ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

تأليف: جون سوكول

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

شعر وارين بيد ناعمة لينة تطرق أذنه اليمنى ونقرة ملحة ولكن خفيفة من إصبع فوق أذنه الأخري، قالت السيدة الشابة وهي تربت جانب وجهه:

- سيدى؟ هذا يكفي الآن. من فضلك. بدأ الناس ينظرون نحونا.

رد وارين وهو يرفع رأسه عن البطن المنتفخ:

- أوه، آسف.. اغفري لي.. لكن ذلك شعور جميل. شكرًا كثيرًا لك.

في طريق عودته إلى الاستوديو الخاص به، جلس وارين بجوار امرأة حامل في الحافلة. كان قد سألها بهدوء إذا ما كان يمكن أن ينصت إلى الحياة فى داخلها وقال: "زوجتي على وشك أن تلد طفلًا أيضًا " مقدمًا مبرره لطلب مثل هذا الفضل. وعندما وجدت الجد في نظره وافقت أن تسمح له بأن يضع رأسه فوق بطنها للحظة. وكالعادة تجاوز وارين الحد المسموح له، لذلك كان صحيحًا أن الناس قد بدأوا في النظر نحوهما.

عندما نهضت المرأة لتنزل في محطتها قال وارين:

- شكرًا مرة أخرى.

ابتسمت له متفهمة، ولوحت بيديها بخفة كما لو كانت تقول له "لا تشر إلى هذا مرة أخرى " ثم التفتت نحو النافذة، خطر لوارين أنها قد خجلت.

مبتهجا مشي وارين قدر بنايتين إلى مرسمه، وعندما وصل إلى هناك، توجه إلى جهاز التدفئة، ورفع درجة الحرارة، فبعد أقل من ساعة ستصل الموديل الجديدة، لذلك يجب أن يكون االدور العلوى دافئًا، فقد كانت الموديلات يصررن على ذلك.

وضع الماء من أجل إعداد القهوة، وأدار جهاز الكاسيت، وضع إسطوانة مخدوشة على القرص الدوار، كان وارين يستمع كثيرًا إلى موسيقى برامرز فى تلك الأيام .

عندما غلى الماء، أعد القهوة، شم رائحتها وفكر في نفسه.كيف يبدو الشىء الملموس الصغير عندما يكون لدى المرء شىء يتشوق إليه، شىء يعيش من اجله، حمل قهوته إلى مقعده القديم بجوار النافذة المغطاة بالستائر وخزانة الكتب غير المرتبة، جلس وانتظر وصول الموديل.

بعد أن انتهى من شرب القهوة، أعد الكنفاه وجهز مكان وقوف الموديل، لكنه في البداية نظر إلى عناوين الكتب على الرفوف، ووجد الكتاب الذي يريده. انتزعه والتفت إلى اسكتشات دافنشي لجنين فى الرحم، تأمل جنينا لم يولد ملتفا داخل رحم مظلم. بدا الشكل البشرى الصغير فى الرسم مثل نسخة نائمة من تمثال المفكر للنحات الفرنسى أوجست رودان (برأسه  الضخم بين ركبتيه) متأملا بداية الحياة. وقد جعلت الاوردة المتدلية الملتفة حول التجويف الأسطورى للجنين وارين يفكر في قشرة الجوز المتعرجة.

قام وارين بعد ذلك بتقليب الصفحات ليصل إلى تصوير دافنشى: تصوير الجماع ودراسات أخرى، تأمل الرسومات التشريحية، الرسومات عميقة ومفيدة: شفاه وعيون من نماذج تم تشريحها مرسومة بإتقان. ثم شعر وارين بانقباض فى الصدر بسبب الرهبة التى شعر بها فى حضور مثل هذا الفنان العظيم (على الرغم من نبذ رسوماته مرات عديدة)، وأرجع وارين أن هذا الشعور بالانقباض إلى إدراكه أنه لن يكون أبدا فى نفس المستوى بلوحاته غير الكتملة وبقعه الموحلة وأشكاله المنسية التى لطخت بشكل عشوائى على القماش. حاول عدم التمادى فى الحديث عن أدائه المتوسط، بعد كل هذا، كان مازال فى البديات، وعندما فكر فى مثل هذه الأمور أيب بالاكتئاب، لم يستغرق الأمر كثير وقت لإحباطه.

سرعان، ما كان هناك طرق على الباب، نحى وارين الكتاب جانبًا، وابتلع بقايا القهوة التى في الكوب، وأسرع يفتح الباب.

- مرحبًا

قالت المرأة الشابة ذات البطن الكبير، فقال وارين:

- مرحبًا، ادخلي.. ادخلي.

كان قد طلب من وكيل الموديلات، في وسط المدينة أن يرسل إليه امرأة شابة حاملا. وقد فعل حقًا، إنها تامة، لم تكن مجرد حامل، لقد كانت حاملا جدًا، على الأقل ثمانية أشهر.

- الناس في الوكالة يقولون أنك تريد موديل حامل.. حامل حقيقة، يقولون،  لذلك أنا هنا. لا أستطيع أن أصدق هذا، أنا لم أعمل منذ الشهر الثاني من حملي. لقد تصورت أنني لن أعود للعمل إلا بعد أن أضع طفلي، لكن الوكيل اتصل بي وقال مرحبًا ليندا هناك هذا الفنان الذي يحتاج إلى موديل حامل، حامل جدًا، هل أنت مستعدة ؟ لذلك قلت " أكيد لم  لا؟" هل تريد دائمًا أن ترسم الموديلات الحوامل؟

قالت المرأة الشابة ذلك ونظرت إلى وارن بابتسامة ساخرة،ابتسامة متكلفة تقريبًا.

قال وارين:

- حسنًا، في الواقع، أرسم أفكارًا تجريدية، لكن، كما ترى زوجتي حامل وأردت العودة إلى موديل حي مرة أخرى. لم أرسم موديلًا منذ أن كنت في المدرسة. أحب أن أرسم بعض الصور والرسومات لزوجتي عندما تحمل. وخلال مراحل الحمل المختلفة كما تعلمين؟ لكني فكرت أنه من الأفضل أن أتدرب مسبقًا، أعتقد أن هذا مهمًا، أقصد أعتقد أنه مهم لي كفنان. لكي أرسم زوجتي عندما تحمل. أقصد، حتى لو بقيت في العادة تجريدياً. هذه مناسبة خاصة ألا تعتقدين ذلك؟

قالت المرأة الشابة:

- حسنًا، إذا قلت ذلك. عمل الموديل وهو مجرد عمل بالنسبة لي. وأنا وزوجي بالتأكيد بحاجة إلى المال. لم يطلنى أحد للعمل منذ أن كنت حاملاً، فيما عداك بالطبع، أنا لا أشكو، لا تفهمني خطأ. إن هذا مجرد شيء قليل خارج المألوف، هذا كل ما في الأمر، لكن لكل واحد ذوقه الخاص، أليس كذلك؟

قال وارين:

- الحمام هناك.. يمكنك أن تستخدميه كغرفة تبديل الملابس؟

قالت ليندا:

- أكيد، حسنًا، إذا كنت جاهزًا للعمل، أخلع ملابسي حالًا، وعندما أخرج يمكنك أن تخبرني بما تريد.

قال وارين:

- لا بأس.

وأخذ منها معطفها وعلقه فوق شماعة حائط بجوار الباب.

بينما تخلع ليندا ملابسها، جهز وارين طبق ألوانه ومزج نصف دائرة من الألوان فوق قطعة خشب قديمة.

سرعان ما خرجت ليندا عارية من الحمام وقالت:

- حسنا.. أين تريدني؟

قال وارين وهو يشير إلى منضدة الموديل.

- على اليمين هنا. دعينا نرى. دعينا نجرب وضعية جلوس سهلة ولطيفة، كبداية.

جلست ليندا على منصة من الخشب الفينير وقالت وهي تنظر إلى وارين:

- أهكذا؟

أجاب وارين:

- أوه،.. حسنًا.

ثم ذهب إليها ووضع كلتا يديه على العروق الزرقاء المستديرة في محيط بطن ليندا، وحاول أن يلاطف بشهوة البطن المنتفخ، لذلك ارتفع ببطء بطن ليندا إلى المنتصف، عندئذ قالت وهي تؤكد على مخرج كل حرف في كلماتها:

- انتظر فقط دقيقة.

أجاب وارين في براءة:

- ما الخطأ ؟

- أنت – أكرر – لا يسمح لك بلمسي، أتفهم النزاهة والتفانى وكل ذلك، لكن  قواعد   الوكالة تقول " أن الفنان لا يلمس الموديل" إذا كنت تريديني أن أجلس بطريقة معينة، عليك فقط أن تشير بيديك، بهذه الطريقة اوتلك الطريقة، حتى أفهمها. هل فهمت ذلك؟

- ليندا. أنا آسف جدا، أعتذر، أؤكد لك أنني لم أقصد أية إساءة.

قالت ليندا:

- أنا متأكدة من أنك لم تفعل ولكن، للرجوع إليها في المستقبل....

- حسنًا، حسنًا، هذا جيد. تمامًا كما أنت، إذن. ذلك تمام..

عندئذ رفعت ليندا رأسها وابتسمت كما لو كانت تعرف طوال الوقت أفضل وضع لوارن.

خلال الساعتين التاليتين، تراجع وارين مرات عديدة عن الكنافاه لفحص عمله اليدوي، تمشى مرات عديدة لدراسة بطن ليندا من جميع وجهات النظر الممكنة، أخيرًا قالت ليندا:

- حسنًا، انتهى الوقت. لا أستطيع أن أقف فوق الساعتين. دعنا نرى ماذا ستدفع؟"

قالت ذلك ومشت إلى الكنافاه حاملة روبها. لف وارين شعر الفرشة الخشن في قماشة الورق الموحلة وانتظر رأي ليندا. حدقت ليندا إلى العلامات القليلة والبقع التي وضعها وارين على الكنافاه ونظرت بسماجة إلى النقاط واللطخات كما لو كانت تشكل جزءًا من خريطة سرية.

قالت:

- ما هذا؟

- أوه، ذلك فقط تحت الرسم، هذه الكنافاه تحتاج إلى العديد من ساعات العمل قبل أن تصبح مثلك.

- آمل ذلك.

قالت ليندا ذلك وأسرعت نحو الحمام لكي ترتدي ملابسها.

بمجرد أن غادرت ليندا المكان نحى وراين ألوانه جانبا، ونظف فرشاته في زيت التربنتين والصابون والماء، ثم اندفع ليلحق بالحافلة إلى المركز المجتمعي. حيث يبدأ فصله الدراسي في تعلم الطبخ عند الساعة الثانية. وكانت هذه حصته الأولى، ولا يريد أن يفوته أي شيء.

عرف وارين أنه كان هاويا غير محترف، دائمًا ما يندفع ويقوم بعمل جديد متصورًا أنه المناسب، ثم يتخلى عنه، لهذا كان متوسطًا في العديد من الأشياء، وليس جيدًا في أي واحدة منها، لكن تلك كانت طريقته، لا جدال في ذلك، هكذا فكر في نفسه.

في المركز المجتمعي اكتشف أن الفصل صغير، حوالي ثمانية أو تسعة أفراد، كلهن من النساء بما فيهن المدربة.

عندما انتهى التدريب، جمع كل فرد متعلقاته الشخصية، وارتدى معطفه وغادر الغرفة فيما عدا امرأة بقيت هناك في آخر القاعة، كانت تحمل طفلًا رضيعًا فوق ذراعيها، جلست في المقعد كما لو كانت تخطط للبقاء لفترة من الوقت، كان وارين قد لاحظها من قبل. الآن صمم أن يحصل على نظرة أفضل، عاد وارين إلى الخلف كما لو كان في طريقه إلى المغادرة، تجاوزته المدربة تاركة إياه وحده مع المرأة والطفل، اقترب وارين من المرأة فى خجل، وسألها:

- أيمكنني أن أجلس.

قالت:

- بالطبع.

- أوه، إنه لطيف.

صححت:

- إنها

قال وارين:

- آه إنها لطيفة، ما اسمها؟

أجابت المرأة بفخر:

- أليسون. أتمت أربعة شهور الأسبوع الماضي.

سأل وارين وهو يدرك مدى حرجه:

- لماذا تنتظرين هنا؟

أجابت المرأة:

- حسنًا.

ثم أضافت وهي ترفع رقبتها لترى الباب:

- فكرت أن أنتظر حتى يغادر الجميع، ثم أرضعها قبل رحلة الحافلة الطويلة إلى المنزل، فعندما يجوع الأطفال لا يحبون أن ينتظروا.

قال وارين بحماس:

- أتنوين أن ترضعيها؟ أوه، هل تعقتدين.. حسناً، هل تعتقدين أن باستطاعتي أن أشاهد؟ أعرف أن ذلك يعد تعديًا على خصوصيتك، إذا كنت لا تمانعين .. أتعرفين، النساء في أوروبا والبلدان الأخرى يرضعون أطفالهم في الأماكن العامة بشكل طبيعي، إنه فقط نحن الأمريكان نتكلف الحياء والحشمة في مثل هذه الأشياء،   سبب سؤالي هو أن زوجتي ستنجب طفلاً، وحسناً، إذا...

توقف للحظة ثم أضاف.

- إذا كنت ترين أنه من الأفضل أن أمشي فأنا أتفهم ذلك.

- لا لا، ابق. لا بأس أعتقد أنني أعرف شعورك. زوجي كان له نفس الأسلوب وأنا حامل بأليسون، حتى أنه ذهب إلى سيدة في محل الخضراوات وطلب منها أن يدفع طفلها للخلف وإلى للأمام في عربة الأطفال لبضع دقائق، إلى جانب ذلك أنا لا أمانع.

فتحت المرأة بلوزتها وراقب وارين بوقار وهي تمسك بثديها المنتفخ وتوجه حلمته البنية إلى فم طفلها الباحث عنه. همس وارين:

- هذا جميل. هذا جميل حقًا.

ابتسم لنفسه وهو يتذكر رسم دافنشي لمقطع عرضي للشبكة يمتد من داخل جسد المرأة عبر الغدة الثديية.

نظرت المرأة من حين لآخر وابتسمت لوارن، مفتونة أنه بدا مفتونًا للغاية، ثم سألته وقد  بدت مستريحة جدا لحضور وارين:

- كم مدة حمل زوجتك؟

- كم المدة ؟ أوه أتقصدين مدة الحمل؟ أوه فقط شهور قليلة.

ابتسمت المرأة واحنت رأسها لتراقب طفلها الرضيع.

شاهد وارين الأم والطفل حتى شبع ونعس، تحدث إلى المرأة وهو يمشي معها نحو محطة  حافلاتها. سألها:

- أأنت متاكدة أنك على ما يرام؟

- نعم أنا بخير، شكرًا لك.

شعر بالوحدة القاسية عندما تركها هناك، ثمة فراغ.

في الحافلة شعر وارين بانقباض شديد في معدته، يأس يغوص في داخله ثم ينهض، ليرقص مثل اللهب حول طوقه، ويرتع مثل الحمى إلى مناطق غامضة في دماغه، ربما ذلك لأنه قضى يومًا جميلًا ومرضيًا والآن وهو في طريقه إلى المنزل لا يصدق أنه ثمة شيء يمكن أن يفسد هذا اليوم.

نزل من الحافلة وهو يحاول نسيان اكتئابه، عندما وصل إلى بنايته، جمع بريده وصعد الدرج باتجاه شقته رقم 6.

مر بالسيدة كوفنجتون التي كانت تتحدث إلى إحدى جاراتها في الردهة، لم يحبها وارين، كانت بدينة وغريبة الأطوار، لا تشبع من النميمة، أمل وارين ألا توقفه للحديث إليه.

قال وارين في عجلة وهو يواصل صعود السلم:

- مرحبًا.. سيدة  كوفنجتون.

ردت في صوت رخيمم ممطوط:

- مرحبًا وارر ي ين.

بمجرد وصول وارين إلى مقدم مدخل الشقة، سمع السيدة كوفنجتون تهمس لجارتها، فكان صوتها بمثابة مقصلة اليوم التي هبطت على عنقه:

- وارين هو الساكن العزب فى المبنى.

انتهت

***

.........................

* جون سوكول / John Sokol كاتب ورسام أمريكى يعيش فى ولاية أوهايو، نشر العديد من القصص فى المجلات الادبية المطبوعة والالكترونية.

إحتفاء بيوم ميلاد الشاعر الروسي الكبير

الكساندر بوشكين (1799 -1837)

إعداد وترجمة: إسماعيل مكارم

***

هذا النسيم الرقيق

يداعب الأثير ليلا،

بينما نهر كوادالكويفير*

تجري مياهه متدفقة،

تصدر خريرا جَميلا.

**

وها هو القمر ذهبي اللون يطلع.

أرجو الصّمت ...أسمعُ صوتَ الجيتار

وهناك شابة إسبانية على الشرفة

تتكئ على الدرابزين.

**

هذا النسيم الرقيق

يداعب الأثير ليلا،

بينما نهر كوادالكويفير

تجري مياهه متدفقة

تصدر خريرا جميلا.

**

إخلعي هذا الشال أيها الملاك اللطيف،

واظهري كيوم مُشرق،

دعيني أرى هذا القوام الرائع

من خلال الدرابزين.

**

هذا النسيم الرقيق

يداعب الأثير ليلا،

بينما نهر كوادالكويفير

تجري مياهه متدفقة

تصدر خريرا جميلا.

1824

***

والثانية عن موسم الخريف وشجيرة الكرمة.

«Виноград»

شجيرة الكرمة

أنا غير نادم على وردات الجوري،

تلك التي ذبلت في أيام الربيع الماضي،

غالية على قلبي الكرمة وتلك الدوالي،

حين تنضج عناقيدها على سفح الجبل.

تلك أجمل صورة في وادينا ذي الغلال

وبهجة هذا الخريف الذهبي

هذي الحبات البلورية الطويلة

تذكرك بأصابع صبية شابة جميلة.

1824

***

والثالثة عن جمال الطبيعة والشتاء في روسيا في زمن الشاعر، أي في الربع الأول من القرن التاسع عشر.

Зимнее утро

صَباحٌ شتويّ

ما أحلى هذا الصّباح، حيث الصّقيعُ والشمسُ

لا تزالين نائمة يا صديقتي الحَسناء،

هيا استيقظي، حان الوقتُ يا جميلة،

إفتحي عينيك المغمضتين، يغمرهما الهناء،

وانهضي لاستقبال أورورا الشّمال، *

وكوني نجمة الشّمال ِ الرائعة.

**

أتذكرين كيف كان المساء، إذ غضبتِ العاصفة الثلجية،

وفي الأفق المعتم ساد جوّ سَديميّ

أما القمرُ فكان شبيها بنقطة باهتة،

كان يلوح بلونه الشاحب من خلال الغيوم السوداء.

وكنتِ جالسة يغمرك الحزنُ.

والآنَ .. أنظري من الشباك:

**

تحت هذي السّموات الزرقاء،

تحت هذا الغطاء الجميل الرائع

ها هو الثلج يشعُّ بنور الشمس،

والغابة بأشجارها العارية وحدها سوداءُ

أما أشجار الشوح، رغم الندى الثلجي، تزداد اخضراراً،

والنهر تحت الجليد يرسل بريقه الجميل.

**

الغرفة تشع بضوء الكهرمان الجميل

والموقد يكسرُ الصّمت

بفرقعات الحَطب، الذي يشتعل.

أمر ممتاز أن تفكرَ وأنت على الأريكة !

أتدرين، هل نأمر بأن يُسخروا لنا

الفرس ذات اللون الأحمر الداكن للسير في مركبة الثلج ؟

**

إذ أن الإنزلاق على الثلج في الصّباح،

يا صديقتي يسمح لنا أن نتنزه

بمركبة الثلج، تجرها فرسٌ غير عَجول ٍ .

سنزور تلك السّهولَ الفسيحة،

والغابات الغنية، الكثيفة،

وشاطئا عَزيزا على قلبي.

***

دونت في الثالث من تشرين ثاني عام 1829

.......................

* في السادس من حزيران من كل عام يحتفل المجتمع الروسي بأقسامه: الرسمي، والأكاديمي، والشعبي بيوم ميلاد الشاعر الروسي العظيم الكساندر بوشكين، والده سيرغي بوشكين.

وبذات الوقت يعتبر يوم السادس من حزيران يوم اللغة الروسية، كون الشاعر بوشكين أغنى هذه اللغة بمؤلفاته الناجحة، الممتازة: نثرا أوشعرا، حكاية او رواية.

وُلدَ ألكساندر في أسرة تنتمي إلى طبقة النبلاء في السادس من حزيران عام 1799 في مدينة موسكو، حصل على تعليمه الإبتدائي في بيته، أي أن الأهل استدعوا الى البيت معلمات ومعلمين قاموا بتربية الولد وأشرفوا على تعليمه: منهم من كان من فرنسا، ومنهم من ألمانيا، ومنهم من كان من بريطانيا. في عام 1811 قرر الأهل إرسال ولدهم الكساندر إلى (ليسي) المدرسة المتوسطة التي افتتحت قرب العاصمة وهي مدرسة خاصة بأبناء النبلاء، تأسست بغرض إعداد الكوادر للعمل في مؤسسات الدولة.

كان يعمل في هذه المدرسة كبار الأساتذة، وكبار المثقفين، والفلاسفة، والأدباء الروس ومنهم الشاعر الروسي غ. ر. درجافين. في عام 1817 أنهى الكساندر بوشكين تعليمه في هذه المدرسة وعين ليعمل لدى دائرة الأمور الخارجية. كان عمر الشاعر الكساندر قصيرا جدا، إذ توفاه الله في 29 كانون الثاني عام 1837 خلال مبارزة مع جورج دانتيس. ويعتقد الخبراء والمؤرخون الروس والأجانب أن الجهة التي تقف وراء وفاة الشاعر هي الحركة الماسونية.

إحتفاء بيوم ولادة الشاعر الروسي الكساندر بوشكين وجدنا من المناسب تقديم باقة من قصائده إلى القراء باللغة العربية: الأولى عن جمال إسبانيا.

إسبانيا التي سحر جمال الطبيعة فيها جعل شعراء الأندلس يتغنون يجمالها وجمال الصبايا هناك، والبساتين، والوديان، فرأينا أنه حتى نزار قباني، شاعر القرن العشرين يتغنى بهذا الجمال، من قصائده: (مذكرات أندلسية) و(أوراق إسبانية) و(أحزان في الأندلس) و(وغرناطة)، إسبانيا هذي تركت انطباعا رائعا عن بعد لدى الكساندر بوشكين.

Александр Пушкин

« Ночной зефир…»

............................

هوامش ومصادر:

* كوادالكويفير: نهر في إسبانيا، ربما ما يسمونه العرب (نهر قرطبة)،  أو ما يطلق عليه الإسبان اسم آخر (النهر الخامس).

* أورورا: اسم أخذ من الميثولوجيا الرومانية، وتعني إلهة الفجر.

ملاحظة: تمت الترجمة من النص الروسي الأصلي. في النصوص الأول  والثاني والثالث حافظنا على هيكل القصيدة وعدد الأسطر، كما تملي  علينا أخلاقيات الترجمة.

1. АЛЕКСАНДР ПУШКИН. Евгений Онегин.

Стихотворения. Проза. Москва. 2020 г.

 بقلم: كريس أباني

ترجمة: صالح الرزوق

***

"في البداية نهر. والنهر تحول إلى طريق، الطريق تشعب في كل العالم. ولأن الطريق كان في سالف الزمان نهرا فهو جائع باستمرار".

* بن أوكري- طريق المجاعة

في هذا الصباح البارد كانت نزهتي بجوار البحيرة ساحرة، هناك خصل من الضباب الذي يتلوى ويغيب في العدم، وأسراب من طيور البحر الصامتة تطير بتشكيلات عديدة، كأنها خفر سواحل طبيعيين. في البيت جهزت إبريقا من شاي إيرل غراي من أجل العمل الذي ينتظرني. الشاي الساخن يترك ضبابا، ورائحة زيت البرغموت تشعرني بالدفء، وتخلق إحساسا قديما بالراحة والأمان. على طاولتي صورة فوتوغرافية نظرت إليها. رأيت صبيا بالعاشرة أو الثاني عشرة، ويحمل صبيا آخر أصغر منه. كانا يتقدمان في طريق ترابي ريفي، وأشجار كثيفة على الطرفين. ومن بعيد أمامهما أربع بنات مراهقات تتقدمن بعرض الطريق، وتتمخترن عليه. إحداهن التفتت برأسها إلى الخلف لتتأكد من مكان الأولاد.

صورة بسيطة في إطار أنيق، وفي خلفيتها حقل رائع، لكنه بسيط أيضا. ويمثل صورة ست أولاد أفارقة يمشون على طول طريق ترابي ريفي. ولا تلاحظ أي خطر داهم، ولكن هناك جو متوتر يحيط بالأولاد، ولا يستوجب رفع راية حمراء. ومع ذلك لفتت الصورة انتباهي فورا، وتخلل أنفاسي إحساس عصبي، وعلى الفور وقفت أمامها وشردت بها. وهذا رغم حقيقة أن الصورة لفنان نيجيري اسمه فكتور إكبوك، وقد وجدتها في صفحتي على إنستغرام. ورأيت فيها مباشرة شيئا مألوفا ويسبب الارتباك، وهو مشهد منخفض أرضي غريب تماما.

وأؤكد مجددا أنني لا أعرف المشهد، ولا أعرف أي شخص في الصورة، ولا يسعني معرفة المكان. لماذا؟. فالصورة ملتقطة قبل عدة أيام، وعلى وجه الدقة في سورينام. ولكن كان أثرها مقلقا، بسبب الانفصال عن الفترة والمكان وحتى الذاكرة. ثم لمعت في رأسي فكرة. وربط دماغي الصورة بصورة في عقلي. وأنا أقول "صورة"، ولكن بالمعنى البصري الدقيق لا يمكن وصفها بذلك، وستتضح الأسباب لاحقا.

الصورة هي لأخي الأكبر مارك، عمره بصعوبة ثماني سنوات، ويحملني وأنا بعمر ست شهور، وكنا نهرب من بيتنا الكائن في ريف أفيكبو، فقط قبل ساعات من توغل الجيش النيجيري إلى مدينتنا من جهة شاطئ نديبي، حيث حطوا للتو، على بعد ثلاث أميال. هذه ليست صورة بالمعنى الدقيق جدا لأنه وأنا أتذكر الحادثة فعليا في أعماق وعيي الباطن، وحينما كان بمقدور ذاكرة من هذا النوع أن تسجل بشكل دائم حتى وأنا في هذا العمر المبكر، فإن قدراتي للتعامل معها قد تكون موضع تساؤل. لأنه لا يمكنني "رؤية" شيء تورطت به. وكما اخبرونا لا يمكن أن نكون "مشهدا" و"ننظر" بنفس الوقت إلى ذلك المشهد من الخارج.  ولذلك ما أتذكره عمليا، وهو ليس أقل وضوحا بكل النواحي من الصورة التي أنظر لها، لا يمكنه أن يكون حقيقيا. ولكن هذا قد جرى. وهذه حقيقة. وهنا نكون لحظيا بمواجهة شيء بمنتهى القسوة عن تجربة اللاجئ - أن تكون لاجئا شيء لا هو اسم و لا فعل. ولكنه تأرجح في الوقت -المكاني، وهو ما يتكرر باستمرار.  أنت دائما بوقت واحد لاجئ حتى بعد أن تكون قد فقدت هذه الصفة. وما أن تصنف بها حتى تحمل دائما هذه "الرائحة" الوجودية المرافقة للانزلاق من موضعك. وتدرك أنك تعايشت مع الحالة وحملتها معك دائما، لكن التجربة نفسها لا ترتبط دوما بما تعتقد أنه حقيقي، أو ما هو مقبول في الذاكرة. وهكذا، أنت دائما وحدك مع حالة تالية مزعجة ناجمة عن الصدمة والجرح المتكرر دون امتلاك الكلمات الضرورية الكفيلة بالتعبير عن التجربة التي مررت بها. وتتبدل التفاصيل مع كل سرد وإعادة سرد، حتى تشك بخبراتك الأصلية عنها. وتفقد اليقين بما لك، وما يعود لخبرات عائلتك، وما يعود لإعلام تلك الفترة، وما يخص الذكريات المستعادة. هل لاحظت أن صورة اللاجئ الواضحة، هي الصور التي سنتعرف فبها على حالات وظروف لاجئ هارب بشكل دائم؟. اللاجئ دائما على الطريق في مكان ما، على قارب في مكان ما، ولا يصل على الإطلاق. بعضهم يحمل مظلات، وحقائب، وأولادا، حتى أن بعضهم يربط توابيت بمؤخرة الدراجات، وآلات خياطة. وهناك أشياء، على رؤوسهم، وفي العربات، وعلى الدراجات، وتراهم تيارا طويلا مزدحما من الناس، نهرا بشريا يائسا. هناك بيت مفقود وبيت لا يمكن ترميمه أواستعادته. أنت دائما على أهبة الرحيل وغير قادر على العودة وغير قادر فعليا على الاستقرار أو الانتماء إلى أي مكان آخر.  

الجغرافيا ليست عاملا حقيقيا هنا، بل هي تتجاوز فكرة وحقيقة الرحلة. وتجربتي باللجوء هي نتيجة الحرب الأهلية بين بيافرا ونيجيريا منذ 1967 حتى 1970. وباعتبار أنني إغبو، ما يسمى العرق المتمرد، وحتى بعد انتهاء الحرب، وحتى بعد خطاب "لا منتصر ولا مهزوم" الذي ألقاه رئيس نيجيريا، الجنرال يعقوبو غاون، لا يزال الإغبو حتى يومنا هذا لاجئين وفي بلد أسلافهم. الحرب دائما هي الشبح وستبقى دائما شبحا يستحوذ عليهم. هناك شيء ما يتعلق باللاجئين، أكثر من أي نوع آخر من الناس النازحين، وهو ما يخيم على وهم الاستقرار الذي تطمح له الدولة الحديثة. ربما لأن هذا الجسد دليل على تطور أقل مما نريد أن نعتقد ضمن شبكة "إنسانيتنا". ربما لا يوجد جسد آخر يسبب كل هذا القلق مثل جسد اللاجئ. اللاجئون يطورون مجموعة من العقد أينما رحلوا في العالم، وأينما حاولوا أن يستقروا. ولا أعتقد أن هذا ببساطة نتيجة الخوف الأصلي من أن يجتاحك قطيع من المهاجرين البرابرة. وربما هو جزئيا نتيجة الذنب - معظم الأمم التي تقبل اللاجئين هي غالبا مضطرة أخلاقيا لذلك، لأنهم أكثر ثراء والاقتصاد مستقر بعد نهب خيرات بقية الأمم عبر التاريخ. أو أحيانا لأنهم مسؤولون مسؤولية مباشرة عما يجري. خلق حالة انهيار الدولة يخلق معه جماعة من اللاجئين. وهذا بشكل طبيعي يولد مشاعر المهانة، وألما عاطفيا. وربما كان أعمق أشكال الخوف موجودا في جسد لاجئ يلتقي فيه ضعف الأمة واستقرارها حتى يحصل توازن بينهما.

بعد أن أدركت أننا حين ننظر إلى وجوه اللاجئين نحن ننظر مباشرة إلى إمكانية خاصة بنا.  ولا يوجد هناك شيء ما عدا بركة وبهاء غريبان، وكيان آلي لا يرحم، واصطدامنا به، هو ما يجعلنا بمأمن من التحول إلى لاجئين. هذا الإدراك سائل، وتلك الهوية سائلة، لذلك يمكن أن تتحقق أو تستقر، وإنكارنا لهذا، هو في قلب الوضع البشري. نحن نخاف، وأحيانا نمقت، اللاجئين، لأن وجودهم هو مصدر رعبنا العميق: فنحن لم ولن ننتمي لأي مكان. وبالضد من كل الاعتراضات، أمريكا ليست فعليا أمة مهاجرين ولكنها أمة لاجئين.

صدمة، نزوح، وأمل متهور هو كل ما يحمله الأمريكيون من علامات أخذوها عن ركاب سفينة ماي فلاوير بعد وصول الجماعات المتلاحقة منهم، أو أن هذه العلامات أدخلت إلى هنا عنوة. وهذا أحيانا هو الرعب غير المعترف به والصامت، والحقيقة التي تجعل الأمريكي أمريكيا. هذا يعني أن هذه الأشباح من ماضينا عدائية، وأن هذه الأطياف المجردة من النفس والأمم السابقة لن ترحل ببساطة وستسكن في حواراتنا اليومية عن الهوية. وهي حوارات معقدة لأننا نشعر جميعا بنوستالجيا غامضة تتغلغل فينا وهمها تعريف كل أجزاء ماضينا التاريخي، ونحن ممزقون عمليا لأنه علينا أن نستوطن أي جزء من تلك المراحل الماضية. وكلمة نوستالجيا بمعناها الأصلي تحيل إلى ألم ناجم عن جرح قديم. وهذه الروح العاطفية التي ترافق غالبا النوستالجيا هي أسلول فقط لتحمل الألم حينما نتذكر الجرح. ولهذا السبب اللاجئ هو الجسد الرومنسي الذي يتحدى أكثر من سواه الحساسية الحديثة، فهو يحمل كل علامات الظل الذي دفناه أو خففنا حدته، وبنفس الوقت كل احتمالات وضعنا الحالي.

ونحن ندرك حينما نواجه اللاجئ أننا نحدق في مرآة ذكرياتنا الشخصية عن النزوح. ونتذكر الألم الناتج عن فقدانها، فهي لا تزال مقيمة في أعماقنا من الداخل، وهي تكلم معاناتنا وبالتالي تضعنا في شبكة من المصاعب القصوى: كيف نوازن عاطفتنا مع احتياجاتنا لتعريف حدود الضيافة - وكلاهما ضروري إن كان علينا مساعدة أصدقائنا النازحين حتى يستعيدوا كرامتهم مجددا.

يتعرف اللاجئ على كل أشكال الحنق والاضطراب والخوف غير الواعي. ومثله أولئك العاملون بالنيابة عن مجتمعاتهم. وتنبع هذه المشاعر من قلق تشعر بها الثقافة الأعرض والأوسع.  وهذا ليس جديدا، كما أنه ليس وقفا على أمريكا، ولكن تتفرد أمريكا بشعور الخزي والسكوت على هذه المشكلة. وإن كان علينا تحقيق أي تطور في هذا الشأن، علينا أن نتعلم كيف نعترف، وأن يكون كلامنا خارج أرض الصواب والخطأ، والأهم أن نتعلم كيف نفاوض مخاوفنا والشعور بانعدام الأمان.

***

مارك ذو الثماني سنوات، يمشي في طابور طويل من اللاجئين وهو يحملني، وهذه الصورة لا تفارقني وتخيم على علاقتنا. وحقيقة أن وزني وأنا ابن ثماني شهور ترافق مع وزن صدمة الحرب التي شردتنا، وأصبح ذلك من وجهة نظره شيئا لا يمكنه التخلي عنه ربما خشية الموت، ومعه ظهر شيء خاص به وله أهميته. أن تكون بعمر ثماني سنوات وعليك حمل أخ أصغر لعدة أميال، وأنت خائف من التعب الذي ينالك فقد يتسبب بسقوطه، وخائف من الرصاص، وخائف من الموت، وهو شيء حقيقي، لكنه غير واضح في عقل ابن الثماني، أو أنه لا يمكن تصوره. والحرب، بغض النظر عن المسافة التي تعلن عنها الأخبار والتلفزيون، نشبت فجأة وغالبا دون سابق إنذار بالنسبة للناس الذين أثرت بهم. و لا يهم كم عدد حالات الطوارئ التي تعلنها الدولة، وعدد منع التجول المفروض، وما تخبرك به الأخبار المحلية. للبشر قدرات لا محدودة لتطبيع العالم كي يعيش ويزدهر. وفي الشهور التي أفضت بنا إلى مرحلة بيافرا، تم ذبح مئات ألوف الإغبو الذين يقيمون في شمال نيجيريا خلال حملات تطهير عرقي، وتم تشويه أجسادهم وأعيدت إلى أراضي الإغبو الشرقية بشكل جثامين مبتورة الأطراف ومحزومة بعربات القطار. أضف لذلك حاول زعماء الإغبو التفاوض على السلام، وحاولوا التمسك بأمل هو البلد المولود حديثا والمسمى نيجيريا. وهكذا قاد والدي عائلتنا من مدينة إغبوغو الخاصة بالإغبو حيث كنا نعيش، وحيث كان هو عضوا سابقا في البرلمان، ولكنه في حينها كان مدير مدرسة، إلى مدينة أسلافنا وهي بلدة أفيكبو، فقد كان يعتقد أن المكان آمن ويمكننا انتظار "المشاكل" ونحن بأمان نسبي منها. ثم في أحد أوقات ما بعد الظهيرة، حينما كانت أمي تجهز الغداء، وصل أحد الأقارب وأخبرنا أنه بقي معنا نصف ساعة لنجتمع ونفر بحياتنا. وكان حزم الأمتعة في يوم عمل يحتاج لأكثر من ذلك. وغالبا أفكر بصعوبة ما جرى على الوالدة، وهي امرأة بيضاء فيرظرف حرب نيجيرية. كان عليها أن تحمل أربع أولاد، وهي حامل بولد آخر، وأن تفر على الأقدام مع طابور طويل من اللاجئين. وأن تواجه احتمال الموت المرعب كل يوم وسط واقع المجاعة والخسارات والخوف. وأن تحاول الهرب من بلد إلى آخر.  وأن تعبر عدة مئات من الأميال، مسافة تستغرق بالسيارة أربع ساعات في زمن السلم، ولكن في واقع الحرب والموت، استغرق الأمر سنتين، لأن الطريق لم يكن مستقيما على الإطلاق. فالرحلة كانت إلى مطار وحيد يعمل، وهو طريق سابق. وخلالها ولدت ابنتها في مستشفى تعرض لقصف الأعداء. ثم تركت كل أبنائها باستثناء أصغرهم وديعة عند لاجئين آخرين كي تسبق القصف وعلى أمل جمع الشمل مجددا.

