نصوص أدبية

مريم عبد الجواد: ذاك الّذي في الدّاخل

أيّ حرب خاسرة يخوضها الانسان؟
أي شتات خلق منه هذا الكائن المختنق المتخبّط في رماد ثوبه المقدس وكم ستخدعنا أنفسنا بعد؟
سخرية مقيتة أن يسكن المرء مع عدوّه في ذات الجسد
أن يحمل نقيضه في داخله كجنين يأبى أن يُجهض..
نمت وأنا أجترّ أفكاري بمرارة..
في تلك الليلة راودني حلم أنّني أعمى أو ربّما كنت محبوسا في باطن الأرض. تجمدت أطرافي وتسلل برد جارح الى داخلي يضغط على أحشائي ويمزقها ثم صعد كالسهم نحو رأسي حيث يكمن ذاك المرض الخبيث الذي عانيت منه منذ طفولتي،
عقلي.
كنت مذعورا من الظلمة الحالكة التي تداعب وجهي وتغرقه في أحضانها كعاشقة متملّكة. خطر لي أن أقوم بحركات عشوائية كي أعرف ما اذا بقي شيء من الحياة في هذا الجسد لكنني تفاجأت أنني أتحرك حركة عشوائية غير تلك التي اعتزمت القيام بها..
حاولت الاستناد الى المنطق كعادتي دائما غير أنني شعرت أن كل فكرة اجمّعها بعناء تهوي مدوّية كأنها قارورة زجاجيّة.. أمسكت برأسي كي أحد من الضجيج الذي سببه هذا السقوط..كم أتمنى أن يصالحني يوما هذا العقل كم عانيت كي نتّحد وكم أهلكني..
هدأ روعي بعد صمت ساد طويلا بيني وبين نفسي. كنت أثبت نظري في الفراغ محاولا تجزيئه علّني أخفًف من شموليّته المخيفة. "على الأقل لا نور هنا" قلت في نفسي قبل أن أنتبه الى غرابة ما صرّحت به.
اه، نعم لا نور ينبعث فجأة من قلب هذا السّواد ليتلاعب بأملي ويسخر منه. كنت غارقا في الظّلام حتى اعتقدت أنني متماهٍ معه تماما..جميل هذا التناغم بل رائع أن أحظى ببعض السّكينة دون أن تتداخل الأشياء وتتعقّد من تلقاء نفسها..فقط أنا وظلام دامس، كلانا فارغ وكلانا مستعدّ لعناق سرمديّ تنتهي فيه الأشكال ومسمّياتها..
شعرت أن هذه الظّلمة قد حرّرت بصيرتي وجعلتني اشفق على رجل الدين وأنا أراه يغرق في كرسيّه الذّهبي تدريجيّا وأغفر لذلك الدّاعية السّياسي وأنا أشاهد لسانه يطلق فحيحا خافتا قبل أن يلتفّ بعنف حول عنقه كما لبثت بعضا من الزّمن أراقب أرضا كريمة جادت بكلّ ما تملك من خيرات بها قوم يحملون أوعيتهم الفارغة وهم يربطون أحزمة جلديّة على بطونهم الخاوية وكلّما امتدّت يد أحدهم الى الطّعام هاج القوم وشرعوا بتكسير الأوعية على رؤوس بعضهم حتى لتظنّهم قردة أو صنفا غريبا لا يمكن ان يكون بشريّا..
عادت المشاهد تتغيّر بسرعة حتّى توقفت عند طفل لا يتعدّى السّادسة. كان يقبع وحيدا في زاوية لا تكاد تتّسع له. بدا مضطربا وخائفا وكانت كلماته تختنق رعبا في حلقه.. وجدتني فجأة أرتعش غضبا امام بكائه الصّامت ثم سلّمت نفسي لنحيب هستيري طويل، نحيب شعرت معه أن قلبي قد ينشقّ في اي لحظة من شدّة الانفعال. انصهرت بجميع جوارحي في ذلك البكاء الأليم حتى شعرت أنّني أنسلخ بشدّة وأرتطم ارتطاما عنيفا بسطح الأرض وصوت عميق يصيح بي" حرّر هذا الطفل من معاناته وستتحرّر بدورك، لن تغفر وانت لازلت تغتسل بدموعه"
استيقظت فزعا من هذا الحلم الغريب وقد تبين لي أنني كنت ابكي بكاء حارقا لفترة طويلة. بعد قليل كنت أستعيد مشاهدا ممّا رأيته في الحلم وأنا اجلس في مكتبي الذي بدا لي فجأة أشبه بقبر أدفن فيه سنوات عمري، غير أنّه قبر مضيء ومرفّه الى درجة ما.
***
بقلم: مريم عبد الجواد

في نصوص اليوم