ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

بقلم: سامانتا شويبلين

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

تضيء ثلاثة صواعق رعدية الليل وأتمكن من رؤية بعض الأسطح المتسخة والجدران الفاصلة بين المباني. لم تمطر بعد.. تُفتح نوافذ شرفة المنزل المقابل، وتخرج سيدة ترتدي بيجاما لجمع الغسيل. كل هذا أراه وأنا جالسة على مائدة الطعام أمام زوجي، بعد صمت طويل. يده تلتف حول كوب الشاي البارد، وعيناه الحمراوان لا تزالان تراقباني بإصرار. ينتظر أن أكون أنا من يقول ما يجب قوله. ولأنني أشعر أنه يعرف ما يجب أن أقوله، لم أعد أستطيع أن أقوله. بطانيتُه مرمية على قدمي الكرسي، وعلى الطاولة الصغيرة كوبان فارغان، وآنية رماد بها أعقاب سجائر ومناديل مستعملة. يجب أن أقوله، أقول لنفسي، لأنه جزء من العقاب الذي جاء دوري فيه. أضبط المنشفة التي تلف شعري المبلل، وأعدل رباط روب الحمام. يجب أن أقوله، أكرر لنفسي، لكنها أمر مستحيل. ثم يحدث شيء ما، شيء معقد في العضلات يصعب شرحه. يحدث خطوة بخطوة دون أن أتمكن من فهمه تمامًا: ببساطة أدفع الكرسي إلى الوراء وأقوم. أخطو خطوتين جانبًا وأبتعد. يجب أن أقول شيئًا، أفكر، بينما يخطو جسدي خطوتين أخريين وأتكىء على الخزانة التي تحتوي على الأطباق، تتلمس يداي الخشب، ممسكة بنفسي. أرى باب الخروج، وكما أنني أعرف أنه ما زال يراقبني، أحاول تجنب النظر إليه. أتنفس، أركز. أخطو خطوة جانبية مبتعدة قليلاً. هو لا يقول شيئًا، وأتجرأ على أخذ خطوة أخرى. نعالي قريبة، ومن دون أن أترك الخزانة، أمد قدميّ، أدفعهما نحوي وأرتديهما. الحركات بطيئة، متأنية. أترك يديّ، وأخطو خطوة أبعد، إلى السجادة، أتنفس وأتنفس، وفي ثلاث خطوات طويلة فقط أعبر غرفة المعيشة، أخرج من المنزل وأغلق الباب. يُسمع تنفسي المتسارع في ممر المبنى، في الظلام. أبقى لحظة أضع أذني على الباب، محاولة الاستماع لأصوات من الداخل، كرسيه وهو ينهض أو خطواته نحوي، لكن كل شيء في صمت مطبق. ليس لدي مفاتيح، أقول لنفسي، ولست متأكدة إن كان هذا يقلقني. أنا عارية تحت الروب. أنا مدركة للمشكلة، لكل المشكلة، لكن بطريقة ما حالتي هذه، هذه الحالة غير المتوقعة من اليقظة، تحررني من أي نوع من الأحكام. تومض أضواء الأنابيب ثم يصبح الممر أخضر قليلاً. أذهب إلى المصعد، أطلبه، ويصل على الفور. تنفتح الأبواب ويظهر رجل دون أن يرفع يده عن الأزرار. يدعوني للدخول بحركة ودية. عندما تغلق الأبواب، أشعر برائحة قوية من الخزامى، كما لو أنهم للتو قاموا بالتنظيف، والضوء، الآن دافئ جدًا وقريب من رؤوسنا، يريحني ويطمئنني:

- هل تعرفين كم الساعة، آنسة؟

يربكني صوته العميق ويصعب عليَّ تحديد ما إذا كان ما قاله سؤالًا أم تأنيبًا. هو رجل قصير جدًا، يصل إلى كتفي، لكنه أكبر مني سنًا. يبدو أنه أحد المسؤولين عن المبنى أو موظف متعاقد لإصلاح شيء معين، رغم أنني أعرف المسؤولين الاثنين في المبنى وهذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الرجل. بالكاد لديه شعر. يرتدي سترة قديمة مفتوحة، وتحتها قميص نظيف ومكوي، مما يعطيه مظهرًا رقيقًا أو مهنيًا. يهز رأسه، ربما لنفسه.  يقول:

–   زوجتي ستقتلني

لا أسأل، ليس لدي اهتمام بمعرفة التفاصيل. أشعر بالراحة في صحبته وأنا أنزل، لكنني لا أرغب في الاستماع. ذراعاي معلقتان على جانبي، مرتخيتان وثقيلتان، وأدرك أنني مسترخية، وأن الخروج من الشقة يفيدني. يقول الرجل:

- لا أريد حتى أن أخبرها  .

ويهز رأسه مرة أخرى.

–   أشكرك .

أقول ، وأنا أبتسم لكي لا يأخذها بشكل خاطئ.

-    لا تخبرها.

نودع بعضنا البعض بإيماءة من الرأس في الردهة.  يقول:

- أتمنى لك حظًا موفقًا جدًا.

-  شكرًا.

يبتعد الرجل نحو الموقف وأخرج من الباب الرئيسي. الجو ليلاً، رغم أنني لا أستطيع تحديد الوقت بالضبط. أمشي حتى الزاوية لأرى مدى الحركة في شارع كوريينتس، يبدو أن كل شيء نائم. بجانب الإشارة الضوئية أخلع المنشفة عن رأسي، التي أعلقها على ذراعي، وأعدل شعري قليلاً إلى الوراء. كانت الأيام هذا الأسبوع رطبة وحارة، لكن الآن تأتي نسمة لطيفة من تشاكاريتا، باردة ومعطرة، وأمشي في اتجاهها. أفكر في أختي، في ما تفعله أختي، وأرغب في أن أخبر أحدًا بذلك. الناس مهتمون جدًا بما تفعله أختي، وأحب بين الحين والآخر أن أخبرهم بأشياء تهمهم. ثم يحدث شيء ما، بطريقة ما كنت أنتظره. ربما لأنني قبل ثانية من سماع البوق فكرت فيه، في الرجل في المصعد، ولذلك لا يزعجني قرب سيارته، ابتسامته، وأفكر أنه قد أتمكن من إخباره عن أختي.

–   هل أستطيع أن أوصلك إلى مكان ما؟

أقول:

-  نعم، يمكنني لكن الليلة جميلة جدًا لدرجة أننا لا نحتاج إلى الركوب في سيارة.

يومئ برأسه، وتبدو ملاحظتي وكأنها غيرت خططه بطريقة ما. يوقف السيارة وأقترب.

- أنا ذاهب إلى بيتي لأن زوجتي ستقتلني، ويجب أن أكون هناك لكي يحدث ذلك.

أومئ برأسي.

يقول: إنه مزاح  .

أقول وأبتسم:

- أكيد، بالطبع

يبتسم هو أيضًا وتعجبني ابتسامته.

–   لكننا يمكننا فتح النوافذ، جميع النوافذ، ونسير بالسيارة ببطء شديد.

–   هل تعتقد أننا سنزعج أحدًا إذا سرنا ببطء؟

ينظر إلى الشارع أمامه وخلفه، هناك بعض الشعر على مؤخرة عنقه، شبه زغب أحمر.

–   لا، إذا لم يكن هناك أحد في الشارع. يمكننا فعل ذلك بدون مشكلة.

أقول:

- حسنًا.

أدير ظهري وأجلس في المقعد المجاور. يفتح النوافذ ويرفع زجاج السقف. السيارة قديمة لكنها مريحة وتفوح منها رائحة الخزامى.

– لماذا ستقتلك زوجتك؟ لأنني عادةً ما أسأل عن شيء يتعلق بالآخرين قبل أن أخبرهم عن أختي.

يضع السيارة في السرعة الأولى، ولحظة يركز في دواسة القابض والسرعة، يحرك السيارة ببطء حتى يجد السرعة المناسبة، ينظر إليّ وأنا أومئ برأسي بالموافقة.

-  اليوم ذكرى زواجنا، وكان من المفترض أن أذهب لآخذها الساعة الثامنة لنذهب لتناول العشاء، لكن حدثت مشكلة في سقف المبنى. هل سمعت عن ذلك؟

شعرت بالهواء يداعب ذراعي وعاتقي، لا باردًا ولا حارًا، وكان ذلك مثاليًا. فكرت في نفسي: "هذا بالضبط ما كنت أحتاجه".

-  هل أنت المسؤول الجديد عن المبنى؟

- إذا كان المقصود بـ"جديد"... فأنا هنا منذ ستة أشهر، آنسة.

-  وأنت مختص بالصيانة أيضًا؟

-  أنا مختص بالإخلاء، في الواقع.

كنا نسير ملاصقين للرصيف، تقريبا نتبع امرأة تمشي بسرعة وبيدها حقيبة تسوق فارغة، كانت تراقبنا من طرف عينها.

–  مختص بالإخلاء؟

- نعم، أصلح مخارج السيارات.

-  هل أنت متأكد أن هذا ما يفعله المختص بالإخلاء؟

-  أستطيع أن أؤكد لك ذلك.

كانت المرأة على الرصيف تنظر إلينا بتململ، فمشت ببطء كي نضطر إلى المرور من جانبها.

- المشكلة أن الوقت أصبح متأخرًا جدًا لذهابنا للعشاء، ومن المؤكد أنها انتظرتني لساعات. الوقت متأخر لدرجة أن المطاعم ربما تكون قد أغلقت.

-  هل اتصلت بها لتخبرها عن التأخير؟

هز رأسه دون أن ينطق، مدركًا خطأه.

–  ألا تريد أن تتصل بها؟

- لا، لا أظن أنه سيكون فكرة جيدة.

–  حسنًا، إذًا، ليس هناك الكثير مما يمكن فعله. لا يمكنك اتخاذ قرار حتى تصل وتراها بنفسك .

-  هذا ما أفكر فيه أيضًا.

نظرنا للأمام، كان الليل هادئًا ولم يكن لدي أي شعور بالنعاس.

–   أنا ذاهبة إلى منزل أختي.

–  كنت أظن أن أختك تعيش في نفس المبنى.

–  تعمل في المبنى، ورشة عملها في الطابقين العلويين من شقتي، لكنها تعيش في مكان آخر. هل تعرفها؟ هل تعرف ما الذي تفعله أختي؟

–    عذرًا، هل تمانعين إذا توقفت للحظة؟ أشعر برغبة شديدة في التدخين.

أوقف السيارة أمام الكشك، أطفأ المحرك ونزل. فكرت في نفسي: "كل شيء يسير على ما يرام حتى الآن. أشعر بشعور رائع الآن. يبدو أن هناك شيئًا خاصًا في هذا كله، شيء ما يفر مني. ماذا يكون؟ يجب أن أعرف كي أتمكن من الحفاظ عليه وإعادته متى ما أردت .

- آنسة!

أشار لي المختص بالإخلاء من الكشك لأقترب. تركت المنشفة على المقعد الخلفي ونزلت. قال المختص بالإخلاء مشيرًا إلى الرجل في الكشك.

-  ليس لدينا فكة، لا أنا ولا هو.

انتظرتهما. بحثت في جيوب ردائي عن فكة. سأل الرجل من الكشك.

- هل أنت بخير؟

كنت لا أزال مركزة في البحث داخل جيبي، فاستغرق مني وقتًا لفهم أن السؤال موجه إلي. قال مشيرًا إلي في دهشة:

–   شعرك مبلل... هكذا ، كأنك خرجت للتو من الدوش.

نظر أيضًا إلى رداءي ولكنه لم يتحدث عنه.

– فقط قولى أنك بخير، وسنكمل موضوع الفكة.

أجبت:

–   نعم أنا بخير ، لكنني لا أملك فكة أيضًا.

أومأ الرجل برأسه مرة واحدة، لكن كان يبدو عليه الشك، ثم انحنى خلف المنضدة. سمعناه يتحدث مع نفسه، يقول إنه في مكان ما بين الصناديق، دائمًا ما يحتفظ ببعض العملات المعدنية الزائدة. نظر المختص بالإخلاء إلى شعري، جبهته متجعدة، وللحظة خشيت أن ينكسر شيء في هذا الشعور بالراحة. عاد الرجل من الكشك وقال:

-  تعرفين ، هناك مجفف شعر في الخلف. إذا أردت...

نظرت إلى المختص بالإخلاء، أنتظر ردة فعله. لا أريد أن أجفف شعري، لكنني أيضًا لا أريد أن أرفض طلبا لأحد. قال المختص بالإخلاء مشيرًا إلى السيارة:

- نحن في الطريق لذلك  كما ترى ؟ نحن نقود والنوافذ مفتوحة، في السرعة الأولى، والجو حار جدًا. بعد قليل سيكون الشعر جافًا تمامًا.

نظر الرجل إلى السيارة. كان يحمل بعض العملات المعدنية، يضغط عليها ثم يتركها، ثم نظر إلينا وسلمها للمختص بالإخلاء.

- شكرًا

قلتها عندما خرجنا.

لا يبدو أن الرجل الموجود في الكشك مقتنع بموقفي، وعلى الرغم من أنه يمشي بعيدًا نحو الثلاجات، إلا أنه لا يزال يستدير عدة مرات لينظر إلينا. في الخارج، يقدم لي المختص بالإخلاء سيجارة، لكني أقول له إنني لم أعد أدخن وأتكئ على السيارة استعدادًا للانتظار. يشعل سيجارة ويدخن، يزفر الهواء إلى الأعلى، كما تفعل أختي. أعتقد أنها علامة جيدة، وبمجرد أن نعود إلى المسار الصحيح، سنعوض ما فقدناه في الكشك.

أقول فجأة:

- دعنا نشتري شيئًا لزوجتك. شيء تحبه ويمكنك من خلاله إثبات أن تأخيرك لم يكن عن سوء نية.

- سوء نية؟

-  زهور، أو شيء حلو. أنظر، هناك محطة بنزين في الزاوية الأخرى. هل نسير؟

يومئ برأسه ويقفل السيارة. تظل النوافذ مفتوحة، كما اتفقنا عندما بدأنا المسير. هذا جيد جدًا، أقول لنفسي. ونتحرك نحو الزاوية. الخطوات الأولى فوضوية. يمشي بالقرب من الرصيف، دون إيقاع، وأحياناً يعقد قدميه، متفاجئاً من حماقته. أقول لنفسي إنه لا يستطيع أن يجد طريقه، عليك أن تتحلين بالصبر. أتوقف عن النظر حتى لا أزعجه. أنظر إلى السماء، إلى إشارة المرور، وأستدير لأرى كم ابتعدنا عن السيارة.. أقترب قليلاً محاولاً استعادة مسافة التواصل. أمشي بشكل أبطأ قليلاً، لأرى ما إذا كان ذلك يساعد، لكن في النهاية يدفعه ذلك إلى الاندفاع إلى الأمام، حتى يتوقف. منزعجًا، يلتفت إلي وينتظرني. عندما نعود معًا نتوافق معا فى بضع خطوات، ولكن سرعان ما نفقد المزامنة مرة أخرى. ثم أتوقف.

قلت:

- هذا لا يجدي نفعًا .

يخطو بضع خطوات أخرى، ويحيط بي في حيرة، وينظر إلى أقدامنا.يقول:

-هيا نعود . لا يزال بإمكاننا الاستمرار في السيارة.

يمر مترو الأنفاق أسفلنا، تهتز الرصيف، وتصعد موجة من الهواء الساخن عبر الفتحات المعدنية في الأرض. أهز رأسي نفيًا. على بعد بضعة أمتار، يطلّ بائع الكشك وينظر إلينا. لم يعد هذا هو الطريق الصحيح، أفكر، كان كل شيء يسير على ما يرام. يضحك، لكن بحزن. ينكمش جسدي، أشعر بتصلب في يدي وفي مؤخرة عنقي.

قلت:

–  هذا ليس مجرد لعبة.

سأل:

– ماذا تعنين؟

أجبت:

– هذا أمر بالغ الجدية.

توقف في مكانه، وبهتت ابتسامته. قال:

- عذرًا، لكني لم أعد متأكدًا من أنني أفهم ما يجري..

فكرت: لقد انقطع الخيط بيننا، تاه بعيدًا. لكنه ظل يحدّق بي، ولمع في عينيه بريق خاطف، لحظة واحدة فقط، بدت فيها نظرته وكأنه قد فهم.

-    هل تريدين أن تخبريني عن أختك؟

-    هززت رأسي نفيًا.

-    هل تودين أن أوصلك إلى شقتك؟–

أجبت:

– ثماني شوارع فقط، من الأفضل أن أعود وحدي. اتصل بزوجتك، ربما هذه المرة ستشعر برغبة في الاتصال بها..

قطفت ثلاث زهرات خارجة من وراء قضبان أحد المباني، وناولتها له.

قلت:

– خذ، قدمها لها فور وصولك.

أمسكها دون أن يحيد بنظره عني.

قلت، مسترجعة كلماته في المصعد:

– أتمنى لك حظًا وفيرًا.

ثم ابتعدت.

مررت بجانب السيارة وأخرجت منشفي من النافذة الخلفية. عبرت إلى الرصيف المقابل، ثم عدت. انتظرت عند إشارة المرور، وأنا أحمل المنشفة على ذراعي كما لو كنت نادلًا. نظرت إلى قدمي، إلى الشبشب، أركز على الإيقاع، آخذ نفسًا عميقًا وأخرجه بانضباط، منتبهة إلى صوته وشدته. هذه هي طريقتي في المشي، فكرت. هذا هو المبنى الذي أسكن فيه. هذا هو مفتاح الباب الرئيسي. هذا هو زر المصعد الذي سيأخذني إلى طابقي. تنغلق الأبواب. وعندما تفتح، تومض أضواء الممر مجددًا. أمام شقتي، لففت شعري بالمنشفة مرة أخرى. الباب بدون قفل. فتحته ببطء، وكل شيء، كل شيء في غرفة المعيشة والمطبخ، لا يزال بشكل مخيف على حاله. كانت البطانية مرمية عند أسفل الأريكة، أعقاب السجائر والأكواب فوق الطاولة الصغيرة. الأثاث كله في مكانه، يحفظ ويؤكد كل الأشياء التي يمكنني تذكرها. وهو لا يزال هناك، جالسًا إلى الطاولة، منتظرًا. يرفع رأسه من فوق ذراعيه المتشابكتين وينظر إليّ. ويراقبني. خرجت للحظة، فكرت. أعلم أن دوري كان في الكلام، لكن إذا سأل، هذا كل ما سأقوله.

***

....................

الكاتبة: سامانتا شويبيلين/  وُلدت في بوينس آيرس عام 1978. كتابها الأول، النواة من الاضطراب (2002)، حصل على جوائز من الصندوق الوطني للفنون والمسابقة الوطنية هارولدو كونتي. في عام 2008، حصلت على جائزة Casa de las Américas عن كتابها طيور في الفم (2009)، الذي ترجم إلى ثلاثة عشرة لغة ونُشر في أكثر من عشرين دولة. حصلت على النسخة الأخيرة من جائزة خوان رولفو الفرنسية، وفي عام 2014 نشرت روايتها الأولى مسافة الإنقاذ. حصلت على منح لإقامات كتابية في المكسيك وإيطاليا والصين وألمانيا، وتعيش حالياً في برلين حيث تكتب وتدير ورش عمل كتابة أدبية باللغة الإسبانية.

 

بقلم: إدنا أوبراين

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

أصبحوا في الداخل. أم وأب وابنة. سهرت ديليا لتسمع صوت دخولهم، ولكنها يجب أن تكون صاحية الآن في كل حال، فالنوم يهرب منها كلما تقدمت السنون. وأحيانا تسقط بالنوم دون أن تدري، وتستيقظ في تلك الساعة الكئيبة قبل الفجر، وتذهب إلى النافذة، وترى كلبها يأتي من تحت الحافة، وهو يتعايش مع أول صوت غير مسموع تقريبا ينبعث من المنزل، ويرفع نظراته إليها بشيء من العرفان، متوسلا لها كي تهبط، وتفتح الباب الخلفي، وتقدم له طبقه المعتاد، وهو الشاي الممزوجة بالحليب.

أحيانا تتناول حبة، ولكنها تكره أن تكون تحت رحمة العقاقير، وتمقت أيضا أن يأتي يوم ولا تستطيع الحصول عليها. في أوقات سهرها تصلي أو تحاول أن تصلي، ولكن الصلاة مثل النوم، أصبحت ضعيفة ومهزوزة، وذلك في الوقت الذي تحتاج فيه إلى التقرب من خالقها. تخرج الصلوات من شفتيها فقط، ولكن ليس من أعماقها. فقد أضاعت تلك العلاقة القلبية والعاطفية التي ربطتها من قبل مع الله.

ولذلك في الليل، تتجول بذهنها في البيت، وتفكر بتحسينات لا بد منها مع الوقت - ورق جدران جديد في الغرفة المضيئة، فلونها الوردي تشوبه البقع ولا سيما حول النوافذ، وتلوثه الرطوبة الدائمة. ثم في الغرفة الفارغة التي تخزن فيها التفاح، تعرض ورق الجدران للتقشير. ومر على ذلك سنوات دون أن يلحظ النزلاء أن صور الكستناء والعصافير الطنانة مقلوبة. وربما عليها استبدال هذا الورق أيضا، لتصويب ما فعله أولئك الحمقى على سبيل الخطأ.  كانت ديليا امرأة تحب أن تكون دائما في الجانب الصحيح. شيء عجيب. في يوم تعليق ورق الجدران استشارت قارئ حظ في المدينة عن موضوع محدد وأخبرها أنها ستعود إلى البيت وتجد تلك الطيور والكستناءات مقلوبة وبالفعل لاحظت ذلك وامتعضت منه. في أمكنة أخرى من البيت كانت تتحلى بجرأة أكبر فيما يتعلق بتصورها للتحسينات - وفكرت ربما هي بحاجة لشريط من المفارش على الأرض وراء الباب في الممر، لتحمي الرخام من أحذية ويلينغتون ومن المداسات الثقيلة. التنظيف يضر بها، ولا سيما ظهرها. ثم هناك إضافات بسيطة، مثل مناشف جديدة، وفوط شاي، ومناشف صحون. مناشف الصحون الحالية تفوح برائحة الحليب، ولم ينفعها الغلي ولا النقع. وهي لا تزال تحتفظ بالرائحة النفاذة والقوية.

كانت أقوى حاسة لدى ديليا هي الشم، وحينما وصل النزلاء في ذلك الصباح، شمت رائحة عطر البنت والمرأة، وكانتا متماثلتين، ولكن لم يتطابق فيهما أي شيء آخر. كانت سامانثا، الابنة، واثقة من نفسها كالديك، وشعرها بلون سكاكر القهوة، وتضيق عينيها كأنها تفكر بمشكلة حسابية، مع أن تفكيرها محصور بما يلي: "انظروا لي ودللوني". وكان شعرها الطويل سلاحها البتار، وقد انسدل على الطاولة وراءها وهي تتأمل ورق الجدران، أو صورة لصبايا تحاولن تحريك عقارب ساعة ليقترب الوقت من توقيت الإطعام. وكررت عدة مرات أن والديها تناولا لقمة من الكعك المثلج واللذيذ. ومع أن التسعيرة تتضمن كلفة السرير والإفطار فقط، كانت ديليا تحب أن تقدم لنزلائها الشاي حال وصولهم وأي نوع من أنواع الكعك المتوفر في العلبة المعدنية. وكانت تنورة سمانثا قصيرة، وتلفت الانتباه لفخذيها، وكانا مثل عمودي نوغة صلبين داخل جوارب شفافة بلون القشدة. وكانت ترتدي حذاء مزررا فوق مشط القدم. أما الأم فقد كانت ممتلئة وتتلمس ابنتها كلما قفزت في فورة من فوراتها. وكان الأب يدخن الغليون. وهو رجل وسيم، وطويل، ومنعزل. ويبدو كأنه أستاذ شيء ما. بعد الشاي والكعك تساءلوا إن يتوجب عليهم تحضير سلة للنزهة مع بعض الشطائر والبيض المسلوق، فقد أزمعوا على رحلة بالقارب. ولكنها أوضحت لهم أنه عليهم اتخاذ التدابير من أجل العشاء، لأنها عمليا تقدم السرير والإفطار.