احتفظت بأصغر صبي، وهو بالكاد بعمر عام، وفي ذلك المستشفى كانت القنابل تسقط عليك وأنت تحاولين الولادة. ولم يكن معك غير ممرضة خائفة وراهبة إيرلندية هادئة تشغل منصب قابلة، وهي من ساعدتك بولادة الابن على فراش قرب حلوياتها وشاي إيرل غراي. وكانت تدحرج كليهما من جناح إلى آخر لتسبق القنابل، وفعلت الممرضة نفس الشيء مع الأم. ثم كنت تقفزين من بلد إلى بلد آخر حتى يسمح لك بلدك بالدخول وبشماتة.

كل هذه الذكريات لا تفارقك. أحد أصدقائي، وهو لاجئ سابق، أخبرني أن الشعور قليلا يشبه التنقل عبر نظام دور للرعاية، أنت تشعر دائما أنك خارج أرضك، ودائما تشعر أنك عبء، ودائما تشعر أنك خارج كل شيء.

وأنا، مثل كل لاجئ، أعرف مئات القصص عن المصاعب والمخاطر واحتمال خسارة الحياة والرحلة الدائمة للشفاء. وهناك أشياء كثيرة تشعل هذه الذكريات الحلوة المرة. وبالنسبة لي رائحة شاي إيرل غراي قوية جدا. يتخللها راحة وصراع. ومعرفة مفادها أنني دائما أنفصل عن لاجئ. ولو أن الطريق متعاطف ذات يوم سوف أصل.

***

.................... 

* كريس أباني Chris Abani روائي وشاعر وكاتب مقالات وسيناريو ومسرحي. مولود في نيجيريا لأب من الإغبو وأم إنكليزية. ترعرع في أفيكبو النيجيرية، وتلقى إجازة في الأدب الإنكليزي من جامعة إمو الحكومية، والماجستير في الأدب والجنوسة والثقافة من كلية بيركبيك في جامعة لندن. ثم الدكتوراة في الأدب والكتابة من جامعة جنوب كاليفورنيا. استقر في الولايات المتحدة منذ عام 2001. من أهم أعماله السردية: "التاريخ السري للاس فيغاس"، و"أغنية من أجل الليل". من أشعاره مجموعة "سانتيفيكوم"و"لا يوجد أسماء للأحمر". أباني صوت دولي في مسائل الإنسانوية، والفن، والأخلاق، والمسؤولية المشتركة في السياسة. وهو أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة نورث وستيرن وعضو مقرر في لجنة الجامعة.

 

 

بقلم: إيفا سيمز

ترجمة: صالح الرزوق

***

منذ عام 2005 أجريت أنا وطلابي بحثا عن المجتمع المحلي. وكان همنا ترميم الفضاءات الطبيعية التي تعرضت للتدهور بسبب الصناعة وذلك في الأحياء الداخلية من بيتسبوراة. وقد قدمنا العون لإنشاء حديقة إيميرالد فيو، ويعود الفضل بها لمبادرة من سكان المنطقة. ثم تبنت مؤسسة تطوير المجتمعات المحلية CDC تطوير ورعاية 275 موقعا من سفوح مرتفعات تغطيها الغابات في جبل واشنطن، وهي محلة مجاورة لوسط بيتسبوراة. وقد سهلت معظم بحوثنا عقد حوار حول دور الحديقة والاهتمام بها وإجراء مسوحات ومقابلات عن تاريخها الشفهي. كما أننا طورنا أساليب للتعامل مع المتشردين سكان الحديقة، وخوف المجتمع المحلي من "النشاطات المشبوهة في الغابات" كما قال أحد السكان. وخلال السنوات الستة السابقة، نظف أكثر من ألف متطوع ما يزيد على 80 طنا من النفايات من 275 موقعا تقع ضمن غابات المنطقة المأهولة. وهناك رأيت سيارات وثلاجات وأسرة ذات نوابض لحق بها الصدأ. أما في السهول والأماكن المفتوحة رأيت إطارات مطاطية ودمى من البلاستيك وأكياس نايلون وعبوات زجاجية فارغة وأحجار سيراميك وإطارات من الفينيل أو الألومنيوم وعلاقات سقوف وأنابيب لدنة وأشكالا أخرى مختلفة من مخلفات المقاولين. جدير بالذكر أن 80 طنا من النفايات يعادل 173.396.81 رطلا.

النفايات ظاهرة تدل بشكلها الفيزيائي المنظور على فائض من الآخر، وعلى أحداث ومعان غير مرئية لها علاقة بها. وغني عن الذكر أنها شيء أبعد مما تراه العين. فهي "نظام مرجعي" (هوسيرل 2001. ص41) يدل على شبكة عريضة من الدلالات ويندرج بها المظهر البسيط للنفايات مع الطبيعة، وحالما نبدأ التفكير بالنفايات على أنها نظام مرجعي، تبرز أمامنا أسئلة استاطيقية واجتماعية ونفسية.

يمكن التعرف على معظم أنواع النفايات، في مكانها على الأرض، وفي الغابات، فورا: فهي تتكون من أشياء صنعها البشر، ولا تتحلل بدورة من عدة سنوات محدودة، وتشكل مخاطر محتملة على الحياة البرية، وهي دميمة بشكل واضح. وبالعادة تتعامل معها الطبيعة على فترة عقود فتصدأ أو تغطيها بأوراق متعفنة وقاذورات حتى تغوص في باطن الأرض، ومعظم من يحب القيام بنزهات في الغابات يستفزه أن يرى ثلاجة صدئة بأبواب مفتوحة تقاطع هدوء وجمال المنظر الطبيعي. ماذا يقلقنا من النفايات؟. ولماذا تعتدي على إحساسنا الجمالي وتحفز أكثر من 1000 متطوع يشعرون بالرغبة للمجيء إلى الغابات وجر هذه الأشياء إلى حدائق المنطقة، حيث يمكن تجميعها وحملها بشاحنات شركة تنظيف المدينة؟ والأهم: ما هو مفهوم سكان المدينة عن الطبيعة والذي يهيب بهم لتنظيف الفضاء الطبيعي؟.

أتذكر أول مرة رأيت فيها كومة هائلة من النفايات في الغابة منذ عدة سنوات مضت. في يوم خريفي رقيق وملون كنا نمتطي جيادنا ونعبر من ساحة السباق في بلدية إنديانا التابعة لبنسلفانيا. وكانت مشاعري منسجمة ومشحوذة وتفكيري ينصب على حصاني. وحالما واجهنا أول منعطف على الطريق، جفل الحصان إلى الخلف وتقريبا أغلق عينيه. ومباشرة رأيت في عرض الطريق أكياسا بيضاء مملوءة بالنفايات، كان رد فعل الحصان فوريا: فالأكياس البيض المليئة دخيلة على نظام الطبيعة واستفزت مشاعره، وتأهبت كل عضلاته للجري السريع. ولم يهدئه غير أساليب التسكين المعتادة: اللمسات اللطيفة على أطراف بدنه القوي، ومحاولات تشجيعه ليلتف من حول أكياس النفايات بدورة لها شكل قوس واسع. وبعد أقل من دقيقة عاود جريه.

النفايات مقلقة فعلا. والأكياس البيض المحشوة بها لم يكن مصدرها هذا المكان. إنها لا تنتمي له. ومن الواضح أنها لم تجد في المشهد الطبيعي موطنها المناسب. جذع شجرة انهار حديثا يسبب القلق أيضا لمخلوقات اعتادت على الحياة الطبيعية. ولكنه سرعان ما يتحلل ويندمج بالغطاء الأخضر ثم الأرض. ويعود من حيث جاء. وهذا ينطبق أيضا على الحيوانات النافقة في الغابة: فهي بدورها أزعجت حصاني، ولكن بعد عدة أسابيع كانت تدخل بالبيئة المحيطة ونمر من جانبها دون أن نلاحظها. ولكن ليس هذا حال أكياس النفايات. فهي لعدة سنوات تخفق وتخشخش بزوائدها البلاستيكية البيض. كما أنها لا تتحلل وتعود من حيث جاءت. وتواصل بقاءها كذكرى دائمة عن دور البشر في مقاطعة المشاهد الطبيعية المستمرة وتلوثها بأشياء هي من صنع الإنسان.

النفايات، من زاوية نظر تكوينية، مادة لا يمكن استيعابها كلها كما هي. وهي لا تتلاشى (أو أنها تتلاشى ببطء شديد) وتدخل في الخلفية وتقاطع توازن المشهد الكلي. والأسوأ، وهو نموذج أوضح، أن كومة نفايات المحيط الهادئ الكبيرة والتي تغطي في بعض التقديرات مساحة من المحيط تعادل "ضعف حجم قارة الولايات المتحدة الأمريكية" (ماركس وهاودين، 2008)، وتتكون من دوامة طافية معظمها يأتي من بلاستيك الأنهار والشواطئ. وهذا البلاستيك يتفكك إلى جزيئات أصغر ويدخل في السلسلة الغذائية. وثلث فراخ القطرس في الجزر المرجانية بين اليابان وهاواي تموت لأن آباءهم يطعمونهم البلاستيك الذي يطفو من نفايات دوامة المحيط الهادئ، وطيور القطرس والسلاحف ليس لديها غريزة تميز بين ذرات البلاستيك ومصادر الإطعام الأخرى - ولهذه المشكلة عواقب كارثية على هذه الأنواع.

الدرس الذي تعلمته من حصاني ومن فراخ القطرس عن النفايات أن البقايا الصناعية تحرف حقل جهاز الإدراك وجهاز الهضم في الكائنات الحية لأنها لا يمكن أن تندمج عضويا بالحياة ودورة التحلل في العالم الطبيعي. وهي إما تبقى مكانها في المشهد الطبيعي كاحتقان مؤلم في وعينا (مثل الثلاجة الصدئة) أو أنها تتحلل بطرق تحويلية تعمل على تسميم السلسة الغذائية (مثل المبردات التي تتسرب من الثلاجة الصدئة وتلوث الماء الأرضي).

***

...................

إيفا سيمز Eva -Maria Simms: أستاذة في قسم العلوم النفسية، جامعة ديوكسن، بيتسبوراة، الولايات المتحدة.

عن كتاب: علم النفس البيئي، الفينومينولوجيا، والبيئة. إعداد د. فاكوش، ف. كاستريلون. ص 237-250

قصة: ميرديث سو ويلس

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

فيما عدا الخصيان، رجل واحد فقط أتى بستان النساء والفتيات، كان ذلك الرجل هو كبير الوزراء. وعندما أتى غطت كل واحدة وجهها فيما عداى وأختى شهرزاد، لأنه كان أبانا، وكانت أمنا زوجته الوحيدة.

عندما نضع رؤسنا على الوسائد فى الليل اعتادت شهرزاد أن تقول أنها سئمت البستان وتتحرق لحدوث شيء ما لنا. مثل هجوم عدو يمنحنا الفرصة لإنقاذ المملكة حتى لو كلفنا ذلك حياتنا أو شرفنا، ومن جانبى اعتدت أن أبحث عن القصص فى الكتب وأقرأها بصوت مرتفع لشهرزاد، فتجعلنى أقرأها ثانية حتى تستطيع أن تحفظ تلك القصص، ثم تحكيها بعد ذلك إلى الأطفال الصغار والفتيات الكبيرات وبالطبع إلى النساء.

هناك الكثير من الأشياء فى القصص فى العالم الخارجى لا يفترض أن نعرفها أو نعملها، لكننا عرفنا وفعلنا، أحيانا نزحف تحت الأشجار ونتسلق تكعيبات العنب ونلقي بالأشياء من فوق الحائط على بستان الصبيان، وأحيانا أخرى تتسلل أشجعنا إلى خارج البستان وتستكشف ردهات القصر القريبة.

فتاة تدعى أمينة ذات نهدين بارزين قالت:

- ستتزوجين قريبا يا شهرزاد، وستكون أول مغامراتك فى سرير زوجك.

صرخت:

- قولى لها لن يكون ذلك يا شهرزاد، قولى لها سيكون لدينا مغامرات وسنقوم بأعمال نبيلة.

قالت شهرزاد:

- دعك منها.

ثم أضافت فى ثقة:

- فقط كونى مستعدة فى أية لحظة لإنقاذ المملكة.

فغر فم أمينة الكبير بالضحك، لكن سيأتى الوقت الذى تبكى فيه بدلا من الضحك.

ذات يوم حار وخاص سمعنا الأمهات يتهامسن عن مشكلة جديدة، يبدو أن الملكة خانت الملك العظيم (حفظه الله) فى فراشه ولذلك أصبح شديد الغضب والثورة، لذلك اقتص لشرفه وقتل الملكة المسيئة وكل وصيفاتها ثم قتل بعض النساء السيئات غير المتزوجات اللائى يرقصن ويغنين للغرباء من الرجال. يتزوجهن الملك العظيم (حفظه الله ورعاه) فى الليل ثم يقتلهن فى الصباح.

قالت أمينة:

- بفعل الملك هذا من المستحيل أن تحتفل فتاة بليلة زفافها. كيف تحتفلين بزفافك وهناك كل يوم جنازة؟

قلت:

- ومن يهتم؟ من يهتم بالزفاف؟

قالت شهرزاد:

- إذا ارتكبت زوجتى جريمة الزنا سأربطها على غصن شجرة شائك وأخرج أحشائها.

قالت أمينة:

- من الأفضل أن تكونى رحيمة يا شهرزاد وإلا لن تجدى من يرضى بك زوجا.

بعد ذلك بيوم واحد وصلت رسالة لامرأة فى البستان فأخذت فى الصراخ وتمزيق ملابسها، لقد طلبت أختها للزواج من الملك، وفى صباح اليوم التالى غاب عن البستان ثلاث فتيات اعتقدن فى البدء أنهن قد قتلن أيضا، لكننا سمعنا بعد ذلك أن أهلهن أخفينهن بعيدا. بدأت النظرات الغريبة والعدائية تلاحقنى أنا وشهرزاد لأن الوزير الأول – أبانا – هو المكلف بإحضار النساء للملك المعظم (حفظه الله ورعاه) فى تللك الليلة تحدثت مع شهرزاد، قلت:

- من الأفضل للمملكة التخلص من كل النسوة الشريرات.صح؟

فقالت:

- من النبل عقاب الشر ولكنه يقتل الأخيار أيضا.

- إذا قتلهم الملك العظيم ؛ فهذا ولابد لأنهم أشرار.

- نبيل وحق أن نكسر الشر والملك مريض بالشر

صرخت:

- هسسسسسسسسسس  للحيطان آذان.

عند ذلك سحبت شهرزاد من تحت وسادتها سكينا ذات مقبض من نفس معدن النصل وقالت لى أنها تخفيها فى ملابسها وتنام بها ليلا، فشرعت فى البكاء، فقالت:

- لا تبكى يا صغيرتى دنيازاد هذه السكين سحرية، تستعمل فقط لقتل الشيطان.

قلت:

- احكى لى قصة حتى أستطيع النوم.

حكت واحدة من القصص التى وجدتها أنا لها عن فتاة جريئة تذهب إلى عالم الجن لكى تنقذ أباها.

فى تلك الليلة جاءنى كابوس، شيطان يطاردنى وأن هذا الشيطان تحول إلى أبى، وبدلاً من المجوهرات على مقبض سيفه الأحدب رأيت وجوه فتيات أعرفها.

فى تلك الأثناء كانت الفتيات تقل وتقل فى البستان. إحدى الأمهات قالت لنا أن ابنتها ماتت متأئرة بالحمى ليلاً، ولكن لم يكن هناك بكاء ونواح، لذلك تأكدت أن الفتاة أختفت فى زلعة مثل الأربعين حرامى فى قصة على بابا.

قلت لشهرزاد:

- لا بد أن نفكر فى طريقة ما للاختفاء. يمكن أن نتنكر فى زى صبيين ونخرج إلى الدنيا الواسعة.

قالت شهرذاد:

- لا بد أن نفكر فى طريقة نقهر بها الشر.

وفى اليوم التالى لم يكن فى البستان سواى أنا وشهرزاد وأمينة.

وبعد ذلك بيوم واحد حضر أبى - ولم نكن قد رأيناه من عدة أسابيع – وهو يرتدى ملابسه الجميلة كالعادة وبكل المجوهرات والحلى المنقوشة على مقبض سيفه إلا أن وجهه كان مستطيلاً وعابساً، وخطواته غير واثقة، طلبت أمنا الشراب والمراوح لصد حرارة الجوف والجو فى تلك الظهيرة المتأخرة، لكنه رفض كل شىء. جلس فى المظلة وعندما أرادت أمى أن تبدأ بالحديث أشاح بيديه لأن تسكت. وأخيراً تحدث هو فقال أنه يريد الكلام مع والدة أمينة. وعلى الجانب الآخر من البستان بدأت أمينة فى الصراخ والنواح فصرخ فيها أبى فأتت وهى تمزق ملابسها وتندب وتعدد:

- إنه لشرف عظيم أن تتزوج كريمتكم الملك العظيم حفظه الله ورعاه.

بكت الأم:

- أمينة مخطوبة.

- لقد طلب الملك المعظم فتاة عذراء من أسرة عظيمة عظيمة.

صرخت الأم هذه المرة:

- لا.

فأحنى أبى رأسه وتغير لون عينيه وهو يقول:

- ستذهب إلى الملك العظيم الليلة.

عند ذلك بكت أمينة وولولت هى الآخرى. فقال أبى وهو يغطى وجهه بكلتا يديه:

- لقد أرسلت لكى أقول لك أن تجهزيها لأجل زفافها للملك المعظم حفظه لله ورعاه.

عوت أمينة وأمها، وانكبت أمى تصلى من أجل إنقاذ أمينة، ومن ناحية أخرى ولول العبيد والخدم جميعا فى البستان وأخذوا يلطمون وجوههم وصدروهم بالأيدى، وكانت ضجة عظيمة. لم يسكتها غير تقدم شهرزاد وقولها:

- أيها الوزير العظيم؟

ثم أضافت:

- أيها الوزير العظيم، زوج أمى، وأبو أختى وأبى، اسمع يا أبى.

تقدمت أكثر لتقبل يده، ولكنه أبعد يده وهو يقول:

- ليست تلك اليد.

فقالت شهرزاد:

- ليس أنت من يقتل الفتيات يا أبى. إنه قلب الملك العظيم حفظه الله. إنه شخص مريض.

الكل شهق ولكننى شهقت أكثر عندما قالت:

- سأذهب بدلا من أمينة، سأذهب وأعالج الملك.

- اسكتى.

صرخ الوزير الأول، ثم أضاف:

- أنت فتاة صغيرة وجاهلة.

وصرخت أمى:

- أنت فتاة جاهلة صغيرة يا شهرزاد.

قالت شهرزاد:

سأذهب إلى الملك.

صاحت أمينة:

- دعها تذهب. إنها تريد أن تذهب.

التوى وجه الوزير بالغضب وقال بصوت أجش:

- اسمعى هذه القصة، أيتها الفتاة الحمقاء الجاهلة.

حكى قصة عن حيوانات تستطيع أن تتكلم وتقع فى مشكلة لكونها ماهرة جدا، ثم حكى قصة أخرى عن رجل استطاع أن يفهم الحيوانات عدا النساء، وفى النهاية ضرب الرجل زوجته واستطاع أن يفهمها أيضا.

عندما انتهى قالت شهرزاد:

- سأذهب إلى الملك.

قال أبى قصة أخرى مع ذلك عن العقاب والموت، وعندما توقف هذه المرة قالت شهرزاد أنها تريد أن تذهب إلى الملك فصرخ قائلا:

- لا لن تذهبى، أنا الذى أقول من يذهب إلى الملك.

بدأت الضجة تعلو من جديد، وشوح الوزير الأول بيده وفارق المكان، ولكنه ترك الجنود فى بستاننا، فى المكان الذى لا يتواجد فيه رجال لكى يمنعن أمينة من الهرب. فى أثناء تلك الضجة لا أحد يهتم بشهرزاد أوبي، فقالت:

- إنها فرصتنا لإنقاذ المملكة.

قلت:

- لا ينبغى أن نفعل يا شهرزاد. سوف يحمينا والدنا.

لمست منطقة وسطها حيث تخبئ السكين وقالت:

- أريد مساعدتك.

قلت:

- لدى فكرة جيدة للمغامرة، يمكن أن نهرب بعيدا ونختبئ فى الأقبية.

ولأن شهرزاد لا تريد أن تسمع إلا ما تريده قالت:

ـنحن ذاهبتان لإنقاذ المملكة، وستكون هذه مغامرتنا، تلك المغامرة التى منحها الله لنا.

قلت:

- لا.

فقالت لابد أن نغادر على الفور وهكذا بينما كل شخص يندب ويبكى، تسللت شهرزاد من البستان إلى الردهة الطويلة فى القصر الكبير، تسللت أنا أيضا، فقط لكى أرى الاتجاه الذى تسير فيه، إنه كان الظلال داخل الممرات وليس هناك كثير من الناس، اختفت خلف بير السلم، وتبعتها من على مسافة قصيرة، ثم اختفيت وراء عمود أينما مشت، تبعتها فقط على بعد خطوات قليلة وراءها. وسرعان ما ابتعدنا عن المكان الذى جئنا منه. رأتنى وانا أتبعها، وعرفت انها رأتنى، ولكن الوقت طويل. قلت لنفسى لابد أن أرجع بعد لجظة أخافتنى الردهات الخالية، لذلك لحقت بها فحضنتنى وقالت لى أننى أكثر شجاعة منها، لأننى أكبر خوفا. وهذا هو الشىء الآخر عن شهرزاد، وهو أن تهيئك لكى تفعل ما تريد أن تفعله.

كان هناك قلة من الناس لذلك بعد لحظة توقفت واختفينا ثم مشينا بجرأة داخل الدهليز. قالت لى شهرزاد أنها ستعالج الملك من جنونه بقصصها. وأن عملى سيكون أن أثنى على قدرتها على القص حتى تلفت نظر وانتباه الملك.

كنت مثل شخص فى حلم، قلت:

- هل يوما سوف يحكون قصة شهرزاد ودنيا زاد؟

- يوما ما، سيكون كل شيء قصة وكل القصص ستصبح حقيقة.

عرفنا أننا بالقرب من حجرة الملك عندما رأينا المماليك فى المدخل، وكانوا اطول رجال فى الدنيا، وقد جاءوا من أركان الدنيا الأربعة.

صحنا أنا وشهرزاد بقدر ما نستطيع:

- افتح طريق.. وسع طريق لابنتى الوزير الأول، نحن ذاهبتان إلى الملك الليلة.

مررنا بصالة وراء أخرى، وفى الأخير وصلنا إلى مدخل كبير مقوس محروس بأكبر مملوكين واحد فى بياض الثلج قادم من الشمال، والثانى كالعقيق الأسود قادم من الجنوب

قالت شهرزاد:

- نحن ذاهبتان إلى الملك الليلة. لقد استدعينا للتخفيف عن متاعبه بقراءة القصص عليه.

عندئذ جاءت اللحظة التى أدركت فيها أن هذه ليست هى القصة التى عشتها فى حلم شهرزاد الذى صار كابوسا لا يمكن التراجع عنه. لكن بعد لحظة بدأ الفزع يتسرب إلى داخلى. وكانت هناك جلبة وصياح فى داخل الحجرة، وكدنا أن ندفع تقريبا ونحن نحس أن جمعا من الخدم ومعه أطباق كبيرة من الطعام المسكوب والزجاجات المكسورة.فى الداخل تحولت الصيحات إلى زئير، من فزعى تعلقت بملابس شهرزاد من الخلف.

خطت فوق الصنية الساقطة، وفوق عتبة باب حجرته، حاولت أن أظل خلفها، حيث أستطيع أن أرى. كانت الحجرة عالية ومظلمة بمنضدة واسعة واطئة، وكثير من الطعام المسكوب والزجاجات والأطباق المكسورة، ثمة رائحة سيئة هناك، إنها رائحة رجل فى سرير يحتاج إلى نظافة.

كان راقدا فى سريره وكأنه يريد أن ينام لا أن يصحو. فقط وجهه وإحدى ذراعيه الذى برز من تحت الأغطية. كل شيء حوله بدا كثيفًا ومنتفخا، أنفه ضخم وشفتاه غليظتان، إحدى عينيه حولاء والأخرى تحدق بنظرة ثابتة.ارتفعت رأسه الضخمة عندما لاحظ وجودنا، فتحول من جانب إلى آخر مثل دمية كبيرة. ماذا؟ ماذا؟ قال ذلك ثم نهض على مرفقه وقال:

- فتاة صغيرة، فتاة صغيرة وظلها. فتاتان صغيرتان.

قالت شهرزاد ذلك بصوت عال وحاد:

- لقد حضرنا بدلا من أمينة.

- من؟

- أمينة، الفتاة التى كان من المفترض أن تأتى هنا الليلة.

قال الملك:

- فتاة ؛ لا فتيات. فقط نساء..

مد إلى الأمام يدا ضحمة، مغطاة كلها بخواتم من اليقوت الأحمر وأزاح الكثير من الأطباق والطعام من فوق المنضدة، فاصطدمت كلها بالأرض. ثم صاح:

- اذهبا بعيدا. أين عشائى.

أسرع الخدم عائدية.

- لقد أبعد طعامك أيها الملك العظيم حفظه الله ورعاه.

ارتفع الملك عن أغطيته، صدره العارى أسود مشعر، ووجه الضخم يتلوى بالغضب، فى عينى صار أضخم وأضخم، ثم انكمش وتضخم ثانية. شعرت بالظلام يلفنى، لكن للحظة كان لدى القوة لأفعل ما طلبته منى شهرزاد.صرخت:

- رجاء أيها الملك، استمع إلى أختى شهرزاد. لقد حضرت أختى لتحكي لكم قصصا بديعة، رجاء استمع إلى قصتها. ستحكى لكم أفضل القصص فى الدنيا بأسرها.

وعندئذ سمح لشهرزاد بالدخول، وشعرت بنفسى أنام، غارقة فى الأرض، دارت الغرفة كلها من حولى، والشيء التالى الذى عرفته، أننى كنت راقدة على الأرض ووجهى بجوار حب الرمان. غادر الخدم، وامتلأ الجو بصوت أختى. كانت القصة عن الشيطان الذى أراد قتل رجل لأنه رمى عليه نوى التمر.

لم أدرك فى البداية، لكنها كانت بالتحديد القصة ذات نوى التمر وأيضا كان النوى بجوارى على الأرض مع حب الرمان.

جلست شهرزاد بجوار الملك فى السرير ويدها مفرودة برشاقة على صدرها، من حين لآخر يزوم الملك. استمرت القصة واستمرت. أحيانا كنت أستيقظ وأحيانا كنت أنام، ولكنى لم أفقد أبدا أثر القصة، انتهى الليل وظهر الفجر من خلال الستائر حولنا.

قالت شهرزاد:

- ذلك كل ما أستطيع أن أحكيه الآن.

قال الملك:

- أكمليها.

قالت شهرزاد:

- يمكن أن أنتهى منها فى وقت آخر إذا أردت.

قلت أنا:

- سوف تنهى هذه القصة. وتحكى واحدة أخرى أجمل منها.

زام الملك:

- تعودان الليلة لدى عمل، لم أشعر بتحسن مؤخرا. اذهبى الآن يا فتاة وخذى أختك الظل معك. لكن عودى الليلة وإلا سأغضب جدا. أعتقد لربما أحتاجك كل ليلة.

كان صوتا تقريبا كما لو كان يهزأ. لقد أعطانى لقبا كما اعتاد أبى أن يفعل معنا.

تثاءب وأشار إلينا بالخروج وهو يقول:

- لا تنسيا. عودا الليلة وإلا سأغضب.

بينما خطونا عبر الأبواب الضخمة والدهاليز المغطاة فى الخارج والملئية بالناس. كان أبى هناك بملابسه الممزقة وأمنا ذات الوجه نصف المغطى. العديد من المماليك والخصيان أكثر مما توقعت. أمينة وكل عائلتها يرتدون أفضل ثيابهم والخدم نائمون فوق الأرض. من الداخل كان الملك يصيح من أجل الطعام، ومن أجل حمامه و من أجل كاتبه. كان يريد أن يصدر مرسوما ملكيا، يريد أن يراجع كتائب الجيش. أين الوزير الأول؟

قال أبى وهو يركض نحو الباب:

- أنتما على قيد الحياة؟ كلاكما؟

كانت شهرزاد متعبة جدا لذلك أومات فقط. أما أنا فقلت:

- عليها أن تعود الليلة لكى تكمل القصة.

تمهل الوزير الأول، وقال:

- أهى تلك عن التاجر الذي ضرب زوجته بالعصى؟

قلت:

- لا. إنها تلك التى عن الشيطان ونوى التمر.

عانقتنا أمى، وجعلت الخدم يحملاننا إلى المنزل، نمنا لساعات وساعات ثم استيقظنا وأكلنا زيتونا وخبزا وفاكهة ثم أخذنا حماما وتفرجنا على اللعب والملابس الجديدة التى أرسلها الملك المعظم. قالت رسالته أنه شعر بتحسن لأول مرة منذ عام. وهو يريد أن تعود شهرزاد بكثير من القصص. إنه يريد الليلة قصصا وكل ليلة. وأن الأخت الظل لا بد أن تاتى أيضا.

عبست شهرزاد:

- لا أعتقد أننا يجب أن نذهب كل ليلة.

- هل تعتقدين أننا لن نعود مطلقا للعب فى البستان مرة أخرى؟

هزت كتفيها:

- لا أعرف.

- فى القصص تعرفين ما سوف يأتى بعد ذلك. في الحياة الواقعية، هذا لغز.

هنا بقية الحكاية عن شهرزاد ودنيازاد ؛

فى البدء كانت هناك مئات الحكايات التى تليت على الملك. فى بعض الليالى كان يسقط نائما مبكرا، وفى بعض الأحيان كان سيء المزاج ولا يحب الاستماع إلى القصص ويهدد بقتلنا، لكنه أبدا لم يفعل. صارت شهرزاد امرأة، تواصل الذهاب إلى الملك كل ليل، ومر الوقت وصار لى ولها أولاد وبنات. ولكثير من السنوات ظل الملك هادئا. والوطن سعيدا. عين الابن الأكبر لشهرزاد لولاية العهد وأحب الناس الولد. وأحبوا الملك أيضا. وبعد ذلك عاد المرض للملك ثانية، فبدأ يثور ويهدد ثانية، وأحيانا يقتل الخدم والغرباء، ثم بدأ يقول أنه يريد قتل أطفاله لأنهم يخططون للاستيلاء على الحكم.

وذات ليلة وبعد أن قصت على الملك حكاية عن رجل يحلم ويحلم أثناء أحلامه، سقط نائما. كنت أنا غافية فى الأريكة، ومثل الحلم وأقل الحلم شيءما حدث فى تلك الليلة.

يبدو أن سكينة شهرزاد السحرية قد ظهرت وضربت وأنقذت المملكة.

فى الصباح صرخت شهرزاد وأنا معها على المماليك لأن الجن جاء فى الليل وقطع رقبة الملك. وافق المماليك على أنه لا يستطيع فعل ذلك سوى الجن. وافق على ذلك الوزير الأول أبونا وأعلن الحداد فى المملكة لمدة عام.

أصبح ابن شهرزادة هو الملك الجديد (حفظه الله ورعاه)، وعندما توفي والدنا، أصبح ابني الأكبر هو الوزير الأول. لقد أتى هذا بفترة سلام كبير لمملكتنا، ووجدنا رجالا صالحين ومثقفين ليكونوا أزواجًا لبناتنا، وعلمنا جميع أطفالنا أن يكونوا بطيئين في الغضب والولاء لبعضهم البعض، وبما أن أطفالنا مخلصون، فإن أهل المملكة مخلصون، وسنعيش جميعًا في سعادة دائمة.

(تمت)

***

........................

المؤلفة: ميرديث سو ويلس Meredith Sue Willis كاتبة أميركية مولودة فى ولاية فيرجنياً عام 1946. وهى كاتبة ومعلمة لها العديد من الأعمال الروائية والقصصية والكتابة الإبداعية عن فن القصة القصيرة وفن الرواية. من أشهر أعمالها فى القصة القصيرة:

(فى جبال أمريكا ـ 1992)، (منزل ديوات وقصص أخرى ـ 2002) (والقصة المترجمة هنا منشورة فى مجلة (the pedestal) العدد رقم 27 لسنة 2005).

قصة: ليزا ثورنتون

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

أؤخر زياراته لآخر اليوم حتى يتمكنوا من العمل وقت إضافيا. يهتف العمال عندما يرونني لأنه لا يحب الجميع ويسبهم أحيانًا ويحاول طعن أيديهم بسكين الزبدة.

يقول:هل أنت فتاتى؟ وينظر إلي وكأنني ملكة جمال أمريكا.

لا، أنا ممرضتك، وأضع سماعتى الطبية على صدره لأريه، وألف شريط ضغط الدم حول ذراعه النحيفة.

يومىء برأسه ويقول إنه كبير جدًا بالنسبة لي على أي حال. ثم ينظر إلى مرة أخرى.ويقول: هل أنت فتاتى؟

نقوم بتلوين الصور باستخدام أقلام التلوين على الطاولة في عيد الميلاد، ثمة سيدة على كرسي متحرك يسيل لعابها بجانبنا. يغطي فمه بيده وهو يميل ويهمس لى، انظرى إليها، إنها من دار لرعاية المسنين.

*

في المرة الأولى التي قابلته فيها كان يرقد في السرير ويحدق في الحائط. لا يرد على اسمه،عيناه كابيتان ومخططتان بالجيل. لذا أشغل أغنية "حلقة النار" لجوني كاش، وأمسك بهاتفي وأضعه على أذنه لأنه كان في الأربعينيات من عمره في الستينيات، لذا لا بد أنه يعرف ذلك، على ما أعتقد.

عندما تندفع أصوات الأبواق، تتحول عيناه، عائدتين إلى الغرفة، و الحاجز ذى الستارة والخزانة الخشبية الرخيصة. النافذة المطلة على الحقول والثلج بالخارج.

*

سأرى يسوع، أخبرني بمجرد تسجيل أصوات رئتيه وأبعاد الجرح. لكنه يقول إنه قلق من أن أسرته لا تريده هناك.

أجبته أن الجنة مفتوحة للجميع، وتخيلينا شجرة كبيرة يجلس تحتها والداه يناديان اسمه وعندما يصل سينهضان فى نشاط للترحيب به.

يقول: لا أعرف، وهو يتامل يديه المشدودتين. ثم يضيف: لا أعرف.

أتخيله شابًا، يرتدي قميصًا أحمر من الفانيلا وبنطلون جينز أزرق بحزام جلدي، مثل كان يرتدي أصدقائي في المدرسة الثانوية، وكما كان يرتدي أبى عندما اصطحبنا جميعًا للتنزه خارج المنزل. يسير في الشارع الرئيسي في المدينة، يتقاطر المتسوقون داخل وخارج متجر الأجهزة، المطعم مليء بالسكان المحليين الذين يصطدمون ببعضهم البعض في طريقهم إلى الموائد. يستقر لتناول الجعة في الحانة، ورفاقه يقذفون بالنظرات الحادة على بعد أمتار قليلة. يأخذني في جولة بشاحنته الحمراء، الشاحنة التي يشعر بالقلق الشديد حيالها دائمًا. نذهب للرقص.

أو يضربها. الزوجة التى في الجناح المجاور تصرخ كلما رأته. من ينسى أنه يعيش هنا ويترك الأمر على هذا النحو. خلع الحزام الجلدي وضربها به مرارًا وتكرارًا.

*

هذا مكان بين بين، هكذا قال لي من كرسيه المتحرك في ظهيرة أحد الأيام عندما كان يتعرف اسمه.

يشير إلى الكراسي المتحركة الأخرى الموجهة إلى التلفزيون، ومنضدة البطاقات، والنوافذ، وهي متنائرة فى جميع الاتجاهات مثل كرات البلياردو بعد الاستراحة. يقول إننا لسنا أحياء ولا أموات هنا.

أقضي أيامي في مساعدة الآخرين على الموت حتى يحين دورهم، ونجلس بجانب النافذة. أقول لزوجي أنني وقعت في حب مريضي. أم أنه مجرد غموضه الذى أحبه؟ يبتسم زوجي دون أن يعلق.

*

هل تريدين أن تأتي؟ سألنى ذات يوم ونحن نجلس بجانب النافذة. سنكون طائرين ونطير فوق هذا الحقل والنهر.

لدي عائلة، أذكره. أنا أم، علي أن أبقى. نعم، أومأ برأسه متذكرًا، على أي حال أنا بالنسبة لك عجوز جدًا.

سيدفنوه في مقبرة صغيرة في ساحلبحر فول الصويا. يقول نظام تحديد المواقع العالمي (جى بى إس) أمامى إننى فى طريقى إلى هناك ولكنى أشك، لذلك أتوقف عند مزرعة وأسأل عن الاتجاهات.

هل أنت قريب له ؟ يستهجن الرجل. أجبت أنني كنت ممرضته، وأنا أتذكر الشتائم وسكاكين الزبدة. والزوجة.

وضعوه في صندوق تعلوه أزهار حمراء و حفنة من الأقارب الحقيقيين حوله. الغطاء ضخم بمفصلات ضخمة مطلية بالفضية. لا يمكنني الوصول إليه لوضع الكريم على ذراعيه أو ضمادة عليهما، أو إحضار شراب الماونتن ديو له أو اختيار لحن نسمعه معا.

لا توجد شجرة في الأفق. تهب الرياح فوق سقف الخيمة القماشية التي نتجمع تحتها جميعًا، فتبدو مشدودة.

يقرأ قسيس من الكتاب المقدس. قاموا بإنزال الصندوق في القبر بسلاسل معدنية سميكة بينما الطيور تنهض من الحقول مثنى وثلاث.

(تمت)

***

..............................

