًا ونضالًا، جاءوا من العراق ومن واوروبا ودول أخرى بعد انهاء دراستهم وعقود عملهم، يحملون معهم مشاعل الأدب والفن والعلوم، ينسجون بخيوط الإبداع صفحة مشرقة من التبادل الثقافي والمعرفي. لم يكونوا مجرد زائرين عابرين، بل كانوا شركاء في الحلم، يغترفون من معين التجربة اليمنية، ويهبونها من عزمهم وجهدهم بسخاءٍ لا يعرف الحدود.
فوق الجدران العالية، ارتسمت الجداريات الخالدة، تنطق بالألوان والصور عن معاني التضامن والحرية. وعلى خشبات المسارح، تعالت أصوات الفنانين والشعراء، تحلق قصائدهم في فضاءات عدن، تلهب القلوب، وتبعث الأمل في أرواح المناضلين. لم تكن حناجرهم إلا انعكاسًا صادقًا لهذا التآخي، فكانت تتغنى بألحان الثورة والنضال، الجمهور اليمني يحفظ الأغاني من أول وهلة، وكأنها وُلدت من رحم هذه الأرض. ومن بين تلك الأغنيات التي لامست وجدان الناس وأصبحت نشيدًا يتردد في الشوارع والساحات، كانت أغنية الفنان أبو شمس "يا حبيبة يا عدن"، التي ردّدها حتى الأطفال ببراءتهم، وكأنهم يدركون في أعماقهم معنى حب الوطن.
لكن هذا التضامن لم يكن مجرّد احتفاء بالكلمة واللحن، بل كان موقفًا يتجذّر في الميدان. استجابت الحكومة اليمنية لنداء الحزب الشيوعي، وفتحت أبواب المعسكرات، حيث اجتمع الرفاق، لا ليحملوا القلم والريشة فحسب، بل وليحملوا السلاح أيضًا. هناك، في ساحات التدريب، تلاشت الفوارق بين المثقف والمقاتل، فالجميع كانوا جنودًا في معركة واحدة، معركة الحرية. وبعد أن اشتد عودهم، مضوا نحو كردستان، حيث كانت قوات البيشمركة تنتظرهم، فصيلًا مناضلًا يحمل على عاتقه مسؤولية التصدي للطاغية المستبد، في درب محفوف بالتضحيات، لكنهم ظلوا ممتلئين بالأمل في غدٍ لا مكان فيه للظلم والاستبداد.
استجاب معظم الرفيقات والرفاق لنداء الحزب بحماسة لا تعرف التردد والتحقوا بمعسكرات التدريب، حاملين على عاتقهم مسؤولية الكفاح ضد الظلم والطغيان الدكتاتوري في العراق، حتى أولئك الذين أنهكتهم السنون أو قهرتهم العلل لم يتراجعوا، بل أصرّوا بإرادة لا تلين على حمل السلاح، وكأن شوقهم للحرية منحهم قوة تتحدى الجسد وقيوده.
كان التدريب مكثفًا وقاسيًا، حيث تم اختزال مراحل طويلة في شهر ونصف الشهر فقط. التدريبات كانت تستمر ليلًا ونهارًا بلا هوادة، تحت لهيب شمس عدن الحارقة. كانت الرفيقات يختبرن صلابة عزيمتهن، فبعضهن كادت قسوته تستنزف طاقتهن، لكنهن مضين رغم الإرهاق، رغم الجراح الخفية التي لا تُرى. وفي زحمة التدريب وضيق الوقت، لم تغب لمحات من الحياة، فكانت النشاطات الفنية والاجتماعية تظهر بين الحين والآخر كفسحة ضوء وسط عتمة التحدي.