حينما عادوا بعد منتصف الليل، وتسلقوا السلالم سمعتهم يقولون عدة مرات: "صه. صمتا". واستعملوا الحمام بالدور. ويمكنها أن تخبر من صوت خطواتهم أنهم يبذلون قصارى جهدهم ليلزموا جانب الهدوء، واستمر ذلك حتى تحطم شيء، وتناثر. وتوقعت أنه كوب الخزف الأبيض. وكم كانت تحبه. فهو بلون القشدة ويتخلله ظل أخضر وصور نبات الغار والنفل. أرادت أن تنهض وتؤنبهم، ولكن منعها دافع داخلي. كما أنه لم يكن لديها مئزر منزلي. هل هم بمآزرهم؟. ربما المرأة لديها مئزر، ولكن الرجل بقميصه الداخلي. ستفتقد للكوب وستبكيه. فأشياؤها هي المخلصة لها، وذلك بعد ضياع وتبعثر كل ما عداها. وهي تدرك، نعم، تدرك، أن حب الأبناء يخف وينحسر مع الوقت، على شاكلة بذة غسلت وأعيد غسلها، حتى لم يبق من لونها الأصلي غير ذكرى بعيدة. وستصبح ابنتهم، سمانثا، على هذا المنوال قريبا، وستبتعد حالما تكسب اهتمامات جديدة، وأصدقاء مقربين وغير ذلك.

احتل الأبوان الغرفة الزرقاء، وكانت غرفة زفافها مع زوجها، وفيها ولدت أبناءها، ومع تقدم السنين، كانت تنام فيها قليلا، ولا تزور زوجها إلا إذا اضطرت لذلك، ثم تعمد لغسل وتنظيف نفسها. خمسة أولاد يكفي لأي امرأة. أربعة تشتتوا، وواحد مات، وكنة حولت ابنها، ابنها الوحيد، ليكون ملكها الشخصي. ولكنها لا تريد أن تقسو عليهم، وأن لا تلقي أحكاما جازمة. البنات تتذكرن حينما تردن ذلك. وترسلن الهدايا، وبالأخص الصغرى، وفي المرة التالية، إذا سئلت ماذا ترغب لعيد ميلادها، تقول عباءة، لتتمكن من رؤية النزلاء في اللحظة الحرجة. 

وكانت تستقبل الناس في الصيف فقط، جزئيا لأنه توقيت حضور السياح، بالإضافة إلى أن تكاليف تدفئة البيت في الشتاء باهظة، فالوقود مرتفع الثمن. كما أنها لا تستقبل النزيل لأكثر من ليلتين أو ثلاث، خشية من التمادي وأن يتصرفوا وكأن البيت ملكهم، فيفتحون الخزانات والأدراج، ويكتشفون ذكريات ماضيها، كالمناديل المطرزة بكلام مأثور، وثوب رقص ومعطف بلون الخزامى، ومروحة سوداء بمقبض من العاج. وهناك أسباب أخرى أكثر تكتما. فقد كانت تخاف أن ترتبط بهم وأن تطلب منهم البقاء معها لفترة أطول، للإستئناس برفقتهم. وبما تكسبه من النزلاء في الصيف أنفقت على تحسين البيت وأرضه، أما رفاهيتها الوحيدة فقد كانت علبة معدنية كبيرة، تحتوي على بسكويت التوت والكاستر، فهي مغرمة بهما. نعم، كان الزوجان في سرير الزوجية، سرير واسع برأس من خشب السنديان الذي يقعقع، وبغطاء وردي اللون، وسبق لها أن جهزته في أيام الخطوبة، وقد حاكت فيه كل أحلامها. تخيلتهما، رجل مهني، وامرأة ممتلئة، يستلقيان الواحد بجانب الآخر، وكيس الغطاء المربع يعلو وينخفض مع أنفاسهما. وتذكرت كيف تتمسك به حين كان زوجها يمارس معها الحب بتهور ودون عاطفة. مع تقدم الوقت أصبح ألطف معها، الزوج الذي تمنته من بين الجميع، والذي لم يلمس الكحول بعد أن بلغ الخامسة والخمسين، والذي كانت تتقرب منه بتقديم الشاي في كل ساعة من ساعات النهار والليل. ربما لم تكن سمانثا جاهزة للنوم، ولكنها تشذب حاجبيها أو تمشط شعرها الطويل المنسدل، تمشطه ببطء ولعلها تفحص نفسها بمرآة الخزانة، وتمتدح قامتها الممتلئة والناعمة والصلبة، الملتفة بعباءة نومها. بعد أن ذهبوا إلى العشاء، تأملت الغرف. لم تفتح الحقائب، وهذه أخلاق شرف، ولكنها توقفت عند بعض المقتنيات - عقد لؤلؤ المرأة، ومكياجها، وشبكة شعرها البنية الداكنة المرمية بجانب غلايين زوجها، وهي غلايين من خشب بألوان متعددة، وكيس تبغ مفروم مطوي. أما نقودهم الإنكليزية فقد كانت مكومة بكومتين أنيقتين صغيرتين، نقوده ونقودها، كما رأت ديليا.  وعلى طاولة زينة البنت، وجدت فقط فرشاة، وسدادات قطنية، وزجاجة من زيوت الأطفال. أما البيجاما الزهرية الليلية فقد كانت ملقاة على وسادتها وبدت حية، كما لو أن في داخلها دمية.

لم يواتيها النوم.

نهضت، وهي تنوي أن تذهب وتلقي نظرة على الكوب الرقيق، ولكن منعها شيء ما حالما بلغت الباب. خجلت من أن يسمعوا صوت حركاتها، وكأن البيت هو بيتهم. وتكون لديها تحفظ غريب تجاههم، فقد كانوا ودودين جدا فيما بينهم، ويخلفون حولهم صدى يريحها، نعم، وهذه هبة كانت تأنس لها. ذرعت غرفتها بالخطوات. ولم يكن بمقدورها الخروج إلى البهو لتمشي، كعادتها، شووضعت يدها على تمثال العذراء المصنوع من الجص البارد، للتبارك بها. ثم بالضبط بعد نصف ساعة من اعتزالهم في غرفتهم، حصل ذلك. سمعت صرير باب، ثم صوت فتح باب غرفة البنت ببطء، وتوقعت أنها تلبي حاجتها إلى الحمام ولكن لاحقا سمعت صوتها وهي تتوجه إلى غرفة والديها على رؤوس أصابعها. ثم صوت نقرة، تبعها سلسلة نقرات، خفيفة وعابثة، وليس نقرة مريض أو صغير متوعك، ولا نقرة صغير خائف من عتمة الليل، أو مضطرب من نواح غراب على المدخنة، ليس أي شيء من ذلك، ثم بغضون ثوان معدودات، توترت ديليا. أصبح جسمها كله عرضة للنفور. سمعت صوت البنت تدخل غرفتهما، فغادرت السرير، ووضعت يدها على قبضة الباب، وفتحته بحذر شديد، وهي تسير على خشب الأرض حافية القدمين، وتوجهت نحوهم، دون أن تعلم ما يتعين عليها أن تفعله. كان كل البيت يصيخ السمع. كانوا لا يتكلمون، ولكن شيئا مقيتا كان يتنفس هناك، همسات وثرثرة وضحكات. لم يمكنها أن ترى، ولكن يبدو أن عينيها تخترقان لوح الباب كما لو أنه شفاف، وتخيلتهم، أيديهم، أفواههم، أطرافهم، متشابكة والواحد منها يفتش عن الآخر. لم يجرؤ أحدهم على إشعال النور. وربما كانت البنت عارية ومسترخية، ليتمكنا من العبث بها، الرجل يجرها بطريقته، والمرأة بطريقتها، وقبل مرور وقت طويل أدركت أن الموقف يقترب من شر النشوة. وكانت تريد أن تدخل وتقبض عليهم - الرجل، سيد حريمه، وهو يستلقي على البنت والتي لم تكن ابنته، والمرأة تساعده، لأن تلك هي أفضل طريقة للتمسك بزوجها. هذه ليست ابنتهما. وربما هي بغي تذهب مع من يقدم لها توصيلة، أو ربما نشروا إعلانا، وتقبلت جريدتهما المحلية كلمات الإعلان دون حياء. جريدة في وسط إنكلترا، المكان الذي أتوا منه، أو الذي ادعوا أنهم جاؤوا منه. كان في تلك الغرفة عصا، ملقاة بجانب وعاء الفحم، وتركته هناك منذ آخر إقامة فيها قبل ثلاثين عاما. أرادت أن تحمله، وتكسره على أجسادهم العارية والعابثة. ولكن لا يمكنها أن تعرف المانع. فقد قررت أنه عليها أن تدخل ولكنها تخاذلت.  ثم سمعت أصوات التعجب. وكانت أصوات الثلاثة مختلفة جدا - صوت المرأة مرتفع ومستمتع، والفتاة يائس، وكأنها تبكي تقريبا، والرجل، مثل أحمق في الغابة مع حبيبته. أسرعن إلى غرفتها وجلست على طرف سريرها، وهي ترتعش. تحسست علبة مستديرة صغيرة كانت في درج بقرب السرير، وبحثت عن حبات منومة لونها فيروزي، يشبه ماء البحر في بطاقة بريدية أرسلتها لها أصغر بناتها من الريفيرا. وبسبب التقتير قسمتها نصفين، كانت تقسم الحبات لنصفين دائما. كان طعم المسحوق مرا على لسانها، وساما، ولم يكن لديها كوب ماء تغسل مرارته من فمها. جاء النوم ومعه كتلة من الأحلام. ورأت نفسها مع مجموعة من النساء الجاهزات للتصوير بكاميرا رجلين، منافسات حقيقيات متجمعات، والكوع يشبك الكوع ولكن دون أن يحجبنها. وطلب منهن التخلص من ثيابهن من أجل صورة حقيقية، لكنها لم تمتثل، ولم تكن مستعدة للتنفيذ. وبعناد رفضت التخلي عن قميصها، وكان من كتان غير مبيض وخشن. أما المرأة المجاورة لها، وتعرفت فيها على إيللي، الخياطة المحلية، فقد تعرت، وتجولت في الأرجاء مثل غانية. ثم تبدل الحلم. كانت وحدها في كنيسة واسعة وملكية ولكن مقدسة. وفيها تعرى جميع المقدسين، جوزيف وجودي وأنتوني وتيريزا الوردة الصغيرة، وتخلوا عن أثوابهم الكهنوتية، وإن لم يكن ذلك كهنوتيا تماما، أنشد القس بلغة مكشوفة، كما لو أنه في حديقة لشرب الجعة. ثم بدأ صبي مذبح صغير بثوب كاردينالي أحمر يلهو في الأرجاء وسمح لنفسه بشرب النبيذ من الكأس المقدسة. وتابعت الاعتقاد أنها لا تحلم، ولكنها كانت كذلك. وحينما أفاقت فجأة تذكرت فورا النزلاء، وضجيجهم، والشرور المرتكبة. وكيف عليها أن تقلي شرائح بايكون وبيضا، ونقانق، من أجل إفطار متواضع. ارتدت ثيابها، وعبثت بجواربها، فقد تعذر عليها ارتداؤها كما يجب، وردت شعرها إلى الخلف كثيرا بأمشاط صغيرة. كان فطورهم على الطاولة جاهزا حينما استيقظوا - المقلي، وإبريق شاي، وركوة ماء ساخن، وركوة قهوة سريعة التحضير. وأضافت أيضا طبقا صغيرا من برتقال الماندارين. وبقي أن يباشروا الطعام. وبوجود النزلاء غالبا - تفضل الانتظار في غرفة للإفطار وهي تفكر بالأماكن النائية - شعاب المرجان، أو المناخات المتعاكسة في أرجاء متفرقة من أستراليا، أو الجبل المسطح في كيب تاون، حيث يبدو أن التكاثف يكون طبقة من السحب تشبه غطاء الطاولة وتخيم على القمة المسطحة. ولكنها لا تتكلم مع حلقة النزلاء، ولا تمد رأسها من الباب لتسأل إن كانوا يرغبون بالمزيد من الخبز المحمص أو القهوة.

وهم يغادرون كانت تعتقد أنها انتقمت لنفسها. ها هم هنا، حلقة عائلية غير ضارة. معهم حقائبهم، حقيبة الزوجة من خيوط سود، والبنت مع حمالات زرق على الظهر، والزوج بحزام جلدي بني اللون. وكما قالت هي تتقاضى منهم أجر غرفة واحدة فقط، لأنه، كما تعتقد، لم يشغلوا غير حجرة واحدة. ولاحظت انهم فهموا كلامها، ولكن اختاروا بحماقة أن لا يفعلوا ذلك. ومد الزوج يده بورقة خمس جنيهات، ورقة صغيرة، مع قطع نقدية فضية لتغطية تكاليف الغرفتين. وأصرت أن يستعيد بعض نقوده، لكنه رفض، وكذلك زوجته. وأصبح الموقف محرجا. أظهر الزوج امتعاضه وأبرز أسنانه العلوية وانتقدت الزوجة قلة عدد المناشف في الحمام، وكذلك بالنسبة لسلسلة مياه الحمام القديمة غير المناسبة، والتي تعود إلى أيام سفينة نوح. وقطبت الابنة وجهها وهي تمتص قطعا هلالية الشكل من برتقال الماندارين. وفي النهاية ألقى الزوج ثلاثة جنيهات ورقية ثم قطع المعدن في جيب مريولها، وقررت أن لا تبالغ، فألقت النقود على طول الممشى المغطى بحجارة رقيقة. والتمعت القطع المعدنية في ضوء شمس الصباح الساطعة. أصبحوا في الجانب الآخر من البوابة، أودع الأبوان الأمتعة في صندوق السيارة، وعادت البنت مسرعة لتلتقط النقود، ثم مدت لسانها بحركة تدل على الجرأة والتحدي.

وراقبتهم حتى اختفت السيارة عن مرمى البصر. ثم ارتمت على العشب وبدأت تبكي. بكت من أعماق كينونتها البائسة. لماذا أبكي؟. سألت نفسها بصوت مسموع: "لماذا أنا أبكي؟". هي لم تتعالى عليهم ولم تخذلهم في تلك الليلة. الأمر له علاقة بذاتها. كان قلبها مسدودا منذ زمن بعيد، ونسيت الأشياء الصغيرة، والمتع القليلة، فالحياة أخذ وعطاء. حتى أنها نسيت خطاياها.

كان العشب طريا وليس جافا جدا، وقد أصبح غزيرا بفضل المطر وساعات الصحو المشمسة.

***

...........................

* إدنا اوبراين Edna O'Brien روائية إيرلندية. من أهم أعمالها "إيرلندا الأم"، "أرض كافرة"، "البنت الوحيدة" "بايرون عاشقا"، "ضوء المساء" وغيرها . والقصة مترجمة من مجموعة قصص بعنوان "مقدسون وخطاة".

قصة: ساياكا موراتا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

خرج زوجي من غرفة النوم، أيقظه صوت صفير مع انتهاء دورة الغسالة.

- صباح.. آسف لقد أفرطت في النوم. هل أتولى المهمة؟

كانت مهمة غسيل الملابس في عطلة نهاية الأسبوع هي وظيفته، ولكن بما أنه كان عليه أن يعمل لوقت متأخر في البنك ويعود إلى المنزل في آخر قطار، فقد قررت أن أقوم بذلك في ذلك اليوم. قلت:

- لا تقلق بشأن ذلك. أوه، لقد غسلت قميصك الأخضر. آمل ألا تمانع.

- مُطْلَقاً. شكرًا.

بينما كنت أعلق الغسيل على الشرفة، استخدم الحمام وارتدى ملابسه. ثم وضع الخبز في محمصة الخبز، ومسح الطاولة، وجلس لتناول الإفطار.

الحياة مع زوجي تشبه العيش مع بومة نظيفة وذكية للغاية. من الجيد أن يكون لديك حيوان مرتب في جميع أنحاء المنزل. لقد تزوجنا منذ ثلاث سنوات ولم يتغير ذلك. أخبرتني إحدى صديقاتي التي تزوجت عن حب في نفس الوقت تقريبًا أنها اكتسبت كراهية عميقة لزوجها، لكن هذا ليس هو الحال معي على الإطلاق. يتمتع زوجي بآداب المائدة المنظمة، ولا يُترك المرحاض والحمام أبدًا وهناك أثر من سوائل الجسم وإفرازاته. أتساءل أحيانًا عما إذا كان ينبغي لنا أن نكلفه بمهمة التنظيف عندما نقوم بتقسيم الأعمال المنزلية.

وبعد أن انتهيت من الغسيل، ذكرت له ذلك فضحك.

- إذن أنت تقولين أنني مثل مكنسة الرومبا؟

في الواقع، لم يكن ذلك بعيدًا عن الواقع.

قال:

- من ناحية أخرى، أنت يا ميزوكي أشبه بالأرنب أو السنجاب. هادئ، حساس للضوضاء، ولا تقفزين عليّ أو تفقدين أعصابك أبدًا.

- ألا تفقد السناجب أعصابها أبدًا؟

- أنا لا أعتقد ذلك. أنت وأنا، كلانا حيوانات نظيفة ولا نعترض طريق بعضنا البعض. وهو أمر جيد، أليس كذلك؟

لا أظن ذلك. أنت وأنا، نحن حيوانات نظيفة ولا نتعارض مع بعضنا البعض. وهذا شيء جيد، أليس كذلك؟

بالفعل. بالطبع هناك بعض الأشياء التي تزعجني فيه، مثل وضعه للفة ورق التواليت الجديدة قبل أن تنفد القديمة، أو ترتيب الأطباق المتسخة حسب الشكل بدلاً من مقدار الدهون عليها، كما أحبها أنا. لكن هذه الأشياء لا تزعجني، وربما يعود ذلك إلى المسافة الحكيمة بيننا.

التقينا عبر موقع للتعارف. أثناء تصفحي للإعلانات المختلفة من الرجال الذين يصفون "الزواج المثالي" - "أريد أن أربي أسرة محبة" أو "أريد أن أنجب الكثير من الأطفال" - صادفت إعلانًا يقول: "أبحث عن زواج نظيف." عندما نظرت إلى ملف هذا الرجل، كان هذا ما كتبه: "أبحث عن روتين يومي ودي مع شخص أرتاح معه، مثل الأخ والأخت، دون أن أكون عبدًا للجنس."

كنت فضولية. تبادلنا الرسائل، وفي النهاية قررنا اللقاء. كانت نظارته ذات الإطار الفضي تجعله يبدو متوترًا، وتساءلت إذا كان "الزواج النظيف" يعني في الحقيقة "الهوس بالنظافة". لكن عندما بدأنا الحديث، اكتشفت أن "النظافة" كانت على مستوى آخر تمامًا.

قال:

أريد أن تكون حياتي العائلية مكانًا هادئًا، مثل قضاء الوقت مع زميلة في الغرفة تتفق معها جيدًا أو مع أختك الصغرى المفضلة أثناء غياب الوالدين.

قلت:

- أفهم. أستطيع أن أتعاطف مع ذلك.

قال:

- الحقيقة هي أنني أشعر بعدم الارتياح تجاه فكرة الأسرة كامتداد للارتباط الرومانسي. الأسرة يجب أن لا يكون لها علاقة بمشاعر الحب بين الرجل والمرأة - يجب أن تكون مجرد شراكة بسيطة.

قلت:

- أوافق. لقد عشت مع عدة رجال، لكن دائمًا ما يكون هناك لحظة تتفكك فيها العلاقة. نحن من المفترض أن نكون عائلة، لكنهم يتوقعون مني أن أكون امرأة وصديقة متفهمة في نفس الوقت، وهذا تناقض، أليس كذلك؟ من المفترض أن أكون زوجة وصديقة وأم... أفضل كثيرًا أن أعيش كأخ وأخت .

قال:

- هذا بالضبط ما أعنيه. لكن لا أحد يفهم - حتى ذلك الموقع. لديهم هذه الأسئلة عن دخل الرجل وما تحب المرأة أن تطبخ... لكن هذا ليس ما تعنيه الأسرة بالنسبة لي. أريد شريكًا، وليس كل تلك الأشياء المتعلقة بالرجل والمرأة."

لقد أصبح غاضبًا للغاية من تلك الانفجارات التي خرجت منه، فاستخرج منديلًا مخططًا باللون الأزرق ليمسح جبينه. ثم ابتلع كوبًا من الماء وتنهّد. قال:

- أنا سعيد لأنك تفهمين شعوري. لكن قد يكون هذا مثاليًا قليلاً...

- على الإطلاق. لن نعرف أبدًا إلا إذا جربنا

ابتلع ريقه، وهو يدفع نظارته إلى الأعلى.

- ماذا؟

نظرت إليه مباشرة في عينيه وقلت:

- ماذا عن ذلك؟ هل ستدخل في زواج خالي من الجنس معي؟

- ألم يحن الوقت لنذهب إلى العيادة؟

سأل زوجي وهو يرفع عينيه عن الجريدة التي كان يقرأها بينما يأكل توستًا.

- آه، العيادة..

- أنتِ في الثالثة والثلاثين، ميزوكي. لقد حان الوقت لتخصيب بويضة .

- هذا صحيح .

أومأت برأسي وأنا أحدق في شريحة الليمون التي كانت تطفو في كوب الشاي. لقد كنت أفكر في نفس الشيء تقريبًا.

-الآن بعد أن استقر الوضع في العمل، أعتقد أن الوقت مناسب .

-هل أرتب لكِ موعدًا للأسبوع المقبل؟

- انتظر لحظة. مازلت أتناول الحبوب. حتى لو توقفت عن تناولها غدًا، سيحتاج جسمي لبعض الوقت للتحضير للتبويض.

قال وقد بدا عليه إحساس غير مألوف بالخجل.

- أفهم، نعم، أعتقد أن الأسبوع المقبل سيكون مبكرًا . لكن بعد ذلك، أعتقد أنهم لا يقومون بالتخصيب في الزيارة الأولى. من المحتمل أن تحتاجين إلى بعض الفحوصات أيضًا، فما رأيك في موعد بعد أن تحصلي على دورة شهرية؟

- حسنًا !

عادةً ما كنت أواجه نزيفًا انسحابيًا بعد يومين من توقف تناول الحبوب. كان أخف بكثير من الدورة العادية، وكان ينتهي في غضون يومين أو ثلاثة. شرحت ذلك لزوجي، وقررنا تحديد موعد يوم سبت بعد أسبوعين.

كان الزواج الذي يفتقر إلى الجنس أكثر راحة مما كنت أتخيل. كنت أتقاضى راتبًا قدره 4 ملايين ين، وكان زوجي يتقاضى 5 ملايين. كنا نودع 150,000 ين في حساب المنزل كل شهر، والبقية كانت تحتفظ بها كل منا في حساباته البنكية الخاصة. كان هذا المبلغ الذي يعادل 300,000 ين يغطي مصاريف حياتنا اليومية، بينما كان الباقي يذهب إلى التوفير. قررنا ألا نمتلك منزلًا أو أي ممتلكات مشتركة.

نظرًا لأننا نساهم بالتساوي في الشؤون المالية، قررنا أيضًا تقسيم العمل المنزلي. وعلى عكس المال، لا يمكن تقسيم الأعمال المنزلية بالتساوي تمامًا، ولكن بما أن زوجي كان جيدًا في الطبخ، كان يتولى ذلك بينما كنت أنا مسؤولة عن الغسيل والتنظيف. في معظم أيام الأسبوع، كنا نعمل حتى وقت متأخر، لذلك كان كل منا يتولى وجباته المسائية الخاصة. هذا يعني أنني كنت أتحمل العبء الأكبر، ولتعويض ذلك اتفقنا على أن يتولى هو الغسيل في عطلات نهاية الأسبوع.

كان هذا بسيطًا. لكن الأمور الجنسية كانت أكثر تعقيدًا.

كان زوجي يريد حظر جميع الأنشطة الجنسية في منزلنا. وكان هذا مقبولًا بالنسبة لي. قال:

- من وجهة نظري، الجنس هو فعل تمارسه بمفردك في غرفتك الخاصة، أو تتعامل معه في الخارج. في بعض المنازل يعود الشريكان من العمل مرهقين ويمارسان الجنس معًا، لكنني أكره هذا تمامًا.

قلت:

- أنا أيضًا، الجنس جيد في المراحل الأولى من علاقة الحب، لكن مع مرور الوقت وعندما يعيش الشريكان معًا، يصبح الأمر مروعًا عندما يلمسك شريكك أثناء نومك، أو عندما يقتحمك فجأة أثناء استرخائك. أريد أن أكون قادرة على التحكم في رغباتي الجنسية وقتما أشاء، وأن أبقي المفتاح مغلقًا في المنزل.

- هذا بالضبط ما أفكر فيه. أنا مرتاح لمعرفة أنني لست الوحيد الذي يُعتبر غير طبيعي .

ومنذ البداية كان زواجنا خاليًا تمامًا من الجنس، لكن بطريقه غير مريحة كنا نريد الأطفال.

قبل زواجنا، بحثنا في الإنترنت واكتشفنا عيادة متخصصة في احتياجات الأقليات الجنسية: مثل المثليين الذين يريدون أطفالًا، أوالأفراد الذين يفتقرون إلى الرغبة الجنسية ولكنهم يسعون للإنجاب، أوالأشخاص الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف التخصيب الصناعي أو العثور على طبيب يتعاطف مع وضعهم.

قالت المرأة عبر الهاتف:

- إذا قررتما أنكما تريدان الأطفال، يرجى الحضور إلينا. سنكون سعداء للعمل معكم.