* المؤلفة: ليزا ثورنتون تعيش ليزا ثورنتون في إلينوي مع زوجها وابنها. حصلت على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة ولاية كولورادو وبكالوريوس العلوم في التمريض من جامعة لويزيانا في لافاييت.

 

قائمة غير مكتملة بالأشياء القادرة على ادارة البلاد افضل من الحكومة الحالية

بقلم: براين بيلستن:

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

قائمة غير مكتملة بالأشياء القادرة على ادارة البلاد افضل من الحكومة الحالية

مربط حبال السفينة. كشتبان. حبيبات مرق اللحم.

مضخة تفريغ جوف المركب. ريشة العازف. مجلة بوكيمون.

قبضة باب. عصفور. ابريق عتيق صدئ.

مغطس اقدام. مشبك ملابس. لطخة نبيذ. حصاة.

حمالة ملاعق خزفية.  قرص نعناع بالفاكهة.

منديل ورقي مرمي. بركة آسنة. ضمادة.

خرطوش حبر طابعة مستعمل. بضع جوارب عليها نقوش آلات موسيقية.

كوم طين. ثعلب محنط مذعور.

حذاء مطاطي. صمولة مجنحة. طقم اسنان مزيفة.

ساعة جدارية غير مألوفة عليها وجه (برو ليث).

خنفساء. كثيب جليدي. قطعة سلك قصيرة.

علبة فطائر الذرة بالجبنة. أصيص. معظم الأشياء.

***

.................

* عرف الشاعر براين بيلستن خلال السنوات القليلة الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما بوصفه صوتا شعريا متميزا حتى أطلق عليه لقب (أمير شعراء تويتر) على الرغم من كونه شخصية يلفها الغموض ولا يعرف عنه الا النزر اليسير. ظهرت له أول مجموعة شعرية مطبوعة بعنوان (استقللتَ الحافلة الأخيرة الى الديار) في عام 2016 ورواية بعنوان (يوميات احدهم) في العام الحالي. يواظب بيلستن على نشر قصائده على مواقع التواصل على نحو شبه يومي. (ملاحظة: يشير "برو ليث،" الاسم الوارد في القصيدة، الى مالكة سلسلة مطاعم واذاعية ومؤلفة كتب طبخ جنوبافريقية شهيرة.)

 

 

 بقلم: دافيد قسطنطين

ترجمة صالح الرزوق

***

رن الهاتف.

قال: سأرد عليه.

بالعادة يترك الهاتف لها، ولكن كانا بمكان واحد، وأراد أن يتصرف بشكل لائق. بقيت هي عند الطاولة. فكرت: هذا يتكرر مؤخرا. آه، حسنا. وماذا في ذلك؟.

عاد. قال: إنه لك.

- من؟

هز كتفيه وقال: رجل ما.

وحينما عادت كان قد نظف الطاولة، وغسل الأطباق، وبدأ بغسل الفاصولياء - فاصوليائه - الموجودة في آخر الحديقة. وقفت عند خزان الماء، تراقبه وتحاول أن تفهم المكالمة. كانت أمسية صيفية طويلة، العصافير تزقزق، وكل شيء في الحديقة على أتم ما يرام. ولكن لم يكن بوسعها أن تؤكد، أو توقعت أنها غير متأكدة، وهل هو يروي الفاصولياء حقا مثلما نظف الأطباق: لتكون محقة دون تحير. وكان بإمكانها تقريبا أن تسمع الصوت الذي في رأسه، اللحن المتفجع. ولكن بضوء الظروف الحالية لا تجد سببا يدفعها للحزن عليه، أو عليها أيضا. ولكنها لم ترغب أن يستمر حتى يخيم الليل ويحين وقت النوم. تقدمت في الحديقة، ووقفت قرب الفاصولياء، التي استطالت وأزهرت ورودها القرمزية. شمت رائحة التراب المبلول. استدار وعاد من خزان الماء ومعه علبة ممتلئة. قالت: جيد. ولكنه لم يحرك رأسه. ورأت أن العمل، الذي يحب، يتملكه. بعد أن أفرغ العلبة قال: أحتاج لعلبة أخرى. وقفت تراقبه، وتفكر بالمكالمة، وحينما انتهى من الأخدود قال من فوق كتفه: من كان؟.

ردت: رجل ما. قال إنه تعرف علي قبل عشرين عاما في أيام الدراسة.

أفلت الزوج العلبة الفارغة ونظر إليها متسائلا.

قال: أي دراسة؟

-درس انت أهديته لي في عيد ميلادي، درس الشعر في منطقة البحيرات. قلت إنني سأسقط في الحفرة إن لم أتبع الحصص الدراسية عن كتابة الشعر في منطقة البحيرات. وكل رفيقاتي قلن إنها هدية رائعة.

قال الزوج: آه، تلك الحصة. والرجل الذي كلمك للتو كان معك، أليس كذلك؟

- حسنا. ادعى ذلك. ولكن لم أكن بعمر يمكنني من تذكره. قلت له ربما كنت معه، ولكن تلك كانت كذبة.

- لكنه يتذكرك جيدا، بما يكفي ليكلمك بعد عشرين عاما.

- لأكون صادقة تماما، أنا لست متأكدة أنه يتذكرني، ليس أنا، إن كنت تفهم ما أقصد.

قال إنه يفهمها، ولكنني لست متيقنا.

واستدار الزوج ليعيد العلبة إلى قرب خزان الماء حيث يجب أن تكون. راقبته، وهي تفكر بالرجل الذي كلمها، وليس بزوجها وأسئلته.

عاد وسألها: هل لهذا الرجل اسم؟.

ردت: نعم. له اسم. قال اسمه ألان إيغليستون. ولكن لا أتذكر أحدا بهذا الاسم من أيام حصة الشعر. أتذكر من هم المدرسون، واثنين أو ثلاثة من الطلاب. ولكن ليس ألان إيغليستون.

ثم قال الزوج: حسنا كانت مكالمة طويلة مع رجل لا تتذكرينه. لا بد أنك وجدت شيئا مشتركا بينكما، لتستمري معه طويلا.

ردت: نعم. وآسفة جدا لأنني تركتك مع غسيل الأطباق. لم أجد طريقة لإنهاء الكلام بسرعة. ولم أكن مستعدة لمقاطعته.

نظر إليها الرجل، لبعض الوقت، كأنه لا يراها كما هي على حقيقتها.

قالت: لا تنظر لي هكذا يا جاك.

رد: ولكنني لا أنظر لك بطريقة مشينة. فقط لا أعلم عما كنت تتكلمين مع شخص غريب كل هذا الوقت. ربما كنت في ذهنه منذ عشرين عاما. وربما كتب لك القصائد لعشرين عاما.

ردت: أشك بذلك.

وشعرت بالتعب، ليس من الكلام الذي دار عن المكالمة، ولكن من كل شيء يحصل بين حين وآخر. ولا شك أن جاك لاحظ ذلك. فهو واضح جدا. لم يفقد أحد من معارفه صبره فجأة، وبشكل ملحوظ، مثل زوجته.

قال: أنا لا أفهمك يا كريس.

لست مضطرة لتخبريني بأي شيء لا تريدين أن تخبريني به. كنت أتساءل ماذا لدى السيد إيغليستون هذا ليقوله لك طيلة هذه الفترة.

بسبابة يدها اليسرى جرت كريستين شفتها السفلى عدة مرات وأفلتتها. ولا تفعل ذلك إلا إذا كانت بحالة عصبية أو محتارة أو الاثنين معا. وهي عادة سيئة، وتثير حفيظة الآخرين، وغالبا ما تلقت التوبيخ بسببها من أمها حينما كانت بنتا صغيرة.

قالت: أخبرني أنه مصاب باللوكيميا. وقال إنه ربما بقي لديه ثلاث أسابيع في هذه الحياة. ونظرت إلى جاك كما لو أنه يعلم كيف ينفق هذا الوقت. ولكن جاك هز رأسه. وقال: لا تكذبي علي. لا أحد يتصل بإنسانة غريبة تماما ليخبرها أنه سيموت في غضون ثلاث أسابيع.

ردت: لم أقل إنه غريب تماما عني. قلت أنا لا أتذكره. ولو أنه غريب عني، فهو لا يعتقد أنني غريبة عنه. وقال إننا كنا معا في حصة الشعر في منطقة البحيرات. واسمي موجود في دفتر أرقام الهاتف الخاص به.

- هل اسمك مدرج في دفتر هواتفه؟.

- -حسنا. لا شيء عجيب في ذلك. لماذا لا يتبادل الزملاء في الدراسة العناوين في نهاية الفصل إذا شعروا أنه كان وقتا ممتعا؟ وحقيقة أنني لا أستطبع أن أتذكره لا يبدل من الأمر شيئا. ولنكن صريحين بهذا الشأن. هو لم يخصني بالمكالمة. بل اتصل بكل الأسماء الموجودة في دفتره، وأخبرني بذلك منذ البداية.

قال جاك: لا بد أنه وصل إلى حرف واو، ولم يبق أمامه الكثير.

ردت كريستين: كلا. لم يشارف على حرف الواو. وهو لا يزال في حرف الباء.

- هل يمكن أن أسال إذا لماذا اتصل بك أولا؟

- لأنني أثناء الدراسة كنت أستعمل اسم العائلة. لا أقصد أنني لم أخبر الآخرين أنني متزوجة. ولكن استعملت اسم العزوبية لأنني كنت أعتقد إنه الاسم الذي يجب أن أنشر به إن نشرت أي شيء.

قال جاك: لم تخبريني بهذا على الإطلاق.

ردت: متأكدة أنني أخبرتك. ولكن المسألة ليست إن أخبرتك أم لا.

قال جاك: لم تخبريني فعلا.

ومنحها نظرة أخرى وتراجع عمدا إلى داخل المنزل. مكثت كريستين في الحديقة. كان الجو سارا هناك بالنسبة لمنطقة في الضواحي، كأنها تعيش في الريف. الثعالب تأتي مع جرائها في بواكير الصباح من أيام الصيف، وتسمع أصواتها، وكذلك الكلاب وإناث الذئاب، تعوي وتصيح في ليالي الشتاء. والبوم أيضا أحيانا، وتعشش في أشجار المستشفى الضخمة. بقيت في الخارج، تدغدغ شفتها بأصبعها. وطال بقاؤها حتى لف كتفيها إحساس بالبرد. في الداخل كان جاك يتابع الأخبار. سمعت بمجزرة أخرى.

قالت كريستين: أعتقد أنني مزمعة على الإخلاد للسرير.

أغلق التلفزيون وقال: أنا حزين لهذا السيد، المسمى إيغليستون. بكل تأكيد أشعر بالأسف له. ولكن لا أرى مبررا ليخبر كل الأسماء المذكورة في دليل هواتفه أنه مشرف على الهلاك. ألا يكفي تمرير النبأ لعائلته وأصدقائه المقربين؟. أتساءل: كم من الأغراب يتوجب عليه الاتصال بهم كل يوم، يصعب أن يخبر الجميع، أليس كذلك، فكل ما بقي له ثلاث أسابيع.

في منزل آل ويكلين أصبحت كريستين المرجع فيما يتعلق بإيغليستون الذي يحتضر.

قالت: له عائلة. من ثلاث بنات على وجه الدقة. ولكن هجرته زوجته، وأخذت معها البنات وهن طالبات صغيرات في المدرسة. وعلى ما يبدو كانت تدعي أنه أناني. ولذلك نادرا ما يجتمع بعائلته، ولم يخبر أحدا عن حالته الصحية. وربما لا يوجد الكثير من الأسماء في دليل هواتفه، وربما نصفهم من الأموات. وهذا هو حال دليل هواتفنا. وربما هو دليل هاتف قديم تركته زوجته حينما غادرت وبدأت بدليل جديد، ومعظم العناوين القديمة، التي يتصل بها الآن، تخصها هي، أسماء عائلتها وأصدقائها على وجه العموم، وهذا هو الحال في دليل هواتفنا كذلك، يجب أن تعترف بذلك، ولن يبقى أحد منهم على قيد الحياة إن انتظرت إضافاتك. فأنت لا تضيف أسماء جديدة.

- ولكن كيف لي أن أعلم بأحواله. أصلا لم أقابل الرجل وإن قابلته لا أستطيع أن أتذكر كيف يبدو أو أي شيء آخر عنه.

- أخبرني أنه تبقى له ثلاث أسابيع من حياته، وهو يتصل بالأسماء الواردة في دليل هاتفه بالترتيب الهجائي، وأنه وصل إلى حرف الباء، ووجد اسمي فيه. هل بمقدورنا الآن أن ننسى هذا الموضوع.

في السرير استغرقت كريستين بالتفكير. ورأت أنه من غير المستحب أن تغرب الشمس وهي حانقة لأن الموت قد يخطف واحدا منهما في الليل فلا يتبقى وقت للتسامح. ثم قررت أنه لا ضرورة الغضب، وليس بينهما شيء للتسامح. وفي كل حال كان جاك قد غرق بالنوم. استلقت كريستين مستيقظة تحاول جهدها أن تتذكر أي شيء مهما كان عن ألان إيغليستون، ولكن لم يخطر لها شيء. وعوضا عن ذلك وبلفتة مفاجئة تذكرت شخصا آخر كان معها في حصة الشعر تلك في منطقة البحيرات. اسمه ستيف الفلاني، أو اسم آخر، ولكنه شاب هادئ، على الأقل أصغر منها بشكل ملحوظ. ولم يردعه ذلك، واقترح أن يشتركا بنزهة في فترة بعد الظهيرة من أحد الأيام، ولم يكن لديهم حينها ورشة عمل والمفروض أن الجميع مشغولون بقصائدهم دون مزيد من الصخب والضجة.

كان يعلم ما ينتظره في طريق التابوت القديم حتى بحيرة ألكوك وما بعدها، وحتى التلال، المعروفة باسم تل مايكل، والمذكورة في قصيدة ووردزورث، وهي عن رجل عجوز كان يبني حظيرة للخراف، ولكن ساء حال ابنه، وفطر قلب والده، وفي أحد الأيام تسلق التل وجلس خامدا قرب عمل قيد الإنجاز 'ولم يرفع حجرة واحدة'.

غرغرت الدموع في عيني كريستين بسبب بيت الشعر من القصيدة المشهورة، عن الأب المسكين، والابن المسكين اليائس، والشاب المدعو ستيف الذي وجدها كما هو واضح بمنتهى الجاذبية ودعاها لنزهة برفقته إلى أماكن لا تفكر بزيارتها إذا كانت بمفردها.

تناول جاك في اليوم التالي إفطاره كالعادة. فكرت كريستين: ليس هناك ما يقلق كثيرا، وبحثت بغوغل عن ألان إيغليستون، لتتأكد إن كان معروفا في السنوات الأخيرة. ولكن لم تجد شيئا، يمكن أن يكون له به أي علاقة. بعد الإفطار، وإن شئت الحقيقة وهي تغادر البيت لنوبة عملها الصباحية في أوكسفام، أخبرت جاك أن غوغل لم يتعرف على ألان إيغليستون.

قال جاك: هذا يعني أنك أهدرت نقودك من أجله.

ورأت كريستين أن جاك علم فورا أنه لا يجدر به أن يقول ذلك. ولكنها تركت البيت بوداع بسيط قبل أن يعتذر.

في الشارع كانت تمشي بسرعة، وهي تفكر أنه لا يجب مغادرة البيت بسخط، فهذا مثل أن تستدير وتنام غاضبا مع احتمال أن تموت تحت عجلات حافلة، والخطأ الذي يحتاج لتصويب، سيبقى خطأ إلى الأبد.

ثم في نهاية الدكان مع سيدات يوم الثلاثاء، اللواتي كن ترتبن أطنانا من اللوازم لترسلها العائلات إلى أوكسفام، أو لتعين بها المسنين بعد وفاة أحدهم، تعمدت أن تفكر بهدوء بأحوال ستيف وبحيرة ألكوك والسفح الصاعد نحو تل مايكل.

كان الوقت في مطلع حزيران، والمياه حول ضفاف البحيرة سوداء تماما وراكدة، وفيها ضفادع كبيرة جدا. عادت إليها كلمة "أطراف" من قصيدة لهاردي كتبها لزوجته بعد موتها واستيقاظ الحب الذي مات. أطراف البحر الأبيض، وأطراف البحيرة السوداء.

نطق ستيف ذلك بلهجة كثيفة، ولكن كل كلمة منفصلة عن غيرها، وكل منها في السياق احتمال منفصل عن حياة تالية، وكل منها تتحرك منعزلة باتجاه الطور اللاحق من حياتها، وهي تشبه النطاف، أطراف البحيرة كانت نطافا. ولم تجد في ذلك شيئا غير محترم أو يسبب الارتباك. عالمها وعالمه مثل شيء يخطر لك فجاة إن رأيت دون إنذار شيئا جديدا أمامك. وحينما شرعا بتسلق تل مايكل، برزت من وجه الصخرة أشجار غبيراء، برزت وارتفعت فجأة، من الصخور، دون مهلة، وإلى أعلى، كما لو أنها ترغب بذلك، وكانت مزهرة بغزارة، وذات لون كريمي، ولها رائحة عطرية غريبة، عالية في الفضاء، إلى الأعلى والأمام لتخيم على الفراغ، في الفضاء الرقيق، ولتشرف على هاوية سحيقة، وهي ترتفع. وأصر ستيف أنه قبل أن يبدأ التسلق، إلى التل، عليهما الاقتراب بقدر الإمكان إلى مكان نمو الأشجار أفقيا من صخرة تغطيها السراخس، لحين يمكنها أن تنمو نحو السماء.

أمسك بيدها، وساعدها، كان الأمر مثل تسلق الصخور، وحينما وصلا إلى المكان المقصود، نفس مكان الأشجار في المرتفعات، ركزت على المشهد، على الشيء، على الطبيعة الظاهرة، وشعرت بمشاعر مريحة، كانت قد نسيتها تماما، وهي مريحة لأنه كان يفكر بها مبتهجا وسعيدا. أصبحت أمام وجوده ووعيها الشديد بنفسها، وأشجار الغبيراء التي تأثر بها.

في البيت كان جاك قد حضر الطاولة للغداء، ولم يسبق له أن فعل ذلك. كان يبدو مثل كلب ينتظر وقال فورا: أنا آسف يا كريس. ما كان يجب أن أقول ما قلت.

-وأنا أعرف دروسك جيدا، لم تكن هدرا للنقود.

-استمتعت بها أليس كذلك. أليس كذلك، وهذا كل ما يهم.

ردت: نعم. استمتعت بها. وأفادتني. وكل صديقاتي النساء لاحظن التبدل الذي طرأ علي. وشعرت بالتحسن بعدها لحوالي سنتين. هل تذكر.

ابتهج جاك وسأل: والآن ماذا علينا أن نفعل مع الأحمق المسكين إيغليستون. هل نفعل شيئا أم نهمله.

قالت كريس: لا شيء. وماذا يمكننا أن نصنع؟. لا شيء.

-أقصد أنه لم يذكر أنه سيتصل بك ثانية. ليخبرك عن أحواله؟. وأنت لم تقولي إنك ستتصلين به.

قالت كريستين: كلا. كلا هو لم يذكر شيئا و أنا كذلك.

وهكذا تابع جاك وكريستين ويكلين طريقيهما البطيئين نحو نهايتين منفصلتين. وتابعت المكالمة الهاتفية، في نفس الوقت، عملها في رأسيهما، كل على حدة. كانت كريستين لا تستطيع إخراج صوت ألان إيغليستون من رأسها. ويوما بعد آخر أصبح أعلى، وأكثر إلحاحا. وكانت مكرهة للإصغاء للرعب واليأس الذي يأتي بعد كلامه. وتذكرت كيف كان كلامها محدودا معه، وكيف لم يسمح لها إلا قليلا بالكلام، وما وفر لها كلامها من فائدة أو راحة؟. ماذا أراد، بالإضافة إلى أن لا يلقى حتفه؟.

هل الاتصال حسب الترتيب الأبجدي في دليل الهاتف الشخصي ساعده ولو قليلا؟. وكل ما سمعته الآن هو كلام رجل وحيد مع إنسانة لا تذكره. ومع أنها أشفقت عليه، ولكن الإحساس المسيطر عليها كان الرعب فقط. ورأت أن جاك يراقبها. وعلمت أن ألان إيغليستون أصبح مشتركا بينهما، وهذا ما تسبب لها بالغثيان.

اثناء الطعام أو النوم في السرير أو الوقوف معا لغسيل الأطباق، أحدهما دون مقدمات، وكان هذا هو الموضوع المحتمل الوحيد الذي يستحق التفكير أو الحوار، يتساءل بصوت مرتفع عن مصيره، ويقترح سؤالا، بلغة خطابية، دون أن يتوقع ردا. أو يصدر عن جاك أو كريستين تكهن.

قال جاك: ربما يأمل بمعجزة. وهذا مفهوم تماما. لنقل في دفتر هواتفه خمسون اسما، وقد يكون أحدهم سمع بشخص أوقف أثر اللوكيميا قبل النهاية، جمدها، بأساليب خارقة، وجعلها على الأقل تتأخر بمفعولها، وربح للشخص المحتضر خمس سنوات إضافية، أو عاما، أو حتى ست شهور؟.

قالت كريستين: ربما أنت محق. ومع أنه لم يسألني إن كنت أعرف أحدا من هذا النوع. ولاحظت أن هذا الكلام جعل جاك يتساءل لماذا خابرها ألان إيغليستون أساسا.

ثم فجأة بعد يوم أو اثنين قالت: صدمني أنه ربما كان يتابع بتلك الطريقة المنهجية ليتأكد أنه لا يوجد أحد في دليل الهواتف يدين له باعتذار أو هو مدين له باعتذار، وخابره ليقول له أنه لم يبق وقت طويل له لتصويب أخطائه.

وعند ذلك وبشكل واضح قال جاك والشك يخامره: هل قال لك ذلك؟.

- كلا، لم يفعل. ولكن تبادر ذلك إلى ذهني.

ولاحقا في نفس اليوم، قاطعت جاك الذي كان يتكلم عن أمر آخر وقالت: أرى أنه أخطا لأنه لم يخبر زوجته وأولاده بحالته الصحية. لا شك أنه يريد أن يتألموا بعد أن يكتشفوا أنه مات.

قال جاك فجأة: ولكن لا أحد يكون ساخطا ويفكر بالانتقام وهو يلفظ أنفاسه. اتصلي به، وأخبريه.

- لا أعرف رقمه.

- توجد طرق لمعرفة رقمه.

- لا أريد. ولا أود أن أتكلم معه مجددا. ولا أريد أن أسمع صوته. وطيلة الوقت صوته يرن في رأسي يا جاك. ولا أريد أن يزيد من متاعبي بنفسه.

مرة أو اثنتين قال جاك إن السيد إيغليستون هراء لا معنى له. ولا يجوز مكالمة الناس هكذا وإفساد حياتهم لأنه شارف على النهاية. قال جاك: الجميع يموتون. فلماذا موته له طعم خاص؟.

ونظر بمزيد من الشك إلى كريستين، فتوقعت أنه يعتقد بوجود أشياء لم تخبره بها عن حصص الشعر اللعينة.

وفي المدينة في أحد الأيام وهو يتبعها أثناء التسوق، سأل بطريقة عادية إن كان لديها شيء من تلك الحصص، رسائل قديمة، قصائد، صور، أية ذكريات لها معنى، وفهم بدوره لماذا خابرها السيد إيغليستون ليقول لها إنه يموت.

ردت: لا.

ووضعت الكبد والنقانق في سلتها، وأضافت: إن كنت تريد أن تعرف حقا، أنا ألقيت كل شيء في النفايات في أحد الأيام بعد سنتين منه حينما تعكر مزاجي. كل شيء بقي لي من ذلك الأسبوع - وكان كل شيء في مغلف مربوط بشريط - ألقيت كل شيء في النفايات، واحتفظت بعيني على سلة النفايات حتى جاء رجال التنظيفات ووصلوا إلى بيت الجيران، وهناك غادرت وألقيت المغلف في النفايات لأتأكد أنهم حملوه معهم، ولا مجال لتبديل رأيي. هذا ما فعلت بذكرياتي عن حصص الشعر.

قال جاك: لم تخبريني بذلك.

قالت كريستين: كلا. لم أخبرك بذلك.

ويوما بعد يوم لاحظت كريستين أن جاك ينظر بمزيد من الشك إليها.

قالت لنفسها: أعلم بماذا يفكر.

ثم بعد ثلاث أسابيع من الاتصال الهاتفي مرت أمسية جميلة، وذهب إلى الفاصولياء، وبدأ يسقيها، فوقفت بطريقة مريبة إلى جانبه، تراقبه بنصف وعيها. ونصفها الآخر مشغول، وكانت تلهو بشفتها بطريقة لم تكن تتبعها في السنوات السابقة.

أفلت العلبة الفارغة وقال: كريس، لا تلعبي بي مجددا، هل هذا ممكن؟.

***

..............................

دافيد قسطنطين David Constantine: مترجم وشاعر وروائي إنكليزي. ولد في سالفورد ويعيش في أوكسفورد. له روايتان هما "دافيز" و"كاتب مدى الحياة"، وسيرة أدبية هي "حقول النار: حياة السير وليام هاملتون". وعدد من المجموعات القصصية ومنها "في الخلف عند الشوكة" و"تحت السد" و"حفل شاي في الميدلاند" و"الحظيرة" و"صندوق الملابس". اشترك مع زوجته هيلين في تحرير كتاب "الشعر الحديث المترجم". ترجم أعمال هولدرلين وبريخت وغوتة وكلايست وميشو وجاكوتي.

 

 

بقلم: بابلو نيرودا

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

ليتركوني وشأني الآن

ليعتادوا غيابي الآن

سأغمض عينيّ

لا أريد سوى خمسة أشياء،

خمسة جذور مفضّلة

أولاها الحبّ بلا نهاية.

وثانيها أن أرى الخريف

لا يمكن أن أكون دون أن

تطير الأوراق ثم تعود إلى الأرض.

وثالثها الشتاء القارس،

المطر الذي أحببته، مُلامسةُ

النار في البرد الغابيّ.

رابعها الصيف

مستدير مثل بطيخة

خامس شيء هو عيناك

عزيزتي ماتيلدا،

لا أريد النوم دون عيناك،

لا أريد أن أكون دون أن تنظري إليّ:

أُغيّر الرّبيع

كي تواصلي النظر إلّي .

أصدقائي ، هذا ما أريد.

هو تقريبا لاشيء وتقريبا كلّ شيء.

الآن ارحلوا إن رغبتم.

عشت طويلا حتى يوم

عليكم فيه نسياني لا محالة،

سوف تمحونني من اللّوحة:

فليس لقلبي نهاية.

لكن، لأني أطلب الصمت

فلا تعتقدوا أنّي سأموت:

ما يحدث لي مخالف تماما

يحدث أن أعيش نفسي.

يحدث أن أكون وأتابع.

لن يكون إذن سوى بداخلي

تنمو المزارع،

أوّلا هي الحبيبات تمزّق

الأرض كي ترى النور

لكن الأرض الأمّ مُظْلمة،

وأنا مظلم في داخلي:

أنا  مثل بئر على ماءه

يُوِدع الليل نجومه

ويتابع سيره وحيدا عبر الحقول

الحقيقة أني عشت طويلا

حتّى أنّي أريد أن أعيش أكثر

لم أشعر أبدا بمثل هذه الحيوية

ولم أحظى أبدا بمثل هذا القدر من القبلات

الآن، الوقت مبكّر، مثلما هو دائما .

يطير الضوء بأجنحته.

اتركوني وحيدا مع النهار.

أطلب الإذن بالولادة.

***

...........................

* بابلو نيرودا "اكسترافاغاريا" (1958) "موجة تنحرف عن مسيرها" ص9، ترجمة جاي سيوراس، شعر، غاليمار، ماي 2003.

ثلاث قصص قصيرة جدا

تأليف: إدموندو باز سولدان

ترجمها عن الاسبانية: كيرك نيسيت

ترجمها عن الأنلكيزية: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- أسطورة وي لي وقصر الإمبراطور

ذات صباح استدعى وي لي المسن إلى قصر الإمبراطور. لقد عاش حياته كلها في قرية صيد صغيرة ولم يكن يعرف مكان القصر، لكنه تخيل أن يكون في مبنى الكابيتول بالولاية، والذي لم يزره من قبل. عندما سأل عن الاتجاهات في السوق، أخبره أحد الضباط أن القصر في كل مكان، وأن القصر هو البلد. قال لـ وى لى ؛ كوخك في إحدى حدائق القصر. قال إن القرية كلها قطعة من القصر. لا يوجد سبب للذهاب إلى الكابيتول للبحث عن القصر لأن القصر هنا .

نظر وي لي في الأمر، وقرر أن أفضل طريقة لإطاعة الأمر هي العودة إلى كوخه والانتظار في غرفته حتى يأتي أمر جديد .

في الأسبوع التالي، ظهر زوجان من الضباط في كوخ وي لي وأخرجوه. تم إعدامه على الفور، ورأسه مثبت على عمود في ساحة القرية، وهو درس لمن تجرأ على عصيان دعوة الإمبراطور .

**

2- الدكتاتور والبطاقات

في هذه، على أية حال، امتلك الدكتاتور خواكين إيتوربيدي مصنعًا لبطاقات المعايدة واحتكر مبيعات البطاقات في البلاد، وقرر يومًا ما إعلان يوم الصداقة في 26 يونيو، وحققت البطاقات المصنوعة لهذا اليوم نجاحًا غير متوقع مع للجمهور، وحقق مثل هذه المكاسب المذهلة للشركة، أعلن الديكتاتور يوم 14 أغسطس يوم الغيرة، والذي كان ناجحًا أيضًا. بمحض إرادته، حقق النجاح النجاح، وفي أقل من خمس سنوات، تم أخذ كل يوم من أيام السنة - كان هناك يوم مرارة ويوم صديقة خائنة ويوم الأجداد العظيم، الأزواج المحبون الذين يكرهون في الواقع يوم ويوم أونان المتحمسين، اليوم من أولئك الذين ينامون بمساعدة، يوم قراء ماركيز دو ساد، ويوم الذين يحلمون بالقنطور. لإفساح المجال للمناسبات الجديدة، قسم الديكتاتور الأيام إلى أجزاء: أُعلن غروب الشمس في الثالث من يناير على أنه ساعة أولئك الذين يحبون ممارسة الحب في المسارح المظلمة، و 16 أكتوبر عند الفجر كانت ساعة أولئك الذين لن يقتلوا حتى ذبابة، وظهر يوم 21 ديسمبر، ساعة الحنين إلى تشا تشا. وما إلى ذلك وهلم جرا. لقد جنى الديكتاتور في هذه المرحلة أموالاً من بيع البطاقات أكثر مما كان يسرق من خزائن البلاد، لكنه لم يرغب في التخلي عن سلطته. أراد أن يموت معها، البطريرك القديم الجليل الذي كان عليه .

عندما جاء الموت كان بالفعل كبيرًا جدًا. تكريما له، أعلن مجلس الأعيان في البلاد بعد ظهر يوم 2 أبريل في تمام الساعة 4:27 و 15 ثانية اللحظة الزائلة للديكتاتوريين الأبديين .

**

3- الإيمائى (الممثل الصامت)

عندما بدأ في عرض قصته التمثيلية بجوار النافورة الخالية من الماء، كان الممثل الصامت في ساحة أباروا يستخدم إيماءة أو حركة لكل كلمة. ساعدت حركات ساقيه ويديه، وتنوع  التعبيرات التي رسمتها من عيناه وشفتاه، على سرد القصص الطويلة بالتفصيل: يمكن أن تستمر القصة بعد ظهر يوم كامل. سيتوقف المارة، ويستمتعون بجزء من القصة،ثم يمشون، تاركين المال في قبعة مصنوعة من اللباد ترقد على الرصيف فوق سترة سوداء .

لم يرد الممثل الصامت لجمهوره أن يغادر بنصف قصة فقط. لقد كان يتعلم تكثيف الخطب الطويلة في إيماءاته، لجعلها أكثر تجريدا. والآن بحركة طفيفة من جفنه الأيمن يروي قصة لي شانغ، التي تخلى عنها والداها عند باب معبد فى ضواحى شنجهاي، لكنها، بفضل رعاية رهبان المعبد، كبرت لتصبح مشرقة، شابة جميلة وذكية للغاية، مما أدى إلى هلاك أحد الرهبان، وقع في الحب وفضل حرق المعبد بدلاً من الاعتراف به - لقد احترم وعوده الدينية كثيرًا - لدرجة أن لي شانغ، شاعرة بالذنب والندم، عقدت العزم على قطع لسانها، معتقدة في أن هذا سيكون عقابها، فلماذا لا تفي به .

يصفق المارة، ويناقشون بحرارة المعاني المبهمة للحركة الطفيفة للجفن الأيمن، ثم ينتهي بهم الأمر بالاتفاق على شيء ما: ربما إذا كان من الممكن سرد القصة بشكل أكثر تكثيفًا، فإنها ستكون أكثر إمتاعًا .

يحرك الممثل الصامت رأسه، من اليسار إلى اليمين - علامة لا لبس فيها على اليأس والاستسلام - ويعود إلى الفور إلى العمل الذي يقوم به .

المؤلف: إدموندو باز سولدان / روائى وقصاص وأستاذ جامعى من بوليفيا من مواليد عام 1967 م، يعد من أشهر كتابها، ألف إدموندو باز سولدان عشر روايات ومجموعتين من القصص القصيرة. حصل على جائزة الكتاب الوطني البوليفي لعام 2002 عن هذيان تورينج وزمالة مؤسسة جوجنهايم لعام 2006. كما فاز سولدان أيضًا بجائزة خوان رولفو المرموقة فى القصة القصيرة . هو أحد أكثر المؤلفين تمثيلاً لجيل أمريكا اللاتينية في التسعينيات، المعروف باسم ماكوندو. تُرجمت أعمال باز سولدان إلى عدة لغات وظهرت في مختارات في بلدان مختلفة، في كل من أوروبا وأمريكا. يعيش في الولايات المتحدة، منذ عام 1991، حيث يدرّس الأدب الأمريكي اللاتيني في جامعة كورنيل.

***

.....................

* القصص الثلاثة المترجمة هنا منشورة على موقع مجلة بوسطن رفيو الالكترونية، وترجمها عن الاسبانية الكاتب الامريكى كيرك نيسيت، وفيما يلى رابط القصص لمن يريد الاطلاع على الأصل:

https://www.bostonreview.net/authors/edmundo-paz-soldan/

بقلم: حنيف قريشي

ترجمة: صالح الرزوق

***

كانت سوشيلا تمشي في الحديقة، حينما شاهدت ماتيو ومساعده يجلسان على مقعد متطاول. اقتربت منهما، ولاحظت أن ماتيو يرتدي بذته السوداء. في الواقع كان مخمورا جدا، وهو شيء غير معتاد منه في هذا الوقت من اليوم، وكان في أواخر ما بعد الظهيرة. ألقت عليه التحية، وقبلته من خديه، فسألها إن كانت تقبل أن تنام معه. وتابع: لماذا لا ينامان معا؟. ويمكنهما أن يفعلا ذلك الآن، في بيته، إن لديها الوقت الكافي.  وأخبرها لطالما اعتقد أنها جذابة، ولكنه لم يكن جاهزا للكلام. ومع أنهما متعارفان منذ ثماني عشر عاما على الأقل، لم يكلمها بهذه الصراحة.

فاجأها كلامه، وحاولت أن تبدو مرتبكة. فهي معجبة به، وتراه لماحا وذكيا. كان ماتيو يعمل مع لين زوجها. وكانت مارسي زوجته مرتاحة لذلك، وقاموا معا بنزهات إلى الشاطئ.

في الصباح التالي قابلت ماتيو، مجددا، في السوبرماركت. لم يكن مع مساعده، ولا مخمورا. اقترب منها فورا، وكرر كلامه تقريبا بنفس المفردات، وأضاف إنها عاشت مع لين لفترة طويلة، ولا شك أنها ضجرت منه. قال لها: النساء تفضلن التغيير، وهو يقدم لها فرصة لذلك. وعليهما أن يتشاركا الفراش، حتى لو لمرة واحدة. ولا ضرورة للتصريح بالمزيد. أمسكت سوشيلا أعصابها، واخبرته إنها لن تنام معه أبدا. ولا حتى إن عاشت ألف حياة وحياة. هذا غير وارد على الإطلاق. ولو أن هذه هي طريقته بالإغواء لا تستغرب أنه لا يزال بكرا لم يدنس نفسه بعد.

واتصلت بلين فورا، ونقلت له ما قاله ماتيو في اللقائين. حينما عاد لين إلى البيت كان شاحبا وثائرا. سألته سوشيلا: هل هو على ما يرام، ثم كتبت إلى ماتيو رسالة قصيرة تخبره أن لين يريد لقاءه. رد ماتيو: أنه في طريقه إلى خارج البلدة  ولكنه يأمل أن لدى لين عملا فنيا جديدا يعرضه عليه. ويمكنه أن يأتي به في الأسبوع التالي؟. كان لين يرسم بشكل جيد، ووصلت أعماله الى مستوى أفضل.

استغرب ماتيو عندما جاء لين فارغ اليدين.

أين الرسومات الجديدة؟.

كانت قد مرت أربع أيام، ولذلك هدأ لين. وخلالها ناقش المسألة مع سوشيلا، وأمكنه أن يخبر ماتيو برزانة عما سمعه عن سلوكه، أول مرة حينما كان مخمورا في الحديقة، ولاحقا حينما كان بتمام وعيه في السوبر ماركت. اعتذر ماتيو دون إنكار، وطلب المغفرة منه. ولكن قال لين إنه غير مستعد للتسامح. التسامح، أو النسيان، شيء لا يفكر به. وهو لا يفهم لماذا تصرف ماتيو - الذي يعتقد لين أنه يفهمه - بهذه الطريقة.

رد ماتيو أنه لا يعلم مثله أيضا، ولذلك الأفضل أن يتركا الموضوع وراءهما.

سأل لين ماتيو لماذا كرر طلبه من سوشيلا حينما استعاد وعيه وكان بتمام نباهته وإدراكه.