كانت هي وزوجها من بين أولئك الذين التحقوا بالمعسكر، لكنهما اضطرا إلى ترتيب أمر انضمامهما مراعاةً لطفلهما الصغير. التحق هو أولًا، رغم وطأة المرض الذي يثقل جسده، لكنها رأت في ذلك فرصة، ربما للتعافي، وربما للغرق أكثر في عالم النضال حيث الألم يصبح جزءًا من الرحلة، وحيث الأمل لا يموت مهما اشتد عليه الخناق.
كانت تجربة التدريب العسكري بالنسبة لها حدثًا استثنائيًا، لا يشبه أي تجربة سابقة مرت بها. فقد صقلت روحها، وأرهفت قدرتها على التحمل والصبر، وزرعت في داخلها إرادة لا تلين، وقوة مجابهة لا تعرف التراجع. كانت تدرك أن هذه التجربة لم تكن مجرد محطة عابرة، بل كانت اختبارًا للصلابة، وامتحانًا لقدرتها على التصدي للصعاب، وصراعًا بين الإيمان بالمبدأ والخذلان الذي يتسلل عبر النفوس الهشة.
في المعسكر، كانوا يمنحونهم إجازات قصيرة بين الحين والآخر لزيارة عوائلهم، لكنها لم تكن إجازات خالية من المنغصات. فقد كان هناك من يتقن فن التملق، ممن يكتبون التقارير، يقتنصون الكلمات، ويصيغون الوشايات. يتسللون إلى آذان المسؤولين طمعًا في مكاسبهم الشخصية، دون أن يعبأوا بآثار وشاياتهم على الآخرين، وقد لاحظت انها حين تصل إلى منزلها، تجد نفسها في مواجهة سيول من الأخبار عمّا جرى في المعسكر، صغيرها وكبيرها، حتى لتخال أنها لم تفارقه لحظة.
لكن شوقها الأكبر لم يكن إلا لذاك الصغير الذي تركته بعهدة والده. وحين أتيحت لها الفرصة أخيرًا لرؤيته، احتضنته بقلب يرتجف، وكأنها تعتذر عن غيابها القسري. رأت خطواته الأولى، لكنها لم تكن شاهدة على لحظة انطلاقها الأولى. تلك الخطوة التي خطاها بعيدًا عن عينيها، كانت كأنها انتزعت جزءًا من قلبها، وتركته معلقًا هناك، في الفراغ الذي خلفه غيابها. بكت بحرقة، ليس فقط لأنها فوّتت المشهد الأول، بل لأنها شعرت بعمق الغياب في تفاصيل صغيرة كان ينبغي أن تكون حاضرة فيها.
أما علاقتهما، فقد كانت تتهاوى يومًا بعد آخر. لم يكن هناك تغير ايجابي مرتقب، بل كان الجفاء يتمدد كظل بارد بينهما، يتسع بلا هوادة. وعندما صدر قرار التوجه إلى كردستان، كان ذلك بمثابة مفترق طريق حاسم. أرادت أن تكون إلى جانبه، أن تمضي معه في درب النضال الذي آمنا به، لكنها مُنعت بسبب مسؤوليتها عن طفلهما. لم يعترض، لم يلتفت إلى هذا الحرمان الذي فرض عليها، بل مضى بعزيمة صلبة، كأنه كان مستعدًا للمضي قدمًا دون أن يترك شيئًا خلفه ليندم عليه.
كان يخفي آلامه، كما يخفي الجراح التي أثخنت روحه، لا يريد أن يظهر ضعفه حتى أمامها، وهي أقرب الناس إليه. مضى، يحمل في صدره قناعة لا تتزعزع، وإصرارًا لا يعرف الوهن، تاركًا خلفه قلبًا مثقلًا بالفقد، وأمًا لم تزل تتلمس آثار خطوات طفلها الأولى، محاولة أن تعوض لحظة سُرقت منها، كما سُرقت منها أشياء كثيرة أخرى.