- لكننا زوجان لا يملكان رغبة جنسية.

- لا مشكلة. نعامل العديد من هؤلاء الأشخاص هنا. لدينا أزواج يأتون إلينا من جميع أنواع الظروف والتفضيلات غير المعتادة. خدمتنا تقدم الجنس كعلاج طبي لأولئك الذين مثلهم .

لم نكن نعرف ما المقصود بـ "الجنس كعلاج طبي"، لكننا شعرنا بالاطمئنان أن هناك خيارات مفتوحة أمامنا.

بعد أن انتهى زوجي من تناوله للتوست، بدأ في لعب لعبة فيديو. تابعت تقدمه بينما كنت أدير رقم العيادة لترتيب موعد للاستشارة. كانت العيادة في مبنى أبيض أنيق في منطقة أوياما الراقية.

كان المكان يفيض بالثراء. كانت غرفة الانتظار مفروشة بكراسي فاخرة من البيج الفاتح، مع موسيقى هادئة في الخلفية. بالإضافة إلينا، كانت هناك امرأة جالسة بمفردها، وبعد قليل حصلت على بعض الأدوية من موظفة الاستقبال وغادرت.

- السيد والسيدة تاكاهاشي، تفضلا بالدخول.

أعلن موظف الاستقبال، فدخلنا لنلتقي بطبيبة ذات شعر قصير.

- لقد حجزتما موعدًا مع المنجب النظيف، أليس كذلك؟

- عذرًا؟

- المنجب النظيف. كما يوحي الاسم، هو وسيلة لتسهيل التكاثر بأكثر الطرق نقاءً. هدف الجنس كعلاج طبي ليس توفير المتعة.

- فهمت.

ألقت الطبيب نظرة على استبياننا الطبي وأومأت عدة مرات. "نعم، نعم. أفهم. 'تكرار العلاقة الجنسية منذ الزواج: صفر.' 'السبب في الاهتمام بالمنجب النظيف: "نريد طفلًا ".

- إذًا هذا هو الهدف من زيارتكم اليوم، أليس كذلك؟"

قال زوجي:

- حسنًا، لم نقرر بعد... أعني، نحن لا نعرف ما هو المنجب النظيف، أو ما يتضمنه، لذا نود منك شرحه لنا، من فضلك.

أومأت الطبيبة برأسها وهي تبدل وضع ساقيها:

- حسنًا، إذا نظرتما إلى صفحتنا الرئيسية، ستجدان أن التفاصيل مغطاة هناك بشكل جيد، لكن سأشرحها لكم مرة أخرى.

- في الوقت الحاضر، يعاني عدد متزايد من الناس من مشاكل نفسية تمنعهم من ممارسة الجنس مع شركائهم. الشخص الذي يتناسب مع ميولك الجنسية ليس دائمًا أفضل شريك لتكوين أسرة، وغالبًا ما يكون العكس هو الصحيح. ليس الجميع يشعرون بالإثارة الجنسية تجاه الشخص الذي تكون الظروف المعتادة مناسبة معهم لتكوين أسرة. أولًا، التفكير التقليدي القائل بأن الزوجين يجب أن يمارسا الجنس من أجل الحمل أصبح أمرا عفا عليه الزمن. هذا غير متماش مع العصر. الجنس من أجل المتعة والجنس من أجل الحمل هما قضيتان مختلفتان تمامًا، ومن غير المنطقي أن نخلط بينهما. إنه لا يتماشى مع طريقة حياة الناس في هذه الأيام.

ثم أعطت كل منا منشورًا بعنوان "المنجب النظيف وصورة الأسرة الجديدة".

وأضافت:

- لقد أصبحت الميول الجنسية أكثر تنوعًا. هل يمكن لرجل يشعر بالانجذاب نحو الفتيات الصغيرات أن يشعر بالإثارة مع زوجته البالغة من العمر خمس وثلاثين عامًا؟ هل يمكن لامرأة لا تشعر بالإثارة إلا تجاه الرجال ثنائيي الأبعاد ممارسة الجنس مع رجل ثلاثي الأبعاد حي دون ألم؟ في هذه الأيام، شريكك ليس بالضرورة موضوعًا جنسيًا – وهذه تقدم رائع. هذا يعني أنه يمكنك اختيار تكوين أسرة بطرق عقلانية، بالتفكير بعقلك، وليس بغرائزك. الأزواج الذين يأتون إلينا يمكنهم الاستفادة من خبرائنا وترك جيناتهم الممتازة للأجيال القادمة من خلال المنجب النظيف، مُسهّل التكاثر النقي لدينا..."

بينما استمرت الطبيبة في حديثها، قلبت المنشور بين يدي. كان يحتوي على العديد من العبارات مثل "الأزواج لزمن جديد" و"تجربة أنيقة وغير جنسية مع تقنيتنا المتطورة".

قالت الطبيبة:

- وفقًا للاستبيان هنا، قررتما الحفاظ على العلاقة الجنسية والزواج منفصلين حتى قبل عقد القران. هذا رائع. هذا بالضبط ما نعنيه بزواج متطور.

أجبت بتواضع:

- أوه، ليس مميزًا جدًا.

شعرت بعدم الارتياح تجاه نساء مثلها، وفكرت في نفسي، ثم ألقيت نظرة على زوجي. بدا عليه الملل وكان يركز على القلم الجاف الذي كانت تديره الطبيبة بين أصابعها.

قالت الطبيبة مبتسمة:

- علاج المنجب النظيف المتطور لدينا هو الأنسب لأمثالكم. لكنه غير مغطى بالتأمين الوطني، والرسوم هي 9500 ين لكل علاج. الآن، سنطلب منكِ تتبع درجة حرارة جسمك الأساسية، وسنقوم بالعلاج أثناء الإباضة. إذا فشلتِ في الحمل بعد عدة محاولات، نوصي بإجراء استشارة لعلاج العقم. ما زلتما في سن صغير، وأنا متأكدة أنه إذا واصلتما استخدام المنجب النظيف، يمكنكما توقع الحمل دون الحاجة لعلاج العقم. لكن إذا أردتما، يمكنكما إجراء اختبار خصوبة قبل البدء."

قال زوجي وهو يهمس:

-هذا غالي جدًا!

ابتسمت الطبيبة له وقالت:

- نحن نستخدم علاجًا متطورًا جدًا، يا سيد تاكاهاشي. حتى في اليابان، قلة من المستشفيات تقدم هذا العلاج، ومن الصعب علينا مواكبة الطلب. فقط أمس أخبرني زوجان جاءا من توتوري كم كانا معجبين به. متى ترغبان في تحديد موعدكما الأول؟ يمكنكما تجربته الآن إذا أردتما – في هذه الحالة، يمكنكما اختيار الموسيقى التي ترغبان في سماعها أثناء العلاج. الممارسة المعتادة هي تحديد موعد عندما تشير درجة حرارتكما إلى الإباضة، لكن الحمل ممكن أيضًا في أيام أخرى...

قاطعتها قائلة:

- نحن هنا فقط للاستشارة اليوم.

ثم نظرت إلى زوجي وأضفت:

- سأتحدث معه

أومأت الطبيبة برأسها مبتسمة وقالت:

- بالطبع، خذا وقتكما في مناقشة الأمر. لكن يجب أن تأخذا في اعتباركما أن علاج المنجب النظيف شائع للغاية وقد لا تجدان موعدًا في يوم الإباضة. الأمور هادئة نسبيًا الآن، لذلك أنصحكما باتخاذ قراركما في أقرب وقت ممكن.

أجبت:

- فهمت. سنتحدث معا ونعاود الاتصال.

نهض زوجي من مكانه، وعلامات الامتعاض بادية على وجهه. تبعته بسرعة إلى خارج غرفة الاستشارة.

لم نكن على دراية بمنطقة آوياما، لذلك بعد مغادرتنا العيادة مشينا باتجاه أوموتيساندو ودخلنا أول مقهى صادفناه.

سألت زوجي بينما كان يحتسي قهوته بالحليب:

- ماذا تريد أن نفعل؟

أجاب وهو يعبس:

- هناك شيء مريب في الموضوع، أليس كذلك؟ علاج المنجب النظيف... لا يمكن أن يكون التلقيح الصناعي، وهذا يعني أننا سنقوم به بأنفسنا؟

تنهدت وأجبت وأنا أمسد فنجاني بإصبعي:

- أظن ذلك. إذًا، ماذا سنفعل؟

سألني مستغربًا:

- ماذا تقصدين؟

أجبت بصوت منخفض:

- طفلنا... هل نفعله بأنفسنا؟ نحن الاثنان، في المنزل؟

وبمجرد أن انتهيت من كلامي، شعرت بموجة من القرف تغمرني. دون أن أرفع رأسي، استندت إلى الوراء في مقعدي لأضع مسافة أكبر بيننا.

قال وهو يتردد:

- أنا... أم... لا أ...

على ما يبدو، شعر زوجي بنفس الشعور، وعندما نظرت إلى الأسفل، لاحظت أنه سحب قدميه بسرعة تحت الطاولة بعيدًا عن الأنظار.

مطمئنة لهذا التفاعل المشترك، رفعت نظري ورأيته يعبس.

قال بعد لحظة من الصمت:

- التلقيح الصناعي سيكون أصعب، لكن ربما يجب أن نجربه. الأزواج عديمو الجنس يستخدمونه، لذلك لا بد أن هناك أطباء متفهمين. وإذا كنا نتحدث عن 9500 ين على أية حال، يجب أن نفكر في هذا الخيار.

- أعتقد ذلك.

شعر بالارتياح، وأخيرًا رفع عينيه عن قهوته ونظر من النافذة. كانت هناك امرأة تسير مع كلبها، وموظفون مرهقون يتفقدون ساعاتهم، وشباب منشغلون بهواتفهم المحمولة. تساءلت بلا مبالاة: كم منهم، يا ترى، كان نتيجة حيوانات منوية قُذفت أثناء علاقة جنسية بين أشخاص يحبون بعضهم البعض؟ هل تم الحمل بشكل عفوي، دون أي تفكير في أيام الإباضة؟ أم من خلال التلقيح الصناعي؟ أو ربما حتى نتيجة اغتصاب؟ بغض النظر عن ظروف الحمل، فقد وصلت الحيوانات المنوية إلى البويضة، ونمت البويضة المخصبة لتتخذ شكل إنسان.

نظرت مجددًا تحت الطاولة. لم تكن قدما زوجي ظاهرتين بعد.

كنت في غرفة السيدات في العمل، أفرّش أسناني بعد الغداء، عندما رنّ هاتفي المحمول.

كانت المكالمة من رقم غريب لا أعرفه. ترددت للحظة، ثم أجبت:

- هل أنتِ ميزوكي تاكاهاشي؟

كان ذلك صوت امرأة.

قالت:

- أنا صديقة نوبوهيرو.

فأجبتُ بسذاجة:

- آه، أنتِ عشيقته، أليس كذلك؟

أبعدتُ أنا وزوجي الجنس عن زواجنا، لكن ذلك لم يمنعنا من الشعور بالرغبة الجنسية. منحنا أنفسنا الحرية للاستمتاع بالجنس خارج العلاقة الزوجية. كنا أشبه بأخ وأخت مراهقين، لكل منا شركاء جنسيون سريون، بينما نتظاهر بأننا لا نفهم حتى معنى الكلمة. ربما رأى الآخرون في علاقاتنا خيانة، لكنها بالنسبة لنا بدت أمرًا طبيعيًا تمامًا. حتى قبل شهرين، كنتُ أملك عشيقًا، شخصًا تعرفت عليه عبر فيسبوك، لكن علاقتنا أصابها الملل فانفصلنا.

استغلَّ زوجي فكرة إنجاب طفل لإنهاء علاقته مع تلك المرأة. في البداية، ظننتُ أنه يتعامل مع الأمر بجدية مفرطة، خاصة وأنني مجرد صاحبة البويضة التي ستُخصب، بينما كان بإمكانه نشر بذوره كما يشاء. لكن عندما سمعتُ المرأة تصرخ في الهاتف بهستيرية، أدركتُ أنه ربما كان يستخدمني كذريعة للابتعاد عنها.

صرخت المرأة قائلة:

- هل ستقاضيني؟ افعلي ذلك! ستكونين أنت موضع السخرية، وليس أنا.

- لا، لن أقاضيكِ. ولن أتركه أيضًا. اسمعي، ألا يمكنكِ التحدث معه مباشرة؟ لا شأن لي بعلاقتكما.

كلما تحدثتُ بنبرة لا مبالية، زادت من غضبها. صرخت:

- أنتِ لا تمارسين الجنس معه، صحيح؟ أي نوع من النساء أنتِ؟ أنا من أشبعه جنسيا، ونحن نحب بعضنا البعض.

قلتُ بهدوء:

- بالطبع تحبان بعضكما البعض، فأنتِ عشيقته. نحن عائلة، لذلك لا نمارس الجنس. انظري، انتهت استراحة الغداء، لا أستطيع التحدث الآن.

ردّت بغضب:

- هذا لأنكِ لا تستطيعين منحه نوع الجنس الذي يريده. هو لا يستطيع الانتصاب معكِ!

أجبتُ ببرود:

- بالضبط. لهذا نحن عائلة.

ثم أغلقت الهاتف وحظرتُ رقمها.

عندما خرج زوجي من الحمام، وجدني جالسة على الأريكة والهاتف في يدي. سأل:

- ميزوكي، ما الأمر؟ أنتِ دائمًا تراقبين هاتفك مؤخرًا.

رددتُ:

- ممم، أتلقى الكثير من الرسائل غير المرغوب فيها. ربما عليّ تغيير بريدي الإلكتروني.

قال بابتسامة:

- يمكنك ضبط الإعدادات لتجنب ذلك. أنتِ حقًا لا حول لك ولا قوة فيما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا.

كانت الرسائل الإلكترونية تأتي من عشيقته. يبدو أنها وجدت عنوان بريدي الإلكتروني في هاتفه وبدأت بإرسال رسائل يومية. في البداية فكرتُ في حظر بريدها الإلكتروني أيضًا، لكنني وجدت نفسي منجذبة بشكل غريب.

كانت ترسل صورًا لهما أثناء ممارستهما الجنس. شعرتُ وكأنني دخلتُ بالخطأ على أخي الصغير وهو يمارس العادة السرية. الصور كانت محرجة جدًا ومباشرة. بدا أن زوجي لديه شغف بـ"لعب الأدوار العمرية" – يتصرف كطفل رضيع، يرضع من صدرها أو يتم تغيير حفاضه. وكانت الإثارة واضحة جدًا حتى أن انتصابه بدا جليًا تحت الحفاض. كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها شيئًا بهذا الوضوح من قضيبه.

أرفقت الصور برسائل مثل "أنا وحدي أستطيع أن أكون أمه"، أو "هو يلامس فتحة شرجي ويتوسل لي أن أفعل الشيء نفسه له"، أو "أنتِ خاسرة تمامًا كزوجة" – وكل ذلك جعلني أفكر بأنها ربما فقدت عقلها بسبب الشهوة والحب.

كانت صور زوجي وهو على يديه وركبتيه، وفي فمه مصاصة ويرتدي مريلة للترويل، مثيرة للفضول. لكنني كنت ممتنة بشدة لأنني لست شريكته الجنسية.

قلت بتردد:

- أمم...

كان زوجي يجفف شعره بمنشفة بينما يشاهد التلفاز، لكنه التفت إليّ وسأل:

- أمم ماذا؟

- كنت أفكر في الأمر. هل نحاول؟

- نحاول ماذا؟

- تلك العيادة. في النهاية، التلقيح الصناعي سيكون على الأرجح أكثر تكلفة، ولن يكون من السهل العثور على طبيب يفهم وضعنا. مع العيادة، على الأقل، لن نضطر للقلق بشأن ذلك، ولن ندفع تكلفة الفحوصات الطبية أيضًا. بالإضافة إلى أن العملية تبدو قريبة من الجنس الطبيعي، مما سيكون أقل عبئًا على جسدي.

قال بتردد:

- حقًا؟ حسنًا، لا أعرف شيئًا عن العبء الجسدي على المرأة، لذا سأصدقك في هذا.

بدا عليه بعض الانزعاج، لكنه لم يكن كارهًا للطبيبة إلى درجة رفض اقتراحي بشكل قاطع.

تابعت:

- في الواقع، منذ الاستشارة، بدأت أراقب درجة حرارتي. هل نحجز موعدًا ليوم الإباضة القادم؟ فقط لنرى كيف ستسير الأمور.

أجاب وهو يهز رأسه بانشغال:

- حسنًا. إذا تمكنت من الحصول على إجازة في ذلك اليوم، فلنذهب.

ثم عاد بتركيزه إلى التلفاز، حيث كانت المشاهد تعرض بلداً أجنبياً بعيداً مع عزف كمان في الخلفية.

لحسن الحظ، كان يوم الإباضة التالي يوم سبت. توجهنا إلى العيادة معًا.

قلت وأنا أنحني للممرضة التي خرجت لاستقبالنا:

- نود الخضوع للعلاج.

وتبعني زوجي بسرعة وهو ينحني أيضًا.

قالت الممرضة وهي تسلّمنا رداءً أبيض لكل منا:

- يرجى خلع ملابسكما وارتداء هذا. أزيلا جميع الملابس الداخلية. يمكنكما وضع الأشياء الثمينة في الخزانة. عندما تكونان مستعدين، أخبرانا.

دخلنا إلى حجرات منفصلة، وسحبنا الستائر وبدأنا بتغيير ملابسنا. كان الرداء النسائي بأكمام طويلة وتنورة طويلة، يغطي الكثير مما توقعت. في الواقع، اعتقدت أن الرداء سيعيق الحركة، لكنني لم أعلق بشيء.

سمعت الممرضة تقول:

- حسنًا، سيد تاكاهاشي، من فضلك تعال معي.

عندما فتحت الستارة، رأيت زوجي يرتدي رداءً مشابهًا لردائي. بدا غير مرتاح بالتنورة، ومن الواضح أنه كان يجد صعوبة في الاسترخاء، إذ كان يحمي أجزاءه الخاصة بيديه ونحن نتبع الممرضة إلى الغرفة.

كانت الغرفة بلا نوافذ وبيضاء تمامًا، تضم كرسيين كبيرين أبيضين يشبهان كراسي أطباء الأسنان، لكنهما أكبر، ومتقابلان. وقف بجانبهما ممرضتان ترتديان أقنعة جراحية. انتشرت في الهواء رائحة زيت اللافندر، بينما كانت الموسيقى الكلاسيكية تعزف في الخلفية.

قالت الممرضة:

- يرجى الاستلقاء على هذا الكرسي.

قادت الممرضات زوجي إلى الكرسي الأبعد، وكان ظهر الكرسي مائلًا إلى درجة أفقية تقريبًا، مما جعله يبدو وكأنه مستلقٍ على سرير.

قالت ممرضة أخرى:

- السيدة تاكاهاشي، من هنا، من فضلك.

جلست على الكرسي الأبيض المقابل لزوجي، كما أُشير لي. كان ناعمًا وأعلى قليلًا من كرسيه.

قالت الممرضة:

- ضعي ساقيكِ هنا.

كما طُلب مني، وضعت ساقي على المسندين على جانبي الكرسي، مما أجبرهما على التباعد كما لوكنت في فحص نسائي. وبفضل الرداء الطويل، لم أشعر بأي إحراج. أضافت الممرضة:

- الآن، سيقوم السيد تاكاهاشي بإنتاج السائل المنوي.

في مرحلة ما، ارتدت الممرضة التي أحضرتنا إلى الغرفة قناعًا جراحيًا أيضًا. وارتدت الممرضات الثلاث قفازات جراحية رقيقة كما لو أنهن على وشك البدء بعملية جراحية، ثم بدأن بتحريك أيديهن تحت الرداء الطويل لزوجي. بدا أنهن يلمسن عضوه بتناسق مع الموسيقى.

قالت إحداهن:

- هل هذا جيد، سيد تاكاهاشي؟ افعل ما بوسعك.

كان زوجي قد خلع نظارته وأغمض عينيه بإحكام بينما استسلم للممرضات، وجهه شاحب تمامًا. وبعد فترة، أعلنت إحدى الممرضات بجدية:

- لقد دخلت الحياة إلى جسد زوجك.

لم أستوعب ما تعنيه تمامًا إلا حين اقتربت مني الممرضة وقالت:

- والآن، سيدتي تاكاهاشي، سنقوم بتطبيق هذا.

وضعت الممرضة يدها المرتدية للقفاز تحت رداءي وصعدت بها بين ساقيّ الممدودتين، ثم وضعت نوعًا من الهلام ذي رائحة عشبية حول مهبلي. ارتجفت قليلاً من البرودة، لكنه لم يكن مختلفًا عن فحص نسائي ولم يكن مزعجًا.

قالت الممرضة:

- الآن سنستعد لربط تيار الحياة بالبويضة.

ثم أخرجت أنبوبًا فضيًا متصلًا بما بدا كأنه سلك كهربائي في أحد طرفيه.

عند نظرة سريعة، بدا أن الأنبوب يحتوي على مادة شبيهة بالهلام، فافترضت أنه يشبه جهازًا للاستخدام الذاتي. بحركات متقنة أشبه بعملية طبية، رفعت الممرضة رداء زوجي وأدخلت عضوه في الجهاز.

قالت:

- سيد تاكاهاشي، رجاءً أخبرنا عندما يبدأ تيار الحياة بالخروج. ارفع يدك! هل فهمت؟

أومأ زوجي بصمت، كان يمسك بحافة رداءه بإحكام ووجهه يزداد شحوبًا. قالت الممرضة موضحة:

- سيد تاكاهاشي، تيار حياتك يتم تسهيله باستخدام موجات كهرومغناطيسية. هل فهمت؟

مع ذلك، مما استطعت رؤيته من حركات يدها، بدا أنها هي من تقوم بالتسهيل، بتحريك الأنبوب الفضي على عضوه صعودًا وهبوطًا. ومع ذلك، بدا الجهاز مصممًا بعناية، وعند نظرة أقرب، لاحظت وجود نقش يحمل عبارة " المنجب النظيف " محفورة عليه. كانت الأسلاك المتصلة به تتمايل أثناء عمل الممرضة، التي كانت مستغرقة تمامًا في مهمتها.

تناثرت بعض المادة الهلامية الباردة في الجهاز ووقعت على ساقي.

قالت الممرضة:

- إنه أحدث نموذج، سيد تاكاهاشي. أعلم أنه بارد قليلاً، لكن أرجو أن تتحمل. نحن على وشك الانتهاء!

كان زوجي يتصبب عرقًا ويطلق بين الحين والآخر تأوهات وكأن الحيوانات المنوية تُستخرج منه بالقوة.

- سيد تاكاهاشي، ابذل قصارى جهدك!

- سيحدث الآن! تيار الحياة يتصاعد!

- سيدة تاكاهاشي، اقتربي قليلًا، رجاءً. أمسكي يده، نعم، هكذا.

بتردد، انحنيت إلى الأمام وأمسكت بيده التي مدها لي بضعف.

صرخت الممرضة وهي تستخدم الجهاز لتحفيز عضو زوجي:

- دفعة أخيرة صغيرة، سيد تاكاهاشي!"

- لقد اقتربت يا عزيزي!

أضفت صوتي إلى الهتافات، وعندها رفع يده اليسرى بتردد.

- تيار الحياة يتم قذفه!

صاحت الممرضة، وفجأة انخفض مسند ظهري بعنف وبدأ الكرسي في التحرك.

لم أعد أرى سوى السقف، ولم أتمكن من فهم ما يجري. كان كل شيء يحدث بسرعة فائقة. شعرت وكأنني معزولة عن الواقع، كأنني داخل مشهد من فيديو. أدركت أن الكرسي كان يدفعني نحو زوجي، بينما ظلت ساقاي متباعدتين. وعندما توقف الكرسي، تم إدخال شيء إلى مهبلي، وكأنه يتم توصيل شيء ما. شعرت بشكل غامض أن عضو زوجي قد دخلني، لا يزال باردًا من الهلام، لكن الإحساس كان أقرب إلى جهاز ينقل سائله المنوي.

- تمت عملية القذف!

هكذا قالت الممرضة، وانتشر دفء خفيف في أسفل بطني. بدا أن زوجي تمكن أخيرًا من القذف.

- أحسنت يا سيد تاكاهاشي!

- تهانينا، سيدة تاكاهاشي .

بدأت الممرضات يمسحن جسدينا بمنشفة دافئة ورطبة بينما كنا مستلقيين ونحدق في السقف.

قالت إحدى الممرضات وهي تقدم لي فوطة صحية:

- استخدمي هذه.

ارتديت ملابسي الداخلية ووضعت الفوطة في مكانها. كانت الممرضات الأخريات يهنئن زوجي ويمسحن العرق عن جبينه. بدا الأمر وكأنه قد أنجب طفلًا، بينما أنا قبلت نسله.