قال إنه أراد أن لا تعتقد سوشيلا أنه غير جاد. وأنها ليست موضوع رغبة حقا.

شكر لين ماتيو على رأيه الصريح. وبعد هذا اللقاء تجول في الحديقة لفترة طويلة، دون أن يتمكن من تجاوز الحوار الذي يرن في ذهنه. مع الصمت تتوالد السموم. قال لنفسه. وما جرى ألح عليه كثيرا، حتى استقر على رأي.  عليه أن يناقش المسألة مع مارسي زوجة ماتيو. كانت لا تزال مقترنة بماتيو، ولكنهما منفصلان، وهي تعيش في البيت المجاور وكأنهما صديقان فقط. وكانت مارسي مريضة بمرض خطير، وكان لين مهتما جدا ليعرف كيف تعيش، وهل تنظر لمغامرات زوجها نظرة احتقار، وتعتبر أنه سلوك أحمق، أو ما شابه ذلك.  لربما يعاني من خلل؟. أو أنه مجرد وضيع ولم يلاحظ لين ذلك؟.

وهكذا ذهب لين ليقابل مارسي، وكانت طريحة الفراش. كان لين يعلم أنها متعبة من سخافات ماتيو مع بقية النساء، وذلك حينما كانا في بيت واحد. وشعر أنه ليس عيبا أن يخبرها بما قال ماتيو لسوشيلا. كانت مارسي تعرف ماتيو. وربما هي عادلة ومتفهمة. وبعد أن روى لها الحكاية أضاف خلال حديثهما أن سوشيلا كشفت له عن أمور جديدة، لم يكن يعرفها، ولم يخبره بها أحد. فقد وبين لها أن ماتيو في آخر سنتين تحرش بنساء أصدقاء آخرين، بطريقة استفزازية مماثلة. مثلا نقلت سوزان لسوشيلا كيف تحرش ماتيو بها، وكذلك فعلت زورا. وربما هناك أخريات.

هل سمعت ميرسي أيضا عن سلوكه؟. وأراد لين أن يؤكد لمارسي أن سوشيلا لطيفة، وكتومة وبالتأكيد لا تعاني من أعراض هستيرية. وليس من عادتها أن تبالغ وتكثر من الكلام في الحدائق والسوبرماكت. ولكن في هذه المرة تعرضت للإهانة والتحرش.

ماذا كان رأي مارسي؟. لقد استمعت ولكن لم تنطق بشيء يذكر. حتى أنها لم تحرك رأسها لا بالإيجاب ولا النفي. وسيطرت على انفعالاتها بشكل ملحوظ. بالعادة الإنسان يهمهم إذا واجهه فراغ أو صمت خلال المحادثة. ولكن ليس مارسي.

وفي النهاية اقترح لين أن يعرض ماتيو نفسه على طبيب معالج، ليعرف سبب هذا القلق - وهذا في هذه الأيام هو الأسلوب المعتاد لتجاوز الأفعال الخاطئة.

قالت مارسي إن ماتيو كان تحت العلاج لعشرين عاما.

قال ماتيو: من الواضح أن هذه الأمور تحتاج لوقت.

همهمت مارسي: نعم تحتاج لوقت.

وعندما عاد لين إلى البيت أخبر سوشيلا أنه قابل ميرسي في مسكنها، فغضبت منه. وقالت إنه لا يمثلها، لماذا لم يناقش الخطة معها أولا؟. فهو ليس ضحية التحرش. حتى أنه لا علاقة له بالموضوع. ماذا يعتقد أنه صنع؟. قال لين إنه لم يكن هناك شيء فكاهي أو ودي بتحرش ماتيو، كما فهم. وأهان ماتيو طبيعته البشرية أيضا. ومن حقه أن يشعر بالاعتداء عليه، وأن يبحث عن مبرر، إن لم ينتقم. وقال ليس أمرا شائعا أن تكوني هدفا لاعتداء متعمد. ومن صديق.

ورأيه عن ماتيو - هو واحد من أقدم الأصدقاء، وشخص وثق دائما بنصيحته - ولكنه تبدل إلى الأبد. وأصبحت الإهانة الآن عامة. ولم تعد تخص أحدا، ويمكن أن تتكرر. النساء أصبحن في مرمى الخطر. وسيكره لين نفسه إن لم يصرح برأيه. أخبرت سوشيلا لين أنه أصبح جامدا. وقد مرت فترة. وعلى النساء الاعتياد على هذه الأمور في كل الأوقات. وهذا لا يعني أنها لم تتحسس أو يؤثر بها موقف لين. ولكنها لا تعتقد أن ماتيو سيكرر فعلته: فهو خائف مما فعل. وندمه حقيقي، وسلوكه كما هو واضح يدمره ويضاعف من كربه.

قال لين تدمير الذات شيء يستمتع به الناس.

وافقته سوشيلا، وأضافت أن ماتيو يشبه المقامر الذي يخاطر مرارا وتكرارا بأمانه. ولكن هي نفسها تحب تسلق المرتفعات، وأحيانا تعرض نفسها للمخاطر.

وكانت تعتقد أن  مارسي ستكلم ماتيو. فهي الوحيدة التي بمقدورها أن تؤثر به. وفي الأيام القادمة سيتردد ماتيو قبل ارتكاب هذه التصرفات لأجل خاطر مارسي.

غير أن لين يشك بذلك. وهو لا يفهم كيف بمقدور مارسي أن لا تفعل شيئا، وتتعايش مع هذا الحال المربك.

قالت سوشيلا ولكن من فضلك تذكر أنه يعرف أن مارسي مريضة. وربما هي فكرة طيبة أن يعتذر لها عن تطفله بهذا الشكل. وهل هو مستعد لذلك؟.

وقبل أن يبدأ بالتفكير بالمسألة ذهبت سوشيلا نحو خطوة تالية.

وأرادت أن تتكلم بصراحة. ولكن يميل لين للمعنى التقليدي بخصوص أفكاره عن الحب أحيانا، إن لم يكن صادقا في بعض الأوقات.

سألها: هل يمكنه ذلك. كيف حصل ذلك؟.

حسنا. كانت مارسي متمنعة وباردة، وهما يعتقدان، أن ماتيو لا يكف عن التحرش بامرأة بعد أخرى. نوع من المتحرش المتسلسل. وإلا لكانا نموذجا لزوج معاصر. ورغم كل شيء، هما شريكان أصيلان وبينهما رابطة لا تنفصم، حتى أن لين لم يتمكن من إدراكها. ولا يوجد أحد أحب مارسي بقدر ماتيو، ومارسي مخلصة لماتيو. وحتى لو فعل شيئا أحمق بين حين وآخر، كلنا نتورط بذلك أحيانا، لقد كانت تدافع عنه.

عليك أن تحترم ذلك. استهزأ لين من فكرة حب بلا عاطفة. هذا لا معنى له، وربما هذا سبب تذمر ماتيو. النساء المتحرشات يحرضنه ويشعر بطاقاته. قالت سوشيلا إنها لا تعتقد أن هذا هو الحال. ولكن فيما يتعلق بمارسي، أرادت أن تقول أننا غالبا نحب الآخر بسبب ضعفه. وإذا أمكننا أن نمنع الحمقى أن يعربوا عن حماقاتهم، حسنا، من سيقبل الحياة في ذلك العالم البليد والبيروقراطي؟.

وتعبا من الكلام بالموضوع، ولم يكن هناك شيء إضافي، وبدا كأن الأمر سقط من حياتهم، لأنه بعد أسبوع وصلتهما دعوة. كان عيد ميلاد ماتيو في الأسبوع التالي، وهما مدعوان للحفل. ذهبت سوشيلا إلى المدينة، وأنفقت ما بعد الظهيرة تبحث عن هدية. لم تكن الحفلة مناسبة للموضوت لا من ناحية التوقيت ولا المكان. وتعهد لين أن يقفل فمه، وأضاف إنه سيتماسك قليلا، ويبتعد، ومن سمع بالمشكلة فقد سمع بها، ولكن هذا لم يعد يؤثر به. عموما ما أن وصلا إلى الحفل، اقترب ماتيو، أو على الأقل شخص يشبهه، من لين مباشرة. فقد حلق ماتيو لحيته، وشذب شعره، و يبدو أنه صبغه أيضا. وقبل أن يتسنى للين أن يكتشف هل هذا تنكر،  ماتيو ذراعه حول كتفيه، ووضع فمه بمحاذاة أذنه. كان يريد أن يكلمه، هناك، في زاوية الغرفة.

هل يمكن للين أن يتبعه؟. قال ماتيو إن لين أخبر العديد بالحكاية. وذكر شخصا ما في مكتب ماتيو. ولذلك تضخمت الإشاعة وانتشرت. ألم يقبل لين اعتذاره، ووافق على إنهاء الموضوع؟.

قال ماتيو:"هل تريد أن تطعنني في القلب وتجبر زوجتي على البكاء طيلة الليل؟. وقد حصل ذلك. هل تفهم؟. بكت بعد أن اقتحمته خلوتها و ازعجتها. ومساعدي، الواقف هناك، شاهد ما حصل في الحديقة. أعترف أنها مشكلة، ولكن ليس أكثر من ذلك".

دفعه لين بعيدا وقال:"لا تقف بقربي هكذا. أنت لا تعرف ماذا فعلت. أنت متوحش عمليا. وماذا عن سوزان وزورا وبقية النساء؟".

رد ماتيو إن الجميع يعلم أن الإغراء صعب في هذه الأيام. وفي هذه الأوقات المستحيلة، طقوس المعاشرة تتعرض للتصويب. وفي هذه المعمعة، من يبحث عن الحب، لا بد أن يقوم بخطوة غير محسوبة. ومجال سوء الفهم وارد، والليل يأتي قبل النهار. واحتمال الغضب قائم دوما. ولكن من المهم أن يحاول الناس أن يتواصلوا، ولو لساعات، وأن لا يقنطوا من الحاجة للتواصل. وإلا سنتحول إلى مجتمع من الأغراب. ولن يزور أحد الآخر أو يقترب منه. ولن يحصل أي شيء. ومن بحاجة لذلك؟. طبعا كان لين معروفا في دائرته بمشاكل تنفر منه الناس. وإن سنحت له الفرصة ليكون موضع اهتمام، سيفوتها بالتأكيد. ألم يحلم دائما أنه ذهب إلى المطار ورأى أن الطائرات أقلعت وتركته. على الأقل هذا ما رواه بإلحاح خلال العشاء في إحدى الليالي.

هو مولود من البؤس.

اخبر لين سوشيلا أنه سيخرج ليستنشق الهواء، ولكن حالما أصبح في الخارج، لم يفكر بالعودة. وشعر كأنه لم يعد يفهم أي شيء. هذا العالم غبي، وليس هناك طريقة للالتفاف حول ذلك. وبدأ بالإبتعاد بسرعة، ولكنه يعلم أنه مهما ابتعد، عليه أن يعود إلى هذا المكان - إن تمكن من العثور على طريقه إليه.

***

.........................

حنيف قريشي Hanif Kureishi: كاتب بريطاني مولود في جنوب لندن من زواج مختلط بين أب باكستاني وأم إنكليزية. يعيش حاليا في لندن. تأثر في كتاباته بوودهاوس وفيليب روث. من أهم أعماله: بوذا الضواحي، الجسد، اللاشيء، ماذا جرى (مجموعة قصص ومقالات)، إلخ....

شهرزاد وقصص أخرى

تأليف: إدواردو جاليانو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

(1) حظ سيء

طالما لازمنى الحظ السيئ. أفقد كل شيء، تسقط الأشياء من جيبي ومن ذاكرتي: أفقد المفاتيح والأقلام والمال والمستندات والأسماء والوجوه والكلمات. لا أعرف ما إذا كان ذلك مؤامرة ضدى من شخص لا يحبني ويعتقد أنني أستحق هذا أم أنه مجرد مصادفة،، لكن في بعض الأحيان تستغرق الأزمة وقتًا وأنتقل من خسارة إلى خسارة، وأفقد ما أجده، ولا أستطيع العثور على ما أبحث عنه، وأخشى بشدة من أن حياتي قد تكون فاسدة.

**

(2) شهرزاد

للانتقام ممن خانه، قطع الملك شهريار رقاب الجميع. تزوج عند الغسق وترمّل عند الفجر. فقدت العذارى عذريتهن ورؤوسهن واحدة تلو الأخرى. كانت شهرزاد هي الوحيدة التي نجت من الليلة الأولى، وبعد ذلك تغيرت القصة مع كل يوم جديد في الحياة. هذه القصص، التي سمعتها شهرزاد أو قرأتها أو اختلقتها، أنقذتها من قطع رأسها. قالتها بصوت خافت في غرفة النوم شبه المظلمة، حيث لا من ضوء سوى ضوء القمر. سره أن تحكى، فمنحها الحياة، لكنها كانت شديدة الحذر. في بعض الأحيان، في منتصف القصة، شعرت بالملك وهو يتأمل رقبتها. فإذا ضجر الملك ضاعت، ومن الخوف من الموت نبع إتقان السرد..

**

(3) مخترع الحروب الوقائية

في عام 1939 غزا هتلر بولندا لأن بولندا أرادت أن تغزو ألمانيا.

مع تدفق مليون ونصف من الجنود الألمان عبر الخريطة البولندية والقنابل تنهمر من الطائرات، شرح هتلر مذهبه في الحروب الوقائية: الوقاية خير من العلاج، أنا أقتل قبل أن يقتلوني.

أنشأ هتلر المدرسة. منذ ذلك الحين،وكل حروب الجهاز الهضمي، الدول التي تأكل الدول، تدعي أنها حروب وقائية.

**

(4) العالم رأسا على عقب

في 20 مارس 2003 قصفت الطائرات العراقية الولايات المتحدة.

بعد القصف، غزت القوات العراقية أراضي أمريكا الشمالية.

كانت هناك العديد من الأضرار الجانبية. العديد من المدنيين الأمريكيين، ومعظمهم من النساء والأطفال، فقدوا حياتهم أو تعرضوا للتشويه. الرقم الدقيق غير معروف، لأن التقاليد تأمر بإحصاء ضحايا القوات الغازية وتحظر إحصاء ضحايا السكان الذين تم غزوهم.

لقد كانت الحرب حتمية. فقد تعرض أمن العراق، والبشرية جمعاء، للتهديد من جراء أسلحة الدمار الشامل المتراكمة في ترسانات الولايات المتحدة.

من ناحية أخرى، فإن الإشاعات الخبيثة بأن العراق كان ينوي الاستيلاء على نفط ألاسكا ليس لها أساس.

**

(5) الحب

في غابة الأمازون، نظرت المرأة الأولى والرجل الأول إلى بعضهما البعض بفضول. كان غريبًا ما بين أرجلهم.

سأل الرجل:

- هل قطعت؟

قالت:

- "لا". لطالما كنت هكذا.

فحصها عن كثب. حك رأسه. كانت هناك قرحة مفتوحة.

- لا تأكلى الكسافا أو الموز أو غيرها من الفواكه التي تتشقق عندما تنضج. سوف أعالجك. استلقى على الأرجوحة الشبكية واستريحى.

أطاعت. بصبر ابتلعت الخلطات العشبية وسمحت لنفسها بوضع المرهم والمراهم. كان عليها أن تضغط على أسنانها حتى لا تضحك عندما قال لها:

- لا تقلقي

أحبت اللعبة، على الرغم من أنها بدأت تتعب من الصيام والاستلقاء في الأرجوحة الشبكية.

جعلت ذكرى الفاكهة فمه يسيل.

بعد ظهر أحد الأيام جاء الرجل راكضًا عبر الغابة. قفز بنشوة وصرخ:

- لقد وجدتها! لقد وجدتها

لقد رأى للتو القرد يعالج القرد في أعلى الشجرة.

قال الرجل واقترب من المرأة:

- هذا صحيح.

عندما انتهى العناق الطويل، ملأت رائحة كثيفة من الزهور والفواكه الهواء.ومن الجسدين المتشابكين، انبعثت أبخرة وإشراقات لم يسبق له مثيل من قبل، وكان جمالها رائعًا لدرجة أن الشمس والآلهة ماتت من العار.

**

(6) تحية

اليوم هو يوم المرأة

على مر التاريخ، تعامل العديد من المفكرين، البشر والإلهة، وجميعهم من الذكور، مع النساء لأسباب مختلفة:

1- لتشريحه

أرسطو: المرأة رجل غير مكتمل.

سانتو توماس دي أكينو: المرأة خطأ في الطبيعة، فهي ولدت من نطفة قذرة.

مارتن لوثر: الرجال لديهم أكتاف عريضة وأرداف ضيقة. لقد وهبوا الذكاء. النساء لديهن أكتاف ضيقة وأرداف عريضة، لإنجاب الأطفال والبقاء في المنزل.

2- بحكم طبيعتها

فرانسيسكو دي كيفيدو: الدجاج يضع البيض والنساء القرون

سان خوان الدمشقي: المرأة حمار عنيد.

آرثر شوبنهاور: المرأة حيوان طويل الشعر وقصير التفكير.

3- لوجهتك

قال الرب للمرأة حسب الكتاب المقدس: زوجك يسيطر عليك.

قال الله لمحمد في القرآن: إن النساء الطيبات مطيعات.

**

(7) الاكتشاف

في عام 1492، اكتشف السكان الأصليون أنهم هنود،

اكتشفوا أنهم يعيشون في أمريكا،

اكتشفوا أنهم كانوا عراة

اكتشفوا وجود الخطيئة،

اكتشفوا أنهم يدينون بالولاء لملك وملكة من عالم آخر وإله من سماء أخرى،

وأن هذا الإله قد اخترع الذنب واللباس، وأمر أن بإحراق من يعبد الشمس والقمر والأرض والمطر الذي يبللها.

**

(8) حضارة الاستهلاك

في بعض الأحيان، في نهاية الموسم، عندما غادر السياح كاليلا، سمعت عواء من الجبال. لقد كانت صرخات الكلاب المقيدة بالأشجار.

استخدم السياح الكلاب للتخلص من الشعور بالوحدة، أثناء قضاءالإجازات ؛ وبعد ذلك، عندما حان وقت المغادرة، قاموا بتقييدها في الجبال حتى لا تلحق بهم.

**

(9) السجناء

كلنا سجناء. من لا تسجنه الضرورة يسجنه الخوف. والأطفال هم الأكثر سجنًا: المجتمع الذي يفضل النظام على العدالة، يعامل الأطفال الأغنياء كما لو كانوا مالًا، والأطفال الفقراء كما لو كانوا قمامة، وأولئك الذين في الوسط مقيدون بشاشة التلفزيون.

**

(10) الخوف

ذات صباح أعطيت أرنبا غينيا. لقد عدت به إلى المنزل في قفص. وفي الظهيرة فتحت باب القفص. عند حلول الظلام عدت إلى المنزل لأجده كما تركته: في القفص، ملتصقًا بالقضبان، يرتجف من الخوف من الحرية.

***

....................

* إدواردو جاليانو (1940-2015)، من مواليد مونتيفيديو، أوروجواي، كاتب مقالات وصحفى ومؤرخً وسياسى، بالإضافة إلى أنه أحد أكثر الشخصيات الأدبية المحبوبة في أمريكا اللاتينية. تتضمن كتب جاليانو ثلاثية "ذاكرة النار". كتاب المعانقات. نقول لا. كلمات المشي والمرايا: قصص للجميع تقريبًا. نُشر كتابه الأخير، أطفال الأيام (...)، باللغة الإنجليزية في عام 2013. كان غاليانو ناقدًا صريحًا للآثار غير الإنسانية المتزايدة للعولمة على المجتمع الحديث، وظل مدافعًا شغوفًا عن حقوق الإنسان والعدالة.

للشاعرة البولندية ماريلا فولسكا

ترجمتها عن البولندية: مريم لطفي

***

روحي ستكون فتاة الى الابد

من ذهب الغابة عند الفجر

ومعها أبريق من أجل التوت

جريئة.. جميلة.. وواثقة إنها رغم مرور السنين

ستعيش بجمال وجهها الشاب الابدي

روحي ستكون فتاة إلى الابد

روحي في إكليل أخضر على الضفائر

تمشي في طريق وحيد

حرة مثل طائر الغابة

في وسطه تنحني الشمس في الصباح

مثل الرياح الحرة تهب على الحياة

روحي إكليل أخضر على ظفائر

لن تسمح روحي لأحد بأخذها

ملك..لاأحد

في حياة الله الاخرى

سيُحمل قلبها

مثل توت العليق في المساء

وأبريق ممتلئ

روحي في إكليل إخضرعلى الضفائر

***

.......................

* ماريلا فولسكا: شاعرة بولندية  ولدت في 13 مارس-1873 في لفيف وهي تنتمي الى الجيل الذي عرف ب حركة" يونغ بولاند" تمتعت بحبها للحياة والشعر والفنون وهو ما بدا واضحا بكتاباتها الشعرية   التي امتازت بحب الطبيعة ووصفها  وقد كتبت اجمل القصائد ومنها الساعة التي لم تكن،لست نادما،عبر الغابة الذهبية ،حظ،حلمت،نفس، ست قصائد وغيرها من الاعمال التي تستحق ان تصنفها كشاعرة مبدعة  تغنت بالطبيعة والحياة  ،والحقيقة أن الشاعر ابن بيئته فالطبيعة البولندية تفرض على الشاعر ان يتغنى بمفرداتها وهو ماانعكس على كتابات الكثير من الشعراء البولنديين .

كان أشهر أعمالها كتاب شعر بعنوان "إبريق من توت العليق" نشر عام 1929 وتلك الموهبة التي اورثتها لابنتيها الكاتبة بياتا أوبيرتيسكا والرسامة أنيلا باوليكوفسكا ، وكما عاشت وتغنت وكتبت الشعرتوفيت بنفس المدينة تاركة ارثها الشعري في عام 1930

مريم لطفي

أبانا الذي في السماء وقصص أخرى

تأليف: خوسيه لياندرو أوربينا

ترجمتها إلى الانجليزية: كريستينا شانتز فريدريك

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- أبانا الذي في السماء

بينما كان الرقيب يستجوب والدته وأخته، أخذ النقيب الصبى من يده إلى الغرفة الأخرى.

سأله:

- أين والدك؟

همس:

- إنه في الجنة.

سأل النقيب المذهول:

- كيف؟ مات؟

قال الصبى:

- لا. كل ليلة ينزل من السماء ليأكل معنا.

نظر النقيب لأعلى ورأى الباب الصغير المؤدي إلى العلية.

**

2- بورتريه لسيدة

في ضوء الفجر الذي تسلل بخجل عبر النافذة، قامت بتسوية ثوبها بعناية. كان أحد أظافرها ينظف باقى الأظفار. بللت أطراف أصابعها باللعاب وصقلت حاجبيها. عندما انتهت من ترتيب شعرها، سمعت حراس السجن يأتون على طول الممر. أمام حجرة الاستجواب، تذكرت الألم، ارتجفت ساقاها. ثم وضعوا غطاء محرك السيارة عليها وتجاوزت العتبة. كان الصوت في الداخل هو نفس الصوت في اليوم السابق. و كانت الخطى نفس خطى اليوم السابق، وصلت إلى مقعدها، اخترق الصوت اللزج أذنها.

- أين كنا بالأمس يا آنسة جيمينيز؟

قالت:

- كنا نقول إنه يجب أن تتذكر أنك تتعامل مع سيدة.

تلقت ضربة في وجهها. شعرت بطقطقة في عظام الفك.

- أين كنا يا آنسة جيمينيز؟

قالت:

- كنا نقول إنه يجب أن تتذكر أنك تتعامل مع سيدة.

**

3- علاقات

قال لي إنني مثير للقلق وأخبرته أنه أعمى. أخبرني أنه إذا كان الأمر كذلك حقا، فستعرف الحكومة ما يجب فعله وليس هناك ما يدعو للقلق. أخبرته أن موقفه كان أنموذجا للأشخاص الذين يعتقدون أن جميع المشكلات يمكن حلها من أعلى، وشعرت أن هذا تصرف غير مسؤول للغاية. أخبرني أنه من غير المسؤول أن نتحايل على التشهير ونشر الفتنة. قلت له إنه من الحقير أن يقود الناس إلى الذبح بالكذبة البيضاء لمشروع أيديولوجي لم يعد صالحًا. أخبرني أن مواقف مثل موقفي ستؤدي إلى كارثة وسيحكم علينا يومًا ما. أخبرته أخيرًا أن يذهب إلى الجحيم. لم نتحدث مع بعضنا البعض مرة أخرى. بالأمس علمت أنه كان في الزنزانة المجاورة لي وفي هذا الصباح رأيته عندما سمحوا لنا بالخروج إلى الفناء. لم نقل مرحبًا، لكنني أعلم أنه كان ينظر إلي. نظرت إليه بطرف عيني أيضًا. يبدو أنه في حالة صحية سيئة، مثلي تماما.

**

4- استجواب

في تشرين الثاني (نوفمبر)، بعد أن أمضيت أكثر من شهرين في المنزل، قررت المخاطرة بالزيارة. كان الوقت مبكرا بعد الظهر، والشمس مشرقة، ولا يوجد أحد تقريبًا في الشوارع. تفتح أمي الباب وأدخل بسرعة. البيت الكبير فارغ. والدي وإخوتي ما زالوا في السجن. كانت أمى بمفردها طوال هذا الوقت، وتذهب ثلاثة أيام في الأسبوع لتطلب أخبارًا عنهم. وبينما نعبر الفناء باتجاه المطبخ، أخبرتني أنها تأمل أن يتم إطلاق سراحهم في اعياد الميلاد. قبل أن تخطو فوق العتبة، توقفت، وأخذت يدي و سألتني: هل تؤمن بوجود إله، يا بني؟ أنظر إليها، هى أصغر حجما وأكبر سنا الآن، وأعتقد أن هذه المرأة التي تنظر إلي بعيون قلقة كما لو أن إجابتي كانت نوعًا من الحكم، هذه المرأة، أمى، تذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد وفي العطلات الدينية الأخرى لأكثر من خمسة وأربعون سنة. ثم، عندما أراها هكذا، أنا الذى لم أبك منذ فترة طويلة جدا، احتضنها دون إجابة وأبكي بلا خجل.

(تمت)

***

.......................

المؤلف: خوسيه لياندرو أوربينا / ولد خوسيه لياندرو أوربينا في سانتياغو دي تشيلي عام 1949 م. عندما كان طالبًا في الآداب، نفي إلى الأرجنتين عام 1974. ومنذ عام 1977 يعيش في كندا، عاد إلى تشيلي عام 2005 لكنه ما زال يشير إلى نفسه بأنه منفى دائم..نشر مجموعته القصصية الأولى تحت عنوان: قضايا مفقودة. تدور أحداثها في تشيلي تعاني من القمع الذي أعقب اغتيال سلفادور أليندي في الانقلاب الذي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه والقمع ضد أنصار أليندي. إنهم غارقون في روح الخوف والعنف المخمر مع روح الدعابة الكئيبة. وقد ترجمت كريستينا شانتز فريدريك هذه المجموعة إلى الانجليزية عام 1987 م. القصص المترجمة هنا من موقع كتب مهملة وهذا رابط الموقع والقصص:

https://neglectedbooks.com/?p=4792

The Neglected Books Page

بقلم: جي دي موباسان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان القطار قد غادر للتو جنوة في طريقه إلى مرسيليا وكان يتبع المنحنيات الطويلة للساحل الصخري. انزلق مثل ثعبان حديدي بين الجبال والبحر، مرورا بشواطئ من الرمال الصفراء تتناثر عليها موجات فضية صغيرة، قبل أن تبتلعه في فم نفق مثل حيوان ينطلق نحو عرينه.

في العربة الأخيرة، كانت امرأة ممتلئة الجسم وشاب يجلسان مقابل بعضهما البعض في صمت يختلسان النظرات الخفية لبعضهما البعض من حين لآخر. ربما كانت في الخامسة والعشرين من عمرها وكانت جالسة على جانب باب العربة وتنظر إلى منظر الطبيعة عبر النافذة. كانت امرأة فلاحة صلبة العود من بيدمونت، ممتلئة الجسم ممتلئة الخدود بعينين سواداوين وصدر ممتلئ. بعد أن دفعت عدة طرود تحت المقعد الخشبي، تحمل والآن سلة على ركبتيها.

كان الشاب في العشرين من عمره، نحيفًا جدًا وله سمرة عميقة لشخص يعمل في الحقول تحت أشعة الشمس الحارقة. وبجانبه مربوط في يقجة كانت ثروته بأكملها: زوج من الأحذية، وقميص، وزوج من بناطيل العمل الخيشية وسترة. تحت مقعده كان يخزن معولًا ومجرفة مربوطة بحبل. كان يأمل في العثور على عمل في فرنسا.

صبَّت الشمس الساطعة مطرًا من نار على الساحل. كان ذلك في أواخر شهر مايو، وامتلأت الأجواء بالعطور المبهجة وانتشرت عبر نوافذ العربات المنخفضة. تنفث أشجار البرتقال والليمون المزهرة في السماء الهادئة، روائح حلوة، نفاذة، عسلية تختلط بعطر الورود البرية التي تنمو على طول الطريق، تتجول فوق الحدائق الغنية التي مروا بها، حول أبواب الأكواخ الريفية المتداعية وفي الريف أيضا. هذا الساحل هو موطنهم الطبيعي. يملأون المكان برائحتهم الخفيفة والقوية ويجعلون الهواء شهيًا، مثل شيء ألذ من النبيذ ومسكر مثله.

كان القطار يتحرك ببطء كما لو كان يريد أن يظل ممتدا،مطيلا مشيته ويتذوق السحر اللطيف لعدن. وظل يتوقف عند المحطات الصغيرة حيث توجد بعض البيوت البيضاء، ثم انطلق مرة أخرى بوتيرته الهادئة، بعد أن أطلق صفيرًا لفترة طويلة. لم يدخل أحد. كان الأمر كما لو أن جميع السكان كانوا نائمين ومترددين في التحرك على الإطلاق في ذلك الصباح الحار من فصل الربيع.

من وقت لآخر، كانت المرأة الممتلئة تغلق عينيها، ثم تفتحهما فجأة، بينما تمكنت من إنقاذ السلة من السقوط من على ركبتيها. كانت تفحص المحتويات لفترة ثم تغفو مرة أخرى. وقفت حبات العرق مثل اللؤلؤ على جبهتها وكانت تتنفس بصعوبة وكأنها تعاني من انقباض مؤلم.

سقط رأس الشاب إلى الأمام على صدره وقد غرق في نوم عميق لصبي ريفي.

فجأة، عند مغادرتهما محطة صغيرة، بدت الفلاحة وكأنها استيقظت، وفتحت سلتها، وأخذت قطعة خبز، وبيضًا مسلوقًا، وقارورة من النبيذ، وبعض الخوخ، برقوقا أحمر جميلا  وبدأت تأكل. استيقظ الشاب أيضًا فجأة ونظر إليها، وكان يشاهد كل قضمة تنتقل من الركبتين إلى الفم. جلس، وذراعاه مطويتان، وعيناه مثبتتان، وشفتاه مضغوطتان معًا. كانت خداه أجوفان.

كانت تأكل مثل امرأة كبيرة جشعة، وهي تتناول باستمرار رشفة من النبيذ للمساعدة على بلع البيض، وتوقفت لأخذ قسط من الراحة. ثم جعلت كل شيء يختفي، الخبز، البيض، البرقوق، النبيذ. وبمجرد أن أنهت وجبتها أغلق الشاب عينيه مرة أخرى. لذلك، شعرت ببعض الإحراج، خففت المرأة صدرها لتكون أكثر راحة وفجأة نظر إليها مرة أخرى. لم تقلق بشأن ذلك، استمرت في فك أزرار فستانها. أدى ضغط حضنها إلى شد النسيج بحيث، مع اتساع الفتحة، تم الكشف عن بصيص من الملابس الداخلية البيضاء وقليل من بشرتها. عندما شعرت المرأة القروية براحة أكبر، قالت بالإيطالية:

- الجو حار جدًا لدرجة أنك لا تستطيع التنفس.

أجاب الشاب بنفس اللغة وبنفس النطق:

- إنه وقت جيد للسفر.

سألت:

- هل أنت من بيدمونت؟

- أنا من أستي

- أنا من كاسال

لقد كانا جيران.

على الفور، بدأا في الدردشة معًا كجيران. لبعض الوقت، كما هو الحال في كثير من الأحيان بين الناس العاديين الذين لم يعتادوا كثيرًا على إجراء محادثة مع الغرباء، كانت محادثاتهما صارمة ورسمية. ثم ناقشا الشؤون المحلية واكتشفا معارف مشتركة. مع نمو قائمة الأشخاص الذين اصطدما بهم مؤخرًا، أصبح الاثنان صديقين. سقطت كلمات موجزة ومتسارعة بنهايات رنانة من شفاههما باللغة الإيطالية البسيطة. ثم انتقلا إلى الأمور الشخصية.

كانت متزوجة ولديها ثلاثة أطفال أصبحوا الآن في رعاية أختها. لقد وجدت لنفسها وظيفة مربية، وظيفة جيدة لسيدة فرنسية تعيش في مرسيليا. كان الرجل يبحث عن عمل. قيل له إنه سيجد البعض أيضًا هناك فى مرسليا، حيث يبدو أن هناك قدرًا كبيرًا من أعمال البناء المعروضة.

ثم صمتا.

كانت الحرارة شديدة، حيث تنهمر بشدة على أسطح العربات. وحلقت سحابة من الغبار خلف القطار واخترقت الداخل. وأخذت روائح أشجار البرتقال والورود نكهة أقوى وأكثر انتشارًا وأثقل.

راح المسافران ينامان مرة أخرى.

فتحا أعينهما في وقت واحد تقريبًا. كانت الشمس تغرق في اتجاه البحر، وتلقي بريقًا لامعًا على مياهه الزرقاء. انتعش الهواء وأصبح أخف وزنا.

كانت الممرضة تلهث، صدرها مفتوح، خداها مترهلان، عيناها باهتتان ؛ قالت بصوت ضعيف:

- لم أرضع منذ الأمس ؛ ها أنا أشعر بالدوار وكأنني سأصاب بالإغماء.

لم يرد، لا يعرف ماذا يقول. وتابعت:

- عندما يكون لديك لبن مثلي، عليك أن ترضع ثدياك ثلاث مرات في اليوم، وإلا ستشعر بالألم الشديد. إنه مثل وزن ثقيل على قلبي. ثقل يمنعني من التنفس ويكسر أطرافي. من المؤسف أن يكون لديك هذه الكمية الكبيرة من الحليب.

قال:

- نعم، هذا مؤسف. لابد أن يكون ذلك مصدر إزعاج لك.

بدت مريضة للغاية بالفعل، مرهقة وبائسة. همست:

- فقط أعصره فيخرج الحليب مثل النافورة. من الغريب حقًا رؤيته. لن تصدق ذلك. في كاسال، جاء جميع الجيران لينظروا إلي.

يقول:  أوه! حقًا.

- نعم صحيح. أود أن أريه لك، لكنه لن يفيدني بأي شيء. لا يكفي خروج اللبن بهذه الطريقة أيضا.

صمتت.

توقف القطار، خلف الحاجز كانت تقف امرأة نحيفة خشنة الملبس، وتحمل بين ذراعيها طفلاً يبكي. نظرت إليها الممرضة. قالت بنبرة متعاطفة:

الآن هناك امرأة يمكنني مساعدتها. وهذا الطفل سوف يمنحني بعض الراحة، يمكنني أن أخبرك! أنا لست امرأة ثرية، ولن أترك منزلي هكذا، وأهلي وحبيبي الصغير أصغر سناً للعثور على عمل بعيدًا، لكنني سأمنح خمسة فرنكات كاملة بسرعة للحصول على هذا الطفل لمدة عشرة دقائق وأعطيه الثدي. سأكون امرأة جديدة.

مرة أخرى صمتت. رفعت يدها الدافئة عدة مرات لمسح جبينها الذي كان يتصبب عرقًا.  تأوهت:

- لم أعد أستطيع التحمل. يبدو لي أنني سأموت.

بحركة لا إرادية فتحت فستانها بالكامل، كاشفة عن ثديها الأيمن الضخم المشدود بحلمته البنية. واشتكت المرأة المسكينة:

- يا إلهي! أنا لا أعرف ما يجب القيام به! ماذا يمكنني أن أفعل؟

انطلق القطار مرة أخرى واستمر في طريقه وسط الزهور التي تعبق أنفاسها فى الأمسيات الدافئة. في بعض الأحيان بدا قارب صيد نائمًا على البحر الأزرق، مع شراعه الأبيض الثابت المنعكس في الماء كما لو تم العثور على قارب آخر مقلوبًا.

تلعثم الشاب محرجا:

- لكن... سيدتي... أستطيع... أن أريحك.

أجابت بصوت مكسور:

- نعم، إذا أردت. سوف تقدم لي خدمة عظيمة. لا يمكنني الصمود بعد الآن، لا يمكنني الصمود بعد الآن.

جثا أمامها. ومالت نحوه وجلبت طرف صدرها الداكن إلى فمه مثل مرضعة. مع الحركة التي قامت بها بكلتا يديها لتقديم ثديها للرجل، ظهرت قطرة من الحليب في الأعلى شربها بشراهة، ممسكًا بالثديين مثل الثمرة بين شفتيه. وبدأ يرضع بجشع وبشكل منتظم.

كان قد وضع ذراعيه حول خصر المرأة، فعصرها لتقريبها منه؛ وكان يشرب في رشفات بطيئة مع تحريك الرقبة، كحركة الأطفال.

فجأة قالت:

- هذا يكفي لهذا الجانب، الآن خذ الآخر.

مطيعا انتقل إلى الثدي الآخر. وضعت يديها على ظهره وأخذت تتنفس بعمق ورضا، مستمتعة برائحة الزهور الممزوجة بأنفاس الهواء التي تقذفها حركة القطار في العربات.

قالت:

- رائحتها جميلة هنا.

لم يرد واستمر في الشرب من ينبوع الإنسان، وعيناه مغمضتان كما لو كان يستمتع بهما. لكنها دفعته بعيدًا فى رفق:

- هذا يكفي. أشعر بتحسن. لقد عادت روحي إلى جسدي.