كانت البيوت تضجّ بأنفاس الوداع، موائد الطعام الأخيرة تُمَدّ بقلوبٍ مرتجفة، تَعِدُ المسافرين بالأمل وتُخفي في زواياها خوف الفقدان. عوائل الرفاق اجتمعت لتودّع أعزاءها، رجالًا قرروا أن يهبوا أرواحهم لقضيةٍ سامية. كان كل قلبٍ معلّقًا بين مشاعر الحزن والخوف، وبين الاعتزاز والفخر. أما الأطفال، فقد التصقوا بآبائهم كما لو أن عناقهم الأخير قد يمدّ الأيام ببعض الحنان المؤجل، وكأنهم يريدون أن يختزنوا رائحتهم، أنفاسهم، دفئهم، أصواتهم، قبل أن يبتلعهم الغياب.
وبينما كانت كل عائلة تنفرد بوداعها الأخير، تقتنص لحظاتها الثمينة التي ستُحفر في الذاكرة إلى الأبد، كانت هي تقف هناك، على هامش اللحظة، مُثقلة بروحٍ لم تجد نصيبها من هذا الطقس الإنساني العميق. لم يكن لها وداع، لم تكن لها حتى نظرة أخيرة تُشبع ظمأ عينيها إلى وجهه. لم تحظَ حتى ولو بكلمة تليق بوداع الغرباء، لم يلتفت، لم يُعطها حتى تلك اللمحة العابرة التي تمنحها وهْمَ البقاء في ذاكرته. ظلّت واقفة هناك، تتساءل بين الدموع المنهمرة: هل كان ذلك مقصودًا؟ هل كان يقول لها، بصمته القاتل، إنكِ لا تستحقين حتى كلمة وداع؟
بخطواتٍ متثاقلة، حملت دلو الماء، وسكبته خلفه، كما كانت تفعل والدتها حين كان والدها يغادر، اعتقادًا منها بأن الماء المسكوب يُعيد المغادرين سالمين. لكن أيّ ماءٍ هذا الذي يستطيع أن يعيد من لم يكن لها يومًا؟ أيّ ماءٍ هذا الذي قد يطفئ نار الأسئلة المتقدة في قلبها؟
عادت إلى دارها، وأغلقت باب غرفتها، ثم انهارت في بكاءٍ عاصف، شهقاتها كانت أقرب للصراخ، كأنها تحاول اقتلاع حزنٍ تجذّر في أعماقها. أغمضت عينيها، لتستعيد في ذهنها صورته الأخيرة، خطواته المتباطئة، ذلك التردد الذي لاح على وجهه، تلك الحيرة الموجعة التي تركها خلفه كسكينٍ مغروس في خاصرتها. رحل وهو يحمل ألف سؤال، لكنه ترك لها أضعافها، تركها غارقةً في متاهة من الشكوك والجروح التي لن تندمل، مهما حال بينها وبين الزمن سدودٌ وجبال.
لماذا؟ لماذا كل هذا الجفاء؟ لماذا تركها تحترق بأسئلتها دون أن يمنحها حتى حقّ المعرفة؟ ألم يكن الحب يستحق كلمة أخيرة، تفسيرًا، حتى لو كان فراقًا قاسيًا؟ أكان يكرهها بقدر ما أحبته، فلماذا لم يقلها بصريح العبارة؟ لماذا لم يمنحها وضوحًا كان سيخفف عنها هذا العذاب القاتل؟
كم تمنت أن يكون بينهما حديثٌ أخير، حديثٌ يضع النقاط على الحروف، يحررهما من هذا الأسر، يترك كلًّا منهما يُلملم روحه المبعثرة، ويمضي بطريقه. حتى لو كان الحديث يفضي إلى الافتراق، حتى لو كان الانفصال هو النهاية، فقد كان ذلك أهون من هذا الفراغ الذي تركه في قلبها، من هذا الوجع الذي ينهشها بلا رحمة، من هذا العشق المصلوب على جدران الصمت، بلا إجابة، بلا مخرج، بلا نهاية واضحة سوى الألم.
***
سعاد الراعي

 

في نصوص اليوم