- للحفاظ على العملية، تأكدي من ارتداء فوطة صحية وتجنبي غسل المناطق الحساسة. إذا كان لا بد من التنظيف، فانتظري حتى تعودي إلى المنزل للاستحمام سريعًا. هذا كل شيء لليوم، سيدة تاكاهاشي.

هززت رأسي موافقة، بينما شعرت أن الأمر كان أقل إثارة مما توقعت. بدا أن الأمر كان أشد وطأة على زوجي، الذي كان يلهث ويبدو منهكًا بعد أن أُجبر على القذف دون أي إثارة حقيقية.

قال زوجي بغضب ونحن في طريق العودة إلى المنزل.

- تسعة آلاف وخمسمائة ين مقابل هذا! يا له من استغلال!

كتمت ضحكة خفيفة وقلت:

- لقد كان الأمر سيئًا حقًا، أليس كذلك؟ لكنني لم أضطر لفعل أي شيء جنسي... هل كان الأمر مقبولًا بالنسبة لك؟

رد، متأججًا:

- لم أشعر طوال حياتي بهذا القدر من الانتهاك! لقد عرضوا عليّ الفياغرا كان يجب أن أقبل.

واستطرد بنبرة متوترة:

- لم أستطع التمييز بين دخولك أو دخول تلك الآلة الغريبة، ولا أزال لا أعرف ما إذا كنت قد قذفت في الآلة أم فيك.

قلت بابتسامة خفيفة:

- لكن هذا جيد، أليس كذلك؟ بهذه الطريقة، حافظنا على زواجنا بلا علاقة جنسية."

- حسنًا، نعم، لكن...

توقفنا عند حديقة صغيرة.

قلت:

- هل تمانع إن ذهبت إلى الحمام؟ أريد أن أغير الفوطة الصحية.

- آه، بالطبع.

قالها وهو يهز رأسه، وألقى عليّ نظرة غريبة، وكأنه غير مرتاح لفكرة أن سائله المنوي يتسرب مني.

دخلت إلى الحمام العام في الحديقة، وأنزلت ملابسي الداخلية لأجد أن السائل المنوي لزوجي يغطي الفوطة الصحية. كان الأمر أشبه بحدوث دورة شهرية بيضاء. استبدلتها بأخرى نظيفة، وخرجت مجددًا. كان جالسًا على مقعد ينتظرني.

- آمل ألا أكون قد تأخرت.

- لا، لا. هل كل شيء على ما يرام؟"

جلست بجانبه وقلت:

- أنا بخير. أشعر ببعض التعب فقط. هل يمكننا أن نستريح قليلًا قبل العودة إلى المنزل؟

جلسنا لبعض الوقت نتأمل الحديقة التي كانت مليئة بالأطفال.

- حسنًا، ربما لم تكن تجربة سيئة إلى هذا الحد.

- ماذا؟ كنت غاضبة قبل لحظات فقط.

قال بهدوء وهو يراقب فتاة صغيرة تلعب في حفرة الرمل:

- نعم، حسنًا، من الجيد أنني لم أقم بأي شكل من أشكال الاتصال الجنسي معك. لأننا لم ندخل الجنس في علاقتنا. سألته:

- إذا تمكنا من إنجاب طفل، أيهما تفضل، ولد أم بنت؟

- بنت، على ما أعتقد سيكون الولد على ما يرام أيضًا، لكن يمكنني أن أتخيل أنني شغوف حقًا بالفتاة.

- نعم .

كانت عيناه نصف مغمضتين وهو يراقب الفتاة في حفرة الرمل تنهض وتركض بعيدًا.

صاحت الفتاة: «ماما!»، ووقفت أم شابة مبتسمة.

شاهد الأم وهي تربت على رأس ابنتها بمودة، وابتسمت الفتاة الصغيرة واحتضنت والدتها. وبينما كان ينظر إليهما، تشكلت حبات العرق على جبينه وظهرت نظرة من الذعر الخالص على وجهه.

- ماذا بك؟

لم يرد. وفجأة وضع يده على فمه وجلس في وضع القرفصاء وهو يتقيأ. لم يأكل شيئًا منذ الصباح، وكان يفرز فقط سائل المعدة. نظرت إليه وهو ينحني، محاولًا مقاومة الغثيان. خطر لي أن هذا يشبه أعراض الغثيان الصباحي.

- ماما، ماماااا!

تردد صدى صوت الفتاة الصغيرة البريء في جميع أنحاء الحديقة.

عاد الغثيان إلى زوجي، وبدأ ظهره يرتجف. مددت يدي لتهدئته. وفي تلك اللحظة بالذات، شعرت بسائله المنوي يتدفق من مهبلي.

(تمت)

***

...................

المؤلفة: ساياكا موراتا/Sayaka Murata  كاتبة يابانية. ولدت موراتا في إنزاي بمحافظة تشيبا باليابان عام 1979. عندما كانت طفلة، كانت تقرأ في كثير من الأحيان روايات الخيال العلمي والغموض المستعارة من أخيها وأمها، واشترت لها والدتها معالج النصوص بعد أن حاولت كتابة رواية بخط اليد. في الصف الرابع الابتدائي. بعد أن أكملت موراتا دراستها المتوسطة في إنزاي، انتقلت عائلتها إلى طوكيو، حيث تخرجت من مدرسة كاشيوا الثانوية (الملحقة بجامعة نيشوغاكوشا) والتحقت بجامعة تاماجاوا. فازت ساياكا موراتا بجائزة جونزو للكتاب الجدد، وجائزة ميشيما يوكيو، وجائزة نوما للوجه الأدبي الجديد، وجائزة أكوتاجاوا.

من الشعر الإريتيري المكتوب بالتيغرينية:

شعر: ريسوم هايلي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

قوس قزح، قوس قزح

أين كنت؟

أمي بحاجة إلى وشاح،

يليق ببشرتها،

سيل من الألوان،

لتسترعي انتباهها.

ثوب من النور،

عبر الفلك

مشرقا مثل وجهها

منبجسا من الشمس.

سبعة الوان مختلفة،

لتظهر به المتميزة لدي.

لون واحد لا يكفي

ولا واحد منها دون الآخر

بل كلها مجتمعة معا

ينبغي ان تكون جديرة بأمي.

قوس قزح، قوس قزح

أين أنت؟

أمي بحاجة الى وشاح

يلائم بشرتها.

***

........................

- هو الدكتور ريسوم هايلي (دكتوراه في علم البيئة الإعلامية من جامعة نيويورك): شاعر وأكاديمي أريتيري معروف عالميا (1946 – 2003). عاش (20) عاما في المنفى ابان حرب استقلال بلاده عن اثيوبيا التي استمرت (30) عاما، وعاد إلى وطنه بعد الاستقلال في عام 1994. ينتمي إلى مجموعة ال (13) التي كتبت (بيان برلين) بخصوص الديموقراطية في أريتيريا، وكان البيان موجها إلى الرئيس الاريتيري آسياس افورتي ابرهام الذي تولى منصب الرئاسة منذ عام 1993 ولم يزل. نشر ما يزيد على (2000) قصيدة، وباللغة التيغرينية، وليس بلغات استعمارية (مثل الفرنسية والإنكليزية)، كما فعل الكثير من الشعراء الأفارقة من الدول التي رزحت تحت نير الاستعمار الغربي. وهي لغة سامية أفرو - آسيوية، واسعة الأنتشار في أريتريا وإثيوبيا. زاول (ريسوم هيلي) العمل الأكاديمي واشتغل في عدة منظمات دولية. ترجم له صديقه الدكتور (تشارلز كانتالوبو) الى الإنكليزية (لدينا صوت 2000) و(نحن اخترعنا العجلة 2002)، وهو أستاذ متميز في اللغة الإنكليزية والأدب المقارن والدراسات الأفريقية في جامعة ولاية بنسلفانيا. والقصيدة هذه مترجمة عن الإنكليزية ، وهي من ترجمات (كانتالوبو) عن التيغرينية. ترجم له إلى العربية الشاعر والكاتب المغربي (نجيب مبارك) ضمن (همس الأسلاف: انطولوجيا الشعر الأفريقي المعاصر) الذي صدر عن (دار خطوط وظلال) في عمان – الأردن.

African Anthem – Reesom Haile – Modern Poetry in Translation.

https: //modernpoetryintranslation.com

  

قصة: جوادالوبي نيتيل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قبل أسبوعين تقريباً، انتقل جيران جدد إلى الشقة المجاورة. إنها امرأة مع ولد صغير يبدو غير راضٍ عن الحياة، على أقل تقدير. لم أره بعد، لكن يمكنني أن أخبرك بذلك من خلال الاستماع إليه فقط. يعود من المدرسة حوالي الساعة الثانية بعد الظهر، حينما ينتشر رائحة الطعام التي تخرج من منزله وتنتشر في ممرات السكن والسلالم. الجميع يعرف عندما وصل من الطريقة التي يضغط بها على الجرس بعجلة. وبمجرد أن يغلق باب شقته، يرتفع مستوى الصوت بشكل كبير عندما يبدأ بالصراخ للشكوى من الطعام. بالنظر إلى الرائحة، لا يمكن أن يكون الطعام في منزله صحيًا أو لذيذًا، لكن رد فعل الصبي بلا شك مبالغ فيه. يوجه الشتائم والألفاظ النابية، وهو أمر مثير للقلق بعض الشيء في طفل في سنه. كما أنه يصفق الأبواب ويرمي أشياء مختلفة على الجدران. عادةً ما تستمر هذه الانفجارات لفترة طويلة. منذ أن انتقلوا، سمعت ثلاث منها، وفي أي من تلك المرات لم أتمكن من الاستماع حتى النهاية، لذلك لا أستطيع أن أخبرك كيف تنتهي. إنه يصرخ بصوت مرتفع وبأسلوب يائس لدرجة أنني اضطررت لمغادرة المنزل بسرعة. يجب أن أعترف، أنني لم أتعامل جيدًا مع الأطفال في حياتي. إذا اقتربوا مني، أتجنبهم، وإذا كان من الضروري التفاعل معهم، ليس لدي أدنى فكرة عن كيفية القيام بذلك. أعتبر نفسي من أولئك الذين، عندما يسمعون طفلاً يبكي في طائرة أو في غرفة انتظار الطبيب، يتوترون تمامًا، ويجنون إذا استمر الصوت أكثر من عشر دقائق. ومع ذلك، ليس الأطفال مزعجين بالنسبة لي بشكل عام. ربما أجد ذلك ممتعًا عندما أراهم يلعبون في الحديقة أو يتصارعون حول لعبة في صندوق الرمل. هم أمثلة حية على كيفية تصرفنا كإنسان إذا لم تكن هناك قواعد للآداب واللباقة. على مدى سنوات حاولت إقناع صديقاتي بأن الإنجاب كان خطأ ميؤوسًا منه. أخبرتهن أن الأطفال، بغض النظر عن مدى كونهم حلوين ومحبين في أفضل لحظاتهم، سيكونون دائمًا قيودًا على حريتهن، عبئًا اقتصاديًا، ناهيك عن التكاليف الجسدية والعاطفية التي يجلبونها: تسعة أشهر من الحمل، ثم ستة أشهر أو أكثر من الرضاعة، ليالٍ متواصلة بلا نوم خلال الطفولة، ثم القلق المستمر طوال سنوات المراهقة. "ما هو أكثر من ذلك، المجتمع مصمم بحيث نكون نحن، وليس الرجال، من يتحمل المسؤولية عن رعاية الأطفال، وهذا يعني غالبًا التخلي عن حياتك المهنية، وهواياتك الفردية، وجانبك الجنسي وأحيانًا علاقتك بشريكك أيضًا"، كنت أقول لهن بحماسة. "هل يستحق الأمر ذلك حقًا؟"

2

في تلك الفترة من حياتي، كان السفر أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة لي. الوصول إلى دول بعيدة كنت أعرف عنها قليلًا، عبورها برا، سيرًا على الأقدام أو في حافلات مهتزة، واكتشاف ثقافتها ومأكولاتها كان من بين المتع التي لم يخطر ببالي أبدًا التخلي عنها. درست جزءًا من دراستي في الخارج. على الرغم من ظروفي الصعبة في تلك الفترة، إلا أنني أعتبر تلك الفترة الآن من أسعد مراحل حياتي. قليل من الخمر وعدد قليل من الأصدقاء كانا كافيين لتحويل أي مساء إلى احتفال. كنا شبابًا، وعلى عكس الآن، لم يكن السهر يؤثر على أجسامنا. العيش في فرنسا، حتى مع ضيق ذات اليد، منحني الفرصة لاستكشاف قارات أخرى. حين كنت في باريس، قضيت ساعات طويلة في القراءة في المكتبات، والذهاب إلى المسرح، والتجول في الحانات والنوادي الليلية. لا شيء من هذا يتماشى مع الأمومة. النساء اللواتي لديهن أطفال لا يمكنهن العيش بهذه الطريقة. على الأقل ليس في السنوات الأولى من تربية الطفل. لكي يتمكنّ من قضاء بعد ظهر في السينما أو العشاء في منزل آخر، عليهن التخطيط مسبقًا، والحصول على جليسة أطفال، أو إقناع أزواجهن بالاعتناء بالأطفال من أجلهن. لهذا السبب، عندما تبدأ الأمور في أن تصبح جادة مع رجل، كنت أشرح له أنه لا يمكنه أن يصبح أبًا معي. إذا جادل أو ظهرت أي علامة من الحزن أو الاعتراض على وجهه، كنت على الفور أستشهد بازدياد عدد سكان الأرض، وهو سبب مقنع بما يكفي لئلا يعتبرني قاسية أو، والأسوأ من ذلك، أنانية، كما يُطلق علينا نحن الذين قررنا الهروب من الدور الذي خُصص تاريخيًا لجنسنا.

على عكس جيل والدتي، الذي كان من غير الطبيعي فيه عدم الإنجاب، اختارت العديد من النساء في جيلنا الامتناع عن ذلك. يمكن تقسيم صديقاتي، على سبيل المثال، إلى مجموعتين متساويتين في الحجم: أولئك اللاتي اعتبرن التخلي عن حريتهن والتضحية بأنفسهن من أجل بقاء النوع أمرًا واجبًا، وأولئك اللاتي كن مستعدات لقبول العار الذي يفرضه عليهن المجتمع والعائلة طالما تمكنّ من الحفاظ على استقلالهن. كل واحدة منهن كانت تبرر موقفها بحجج جوهرية. وبطبيعة الحال، كنت أتفق بشكل أفضل مع المجموعة الثانية التي كانت تضم ألينا.

التقينا في العشرينات من العمر، خلال تلك الفترة التي لا تزال تعتبر أفضل سن للإنجاب في العديد من المجتمعات، على الرغم من أننا كنا نشعر بنفس النفور مما اعتدنا أن نسميه، بالنظر إلى بعضنا البعض بوعي، "الأغلال البشرية". كنت أدرس للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب، ولم يكن منحة الطلاب ولا وضعي المستقل يوفر لي أي نوع من الأمن المالي. أما ألينّا، فكانت تعمل في وظيفة مرهقة لكنها جيدة الأجر في مركز للفنون، وكانت تبذل كل ما في وسعها لتدريب نفسها في نفس الوقت في مجال إدارة الفنون والثقافة. وعلى الرغم من أن دخلها كان ضعف دخلي، كانت ترسل جزءًا كبيرًا منه إلى أسرتها: فقد كان والدها مريضًا منذ سنوات، ويعيش بمفرده في قرية في فيراكروز، بينما كانت والدتها تحاول التعافي من جلطة دماغية حديثة. كانت ألينّا قد وصلت إلى مرحلة حياتية مبكرة، حيث أصبح والدانا في حاجة ماسة إلى رعايتنا. فكيف كان يمكنها الاعتناء بطفل وسط كل تلك المسؤوليات؟

في تلك الفترة من حياتي، كنت من عشاق فنون التنجيم بكل أشكالها، وخاصة قراءة الكف والتاروت. أذكر أنه في يوم من الأيام، بعد حفلة طويلة خلفت وراءها كأسين مكسورين ومقبرة من الزجاجات الفارغة على الشرفة، كنت أنا وألينّا وحدنا في شقتي. جلسنا نستمع إلى خطوات آخر ضيف يغادر تتردد في شارع "رو فيي دو تمبل"، الذي كان خاليًا تمامًا في تلك الساعة المبكرة. سألته إن كان يسمح لي بقراءة أوراق التاروت لها. وافقت، من باب المجاملة فقط، لأنها كانت دائمًا امرأة عملية وكانت تجد فكرة تلقي رسائل من قوى غير مرئية أمرًا سخيفًا تمامًا. لابد أن التاروت بدا لها مجرد لعبة عابرة، مثل غيرها من الألعاب. كانت الطريقة التي اخترتها في تلك الليلة طموحة للغاية، وكانت تشمل بقية حياتها. قطعت ألينّا الأوراق عدة مرات، ثم وضعتها على الطاولة، في الأماكن التي أريتها إياها. وعندما وضعت كل الأوراق في مكانها، بدأت في قلبها ببطء، جزئيًا بسبب كم كنت ثملاً، وجزئيًا لإعطاء اللحظة لمسة مسرحية. في تلك الأثناء، بدأت القصة تظهر تدريجيًا، كما تظهر صورة عند غمرها في نترات الفضة. في وسط التوزيع كانت توجد "الإمبراطورة"، و"ستة السيوف"، و"الموت"، و"الرجل المعلق". "الموت" - السر الثالث عشر، والذي لا يحمل حتى اسمًا في العديد من مجموعات التاروت - هو بطاقة لا تعني دائمًا وفاة فعلية، لكنها تجلب معها تغييرًا عميقًا وجذريًا. كل شيء يشير إلى مأساة من شأنها أن تقلب مسار وجودها، وربما تقطعه بضربة واحدة. اضطررت إلى إخفاء انزعاجي. لا بد أن ألينا لاحظت تعبيري المضطرب لأنها سألت بصوت قلق، عما كنت أقرأه. قلت بسرعة مع ابتسامة مرحة:

"هنا تقول الأوراق أنكِ ستصبحين أمًا وأن حياتكِ ستصبح محصورة بالكامل"

هزت ألينّا رأسها بعنف وضحكت، على الأرجح ظنت أنني كنت أمزح معها. إلا أن عينيها السوداوين الكبيرتين كانت تحدقان بي بتساؤل، وفي عمقهما لاحظت بريقًا من القلق. استمررنا في الشرب وبعد بضع ساعات، عندما انتهينا من آخر زجاجة نبيذ، ودعت صديقتي عند باب مبنى الشقق. صعدت السلالم عائدة إلى شقتي وذهبت إلى السرير، وأنا أشعر بالخوف مما رأيته.

وبعد بضعة أشهر قررت ألينا العودة إلى المكسيك حيث وجدت عملاً جيداً في معرض فني. أما أنا فقد بقيت في فرنسا لمدة عام آخر، ثم بعد أن أنهيت درجة الماجستير، انطلقت في رحلة حول جنوب آسيا. تجولت عبر الوديان وعبر المسارات الجبلية. وزرت المعابد ومواقع الحج البوذية. وقد انجذبت بشكل خاص إلى الراهبات بعاداتهن البنية ورؤوسهن المحلوقة، النساء اللاتي قررن التخلي عن الحياة الأسرية من أجل تكريس أنفسهن للدراسة والتأمل. كنت أجلس على بعد خطوات منهن بصمت، أستمع إلى ترانيمهن التي تختلف تمامًا عن الترنيمات الغليظة لللامات، أو أسمعهن يتلون السوترا التي تتحدث عن التحرر ونهاية المعاناة. كانت المسافة بمثابة اختبار حقيقي للصداقة؛ فهي إما أن تدمرها، كما يفعل الصقيع بمحصول وفير، أو تصقلها. ولكن هذا لم يحدث بيني وبين ألينّا. واصلنا تبادل الرسائل والمكالمات، نُخبر بعضنا عن أبرز الأحداث في حياتنا – ظهور أوريليو في حياتها، تدهور صحة والدها، اختياري لموضوع رسالتي – وهكذا، ترسخ الود الذي كان يجمعنا بشكل أعمق.

3

من السهل، عندما نكون صغاراً، أن نتمسك بالمبادئ المثالية وأن نعيش وفقاً لها. ولكن الأمر الأكثر تعقيداً هو التصرف بشكل ثابت على مر الزمن، وعلى الرغم من التحديات التي تضعها الحياة في طريقنا. بعد أن بلغت الثالثة والثلاثين بقليل، بدأت ألحظ شيئًا جديدًا: حضور الأطفال ـ بل وحتى جاذبيتهم. كنت أعيش منذ عامين مع فنان من أستورياس يُدعى خوان، يقضي ساعات طويلة في شقتنا، منهمكًا في عمله، ليملأ أجواء المكان برائحة زيوت ألوانه النفاذة. على عكس شخصيتي، كان خوان يعرف جيدًا كيف يتعامل مع الأطفال ويستمتع بوجودهم. إذا صادف طفلًا في الحديقة أو عند أصدقاء لنا، كان يترك ما يفعله ويذهب للحديث معهم.

لا أدري إن كان تأثيره أم تأثير جسدي هو الذي أحدث هذا التحول، لكن أثناء وجودنا معًا بدأت أترك حذري جانبًا. رغم أنني لم أسعَ إلى الاقتراب منهم، أصبح الأطفال يثيرون فضولي إلى حد ما. كنت أستمتع برؤيتهم يحملون حقائبهم الصغيرة على ظهورهم وهم يغادرون بوابات المدارس أو يسيرون في الشوارع متجهين نحو المترو. كنت أنظر إليهم كما ينظر الجائع إلى ثمرة ناضجة. دون أن أعي، بدأت ألاحظ أيضًا النساء الحوامل. كنّ يظهرن لي في كل مكان، وكأن أعدادهن قد تضاعفت فجأة. وعندما أصادف إحداهن في حفلة أو أثناء الانتظار في طابور السينما، لم يكن غريبًا أن أبدأ حديثًا معها، بفضل الفضول الذي ألهب داخلي. كنت بحاجة إلى فهمهن: هل اخترن هذا المصير عن قناعة، أم أنهن خضعن ببساطة لمطالب اجتماعية أو عائلية؟ كم كان لأمهاتهن أو شركائهن أو صديقاتهن من دور في اتخاذ هذا القرار؟

في صباح أحد أيام السبت الشتوية، بينما كنا نسترخي في الفراش، طرحت أنا وخوان موضوع الإنجاب. أخبرني أنه يريد حقًا أن ينجب طفلًا، وأنه ينتظر فقط أن أعطيه الضوء الأخضر. كان رجلًا لطيفًا للغاية، ولا شك أنه سيكون كذلك كأب أيضًا. في مخيلتي ظهرت صور لنا ونحن نعتني بطفل معًا، نتحقق من درجة حرارة الماء لحمامه أو ندفع عربة صغيرة في الشوارع. كانت حياة الأسرة هذه في متناول يدي، قريبة جدًا. لم يكن الأمر يتطلب سوى ترك الواقي على الطاولة بجانب السرير، ربما لمرة واحدة فقط، لأعبر العتبة إلى عالم الأمومة. تمامًا كما قد يستسلم شخص لم يفكر يومًا في الانتحار لإغراء السقوط من قمة ناطحة سحاب، شعرت بجاذبية الحمل. أزاح خوان خصلة شعر عن وجهي وبدأ يقبّلني بعمق. شعرت بجسده مستعدًا تمامًا لتحقيق نداء الطبيعة فورًا. استسلمت – مسحورة-  لهذه القوة التي لا تقاوم لبضع دقائق. ثم – أخيرًا – استيقظت غريزة البقاء لدي، والتي كانت خاملة حتى تلك اللحظة، فقفزت من السرير. على الرغم من الثلج الذي كان يتساقط في الخارج، ركضت إلى الشرفة وأشعلت سيجارة. قلت ل نفسي أن ساعتي البيولوجية قد تغلبت على عقلي. وإذا لم أجد استراتيجية فعّالة بما يكفي للمقاومة، فإن الحياة التي بذلت جهدًا كبيرًا لبنائها ستكون في خطر جسيم.

لقد التزمت الصمت لبقية عطلة نهاية الأسبوع. وفي يوم الاثنين، ذهبت إلى عيادة طبيبي النسائي دون موعد وطلبت منه إجراء عملية ربط قناتي فالوب. بعد أن طرح عليّ سلسلة من الأسئلة ليقيس مدى يقيني بقراري، نظر الطبيب إلى جدول مواعيده. أجريت العملية في نفس الأسبوع، مقتنعة أنني اتخذت أفضل قرار في حياتي. قام الجراح بعمله بمهارة، لكن أثناء تعافيي في المستشفى، أصبت بعدوى بسبب إحدى تلك البكتيريا الخارقة التي يصعب القضاء عليها. عدت إلى المنزل وأنا أعاني من الحمى، وقضيت عدة أيام على هذه الحالة دون أن أخبر أحدًا بما فعلت، حتى خوان نفسه.

