نصوص أدبية

عبد الباقي قربوعه: معمودية الثّلج

آخر اللّوحات المفقودة لدافينشي

في حين كنت منتبها إلى ابن الهيثم وهو يشرح نظريته، كان السّياح من الوهلة الأولى اتفقوا بالإجماع على أنني مجنون رسمي، هكذا التبستُ لهم في هذا الجسد المتواضع وأنا أرفع أصبعي كالتلميذ من حين إلى آخر، مرة لدافينشي ومرة أخرى لابن الهيثم، وكلما استوعبت فكرة وتمكّنت من فهمها صفّقت، وحين أحاط بي العقلاء حملت عقلي في جمجمتي وتوغّلت به في أعماق فلورنسا، فعلت ذلك لأتجنب اكتظاظ شياطين الإنس والجن، قلت حتى أتمكّن وحدي من دخول القصور والمعابد القديمة، فأجلس بين الكهنة وأستمع إلى ما يقولونه لأتعرف على مزيد من الأسرار، رأيت الكهنة يأتون بالأخبار من مصادر كثيرة ثم يدّعون بأنها ستحدث في المستقبل، سمعت مكالمة هاتفية أجراها أحد الكهنة مع مرصد الأحوال الجوية، أخبره بأن الطّقس غدا ليس على ما يُرام، وأن الثّلوج ستعيق سير السيارات، وعلى السائقين أن يلغوا رحلاتهم، فشكره ثم أذاع هذا الكاهن الخبر في محرابه بطريقة ميتافيزيقية ولم يذكر المصدر.
أصبحت فلورنسا مختبئة بين جناحي برنس أبيض، فلا ترى سوى شموخ صوامعها وقصورها، وأنا جائع بارد بدت لي شيخا يخبئ في جيوبه الحلوى، لم يفارق أحدٌ فراشه ذلك اليوم، انهمكوا جميعا يتلذّذون دفء الأغطية الصوفية، يستحضرون صورة ذلك الكاهن، كأن الرّب هو الذي كان يحدّثهم ليلة البارحة وليس بشرا مثلهم. ولأنني قرأت في عيني دافينشي حُرقة الحرمان من ماء المعمودية رحت أجزم له بأن الثّلج أطهر بكثير، فانهمك ينحت نفسه بالثلج، ضحكت كثيرا لأني رأيت رأسه الأشيب قد تلاشى، لم يبق منه شيء سوى جبهته وعينيه وأنفه وخدّيه وشفتيه، فجأة وقف ابن الهيثم بجانبي وقد عرف ما يشغل ذهني:
- لأن البياض يا صديقي عاكس للضوء بسرعة أكثر مقارنة بجميع الألوان، ومنه ننطلق اعتقادا بأنه اللون الأكثر براءة ورمزية للسلام والمثالية، فنقول عادة إن ذلك الشخص قلبه أبيض مع أنه أحمر، ومرّة نتخذ منه رمزية للفرح والعذرية في ثوب العروس، ومرة أخرى رمزية للحياة عندما نُقمّط به الطفل المولود حديثا، وكم يهون علينا فراق المتوفّى حينما نتخذ له من البياض كفنا وشفقة عليه نحمل على ظهورنا خطاياه، لذلك كل موضوع يغلب عليه البياض يكون في متناول البصر بأكثر سهولة من الألوان الأخرى، إنه اللون الأكثر تواجدا في المواقف المثيرة، ومن السهل أن نرى في الظلام شخصا يرتدي لونا أبيض، بينما يصعب علينا الأمر إذا كان يرتدي ثوبا بلون آخر، لذلك تُركز شرطة البحث عن لون لباس الشخص المفقود، وبعكس ذلك يختار المحاربون المشاة ألبسة بلون الطبيعة التي تحيط بهم، لهذا كان دافينشي مفقودا في لوحة أنغياري.
بذلك يكون دافينشي أول من اخترع لعبة التمويه باللون، ولهذا السبب اكتفى بصرك بلون جبهته وعينيه وخدّيه وشفتيه، وأهمل شَعر رأسه ولحيته وشاربه وحاجبيه، لأن كل ذلك ملامح جانبية قد اندمجت مع اللون الغالب وهو لون الثلج، فلا نحتاج إليها في تحرّياتنا الفنية أو الأمنية، لأنها مشتركة بين الناس ويمكن الاجتهاد لإضافتها أو حذفها، وتعتبرها التحرّيات البوليسية أدوات للتزوير، ولا يختلف الأمر إن كان شعر دافينشي أسود أو بلون آخر، فعموم البياض كفيل بإتلاف الهوامش الزائدة عن الحاجة إلى الفهم أو بإيضاحها بدقّة أعلى، فما علينا حيال هذه اللعبة إلّا النظر إلى المواضيع بأبصار سليمة.