قام وهو يمسح فمه بظهر يده

قالت له وهي تعيد إلى داخل ثوبها القرعين المفعمين بالحيوية اللذين نفخا صدرها.

- لقد قدمت لي خدمة رائعة. شكرا جزيلا سيدي.

فأجاب بامتنان:

- أنا من أشكرك يا سيدتي، لقد مضى يومان لم أكل فيهما أي شيء.

( تمت)

***

.................

الكاتب: جي دو موباسان (1850- 1893 م) / كاتب وروائي فرنسي وأحد آباء القصة القصيرة الحديثة. وكان عضوا في ندوة إميل زولا. ولد موباسان بقصر ميرونمسنل بنورمانديا، وكان أبوه من سلالة أرستقراطية تدهورت حالتها المالية إلى مباءة الإفلاس. درس موباسان القانون، والتحق بالجيش الفرنسي ثم عمل ككاتب في البحرية. وقابل جوستاف فلوبير عن طريق صلات أسرته ليصبح فيما بعد تلميذه المخلص، وقد قدم فلوبير لتلميذه نظرية للنجاح الأدبي تتكون من ثلاثة أجزاء: لاحظ، لاحظ، ثم لاحظ. أما هو فكان يقول: " إن هناك من الحقائق ما يساوي الناس عداً.فكل منا يكون لنفسه صورة خادعة عن العالم. وهو خداع شعري أو عاطفي أو بهيج أو مقبض أو قذر أو كئيب حسبما تكون طبيعته.. كخداع الجمال وهو تقليد إنساني.. وخداع الدمامة وهو فكرة متغيرة.. وخداع النذالة الذي يستهوي الكثيرين. وكبار الفنانين هم أولئك الذين يستطيعون حمل الإنسانية على قبول انخداعاتهم الخاصة "

كان موباسان الرسام الأكبر للحزن البشري ودوما ما كان يصاب بصداع وكان يتلوى ساعات من الألم حتى أصيب بالجنون سنة 1891، ومات في إحدى المصحات العقلية عام 1893 م.

الشاعر الروسي المعاصر دميتري دارين

Дмитрий Дарин

Марш русичей

ترجمة الدكتور إسماعيل مكارم

***

نشيد الرّجال الرّوس

من كان شابا شجاعاً، قويا وشريفا،

من يحترمُ أبطال العصور الغابرة،

من تضيق به جدران المنزل،

من هو قادر على مواجهة الصِّعاب،

**

عليكم الإنتماء إلى حاميتنا المُحاربة

هنا القوة الروسية، والشرفُ الرفيعُ

الإثنان هنا يساويان أربعة

وستة رجال هنا يساوون إثني عَشرَ،

**

روسيا – إنها الوطنُ المَجيدُ.

روسيا – هي البلادُ الوحيدَة لنا في العالم

في حر الصّيف، وفي برد الشتاء القارس

مستعدون للدفاع عنك يا بلادي.

**

نحن لا نهاب عَظمَة القطعان الهمجية،

ولدينا القدرة كي نصمدَ أمام أيّ قوة سوداء،

تلك كانت وصية القائد سوفوروف*

لأجيالنا الشجاعة المِقدامة.

**

نحن لا ننسى تاريخ دونسكوي، ونيفسكي*

نقدس هذا التاريخ ونحافظ عليه بقلوبنا

أما رايات الجدود فهي على السّواري

أما أسماؤهم فتبقى دوما على شفاهنا.

**

تألقي يا روسيا في مجد ك العظيم!

وستبقى ترفرف دوما في سمائِنا

راية النّسر ذي الرأسين،

وفي العلا تتألق دوما نجمتنا الرّوسية.

**

كنْ يقظاٍ أيها الرّجلُ الروسيُّ،

كنْ مستعدا للقتال والصّراع،

إني أعلمُ أنكَ لا تهاب الوغى،

إذ أنكَ تحمل الوطنَ في صَدركَ.

***

كتب هذا النشيد ونشر عام 2022

....................

وجهة نظر

ننشر هذا النشيد للشاعر الروسي المعاصر دميتري دارين احتفاء بالذكرى الثامنة والسبعين ليوم النصر على دول المحور وهزيمة قوى النازية والفاشية، هذه الذكرى التي تأتي كل عام في التاسع من شهر أيار. ما يلاحظه المراقب والمتابع للأحداث العالمية اليوم أن هذه القوى تطل برأسها من جديد في عالمنا المعاصر متخذة أشكالا جديدة. هناك قوى إمبريالية مستعدة للتعاون مع الشيطان لأجل الحفاظ على مواقعها وسيطرتها على عالمنا بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي. إذ تعتبر هذه القوى أن إحتكار إدارة المنظمات الدولية وما يسمونه بالنظام العالمي في أيدي ممثلي أمريكا والدول المتحالفة معها إنما هو حفاظ على القانون الدولي.

حين أستمع إلى مقابلات وحوارات تلفزيونية، يشارك فيها إعلاميون أو رجال من النخبة في أمريكا، أراهم يركزون على أمرين: الأول حرمة السيادة لهذه الدولة أو تلك على أراضيها، مشيرين إلى الحرب في أوكرانيا، غير أن هؤلاء تناسوا أمر إنتهاك السيادة لعدة دول من قبل جنود أمريكا وغيرها من الدول الغربية، الأمثلة كثيرة: منها غزو العراق، وغزو أفغانستان، وقصف المدن في صيربيا، وقتل الرئيس القذافي، والمثال القائم اليوم تواجد الجنود الأمريكان على الأراضي السورية وسرقتهم للقمح السوري والنفط السوري والقطن السوري.الأمر الثاني الذي يركزعليه رجال النخبة في أمريكا هي مقولة أن جنود أمريكا والدول الأخرى من حلفاء البيت الأبيض إنما جاؤوا الى

الى غرب آسيا، واستباحوا الأرض السورية - في الدولة ذات السيادة تحدوهم أغراض إنسانية وهي محاربة الإرهاب، ودعم الشعب السوري. يبدو لي أن ممثلي النخبة في أمريكا إما هم فعلا يجهلون أن من يقف خلف داعش والنصرة وغيرها من التظيمات الإرهابية إنما هي حكومات أمريكا المتعاقبة، أي ممثلو البنتاغون والبيت الأبيض، إما هم يعلمون ذلك ولكنهم يمارسون النفاق السياسي والإعلامي بغرض الوصول إلى أهداف أمريكا الجيوسياسية. أما عن مساعدة الشعب السوري ففعلا قد ساعدت أمريكا الشعب السوري بكل شرائحه وذلك بقانون قيصر، الذي يمنع أي شركة أو مؤسسة أو جهة غربية أو شرقية /تحت طائلة العقاب/ يمنعها من التعامل المصرفي أو الإقتصادي مع الجهات السورية، خاصة كانت أم حكومية.

حقا إنّ لله في خلقه حكمة.

..................

مصادر وهوامش:

* دميتري دونسكوي - قائد عسكري قاتل ضد قطعان التتر والموغول، أما القائد الكساندر نيفسكي فقد قاتل ضد الصليبيين من الألمان والسويديين، والقوى الغربية الأخرى.

* الكساندر سوفوروف – قائد عسكري روسي مشهور وواضع

النظريات الحربية الروسية، ولد عام 1730، من المعروف عنه أنه شارك في المعارك ضد العثمانيين الأتراك، وانتصر في تحرير قلعة إزمائيل، توفي برتبة مارشال عام

1800 م.

ملاحظة: تم فعل ترجمة النص من اللغة الروسية، اعتمادا على موقع الكتروني تابع للشاعر دميتري دارين وبموافقته.

 

بقلم: روبين سليك

ترجمة: صالح الرزوق

***

هناك أوقات أتساءل فيها إذا كان إنسانا واقعيا. لو أنه رجل يمكن تصوره. ففي اليوم الطيب، يكون جوزيف على الصورة التي أريدها. نقف معا ضد بقية الفوضى الكونية وزحام العالم. وفي اليوم السيء، أكون امرأة ناضجة ولكن تابعة لديها تخيلات عن صديق نموذجي.

وباعتبار أن جوزيف يلمح أنه سيكون معي في العالم الواقعي بعد أن ينشر كتاباته، يجب علي بالمقابل أن أنتظره. أن أكون معه وأفكر به معظم الأوقات. هذا لا يعني أنه لم يحاول أن ينشر. كل أسبوع، يرسل قصة قصيرة مع رسالة لماحة ومؤلمة لا تخفي تماما توسلاته ويأسه.

وأخيرا قال لي: اليوم جاءتني رسالة من منتدى الأدباء.

- ما معنى ذلك؟

- لن تصدقي. كان رفضا. ولكن حمل عبارة "اقتربت من الهدف".

اقتربت. ما معنى هذا بحق الجحيم؟. هل يجب أن يقسو قلبي بسبب هذا الرد؟. لم يكن السبب أنه يفتقر للموهبة. فقصصه تلمسني في أعماق روحي بما فيها من هوس وأجواء معتمة، وشخصيات قلقة. فللنساء معاطف بلون المسحوق الأخضر مع بلوزات أنيقة. والرجال يحملون أسماء مثل بيرسي وإدموند. ولهم حكايات غرامية وقلوب محطمة.. ومحرومون من الجنس والدم والشجاعة. ولكن دائما لهم أحلام لتتحقق وذات مذاق عذب يملأك بالمرارة. إنهم حكايات من عصر مختلف. وبالعادة هو يهتم  حينما لا تكون رسائل الرفض شكلية، وتحتوي على ملاحظات من المحرر الذي لم يحسم أمره تماما.

وحينما يفحص جوزيف لأول مرة هذه الملاحظات العجولة، ينتابه الأمل حتى يعميه عما حوله، وكان أحيانا يفهمها بشكل مغلوط ويعتقد أنه على وشك أن يجد الناشر. واعترف بهذه الميول بحياء، ووددت أن أحضنه بذراعي وأربت على كتفه وأقول له كل شيء سيتحسن. ولكن نظرا ليأسي المتزايد، لم تتطور الأمور حسب توقعاتنا. وكنت أمر بساعات أفكر فيها هل هو إنسان واقعي. يا ليت بمقدوره أن يبدو على هيئة الإنسان الذي تخيلته. 

وفكرت بذلك – هيمنت الفكرة على أفكاري— بينما يداي تتحركان على لوحة مفاتيح الكومبيوتر. وها أنا أجلس هنا منذ دقائق، وأحدق بالشاشة. وتوج الفوز صبري أخيرا. رأيت تسجيل دخول جوزيف وفورا أرسل لي رسالة..

قال: مرحبا يا عزيزتي. أنا عمليا ضائع.

فكرت: من يتكلم بهذه الطريقة في العالم الآن؟.

ثم قلت له: عمت صباحا. لك نجمة. وهي البديل الفضائي عن القبلة.

ورسمت ابتسامة حالمة وفقدت الشعور بما حولي ولم أسمع خطوات زوجي يدخل الغرفة.

قال بصوت خشن:" كم أكره الكومبيوتر السخيف يا ليندا".

نظرت إليه، بدهشة والذنب يغمرني. فأضاف:" قلت لك صباح الخير مرتين ولم تردي، أنت مشغولة جدا بذلك الشيء اللعين".

أنهيت دخولي في الكومبيوتر ونهضت من الكرسي، وعبرت الغرفة نحوه. وملت إليه وطبعت على شفتيه قبلة عميقة رطبة.

وقلت له: "مرحبا يا إيدي، صباح الخير. لماذا أنت بكامل ثيابك؟".

رد بتأفف قائلا:" عمت صباحا يا ليندا". كأنه يلجمني. كان وجهه على قدر من الاستهانة والاشمئزاز فغمرني الندم. وتساءلت ما مقدار المعلومات التي يعرفها.

ولكن سألت بتفاؤل:"هل ستغادر؟".

كان هذا يوم السبت – ولا أستيقظ فيه باكرا.

رد:"نعم، أنا بطريقي إلى العمل".

كان إيدي يبيع التجهيزات. كل مستلزماتها. ويؤدي أعماله الورقية في المكتب خلال العطلة أحيانا.

سألته:"وكم ستغيب؟".

فكرت: من فضلك. قل سأغيب طيلة الصباح.

رد:"ساعتين فقط. وأنا على ثقة أنك لن تجلسي خلف الكومبيوتر كل هذا الوقت".

كذبت قائلة:"كلا، كلا، طبعا لا. لدي أشياء كثيرة لأرتبها هنا".

قال:"حسنا. أراك بعد قليل". وقبض على مفاتيحه واتجه إلى الباب دون كلمة أخرى.

إيدي. يا إيدي. لماذا أشعر كأنك غريب حقا؟. لماذا أشعر كأنه ليس بيننا شيء مشترك على الإطلاق؟. كيف يمكن تحسين هذا الظرف — هل هناك إمكانية للتحسن أصلا؟.

كان إيدي يشفى من الكحول، وكان مدمنا لما يزيد على عشر سنوات. والخروج من حفرة الشراب والاكتفاء بـ "تويلف سبايس" حسّن من إدراكه، وأصبح رجلا أقل تهورا، ولكن ضباب تاريخه السابق، وعودة كابوس الإدمان، يجعلني  أرتجف وأحذر مما أقول وأفعل. كحوليته، حتى بعد الشفاء – وربما أنا أشدد على بعد الشفاء – حولتني إلى سجينة عاطفية. لقد تزوجنا حينما كنا شابين جدا. وحاولت عائلتانا المساعدة، ولكن كان لديهم مشاكلهم. فنحن من خلفيات مشاغبة وشقية. ووجد كل منا الملجأ بين ذراعي الآخر. وكانت الجاذبية الفيزيائية قوية، وفي ذلك العمر، كان الجنس هو المهم.

بالعودة لتلك الأيام، حلمت أن أكون فنانة محترفة، ولكن امتنعت عن الرسم بمجرد ولادة الأطفال. وقبل أن يدمن، كنت أقلق من أن يشرب إيدي التوربانتين لو أخفيت شرابه.

انتظرت حتى أقلعت سيارته ثم هرعت عائدة إلى الكومبيوتر وسجلت الدخول. كان جوزيف قد اختفى، تنهدت من الغضب. لم يكن مقبولا لي أن أقابل جوزيف على الإنترنت ولذلك حملت هذه العلاقة الغريبة بالسر لسنوات. إنها تبدو جنسية تماما. هذا الحب الفضائي. وكان من الصعب علينا أن نناقش الموضوع لأنه يربك كلا منا كثيرا. وأنا من ألحت على تحويل العلاقة لشيء حقيقي وفعلي.  إنها مشكلة أساسية أن يكون الرابط بيننا لا يتجاوز مقاييس الحوار بالإنترنت. هذا وسيط شديد الإغراء. إنه واقع بديل ولعين. في البداية، ونحن نكتشف أننا أشقاء بالروح – وفي اللحظة التي كشف فيها كل منا للآخر عن أعماق نفسه على أساس يومي واستغربنا من التطابق بالهوايات والمشاعر – حب الفن، المصير العام للإنسانية، الإفراط في الطعام واستخدام الغذاء عوضا عن السعادة – والأهم، أننا كنا غير سعيدين ونمر بأزمة منتصف العمر بسبب عدم تحقيق أحلامنا – كنا نتطرق للقاء واقعي وعن مقربة. فأنا في مدينة بعيدة ولكن مكتب جوزيف، حيث يكتب لمجلة تجارية، هو على مسافة ساعة بالقطار فقط. وفي البداية، ألححت على الموضوع وكان يسخر مني، ولكن في فترات لاحقة كان يرد بقوله: ليس الآن، أو يوما ما، أو في الوقت المناسب.

أنفقت جزءا أطول من هذه السنة في محاولة لتغيير رأيه، ولكنه واظب على التأجيل. وما أرعبني أنني تقريبا فهمت عاطفته. فهو لا يريد أن يقاطع علاقتنا الافتراضية المثالية. أن نختبئ وراء شاشة الكومبيوتر، يساعد على أن نترك الشرف والصدق جانبا، ونعبر عن رغباتنا بلا حياء، وأن نكون مواطنين مثاليين أو شواذا محرومين، وكل الوقت ببيجاما خفيفة دون اكتراث بالعائلة وهي تتابع حياتها في الخلفية.

والالتزام هو السبب في أن لا أهجر إيدي. كان لنا ولدان، اعتادا على أبويهما، وتأقلما مع هذه الحالة. وهما يعشقان أباهما، وستحل بهما نكبة لو انفصلنا. هل بمقدوري أن أخبرهما: سأهجر أباكما لأنني قارئة نهمة وهو لا يقرأ منذ عشرين عاما؟. سأهجره لأنه يصرخ ويبتهج ويتحمس للرياضة بينما أنا أفضل الجلوس على الكنبة بجواره والعار يجللني من هذه السخافة؟. ولأنني أحب المطاعم الجيدة وأدوات الترفيه وهو يحب الوجبات السريعة ومخازن الأسعار المخفضة؟. لأنه يحبني أكثر مما أحبه؟.

وحينما تتدهور الأمور حقا هنا في البيت، وحينما يصل مزاج إيدي للحضيض أشعر كأننا غرباء وكذلك حينما يختلف الولدان – وأشعر أنني في الفخ وبائسة وبلا قدرات ودون تفاؤل -- فيغلبني التفكير بالسرير مع جوزيف. وتخيلت كيف ستكون أول مرة – بدماثة ولباقة نكتشف جسمينا ويتعرف كل منا على جسم شريكه قبل أن نلتحم معا في عاطفة بيضاء حارة فنسبح بالعرق إلى أن تنهار قوانا. كنت أغلق الباب على نفسي في الغرفة وأداعب نفسي وأنا أفكر بهذه الطريقة، وأتقلب في الفراش مثل امرأة متهيجة ثم أتنهد من اللذة. وأنوح قائلة: آه يا جوزيف. من فضلك أنقذني. أخرجني من هذا الجحيم.

يعيش جوزيف في بيت مرتب في الضواحي، أو على الأقل هذه هي الصورة التي رسمها لي. والآن على ما يبدو غادر إلى مدخل بيته ليتفقد صندوق بريده على أمل أن يسمع شيئا جيدا من المحرر، واستغرق ذلك عشرين دقيقة. وحسبما قال لي، إنه يحتاج لستة رسامين يعملون أربع أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على صورة هيكل البيت الذي أسخر منه دائما. وحينما ذكر لي ذات مرة أن لديه جوكوزي بحجم واسع من الرخام، شعرت بطعنة مع مرارة من الحسد والغيرة. ولكنه أضاف إنه لم يستعمله لا هو ولا زوجته. فشريكته طبيبة. ومر على زواجهما خمسة عشر عاما وأكد مرارا أنه لم يرتكب فعل الخيانة الشائن ولو لمرة واحدة. ولديه إيمان بالإخلاص. وأخبرني أنهما بلا حياة جنسية ولكن عدا ذلك هو يعطف عليها.

أما أنا كنت أعيش مع إيدي في المدينة. ونقطن في بيت متواضع من الحجر الأسمر الذي عمره مائة عام. وبحاجة لكثير من الصيانة التي لا بد منها. وعلقت لوحات إلكترونية على الجدار، لبعض الفنانين، يا الله، لتتحسن مشاعري فقط. لم يكن لدى أي منا العاطفة الكافية لأداء أي شيء آخر ولم نكن نمتلك النقود مثل جوزيف وزوجته للتعاقد مع حرفي للترميم. ولم أخبر جوزيف على الإطلاق بهذه الأشياء، ولم أكن أريده أن يعرف ذلك. كانت هناك ساعات أتساءل فيها كم درجة الصدق التي بيننا. كنا نردد عبارة أنا أحبك، ولكن كيف يكون الإنسان مغرما بشخص دون أن يلقاه؟. كنت مخلصة في زواجي أيضا. تزوجت في فترة الشباب وقبل أن تكون لي علاقة مع شباب آخرين، علاقة بمعنى الكلمة.

نقرت الأرض بقدمي بنفاد صبر. أين جوزيف الآن بحق الجحيم؟ مرت ساعتان تقريبا. لماذا لم يسجل الدخول؟. الانتظار يدفعني للجنون. وازدحمت في رأسي كل الأفكار الشقية. وانتبهت أنني أفسد صباح  يوم سبت جميل خلف الكومبيوتر. لن يكون جوزيف بالنسبة لي أكثر من تزجية للوقت على الإنترنت. زميل بالمراسلة. لو أنه يحبني فعلا كما يقول، أي سبب ملعون يجعله يرفض لقائي شخصيا؟. وتفاقم غضبي دقيقة بعد دقيقة، ودفعني نفاد الصبر والحنق للتهور.

راقبت الساعة بنظرة غاضبة. لم يكن ولدانا قد استيقظا ولا يزال إيدي في العمل، ولكن هذا لن يستمر إلى الأبد. ولن يكون بمقدوري المكوث هنا وراء الكومبيوتر لفترة أطول. وكنت أقترب من الجنون. وحينما في النهاية سجل دخوله بعد ساعة، كنت في ذروة الإرهاق، فاقدة لمشاعري، وأفكر بالتوقف عن هذه اللعبة. لم يكن يليق بي أن ألحق العار بإيدي: ولم أكن أريد إهانة نفسي بمطاردة رجل متزوج غير سعيد في حياته وليس لديه القدرة ليجد طريقه وراء عالم من خياله. يا للمسيح، لقد أجل اللقاء لما ينوف على عام ونصف العام. وخلالها كانت رائحة الخبز المحمص المحروق تنتشر.

مرحبا يا ليندا. كتب وهو يطبع قبلة فضائية لا معنى لها.

كتبت : آه، مرحبا. وليس هذا ردي الطبيعي لأنني لم أطبع القبلة المعتادة. وسيفهم مباشرة أن هناك شيئا مزعجا.

ما الأمر؟. تخيلت الارتباك الذي يشعر به الآن.

لا شيء. قلت له. لا شيء على الإطلاق.

كتب: آه، هذا يوم مزعج آخر. ما الخطب؟.

-أنا أكره حياتي، وأكره أنك هناك وأنا هنا ولا تريد أن تكون برفقتي.

قال: عظيم. أنت في مزاج سيء.

-نعم. أنت على حق. كل شيء يبدو بلا معنى لي. وأفهم أنك لا تريد أن تراني – وتريد أن أستمر هنا، في الفضاء، لتتمكن من البكاء يوميا على كتفي لأن الناشر لا يطبع لك، وزوجتك لا تحب أن تمارس الجنس معك. كل ما تريده مني التعاطف ومكانا ترتاح فيه قليلا. أنت تستغفلني من حوالي عام. وأريد الآن أن أسجل الخروج إلى الأبد وأترك هذا الكومبيوتر في النفايات ليلهو به الأولاد.

كتب قائلا: لا يمكن أن تهجريني. أنا بحاجة لك. وأنت متأكدة أن ما تقولينه غير صحيح. أنا أحبك يا ليندا. وأخبرتك بهذا من قبل. ولكن الوقت غير مناسب. أنت تريدين كاتبا معروفا، أليس كذلك؟. لا كاتبا فاشلا.

-ماذا تقول؟ أنا أحبك حتى لو كنت جامع قمامة.

-كلا. لن تحبي ذلك. هذه ثرثرة. ونحن نعلم أن هذا مجرد كلام غير صحيح.

إنه على حق. أنا أكذب. أنا أحبه بسبب كتاباته – لأنه فنان. ولكن إذا كانت له أعمال منشورة أم لا فهذا شأن آخر. على الأقل أعتقد أن هذا غير مهم. وجلست في مكاني أفكر بذلك لعدة دقائق. ولا بد أنه اعتقد أن هذا الصمت مقدمة لشيء مضجر. وظهرت الكلمات التالية على الشاشة تقول:ما رأيك يا ليندا. هل توافقين على مرافقتي لطعام الغداء يوم الإثنين؟.

اتسعت عيناي من الصدمة. كنت أنتظر ما يزيد على عام لأسمع هذا الاقتراح. ولكن عوضا عن الشعور بالراحة والسعادة غمرني الارتباك. لم أتوقع ذلك. على الأقل الآن. يا إلهي. من فترة التهمت ما يزيد على ليتر من قشدة الأرز – ولا بد أن وزني ازداد عشرة أرطال. الإثنين؟. لا يفصلنا عنه غير يومين؟.

هل يمكن أن أخسر الوزن الزائد، وأشذب شعري، وألون أظافري، وأحسن من مظهري في هذه الفترة القصيرة؟. آه، هكذا يتأوهون في بلاد الفضاء المفتوح.

أوه، الآن قد بلغت الهدف. ولا يمكن التراجع. كنت ألح من أجل ذلك طيلة شهور. ولكن فكرة اللقاء بهذا الرجل شخصيا – هذا الرجل الذي فتحت له قلبي كما لم أفعل من قبل. وأخبرته عن أشياء مخزية وشخصية جدا – بدأت تقض مضجعي. اللعنة. وقعت في المصيدة كالفأرة.

كتبت له: حسنا. شيء طيب. دعنا نفعلها. اسمع، إيدي عاد إلى البيت. علي أن أسرع. سأراك لاحقا.

وسجلت الخروج قبل أن تخف حماسة أي منا.

على نحو ما، تابعت حياتي في نهاية الأسبوع. لم يكن لدي فرصة لتشذيب شعري وإجراء تدليك للوجه أو اتباع حمية، ولكن لونت أظافري وأضفت المسحوق الأحمر لوجنتي حتى توهجتا بالنور وكنت بالحرف الواحد في حالة اهتياج. واتفقنا أن نلتقي في مطعم. وطبعا أنا من يجب أن تسافر لتلتقي به عوضا عن أن يقوم هو بالرحلة ليراني. وتصورت أن هذا يضعه في الجانب البريء من هذه اللعبة. وصعدت على متن القطار والعرق يسيل مني والارتباك يجللني. لم تزعجني الاحتمالات السيئة المترتبة على مقابلة رجل غريب، وإمكانية النهاية المشؤومة في كيس للجثث، وضرورة التعرف على جثتي بواسطة فحص الأسنان. كلا، كنت قلقة من الرطوبة التي ستتسبب بتجعيد شعري، أو من الزي الرسمي الذي يجب أن أرتديه بدل الجينز والقميص، فهما لا يليقان بسيدة في الأربعين من العمر. هذا عبث، هذا الموعد مع هذا الرجل الذي كشفت له أسرار روحي عبث، فنحن لا نعرف بعضنا بعضا. ومن الطبيعي، أننا تبادلنا الصور. غير أنها صور رقمية وسريالية بالكومبيوتر. صورتي جعلتني برأس مربع وبلا تناسب. وصورة جوزيف لها إيحاء بالبدانة. ولكن هذا لا يهمني.

كان زوجي نحيلا مثل قضبان الحديد، ووركه العظمي يخترقني كلما مارسنا الحب. كنت أتطلع لأقبض على جسم جوزيف وأفجر قبلة فوق بطنه اللدنة، وهذه تخيلات تنتابني كلما استلقيت بجوار إيدي الذي يشخر خلال نومه. وحينما اقتربت من المطعم، تساءلت هل الصورة التي أرسلها لي بالبريد الإلكتروني تعود لسنوات مضت، ربما وزنه الآن خمسمائة رطل، هذا غريب وسينظر لنا الناس بتعجب، وباستهانة، وسيفقدون شهيتهم للطعام. يا إلهي، ربما سيحتاج لزاوية خاصة – بثلاثة مقاعد متصلة أو شيء من هذا القبيل. ثم فجأة تذكرت أنني التي زاد وزنها عشرة أرطال، وسيرتعد من شكلي. غمرتني موجة جديدة من الارتباك، وشعرت بالدوار من احتمال أنني سأخيب أمله. ناديت على سيارة عامة خارج محطة القطارات وذكرت للسائق عنوان المطعم.

أخبرني أنها مسافة تستغرق خمس عشرة دقيقة، إن كانت حركة المرور سهلة. كانت الحرارة لاهبة، وهذا منتصف الصيف، ولم يكن المكيف يعمل. وبدأ قلبي يذوب. وشعرت أنني أختنق. لو كنت أعرف المدينة بشكل أفضل، لغادرت السيارة وتابعت على الأقدام. كنت سجينة، هكذا قلت لنفسي. كان أطول مشوار سيء بالسيارة. ولكن وصلت في النهاية. وغادرت المركبة كأنني أذهب إلى حفل إعدامي.

كان المطعم الذي اختاره أنيقا وله صالة. وعرفته فورا حينما نهض من كرسي محشور بالزاوية وانتبهت أنه ليس بدينا. ووسيم حقا بطريقة معقولة وبشعر أسود طويل ويغلب عليه الظل الذي تلقيه الساعة الخامسة على الإنسان. واه عينان سوداوان بجفنين ثقيلين ورموش غليظة. تعانقنا بقوة وكنت أخشى أنني مبلولة بالعرق. ولكنني لست امرأة غير جذابة. ونظرته المريحة أكدت لي ذلك. وعلى الرغم من عمري، كنت أرى أنني بمظهر شبابي. شعري أسود وطويل. وثدياي صلبان. ولي عينان خضراوان قليلا مع شفتين مكتنزتين. تبادلنا النظر براحة ومسرة. كنت راغبة بالنوم معه فورا ولكن كانت لديه روح تنم عن الإخلاص.  

ابتسم وقال:" أنت، هناك" وهذه إحدى تحياته على الإنترنت.

قلت بنفس الصوت الجاف والمبسط:"كما أنت دائما". آه يا إلهي. من أين جاء هذا؟. كنت أخشى من لفظ كلمة أخرى. هل يمكن أن أنظف حنجرتي دون افتعال ضجة. يا إلهي، يا إلهي، يا إلهي.

قادني من ذراعي نحو الطاولة المحجوزة. كان قد حجز طاولة وهي جاهزة لنا. جر كرسيا لي، وتوسلت إلى الله أن لا أرتكب خطأ. كأن أخطئ بالجلوس على الكرسي وأسقط على الأرض. أو أن تصدر عن الكرسي أصوات مثيرة للأعصاب وهي تحتك بالأرض حينما أقترب بها من الطاولة.

سألني:"هل كانت الرحلة سهلة؟". استراحت أعصابي قليلا، لأن هذا سؤال يدل على مبلغ اضطرابه وقلقه.

قلت مع ابتسامة صغيرة:"نعم، نعم، كانت ممتازة. كان من المفروض أن نلتقي قبل الآن". آه. كان صوتي لا يزال مفتعلا، ولم يخطر لي شيء مريح أقوله لهذا الرجل الذي كنت ألهو معه لفترات مطولة يوميا.

قال:"نعم، حتى الآن نحن على ما يرام. هل ترغبين ببعض النبيذ؟".

هل أرغب بقليل من النبيذ؟. أفكر بثلاث زجاجات.

أجبت:"نعم من فضلك".

"كأس أم زجاجة؟".

"كأس تكفي". يا للجحيم، ماذا دهاني؟. أود لو أرتخي، أن لا أشعر أنني قالب من الإسمنت مزروع هنا بالصدفة. 

تناولت القائمة وتظاهرت أنني أفكر ولكن بالكاد كنت أركز عيني. وانتبهت أنني لست جائعة أبدا. ولو هناك إحساس فهو الغثيان الخفيف. لم أكن عصبية بهذا الشكل كل حياتي. هناك أشياء أخبرت بها هذا الرجل!. وأشياء أخبرني بها!. ومن المستحيل أن أعتقد أن ما يجري هنا بأي نحو من الأنحاء له علاقة بواقعنا البديل والساخن الذي عشناه على الإنترتنت. وأخبرت عقلي أن يلزم الهدوء، وحاولت أن أركز عما يقوله، والذي كان غالبا صدى لما أخبرني به في الكومبيوتر. أحضر النادل الخبز وبدأنا به فورا.

ابتسم وقال:"آه، هذا هو الغذاء الذي نتشارك به".

"نعم". أجبت وأنا أملأ فمي به.

واستطعت أن أسمع صوت المضغ وقد شعرت بالخزي من هذا الصوت المزعج الذي أصنعه.

وصل النادل بالنبيذ. سحبت الكأس الكريستالية الممشوقة وبدأت أشرب كأنه ماء صنبور. وسأل عن الأطعمة، فأفصحت عن رغبتي بشرائح السلمون لأنه أول شيء قرأته في القائمة ولم أكن قادرة على القراءة والمتابعة.  وشعرت بالشرود الذهني. وحينما ابتعد النادل، شعرت كأنني مهجورة. وتوجب علينا أنا وجوزيف أن نتبادل الكلام قليلا – فالطعام سيتأخر حتما لعدة دقائق إضافية.

"هكذا إذا". قلت ثم انتبهت أنه ليس لدي شيء أقوله.

أجاب:"نعم. ها نحن هنا".

وامتد صمت صعب، ثم بدأ بسرد حكاية أخبرني بها من قبل على الإنترنت، وكافحت لأكون واعية وعلى الأقل لأبدو مهتمة. عوضا عن ذلك، كنت أنظر لعينيه السوداوين الباردتين، وأتأمل صفحة وجهه.  ورأيت ندبة صغيرة قرب عينه اليمنى وكم وددت أن ألمسها بنعومة، ولكن كنت مقيدة وليس بوسعي أن أحرك أنملة.

صاح وهو ينظر إلى يدي:"يا له من خاتم رائع". وفجأة، واتتني الجرأة. وربما بدأ النبيذ يفعل فعله. واغتنمت فرصة التعليق لأقبض على يده، وأحاول أن أغويه. أملت أن ألف أناملي حول أنامله. في البداية، استجاب لي، وتناغم معي، ثم على حين غرة انسحب كأن النار لمسته. وطفت على وجهه نظرة بؤس لم أفهمها. ولم أحاول أن ألمسه مجددا. وبدأ يتكلم بسرعة عن فيلم شاهده. وكنت أرد بإيماءات كثيرة.

وفي الختام أحضر النادل الوجبة. السلمون الذي طلبته وكان كأنه يلتصق بحلقي. وتساءلت هل سوف أتقيأ. شربت نبيذي ولحسن الحظ، سارع جوزيف بطلب المزيد. وحاولت أن أتنفس دون جذب الانتباه حتى سرى الكحول في مجراه وشعر كلانا بالمرح. وبعد أن مرت اللحظات الأسوأ اشتركنا بقليل من الثرثرة عن عائلتينا. وعن الموسيقا التي نفضل والكتب التي قرأناها وانتهى الأمر بالغبطة والانسجام. وكل ذلك بطريقة لم أتوقعها حينما كنت أتخيل لقاءنا وأنا أجلس ككلبة في الحر وأتخيل كيف سيكون وضعنا في العالم الواقعي. استغرق الغداء ساعتين. ورغبت بنزهة برفقته أو بزيارة مكتبه، ولكن كان الوقت متأخرا ويجب اللحاق بالقطار لأصل إلى البيت في وقت العشاء وأنضم لأفراد الأسرة.

وغادرنا الفندق دون ملامسات، ورأينا سيارة، فناداها فورا. وانتهى كل شيء بسرعة، بعد طول انتظار، وشعرت بالخيبة واليأس. كان لديه وقت ليضمني ثانية مع قبلة سريعة ولكن فورا دخلت السيارة العامة وانطلقت بطريقي.

لم أكن قادرة على التفكير المنطقي – كنت أفكر بالوصول إلى المحطة بالوقت المناسب، وأقفز على متن القطار، وأخمد نفسي فيه لساعة هي الوقت الذي تستغرقه الرحلة. وبالكاد حققت ذلك بسبب الزحام، وكنت لاهثة الأنفاس وأنا أجلس في مقعدي. وعدت بظهري إلى الخلف وحاولت أن أتذكر. وكنت في منتصف المسافة إلى البيت حينما اعتقدت أن جوزيف لن ينقذني مما أنا فيه. وتساءلت، بارتباك، هل هذه هي النهاية. وهل هذا آخر الشوط الذي يمكننا بلوغه. ولم يكن هناك أية مسافة للمفاجأة أو المجهول. كل واحد منا ينتمي لآخر، لدينا حياة مختلفة ومنفصلة تماما. ولا يزمع أي واحد فينا على خطوة جازمة، مع أننا شقيقان بالروح. وأضاءت في عقلي لحظة من اليأس – ورغبت أن أبكي بألم. وامتلأت عيناي بالدموع التي لها لون النبيذ. ثم فكرت بحياتي من دونه. حياة مع الولدين وإيدي، حياة دون جيوب سرية ألجأ إليها. ولم تكن هذه الأفكار ضرورية. وأقنعت نفسي أن أفكر بجوزيف. وتخيلت صورته أمامي وتذكرت أن فترة تشابك الأصابع كانت سريعة خلال الغداء، ورغبت لو أنه لم يسحب أصابعه من يدي. وفهمت أن الذنب حيال زوجته لا يفارقه وهو الدافع وراء تصرفاته، وهذا قربه من قلبي. وتساءلت كيف كان شعوره ويده في يدي. وماذا سيشعر لو لامس وجهي. حلقي. صدري.

أعتقد أنني أحببت هذا الرجل. حقا أحببته. على الأقل هذا شعوري.

وابتسمت لنفسي وأنا أتخيل كيف ستكون المرة الأولى– بنعومة، نكتشف أنفسنا بهدوء ثم  ننتفجر بعاطفة حارة بيضاء حتى نغرق بالعرق ونفقد أنفاسنا.

إيه. دائما توجد فرصة من هذا النوع. أي شيء يمكن أن يحصل، أليس كذلك؟.

يا إلهي.

هل من شخص يستمع. أي شخص.

أتمنى أن ينشر كتابه بأسرع وقت.

***

حزيران 2002

........................

روبين سليك Robin Slick : كاتبة أمريكية معاصرة من سكان فيلادلفيا. صدرت لها مجموعة من الروايات والمجموعات القصصية. موضوعها الأساسي الخيانة الزوجية والغرام الممنوع. من أهم كتبها: لقمة من التفاحة، لقمة أخرى من التفاحة، ثلاث أيام في نيويورك، والدي تركني وحدي مع الله، المسافر إلى القمر، وغيرها.