بعد ذلك، عندما تعافيت تمامًا وحصلت على تصريح من الطبيب، اتصلت بألينا، متأكدة أنها الوحيدة التي ستفهمني.

منذ ذلك الحين، بدأت علاقتي مع خوان تتدهور تدريجيًا. كنا في الماضي نستمتع بصمتنا معًا: أقرأ بينما يعمل على لوحاته في مرسمه، أو نشاهد أفلامًا قديمة، أو نسير عبر المقبرة القريبة من منزلنا. أما الآن، فقد أصبحنا نشعر بأننا نهدر وقتنا. تسرب الصبر من حياتنا شيئًا فشيئًا، وبدأنا ندفع بعضنا نحو حافة الإحباط. لم تكن نهاية طويلة أو مؤلمة بشكل خاص، بل مجرد إدراك بسيط أننا نسير في اتجاهين مختلفين. كنت أنا من اتخذت قرار المغادرة، فجمعت ثلاث حقائب وأودعتها في قبو صديقة، ثم حجزت أرخص رحلة طيران وجدتها إلى كاتماندو، حيث قضيت شهرًا أتجول بين الأديرة المختلفة. وأثناء وجودي هناك، أرسل لي خوان عدة رسائل إلكترونية قرأتها في مقهى إنترنت بسيط ومغبر في فاربينج. كانت رسائله بمثابة محاولة لتوضيح الأمور التي باتت جلية. قرأتها بدافع الاحترام للوقت الذي قضيناه معًا، متوقعة محتواها. لكن في إحدى الرسائل اللاحقة، أخبرني أنه في علاقة جديدة مع نحّاتة كندية التقاها في ندوة، وأنهما ينتظران طفلًا. كتب لي: "أعرفكِ يا لورا، وأعلم أنك لا  ترغبي في  سماع هذا الخبر من شخص آخر، لذلك فضّلت أن أخبرك بنفسي." أحزنني الخبر، لكنه في الوقت نفسه ساعدني على قطع الروابط مع الماضي. شعرت بأن الوقت قد حان لإجراء تغيير جذري في حياتي. قررت مغادرة باريس والعودة إلى المكسيك لإنهاء كتابة أطروحتي هناك.

4

عدت إلى المكسيك في أوائل فبراير، عندما تملأ أشجار الجاكاراندا شوارع المدينة بأزهارها البنفسجية، ويكتسب كل شيء مظهرًا ريفيًا، حلميًا قليلاً. دعوت ألينا لتناول العشاء معي في مطعم ياباني في حيها تحبه. كانت هذه أول مرة نلتقي فيها منذ عودتي. كان قد مر وقت قليل على عيد ميلادها، وللاحتفال، طلبنا جميع أنواع الأطباق اللذيذة: السلمون المملح، السبانخ مع بذور السمسم، لفائف الهليون واللحم البقري، طبقين من الأودون واثنين من زجاجات الساكي. كانت نسمة دافئة تدخل عبر النوافذ. تحدثنا عن انفصالي عن خوان، وأبوته الوشيكة، وقراري بالعودة إلى الوطن. ثم سألت عن صحتي. طمأنتها قائلة إن العدوى لم تستمر سوى فترة قصيرة، وأن العملية كانت الوقاية المثالية، الأفضل التي يمكن أن تتخذها النساء في مثل سننا، اللاتي كنا دومًا مقتنعات أننا لن ننجب أطفالًا، وهو تطعيم حقيقي ضد ضغط المجتمع.

شربنا نخبًا على هذا، وأيقظ الكحول بداخلي سعادة لم أشعر بها منذ شهور عديدة.

قلت لها وأنا أسكب لنفسي المزيد من الساكي:

"ينبغي لك أن تفعلي الشيء نفسه. إنه شعور رائع، بصراحة!"

استمعت صديقتي دون أن تعلق. ضحكت معي كما ضحكت، ثم، بعد نخبنا، قررت أن تخبرني بما كانت تفكر فيه حقًا. قالت لي بحذر شديد، وكأنها تخشى، أنها تحترم قراري، لكنها لم تعد تشاركني وجهة نظري. هي الآن ترغب في أن تصبح حاملًا. أخبرتني أنها وشريكها قد توقفا عن اتخاذ الاحتياطات منذ أكثر من عام، وحتى الآن دون أي نتائج.

"ربما نحن غير متوافقين" قالت بتردد، معبرة عن إحباطها من خلال نبرة صوتها. "أجرينا جميع الفحوصات ولا تظهر أي منها أن أيًا منا عقيم. لذا سنبدأ العلاج هذا الأسبوع."

أخبرتني أنها مستعدة للذهاب إلى أبعد الحدود في هذا الأمر، بما في ذلك التلقيح الصناعي وتبرع بالبويضات.

لم تُفاجئني هذه الأخبار فحسب، بل جعلتني أتوقف عن الكلام لبقية المساء. لم أُظهر سعادتي أو اهتمامي بالتفاصيل. في صداقات مثل صداقتنا، لا مكان للنفاق. بينما كانت ألينا تُغرق نفسها في حديث مختلط أمام طبق المعكرونة وهي تصف تقنيات التلقيح الاصطناعي الجديدة، كان أذناي يغلقان ببطء مثل نبتتين حساسيتين للضوء. تسللت إليّ مشاعر الحنين إلى الماضي قبل أن يحدث. صور شبابنا معًا كانت تطفو في ذهني، لا تزال واضحة، لكنها أصبحت الآن ملوثة بهذا المستقبل القريب. تركت المطعم وأنا أشعر بالكآبة. إذا نجح العلاج، فستصبح ألينا واحدة من جميع النساء اللواتي كنّ صديقاتي، واللواتي، بعد إنجاب الأطفال، لا يجتمعن إلا للذهاب إلى الحدائق أو السينمات التي تعرض أفلامًا للمغفلين، وهي مجموعة كنت أرفض تمامًا أن أنتمي إليها. ولكن حتى إذا ثبت أن العلاج كان غير مجدٍ، فلا عودة إلى الوراء. من الآن فصاعدًا، سيكون هناك انقسام غير مرئي بيننا: هي كانت تؤيد الأمومة كمصير مرغوب للنساء، بينما أنا خضعت لعملية جراحية لتجنبها.

كما شرحت ألينا أنها كانت تذهب إلى معالج نفسي. كانت ترى هذه المرأة منذ عودتها من فرنسا. كانت تُدعى روزا، وهي في الستينات من عمرها، وقد سمعت عنها من قبل بتقدير كبير من محللين نفسيين آخرين، ويبدو أن لها دورًا كبيرًا في قرار صديقتي بإنجاب الأطفال.

"لسنوات، كما ترى، كنتُ أخشى تكرار نفس الأخطاء التي ارتكبتها أمي معي ومع أختي. كان عليّ أن أتغلب على هذا الخوف حتى أتمكن من جمع شجاعتي لأرى أنني في الحقيقة أريد أن يكون لدي عائلة. أريد أن أعيش تلك التجربة، لورا. أنا أحلم بها. أنا آسفة إذا كان هذا مخيبًا لآمالك."

***

.............................

*هذا مقتطف من رواية Still Born المترجمة عن الأسبانية، قامت بترجمتها الكاتبة والمترجمة الانجليزية: روزاليند هارفي/ Rosalind Harvey و قد وصلت هذه الرواية القائمة لجائزة البوكر للروايات المترجمة لعام 2023 .

المؤلفة: جوادالوبي نيتيل/Guadalupe Nette: وصفت صحيفة نيويورك تايمز أول أعمال غوادالوبي نيتيل باللغة الإنجليزية، التواريخ الطبيعية، بأنها "خمسة قصص لا تشوبها شائبة". نيتيل، التي كانت من بين كتّاب بوجوتا 39، حصلت على العديد من الجوائز المرموقة، بما في ذلك جائزة غيلبرتو أوين للأدب الوطني، وجائزة أنطونين آرتو، وجائزة رييرا ديل دويرو للقصة القصيرة، وأحدثها جائزة رواية هيرالد لعام 2014. وقد تُرجمت كتبها إلى عشرين عشر لغة، كما تُرجمت مؤخرًا روايتها الجسد الذي وُلدت فيه إلى الإنجليزية. تعيش جوادالوبي نيتيل وتعمل في مكسيكو سيتي.

 

عن القصص التي نرويها لملء الفراغات في حياتنا

بقلم: ليّا كاربانتر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

وفقا لليّا كاربانتر، "هناك قصة ثالثة، تلك التي تُروى بصيغة المخاطب. هذه هي القصة التي ترويها لنفسك."

***

توفيت خالتي الصغرى في حريق عندما كانت في العشرينات من عمرها. كيف بدأ ذلك الحريق وكيف انتهى، أين كان اللوم، ولاحقاً، لماذا كان الناس بحاجة إلى اللوم وضرورة أن يكون في مكان ما يمكن الإشارة إليه وحتى لمسه—لم يتم توضيح تلك الأمور لي، وربما لم تُوضَّح على الإطلاق.

لم يخبرني أحد عن رجال الإطفاء، رغم أنه كان لا بد من وجودهم. ولم يخبرني أحد عن الجنازة أو التأبينات أو كيف كان شعور جدتي، على سبيل المثال، أن تفقد ابنة لها بتلك الطريقة. لم يكن لدى أحد حكايات عن كيفية التعامل مع الفقد، إذا ما كان البيت قد أعيد بناؤه أو بيع أو تُرك مهجوراً، ماذا كانت حياة عمتي مثلًا، أو طباعها. كان الحريق يفتقر إلى قصة.

نحن نحب فكرة الحقيقة ولكن ليس بقدر ما نحب الشعور براحة البال الحقيقية.

كما تشكل في ذهني الصغير، كان "الحريق" ليس مجرد تسلسل خطي من التفاصيل، بل كان أكثر أشبه بلوحة تجريدية مليئة بصور متفرقة، وغالبًا ما تكون ملحة. نقص الحقائق في هذا الحدث أصبح، بالنسبة لي كطفلة، لغزًا، خرافة، وشعورًا غامضًا. هذا الشعور، المزيج من الخوف والحزن والفضول، أثر على الطريقة التي تعاملت بها مع الخسارات التي مررت بها في حياتي لاحقًا، وأظهر لي أن الاستنتاجات الجاهزة هي الاستثناء وليست القاعدة. الوضوح، في كثير من الأحيان، ليس سوى سراب. ربما لم يكن أحد يبحث عن الوضوح في هذا الحريق. ربما لم يكن أحد بحاجة إلى قصة. عندما نواجه أكثر تجاربنا تعقيدًا، نحن نميل إلى تفضيل الشفاء على البحث عن الأدلة. نحب فكرة الحقيقة ولكن ليس بقدر ما نحب الشعور براحة البال الحقيقية.

عندما كنت طفلة، كنت أحتفظ بـ "حقيبة الحريق" بجانب سريري تحتوي على كل الأشياء التي أحتاجها في حال جاء حريق آخر ليأخذني. الحريق، التهديد الطويل المزمن الذي لا يمكن إخماده أبداً. الحريق، الذي كان في آن واحد تجريديًا، خياليًا وتهديديًا مثل التنين، قد يصل في أي وقت يشاء. كان الحريق عابرًا وعنيفًا بنفس القدر، ديمقراطيًا بلا رحمة في شهيته للتدمير. يمكنني أن أتذكر وأسترجع ذلك الشعور بسهولة رغم أنني حاولت، وفشلت، في تذكر ما كان في تلك الحقيبة. ما الذي قد يكون مهمًا جدًا في ذلك الوقت لدرجة أنني لا أستطيع تذكره؟

هل كان هناك مجموعة من الأوراق، أو لعبة، أو نسخة من "الملك آرثر وفرسان الطاولة المستديرة"؟ عمتي كانت، حسب كل الحسابات، جميلة. كانت أيضًا تدخن. أظهر تشريح جثتها وجود تليف في الكبد، مما قد تستنتج منه أنها كانت تشرب كثيرًا. ومع ذلك، هل تشكل هذه الحقائق دلائل، أو بداية لما قد يصبح قصة؟ بالنسبة لأمي، أصبحت الحقائق ذكريات، محاطة بطبقات من الحب والمغفرة، استراتيجيات أفضل على المدى الطويل من الندم. أمي، طوال طفولتي، لم تنم فوق الطابق الثالث في أي منزل أو فندق، وكانت تسافر كثيرًا. لم يكن هناك أي تساؤل أو تفسير عن هذه العادة، رغم أن الجميع فهمها. في الحياة، لا تظهر إلى عاصفة ثلجية وأنت ترتدي بيكيني. إلا إذا كانت عاصفتك الثلجية الأولى.

بعد سنوات، ومع ضياع أو نسيان حقيبتي الخاصة بالحريق، ذهبت إلى الكلية إلى نفس المكان الذي كان فيه أفضل صديق لي من الطفولة طالبًا بالفعل. كان قد انتقل للعيش خارج الحرم الجامعي في منزل مع مجموعة من الرياضيين-العلماء الوسيمين، الذين بدا أن لديهم مفاتيح واضحة للمستقبل. كانوا أكبر مني بسنة واحدة فقط، لكنهم كانوا يبدون ناضجين للغاية. كانوا في سن يمكنهم من العيش في منزل يسمونه "منزلنا"، رغم أنني لم أكن لأحسب قيمة الرهن العقاري. كانوا يبدون واثقين من أنفسهم، اجتماعيين، ومطمئنين.

ثم في إحدى الليالي، بينما كانوا خارج المنزل، احترق المنزل الذي كانوا يعيشون فيه حتى دُمر بالكامل. عادوا إلى المنزل في منتصف الليل، بعد حفلة وهم يرتدون ملابسهم الرسمية، ليشاهدوا كل شيء يملكونه يُدمَّر. صورة سخيفة لا تُنسى، تكاد تكون مفرطة في وضوحها. كان لذلك الحريق قصة، ودرس، ومجموعة من الأبطال، وما تخيلته حينها كمسارات عاطفية لهم. تخيلت أن الحريق قد غيرهم بطريقة أساسية. لم يكن حريقي، ومع ذلك أردت أن أستخلص منه عبرة.

قام الكاتب الإنجليزي إ.م. فورستر بالتفريق ببلاغة بين "القصة" و"الحبكة". فقد قال: "مات الملك، ثم ماتت الملكة، هذه قصة"، وأضاف: "مات الملك، ثم ماتت الملكة بسبب الحزن، هذه حبكة". الحبكة توفر تفسيرًا، وأجوبة. هي شيء يمكننا متابعته. أما القصة، فهي أقرب إلى الأسطورة، ولذلك تعد القصص العنصر المحفز لعقلنا الباطن، ولا تقترب من المنطق إلا في بعض الأحيان، ربما عن طريق الصدفة. حتى الآن في حياتي االناضجة لم أقم قط في الطابق العلوي من الطابق الثالث. قد تقول إن هذا جزء من حبكة حياتي، رغم أنه لا يكشف شيئًا عن قصتي.

لكن الفقدان ليس قذيفة مدفعية. إنه يتحدى قوانين الفيزياء. إنه شعور في انتظار، وغالبًا بشكل غير صبور، للبصيرة. البصيرة، والمنظور. والقصة.

لقد تم تمييز بداية العام بحريق آخر في لوس أنجلوس. أرسل لي صديق مقال "سانتا آنا" للكاتبة جوان ديديون، الذي كتبته في عام 1968، وفيه قالت: "العيش مع سانتا آنا يعني قبول، سواء بوعي أو بدون وعي، نظرة عميقة وآلية لسلوك الإنسان". نظرة آلية عميقة لسلوك الإنسان. قرأت ذلك واعتقدت أن "آلية" تعني روبوتية، منطقية، حرفية. ثم بحثت عن المعنى واكتشفت أنه يشير إلى شيء مختلف تمامًا وأكثر تعقيدًا. "آلية" تعني أننا نفهم بعض الظواهر فقط من خلال فهم الأسباب والخصائص والعوامل الأساسية التي تكمن وراءها.

حسنًا، ولكن ماذا لو لم نتمكن من فهم الأسباب والخصائص والميزات؟ ماذا سيملأ الفراغ؟ الخيال، الرعب. سيجارة تُركت محترقة عن غير قصد. فتيان يرتدون بدلات رسمية يقفون في صف. تقدم ديديون، في نفس المقال، صورًا تشير إلى مناخ الخوف من الرياح، وهو في الواقع خوف من الحرائق. جيران يتجولون في منازلهم حاملين مناجل. سانتا آنا هي عنيفة وغير قابلة للتنبؤ، وفقًا لديديون. مثل النار. يمكن أن تقدم سانتا آنا قصة أو حبكة، حسب حاجتنا وتجربتنا.

لن أتجرأ أبدًا على معرفة كيف يكون الشعور بفقدان كل شيء، على الرغم من أن والدتي قد تفعل ذلك، إذا أرادت. تذكرني اختيارات والدتي أن النظرة الميكانيكية بعيدة عن كونها الخيار الوحيد عند مواجهة الكوارث الطبيعية أو الفقدان الشخصي الكارثي. النظرة الميكانيكية يمكن أن تظهر أن شكل قذيفة مدفعية أُطلقت نحو هدف ما هو أمر مضمون، مقعر مثالي، خارج عن يديك. ومع ذلك، فإن الفقدان ليس قذيفة مدفعية. إنه يتحدى الفيزياء. إنه شعور في انتظار، وغالبًا بشكل غير صبور، للبصيرة. البصيرة، والمنظور. والقصة.

يعتقد بعض الناس أن هناك قصتين فقط وأننا نستمر في روايتهما بطرق جديدة. القصة الأولى، يأتي غريب إلى المدينة. القصة الثانية، يأخذ البطل رحلة. أعتقد أن هناك قصة ثالثة، وهي القصة التي تُروى على لسان الشخص الثاني (ضمير المخاطب). هذه هي القصة التي ترويها لنفسك. هذه هي القصة التي تخسر فيها كل شيء كنت تعتقد أنه مهم وعليك أن تبدأ من جديد. هذه هي القصة التي تكسر قلبك ثم، يومًا ما، تفتحه مرة أخرى. لا تعرف نهاية القصة عندما تبدأ، ولهذا السبب تواصل السير فيها.  إنها أهم قصة سترويها في حياتك، حتى وإن لم تضعها أبدًا في كلمات.

***

.....................

ليا كاربنتر / Lea Carpenter روائية ومحاضرة في القانون في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا. وتعيش في نيويورك.

 

من الأدب الكردي

بقلم: لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1) المقبرة

المقبرة.. مدينة

مل سكانها كل مواثيق

الحرب

والسلام!

***

(2) الخوف

في الحرب

يتستر الخوف

خوفا من الرصاص!

***

(3) التماثيل

لا تطلقوا النار

في الشوارع

كي لا تصيب

تماثيل الشهداء،

فتستشهد!

***

....................

* عن (في مرفأ الشعر) للمترجم، أربيل – العراق 2001.

 

قصة: إينيس أريدوندو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت تجلس على كرسي في ظل شجرة الأماتي تراقب رومان وخوليو وهما يلعبان كرة الطائرة على مسافة قصيرة. بدأ الطقس يصبح حارًا جدًا وساد جو هادئ في جميع أنحاء الحديقة.

- يكفي، يا شباب، وإلا فإن الصودا ستسخن.

توقفا عن اللعب بتفاهم صامت، فأمسك جوليو بالكرة في الهواء ووضعها تحت ذراعه. اقترب صوت الحصى الذي تحت أقدامهم بينما كنت أملأ الأكواب. ها هم الآن أمامي، وكان من الجميل رؤيتهما؛ رومان ذو الشعر الأشقر، وجوليو ذو البشرة السمراء.

- بينما كنتما تلعبان، كنت أفكر في كيفية قضاء وقتي منذ أن كان رومان في الرابعة من عمره... لم أشعر بمرور الوقت، أليس غريبًا؟"

- ليس هناك ما هو غريب، بما أنكِ كنتِ معي" – قال رومان ضاحكًا، ثم قبّلني.

- "بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أن تلك السنوات لم تمر فعلاً. لا يمكن أن تكوني بهذا الشباب."

ضحكنا معًا في نفس اللحظة. خفض الشاب عينيه، وكانت وجهه محمرًا، وبدأ يضغط على جانب أنفه بإصبعه المعوج، كما كان يفعل دائمًا.

- اترك أنفك في حاله."

- لا أفعل ذلك من باب الرغبة، فأنا أعاني من انحراف الحاجز الأنفي.

-  أعرف ذلك، لكنك ستؤذي نفسك."

كان رومان يتحدث بلهجة يشوبها الإحباط، وكأن جوليو هو من يزعجه. كرر جوليو نفس الحركة مرة أو مرتين، وكان رأسه منخفضًا، ثم توجه نحو المنزل دون أن ينطق بكلمة.

في وقت العشاء، كانا قد استحما وأصبحا يبدوان منتعشين وسعداء.

- ماذا فعلتما؟"

- استرحنا ثم حضّرنا واجب الرياضيات التفاضلية. كان علي أن أشرح النقطة أ إلى النقطة ب لهذا الحيوان حتى يفهمها.

تناولا الطعام بشهيتهما المعتادة. وعندما شربا الحليب، تظاهر رومان بالجدية وقال لي:

- أحتاج إلى التحدث معكِ بجدية."

احمر وجه خوليو وقام واقفًا دون أن ينظر إلينا.

- أنا ذاهب الآن.

- لا شيء من هذا الكلام عن أنك ستذهب. الآن عليك أن تبقى هنا وتثبت موقفك.

ثم استدار إليّ وقال لي:

- الموضوع يتعلق به، لهذا هو يريد الهروب. لقد أخبروه من البيت أنه لم يعد يمكنهم إرسال المال له، ويريد أن يترك دراسته ليعمل. يقول إننا بالكاد في السنة الأولى...

كانت مفاصل يدي خوليو صفراء من شدة ما كان يضغط على ظهر الكرسي. بدا وكأنه يبذل جهدًا كبيرًا ليكتم مشاعره؛ حتى إنه رفع رأسه كما لو كان سيقول شيئًا، لكنه تركه يسقط مرة أخرى دون أن ينطق بكلمة.

– أردت أن أسألك إذا كان يمكنه العيش هنا، معنا. يوجد مكان كافٍ و..

– بالطبع؛ هذا هو الأمر الطبيعي. اذهبا الآن لالتقاط أغراضه: خذ السيارة لإحضارها.

لم يفتح خوليو فمه، استمر في نفس وضعه السابق، وأعطاني نظرة لم تكن تحمل أي شكر، بل كانت أقرب إلى اللوم. أمسك رومان بذراعه وسحبه بقوة. ترك خوليو الكرسي وتبعه بلا مقاومة، كجسد بلا حياة.

– رتبي السرير إلى أن نعود.

صرخ رومان في الوقت الذي دفع فيه خوليو للخارج.

فتحت النوافذ بالكامل في غرفة رومان. كان الهواء رطبًا، وفي الشرق كانت هناك ومضات برق تضيء السماء الملبدة بالغيوم؛ وكان الرعد البعيد يجعل صوت صراصير الليل أكثر رقة. أزلت من على الرف الدمية المصنوعة من القماش التي كان رومان ينام معانقًا لها طوال تلك السنوات، ووضعتها في الجزء العلوي من الخزانة. كانت الأسرة المزدوجة، والطاولة الجانبية، والمسطرة، وخرائط العالم، والقوانين، كلها في مكانها. كان فقط يجب شراء خزانة لخوليو. وضعت المنبه على الرف حيث كانت الدمية، وجلست على حافة النافذة.

–  إذا لن يراها أحد.

–  أعلم، لكن....

–  لكن ماذا؟

–  حسنًا. لنذهب.

لم يخطر لي قط أن أنزل للسباحة في النهر، رغم أن حديقتي الخاصة كانت تقع بجانب النهر. قضينا الصباح داخل الماء، وبقينا غارقين حتى خصورنا. أكلنا البطيخ وتفلنا البذور في التيار. لم نترك الماء يجف تمامًا على أجسامنا. كنا رطبين طوال الوقت، وبهذا الشكل أصبح الهواء الحار شبه ممتع. في منتصف النهار، صعدت إلى المنزل وأنا أرتدي لباس السباحة وعدت مع الساندويتشات والبسكويت وعلبة كبيرة من الشاي المثلج. بالقرب من الماء وتحت ظلال المانجو، استلقينا للنوم في القيلولة.

فتحت عينيّ عندما كان المساء قد بدأ يسقط. فوجئت بنظرة خوليو التي كانت مليئة باللوم غير المحدد. كان رومان لا يزال نائمًا. قلت بصوت خافت.

– ماذا بك؟

- ماذا؟

شعرت قليلًا بالحرج.

- لا شيء.

جلس خوليو بجانبي، وقال دون أن يرفع عينيه:

– أريد أن أغادر المنزل.

شعرت بالحيرة، لم أعرف لماذا، ولم أتمكن من الرد سوى بعبارة تقليدية.