راح ابن الهيثم يشرح كيف يكتشف البصر المواضيع ويتناولها روحيا ارتباطا بالطبيعة، في حين اكتفى دافينشي بنصاعة البياض كخلفية تقليدية مطروحة طواعية للرسم والكتابة، وغالبا ما يكون خلفية لهما حرصا على بروز الموضوع ووضوحه، وأشار إلى أنه كذلك ناجع لعرض الأفلام السينمائية، قال تجنّبا لخلفية قد تشوّش على ملامح الموضوع الرئيسي، وعندما أخبرته بأن الخلفية البيضاء صارت تعتمد عليها المؤسسات الحديثة لضبط ملامح هوية الأشخاص في الوثائق الإلكترونية، ابتهج كثيرا واعتبر المعلومة مهمة جدّا، ثم ابتسم وشكرني، وبدلا من أن يواصل رسم رأسه على الثلج حمل حفنة والتفت إليه وهو يضحك:
- ههههه هذا هو رأسي لا تنقص إلّا جبهتي وعيناي وخدّاي وشفتاي، أو إن شئت فكل هذه المساحة البيضاء هي شعري، فأكمل عليها ما حدّده بصرك كملامح رئيسية، أسرع قبل أن تطلع الشمس وإلّا ضاعت هذه اللوحة كما ضاعت قبلها لوحات كثيرة.
قال لي ذلك وانهمك يرسم على الثلج، أمّا ابن الهيثم فقد شعر كأني لم أستوعب فكرة دافينشي:
- اعلم يا صديقي أن البياض أكثر لطافة على البصر، وهو أكثر إلحاحا على الذاكرة وأسهل للتخيّل، بخلاف اللون الأحمر مثلا، وهو أيضا الأقل شراهة للأشعة من اللّون الأسود، والأسرع انتشارا في خلايا المخ لذلك يبدو النظر إلى الثلج مريحا.
يا صديقي إن اللوحة التي يطغى عليها البياض تكون أكثر برودة، لذلك نحتاج إلى رؤيتها صيفا، بينما لا نشعر اتجاهها بأي ارتباط شتاءً، في حين نشعر بالقلق كلّما غلب على اللوحة اللّون الأسود، وبالدفء إذا غلب عليها الأحمر المتدرج إلى البرتقالي ومنه إلى الأصفر، أما الأسود فليس دائما للحزن والكآبة، بل أحيانا نهتدي به إلى السكينة هربا من مساحة البياض، حيث مشقّة العمل وعناء الأسفار، وهذا هو سر ارتباط البصر بلوحة الموناليزا ولوحة حداد جميل، إذن دافينشي رسم هاتين اللوحتين ليتناولهما البصر بهذين الأثرين المتناقضين، فمثلا لوحة الموناليزا لا تساوي شيئا عند المصابين بعمى أحد الألوان الثلاثة، في حين تبدو اللوحة التي تُظهر وجه دافينشي على الثلج رائعة حتى وإن تركها منقوصة، أو أذابتها الشمس فيما بعد، لأن البصر سيقفز قفزته ويكمل اللوحة من مخزون ما خطفه من ملامح الهدف في وقت سابق، بعكس ما يجد البصر من صعوبة في لوحة العشاء الأخير ولوحة معركة أنغياري.
لم ينه دافينشي رسم لوحته ولم يسمّها أيضا وتباطأ كعادته، بل تركها منقوصة ومضى، فعل ذلك لأنه كان قد دنا بأذنه ناحيتنا تنصّتا لنظرية ابن الهيثم، وحين اقتربت من اللّوحة لم يمنعني أحدٌ كما حدث للآخرين، فقد رأيت جمهورا لا حدّ له يتدافع ليرى ما الذي رسمه دافينشي، كدنا نصاب باختناق لو لا تدخل الشرطة، اللوحة سرقتها الشمس والتقرير الأمني أكد أنها مفقودة.
التفتُ يمينا فوجدت ابن الهيثم يضحك:
- ههههه لا حلّ أمامك يا صديقي إلاّ البحث عنها في بصيرتك!