 

 

قصيدة للشاعر الروماني: جورج كوشبوك

ترجمها عن الرومانية د. توفيق التونجي

***

أعرابي يقصد الباشا.

بعيون ممتلئة، بصوت خافت.

- "أنا البدوي كبير قومي"

جئتكم من باب المندب

لبيع حصاني

" السراب".

*

خرج الأعراب من الخيمة،

ليروا ارتدائي لردائي

أداعبه من  لجامه وأتركه يجري.

أنا أحبه كعينيي

لن أتخلى عنه حتى مماتي .

*

لكن أطفالي الثلاث سيموتون جوعا!

حلقهم جاف.

منذ مدة طويلة،

لقد جف حليب زوجتي

كي ترضعهم!

أهلي سأفقدهم، أيها الباشا

أوه، أحفظهم، إن أردت، لأنك تستطيع!

أعطني قيمة الحصان!

إني فقير!

أعطني نقودا!

إذا أعجبك الحصان،

أدفع لي فقط بقدر قيمته.

*

يقود الحصان، يدور به،

يهرول مسرعا، وبخطى بطيئة،

وتضيء بؤبؤ عينيه .

ناعم لحيته الرمادية

يقف صامتا والفراغ يملئ روحه.

*

هل لي بألف دينار ؟

يا لسخائك، باشا!

أكثر مما حلمت به!

جزأكم الله خيرًا،

يا لسخائكم!.

*

يأخذ المال وعيناه ممتلئتان

مبتسما، يدغدغه

من الآن فصاعدا، من الآن فصاعدا،

من الآن فصاعدًا

سيكونون هم كذلك من أغنياء،

لن يمدوا يدهم الى الغريب!

*

لن يعيشوا تحت خيمة تملئها الدخان،

لن يتوسل إليه الأطفال في الطريق،

سترقد زوجته وستكون بخير.

سيكون لديهم حتى ما ينفقونه

على الفقراء،  الآن

*

يمسك النقود بحرارة،

يغادر وهو في حالة سكر، شاكرا حظه،

يبتعد وهو يفكر بشيء واحد،

لكن فجأة، يرتجف،

يستدير ويتسمر في مكانه.

شاحبا، ينظر طويلا إلى المال الذي في يده

يسير هائما كما لو كان يحمله موجة بحر،

ثم ينظر مباشرة إلى الحصان.

من الجبين إلى الصدر،

خطوة بخطوه

يقترب من الحصان.

*

يحضن برقبته وهو يبكي

يدفن رأسه في شعره القاسي

شاحب الخدين

"شبل الأسد"،

يتنهد بحزن

ريحي

أنت تعلم أنني أبيعك!

.....

.....

.... 

يسحب خنجرًا بسرعة،

يتدفق الدم، كموجة حمراء

الدم الدافئ يتدفق

من العنق النبيل

ويسقط الحصان ميتا

***

....................

* الشاعر  الروماني جورج كوشبوك

(جورج كوشبوك) من مواليد 20 سبتمبر 1866، هوردو، محافظة بستريتا-نوسود وفاته في ايار،. 9 مايو 1918، في العاصمة بوخارست.

القصيدة تسمى (El Zorab) الزراب بالرومانية والتغير الى اسم "السراب" من قبل المترجم.

شاعر ناقد، ناقد أدبي عضو دائم في ألاكاديمية الرومانية، 1916.

بقلم: يـوهان ولفغانغ فون غـوتـه

ترجمة شعريّة: د. بهجت عباس

***

ما أجمـلَ الطبـيـعــةَ البـاهـرةْ

تضيء لـي بفـتـنـةٍ ساحــرةْ!

مـا أروع الشَّمـسَ بأنـوارهـا!

وضَحْكةَ المَـزرعةِ العاطرةْ

*

مـن كلَ غصنٍ نَضِـرٍ أخضرٍ

تـنـبـثـق البــراعـم ُ الـنّـافــرةْ

وألفُ صوتٍ في فضاء الدُّنى

تُطـلـقُـه أدغـالُـها السّـاهــرةْ،

*

من كلِّ قـلـبٍ عـامـرٍ بالصَّفـا

تـنـبـعـثُ السَّـعـادة الغــامـرةْ

يـا أرضُ! يـا شمـسُ! ويــا

حُبـورُ ! يا فرحتَنا الزاهـرةْ!

*

يا حُبُّ! حبٌّ ذهـبيُّ الجَّـمـالْ

مثلُ غيومِ الصُّبحِ فوقَ الجِّبالْ

*

بدهشةٍ مـن فيـض هـذا السَّنا

تُباركُ المَـرجَ بهـذا الجّــلالْ

تـعــومُ فـي سديــم نُـوّارهـــا

كلُّ الدّنى  جبـالُهـا والرِّمـالْ

*

أيـا فـتـاةً! يـا فـتـاتـي! أنــا

فـي وَلـهٍ ليس لـه مـن مـثـالْ

وأنـتِ إذ عـيـنُـكِ فـضّـاحــةٌ

هائمــة في الحبِّ حدَّ الخيالْ

*

كما تُحبُّ الشَّدْوَ جوفَ الفضا

قـبّـرة طـائـرةٌ فــي اخـتـيــالْ

ومثلما تهوى زهـورُ الصَّباحْ

عطـرَ السَّما يغمرها بانـثيـالْ

*

ومــثلـما أهــواكِ يــا غـادتي

بدَميَ السّاخـنِ تحت الإهـابْ

أنـتِ الـتـي تمـنحـنـي فـرحــةً

وجــرأةً مـعْ عـنـفـوانِ الشَّبابْ

*

لأغـنـيـاتٍ فـي الهــوى عذبـةٍ

جديدةٍ والرقص بين الصِّحابْ.

كوني طَوالَ العمرِ في بهـجـةٍ

مادمـتُ في قلبـكِ حـبّـاً مُـذابْ

***

......................... 

Mailied

Johann Wolfgang von Goethe (1749-1832)

Wie herrlich leuchtet

Mir die Natur!

Wie glänzt die Sonne!

Wie lacht die Flur!

Es dringen Blüten

Aus jedem Zweig

Und tausend Stimmen

Aus dem Gesträuch,

Und Freud und Wonne

Aus jeder Brust.

O Erd, o Sonne!

O Glück, o Lust!

O Lieb, o Liebe!

So golden schön,

Wie Morgenwolken

Auf jenen Höhn!

Du segnest herrlich

Das frische Feld,

Im Blütendampfe

Die volle Welt.

O Mädchen, Mädchen,

Wie lieb ich dich!

Wie blickt dein Auge!

Wie liebst du mich!

So liebt die Lerche

Gesang und Luft,

Und Morgenblumen

Den Himmelsduft,

Wie ich dich liebe

Mit warmen Blut,

Die du mir Jugend

Und Freud und Mut

Zu neuen Liedern

Und Tänzen gibst.

Sei ewig glücklich,

Wie du mich liebst!

مجموعة شعراء

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1) محمد فارساني

في يوم هيروشيما:

حمامة بيضاء

على الاسلاك الشائكة *

**

(2) سمانة حسيني زعفراني

مثل فراشة:

ظلي

بعد منتصف ليل خريفي

**

(3) محسن فارساني

زهور القصب –

يد جدي

فوق عكازته

**

(4) فاطمة عطاش سخان

مسقط رأسي ...

كل موسم

فقط مسار للأطيار المهاجرة

**

(5) تيرداد فخريه

ذكريات بعيدة ...

قطرات متساقطة

من السجادة القديمة المتشربة بالماء

**

(6) مسيح طالبيان

أشجار مزهرة

في عز الشتاء

أبو الحناء **

**

(7) روجير سيدارات

أطفال مدرسة

شم الزهور ...

صباح ربيعي

**

(8) أمير هسانفندي

ظلال الشتاء

يذهب النمل

حيث الشمس المشرقة

***

........................

* منح عنها شهادة تقديرية و رمز ماتسو باشو في مسابقة الهايكو الدولية في اليابان 2014 .

** أبو الحناء (أبو الحن): طائر صغير الحجم، صدره بلون الحناء .

*** مترجمة عن الإنكليزية:

1 – Iranian poet receives Haiku Grand Prize 2014 – Mehr News … . https: // en .mehrnews . com

2 – Haiku Special from the 3th Japan – Russia Haiku Contest (4) . https: // akitahaiku . com

3 – Haiku: May 12 . 2020 – The Mainichi – https: // mainichi . jp

4 – On the structure and poetics of the Persian haiku . https: // rulb . org

5 – Poetry، Persian Haiku، Roger Sedarat – THE IRANIAN . https: // Iranian . com

5 – Haiku in Iran and the Haiku Effect in contemporary Persian …  . https: // open . bu . edu

6 – Eropean Kukai – RSSing . com . https: // kukai 2 . rssing . com

بقلم: روبار ديسنوس

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

سأستيقظ غدا صباحا

في وقت أبْكَر من اليوم

ستكون الشمس غدا صباحا

أشدّ حرّا من اليوم

سأكون أقوى غدا صباحا

أقوى من اليوم

سأكون أكثر بهجة غدا صباحا

أكثر بهجة من اليوم

سيكون لي غدا صباحا

أصدقاء أكثر من اليوم

وبالرغم من أنّ الموت غدا صباحا

هو أقرب من اليوم

سأكون غدا صباحا

مفعما بالحياة مفعما بالحياة أكثر من اليوم.

***

.....................

* روبار ديسنوس - أشعار منتصف الليل ( 1936-1940)- 27 مارس 1936، نشر سيجار 2023

* روبار ديبسنوس: شاعر فرنسي ولد 4 جويلية 1900 ومات بمرض التيفوس 8 جوان 1945 بمجرد خروجه من معسكر اعتقال في تشيكوسلوفاكيا .عصامي وحالم بالشعر انخرط في أوساط الشعراء الحداثيين والتحق سنة 1922 بالمغامرة السريالية  ثمّ اشتغل بالصحافة وصار محرر إشهار . انخرط في حركة المقاومة للنازية وسجن من أجل ذلك . له أعمال تضمنت مجموعة شعرية نشرت ما بين 1923 و1943 " جسد وخيرات" سنة 1930 ونصوص أخرى عن الفنّ والسينما أو الموسيقى جمعت كلها في منشورات بعد وفاته.

للأديب الفرنسي: فكتور هيغو*

ترجمة (من الفرنسية): علي القاسمي

***

غداً عندَ الفجرِ، حينما تبيَّض الحقول،

سأنطلقُ. أترين، أعلمُ أنكِ في انتظاري

سأذهبُ عبرَ الغاباتِ، سأذهبُ عبر الجَبل

فأنا لمْ أعُد أُطيقُ البقاءَ بعيداً عنكِ.

*

سأمشي وعينايَ مثبتتانِ على أفكاري

دونَ النظرِ إلى أيِّ شيءٍ في الخارج، ودونَ سماعِ أيِّ ضجيج

وحيداً، مجهولاً، منحنيَ الظهرِ، معقودَ الذراعينْ،

حزيناً. وسيكونُ النهارُ لي مثلَ الليل.

*

لن أنظرَ إلى ذَهَبِ المساءِ المتساقط

ولا إلى أشرعة القوارب المبحرة إلى هارفلير

وعندما أصل، سأضعُ على قبرِكِ

باقةً من زهورِ المهشيةِ الخضراء وزهور الخَلَج المتفتِّحة.

***

...................

1 هارفلير: بلدة قديمة وميناء فرنسي في منطقة النورماندي شمالي غرب فرنسا على القنال الإنكليزي.

* فكتور هيغو [ Victor Hugo  (1802ـ 1885) ولِد في مدينة (بزانسون) شرق فرنسا القريبة من الحدود السويسرية  وكان أبوه جنرالاً في جيش نابليون. أصبح فكتور هيغو سياساً مؤثِّرا وروائيا شاعراً رومانسيا، لعله أشهر أدباء فرنسا وأعظمهم. يعرفه مثقفو العالم من خلال رواياته التي عرض فيها آلام الفقراء والمهمشين والمضطهدين، مثل "أحدب نوتردام" و "البؤساء". أما نقّاد الأدب الفرنسي، فيحتفون أكثر بدواوينه الشعرية مثل " تأمّلات" و " أسطورة العصور". انتُخب عضواً في الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1848 محسوباً على المحافظين، ولكنه بعد سنة واحدة ألقى خطاباً في الجمعية الوطنية طالب فيه بالقضاء على الفقر، وفتح التعليم المجاني لجميع الأطفال وليس ( لأبناء الأعيان) فقط كما كان. وهكذا انشق عن المحافظين.

تزوج هيغو من صديقته في طفولته الرسامة إيديل فوشيه سنة 1822 وبقيا معاً 46 عاماً حتى وفاتها وأنجبت ثلاثة أطفال أكبرهم ابنته ليوبولدين المفضّلة لديه. وذات يوم كان مسافراً إلى مدينةٍ في جنوب فرنسا وفيما هو يتناول فطوره في مقهى ويقرأ جريدة، وقع بصره على خبر وفاة أبنته ليوبلدين وعمرها 19 عاماً آنذاك. فكانت صدمة قاسية له. وظل يزور قبرها في مقاطعة نورماندي  كل عام. وقد كتب هذه القصيدة لها سنة 1847 وظهرت في ديوانه " تأملات" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1856 . ويعدُّ كثير من النقّاد الفرنسيين هذه القصيدة أجمل قصيدة في الشعر الفرنسي في  جميع العصور.

قصة قصيرة للكاتب الليتواني

ادموندس كريبايتس*

ترجمة: جودت هوشيار

***

صفارة المنار تنوح دونما توقف. هذا النواح الممل يشق الآذان، وينهش القلب والدماغ كالدود. بيب.. بيب.. بيب. وهكذا من دون نهاية. فيتخشّب كيانك، ويصبح شفافا كالغربال. اصمتي ولو دقيقة واحدة ايتها الصفارة، فأنا إنسان مرهق، هدني الإعياء في العمل الليلي الطويل، والآن أريد أن أنام.بيب.. بيب.. بيب. وعلى هذا النحو الى ما لا نهاية.استشيط غيظاً فاستدير نحو النافذة والوح بقبضتي المشدودة.. تلف الأعصاب مرة أخرى.. أعصابي التي لا تصلح لشيء. نافذة غرفتنا – أنا والبيناس – تطل على ساحل رملي شاسع يمتد نحو اليمين حتى الكثبان المتجهمة الصفراء، التي تغمرها المياه في بعض الاماكن، وتنمو الأشواك على قمم البعض الآخر منها. وفي الجانب الأيسر من الساحل، سد حجري طويل يمتد حتى الافق. وتتدفق الأمواج فوقه منطلقة صوب الاحجار المخضرة، والاراضي الجرداء، فتغرقها ولا تظهر منها سوى بعض الهضاب الرملية الناتئة. وفوق هذه الجزر الصغيرة تحلق اسراب هائلة من النوارس الجميلة البيضاء التي تطلق صيحات كريهة.

السد يحجب البحر، ولكنك تحس به عن قرب كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة. وحين تهب الرياح من جهة البحر – وهي في العادة لا تهب من الناحية الاخرى الا نادرا، يتسرب الهواء البارد الرطب من خلال شقوق النافذة، وينفذ حتى النخاع , حاولنا إحكام غلق النافذة، بيد أننا أخفقنا في ذلك.

الرياح ساكنة اليوم – ليس ثمة سوى الضباب.

بيب.. بيب.. بيب. المنار على مقربة منا، وصفارته تنوح بصلافة، وصوتها يطغي على صوت المذياع، وتعكر مزاجنا، بعد العمل الليلي الطويل. غرفتنا المريحة باثاثها (الفخم) تروقني : مقعد واحد، وسرير سفري قابل للطي في احد اركان الغرفة.ومذياعان احدهما صالح والآخر عاطل، مفكك الاجزاء اقوم باصلاحه في اوقات فراغي منذ اسبوع. كما يروقني الفضاء الباهت من حولنا – هكذا يسمي البيناس هذا الساحل الصحراوي – كل شيء هنا عزيز ولطيف، فقط اصمتي ايتها الصفارة. أغلقي فمك اخيرا أيتها الروح الشريرة.

ومن جديد يتملكني غيظ بليد وسخيف. ربما تلف الأعصاب مرة اخرى.أاتناول دلو ماء، وخرقة مبتلة، واشرع بتنظيف الحمام.أنسى الصفارة اللجوجة لبضع دقائق. في وسع المرْ ان يتحمل عويل الصفارة اذا انهمك في العمل ولم يعد يفكر فيه. سأتهيأ الآن للنوم واسحب اللحاف حتى اذنيًّ، وسأضع فوق رأسي وسادة أخرى.

استيقظ على رنين حاد لجرس الباب، ولكنني اظل مضطجعا في فراشي، ثم أقفز كالملسوع. يبدو ان الضباب قد تبدد، ولكن الصفارة ما تزال تنوح. اسحب بنطلوني على ساقيّ، وادس رجلي في حذائي واتجه لافتح الباب، وانا في قميصي الداخلي، فأجدها واقفة امامي. انها جارتي فالنتينا.

- طاب نهارك، تقول المرأة الشابة، وهي ممسكة بيد ابنها (ايناس) وتتطلع اليًّ بعينيها الرماديتين. نظرتها صريحة ومباشرة، وفي الوقت نفسه مبهمة ومذعورة. لست افهم هذه النظرة مطلقا..

- من فضلك يا غيداس، هل لك ان تعتني بكنزي : ينبغي لي ان اذهب الى المدينة واخشى ان اتركه وحيداً..

ايناس في السادسة من العمر، صبي دائب الحركة، وقد الفني، وها هو يجتاز العتبة ببراءة. ذهبت فالنتينا وعادت بعد دقائق وهي تحمل صندوق العاب ايناس، ووضعته في وسط الغرفة. اتطلع الى ساقيها الرائعتين، وعندما تعتدل احدق في عينيها مباشرة. وفجأة احس بوخزة الم حاد في الجانب الايسر من صدري، ثمّ في الجانب الأيمن منه، يا للغرابة فهذا الجانب لا يضم القلب.

الصبي المجعد الشعر نثر العابه على ارضية الغرفة، وهو يحدث نفسه ويهدر كالسيارة، وانا الرجل الطويل القامة، والطويل الشعر - كان ينبغي ان اجزه منذ وقت طويل - اقف امام النافذة، وابتسم وافكر في هذه المرأة الجميلة ذات العينين الرماديتين. عيناها نجلاوان. تميلان للزرقة احيانا وللاخضر احيانا اخرى، ولكنهما دوما تشعان وميضاً ساحرًا من خلال الاهداب الطويلة من مكان ما في اعماقهما. هذا الوميض يخدعني ويقتلني ويفقدني توازني، فترتعش يداي، وترتجف ركبتاي، واحس برضى عميق اذ يرشق الالم صدري بوخزة مؤلمة حلوة فاهتز كأرنب رفع من الارض من ذيله.

فالنتينا هادئة، حزينة، رزينة وغامضة في نظري.وجهها صبوح، ينم عن قوة ألإرادة.شفتاها طريتان لامعتان. شعرها الكستنائي المتموج ينسدل على كتفيها. شذى شعرها يدوخني من بعيد، ولا اخشى الا شيئا واحدا، وهو أن تلحظ كيف اني اصبح عديم الوزن عندما اراها، فأبذل قصارى جهدي لأوهم نفسي انني انسان جرًّب كل شيء في الحياة، ولهذا لا اكترث لأي شيء مطلقاً.لا ادري ان كنت سأنجح في ايهامها بذلك حتى النهاية.

يبدو انه قد مضى وقت طويل. سئم ايناس اللعب، وانا مللت الكتب والمذياع، والكسل. ارتدينا معطفينا وغادرنا المنزل. ايناس صغير، وسريع كالفأر، يعدوعلى الرمال الرطبة ويصرخ، وانا أحجل في اثره. يلتقط ايناس عودا خشبيا ويحاول باحتراس ان يقترب من سرب من النوارس، ولكن النوارس تطير صارخة.

ايناس يبحث عن حجارة ما. نجتاز الارض الجرداء ونصعد الكثبان. البحر رمادي يخيّم عليه الضباب الذي يحجب الافق. والماء عكر والفضاء الواسع يختفي في مكان ما. وتلاشى المشهد العظيم وزايلني الاحساس السامي المثير، وأصبح كل شيء واضحا وبسيطاً: صوت الموجات الكسلى، وهي تلحس الرمال السمراء والنباتات المائية البارزة هنا وهناك.

ننزل إلى الماء ونغطس فيه بحثا عن الكهرب بين النباتات المائية. وعندما يكتشف إيناس حجارة صفراء، يسألني هل هي كهرب حقيقي ام لا ؟ وعندما اجيبه بالنفي، يستدير ويقلب ألحجارة في راحة يده، ثم يدسها في جيبه. أحسنت يا إيناس ! لك نظرتك الخاصة إلى الأشياء، ولديك من قوة الإرادة ما يجعلك لا تكترث بآراء الآخرين. وإذا كانت هذه الحجارة تروقك، فلا أهمية ان كانت كهربا حقيقيا أم حجارة عادية.

تجمدنا من ألبرد، ولم نجد سوى بضع قطع صغيرة من ألكهرب. احمرت ايادينا فأخفيناها في جيوبنا، وعدنا أدراجنا متجهين نحو ألمنزل. أسير في ألمقدمة وإيناس يجر رجليه، ويحاول أللحاتق بيّ، بيد انه يخفق في ذلك. ثم يتخلف عني مسافة طويلة وقد هده التعب.

أقدامنا تغور في ألرمال. ثمة إمرأة فارعة القامة واقفة امام المنزل، وحقيبتها اليدوية تتدلى من كتفها.

انها فالنتينا. ربما لمحتنا من بعيد، وهي قادمة من المدينة. الضباب غلالة شفيفة تحيط بقوامها. انا لا أرى وجه فالنتينا، ولكني أعرف انه وجه صبوح مشرق ودافيء. إيناس المتعب يحاول اللحاق بي. الصفارة تنوح، وامام ناظري قوام فالنتينا محاط بغلالة ضبابية. انا لا ارى قوامها بوضوح ويبدو لي هشا رقيقا، غير محسوس. تشتد ضربات قلبي وتتلاحق، فأحث الخطى دون ان الحظ ذلك. كنت سأطير لو كان ذلك في وسعي. يخيل إليّ انني ادرك الآن معنى ان يكون الانسان سعيداً، وليشق هذا النواح الآذان

- ماما

ايناس يعدو ويسبقني لملاقاتها ويعانقها، فتأخذ وجهه بين كفيها وتقبله في جبينه وانفه، وانا واقف بالقرب منهما وأبتسم بغباء. أفرح وأحزن في آن واحد، وأشعر بشيء من خيبة الامل، بيد أني لا أكف عن الابتسام. يستخرج إيناس من جيوبه الكنوز الصغيرة التي جمعها : احجار مسطحة مصقولة، قطع اخشاب مقشطة جميلة متعددة الطبقات، أصداف لؤلؤ، انبوب قصب، ثم ينحني، ويرخي الحزام المطاطي لبنطلونه، فتتساقط اشياء كثيرة اخرى. ترى متى تسنى له ان يجمع كل هذا ؟

- برافو إيناس

الولد الصغير، وألمرأة الشابة ألباسمة الملتفة بالضباب الرمادي سعيدان بالأحجار ألمصقولة وألأصداف والأشياء الأخرى، وانا أقف بجوارهما وأحس بوجع في صدري، ربما بسبب نواح ألصفارة اللعينة. الظلام أخذ يتكاثف وأمامي ألمساء كله، ألمساء الفارغ ألطويل. لست أدري كيف سأقضيه لكي أنسى نواح الصفارة المرعب، وهذه الأحجار الملقاة على الأرض، وساقي المرأة الرشيقتين.انها تدعوني لتناول طعام العشاء، ولكنني اعتذر واقول لها أنني ذاهب الى المدينة، وانا أعرف أنني لن أذهب إلى أي مكان. لِمَ أذهب الى المدينة، وماذا سافعل هناك!.اليوم عطلتي الاسبوعية.

شقتنا، انا وألبيناس، تقع في ألطابق ألخامس من عمارة مبنية بالطابوق ألاحمر. ألبيناس مشغول بتصاميمه وخرائطه، ومن وقت لآخر يرن جرس ألهاتف، أناس من ألميناء أو ألمطار يستوضحون عن حالة الطقس المتوقع، وخلف الحائط السميك، في غرفة الاجهزة، ثمة جهاز بث يعمل برتابة. وفي مكان ما بشمالي ألأطلسي على باخرة عائمة وسط الضباب جهاز مماثل في غرفة ألبث يديره شاب أشقر – زوج جارتي. انه يبتسم دوما ويفرح لشيء ما، كاشفا عن صفين من الاسنان البيضاء النضيدة، ويحرك رأسه للخلف رافعاً عن جبينه خصلات من شعره الاشقر. أليوم أنا لا اعمل. سيكون من الجميل ان تناول وجبة خفيفة. شعر فالنتينا كستنائي، متموج، يتسلل عطره الى راسي من بعيد، عيناها هادئتان، واسعتان، تشعان شراراً مضيئة. كان في وسعي ان أزورها لأستعير منها كتاباً. الصفارة تنوح وتنوح في المنار. سأتناول شيئاً من ألطعام، وأقرأ، وربما سأخلد الى النوم،. شرار مضيئة غالية، ولا يفصل بيننا سوى جدار.

***

.............................

ادموندس كريبايتس: كاتب قصصي لامع من جمهورية ليتوانيا. ولد في مدينة كلايبد عام 1938. تخرج في جامعة فيلنوس الحكومية، نشرت قصصه القصيرة في المجلات الأدبية الليتوانية والروسية منذ عام 1963. و ترجمت إلى بعض اللغات الأخرى. وتتميز هذه القصة التي اخترناها من مجموعته القصصية المعنونة " لحظات "، بالحس المرهف والوضوع، وتعبر عن الرغبة الانسانية في المشاركة الوجدانية.

الادب الكردي:

للشاعر الكردي لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

عندما ماتت أمي

لم تتساقط النجوم

و لم تهاجر

الأسماك..

عندما ماتت امي

لم تسجم قطرة دمع

من عيون

السماء..

الاطيار هي الأخرى

لم يكربها الغم

و لم يشجن ذلك الورود

المنتشرة

في حضن الجبل..

عندما ماتت امي

لم يخسف القمر

و لم تكسف الشمس

و لم يشعل الملاك سراجا

فوق رأسها..

عندما ماتت أمي

ظلت الأرض كما كانت

و فتحت داخل فلبي

أقدم بوابة

لأبلغ جرح...

آه.. لكم هو صعب بعادك

يا أماه..

شتان بين بعادك

و العطش

و السخط

و بعاد الحبيب..

إنه أشبه بجبل (هلكورد) في ثقله..

وأنت في ليلة من الليالي

لو لمحت بريقا

يحول العتمة عن قبرك

ويصيرها كما الشعل

النيرة

فأعلمي انه ليس بالشعلة

بل أنا

و قد اشتعلت في حضورك..

أمي العزيزة

ما أسهل أن أسمي

السكرة سكرة

والجرح جرحا

والوردة وردة

ولكن لمن أقول:

أماه..؟؟ !!

***

...........................

* عن (من الشعر الكردي الحديث: لطيف هلمت.. قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001.

ثلاث قصص قصيرة جدا

تأليف: آنا ماريا ماتوتى

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- موسيقى

لقد اعتادت ابنتا الملحن العظيم- اللتان تبلغان من العمر ستة وسبعة أعوام- على الصمت. لا ينبغي أن يكون هناك أية ضوضاء في المنزل،لأن أبي كان يعمل. كانتا تمشيان على أطراف أصابعهما، بالنعال، وفقط لا يكسر هذا الصمت سوى صوت بيانو والدهما.

ثم مرة أخرى صمت.

ذات يوم، تُرك باب المكتب مغلقًا بغير إحكام، وتسللت الصغرى نحو الباب الموارب ؛ كانت ترى كيف ينحني الأب، من وقت لآخر، على قطعة من الورق ويكتب شيئًا.

عند ذلك ركضت الفتاة بحثًا عن أختها الكبرى. وصرخت، صرخت لأول مرة وسط الصمت الثقيل:

- موسيقى أبي، لا تصدقينها، إنها يخترعها !

***

2- الفتى الذي كان صديقا للشيطان

حدثه الجميع في المدرسة، والمنزل، والشارع، بأشياء قاسية وقبيحة عن الشيطان، ورآه في جهنم فى كتاب الدين، مليئًا بالنار، بقرون وذيل مشتعل، بوجه حزين و وحيدا يجلس في مرجل.

قال:

- شيطان مسكين، إنه مثل اليهود، أن الجميع يطردونهم من أرضهم.

ومنذ ذلك الحين، كان يقول كل ليلة: "وسيم، جميل، يا صديقي" مخاطبا الشيطان. سمعته الأم، رسمت الأم علامة الصليب على صدرها وأشعلت الضوء:

- آه، أيها الطفل الأحمق، ألا تعرف من هو الشيطان؟

قال:

- نعم، الشيطان يغري الشرير القاسي. لكن بما أنني صديقه، سأظل دائمًا طيبا، وسيسمح لي بالذهاب إلى الجنة بسلام.

***

3- الصبى الذي مات صديقه

ذات صباح نهض وذهب للبحث عن صديقه على الجانب الآخر من السياج. لكن الصديق لم يكن هناك،وعندما عاد، قالت له والدته:

- مات الصديق. يا فتى، لا تفكر فيه بعد الآن وابحث عن الآخرين لتلعب معهم.

جلس الصبي في المدخل ووجهه بين يديه ومرفقاه على ركبتيه. معتقدا أنه سيعود. لأنه لا يمكن أن يكون هناك البلى، والشاحنة، والمسدس القصدير، والساعة التي لم تعد تعمل، ولا يأتى الصديق للبحث عنها. جاء الليل، وظهر معه نجم كبير جدًا، ولم يرغب الصبي في الذهاب لتناول العشاء.

قالت الأم:

- تعال يا طفلي، الجو بارد.

لكن الصبي بدلاً من الدخول، نهض وذهب ليبحث عن صديقه، بالبلى والشاحنة والمسدس الصفيح والساعة التي لا تعمل. عندما وصل إلى السياج، لم يناديه الصديق، ولم يسمع صوته في الشجرة ولا في البئر. أمضى الليل كله يبحث عنه. وكانت ليلة طويلة، عاصفة، غطى الغبار بدلته وحذاءه. عندما أشرقت الشمس، قام الصبي، الذي كان نعسانً وعطشًان، مد ذراعيه وفكر: "كم هي سخيفة وصغيرة تلك الألعاب. والساعة التي لا تعمل لا فائدة منها ". ألقى بكل شيء في البئر، وعاد إلى المنزل وهو جائع جدًا. فتحت له الأم الباب وقالت:

- لكم كبر هذا الطفل يا إلهي لكم كبر.

واشترت له بدلة رجل، لأن البدلة التي كان يرتديها كانت قصيرة للغاية.

(تمت)

***

.........................

المؤلفة: آنا ماريا ماتوتى/ كاتبة إسبانية، ولدت في برشلونة عام 1925، لأسرة ثرية حيث كان والدها صاحب مصانع للمظلات، واتسمت طفولتها بالمرض، بسبب الحرب الأهلية. تُعد إسبانيا ما بعد الحرب، التي تُرى من خلال عيون فتاة صغيرة، بأهوالها وحرمانها وبؤسها، فكرة مهيمنة متكررة في العديد من رواياتها. نشرت أول أعمالها، لوس أبيل. في السابعة عشرة من عمرها فقط. عملت أستاذة جامعية زائرة في جامعات أوكلاهوما وإنديانا فرجينيا.أصبحت عضوًا في الأكاديمية الملكية الإسبانية عام 1997 وحصلت على جائزة سرفانتس المرموقة عن أعمالها كافة في عام 2010. ووفقًا لماريو فارجاس أيوسا، فهي "واحدة من أهم الكتاب في اللغة الإسبانية". وتوفيت في برشلونة عام 2014.

 

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أولا: أرشاوير مكرديجيان.. الحارس

منذ زمن بعيد

نقرت لي الشمس مغارة

مستخدمة قوس قزحها

بمثابة مطرقة...

فأويت إلى المغارة

و علقت على جدرانها

كل ثروتي

و هي أربع لوحات ممزقة

... ليس إلا

لوحة الأرض:

و هي منزوية

تتضور جوعا

و لوحة الماء:

و قد تيبست شفاهه

من العطش

و لوحة النار:

و قد انطفأ النور

في عيونها...

و لوحة الريح:

و قد استلقت فوق فراشها

مثخنة بالجراح...

ثمة زهرة

من زهور دوار الشمس

عند باب المغارة

تصد عني ثورة الشمس.. !!

***

ثانيا: زوراير ميرزايان.. الكابوس

تجتث السماء شعرات

جسدي،

تمسك بي الأرض،

فأستغيث بقلب الليل

و لكن دون جدوى.

تتراءى لي المشاعل،

أسمع قرقعات الاحتراق

في جسدي الذي خدره العياء.

تتراءى لي السنة

المشاعل،

و هي تلسع أشجار الليل

و الطرقات المضاءة..

تبتلعني العاصفة الهوجاء

فأتدحرج بين إنحناءاتها

و أصابعي الموحلة

فوق وجهي.

***

..........................

- عن نص باللغة الكردية.

- (أرشاوير مكرديجيان): شاعر أرمني معروف. أبصر النور عام 1913. نشر في معظم الصحف والمجلات الصادرة باللغة الأرمنية. نشر في عام 1957 أول دواوين شعره. له قصائد مترجمة إلى بعض اللغات الحية.

- (زوراير ميرزايان): شاعر وقاص ومترجم أرمني معروف. أبصر النور عام 1906. نشر أول نتاجاته الأدبية في صحيفة (واردز نوند). نشرت الترجمة في مجلة (الكاتب السرياني) العراقية، العددان (7 / 8) 1987. عن (في مرفأ الشعر) للمترجم، أربيل – العراق 2001.

 

 

بقلم: عزّت الطيري*

ترجمة: نزار سرطاوي

***

لا أحدٌ في منزلكم

أعرف – والمصحفِ –

ولهذا أطرقُ

أطرقُ

حتى أثبتَ لنسيمٍ الشارعِ

والأ شجارِ الصفرِ اليابسةِ الأفرعٍ

والمشفى الآيلِ لسقوطٍ

بعد شهورٍ

مبنى البرقِ

القصاب

وبائعة الخبز

بأنى جئتُ كثيرا

والشاهدُ

كفى المجروحة

والمربوطة بضمادٍ

*

جيرانكِ حين ابتسموا

قالوا لاتتعب قلبك

يا ولدى

هل انت مسيحٌ

جاء ليبعثَ

ميْتا

من موتتهِ

او يرجع قوما

من غربتهم

دعنا نهنأ بالنوم

ودعهُمْ

وصدى الصوت يهمهمُ

هُمْ هُمْ

***

شاعر مصري

......................

 

The Echo

Ezzat Altairi

Translated by Nizar Saratwi

 ***

No one is in your house

I know

I swear by the holy Qur’an

And yet

I keep knocking

an’ knocking

to show the breeze

in yonder road

the yellow trees

with withered boughs

the run-down hospital

about to fall down

in a few months

the telegraph office

the butcher

and the bread seller

that I went there

so many times

My witness is

my wounded hand

wrapped in a bandage.

*

Your neighbors smiled:

“Do not exhaust your heart

my son

are you a Christ

who’s come

to bring a deceased

to life again

or bring expatriates

back to their home?

Let us sleep in bliss

and let them”

And the echo of their words hummed:

‘em ‘em

بقلم: إميلي ديكنسون

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

لم أر الأرض السبخة

أنا لم أر الأرض

السبخة قط

مع كل هذا

أعرف كيف هي شجيرات

الخلنج*،

و كيف هي أحقاف

الرمل.

أنا ما كلمت الله قط،

ولم تطأ قدمي

أرض الجنة

مع كل هذا،

أعرف كيف هي

كأنني قد شاهدتها

مرارا

وتكرارا.

***

...............

- إميلي ديكنسون: شاعرة أمريكية بارزة. ولدت في 10 ك 1 / 1830. نشر نتاجها الشعري بعد وفاتها في 15 أيار 1886، ويشمل: قصائد – المجموعة الأولى 1890، قصائد – المجموعة الثانية 1892، وقصائد – المجموعة الثالثة 1896. أفضت إلى ربها عام 1886. نشرت (11) قصيدة فقط وبأسماء مستعارة من أصل (1700) قصيدة.

* الخلنج: شجيرة من فصيلة الخلنجيات، لها أزهار كثيرة، غالبا ما تكون وردية اللون، وأوراقها دقيقة. تزرع للتزيين.

** نشرت الترجمة في مجلة (الطليعة الأدبية) العراقية، العددان (1 و2) 1987.

Louis Untermeyer، Modern American Poetry. Harcourt College Pub: Enlarged edition (June 1، 1962).

 

بقلم: فكتور هيجو

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

آه ! كم من الأصدقاء رأيت بخطى بطيئة يرحلون

رأيتهم يخرجون عن الطريق دواليك،

ويغادرون الحياة قبل نهاية اليوم،

ينزلون من منحدر التلّ الأسود!

كم، ممّن جَعَلَتْني بهجتهم أعيش وأؤمن

مَن تبدو فيهم عين الرضا والحبّ كأنها تتألّق

كَفّوا عن الضحك والكلام فجأة

شواحب، يرتجفون، حزانى، واليد مجمّدة،

دون قدرة حتى على إنهاء جملة بدؤوها،

رحلوا، تاركين مصيرهم غير مكتمل،

كما لو أن أحدهم قد دعاهم فجأة!

هل تعتقدون أنّ الورود القرمزية

لا تجد وسيلة لملاحقة النحل،

وأنّ الفراشات، تائهة في البنزوين،

ليست في اللازورد بعبق الروائح؟

الذاكرة نَفَسٌ يُبعث إلى القبر؛

هي الحمامة تلتحق بالحمامة؛

لا! لا يوجد غياب،لا يوجد قبر؛

الشاحب الناجي مُوِقد المصباح؛

يطير بروحه أبعد من الأرض

عقب ميت تاه في اللغز

تلتقي الروح بروح أخرى من فرط الحلم بها،

وتعرف أين تعثر عليها في أعماق السماء.