– ألا تشعر بالراحة معنا؟

- ليس الأمر كذلك، بل...

تحرك رومان، وهمس خوليو بسرعة:

– من فضلك، لا تخبريه عن هذا.

– أمي، لا تكوني هكذا، لماذا تودين أن نلح عليك طوال الوقت؟ مشطي شعرك وتعالي معنا.

– قد لا يكون الفيلم جيدًا، لكن دائمًا ما يجد المرء شيئًا يلهيه.

- لا، كما أخبرتكم، ليس لدي رغبة في ذلك.

- ماذا ستفعلين وحدك في هذا المنزل الكبير طوال فترة بعد الظهر؟

- أرغب في البقاء وحدي.

– اتركها، يا خوليو، حينما تكون هكذا لا أحد يستطيع تحملها. كنت أتوقع أن يمضي كل هذا الوقت دون أن يظهر لها أحد تلك النوبات. لكنها الآن لا شيء، يقولون إنه عندما توفي والدي...

عندما خرجا كان لا يزال يروي القصة القديمة. كان الحر يتسلل إلى الجسد من كل مسام، كانت الرطوبة بخارًا محرقًا يلف ويقيد، يدمج ويعزل في ذات الوقت كل شيء على الأرض، أرض لا يمكن المشي عليها حافيا. حتى البلاط بين الحمام وغرفتي كان دافئًا. وصلت إلى غرفتي وألقيت المنشفة؛ أمام المرآة فككت شعري وتركته ينزلق بحرية على كتفي الرطبتين من ظهري المبلل. ابتسمت في الصورة. ثم استلقيت على بطني على الأسمنت البارد وألصقت جسدي به: الصدغ، الخد، الصدر، البطن، الفخذين. مددت جسدي مع تنهيدة وبقيت نصف نائمة، أسمع في الخلفية صوت طنين الحشرات في الحديقة.

في وقت لاحق، نهضت، ارتديت رداء قصيرًا، ومن دون أن أرتدي حذاء أو أربط شعري، ذهبت إلى المطبخ، فتحت الثلاجة وأخرجت ثلاث حبات مانجو كبيرة وصلبة. جلست لأتناولها على الدرج في أقصى المنزل، مواجهةً للحديقة. أخذت واحدة وقلتها بأسناني، ثم قضمتها بكل فمي، حتى العظم؛ مزقت قطعة كبيرة، بالكاد كانت تتسع في فمي، وشعرت باللب يتفتت والعصير ينزل عبر حلقي، على زوايا فمي، على ذقني، ثم بين أصابعي وعلى طول الساعدين. بتململ قشرت الثانية. ومع مزيد من الهدوء، وشعور بالرضا، بدأت في أكل الثالثة.

أثار صوت الشنكل انتباهي فرفعت رأسي. كانت هي "تويا" تقترب. بقيت وأنا ممسكة بالمقبض بين يدي، عاجزة، ساكنة، وبدأ العصير الذي على جلدي يجف بسرعة ويصبح غير مريح، ويتحول إلى شيء مزعج.

- عدت لأنني نسيت المال.

نظرت إليّ طويلاً بعينيها اللامعتين مبتسمة:

لم أرَك تأكلين هكذا من قبل، أليس لذيذا؟

- نعم، إنها لذيذة.

وضحكت وأنا أرفع رأسي أكثر وأترك آخر القطرات الثقيلة تنساب قليلاً على عنقي أضفت:

- لذيذة جداً.

ودون أن أعرف السبب، بدأت أضحك بصوت عالٍ، بصدق. ضحكت "تويا" أيضاً ودخلت إلى المطبخ. وعندما مرّت بجواري مرة أخرى قالت لي ببساطة:

– إلى اللقاء غداً.

ورأيتها تبتعد، طق.. طق ، مع صوت نقر صندلها وإيقاع واثق من حركات وركيها.

استلقيت على الدرج ونظرت من بين الأغصان إلى السماء وهي تتغير ببطء حتى أقبل الليل.

***

في أحد أيام السبت ذهبنا نحن الثلاثة إلى البحر. اخترت شاطئًا مهجورًا لأنني كنت أخجل من أن يراني الناس أذهب في نزهة مع الشبان كما لو كنا في نفس السن. في الطريق غنّينا حتى أرهقنا حناجرنا، وعندما انتهى الممر إلى الشاطئ ورأينا البحر يلمع في الأفق، بقينا نحن الثلاثة صامتين..

في وسط أشجار النخيل تركنا الأغراض، ثم اختار كل منا كثيبًا رمليا لخلع ملابسه.

كان دوي البحر يتساقط كالرعد في الهواء المثقل بالشمس. وأنا أدهن جسدي بالزيت اقتربت من الخط الرطب الذي يتركه المد على الرمل. جلست على القشرة الجافة، التي لا تلمسها الأمواج.

من بعيد، سمعت صرخات الفتيان؛ التفت لرؤيتهما: لم يكونا بعيدين عني أكثر من بضع أمتار، لكن البحر والشمس يعطيان للمسافات معنى آخر.

ركضا نحو المكان الذي كنت فيه وكأنهما سيصدمانني، ولكن قبل أن يفعلا، أوقف رومان نفسه بأقدامه الممتدة إلى الأمام، رافعًا كمية كبيرة من الرمل، وسقط على ظهره، بينما اندفع خوليو إلى جانبي على بطنه، بكل القوة والثقة التي كان سيضعها في قفزة إلى مسبح. توقفا في مكانهما، مغلقين أعينهما؛ كان جنبا كل منهما ينبضان، لامعين بالعرق. رغم البحر، كان بإمكاني سماع أنفاسهما الثقيلة. بينما كنت أراقبهما، بدأت أنفض عني الرمل الذي غطياني به. رفع رومان رأسه.

– ما هذه الغباء، يا رجل، كدت أن تقع عليها!

لم يتحرك خوليو.

– وأنت؟ انظر كيف تركت الرمل عليها.

كان لا يزال مغلقا عينيه، أو هكذا بدا الأمر؛ ربما كان يراقبني دائمًا بهذه الطريقة، دون أن أدرك ذلك.

- سنقوم بتعليمك بعض تمارين الخماسي الحديث، حسنًا؟

قام رومان ومر بجانب خوليو، ووضع قدمه على ضلوعه وقفز فوقه. رأيت تلك القدم الضخمة والخشنة على الجسد النحيف. ركضا، تقاتلا، كانت الأطراف الرشيقة تتشابك في خيوط عصبية مليئة بالنعومة والرشاقة. ثم ركع خوليو، وانحنى على نفسه ليشكل حاجزًا قويًا، بينما ابتعد رومان.. صرخ رومان قبل أن يبدأ الركض نحونا أنا وخوليو.

- الآن سترين قفزة النمر!

رأيته ينقبض ثم ينقض في الهواء المتردد، يداه ممتدتان للأمام ووجهه مختبئ بين ذراعيه. تمدد جسده على أقصى اتساعه وظل معلقًا في قفزته التي كانت أشبه بطيران.. مغطى بضوء الشمس، وظلّه الناعم على الرمل. كان جسده كالنهر، يتدفق بالقرب مني، لكنني لم أتمكن من لمسه. لم أكن أفهم سبب وجود خوليو أسفل منه، لأن لم يكن هنالك حاجة لإنقاذ شيء، لم يكن تمرينًا: الطيران، التمدد في لحظة الامتلاء كما في السرير ذاته، أن تكون في جو من الاكتمال، هذا كان كل شيء. لا أدري متى، لكن عندما سقط رومان أخيرًا على الرمل، نهضت دون أن أقول شيئًا، اتجهت نحو البحر، دخلت فيه خطوة خطوة، فى ثبات ضد المد.

كان الماء باردًا جدًا لدرجة أنه جعلني أرتعش في البداية؛ مررت من خلال الأمواج العاتية وألقيت نفسي مرة أخرى على بطني، بقوة. ثم بدأت أسبح. كان البحر يواكب انحناء ذراعي، ويستجيب لإيقاع حركاتي، ويتنفس. استلقيت على ظهري والشمس تحرق وجهي بينما كان البحر البارد يحملني بين الأرض والسماء. كانت الأجواء تتحرك ببطء في الظهيرة؛ كان هناك عظمة كبيرة تسحق أي فكرة؛ بعيدًا، كان هنالك صراخ طائر وهدير الأمواج.

خرجت من الماء مشوشة. أحببت ألا أرى أحدًا.. وجدت نعليّ، ارتديتهما ومشيت على الشاطئ الذي كان يحرق كما لو كان جمرًا. مرة أخرى، جسدي، مشيتي الثقيلة التي تترك أثراً. تحت أشجار النخيل، التقطت المنشفة وبدأت في تجفيف نفسي. عندما أصبحت حافية القدمين، جعلني الاتصال بالرمل البارد في الظل أشعر بإحساس مشوش؛ نظرت مجددًا إلى البحر؛ لكن رغم ذلك، ظل غضب صغير، يكاد يكون بريقًا من القلق، يزعجني.

كنت مستلقية على بطني منذ فترة طويلة، نصف نائمة، عندما شعرت بصوته الخشن يلامس أذني. لم يلمسني، فقط قال:

- لم أكن مع امرأة من قبل.

ظللت دون أن أتحرك. كنت أسمع الرياح وهي تمر على الرمل، وكأنها تصقله.

عندما بدأنا نجمع أغراضنا للعودة، قال رومان:

– إنه مجنون، قضى بعد الظهر مستلقيًا، يترك الأمواج تغسله. لم يتحرك حتى عندما قلت له أن يأتي لتناول الطعام. خفت لأنه كان يبدو مثل غريق.

بعد العشاء خرجا في نزهة، لزيارة ما، أو لمراقبة الفتيات وهن يتمشين أو التحدث معهن والضحك دون أن يعرفا السبب. وحيدة، خرجت من المنزل. مشيت ببطء عبر الأرض المجاورة، حريصة على أن أخطو بحذر على الصخور والنباتات الجديدة الهشة. كان صوت الضفادع يتصاعد من النهر، متقطعًا وطويلاً، مئات، ربما آلاف منها. السماء كانت منخفضة كالسقف، صافية وواضحة شعرت بالارتياح عندما رأيت أن لمعان النجوم يتناغم تمامًا مع نقيق الضفادع.

واصلت السير حتى وجدت منعطفًا حيث كانت الأشجار تسمح لي برؤية النهر في الأسفل، أبيض. في ظلمة الحديقة الغريبة شعرت وكأنني في ملاذ، وأنا أراقب تدفق النهر. تحت قدمي طبقة كثيفة من الأوراق، وأسفل منها الأرض الرطبة، التي تفوح منها رائحة التخمير الصحية التي رغم قربها الشديد من العفن، تحمل حياة. استندت إلى شجرة، أنظر إلى مجرى النهر الذي كان مثل النهار. دون تفكير، تجولت يدي على خط الشجرة النحيف، الممتلئ والدقيق، وعلى دفء لحاء الشجرة الخشنة.. الضفادع، وصوت الجنادب المتواصل، والنهر ويداي اللتان تتلمسان الشجرة. كلها طرق تتقاطع فيها دماء الآخرين ودمائي، والمشتركة هنا، في هذه اللحظة، على هذا الشاطئ المظلم.

كانت الخطوات على الأوراق المتساقطة، والهمسات، والضحكات المكتومة، كلها طبيعية، لكنني شعرت بالدهشة وابتعدت مسرعة. كان ذلك غير مجد، فقد تعثرت وسقطت على وجهي مع الظلين الأسودين اللذين كانا يلتصقان بجدار واهتزاز جسديهما برفق في عناق متشنج. فجأة توقفا عن الكلام والضحك، ودخلا في الصمت.

لم أتمكن من منع نفسي من إحداث ضجيج، وعندما كنت أهرب خجلاً وسرعة، سمعت بوضوح صوت تويا اللزج وهي تقول:

- لا تقلق، إنها السيدة.

كانت خدايَّ يحترقان، وواصل ذلك الصوت ملاحقتي في أحلامي تلك الليلة، وسط أحلام غريبة وثقيلة.

كانت الأيام تتشابه مع بعضها البعض؛ كانت من الخارج متشابهة، لكن كان بالإمكان الشعور باننا نغوص خطوة خطوة في الصيف..

في تلك الليلة كان الهواء أكثر ثقلًا وبشكل مختلف تمامًا عن كل ما عرفت حتى ذلك الحين. الآن، في الذاكرة، أعود لاستنشاقه بعمق.

لم يكن لدي القوة للخروج في نزهة، ولا حتى لارتداء قميص النوم؛ بقيت عارية على السرير، أنظر من النافذة إلى نقطة ثابتة في السماء، ربما نجم بين الأغصان. لم أكن أتذمر، فقط كنت ملقاة هناك، تمامًا كحيوان مريض يتخلى عن الطبيعة. لم أفكر، وكان من الممكن أن أقول تقريبًا أنني لم أشعر بشيء. الحقيقة الوحيدة كانت أن جسدي كان ثقيلًا بطريقة رهيبة؛ لا، ما كان يحدث هو ببساطة أنني لم أستطع التحرك، رغم أنني لا أعرف السبب. ومع ذلك، كان ذلك هو كل شيء: بقيت بلا حراك لساعات، دون أى تفكير، تمامًا كما لو كنت أطفو في البحر تحت ذلك السماء الصافية. لكنني لم أخف. لم يصلني شيء؛ الأصوات، الظلال، الشائعات، كل شيء كان بعيدًا، والشيء الوحيد الذي ظل موجودًا هو وزني على الأرض أو على الماء؛ كان هذا هو ما كان يركز كل شيء في تلك الليلة.

أعتقد أنني بالكاد كنت أتنفس، على الأقل لا أتذكر ذلك؛ لم يكن لدي حاجة لذلك أيضًا. لا يمكن وصف التواجد بهذا الشكل لأنه لا يكاد يحدث، ولا يمكن قياسه بالزمن لأنه ينتمي إلى عمق آخر.

أتذكر أنني سمعت عندما دخل الفتيان، أغلقا الباب بمفتاح، وهمسا وتوجها إلى غرفتهما. سمعت خطواتهما بوضوح، لكنني لم أتحرك حتى حينها. كان ذلك نوعًا من الفخ الحلو، ذلك الثقل الغريب..

عندما سُمِعَ الصوت الخفيف، توترت كل حواسي، تجمدت كما لو أن ذلك كان ما كنت أنتظره طوال هذا الوقت الذي لا نهاية له. لمسة ورجفة، الاهتزاز الذي تتركه كلمة في الهواء، دون أن ينطق أحد بكلمة، فنهضت فجأة. في الخارج، في الردهة، كان شخص ما يتنفس، لم يكن من الممكن سماعه، لكنه كان هناك، وصدره المتسارع كان يرتفع وينخفض بنفس الإيقاع الذي كان ينخفض به صدري: هذا جعلنا متساويين، قَصّر أية مسافة. وأنا واقفة بجانب السرير رفعت ذراعيّ المتلهفتين وأغلقت عينيّ. الآن كنت أعرف من كان في الجهة الأخرى من الباب. لم أتحرك لفتح الباب؛ عندما وضعت يدي على المقبض، لم أكن قد خطوت خطوة واحدة. ولم أتحرك نحوه أيضًا، ببساطة التقينا، من الجهة الأخرى للباب. في الظلام كان من المستحيل رؤيته، لكن لم يكن هناك حاجة لذلك، كنت أشعر ببشرته قريبة جدًا من بشرتي. بقينا وجهاً لوجه، كأعميين يحاولان أن يتأملا في عيني بعضهما البعض. ثم وضع يديه على ظهري وارتعش. ببطء جذبني نحوه ولفني في قلقه الكبير المكبوت. بدأ يقبلني، أولاً بالكاد، كما لو كان مشغولاً، ثم أصبحت قبله واحدة. احتضنته بكل قوتي، وعندها شعرتُ ضد ذراعيّ وفي يديّ بُرقات جانبيه، ارتجاف ظهره. في وسط تلك القبلة الوحيدة في وحدتي، ذلك الدوار الناعم، بدأت أصابعي تلمس جسده كما لو كان شجرة، وكان ذلك الجسد الشاب يبدو لي نهرًا يتدفق بنفس السرية تحت الشمس الذهبية وفي عتمة الليل. ونطقت بالاسم المقدس.

***

غادر خوليو منزلنا سريعًا، ومن المؤكد أنه كان يكرهني، على الأقل هذا ما أتمنى. الإهانة التي شعر بها نتيجة قبوله في مكان شخص آخر، والرعب الذي أحس به عندما اكتشف من هو ذلك الشخص الآخر بداخلي، جعلاه يرفضني بعنف عند سماعه للاسم، ويضربني بقبضتيه في الظلام بينما كنت أسمع شهقاته. لكن في الأيام التي تلت ذلك، رفض أن يلتقي بعينيّ، وبدت ملامح الانكسار واضحة عليه لدرجة أنه كان يخجل من ذاته. في اليوم الذي سبق رحيله، تحدثت معه لأول مرة على انفراد بعد تلك الليلة التي شهدت القبلة، وشرحت له كل شيء بأقصى وضوح استطعت. أخبرته بأنني كنت جاهلة تمامًا بما حدث لي، لكنني لا أعتقد أن جهلي يعفيني من المسؤولية.

- – كانت علاقتنا كذبة، لأنه حتى لو كانت قد حدثت، لكنا انفصلنا. ومع ذلك، في وسط المعاناة والفراغ، أشعر بفرح كبير: يسرني أن أكون أنا المخطئة، وأن تكون أنت أيضًا كذلك. يسرني أن تدفع ثمن براءة ابني، رغم أن ذلك غير عادل.

بعد ذلك، أرسلت رومان للدراسة في المكسيك وبقيت وحدي.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: إينيس أريدوندو/ Inés Arredondo (المكسيك: إينس كاميلو أريدوندو (20 مارس 1928 – 2 نوفمبر 1989) كانت كاتبة مكسيكية. في عام 1947، التحقت بقسم الفلسفة في الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك. في عام 1958، تزوجت من الكاتب توماس سيغوفيا. فازت بجائزة خافيير فياوروثيا في عام 1979 عن روايتها "ريو سوبيترانو". ولدت إينيس كاميلو أريدوندو في كوليكان، سيناوا، لعائلة من الطبقة المتوسطة التي أصبحت فقيرة فيما بعد؛ كان والدها، ماريو كاميلو فيغا، طبيبًا ليبراليًا، وكانت أريدوندو أكبر أبناء العائلة، التي تضم تسعة أطفال. قضت جزءًا كبيرًا من طفولتها في مزرعة السكر إلدورادو حيث كان يعمل جدها من جهة والدتها، فرانسيسكو أريدوندو. بين عامي 1936 و 1944 درست في كلية مونتفرانت في كوليكان، وهي مدرسة تديرها راهبات إسبانيات. من 1945 إلى 1946 درست في كلية أكويلس سيردان في غوادالاخارا.

في عام 1947 التحقت بالجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك في مكسيكو سيتي لدراسة الفلسفة. ومع ذلك، تعرضت لأزمة روحية نتيجة قراءة فريدريش نيتشه وسورين كيركيجارد، بسبب البيئة المشككة والإلحادية التي كانت تحيط بها. أصبحت ميالة إلى الانتحار، ونصحها طبيبها بتغيير مجال دراستها. لذا، في عام 1948 بدأت دراسة الأدب الإسباني. أنهت دراستها في عام 1950 مع أطروحة عن "الأفكار والمشاعر السياسية والاجتماعية في المسرح المكسيكي 1900–1950". بين عامي 1950 و 1952 درست الدراما، وفي عام 1953 درست دورة في علوم المكتبات. خلال دراستها، تعرفت على العديد من الأشخاص الذين تم نفيهم خلال الحرب الأهلية الإسبانية. كان الجمهوريون بالنسبة لها معارضين قويين للتيارات الوطنية السائدة في المكسيك في ذلك الوقت. خلال هذه الفترة، اكتشفت أيضًا الوجودية الفرنسية، والسريالية، وجيل 27، وأدب خوان رولفو و خوان خوسيه أريولا. عاشت مع زملائها في الدراسة، مثل روزاريو كاستيلانوس، وخايمي سابينيس، وروبن بونيفاز نونو، وكان معلميها يشملون خوليو توري، و فرانسيسكو مونتيردي، و كارلوس بيلشير. في عام 1958، تزوجت من الكاتب توماس سيغوفيا، الذي كانت تشارك معه العديد من الاهتمامات. بعد ولادة ابنتهما الأولى، إينيس، توفي ابنهما الثاني، خوسيه، عند ولادته، مما أدى إلى أزمة روحية جديدة.

بين عامي 1952 و 1955 عملت في المكتبة الوطنية؛ ثم شغلت منصب إميليو كارباليدو في كلية الفنون الجميلة للمسرح. ساهمت في إعداد "معجم الأدب اللاتيني الأمريكي" الذي نشرته اليونسكو، ومن 1959 إلى 1961 قامت بتحرير "معجم التاريخ والمعلومات السيرة المكسيكية". كما كتبت لبرامج الإذاعة والتلفزيون وعملت كمترجمة. أدى عملها في الترجمة إلى فكرة أول عمل أصلي لها، "إل ممبريو" (التي نشرت عام 1957 في مجلة الجامعة). ومن تلك اللحظة، لم تتوقف عن الكتابة.

أنجبت طفلين آخرين، آنا و فرانسيسكو سيجوفيا، وعملت مع زوجها في "مجلة الأدب المكسيكي"، رغم أن اسمها لم يظهر في المجلة حتى انفصلت عنه. قالت إيلينا بونياتوفسكا إنها كانت نوعًا من الملهمة، وكانت المرأة الوحيدة في جيلها، وأن هوبرتو باتيس و خوان جارسيا بونس كانا من "معجبيها" (بونياتوفسكا 1994: 2). تم نشر العديد من قصصها في المجلة. في عام 1961 حصلت على منحة دراسية من مركز الكتاب المكسيكيين، وفي عام 1962 حصلت على منحة أخرى من مؤسسة فيرفيلد في نيويورك.

على الرغم من مشاكلها الزوجية، قررت هي وزوجها البدء من جديد والانتقال إلى مونتيفيديو (أوروجواي)، حيث عملت في رابطة التجارة الحرة لأمريكا اللاتينية (LAFTA). ومع ذلك، في عام 1962 انفصلا، وعادت إينيس إلى المكسيك. أصبح طلاقهما رسميًا في عام 1965. كأم مطلقة، تولت إينيس العديد من المناصب لدعم أطفالها:

 

بقلم: مارك هاليداي

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

سلات ذات شـِباك

في جنوب فيلادلفيا سلات كرة السلة

في الملاعب والساحات العامة لم يكن فيها شباك،

لا توجد على الحلقات—كانت قد سرقت

او سقطت عنها بسبب قيام المراهقين القافزين عليها بتمزيقها.

حين كان ابني صبيا كان الفرق مهما

لأنه كان يحب كرة السلة، يحب فريق السيكسرز،

يحب رمي الكرات على السلة فيتكون شعور بالرضا الجميل

حين تخترق رمية جيدة الشبكة— كان يقول: "سويش"—"لا شيء عدا الشبكة"—

لذا حين اتجول في المدينة كنت الاحظ دائما

اين توجد سلات عليها شباك

كي نتمكن انا ونيك ان نرمي الكرة فيها.

*

كان الفرق مهما. ينبغي للحياة ان تكون طريقة معينة

ولكن غالبا لا تصبح الطريقة الصحيحة متوفرة---

تختفي الشباك—على المرء ان يكون متيقظا

ليجد ساحات لعب تصدر فيها رمية مثالية فعلا صوت "سويش".

للحياة خيباتها ولكنك لا تريد ابنك ان يشعر ان الحياة

دائما او غالبا ما تكون مخيبة

او ان فريق السيكسرز في التلفاز يختلف كليا عن حياته الحقيقية على نحو عديم المعنى—

*

لأنه بحاجة الى ان يؤمن

بأن الحياة تسمح بلحظات سمو—سويش—

*

لذلك فحتى في الوقت الحالي حين اوشك نيك ان يبلغ الأربعين

اينما اجد شباكا جيدة ومحكمة على الحلقات

اسجل ملاحظة ذهنية لنصف ثانية:

يمكن ان نلعب انا ونيك هنا.

الفرق مهم.

***

.......................

* مارك هاليداي: شاعر وناقد واستاذ ادب اميركي من مواليد عام 1949. تلقى تعليمه في جامعتي براون وبرانديز وعمل بالتدريس في عدة جامعات. من عناوين مجموعاته الشعرية: "نجم صغير" 1987؛ "احتفظ بهذا الى الأبد" 2008؛ و"الخاسرون يواصلون الحلم" 2018.

 

بقلم: جوزي ساراماجو

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

لم يسأل الناس عن عمري؟

ما أهمية ذلك.

لي السنّ التي أريد وأحسّ!

السنّ التي أقدر فيها أن أصرخ دون خشية بما أفكّر فيه،

والتي أستطيع فيها أن أفعل ما أرغب،

دون خوف من الفشل أو من المجهول.