أهمل تلك الجماهير الغفيرة وواصل حديثه معي:
- لهذا السبب ترك دافينشي لوحات كثيرة دون اكتمال، حيث تفاقمت الشيفرات أكثر من اللوحات التي استوفى فيها جميع لمساته، النظرية تؤكد أن الذين قاموا بالسّطو على اللوحات المفقودة هم أغبى البشر على الإطلاق، لذلك عثرت عليهم التحرّيات الفنّية بسهولة، لأن البصيرة أبلغ شاهد على أن اللوحات لدافينشي وليست لغيره، فاللوحات المنقوصة ما هي إلا تمارين تركها ليستكملها تلاميذه، وهو يعرف أنهم لن يحيدوا عن أفكاره، ويدرك أيضا أنه لن يستغني أحدٌ عن عقله الجبار، فلم يكن لديه ولهٌ بالشهرة على قدر ما كان حريصا على ترسيم مدرسته للأجيال القادمة، وهذا يدل أنه معلّم قبل أن يكون رسّاما، وذلك من أعظم الأسرار التي غرسها في أبصار مَن عاصره مِن تلاميذه ومَن لم يعاصره، السر يا صديقي أنه استطاع أن يدس عقله في كل جماجم تلاميذه.
عندما خَلت ساحة الكاتدرائية من السيّاح والعابرين، طلب منّي ابن الهيثم أن أغمض عيني وأغلقهما غلقا محكما، بعد دقائق طلب مني أن أتجه ببصري ناحية الحائط، ولما فعلت طلب مني فتحهما:
- ماذا ترى الآن؟
- إني أرى لوحة دافينشي التي رسمها على الثلج منذ قليل، نعم إنّي أراها مكتملة وواضحة تماما.
أخبرني أنها مخبوءة في أذهانهم جميعا ولكنهم لا يبصرون، فأثبت ابن الهيثم أن البصر مخبر كيميائي يحتوي على جميع وسائل إعادة إحياء الصورة السالبة في أخيلتنا، هكذا تعلّمت كيف أُرجِع وأراجِع بصري كما علّمني ابن الهيثم، فرحت أستغل هذه القدرة الرهيبة كلّما أردت استرجاع منظر من مناظر هذا الكون الجميل! بينما نحن نتحدث إذ بدافينشي على مسافة غير بعيدة من حيث نقف يمسح جسده بالثلج ويردّد أمام الملأ:
- الثّلج أطهر، الثّلج أطهر!
وسرعان ما اختلط شَعر لحيته ورأسه ببياض الثلج، ظل يفعل ذلك ويناشدني أن أفعل مثله، اغتسلنا معا ثم تركَنا ومضى، وهو يختفي تدريجيا كان يلَوّح بيده يذكرني بضرورة اللّقاء مرة أخرى، يمشي وكلما حرّك يده رسم بيني وبينه ألوان الطّيف واستمر في ذلك حتى اختفى، لكن ابن الهيثم شدّ على يدي بخصوص مطلق طهارة الثلج، راح يؤكد أن الفقهاء يجهلون علاقته بطهارة البصر.
أبصرت أمامي فرأيت فلورنسا مغطاة ببساط أبيض ناصع، بدت لي مَرّة طفلا يحلم بما لم يخطر ببال أطفال العالم، ومَرّة شيخا هضم تجارب السنين وهاهو الآن مطمئن يتوسّد ذكرياته العظيمة!
مع شروق جديد قامت فلورنسا تبحث عن منشفة، فتمثّلتْ أمامي مريم العذراء قد تماثَلت للقيام من نفاسها المقدّس وهي الآن تتأهب لإقامة الصلاة، وأنا أمشي متثاقل الخطى وضع دافينشي يده على كتفي:
- عليك أن تتأمل تمثال داود بطريقة مختلفة عن الآخرين، عليك أن تهمل كل شيء من حولك وحوله، وأن تغوص مثله في الاتجاه الذي يتطلّع إليه، وعليك أيضا ألّا تتوه عن الهدف بين قِباب وقصور فلورنسا، فإذا استعطت أن تفعل ذلك فإنك ستراه بخلاف ما يراه الناس، ستراه يا صديقي متأهبا لأداء مهمة يتحسّب لتنفيذها أمرا إلهيا في أية لحظة، احرص فإنه أهم سحر في التمثال واحذر فلا يجب أن يسحقك بضخامة جسده وقوّة شخصيته، وربما تعدل عن الاستمرار في التطلّع معه إلى الهدف بدقّة، معظم المشاهدين يجهلون أسرار ارتباطهم بهذا الجذب المُقدّس.
***
عبد الباقي قربوعه – الجزائر.

في نصوص اليوم