***

فكتور هيجو

"آخر حزمة قمح " بعد الوفاة" (1902)

................

ictor HUGO—OH ! QUE ,D’AMIS J’AI VUS

 Oh ! que d’amis j’ai vus à pas lents disparaître !

Que j’en ai vu quitter le chemin tour à tour,

Et sortant de la vie avant la fin du jour,

Descendre le versant de la colline noire !

Combien,dont la gaîté me faisait vivre et croire,

Dont l’oeil d’aise et d’amour semblait étinceler,

Ont cessé brusquement de rire et de parler,

Et pâles,frissonnants,tristes,la main glacée,

Sans même terminer la phrase commencée,

S’en sont allés,laissant leur destin incomplet,

Comme si tout à coup quelqu’un les appelait !

Est-ce que vous croyez que les roses - vermeilles

Ne trouvent pas moyen de suivre les abeilles,

Et que les papillons,errant dans les benjoins,

Ne sont pas dans l’azur par les parfums rejoints ?

La mémoire est un souffle envoyé dans la tombe ;

C’est la colombe allant s’unir à la colombe.

Non !il n’est pas d’absence,il n’est pas de tombeau ;

Le pâle survivant,rallumant le flambeau,

Fait envoler son âme au delà de la terre

A la suite du mort entré dans le mystère ;

L’âme revoit l’autre âme à force d’y rêver,

Et dans le ciel profond sait où la retrouver.

4 septembre 1857

Victor HUGO—Dernière gerbe ; posthume (1902)

Victor HUGO en 1867,par BERTALL.

.............

https://fr.wikisource.org/wiki/Derni%C3%A8re_Gerbe

 

طائر الشرشور..

للشاعر الكردي شيركو بيكس

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

سألت شجرة القوغ الحمراء(1)

- الصفصاف المتهدل هذا(2)

لماذا وضع رأسه

في حضن هذا الجدول،

دون أن يرفعه؟!

فبادرته قبجة بالاجابة(3)

- كان منتصبا،

يأتيه طائر الشرشور،

ليحط على ذروته

هامسا له بأنباء

ذلك الصفح

من الجدول..

وذات مساء:

أقبل محلقا

حاملا بشارة

وحط كعادته،

وإذا بباشق يفتك به،

مسقطا إياه

في الجدول

فتهدل الصفصاف،

محاولا انتشاله،

ولكن دون جدوى..

لقد غرق الشرشور،

وقد وضع الصفصاف رأسه

في حضن الجدول

منذ ذلك الحين

يبحث عن ذلك الشرشور...

***

........................

(1) شجرة القوغ: شجرة واسعة الانتشار في العراق، وبخاصة الشمال والوسط. وتزرع عادة على ضفاف الأنهار والمجاري المائية.

(2) الصفصاف المتهدل: شجرة ظليلة عملاقة سريعة النمو، لها أفرع طويلة متدلية تبلغ الارض. تزرع عادة على ضفاف الأنهر والسواقي والجداول وغيرها. يوجد منها نحو (500) نوع.

(3) القبجة: واحدة ال (قبج) وتطلق على الانثى والذكر، أي الحجل او الشنار. طائر من التدرجيات، جميل المنظر، رخيم الصوت، يعيش في المناطق الجبلية والسهول والهضاب. ويمكن تدجينه.

- (شيركو بيكس): شاعر واديب كردي كبير. (1940 السليمانية / العراق – 2013 السويد). نشر مع مجموعة من الادباء الكرد (بيان المرصد) حول الابداع والحداثة الأدبية واللغوية. ترجمت اعماله الى لغات عديدة، ومنها (الإنكليزية، الفرنسية، البولونية، العربية، السويدية، الألمانية، الإيطالية، التركية، والرومانية). منح جائزة (توخولسكي) الأدبية في السويد، وجائزة العنقاء الذهبية العراقية، وجائزة (بيره ميرد). من اعماله (ضياء القصائد - شعر 1968، هودج البكاء 1969- شعر، كاوة الحداد – مسرحية شعرية 1971، انا باللهب ارتوي – شعر 1973، الغزالة – مسرحية شعرية، الغبش – شعر 1978، انشودتان جبليتان - شعر 1980، الشيخ والبحر – رواية مترجمة لهمنغواي 1982، الصليب والثعبان، يوميات شاعر، مرايا صغيرة – شعر).

 

الشاعر الروسي الكساندر بوشكين وقصيدة

حكاية طفل يتيم

Александр Пушкин.

Романс − (Под вечер, осенью ненастной…)

ترجمة الدكتور: إسماعيل مكارم

***

حكاية طفل يتيم

في ليلة من ليالي الخريف الباردة،

مشت فتاة في دروب بعيدة

ويداها تضمان بعطف وحنو

وليدَ علاقة حبٍ غير سعيدة.

الغابة والجبالُ والطبيعة كلها

في سبات ٍعميق، تلفها عتمة الليل،

راحت بعينيها تتفحص المدى

مع رعشة وخوف يتملكان الفؤاد.

*

وبلهفة توقف نظرها

على هذا الوليد البريء قائلة:

" أأنت نائم الآن يا طفلي، وسبب عذابي،

ولا تدري بآلامي وحرقة قلبي.

أخاف أن تفتح عينيكَ ولن تجد

صدري، الذي تودّ أن يَضمّك ويحضنك

ولن تنعمَ غدا بقبلة تطبعها

أمك َالبائسة على وجنتيك

*

عبثا سوف تناديها ...!

خجلي الأبدي من عاري

سوف تنساني إلى الأبد

غير أنني لن أنساكَ

ستجد لدى الغرباء مأوى ، ولكن

سيقولون لك: "أنت غريب، ولستَ مننا "

وسوف تسأل: " أين أهلي"

ولن تجد أسرتك الحبيبة.

*

سوف يغمر الفكر الحزين ملاكي

طالما هو بين أترابه من الأطفال

وسيزوره الأسى القاسي

عند رؤيته عطف الأمهات على أطفالهن.

وسيبقى أينما حلّ وحيدا، غريبا

وسوف يلعن هذا الحدَّ القاسي*

وسيسمع ولدي كلماتٍ قاسية، حارقة...

أرجوك سامحني، سامحني حينها يا ولدي.

*

ربما أيها اليتيم الحزين

تلتقي والدكَ وتعانقه

يا أسفاه، أين هذا الخائن،اللطيف،

أين؟ أنا لن أنسى أبداً ما فعل.

هوّن على هذا المتألم،

قل له : "لقد تركتْ هذه الدنيا،

لم تتحَمّلْ لاورا هذا الفراق،

لقد رَحَلتْ، تاركة هذا العالمَ القاسي".

*

ماذا أقول؟ بل ربما

ستقابل أمّك المذنبة يا ولدي..،

سوف تهزني نظراتك الحزينة !

كيف لي أن لا أعرفكَ يا ولدي؟

آه لو أن هذا المصير المحتوم

يَمنعُ حُدوثهُ دعائي الصّادقُ...

ربما ستمر بجانبي يا ولدي كما الغريب

كوني يا بني قد تركتك إلى الأبد.

*

أأنت نائم يا صاحب الحظ التعيس

دعني أضمّك إلى صدري للمرة الأخيرة

إن هذا العرف الظالم والقاسي

يدفع بنا إلى العذاب والأسى.

ما دامت الأعوام

لم تطرد بعد فرحَك الغافل

نم يا حبيبي، فلن يطالَ الأسى

أيامَ الطفولة الهادئة ".

*

وفجأة بان في ضوء القمر الشاحب

كوخٌ صَغيرٌ بالقرب منها، خلفَ الأشجار،

حملت الفتاة طفلها بحذر وعناية

واقترَبتْ من ذلك الكوخ،

انحنتْ بكل هدوء ووضعت

الطفل الرضيعَ على عتبة الكوخ الغريبة

وحَوّلت نظرها بسرعة، والخوف يتملكها

وسرعان ما اختفتْ في ذلك الليل المُخيف.

1814 م

***

.......................

مصادر وهوامش:

* الحد القاسي – هو العرف الإجتماعي وما هو سائد في المجتمع من أعراف وتقاليد في فترة زمنية محددة.

ملااحظة: لقد كتب الشاعر الروسي ألكساندر بوشكين هذه القصيدة وهو في أول شبابه، إذ كان قد بلغ من العمر خمسة عشرعاما .من أين له هذه الأفكار النبيلة وهو لم يبلغ بعد سن الحكمة.

* حافظنا في النص العربي على عدد المقاطع وعلى عدد الأسطر مثلما جاء في النص الأصلي الروسي، وهذا ما تمليه أخلاق الترجمة.

Александр Пушкин. Евгений Онегин. Стихотворения.

Проза. Москва. 2020 г.

 

رفض

بقلم: فيليمير كلابنيكوف

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

أفضّل أكثر

أن أرعى النجوم

من أن أمضي على قرار إعدام

*

أفضّل أكثر

أن أنصت إلى همس الزهور

إنّه هو!

إذا ما مررت بالحديقة

من أن أرى البنادق تقتل

أولئك الذي يطلبون موتي

*

لأجل هذا أبدا

لن أكون من يحكم

***

...................

* فيليمير كلابنيكوف، شاعر روسي (1885-1922)

 

إيرينا شوفالوفا

ترجمة: صالح الرزوق

***

من الصعب أن تكره شخصا في نهاية يوم طويل

حينما تستطيل المسافة بين صباح أنفسنا ومسائها

على شاكلة ظلال الأشجار عند الحد الفاصل بين

حقلين

وحينما تنكسر آخر إشعاعات الشمس على ظهر وحش الليل العظيم

كأنها رماح

وذلك لحظة خروج الليل من مخبئه وراء الأفق

**

في ساعة كهذه

من الصعب أن تقول للجرح: كن مؤلما، ولا

تندمل

وأن تأمر قلبك: أن يقرع مثل جرس الإنذار من الحريق

وأن تقول لجسمك: انطو على نفسك بعقدة وارتجف ولكن لا تيأس

في ساعة كهذه من الصعب على وجه الخصوص

أن تحرث حقلا حجريا بحديد لحق به الصدأ

وأز تبذر بذورا ناعمة وصغيرة في الأرض الداكنة

وأن تأمل بحصاد أوفر من بذور مرة

**

لأنه – يمكنك سماع – أصوات العصافير وقد توقفت عن الخشخشة في

الظلام

هل ترى – أن الأشجار التأم شملها عند بوابات الغسق

وأولئك من خطأنا

لا زالوا يتجولون في حقولنا دون أن يجدوا طرقاتنا

وهم يتخبطون يائسين في الظلمات

**

في خاتمة المطاف ببساطة كل جرح هو خندق

وبستان في الأرض ومنه ينشق

جذر طويل ولجوج

وهو بستان يتبخر منه ثعلب ويصبح طريدة حتى الأبدية

عبر حقول مطيرة

وهو أيضا عفن ينحته دولاب يائس في طريق طيني

**

وعما قريب سيأتي الريح والمطر من أجله والعشب العشب

والبتولا والرغل والنجيل والأرقطيون والشوكران* ستلحم

الأطراف غير المنتظمة معا

وستلعق الأرض ذاكرتها المنهوبة

بلسانها الخشن المخضوضر

**

ونحن أيضا

سننسى الكراهية وننام

وببساطة سننمو كالعشب

ونغطي وجه الأرض

بعشقنا الفياض المتدفق

والمتكاتف والقاسي.

***

...................

* نباتات وأعشاب غير منزرعة متوفرة في أوكرانيا.

* الترجمة عن الأوكرانية: أوليام بلاكير

إيرينا شوفالوف Iryna Shuvalova

شاعرة وأكاديمية من كييف. تعيش في نانجينغ في الصين. من أعمالها المنشورة : صل للآبار الجافة 2019 ، غابة البستان الحجري 2020 . وشاركت بإعداد مختارات من أدب المثليات الأوكراني بعنوان "سدوم" 2009. ولها تحت الطباعة كتاب "دونباس هي إسبارطتي: الهوية والانتماء في أغاني الحروب الروسية – الأوكرانية" وتعالج فيه آثار الحرب على المجتمع الأوكراني. حازت على شهادة الدكتوراه بالدراسات السلوفينية من جامعة كامبريدج. وقبلها حصلت على الماجستير في الأدب المقارن من جامعة دارتموث. وفي صيف عام 2023 ستكون ضيفة على جامعة أوسلو في النرويج.

الاقتباس من المجلة اىإلكترونية WWB

  

للكاتب الفرنسي:

GUY DE MAUPPASSANT1

ترجمة: أحمد القاسمي

***

قرأ النَّاس مؤخرا في الجرائد السطور التالية:

«بولون- سور- مير2 (Boulogne – Sur – Mer) . 22 يناير. أُبرق لنا هذا الخبر: مُصيبة مريعة ألقت على التو الذعر ما بين سكاننا على الشاطيء، أُبتلي بها سابقا منذ سنتين مركب الصيد الذي يقوده الربان (جافيل)؛ عندما كان داخلا المرفأ، قذفت به الأمواج إلى الغرب؛ فتحطم على صخور رصيف تكسير الأمواج.. بالرغم من مجهود سفينة الإنقاذ، والخطوط المرسلة بواسطة بندقية حمل الحبال، غرق أربعة رجال، وبحار حَدث3».

«يستمر الطقس الرديء، يخاف الناس كوارث أخرى».

من هو هذا الربان (جافيل)؟ أهو شقيق مبتور الذراع؟

إذا لفَّ الموج الرجل التَّعس، ومات ربما تحت حطام مركبه المحطم إلى أجزاء؛ فهو الذي أفكر فيه، عاش منذ ثمانية عشر سنة فاجعة أخرى مُرعبة، وبسيطة كما هي دائما كوارث البحر هذه الرهيبة.

كان إذن (جافيل) البكر ربان مركب صيد.

مركب صيد بامتياز؛ صلب؛ لا يُخَاف به من أي حالة طقس. الجوف مستدير، محاط بدون توقف بالأمواج كسدادة من فلّين، دائما في سلام.. دائما مجلود برياح (المانش) القاسية والمملحة؛ يقاوم البحر؛ لا يكل. الشراع منفوخ؛ ساحبا بالخاصرة شبكة صيد كبيرة؛ تكشط أعماق المحيط، وتُزيل وتجني جميع الأحياء البحرية الراقدة على الصخور، والأسماك المفلطحة المتلبطة بالرمال، والسلطعون الثقيل بأرجله المعقوفة، والسرطانات البحرية؛ بشوارب طويلة ومنتصبة.

عندما يكون هواء البحر باردا، وتكون الموجة قصيرة؛ يشرع المركب في الصيد. شبكته مربوطة على طول عصا من خشب مجهزة بحديدة؛ التي تتركها تهبط بواسطة حبلين، ينزلقان على لفيفتين على طرفي المركب؛ الذي ينجرف تحت تأثير الريح والتيار المائي، يسحب معه هذه الآلة التي تُتلف وتكتسح أرض البحر. كان لـدى (جافيل) على متن السفينة أخوه الأصغر، وأربعة رجال، وبحار غلام، كان قد خرج من (بولون) بطقس صحو وصاف؛ ليرمي بشبكة الصيد.

والحال أن الرياح اشتدت عما قليل، وحدثت فجأة عاصفة أجبرت مركب الصيد على الهروب، توجه نحو شواطئ انجلترا، لكن البحر الثائر جلد الأجراف البحرية، ووثب في اتجاه اليابسة؛ جعل ولوج المرفأ مستحيلا. لاذ المركب الصغير بالفرار في عرض البحر، وعاد إلى شواطئ فرنسا. استمرت العاصفة في جعل أرصفة تكسير الأمواج متعذرة العبور، فجميع إمكانيات الدنو من ملاذ النجاة محفوفة بالخطر، وبالضجة، وبزبد البحر.

أبحر مركب الصيد ثانية، يمخر عباب البحر.. مرتج.. مخضخض.. منساب.. مصفوع بكمية كبيرة من الماء، لكنه جسور بالرغم من كل شيء، متأقلم مع هذه الأجواء العاصفة التي تمسكه أحيانا خمسة أو ستة أيام؛ متنقلا بين البلدين المجاورين؛ فرنسا وانجلترا؛ دون أن يستطيع الرسو في كليهما.

ثم هدأت أخيرا العاصفة الهوجاء. ولما كان في عرض البحر، ولو أن الموجة كانت ما تزال هائجة؛ أمر قائد المركب برمي الشبكة.

مُرِّرت إذن شبكة الصيد على جانب السفينة، رجلان في المقدمة، وآخران في المؤخرة، بدأوا بلف الحبال على اسطوانات اللفّ التي تشد الشبكة، لمست فجأة القاع، لكن موجة عالية أمالت المركب، فترنَّح (جافيل) الأصغر الذي كان موجودا في المقدمة، والذي كان يوجه هبوط الشبكة، فوُجدت ذراعه مشدودة مابين الحبل لحظة ارتخائه برجة، والخشبة التي ينزلق عليها. قام بجهد يائس محاولا باليد الأخرى رفع الحبل، لكن الشبكة انسحبت من قبل، والحبل لم يرتخ قط.

الرجل متشنج بالألم؛ فنادى، أسرع الجميع، غادر شقيقه مقبض الدفة، هجموا على الحبل، باذلين الجهد في تخليص العضو الذي سُحِق؛ كان هذا بلا جدوى.

- يجب قطع الحبل؛ قال أحد البحارة.

وسحب من جيبه سكينا عريضا الذي يستطيع بقطعتين إنقاذ ذراع (جافيل) الأصغر.

لكن قطع الحبل كان يعني فقدان شبكة الصيد، وهذه الشبكة في ملك (جافيل) البكر؛ تساوي مالا.. الكثير من المال، ألف وخمسمائة فرنك؛ فصاح بقلب منكل:

- لا.. لا تقطعوا ، انتظروا؛ سأُقرب المركب من مهب الريح.

وعاد إلى دفة السفينة، وجعل جميع مقبضها إلى الأسفل. لم يستجب المركب إلا بعد لأي، مشلول بهذه الشبكة التي قَيّدت حركته، ومجرور من جهة أخرى بقوة الانسياق والريح.

جثا (جافيل) الأصغر على ركبتيه، كزَّ على أسنانه، عيناه زائغتان، لم ينبس ببنت شفة. عاد أخوه مرة أخرى خائفا دائما من سكين أحد البحارة:

- اِنتظروا.. اِنتظروا؛ لا تقطعوا؛ يجب إلقاء المرساة.

تم إلقاء المرساة، كُرَّت السلسلة كليا، ثم أُديرت البكرة للتخفيف من ضغط حبال المركب؛ فلانت، أخيرا فُكَّت الذراع الجامدة تحت كُم مُدمى من الصوف.

بدا (جافيل) الأصغر كالأبله، أُنتزِعت منه سترته، وشوهد شيء فظيع؛ لحم مهروس حيث ينبجس الدم بغزارة؛ كأنه مدفوق بمضخة. نظر الرجل إذن إلى ذراعه وتمتم:

- أنا سيء الحظ.

ثم لـمّا كوّن النزيف بحيرة على ظهر السفينة؛ صرخ أحد البحارة:

- سينزف من دمه؛ يجب أن يُربط العِرْق.

أخذوا إذن خيطا... خيطا غليظا داكن اللون، ومطليا بالقار، وضموا العضو من فوق الجرح، ضغطوا بكل قوتهم؛ توقف تدفق الدم بشكل غير محسوس، وفرغوا بأن انقطع كليا.

اِنتصب (جافيل) الأصغر واقفا، يتدلى ذراعه على جانبه، تناوله بيده الأخرى، وأداره، ثم حركه؛ الكل كان مهشما؛ العظام مكسورة؛ العضلات وحدها تشد هذا الجزء من جسده، نظر إليه مليا بعين كئيبة؛ متفكرا؛ ثم جلس على شراع مطوي، ونصحه زملاؤه بترطيب الجرح بدون توقف؛ لتفادي الإصابة بالتعفن.

وضع سطلا بالقرب منه، ومن دقيقة إلى دقيقة يغترف منه بواسطة كأس، ويُبلل الجرح الفظيع؛ تاركا قليلا من ماء صاف ينساب من فوق.

- ستكون أحسن في الأسفل، قال له أخوه.

هبط؛ لكن بعد ساعة صعد؛ لم يشعر بالطمأنينة في وحدته، ثم إنه فضل الهواء الطلق. جلس مرة ثانية على شراعه وشرع في تبليل يده.

كان الصيد كثيرا، تمددت بجانبه الأسماك المفلطحة ذات البطون البيضاء؛ مخضوضة بتشنجات الموت؛ كان ينظر إليها دون أن يتوقف عن نضح عضلاته المسحوقة.

لما كان المركب يمضي عائدا مرة ثانية إلى (بولون)، عصفت رياح جديدة، فبدأ عَدْوه الجنوني؛ واثبا...داحرا الأسيف الجريح.

قدِم الليل، وظل الجو جسيما حتى مطلع الفجر. شوهدت من جديد (آنجلترا) مع شروق الشمس؛ لكن ولما كان البحر أقل إزعاجا؛ أخذ المركب طريق العودة إلى (فرنسا)؛ متذبذبا.

عند المساء نادى (جافيل) الأصغر على زملائه، أظهر لهم بقعا سوداء..أثر نَتانة شنيعة على جزء العضو الذي لا يشد نفسه.

نظر البحارة إلى بعضهم البعض، وأبدوا رأيهم:

- يمكن أن يكون قد أصيب ذراعك بالتعفن؛ اِعتقد أحدهم.

- بناء على هذا؛ الماء المالح ضروري، صرَّح آخر.

جلبوا إذن الماء المالح، وسكبوه على موضع الألم؛ فصار الجريح أدكنا، صَرَّ أسنانه، تلوّى قليلا دون أن يصرخ؛ ثم حين سكنت حُرْقته قال لأخيه:

- اِعطيني سكينا.

مد الأخ الأكبر سكينه.

- أمْسِك لي الذراع إلى أعلى بشكل مستقيم، اِجذب بقوة.

فعل أخوه ما طُلب منه.

بدأ إذن يقطع نفسه؛ يقطع ببطء وبتأمل؛ فاصلا آخر طرف العضلة بهذه الشفرة القاطعة كحد موسى، وسريعا لم يعد الذراع أكثر من بقية عضو مقطوع، تنفس الصعداء، وقال:

- كان هذا ضروريا، كنت هالكا لامحالة.

بدا مرتاحا، وتنفس بقوة، بدأ يسكب الماء على العضو الذي فضل له.

كان الجو ما يزال بعد الليل رديئا، فلم يستطيعوا الرسو.

عندما لاح الصباح، تناول (جافيل) الأصغر يده المبتورة، وعاينها طويلا، ظهر عليها التعفن، جاء أيضا زملاؤه وتفحصوها، ومرروها من يد إلى يد، تحسسوها، وآشتموها.

قال أخوه :

- يجب أن تقذف هذا في البحر حالا.

لكن ( جافيل ) الأصغر غضب:

- لا..لا..لا أريد إطلاقا؛ هي لي؛ ليس صحيحا؛ ما دامت يدي.

أخذها و وضعها مابين ساقيه.

قال أخوه:

- ليس أقل من أنها ستنتن.

طرأت إذن على الجريح فكرة؛ لحفظ السمك عندما يمكث الصيادون طويلا في البحر؛ يكدسونه في براميل من الملح.

تساءل:

- ألا أستطيع أن أجعلها في نقيع من الملح؟

قال الآخرون :

- هذا هو الصحيح.

قرع إذن واحدا من البراميل؛ كان مملوءا من قبل بصيد الأيام الأخيرة، وفي القاع وُضعت اليد، سكب عليها الملح، ثم أعادوا الأسماك الواحدة بعد الأخرى.

أبدع البحارة هذه الدُّعابة:

- شريطة أن نبيعها في المزاد.

وضحك الجميع، ما عدا الأخوين (جافيل).

كانت الرياح تهب باستمرار، سار المركب متذبذبا ضد الرياح؛ متوجها إلى (بولون) حتى الساعة العاشرة من صباح الغد. استمر الجريح في نضح جرحه بالماء بدون توقف.

يقوم من حين لآخر، ويتمشى من طرف المركب إلى الطرف الآخر، أخوه الذي يقبض بالدفة يُشيعه بعينيه هازا رأسه.

انتهت الرحلة بدخول المرسى.

فحص الطبيب الجرح؛ وأعلن أنه في سبيل حسن، جعل عليه ضمادة كاملة، وأوصى بالراحة، لكن (جافيل) لم يرد أن ينام بدون أن يسترد ذراعه؛ فرجع أدراجه إلى المرفأ ليجد البرميل الذي كان قد وسمه بعلامة.

أفرغوه أمامه، و أخذ مرة أخرى عضوه محفوظا في النقيع من الملح، مُتغضن، رطب، كفّنه في منديل حمله لهذا الغرض، وآوى إلى بيته.

تفحص أبناؤه وزوجته بقايا الأب هذه طويلا، ويجسون الأصابع، وينزعون ذرارة الملح الباقية تحت الأظافر؛ ثم استقدموا نجارا ليصنع تابوتا صغيرا.

في اليوم التالي كان أفراد طاقم مركب الصيد يشيعون دفن اليد المبتورة؛ الأخوان (جافيل) جنبا إلى جنب، يتقدمان المأتم. يحمل كاهن الكنيسة الجثة تحت إبطه.

عدل (جافيل) الأصغر عن الإبحار؛ حصل على عمل في المرفأ، فيما بعد عندما كان يتحدث عن حادثته؛ كان يسرد بصوت خافت على مستمعيه:

- كان أخي يسعى إلى مصلحته قبل كل شيء، لو أراد وقتئذ قطع الشِّبكة لكنت آحتفظت بذراعي.

***

.....................

* النص مأخوذ من المجموعة القصصية:

Contes de la bécasse, GUY DE MAUPASSANT, Booking international, PARIS. 1995.

1- كاتب فرنسي؛ هو مبتكر القصة القصيرة بلا منازع.

2- مدينة تقع في الشمال الغربي لفرنسا على ساحل Pas de calais ؛ الذي يصل بين شمال فرنسا وبحر (المانش).

3- الحَدَث: الصغير السن.

للشاعر الأسباني فرانثيسكو دي كبيدو

اعداد وترجمة : أ.م. مثال احمد عبد /

كلية اللغات / قسم اللغة الاسبانية

***

انه جليد يحترق، انه نار تتجمد

انه جرح يؤلم ولا يمكن الشعور به،

هو حلم جميل وهدية سيئة،

انه استراحة قصيرة متعبة جدا،

انه اهمال يعطينا رعاية،

انه جبان ذو اسم شجاع،

انه نزهه منعزلة بين الناس،

فالحب فقط لتكون محبوبا،

انه حرية مقيدة

تستمر حتى النوبة الاخيرة،

انه مرض ينمو اذا تم علاجه

هذا هو الطفل، الحب، هذا هو الهاوية.

فأنظروا اي صداقة هي تلك التي تكون مع لاشئ¡

فالحب هو من يخالف نفسه في كل شيئ!

***

...............

Definición del Amor del poeta (Francisco de Quevedo)

Es hielo abrasador, es fuego helado,

Es herida que duele y no siente,

Es un soñado, un mal presente,

Es un breve descanso muy cansado.

Es un descuido que nos da cuidado,

Un cobarde con nombre de valiente,

Un andar solitario entre la gente,

Un amor solamente ser amado.

Es una libertad encarcelada,

Que dura hasta el postrero paroxismo;

Enfermedad que crece si es curada.

Este es el niño Amor, éste es su abismo.

Mirad cual amistad tendrá con nada !

El que en todo es contrario de sí mismo!

*** 

 

للشاعر الرروسي سيرغي يسينين

ترجمة الدكتور إسماعيل مكارم

***

الشبح الأسود

يا صديق، يا صديقي

إنني جدا مريض.

لا أدري كيف بل من أين هذه الآلام جاءت.

تارة تعوي الرياح

مثلما في سهل قفارْ،

تارة كأنما غابة في أيلولْ،

برأسي ينهمر بقسوة وقعُ الكحولْ.

*

وهذا راسي بآذاني يخفقْ،

كأنما طير جناحيه يُحرّكْ.

بات الساقان فوق العنقْ

لم يعد على الحراك قادرْ.

شبحٌ أسودْ

أسودُ أسودْ

شبحٌ أسودْ

ها هو يجلس بقربي على السريرْ،

الشبحُ الأوسودُ

يحرمني من النوم طيلة الليل المَريرْ.

*

الشبح الأسود

بالبنان يشير لأسطر بكتاب تعيس

ويخنخن فوقي

كأنما راهبٌ فوق جثمان فقيد،

يقرأ ليجعلني أسمع

سيرة َ سكير حَقيرْ،

دافعا إلى روحي الخوفَ والحزنَ.

مَخلوق أسودْ!

مَخلوق أسودْ!

*

" إسمعْ، إسمعْ –

راح يحكي لي ويُثرثر –

في الكتاب أفكارٌ

بل ومشاريعُ عظيمة.

هذا الإنسانُ

عاشَ في بلاد

يسكنها أكبر الأوباش المكروهين،

والمشعوذون.

*

الثلج في كانون بتلك البلاد

أبيض ناصع نظيف،

حيث هذا الثلج يغزلُ

غزلَ البناتِ الجميلْ .

ذاك الإنسانُ كان مجازفا،

مقامرا، ومغامر

من الدرجة الأولى.

*

كان أنيقا

وهو بذات الوقت شاعر

وقواه لم تكن

عظيمة كبرى، ولكنه قادر،

وكان قد سمى امرأة

جاوزت سنّ الأربعين

بالفتاة الخبيثة

ويناديها دلالا - حلوتي ".

*

" السعادة – قال لي –

هي في براعة العقل واليد .

ومن كان بعيدا عن البراعة وفنونها

حَسَبهُ القومُ

في الدنيا تعيساً.

لا بأسَ إذن بعد هذا

أنّ إشاراتٍ تعيسة زائفة

تثقلنا بعذاباتٍ كبيرة.

*

إنّ أعلى أشكال الفنون

خلال العاصفة

وفي حالات الفقدان والأسى

وحين تكون في حالات الحزن

إن أعلى أشكال الفنون

أن تتظاهر بالإبتسامة، والبساطة، والرضاء ".

*

" أيها الشبح الأسودُ

حذار، حذار

كيفَ تجرؤ.. فأنت لستَ تحتَ الماء

تحيا وتخدم. *

ما شأني والحديث

عن حياة شاعر

وهو بذات الوقت مشاكسْ

فاحكِ للآخرين عنه ما شئتَ وحدّثْ ".

*

الشبح الأسودُ **

ينظر نحوي، يُحدق.

وعيناه قد غطاهما قيء أزرق –

كأني به يُريد القول

أنني حرامي وسارق

قمت بنهب أموال

رجل ما عابر

بلا خجل أو استحياء.

*

يا صديق، يا صديقي

إنني جدا مريض.

لا أدري كيف بل من أين هذه الآلام جاءت.

تارة تعوي الرياح

مثلما في سهل قفارْ،

تارة كأنما غابة في أيلولْ

برأسي ينهمر بقسوة وقعُ الكحولْ .

*

ليلٌ وصقيعْ

وهذا الدوّار صامتٌ ساكنْ

وأنا وحدي أقف قربَ النافذة

لا أنتظر ضيفا أو صديقا

وهذا المدى

قد غطاه منثورٌ كلسي ناعم

والأشجار كأنها فرسان

تجمعتْ في بستاننا.

*

وهذا الطائر الليلي المشؤوم

يصيح باكيا في مكان غير بعيدْ.

وهذي الفرسان الخشبية تعدو

وتطلق إيقاعا إنه إيقاع السنابك

ومن جديد ها هو الشبح الأسودُ

يقترب من مقعدي ويجلس،

رافعا قبعته العالية

ودون عناية يرمي معطفه خلفه.

*

" إسمعني جيدا، إسمعْ –

أخذ يشخر

موجها نظره تجاهي

شاهدته قد انحنى

مقتربا مني يقول:

ما رأيتُ يوما في حياتي

حتى بين الماكرين والأوغادْ

من يعاني عَبثا ويعذبه السّهادْ.

*

لنقل أني أخطأت !

وهذا البَدرُ الليلة قد اكتملْ.

ماذا يلزم بعدُ

لناعس ٍ غر هَدّهُ السّكرْ؟

ربما بالسّرّ ستأتي إليك (تلك)

ذاتُ الفخذين السَمينين، وأنتَ

سَتقرأ أمامها شيئا فيه غزلْ

أوقصيدة من شعركَ القميء المُبتذلْ؟

*

آه، كم أحب الشعراء

إنهم بحق قومٌ غريبْ .

عبرهم ألقى لقلبي تاريخا أعرفه، عجيبْ

كيف ذو شعر طويل وقبيح

يحكي لبنت المدرسة،

لمن لا يزال في وجهها حب الشباب

عن دنى أخرى وعالم بعيدْ

ولهاث الجنس يغلي في ضلوعِه.

*

لا أدري، لا أذكرُ

في إحدى القرى

ربما في كالوجا،

ربما في ريازانْ

عاش

في أسرة فلاحين بسيطة

صبيٌّ أصفرُ الشعر

ذو عينين زرقاوينْ...

*

لقد كبُر الولدُ

وهو الآن شاعر

وقواه لم تكن

عظيمة كبرى، ولكنه قادر

وكان قد سمى امرأة

جاوزت سنّ الأربعين

بالفتاة الخبيثة

ويناديها دلالا - حلوتي ".

*

" أيها الشبحُ الأسود ُ

أنت ضيف ثقيل الظل.

هذه السِّمعة ُ

تلاحقك من زمان ".

لقد طفح الكيل، إني أثور غاضبا

وتطير من يدي عصاي

نحو سحنته القبيحة،

إذ تصيبه بين عينيه...

*

ذبُلَ القمر

وهذا الصّبح خلفَ الشباك يصحو

آه، أيها الليلُ

ماذا فعلتَ؟

إني أقف

وعلى رأسي قبعتي العالية

ليس من أحد جنبي

وهذي المِرآة قد تهشمتْ... ***

***

تشرين الثاني عام 1925

..............................

هوامش ومصادر:

* لفهم النص لابد من معرفة التراث الشعبي الروسي وحتى السلافي، حيث ورد في الأساطير والحكايا السلافية والروسية أن المخلوقات الشريرة منها من يعيش ويخطط أفعاله السيئة والخبيثة في عالم تحت الماء.

** ليس المقصود هنا في الشبح الأسود – الإنسان صاحب البشرة السوداء إنما من يمثل المخلوقات الشريرة.

*** كالوجا – بلدة قرب موسكو، وريازان – هي مدينة الشاعر يسينين.

**** المرآة المهشمة حسب الإرث الروسي والسلافي القديم - هي دليل شؤم أوشيء قادم تعيس يطال مصير الإنسان . لذا لابد من تنبيه الزملاء ممن ترجموا هذه القصيدة من قبل إن القول بأن (النافذة قد تهشمت) مع إهمال المرآة قد افقد القصيدة عنصراهاما.

ملاحظة - لابد هنا من التنويه إلى أمر هام يدخل ضمن أخلاقية المترجمين لقد حافظنا على شكل القصيدة وحتى على عدد المقاطع والأشطر محاولين الحفاظ على شكل القصيدة وأسلوب الشاعر في نصه الأصلي الروسي.

Сергей Есенин. Собрание сочинений в двух томах. Том 1.

Москва. 1991.

وجهة نظر

من الأهمية بمكان وضع معايير وضوابط دقيقة لتقييم جودة الترجمة. لا يمكن إجراء تقييم نقدي موضوعي للترجمة إلا بالإستناد إلى بعض الأسس التنظيمية، التي تجعل من الممكن تحديد طبيعة الإنحرافات عن قواعد وأصول الترجمة، هذه الإنحرافات (المبررة، وغير مبررة، القسرية أو التعسفية).

هذا الأمر يتطلب تحديد ضابطة أو معيار للترجمة، بل لكل نوع من أنواعها، مع مراعاة عدد من العوامل الدلالية، والإسلوبية، والعملية، والإجتماعية وغيرها مما يخص التقاليد.

من دون معايير واضحة أو ضوابط واضحة بما فيه الكفاية لتقييم جودة الترجمة لن نجد هناك شروطا لإعطاء شهادة تثمين للمترجمين، هذه الشهادة أو التثمين، الذي سيضع حدا للفوضى في عالم الترجمة وأعني هنا ترجمة النص في الشعر أوالنثر لدينا .

قد يقع نظر القارئ هنا أو هناك على بعض الأفكار المبعثرة في مجال نظريات الترجمة ولكن علينا أن نعترف بأن البحوث الجادة في هذا الميدان إلى يومنا هذا قليلة، أعني هنا في المكتبة العربية، وفي الدوريات العربية الجادة.

إذا وجدنا لدى بعض الأكاديميين في هذه الجامعة أو تلك ما كتِبَ عن مسألتي (الكفاية ) و(التكافؤ) أو عن مسألة تقريب النص المترجم من النص الأصلي فهذه أعمال منقولة من الدوريات الأوروبية والروسية، ورغم ذلك نوجه لهؤلاء جزيل الشكر.

بقلم: جاك بريفير

ترجمة نزار سرطاوي

***

بحّارٌ هَجَرَ البحر

سفينتُه غادرت الميناء

الملكُ تخلّى عن الملكة

بخيلٌ ترك ما عنده من ذهب

هكذا هو الحال

*

أرملةٌ تخلت عن حِدادها

امرأةٌ مخبولةٌ غادرت مستشفى المجانين

وابتسامتكِ غادرَتْ شفتيَّ

هكذا هو الحال

*

لسوف تتركينني

لسوف تتركينني

لسوف تتركينني

لسوف تعودين إليّ

لسوف تتزوجينني

لسوف تتزوجينني

السكّين تتزوجُ الجرح

قوسُ قزحٍ يتزوجُ المطر

الابتسامةُ تتزوجُ الدموع

العناقُ يتزوجُ العُبوس

هكذا هو الحال

*

والنارُ تتزوجُ الجليد

والموتُ يتزوجُ الحياة

والحياةُ تتزوجُ الحب

لسوف تعودين إليّ

لسوف تتزوجينني

لسوف تتزوجينني

***

......................