لي تجارب سنين عشتها

وقّوة التيقّن في رغباتي.

لا يهمّ كم من السنين أحصي!

أرفض الانشغال بها.

يقول بعضهم بانّي شيخ،

وآخرون بأني في عنفوان حياتي.

ولكن، ليس العمر رقما ولا ما يعتقده الآخرون،

بل هو ما يشعر به قلبي

وما يأمر به عقلي،

لي من السنين ما يكفي

لأفصح عن أفكاري،

لتحقيق رغباتي،

لتقويم طريقي والاستمتاع بانتصاراتي.

لا يمكن أن يقال لي:

مازلت شابّا، لن تصل إلى ما تريد..."

أو أيضا،

"أنت كبير السنّ، بات الأمر مستحيلا..."

لي السنّ التي أتأمل فيها الأشياء بهدوء،

لكن ما نحتفظ فيها باندفاع نحو الكِبر.

السنّ التي تبدأ فيها الأحلام ترتسم بطرف الأصابع،

وحيث الأوهام تتحوّل إلى أمل.

لي السنّ التي يمكن أن يكون فيها الحبّ شعله مجنونة،

راغبة أن تفنى في لهيب العاطفة الشديدة،

أو ميناء سلام،

مثل غروب شمس على الشاطئ.

لم يسألون عن سنّي؟

ليس لي من حاجة قطّ لأحصيه.

أحلامي تحقّقت، وانتصاراتي اكتملت،

والدموع التي سكبتها على أوهامي المحطّمة

أهمّ بكثير من مجرّد عدد.

لا يهمّ أن يكون لي خمسون أو ستون عاما أو أكثر؟

ما يهمّ هو السنّ التي أحس به.

لي من السنين ما يلزم حتى أحيا حرّا دون خوف،

حتى أتقدّم في طريقي باطمئنان

إذ أحمل في نفسي ما حصّلت من تجارب

وقوّة رغباتي.

لم يسأل الناس عن عمري؟

من ذا الذي قد يهمّه؟

لي من السنّ ما يكفي حتى لا أخشى شيئا.

حتى أفعل في النهاية ما أريد وما أشعر به.

لا تهمّ السنين التي مرّت أو تلك التي ستأتي،

بما أنّي تعلّمت بمرور الوقت،

أنّ أحب الأساسيّ

وأن لا أحتفظ إلاّ بالأفضل.

***

جوزي ساراماجو - كاتب برتغالي

............

José de Sousa Saramago est un écrivain et journaliste portugais né le 16 novembre 1922 à Azinhaga (Portugal) et mort le 18 juin 2010 à Lanzarote.

....................

Poème sur la Vieillesse

José Saramago

Que me demande-t-on mon âge ?

Qu’importe cela !

J’ai l’âge que je veux et que je ressens !

L’âge où je peux crier sans crainte ce que je pense,

où je peux faire ce que je désire,

sans peur de l’échec ou de l’inconnu.

J’ai l’expérience des années vécues

et la force de la conviction dans mes désirs.

Qu’importe combien d’années je compte !

Je refuse de m’en soucier.

Certains disent que je suis vieux,

d’autres que je suis dans l’apogée de ma vie.

Mais l’âge n’est ni un chiffre, ni ce que les autres croient,

c’est ce que mon cœur ressent

et ce que ma raison commande.

J’ai les années nécessaires

pour proclamer mes pensées,

pour réaliser mes envies,

pour reconnaître mes erreurs passées,

corriger ma route et savourer mes victoires.

On ne peut plus me dire :

"Tu es trop jeune, tu n’y arriveras pas…"

ou encore,

"Tu es trop vieux, c’est désormais impossible…"

J’ai l’âge où l’on contemple les choses avec calme,

mais où l’on conserve l’élan de grandir encore.

L’âge où les rêves commencent à se dessiner du bout des doigts,

où les illusions se transforment en espoir.

J’ai l’âge où l’amour

peut être une flamme folle,

désireuse de se consumer dans l’incendie d’une passion intense,

ou bien un havre de paix,

comme un coucher de soleil sur une plage.

Que me demande-t-on mon âge ?

Je n’ai nul besoin de le chiffrer.

Mes rêves réalisés, mes triomphes conquis,

et les larmes versées sur mes illusions brisées

valent bien plus qu’un simple nombre.

Qu’importe si j’ai cinquante, soixante ans ou davantage ?

Ce qui compte, c’est l’âge que je ressens.

J’ai les années qu’il faut pour vivre libre et sans peur,

pour avancer sur mon chemin avec sérénité,

car je porte en moi l’expérience acquise

et la force de mes désirs.

Que me demande-t-on mon âge ?

À qui cela peut-il bien importer ?

J’ai les années nécessaires pour ne plus redouter,

et pour enfin faire ce que je veux et ce que je ressens.

Qu’importe les années écoulées ou celles qui viendront,

puisque, avec le temps,

j’ai appris à aimer l’essentiel

et à ne garder que le meilleur.

Le monde littéraire

بقلم: أندريس مونتيرو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

اجتاحني فجأة شعور بالانفصال عن الواقع لا أستطيع وصفه. لقد حدث ذلك، ويجب أن أقول، بينما كنت في الحمام بعد الغداء. سمعت فرنانديز يدخل الحمام وهو يصفر لحنًا مبهجًا، ثم سمعته يغلق الباب، وصوت سحاب سرواله وهو ينزل، والسائل يرتد على المِرَحاض، ثم سمعته يرفع السحاب، وواصل فرنانديز في الصفير بينما يغسل يديه ويمسحهما، ثم فتح الباب وأغلقه مرة أخرى.

في تلك اللحظة بالتحديد، عندما اختفى صفير فرنانديز من مسمعي، شعرت بالضياع وأدركت أن كل شيء لا يمكن إصلاحه. نظرت إلى سروالي، الذي سقط متجعدا فوق حذائي، وإلى فخذي البيضاوين، التي كانت عليهما دائرتان حمراوان حيث كانت مرفقاي ترتاحان. نظرت إلى ربطة عنقي، التي ألقيتها على أحد كتفي لتجنب اتساخها. بدا كل شيء مزيفا أو على خطأ: المكتب، والتقارير، والغداء، والزميلة الجديدة، والحمام، والزران الأخيران من قميصي مفتوحان، وفرنانديز وصفيره المبهج.

هذا ليس له أي أهمية بالنسبة للأحداث التي سأرويها الآن. ومع ذلك، فإنه يفسر لماذا عرضت نفسي للذهاب لاستقبال شريك أجنبي من المطار، وهي مهمة متكررة كنا نرفضها جميعًا بأعذار واهية. كان يجب أن نكون في المطار في الساعة السادسة مساءً. كان الرئيس يوفر السيارة ويدفع أجرة التاكسي للعودة بعد أن نوصِل الشريك إلى الفندق وإعادة السيارة إلى منزله. عندما عرضت نفسي، تلقيت ابتسامة من رئيسي أيضًا.

لكن بمجرد أن دخلت الطريق السريع، أخذت أول مخرج نحو الجنوب وواصلت السير حتى اشتعلت إشارة الوقود، وذلك حوالي منتصف الليل. لم أرد على مكالمات رئيسي في أي لحظة. رأيت محطة بنزين على الطريق، ولكنني مررت بها دون توقف، مدفوعًا بشيء قد يكون الجنون أو، الأكثر احتمالًا، اليقين المؤلم بأن حياتي قد وصلت إلى قاعها منذ سنوات ولم يعد لدي ما أخسره، ولا حتى ما أكسبه. تلاشت محطة البنزين ورائي. دون تفكير، تركت الطريق واتجهت إلى طريق معبد نحو الساحل، الذي تحول بسرعة إلى طريق ترابي، ثم أصبح مجرد درب ضيق، حيث توقفت السيارة أخيرًا.

شعرت بالرضا، لكن مرت ثوانٍ قليلة قبل أن أدرك مدى غبائي.

خرجت من السيارة رغم المطر. هل كانت هناك محطة بنزين في تلك المناطق الملعونة؟ المشي عائدًا إلى المحطة الموجودة على الطريق قد يستغرق ساعتين، إن لم تأخذني الكلاب أولًا. في غياب أي خطة، مشيت في الاتجاه المعاكس، نحو الساحل، دون أن أقلق بشأن غلق السيارة. كما أنني لم أتعب نفسي بإبعادها لتوفير الطريق لسيارة أخرى ضائعة وغير محتملة.

لم يكن يُسمع شيء سوى المطر وأصوات خطواتي، وأحيانًا غناء طائر لم يعثر على عشه. كنت أشعر بحاجة ملحة لأن أكون في مكان آخر، لأن يكون لي ماضٍ وآفاق مختلفة، أن أكون شخصًا آخر، كائنًا مختلفًا. فوق كل شيء، لم أكن أرغب في الاستمرار في البلل.

في لحظة توقفت واعتقدت أنني سمعت خطوات. بقيت في حالة تأهب لثانية. بدا لي أنني رأيت ظلاً يتجه نحوي، لكن كان من المستحيل معرفة ذلك يقينًا في وسط الظلام والعاصفة. تذكرت قصص الشيطان التي كانت ترويها جدتي من جهة آل إليزالدي. كانت قد عاشت في شبابها في مزرعة في الجنوب، أعتقد أن اسمها كان "لاس نالكاس"، وكانت تمضي الأمسيات الطويلة تراقب المطر، سئمت من كونها ابنة صاحب الأرض. بعد سنوات، باعت حصتها التي ورثتها إلى أحد إخوتها وانتقلت إلى العاصمة، لكن المطر رافقها حتى وفاتها. كان والدي، صهرها، يقول همسًا إن "الصليب الجنوبي" كان محفورًا في روحها. عند التفكير في تلك القصص التي سمعتها وأنا طفل، اجتاحني قشعريرة، لكنني هدأت بفكرة أنه إذا ظهر لي الشيطان على الأقل يمكنني أن أبيع له روحي. كانت جدتي أيضًا تقول إن الليل يحمل الكثير من الأصوات وأنه من الأفضل التعود عليها. طردت الذكريات كما يطرد الإنسان ذبابة، لأنه بالطبع لم يكن هناك أحد ، ناهيك عن الشيطان. استأنفت السير.

بعد أن مشيت نحو ساعة تقريبًا في ذلك الطريق المظلم المليء بالحجارة والطين، ظهرت أولى المنازل. أردت أن أنظر إلى الساعة في هاتفي المحمول، لكنني لاحظت أنني قد نسيته في السيارة. كانت الأمطار تتساقط بشكل كبير، لكن لا يبدو أنني سأتمكن من العثور على مكان للإقامة بين تلك المنازل المتناثرة، التي بدت وكأنها قد وضعت عن طريق الصدفة في صحراء خضراء مظلمة، صحراء من الطين. تجولت في القرية كما يتجول الكلب. في النهاية، فتحت ذراعي، ضربت فخذي وبدأت السير عائدًا، بفكرة واحدة فقط: أن أنام في السيارة وأترك المشاكل حتى تهدأ العاصفة.

ثم اكتشفت منزلًا طويلًا تنبعث من نوافذه بعض الأضواء الخافتة، منزلًا مهدمًا قليلاً لكنه قائم على أرض واسعة، منعزل. توجهت نحوه. كنت أشعر بالضعف بسبب الجوع والبرد، وأردت أن أتخيل عائلة من الجنوب تنتهي من العشاء وتدعو لي لإنهاء ما تبقى من الطعام. فكرت حتى في امرأة جميلة، ربما تكون الابنة، التي ستعرض عليّ سريرها تلك الليلة. تخيلت مدفأة مشتعلة، واحتمال تجفيف ملابسي. لكن كلما اقتربت، كان عليّ أن أستبدل خيالاتي، إذ كانت تُسمع أصوات من داخل المنزل وعزف قيتار. ربما كان هناك احتفال، أو عيد ميلاد. كان هناك بوابة بدائية مربوطة بسلك على عمود خشبي؛ نوع من السياج للحيوانات. بدا من غير المحتمل أن يكون هناك احتفال في يوم ثلاثاء، خاصة مع هذا البرد وفي وقت متأخر من الليل. تقدمت بحذر، خشيت أن يخرج الكلاب. وعندما وصلت إلى المنزل، طرقت الباب ثلاث مرات. فتحت لي فورًا امرأة في منتصف العمر، وكان لديها هالات سوداء تحت عينيها. بدت شاحبة من الألم أو التعب أو ربما من كليهما. كنت سأعتذر عن الوقت المتأخر وأشرح سبب وجودي، لكن لم يكن ذلك ضروريًا: فقد عانقتني بقوة وبصدق، ورغم المفاجأة، شعرت أنه يجب عليّ أن أبادلها العناق. شكرتني على هذا الجواب. فوق كتفها، لاحظت أن هناك المزيد من الناس داخل المنزل، كان عددهم اثني عشر شخصًا كما تمكنت من التأكد بسرعة. كانت الإضاءة خافتة، مخفية بستة شموع، ثلاث على كل جانب من صندوق خشبي مستطيل الشكل: تابوت.

قالت المرأة مرحبة، ودعتني للدخول:

- كنا نظن أنك لم تلاحظ.

دخلت المنزل منتظرًا اللحظة المناسبة لتوضيح سبب قدومي وسؤالهم عن أقرب محطة بنزين. لكن، بمجرد دخولي، نهض الجميع لتحيتي واحدًا تلو الآخر، كما لو كنت شخصًا مهمًا أو كما لو أن جميع الغرباء يُعتبرون أشخاصًا مهمين في ذلك المكان المنعزل. كان معظمهم يبكي. ولا شك أن عيوني المرهقة من السفر والتعب قد بدت متناسبة مع الموقف.

قالت المرأة التي فتحت لي الباب:

- تفضل بالجلوس، من فضلك. هل أنت جائع؟

أومأت برأسي. فكرت أنه يمكنني شرح سبب وجودي بعد تناول شيء. غادرت المرأة غرفة المعيشة الصغيرة وذهبت إلى ما ظننت أنه المطبخ. كما كنت أتخيل، كانت المدفأة مشتعلة وكان الجو دافئًا بشكل مريح.

قال لي رجل بدا لي أنه زوج المرأة:

- أعطني معطفك وحذاءك، الجو بارد جدًا.

سلمته معطفي وحذائي وأنا أحاول الابتسام. وضع الرجل الأشياء بجانب النار ثم أعطاني زوجًا من الجوارب الصوفية. قال:

- ارتدِ هاتين إن أردت، وإلا ستشعر بالخدر.

لبستهما في الحال. كانت الإحساس مريحًا. جلست على كرسي، وكأني واحدا منهم، وكان ذلك يبدو مقلقًا لهم لأن العازف على الجيتار لم يعرف إذا كان يجب أن يواصل العزف أم يصمت تمامًا. لم يكن ذلك يهمني بالطبع، وفجأة شعرت بتعب شديد حتى فكرت أنه ربما يمكنني النوم هناك في تلك اللحظة. في النهاية، قرر العازف الاستمرار في العزف. كانت اللحن حزينة. وكان الآخرون يرافقونه بأعينهم، يحدقون في التابوت. تغلب الفضول على النعاس، فنهضت لأقترب من الصندوق. كان مغلقًا.

قال لي رجل شاب ذو شارب، وفتح الغطاء العلوي للصندوق الخشبي:

- سأفتح لك الآن. كنا ننتظر وصول الفتاة التي كانت ستعدّل وجهها قليلاً، لكن يبدو أنها ستأتي غدًا.

كانت هناك شابة جميلة في العشرينات من عمرها. كانت عيناها مغلقتين وفمها مفتوح قليلاً. بدا لي أنها كانت بحاجة إلى مكياج، ربما بعض القطن في فمها كما رأيت في بعض الحالات. كان شعرها طويلًا ومستقيمًا، ويبدو أنه تم تمشيطه مؤخرًا. كانت بشرتها بيضاء. شعرت أنها ستكون باردة. قال الرجل ذو الشارب:

- لا نعرف في أي وقت حدث ذلك. لقد وجدناها هذا المساء.

قلت لنفسي " يا إلهي! شابة في هذا العمر! ثم سألت:

- هل كانت مريضة؟

نظر إليّ الرجل ذو الشارب. وعندما تحدث، كانت كلماته بالكاد مسموعة.

- ألم تعلم؟ كان قتلًا.

- مستحيل.

همست، لكنني فكرت بعد ذلك: نعم، ربما يكون الأمر كذلك؛ فما الذي أعرفه عن هذا كله؟

- نعم. كان قتلًا جبانًا. اثنا عشر طعنة، وكأن ذلك كان ضروريًا.

قال آخر كلماته وهو ينظر إليّ بنظرة ثابتة، وكأنه أراد قول شيء آخر لكن الظروف حالت دون ذلك. أومأت برأسي وعُدت إلى مقعدي. أكمل العزف على الجيتار والغناء البطيء المتعب حتى أرهقني تمامًا. أعتقد أنني بدأت في الحلم. عثر أحدهم على قدمي مما اضطرني لفتح عيني. لم أرد أن أبدو وقحًا، فتوجهت نحو المطبخ حيث كانت المرأة التي فتحت لي الباب. كنت أفكر في تجاهل الطعام وكل شيء آخر؛ الجو هنا لم يكن مناسبًا لطلب المبيت. كان يكفيني أن يدلوني على مكان يمكنني فيه الحصول على وقود.

كانت المرأة وحدها، تحدق في القدر الذي كان على موقد الحطب وكأن عيونها هي ما يجعل القدر يغلي. تعرفت علي في الظلام. قالت:

—الأكل صار جاهزًا تقريبًا.

—لا داعي للقلق...

بدأت أقول، لكن المرأة انفجرت بالبكاء المكبوت واندفعت إلى ذراعي. لم أستطع إلا أن أمسك بها.

بحثت في ذهني عن جملة من العبارات التي تقال في مثل هذه المواقف، لكن لم أستطع أن أجد شيئًا. لم أكن أستطيع التأثر بهذا الدراما العائلية الغريبة. قررت أنني سأغادر هنا فورًا.

- يجب أن تعرف من فعل ذلك.

قالت المرأة ذلك ، وهي ما زالت مستندة إلى صدري:

لم أكن متأكدًا إذا كنت قد فهمتها بشكل جيد. أضافت:

- اقسم لي أنك ستكتشف الأمر.

- سيدتي ، أعتقد أن هناك سوء فهم.

- بالطبع هناك سوء فهم! لماذا يقتلون إيلينا؟ لديك الوسائل لمعرفة ذلك. يجب أن يعرف أحد ما.

لم يكن الوقت مناسبًا لشرح موقفي بعد. ليس أمام أم تبكي على موت ابنتها. بدا لي أن السؤال عن الوقود سيكون وقحًا. كل ما استطعت قوله:

- أنا لا أعرف شيئًا، سيدتي...أنا آسف جدًا لما حدث لإيلينا.

سألت الأم وكأنها لم تسمعني:

- لماذا لم تأتِ من قبل؟

- لقد وصلت للتو، سيدتي.

- بالطبع، نعم، نعلم أنك رجل مشغول. لم أوجه لك اللوم. لكن لا أستطيع أن أوقف تفكيري: لو كنت مع إيلينا، لكان بإمكانك الدفاع عنها.

- أظن، سيدتي، أنك تخلطين بيني وبين شخص آخر.

قالت المرأة وهي تمسح وجهها بمئزر المطبخ:

- قد يكون ذلك. كنا نعرف والدك جيدًا، وخاصةً زوجي. لم أرك منذ كنت صغيرًا. ومع ذلك، أشكرك لأنك وصلت اليوم. وجودك هنا شرف لنا. تفضل، خذ بعض الطعام.

وضعت طبقًا من العدس المغلي على الطاولة ودعتني للجلوس. نسيت كل شيء: الارتباك، السيارة، الوقود، وضرورة مغادرة المكان. أكلت على عجل، فأحرقت لسانى. طلبت المزيد بلا خجل.

- كنت أظن أنك معتاد على نوع آخر من الطعام.

قالت ذلك ، دون أن تتوقف عن مراقبتي وأنا ألتهم العدس.

-  على الإطلاق. هذا لذيذ جدًا. وأعترف أنني كنت جائعًا جدًا. آسف لأنني ظهرت هنا وسط العزاء، فقد تهت عن الطريق.

- كيف وصلت إلى هنا؟

-  مشيًا على الأقدام، لهذا كنت مبتلًا.

- وأين حصانك؟

كانت فمي مليئًا بالعدس، فرفعت حاجبيّ لأشير إلى أنني لا أعرف عن أي شيء تتحدث.

أضافت:

- إذن، ما قاله جويل صحيح. أنهم رأوا حصانك في هذه المنطقة.

- حصاني؟

أومأت برأسها ببطء. قبل أن أتمكن من سؤالها عن البنزين، غادرت المطبخ وتركتني بمفردي. أكملت طعامي بهدوء ودون استعجال. ثم وضعت الصحون فوق كومة من الأواني المتسخة وعُدت إلى الغرفة الرئيسية. توجهت مباشرة نحو النار، ثم تحسست معطفى وحذائي. لم يكونا جافين تمامًا، لكنني تمكنت من ارتدائهما. هذا ما فعلته. بدا وكأن لا أحد يولي لي اهتمامًا، رغم أنني لاحظت أنهم في الواقع لم يرفعوا أعينهم عني. نهضت من مكاني وألقيت نظرة أخيرة على إلينّا. بدا لي أنها أكثر جمالًا الآن، وأدركت أن لها صدرًا كبيرًا. لمت نفسي على الاهتمام بتفاصيل كهذه أمام جثة، لكنني لم أستطع منع نفسي من تخيلها حية، تمشي عبر الحقول الجنوبية، كما لو كنت أعرفها.

كنت أشعر بشيء غريب. في النهاية، ارتديت معطفي، فقد أصبح جافًا تقريبًا.

-  هل تخرج للتدخين؟

كان هو الشاب ذو الشارب. كنت سأجيب بالنفي وأقول إني سأغادر، لكن فجأة شعرت برغبة شديدة في التدخين.

خرجنا معًا. كان المطر قد توقف، لكن البرد كان يخنق الأنفاس. لطالما كنت أفضل التدخين في البرد. عرض عليّ سيجارة من ماركة كنت أظن أنها اختفت.قال الشاب مبتسمًا.

- لا أعتقد أنها جيدة مثل تلك التي تدخنها أنت.

- في الواقع، لم أدخن منذ سنوات.

نظر إليّ الشاب بدهشة ثم ضحك.

- يقال الكثير عنك. لا أصدق أنني ألتقي بك الآن. استطعت أن أتعامل مع والدك في وقت ما.

- أنا لست الشخص الذي تعتقدونه، يا صديقي.

حاولت أن أوضح ذلك لكن لا أحد يستمع لي.

- ربما، القصص تنمو وتكبر وفي النهاية لا نعرف الحقيقة أبدًا. عذرًا، لم أقدم نفسي. أنا جويل فيريرا، في خدمتكم.

ثم مد يده إليّ وهو يقولا:

- أنا صديق للعائلة. نشأت مع إلينّا تقريبًا.

- تشرفت بلقائكم.

أشعلنا السجائر. فوجئت بعدم اختناقي، كما يحدث عادة بعد فترة طويلة من التوقف عن التدخين. كانت تلك اللحظة مريحة للغاية.

قال فيريرا، مشيرًا برأسه داخل المنزل:

- إنها مصيبة.

- هل قالت الشرطة شيئًا؟

ضحك فيريرا بمرارة، وكأنني قلت نكتة سيئة.

قال:

- ما يتم استبعاده هو الانتحار. السيد عليّو لديه أكثر من سلاح في المنزل، وإلينّا لم تكن لتفعل ذلك بنفسها باستخدام سكين، كما لو كانت حيوانًا.

صدمتني صورة إلينّا وهي تدفن السكين في جسدها.

- بالإضافة إلى ذلك، من يقتل نفسه قبل أن يتزوج؟ لا أحد.

قلت، محاولًا قول شيء:

- إلا إذا لم تكن ترغب في الزواج

نظر فيريرا إليّ بنظرة ثابتة.

- لماذا تقول ذلك؟

لا أرى سببًا آخر يجعل شخصًا على وشك الزواج ينتحر. ألم تكن تعلم إذا ما كانوا يضغطون عليها؟

- يجب أن يكون هذا من المفترض أن تعرفه أنت، سيدي.

- لماذا أنا؟

- ألا يجب أن يعرف ذلك العريس؟

لقد أدركت أن المحادثة كانت تتسلل إلى ما هو أبعد مما أستطيع التعامل معه. وكان هناك أيضًا شيء غامض في الطريقة التي نظر بها فيريرا إلي، وعندما جمعت الأسماء معًا أدركت أنه هو الذي قال إنه رأى حصاني في تلك الحقول. أنا لست مراقبًا جيدًا، لكنني فهمت على الفور أن هذا الشاب كان يحب إيلينا تمامًا وأنه يكره هذا الرجل الذي خلط بيني وبينه. وقفت إلى جانب ذلك الكائن الخيالي، وأخبرني شيء داخلي أنه يجب عليّ أيضًا أن أكره فيريرا، أو على الأقل ألا أثق به.