Et Voilà

Un marinaio ha lasciato il mare

il suo battello ha lasciato il porto

e il re ha lasciato la regina

un avaro ha lasciato il suo oro

... et voilà

*

una vedova che lascia il suo lutto

una pazza che lascia il manicomio

e il tuo sorriso che lascia le mie labbra

... et voilà

*

Tu mi lascerai

tu mi lascerai

tu mi lascerai

tu tornerai a me

tu mi sposerai

tu mi sposerai

*

Il coltello sposa la piaga

l'arcobaleno sposa la pioggia

il sorriso sposa le lacrime

le carezze sposano le minacce

... et voilà

*

E il fuoco sposa il ghiaccio

e la morte sposa la vita

come la vita sposa l'amore

*

Tu mi sposerai

tu mi sposerai

tu mi sposerai.

***

............

جاك بريفير: شاعر وكاتب سيناريو فرنسي برز بعد الحرب العالمية الثانية. تدور معظم أشعاره حول الحياة في باريس بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تُمثّل نوعًا من التعليق الاجتماعي، إذ كثيرًا ما تتناول المشاكل الاجتماعية المعاصرة، كالفقر والظلم والحرب. ويتميّز شعره بالبساطة والمباشرة وقوة العاطفة، وأيضًا باستخدام اللغة اليومية والتعابير العامية، علاوة على روح الدعابة والسخرية. ولهذا فقد شاعت قصائده بين القراء العاديين. ويُذكر أن العديد من قصائده تدرّس في المدارس الفرنسية.

ولد بريفير في أحدى ضواحي باريس قي 4 شباط/فبراير عام 1900 لعائلة برجوازية. ترك المدرسة قبل أن يتجاوز الخامسة عشر من عمره ليعمل في أحد متاجر باريس إلى أن تم استدعاؤه للخدمة العسكرية في عام 1918 قبل نهاية الحرب العالمية الأولى.

في عام 1925 شارك في الحركة السريالية، التي كانت تضم مرسيل دوهامل وأندريه بريتون وريموند كَنو. لكن بريفير انسحب من الحركة عام 1930 بعد أن دب الخلاف بين أعضائها. وفي عام 1932 ، بدأ بكتابة السيناريو والحوار لصالح السينما.

منذ عام 1946 وحتى وفاته صدرت له ست مجموعات شعرية، من بينها "كلمات"(1946) و "قصص" (1963) و"فتراس" (1971). كذلك اختيرت بعض أشعاره للتلحين والغناء.

توفي بريفير بالسرطان الرئوي في 11 نيسان/إبريل عام 1977. وقد أطلق اسمه على العديد من المدارس والشوارع تكريماً له.

 

 

للكاتب الأمريكي: دونالد بارتلم

ترجمة: علي القاسمي

***

انطلق المنطاد من موضعٍ في الشارع الرابع عشر، ولا أستطيع أن أكشف عن نقطة الانطلاق بالضبط، واتّجه شمالاً طوال ليلة كاملة، والناس نيام، حتّى بلغ المنتزه. وهناك أوقفتُه. وفي الفجر كانت حافّته الشماليّة تطلُّ على ساحة البلازا؛ وهو يتأرجح في مكانه بصورة عابثة لطيفة. وشعرتُ بشيءٍ من عدم الارتياح عند التوقُّف، ربّما بسبب خوفي من إلحاق الضرر بأشجار المنتزه، ولكنَّني لم أرَ سبباً لمواصلة التحليق فوق أحياء المدينة التي سبق أن حلّقنا فوقها. ولهذا طلبتُ من المُهندسين أن يتدبَّروا الأمر. ثم واصل المنطاد تحليقه أثناء الصباح، وكان ثمّة تسرُّب طفيف للغاز من الصمامات. وقطعَ المنطاد خمسة وأربعين شارعاً من الشمال إلى الجنوب، ومنطقة غير محدَّدة من الشرق إلى الغرب قد تبلغ ستة شوارع على جانبَي الجادّة الرئيسة. هكذا كان الوضع آنذاك.

ولكن من الخطأ أن نتحدَّث عن "الأوضاع"، لأنَّ ذلك يعني وجود مجموعة من الظروف التي تنتهي بحلٍّ للمشكلة، أو بنوع من التخلُّص من الضغوط. ولم يكُن ثمّة وضع معيَّن، فهو مجرَّد منطاد معلَّق هناك. ألوان بُنيّة أو رماديّة غامقة هادئة في الغالب تقابلها ألوان صفراء جوزيّة ناعمة. وثمّة إهمال مقصود للّمسات النهائيّة أظهرته للعيان في شكل توصيلاتِ أسلاكٍ بارزةٍ جعلت السطح الخارجيّ يُعطي انطباعاً بالخشونة والصلابة، وفي داخل المنطاد رُتِّبت الأثقال بعناية لئلا تنزلق، وثُبِّتت كتلة المنطاد المتغيِّرة الشكل في عدد من النقاط. لقد توافر لنا الآن، بفضل وسائل المعلومات المختلفة، فيضٌ من الأفكار الأصيلة، والأعمال الفريدة الجمال، والأحداث المهمة في تاريخ النفخ والطيران؛ ولكن، في تلك اللحظة، لم تكُن هناك سوى حقيقةٍ ملموسةٍ واحدة هي ذلك المنطاد وهو معلَّق هناك.

وكانت ثمّة ردود أفعال من قِبل الناس. فقد وجد بعضهم في المنطاد شيئاً "ممتعاً". وكتعليقٍ على ذلك، لا يبدو هذا القول مناسباً لضخامة المنطاد ولظهوره المفاجئ فوق المدينة؛ ومن ناحية أخرى، ففي غياب الهستيريا أو أيّ قلق ناتجٍ عن شعورٍ جماعيّ، يجب علينا أن نعدّ ذلك القول قولاً هادئاً "ناضجاً". وقد جرت مناقشات أوليّة محدودة حول "معنى" المنطاد، ثمَّ تلاشت، لأنَّنا تعلَّمنا ألا نصرّ على المعاني، فقلّما يبحث الناس عن المعاني الآن، ما عدا في الحالات التي تتعلَّق بأبسط الظواهر وآمنها. واتُّفِق على أنّه ما دام معنى المنطاد لا يمكن أن يُعرَف بصورةٍ مؤكَّدة، فإنّ المناقشات الموسَّعة حول هذا الموضوع لا معنى لها، أو على الأقلّ، أدنى فائدة من فعل أولئك الناس الذين يعلّقون في بعض الشوارع فوانيس ورقيّة ملوَّنة بالأخضر والأزرق من جانبها السفليّ المطليّ باللون الرماديّ الدافئ، أو يغتنمون الفُرص لكتابة رسائل على الحيطان يعلنون فيها استعدادهم للقيام بأفعالٍ شاذّةٍ أو استعدادهم للتعارف والصداقة.

كان الأطفال الجريؤون يقفزون، خصوصاً في الأوقات التي يحلّق فيها المنطاد بالقرب من إحدى البنايات بحيث تصير المسافة الفاصلة بين المنطاد والبناية لا تتعدّى بوصات قليلة، أو في تلك الأوقات التي يلامس المنطاد فعلاً إحدى البنايات واضعاً ضغطاً خفيفاً على أحد جوانبها، بحيث يبدو المنطاد والبناية وحدةً واحدة. وكان القسم العلويّ من المنطاد قد صُمِّم بحيث يسمح برؤية "المناظر الطبيعيّة"؛ الوديان الصغيرة وكذلك الروابي الواطئة أو التلال، فعندما تركب المنطاد يمكنكَ القيام بنزهة، أو حتّى برحلة، من مكانٍ إلى آخر. كان هنالك إحساسٌ بالمتعة عند الانحدار في الهواء ثم الارتفاع إلى الأعلى، وكلاهما يتمُّ بصورةٍ تدريجيّةٍ لطيفة، أو القيام بقفزة من جانب إلى آخر. فقد كان النطّ والوثب مُمكناً بفضل الهواء المضغوط، وحتّى السقوط كان مُمكناً، إذا كانت تلك هي رغبتك. فقد كانت جميع تلك الحركات المتنوِّعة وغيرها كذلك في مقدور الشخص، وكانت تجربة الارتفاع مثيرة جدّاً للأطفال الذين اعتادوا العيش في شقق المدينة الصلبة الجدران. ولكنَّ غرض المنطاد لم يكُن تسلية الأطفال.

وكذلك فإنّ عدد الناس، من الصغار والكبار، الذين استفادوا من الفرص التي وصفناها لم يكُن كبيراً كما كان من الممكن أن يكون، فقد لمسنا فيهم نوعاً من التهيُّب وعدم الثقة بالمنطاد. وإضافةً إلى ذلك، كان ثمَّة شيءٌ من العداء تجاه المنطاد. ولأنَّنا أخفينا أجهزة الضخّ التي تضخّ غاز الهليوم إلى داخل المنطاد، ولأنَّ سطح المنطاد كان واسعاً، فإنَّ السلطات لم تستطِع أن تقرِّر نقطة الدخول ـ أعني النقطة التي يُحقن عندها الغازـ ولهذا فإنّ درجة الإحباط لاحتْ بوضوحٍ على وجوه المسؤولين في المدينة التي وقعت في منطقتهم هذه التظاهرة. وقد أغاظتهم عبثيّة المنطاد الظاهرة إضافةً إلى حقيقة كونه موجوداً "هناك". وكان يمكن تجاوز هذه الصعوبة لو أنّنا كتبنا بحروف ملوَّنة كبيرة على جوانب المنطاد عبارة: "تدل الاختبارات المختبريّة" أو عبارة: "أكثر فاعلية بنسبة%18 ". ولكنّني لم أحتمل أن أفعل ذلك. وبالإجمال، فإنَّ هؤلاء المسؤولين كانوا متسامحين بصورة ملحوظة، إذا أخذنا في الاعتبار أبعاد الخروج من المعتاد، وكان هذا التسامح نتيجةً: أوّلاً، اختبارات سرّيّة أُجريت ليلاً أقنعتهم بأنّه لا شيء يمكن فعله لإزاحة المنطاد أو تدميره، وثانياً، الحماسة الجماهيريّة التي أثارها المنطاد (وهي حماسةٌ لم تَخْلُ من لمساتِ العداء المذكور آنفاً) في نفوس المواطنين العاديّين.

ولمّا كان المنطاد الواحد يثير بالضرورة تفكيراً يستغرق الحياة بأكملها، فإنَّ كلَّ مواطنٍ عبّر، بالطريقة التي اختارها، عن مجموعةٍ معقَّدةٍ من المواقف والأفكار. فقد يتصوَّر رجلٌ ما أنَّ للمنطاد علاقةً بمفهوم (لوَّث)، كما في الجملة المفيدة: (لوّث المنطاد الكبير سماء مانهاتن التي لولاه لبقيت صافية متألِّقة.). وبعبارةٍ أُخرى، فإنَّ المنطاد كان في نظر كلِّ رجل نوعاً من الانتحال والغشِّ، شيئاً يقلّ كثيراً عن السماء التي كانت هناك، شيئاً مُقحَماً يَحُول بين الناس وبين "سمائهم". ولكن، في حقيقة الأمر، كان الوقت شهر كانون الثاني/يناير، وكانت السماء مظلمة وقبيحة، ولم تكُن تلك السماء التي يمكنك أن تنظر إليها بمتعة وأنتَ مُستلقٍ على ظهرك في الشارع، إلا إذا كانت المتعة بالنسبة لك تنبع من التهديدات التي تُوجّه إليك أو من الإساءة إليك. ولقد بذلنا جهداً كبيراً ليكون النظر إلى الجانب السفليّ من البالون مُمتعاً، فصبغنا معظمه بالألوان الرماديّة والبنيّة الخفيفة الهادئة، تقابلها ألوان صفراء جوزيّة ناعمة باهتة. ولهذا فبينما كان ذلك الرجل يفكّر في (لوّث)، كان ثمّة خليط من الإدراك الممتع في تفكيره يتصارع مع الرؤية الفعليّة.

وفي المقابل، قد ينظر رجلٌ آخر إلى المنطاد على أنّه جزء من المكافآت والهبات غير المنتظَرة، مثلما يدخل صاحب العمل ويقول: " تعال، يا هنري، خُذْ هذه الصرّة من النقود فقد حزمتُها لك، لأنَّ تجارتنا هنا قد ازدهرت، وأنا معجبٌ بالطريقة التي تشذّب بها الزنابق، والتي لولاها لما نجح القسم الذي تعمل فيه، أو على الأقل لما نجح بهذا الشكل." فبالنسبة لهذا الرجل قد يمثّل المنطاد تجربةَ "جني الأرباح" حتّى إذا كانت التجارب لا تُفهَم بصورةٍ جيِّدة.

وقد يقول رجلٌ آخر: " ولولا ما أقدم عليه ...، فإنّ من المشكوك فيه أن يكون ... اليوم بشكله الحالي." ويجد العديد ممّن يتفقون أو يختلفون معه. فأفكار "النفخ" و"الطفو" تمّ ابتكارها مثل مفاهيم الحُلْم والمسؤولية. وانخرط آخرون في تخيّلات وأوهام مفصَّلة تتعلَّق بتمنّياتهم إمّا في فقدان أنفسهم في المنطاد أو التهامه. والطبيعة الخصوصيّة لهذه التمنّيات وأصلها غير معروفَين ومدفونَين في العمق لدرجة أنَّ أصحابها قلَّما يتحدَّثون عنها؛ ومع ذلك فهناك دليل على أنَّ هذه التمنّيات واسعة الانتشار. وقيل في تلك المناقشات كذلك إنَّ المهم هو ما تشعر به عندما تقف تحت المنطاد؛ إذ ادّعى بعض الناس أنّهم شعروا بالدفء والحماية كما لم يشعروا بهما من قبل، في حين أنّ أعداء المنطاد شعروا، أو نُقِلَ عنهم، أنّهم وقعوا تحت ضغطِ شعورٍ "ثقيل".

وانقسمت الآراء النقديّة:

" انهمارات وحشيّة. "

" قيثارة."

" تقابلات واضحة مع الأجزاء الأشدّ ظلاماً. "

" غبطة داخليّة. "

" زوايا كبيرة مربعة. "

" تحكّمتْ في تصميم البالون حتّى الآن انتقائيّة تقليديّة. "

" قوّة خارقة للعادة. "

" ممرّات دافئة، ناعمة، متكاسلة. "

" هل تمّت التضحية بالوحدة من أجل النوعيّة الشاملة؟"

" يا للكارثة ! "

" مجرّد كلام فارغ. "

وراح الناس، بطريقة غريبة، يحدِّدون أماكن تواجدهم بالنسبة لتحوّلات المنطاد: "سأكون في ذلك المكان حيث يُشير مُقدَّم المنطاد إلى الشارع السابع والأربعين، إلى رصيفه تقريباً، بجانب مركز شيلي العلميّ." أو " لماذا لا نذهب ونقف على السطح ونستنشق الهواء وربّما نتمشى قليلاً، حيث يشكّل المنطاد خطّاً منحنياً ضيّقاً بموازاة واجهة متحف الفنِّ الحديث..." وقد وفّرت ملتقيات الطرق الهامشيّة مداخل ضمن مدّة زمنيّة محدَّدة إضافةً إلى " ممرّات دافئة ناعمة متكاسلة" حيث ... ولكن من الخطأ أن نتحدَّث عن " ملتقيات طرق هامشيّة"، فكلّ ملتقى طرق هو نقطة هامّة حاسمة، ولا يمكن إهمال أيٍّ منها (كما لو أنّك وأنتَ تمشي هناك لا تجد مَن يستطيع أن يُلفت انتباهك، بومضة ضوء، لتتحوَّل من التمرينات القديمة إلى التمرينات الجديدة، أو يحذِّرك من الأخطار). كلُّ ملتقى طرقٍ هامٌّ جداًّ: التقاء المنطاد والبناية، التقاء المنطاد والإنسان، التقاء المنطاد والمنطاد.

وتمَّت الإشارة إلى أنَّ ما يثير الإعجاب بالمنطاد هو ما يلي: إنّه غير محدود ولا محدَّد. فأحياناً يظهر فيه نتوء، انتفاخ، أو يتحرّك جزءٌ منه بعيداً إلى شرق النهر بمبادرةٍ خاصّةٍ منه، مثل تحرُّكات جيش على الخريطة كما تراها القيادة وهي بعيدة عن أرض المعركة. ثم يعود ذلك الجزء إلى الوراء ويلتحم بالمنطاد، كما حدث فعلاً، أو ينسحب في تشكيلات جديدة، وفي اليوم التالي يقوم ذلك الجزء بطلعة أخرى، أو يختفي تماماً. ولقد كانت قدرة المنطاد على تغيير شكله وعلى التحوُّل مدعاة للسرور، خاصّةً للناس الذين كانت حياتهم منمَّطة بصورة جامدة، وللأشخاص الذين لا يُتاح لهم التغيير على الرغم من رغبتهم فيه. وظلَّ المنطاد مدّةَ اثنين وعشرين يوماً من وجوده يقدّم، من خلال تحرُّكاته العشوائيّة، إمكان إقصاء الذات وتغيير وضعها في تضادٍّ مع شبكة الانضباط والممرّات المربَّعة تحت أقدامنا. إنّنا نحتاج حالياً إلى مقدارٍ كبيرٍ من التدريب الذي يعقبه التزاماتٌ طويلةُ الأجل ويرافقه، من حينٍ إلى آخر، ميلٌ متنامٍ إلى استخدام الأجهزة المعقَّدة في جميع العمليّات فعليّاً؛ وكلّما ازداد هذا الميل، اتّجه الناس أكثر فأكثر، بطريقةٍ مرتبكةٍ تبعث على الحيرة، إلى البحث عن حلولٍ قد يمثّل المنطاد نموذجاً أوّليّاً منها أو "مسودة أولى".

التقيتُ بكِ تحت المنطاد بمناسبة عودتكِ من النرويج، وسألتِني ما إذا كان المنطاد لي، فأجبتُ بالإيجاب. وقلتُ إنّ المنطاد بمثابة إفشاء سرٍّ عفويٍّ يتعلَّق بسيرتي الذاتيّة، إذ لم أدرِ ما أفعل بالضجر الذي انتابني أثناء غيابك، وبالحرمان الجنسيّ، ولكن الآن وقد انتهت زيارتكِ لمدينة برغن، لم يعُد المنطاد ضروريّاً ولا مناسباً. وكانتْ إزالة المنطاد أمراً يسيراً؛ إذ قامت الشاحنات بجرِّ الهيكل المستهلَك وأودعته في مخزن في فيرجينيا الغربيّة في انتظار وقت آخر من أوقات التعاسة، ربّما عندما نكون متخاصمَين.

***

....................

*عُرِف الكاتب الأمريكيّ دونالد بارتَلم Donald Barthelme (1931ـ1989) بقصصه المُكثَّفة القصيرة ذات الفضاءات العجائبيّة (الفنتازيّة) والأحداث السورياليّة والشخوص الكاريكاتوريّة التي لا تحترم التقاليد المرعيّة، لا التقاليد الفنيّة القصصيّة ولا التقاليد الاجتماعيّة السائدة. وعندما نقرأ قصص بارتلم نشعر بشيءٍ من عدم الارتياح، بل بشيء من القلق، لأنّ أفكارنا المسبقة عن القصة والبنيات الفنيّة التقليدية التي اعتدنا عليها لا تستطيع التعامل مع الآليّات السرديّة المبتكرة التي يستخدمها بارتلم، ليميز نفسه عن الكُتّاب الواقعيِّين والطبيعيِّين. فإذا كانت القصّة العادية تقوم على خلق مواقف يتخلّلها صراع ينتهي بنوعٍ من الحلّ أو التوافق فيشعر القارئ بالارتياح في نهايتها، فإنّ بارتلم ينتهي بالقارئ إلى الصراع والقلق، فهو يغيّر من أوضاع أبطاله الاجتماعيّة بطريقة لا نتوقَّعها، وقد تثير فينا الضحك ولكنّه ضحك ممزوج بالألم. ويتطلّب الاستمتاع بقراءة قصص بارتلم والولوج إلى عالمه العجائبيّ أن نتسلَّح بمقاربات جديدة ومعايير غير تقليديّة. وقد أُطلِق على هذا النوع من الأدب مصطلح (أدب ما بعد الحداثة) الذي راج في السبعينيّات والثمانينّات من القرن العشرين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.

نشر بارتلم الذي يلقِّبه بعض النقّاد بأبي قصّة ما بعد الحداثة، ثلاث روايات هي: "الحزن" و"الأبيض الثلجيّ" و"الأب الميِّت". كما نشر عدّة مجاميع قصصية منها "ارجع" و"الدكتور كاليغاري" و"ممارسات لا يمكن الإفصاح عنها" و"أفعال غير طبيعية" و"حياة المدينة" و"هواة" و"أيام عظيمة". وحاز على جائزة الكتاب الوطنيّة عام 1972 لكتابه "سيارة الإطفاء غير المنضبطة" وهو كتاب للأطفال، كما رُشِّح لنفس الجائزة عام 1974 لكتابه "مُتع محرّمة". والقصّة التي نترجمها هنا ظهرت في كتاب "أحسن القصص الأمريكيّة لعام 1973" وفي كتاب "أحسن القصص الأمريكيّة في القرن العشرين".)

بقلم: أنطون تشيخوف

ترجمة: نزار سرطاوي

***

"دعني أقلْ لك أيها الرجلُ الطيب،" هكذا بدأت السيدة نشاتيرين، زوجةُ العقيد في الغرفة رقم 47 حديثَها وهي تنقَضُّ على مدير الفندق، وقد تحوّل لونها إلى القرمزي وراحت تبقبق: "إما أن تنقلني إلى شقّةٍ أخرى، أو أغادرَ فندقَك اللعين بلا رجعة! إنه بالوعةٌ من الفسوق! ارحمنا، لقد كبُرتِ البنتانِ ولا يسمعُ أحد سوى الكلامِ الفاحشِ ليلَ نهار! هذا فوق الاحتمال! ليلَ نهار! أحيانًا يطلق مثلَ هذا الكلامَ الذي يجعل الآذان تحمرُّ خجلاً! إنه بالتأكيد أشبهُ بسائقِ سيارةِ أجرة. أمرٌ جيدٌ أن بناتي المسكينات لا يَعين، وإلا لاضطُررتُ إلى أن أخرج بهنَّ إلى الشارع... ها هو يقول شيئًا الآن! أنصتْ!"

"أنا أعرف ما هو أفضل من ذلك، يا ولدي،" طار صوتٌ جهوريٌ أجشُّ من الغرفة المجاورة. "هل تذكرُ الملازم دروزكوف؟ حسنًا، دروزكوف نفسُه كان ذات يومٍ يرسلُ بِكُرةِ البلياردو الصفراءِ إلى الجيب، وكما يفعل عادةً، كما لا يخفى عليك، قذف بقدمه إلى الأعلى... وفي الحال سُمِع صوتُ شيءٍ يتمزّق. في أولّ الأمر ظنّوا أنه مزّق قماشَ طاولةِ البلياردو، لكنْ عندما نظروا، يا صديقي العزيز، كانت ولاياتُه المتحدة قد تمزّقتْ جميعًا وانفصلتْ عن بعضها! ... ها-ها-ها كان قد قذف بقدمه في ركلةٍ عالية، ذلك الوحش، حتى لم تبقَ قطعةٌ مخيطةٌ بأخرى إلا وتمزقت. ها ها ها، وكانت هناك بين الحضور سيداتٌ أيضًا... ومن بينِهن زوجةُ الملازمِ الثرثار أوكورين... وجُنّ جنون أوكورين... 'كيف يجرؤ الرجل أن يتصرف بصورةٍ غيرِ لائقةٍ بحضور زوجتي؟' وتطورت الأمور من سيءٍ إلى أسوأ... أنت تعرف زملاءَئا...! أرسل أوكورين مساعِدَه 'إلى دروزكوف، فقال دروزكوف "لا تكن أحمق... لكن قل له إن من الأفضل له ألّا يرسلَ مساعدَه إليّ بل إلى الخياطِ الذي خاط لي ذلك البنطال. إنه خطأُه، كما تعلم. هاهاها! هاهاها... '"

ليليا وميلا، ابنتا العقيد، اللّتان كانتا تجلسان عند النافذة ووجناتُهما المستديرة تستند إلى قَبْضاتِهما، تحوّل لونهما إلى القرمزي وأسبلتا عيونهما التي بدت مدفونةً في وجهيهما الممتلئين.

"ها أنتَ سمعتَه، أليس كذلك؟" وتابعت السيدة نشاترين حديثَها مخاطبةً مديرَ الفندق. "وهذا ما تعتبره أمرًا لا يستحقُ الاهتمام على ما أتصوّر؟ أنا زوجةُ عقيدٍ يا سيدي! زوجي هو ضابط آمر. لن أسمح لسائقِ سيارةِ أجرةٍ أن ينطقَ بمثل هذه البذاءات بوجودي!"

"إنه ليس سائقَ سيارة أجرةٍ يا سيدتي، بل كيكين كابتن الفريق... رجلٌ نبيلُ المولدِ والمحتد.".

"إذا كان حتى الآن قد نسيَ مكانتَه ليعبّرَ عن نفسه كما يفعل سائقُ سيارةِ الأجرة، فهو أجدرُ بالاحتقار! باختصار، لا تردَّ عليّ، بل تَفضّل باتخاذ الإجرءات!"

"ولكن ما الذي في وسعي أن أفعلَه يا سيدتي؟ أنتِ لستِ الوحيدة التي تشتكين، فالجميع يشتكون، ولكن ماذا في وسعي أن أفعلَ به؟ يذهب أحدهم إلى غرفته ويبدأ في توبيخه قائلاً: 'هانيبال إيفانيتش، ليكن عندك شيء من مخافة الله، إنه أمرٌ مخزٍ!' وسوف يلكمه في وجهه بقبضتيه ويقول أشياءَ من كل لونٍ وصنف: 'احشُ ذلك في غليونك ودخّنْه'، وما إلى ذلك. هذا عار! يستيقظ في الصباح ويشرع في السير في الممر ولا شيء يستره، مع احترامي لمقامكِ، سوى ملابسِه الداخلية. وبعد أن يشربَ شيئًا، يلتقطُ مسدّسًا ويفرِغُ الرصاصاتِ في الحائط. في النهار يعبُّ الخمرَ عبًّا وفي الليل يلعب الورقَ بجنون، وبعد لعبِ الورق يأتي العراك... أشعر بالخجل من أن يرى المقيمون الآخرون ذلك!"

"لماذا لا تتخلصُ من الوغد؟"

"لا سبيل إلى إخراجه! إنه مدينٌ لي بثلاثةِ أشهر، لكننا لا نطلب نقودنا، نحن ببساطة نطلب منه أن يصنع معنا معروفًا ويخرج... لقد أصدر القاضي إليه أمرًا بإخلاء شقّته. لكنه ينقل الأمر من محكمةٍ إلى أخرى، وهكذا تطول المسألة... إنه مصدر إزعاجٍ لا مثيل له، هذا هو حاله. ويا الله، فهو رجلٌ بحقٍّ أيضًا! شابٌّ وسيمُ المظهر ومفكِّر... وعندما لا يكون ثملًا، فلن تجدي رجلًا ألطفَ منه. فقبل أيام لم يكن ثمِلًا وقضى اليوم بأكمله في كتابة الرسائل إلى أبيه وأمه ".

"يا للأب والأم المسكينين!" تنهدت زوجة العقيد.

"يستحقان الشفقة بالتأكيد! لا ينعمان بالراحة وعندهما مثل هذا الحقير! لقد أطلقَ الشتائمَ وغادر مكان إقامته، ولا يمرُّ يومٌ إلا ويواجه مشكلةً بسبب فضيحةٍ ما. إنه أمر مؤسف!"

"يا لتعس زوجتِه المسكينة!" تنهدت السيدة.

"ليس لديه زوجة يا سيدتي. وكأن هذه الفكرة يمكن أن تتحقق! ولو تحققت فستحمد الله إن لم يُحطّمْ رأسُها..."

قطعَتِ السيدةُ الغرفةَ جيئةً وذهابًا.

تقول "إنه غير متزوج؟"

"بالتأكيد غير متزوجٍ يا سيدتي".

قطعِتِ السيدةُ الغرفةَ جيئةً وذهابًا مرة أخرى وتفكّرت قليلا.

"ممم، غير متزوج..." قالت وهي في حالةِ تأمل. "ممم. ليليا وميلا، لا تجلسا قرب النافذة، هناك تيار هوائي! يا للأسف! شابّ ويترك نفسَه يغرقُ إلى هذا المستوى! وكل ذلك بسبب ماذا؟ عدم وجودِ قدوةٍ حسنة! ما من أمٍّ تفعل... غير متزوج؟ هو ذاك... من فضلِكَ لو تكرّمت،" واصلتِ السيدة الحديث ببراعة بعد لحظة من التفكير، اذهب إليه واطلب منه باسمي... أن يمتنع عن استخدامِ عباراتٍ... أخبره أن مدام نشاترين تتوسّل إليه... أخبره أنها تقيم مع ابنتيها في رقم 47... أنها جاءت إلى هنا تاركةً أملاكها في الريف..."

"بالتأكيد."

"قل له إنها زوجةُ عقيدٍ مع ابنتيها. لعلّه يأتي ليعتذر... نحن دائمًا في المنزل بعد العشاء. آه، يا ميلا، أغلقي النافذة!"

قالت ليليا مُتشدقةً بعد أن ذهب مديرُ الفندق ليستريح: "لماذا، ماذا تريدين من هذا... الخروف الأسود يا أمي؟ توجهين دعوةً إلى شخصٍ غريبِ الأطوار! نذلٍ سِكَيرٍ مشاكس!"

"أوه، لا تقولي ذلك يا ابنتي! أنت تتحدثين هكذا دائمًا؛... اجلسي! أيًّا كان، لا ينبغي أن نحتقرَه... هناك جانبٌ جيد في كل إنسان... من يدري." تنهدتْ زوجة العقيد وهي تتفحص ابنتيها من الأعلى والأسفل بقلق،" ربما يكون نصيبُكِ هنا. غيّري ملابِسَك على أية حال..."

--------------------------

نبذة عن الكاتب

يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. ولد في تاغانروغ في جنوب روسيا على بحر آزوف في 17 يناير 1860، لأسرة فقيرة، وكان ترتيبه الثالث بين ستة أطفال. كان والده صاحب محل بقالة، أما جده فكان من الأقنان. لكنه اشترى حريته في عام 1841.

التحق تشيخوف بالمدرسة الثانوية في تاغانروغ وفي عام 1879 التحق بكلية الطب في جامعة موسكو. وكان عليه أن يكسب المال ليتابع دراسته ويعيل أسرته. وقد استطاع أن يحقق دخلًا متواضعًا بكتابة القصص والطرائف في المجلات والصحف. وفيما بعدُ التقى بالكاتب ديمتري جريجوتوفيتش، الذي تنبّه إلى موهبته في الكتابة، فوقف إلى جانبه وساعده على تحسين جودة قصصه. ومن هنا بدأ نجم تشيخوف يسطع.

بعد تخرجه في عام 1984، وممارسته لمهنة الطب، بدأت أولى أعراض الإصابة بمرض السل تظهر عليه. لكنه تابع الكتابة، وفي عام 1886 تولت إحدى دور النشر طباعةَ كتابٍ له بعنوان قصص موتلي. وقد حقق الكتاب شهرة واسعة، ومنذ ذلك الحين ازداد تركيزه على الكتابة على حساب ممارسته مهنةَ الطب.

في عام 1988 ذهب تشيخوف إلى أوكرانيا، حيث مات شقيقه نيكولاي، وقد استوحى من تلك الزيارة روايته القصيرة "قصة كئيبة" (1989)، التي يتحدث فيها رجل عجوز عن حياته وهو في سكرات الموت، حيث يعتبرها عديمة القيمة. ثم سافر تشيخوف إلى يالطا في جزيرة القرم. وهناك التقى الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي.

في عام 1890 قام تشيخوف برحلة إلى سجن جزيرة سخالين الواقعة في الشرق الأقصى إلى الشمال من اليابان. وبعد عودته إلى روسيا، كرّس نفسَه لأعمال الإغاثة خلال مجاعة عام 1892. ولم يلبث أن اشترى عقارًا في ميليخوفو وانتقل إليه ليعيش هناك مع أسرته، حيث استقرت أوضاعه الماليه.

كوّن تشيخوف صداقاتٍ مع الكثير من النساء الجميلات والموهوبات، لكنه لم يتقدم لخطبةِ أيٍّ منهن، إلى أن التقى الممثلةَ أولغا كنيبر، ووقع كلاهما في حب الآخر، واقترن بها في أيار/ مايو، 1901. لكنها بقيت في موسكو تعمل في التمثيل، بينما أقام هو في يالطا للنقاهة. وفي عام 1904 ساءت صحته كثيرًا وسافر إلى مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. وفي 2 تموز/يوليو 1904 توفي في أحد فنادق بادِنْ وايلر. وتمّ نقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.

كتب تشيخوف أكثر من 500 قصة قصيرة ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة و 17 عملًا مسرحيًا). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدب الرحلات، والثاني كتاب مذكرات. ومن أشهر أعماله:

- "نورس البحر" (1895): مسرحية تدور حول كاتبٍ شابٍّ مكافحٍ وحبيبته وأمّهِ وممثلةٍ مشهورة والعلاقات التي تربط هؤلاء معًا.

- "العم فانيا" (1899): مسرحية عن أستاذ جامعي متقاعد وزوجتِه الثانية يأتيان للإقامة مع ابنته وزوجها في عِزبتهما الريفية، ما يفضي علاقات يشوبها التوتر والصراع.

- "السيدة صاحبة الكلب" (1899): قصة قصيرة عن علاقة بين شابٍ غير سعيد في حياته الزوجية وامرأةٍ متزوجة يلتقيها أثناء إجازته في مالطا.

- "الشقيقات الثلاث" (1900): مسرحية عن حياة شقيقاتٍ ثلاثٍ يرغبن في العودة إلى منزلهن في موسكو.

- "بستان الكرز" (1903): مسرحية تدور حول عائلة أرستقراطية تواجه مشاكل مالية حادّة، ما يضطرها إلى بيع بستان الكرز الذي يعز عليها كثيرًا.

الشاعر الفرنسي بول إيلوار

ترجمة نزار سرطاوي

***

ها هي ذي تقف على جفنيّ

وشَعرها يلتفُّ في شَعري

يداها على هيئةِ يديّ،

عيناها بلون عينيّ

*

ظلي يبتلعها

كما حجرٌ قُبالةَ السماء.

*

عيناها مفتوحتان على الدوام

لا تتركانني أنام.

أحلامها في وضح النهار

تجعل الشموس تتبخر

تجعلني أضحك، أبكي وأضحك،

وأتكلم دون أن يكون لديّ ما أقول.

***

........................

بول إيلوار، شاعر الحرية

ولد الشاعر الفرنسي بول إيلوار (الاسم المستعار لأوجين جريندل) في سان دوني من ضواحي باريس في 14 ديسمبر 1895. وكان أحد نشطاء الحركة السريالية. لكنه انفصل عنها لاحقًا وانضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي.

أصيب إيلوار في سن 16 بمرض السل، فانقطع عن الدراسة وسافر إلى سويسرا للنقاهة. وهناك راح يقرأ للشعراء الرمزيين والطليعيين مثل آرثر رامبو، وتشارلز بودلير، وغيوم أبولينير. وأثناء فترة استشفائه في مصحةٍ قرب مدينة دافوس السويسرية، التقى بشابة روسية تدعى غالا (الاسم المستعار لإيلينا إيفانوفنا دياكونوفا). وقد دفعته غالا، التي اقترن بها لاحقًا، إلى أن يقرأَ للكُتّاب الروس مثل فيور دوستويفسكي وليو تولستوي. وكان لتلك القراءات بما حفلت به من الرمزية والتجريبة والسياسة إسهام كبير في تشكيل أعمال إيلوار.

في تلك الفترة كتب إيلوار قصائده الأولى، التي كانت مستوحاة بصورة خاصة من الشاعر الأميركي والت ويتمان. وفي عام 1918، تعرّف إلى الشاعرين الفرنسيين أندريه بريتون ولويس أراغون. وكان هذا اللقاء بمثابةِ مقدمةٍ لنشأة الحركة السريالية.

بعد أزمة بينه وبين زوجته غالا، سافر عائدًا إلى فرنسا عام 1924. وفي تلك الفترة انعكست على قصائده الصعوبات التي واجهها خلال الأيام التي أصيب فيها بالسل من جديد. وقد انفصلت عن غالا ودخلت في علاقة مع الفنان السيريالي سلفادور دالي، وتُوّجت علاقتهما فيما بعد بالزواج.

في عام 1934 ، تزوج إيلوارمن نوش (ماريا بنز)، التي كانت تعمل عارضةً مع صديقيه الرساميين مان راي وبابلو بيكاسو. وخلال الحرب العالمية الثانية، شارك في المقاومة الفرنسية. وفي تلك الفترة حارب من خلال أشعاره، واشتهرت من بين تلك الأشعار قصيدة "الحرية" (1942). وقد تميزت قصائده ذات الطابع الحربي بالبساطة.

بعد الوفاةالمفاجئة لزوجته نوش، التقى بشابة إسبانية تدعى دومينيك لِمورت وذلك أثناء زيارته للمكسيك للمشاركة في مؤتمر للسلام في أيلول / سبتمبر 1949. ووقعا في الحب، وعادت معه إلى باريس حيث تزوجا في عام 1951، وكرس لها ديوانه الشعري الأخير، العنقاء (1951) تعبيرًا عن سعادته المستردة.

توفي بول إيلوار بنوبة قلبية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1952. ودُفن في مقبرة بير لاشيز في باريس.

 

في نصوص اليوم