فقلت ذلك، فقط لتحطيمه. فقط لأنني أردت ذلك:

- أنت كنت تحبها.

أصيب فيريرا بالصدمة فعلاً. رمى السيجارة بعيدًا دون أن يهتم بإطفائها. قبل أن يدخل المنزل، وقال وهو يمسك قبعته بإحكام:

- كنا مثل الإخوة، سيدي.

بقيت في الخارج، وحيدًا. كانت الليلة تبدأ بالصفاء، وإذا مشيت بسرعة جيدة فلن أشعر كثيرًا بالبرد. رميت السيجارة نصف المدخنة بعيدًا، كما رأيت فيريرا يفعل، ومن دون أن ألتفت إلى البيت، نزلت الدرجين الخشبيين واتجهت نحو البوابة التي عبرتها قبل ساعة. لكن عندما رفعت سلك السياج، لاحظت أن محفظتي ومفاتيح السيارة مفقودة من جيبي: بلا شك سقطتا عندما وضع الرجل المعطف ليجف. عدت مسرعًا إلى المنزل وطرقت الباب. قال السيد عليرو عندما رآني:

- كنا نظن أنك قد ذهبت. لن ترغب في العودة في هذه الساعة، لقد أعددنا لك غرفة.

لم أزعج نفسي بشرح أنني سأرحل. عبرت الغرفة مباشرة نحو المدفأة، متعثرًا أكثر من مرة، وحاولت أن أبحث عن المفاتيح بأقدامي في الظلام.

قال لي دون عليرو من الباب الذي كان أمام المطبخ والذي كان يؤدي إلى ممر:

- من هنا يا سيد.

ترددت لثانية واحدة، ولكن في النهاية تغلب علي الفضول أو التعب وتبعته، متمسكًا بالجدران حتى لا أتعثر. تقدمنا بضعة أمتار. ثم أغلق دون عليريو الباب بعد أن عبرناه وهدأ ضجيج الصراخ تقريبًا تمامًا. وأخيرا أظهر لي الغرفة.

- هذه هي، غرفة إيلينا وأماندا. يمكنك أن تستلقي الآن إذا أردت. سأترك لك الشمعة.

نظرت إليه دون أن أفهم. وضع الرجل يده على كتفي.

- "النَّيْجرا" لم ترد أن تحذرني، لكنني متأكد أنها كانت تعلم. أنا محطم، يا بني

كنت على وشك أن أسأل من هي "النَّيْجرا" ، ما الذي يحدث بحق الجحيم في هذا البيت المجنون، لكن الرجل غادر قبل أن أتمكن من طرح سؤالي، وأغلق الباب برفق. كنت أنوي أن أفتح الباب وأصرخ خلفه من أجل مفاتيحي ومحفظتي، لكن التعب اللامتناهي أجبرني على الجلوس أولاً على أحد السريرين في الغرفة. كانت المرتبة صلبة، لكن وجود عدد لا يُصدق من البطانيات كان ينذر بنوم عميق وجميل. خلعْت معطفي واستلقيت، وأنا لا أزال مرتديًا ملابسي، فقط لكي أغلق عيني لثانية، حيث لم أكن قادرًا على التفكير بوضوح.

شعرت وكأن ثوانٍ قليلة قد مرت عندما فُتح الباب فجأة، وربما لم يكن قد مضى وقت طويل حقًا، لكن قد أكون نمت لفترة جيدة أيضًا. أشك في ذلك، لأنني لاحظت مدى البرودة عندما فتحت عيني.

جلست ورأيت امرأة تشبه إيلينا تمامًا في الباب، تحمل شمعة كان ضوءها يشوه وجهها. وعندما رأتني، بدا أنها كانت أكثر خوفًا مني.

- أنت هنا!

تلعثمت:

- أعتذر، سيدتي. عرض عليّ الدون عليريو هذه الغرفة. سأغادر الآن.

- لا تقلق، يمكنك النوم في سريري. سنتحدث غدًا.

توجهت للرحيل، لكنها بدت وكأنها أدركت شيئًا وقالت:

- لم تَخاطبني بـ 'سيدتي' من قبل.

- ماذا؟

سألَت، مخفضة صوتها:

- لماذا هذه الرسمية؟ لا أحد يمكنه سماعنا هنا.

بقيت صامتًا، منتظرًا.

- لم أَرَ حصانك في الخارج. كيف وصلت إلى هنا؟

- على الأقدام.

- إذن ما يُقال صحيح. لقد رأوا حصانك ضائعًا، دون فارسه. ألن ترى؟

"أرى ماذا؟

نظرت نحو الممر، ثم أغلقت الباب.همست:

- أمي تشك في شيء. لا أعتقد أنه يجب أن تبقى هنا.

- ليس لدي مكان أذهب إليه. لقد تركت....

- عليك أن تختبئ.

- سأرحل في الصباح، سيدتي، إذا كان الأمر مناسبًا لك.

- لماذا تتحدث إليّ هكذا؟ هل بدأت تغير رأيك؟

- عن ماذا؟

اقتربت مني، مترددة.

- إذا كنت قد خدعتني، سأخبر بكل شيء وسيقتلك جول.

-لماذا يقتلني؟

- جول ليس غبيًا. هو يعرف كل شيء. حالما يثبت ذلك، سيقتلك.

- لن يقتلني أحد.

- أتمنى ذلك.

ثم اقتربت وطبعت قبلة على شفتي.

همست وهي ترفع يدي إلى قلبها، على صدرها الأيسر.

- هل تشعر؟

شعرت بحركة ملحة في منطقة خصري.أضافت:

- هل تشعر بنبضه؟

متحمسًا، أردت أن أواصل تقبيلها، لكنها ابتعدت.

- ليس الآن. عليك أن تذهب. كيف استطعت أن تضيع الحصان؟

- لم يكن لدي حصان.

- لا تكن سخيفًا، فقد رآك الجميع وأنت تركب فاوستو في وقت ما. سمعت أن فيرمين خرج للبحث عنه. ربما من الأفضل أن تبقى هنا. لكن نم في ملابسك، لأنهم إذا وجدوه، سيأتون لأخذك. سأراك عندما ينتهي كل شيء. وإذا تركت رسالة واحدة دون رد، سأفتح فمي وأدمرك.

قبلت شفتي مرة أخرى ثم غادرت. أردت أن ألاحقها وأجعلها تقضي تلك الليلة الباردة معي، لكنني شعرت بتغير مفاجئ في رأيي. كان هناك مزلاج على الباب، فقررت أن أغلقه دون أن أعرف بالضبط ما الذي كنت أخشاه.

نمت بعمق، بينما كنت أستمع إلى صوت الجيتار والأغاني الحزينة التي كانت تُسمع من بعيد، كأنها جزء من حلم.

استيقظت بعد ساعات قليلة على طرق خفيف على النافذة. كان الفجر قد بدأ ، وأخذ ضوء الصباح يدخل الغرفة شيئًا فشيئًا. وكان البرد قارسًا.

نظرت من خلال النافذة، وكان هناك رجل ذو لحية وقبعة من القش، يلوح لي بشكل عاجل. عرفت على الفور أنه فيرمين. نهضت وأشرت له أنني سأفتح المزلاج وأخرج من خلال الممر، لكن الطرق على الزجاج أصبح أكثر إلحاحًا. نظرت إليه، وكان يشير بيديه بشكل عاجل ألا أخرج من هذا الطريق. اقتربت من النافذة وفتحتها.

- ليس من هنا، يا سيدي! لن يتركوك تخرج.

- لماذا لا؟

- كيف كنت تفكر في النوم هنا؟ إنه فخ. فيريرا لن يتركك تذهب. إنه مسلح، وهذا الذي مع الجيتار أيضًا مسلح. حالما يحصلون على دليل، سيقتلونك.

- كيف أخرج إذن؟

- عبر النافذة بالطبع، لا يوجد طريقة أخرى. لقد جهزت فاوستو. لقد كان من الصعب جدًا أن أجدَه.

- إلى أين أنا ذاهب؟

- ارجع إلى الفندق على عجل.

- لا أعرف كيف أذهب إلى هناك."

- لكن فاوستو يعرف. وأنا خلفك مباشرة.

تسلقت النافذة بأفضل ما أستطيع، وشعرت فجأة بالذعر. شعرت أنني أُصدر الكثير من الضوضاء، لكن لم يخرج أحد من المنزل. كنا في الحديقة الخلفية.

- اصعد، فاوستو جاهز لك.

تسلقت على ظهر فاوستو وأمسكت باللجام. نظر فيرمين حوله.

قلت بهدوء:

لقد تركت معطفي في الغرفة.

- لقد انتهى الأمر الآن، لا يمكنك العودة لأخذه."

ثم نظر إلى قميصي وعبس.

- لا تزال هناك دماء على كمك، يا سيدي.

مذعورًا، أدركت أنه على حق. كان الدم الداكن يلطخ ذراعي. لففت كمّي بسرعة وأعطيت فاوستو ركلة قوية على خاصرته. ركب فيرمين حصانه وتبعني. اعتقدت أنني سمعت أصواتًا قادمة من المنزل، ربما بندقية تُحمّل.

أخطأت الطلقات الأولى هدفنا بمسافة كبيرة، وقد ضاعت بالفعل في الظلام، في صحراء خضراء، تلك الصحراء الطينية، ونحن نركض نحو مكان حيث لا يمكن أن تصلنا الشمس التي كانت تشرق ببطء وراءنا. على ظهر فاوستو، مع الرياح القارسة التي تلسع وجهي، شعرت برغبة لا تقاوم في التدخين.

(تمت)

***

....................

المؤلف: أندريس مونتيرو /Andrés Montero كاتب وحكواتي مقيم في سانتياجو، تشيلي. له تسعة كتب، إلى جانب رواية جديدة ستنشر في وقت لاحق من هذا العام. تم نشر كتبه في تشيلي والأرجنتين والمكسيك وإسبانيا وإيطاليا والدنمارك. بالإضافة إلى الكتابة، فهو داعم نشط للتقاليد الشفوية في سرد القصص في تشيلي، حيث كان أحد المؤسسين لشركة " La Matrioska" التي تضم حكواتيين محترفين، وهو مدير ومدير Casa Contada، مدرسة الأدب والحكي الشفوي.

 

بقلم: سارة برودي

ترجمة: صالح الرزوق

***

 تكتب ستايسي الآن رسائل إلى الله. أوو - ه. يسميها سام النبية الصغيرة. يقول لها: يا نبيتي الصغيرة. هذا لأنها تتكلم مع الله. شيء مضحك. هل أنتم معي؟. يوميا بعد المدرسة تصعد السلالم وتستلقي تحت سريرها - نعم تحته مع مصباح يدوي - وتكتب هذه الرسائل. أول الأمر قلت لنفسي: حسنا، إنها هادئة، وهي تكتب، وبحق بطرس، من يهتم بموضوع كتاباتها؟. ولكنها شدت أعصابي. ماذا لدى بنت بعمر ثماني سنوات من أمور لتفضي بها إلى الرب ولا يمكنها أن تخبر بها أمها؟. أتذكر يوم مولدها. أحضروها لي، وكل ما فكرت به كم كان مظهرها قبيحا، كأنها سمكة قنفذ الماء، بكل تلك الأطراف المرتجفة الصغيرة -  وأتذكر أنني قلت لنفسي: يا رب من فضلك لا تتركها قبيحة. كانت سام تود حلاقة شعرها لأنه متشابك وتفقده ويسقط في كل مكان  ولكنه شعر جميل، وغزير جدا، ولكن الرجل لا يحب ذلك. أقصد أنه يحبه حين يراه، ولكنه لا يربط بين الأمور.  والرجال لا يفهمون أن الجمال مرهق، وهو صعب. ولذلك أرادت حلاقة شعرها. رفضت. والآن تكتب الرسائل للرب.

في إحدى المرات رافقتها إلى مرفأ سانتا مونيكا. كانت بالسادسة أو الخامسة من عمرها. لا يمكن أن أتذكر. تابعنا بالسيارة حتى سانتا مونيكا. كان يوما مشرقا وساطعا، وكانت هي الملاك في هذا الزحام، جلست في السيارة بظهر مستقيم ويداها في حضنها، مثل بوذا صغير. ابتسمت. ثم وصلنا، وحالما غادرنا السيارة، بدأت بالعويل. قلت لها: انظري يا عزيزتي. انظري إلى دواليب الهواء، ألا تودين الركوب في دولاب الهواء؟.

نظر الناس نحونا.  أقسم. لحظة خرجنا من السيارة. تناولت يدها، وحاولت أن أدفعها لتمشي، ولكنها لم تتحرك وسقطت على ركبتيها. وبدأت بالنحيب. ملامح وجهها - كانت تبدو حزينة، الحزن العميق. كأنها تشعر بالأذى من شيء طالت معاناتها منه. ماذا تعرف بنت بعمر ست سنوات عن الحزن؟. وها هي تكاتب الله الآن. لم يمكنني حملها، كانت تركل، ولم تسمح لي حتى بالركوع إلى جانبها، أوقفتها قائلا: توقفي يا ستايسي، من فضلك توقفي. ما المشكلة يا ستايسي؟. ألا تودين إخبار أمك بالمشكلة؟ الناس ينظرون إلينا.

ضربت الرصيف بقبضتيها. وثوبها - اشتريت لها هذه الثياب الزرقاء الباهتة للطقس المشمس - غير أنها تلفت. ثم، وبلا إنذار، توقفت. وقفت ونظرت لي وقالت: حسنا لنذهب إلى دواليب الهواء.

حسنا في تلك اللحظة، لم أكن بالمزاج المناسب. المفروض أن تتعاملي مع  مواقف من هذا النوع - صحيح؟. أعني عليك تقديم النصائح المفيدة - صحيح؟. قلت: أيتها الشابة، لقد ضيعت فرصتك؟.

قالت: ماذا؟.

لم تكن تعرف هذا التعبير. طبعا لا تعرفه. كانت في السادسة أو الخامسة. وقررت: طيب، لن نعود إلى البيت الآن، ولكننا لن نذهب للعبور من الجسر أيضا. وفكرت أن أقودها إلى الشاطئ  وكانت هذه مصالحة عادلة. 

أحب الشاطئ. وأحب الطريقة التي يجب أن تطرفي بها عينيك. وأحب صوت المحيط فهو يشبه خرير المذياع. ليس لدينا مناشف ولا ثياب سباحة، لذلك عريتها وبقيت بثيابها الداخلية، وحملت كتابي من السيارة - وهو "إلى المنارة"، ولكن لا أعلم كيف تذكرته، وجلست على الرمل، أراقبها، وأنا اقرأ بعين واحدة. هل تعلمين كيف يكون الحال وأنت تؤدين عدة أعمال بوقت واحد، وفي النهاية لا تؤدين أي عمل منها؟. هكذا كان الحال. الضجيج الأبيض للمحيط والرمل الحار الملتصق بساقي. وطعم الملح. وتلويحة أشجار النخيل. وصلت في الكتاب إلى نقطة مد بها السيد رامزي يده نحو السيدة رامزي، ولكنها كانت قد رحلت. كنت أبذل نصف اهتمامي فقط، كما قلت، وكنت منزعجة من نفسي لأنه من المفروض أن تشعري بالقشعريرة في تلك النقطة في الكتاب.  السيدة رامزي. الآن لدينا هناك أم. عموما، بدأت بفقرة، وحاولت تفهمها، وجاءت ستايسي وقدمت لي دولارا من الرمل. قالت: إليك يا ماما. وجدت هذا من أجلك. تلك النظرة مجددا، وذلك الحزن نفسه. أنا أتخيل ذلك. لا بد أنني أتخيل هذا. دائما أردت أن أكون أما. ليس لأنني محرومة من الطموحات - كنت أود أن أصبح عالمة أحياء بحرية أيضا، لدي رغبة عارمة - ولكن أردت دائما أن أكون أما. دفتر خربشاتي. من غيري يهتم بدفتر خربشاتي؟. لدي كتب بوغو مصورة قديمة في مكان ما في المرآب - اشتريتها بدولار لكل عدد حينما كنت بعمرها - وكنت سأمنحها لشخص ما. انظري، يجب أن أخبرك بشيء. أنا أقرأ الرسائل - أقصد التي ترسلينها إلى الله. أعلم أن هذا خطأ، ولكنها قدمتها لي لإرسالها بالبريد -  ليس لدي فكرة إلى من تعتقد أنني سأرسلها - وكنت أحتفظ بها في درج مرآة الزينة. في أحد الأيام، حينما كانت في المدرسة، جلست وقرأتها كلها. أنت تعلمين ما هي؟. هي قائمة أشياء ترغبين بها. كأنها تخلط بين الرب وسانتا كلوز. عزيزي الله، من فضلك امنحني زلاجة "رازير". أشياء من هذا النوع. أحبها. طبعا أحبها. ولكن أحيانا لا أعلم ماذا أفعل. تعتقدين أنك ستعيشين بطريقة ما، ولكن لاحقا تنجبين طفلة وكل ما تفعله هو أن تبتعد عنك. وهذا كل ما يفعله الأبناء.

***

.......................

* سارة برودي Sara Brody كاتبة أمريكية. تعمل بائعة للكتب في منطقة خليج سان فرانسيسكو. القصة منشورة في أدريوت The adroit.

 

بقلم: تشيس تويتشل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

سرب من الأسماك الرمادية الميتة يطفو

أمام عيني - يطفو.

لا ردود تأتي عندما أنادي.

هل هذا ما ستكون عليه الشيخوخة؟

لا، هذه هي الشيخوخة الآن.

أحب أن آخذ رشفات صغيرة من الرعب،

لقيمات من اللحم المسموم،

كل مذاقٍ تمهيدٌ للمذاق المقبل.

أستعد للألم القادم،

ليس هذا الألم.

تلك هي الكذبة التي أخدع بها نفسي.

***

.................

الشاعرة : تشيس تويتشل/  Chase Twichell: (وُلدت في 20 أغسطس 1950) هي شاعرة أمريكية، أستاذة، ناشرة،  ومؤلفة لعدة مجموعات شعرية. بعد سنوات من التدريس، أسست دار Ausable Press للنشر، التي تختص في نشر الشعر المعاصر. تقضي وقتها بين ساراتوجا سبرينجز في ولاية نيويورك ومنطقة الأديروندكس.

بقلم: شاستا جرانت

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

على متن حافلة في الصين، أخبرني رجل ذات مرة أن ابني ليس ابني حقًا. ابني أسود وأنا بيضاء. لم نمر دون أن يلاحظنا أحد في الصين، حيث عشنا لمدة عامين. كان الناس يلتقطون صورًا لنا دون أن يطلبوا إذنًا، كانوا يضعون أيديهم على شعر ابني المجعد. لم يكن يحب أن يلمسه الغرباء.

كنت أتعلم اللغة الصينية من جارتي في الطابق العلوي، وعلى الرغم من أنني كنت سيئة فيها، إلا أنني تمكنت من تعلم بعض العبارات ونقلتها إلى ابني الذي كان يبلغ من العمر ثلاث سنوات. علمته أن يقول "بو ياو" عندما يلمس شخص ما شعره. كان هذا الرجل على الحافلة مع مجموعة من الطلاب يرتدون بدلات رياضية بيضاء موحدة؛ وكان هو مدربهم.

كنت أنا وابني في طريقنا إلى المنزل من متجر البقالة، وكانت أكياس التسوق عند قدمي. سألني، بإنجليزية معقولة، إذا كان الولد الجالس في حجري هو ابني. قلت نعم، هو كذلك. ثم قلتها مرة أخرى بالصينية: "تاشي وودي هايزي".

سألني الرجل إن كنت من جنوب إفريقيا. أخبرته أنني أمريكية. ترجم ذلك للأطفال الذين كانوا يرتدون البذلات الرياضية. امتلأت وجوههم بالسعادة وهم يهتفون: "أمريكا!" سألني إن كان زوجي من جنوب إفريقيا. قلت إنه أمريكي مثلي. سألني إن كان زوجي أسود، فأومأت برأسي نفيًا.

قطب الرجل حاجبيه. نظر إلي وإلى ابني مرة أخرى. قلد بحركة يديه بطنًا حاملًا وسألني مرة أخرى إذا كان الصبي هو ابني. أخبرته أن ابني متبنى. أخبرته أن ابني من إفريقيا. أخبرته أن ابني يتيم، على الرغم من أن هذه ليست كلمة نستخدمها في عائلتنا. أردت أن أتوقف عن الحديث معه. أردت أن أبتعد عنه وعن أسئلته المتطفلة.

لماذا لم يستطع أن يرى أنني وابني ننتمي لبعضنا؟

في أول يوم لنا معًا، عندما أصبحنا أسرة مكونة من ثلاثة أفراد، لم يكن ابني يقبل أن أضعه على الأرض. كان عمره أربعة عشر شهرًا وحملته طوال ذلك اليوم، خلال وقت الغداء والعشاء، أثناء القيلولة، وفي نزهاتنا على طول الطريق الترابي حيث أقامنا في دار ضيافة لمدة أسبوع، في انتظار موعدنا في السفارة. لم نكن نعرف إذا كان يستطيع المشي بعد. فكرت في الأطفال في بالي، الذين لا تلامس أقدامهم الأرض خلال الأشهر الستة الأولى. لكن لم يكن لدينا سوى يوم واحد فقط. في اليوم الثاني لنا معًا، كان يخطو بخطوات غير ثابتة بين الأعشاب، ووقفته واسعة وساقاه على شكل قوس. كان بالفعل ينفصل، يعلن استقلاله كما يفعل الأطفال الصغار.

عندما فهم هذا الرجل أخيرًا كيف أصبحت عائلتي عائلة، أومأ برأسه في إشارة إلى الفهم. قال:

- لا أظن أنه ابنك

قلت بإصرار:

- هو كذلك! هو ابني.

قلد حركات تنطيط كرة سلة ثم رمى الكرة الخيالية نحو السلة الخيالية. قال شيئًا بالصينية للأولاد. فصرخوا: "كوبي براينت". أشار الرجل إلى ابني وسأل إذا كان يعرف كوبي براينت .

في وقت لاحق، لماذا كلفت نفسي عناء التحدث مع هذا الرجل . لا أعرف لماذا؛ ربما كنت أعتقد أنه إذا تحدثت بما فيه الكفاية، قد يفهم ويصدق أن ابني هو ابني حقًا. كنت أحتاج إلى اعترافه بذلك. بعد أن تمت الموافقة على أوراقنا من قبل السفارة الأمريكية في إثيوبيا، عدنا إلى وطننا. دخل ابني أمريكا بجواز سفر إثيوبي، والذي تم استبداله لاحقًا بجواز أمريكي. في أمريكا، يعرف الناس قصتنا دون الحاجة للشرح. لكن في الصين، كان الناس يحدقون، يحاولون فهم علاقتنا. نحن معًا. يي تشي

ابني الآن في الصف الأول، وقد أصبحنا نقضى أيامنا بعيدًا عن بعضنا البعض. لم نعد نركب الحافلة معًا في منتصف اليوم. أصبح لديه صداقات وأحاديث، وأيام كاملة، لا أعرف عنها شيئًا. بعد المدرسة، نمشي معًا عائدين إلى شقتنا، وأسالُه عن يومه فيجيب عادةً "جيد" وقليلًا من الكلام غير ذلك. أحيانًا، إذا ابتعد عني قليلاً أو تخلف عني أثناء سيرنا على الرصيف، أخشى ألا يعرف الناس أنه ابني، وأنني أمه. إذا كانت هناك مسافة كبيرة بيننا، أخشى ألا يعرف الناس أننا ننتمي لبعضنا.

في ذلك اليوم على الحافلة في الصين، كانت هناك محطتان يمكننا النزول فيهما للعودة إلى المنزل. الأولى كانت تأخذنا في نزهة حول بحيرة اصطناعية؛ أما الثانية فكانت أقرب إلى شقتنا. عندما توقفت الحافلة عند المحطة الأولى، دفعت نفسي بين المدرب والأطفال الذين كانوا يرتدون بذلات رياضية بيضاء متطابقة. لم أعد أرغب في الإجابة على أي من أسئلته. على الرصيف، انحنيت لأتطلع إلى ابني. أخبرته أن ما قاله ذلك الرجل لم يكن صحيحًا. كررت ما قلته لذلك الرجل. أنت ابني. ابتسم لي، مظهرًا أسنانه الصغيرة الناصعة. حملت أكياس التسوق بيد واحدة ويد ابني الناعمة بيدي الأخرى. وعند منتصف الطريق حول البحيرة، حاول أن يبتعد عني. ترددت، أرغب في إبقائه قريبًا، ثم تركت يده وشاهدته يركض.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: شاستا جرانت/ Shasta Grant كاتبة ومحررة أمريكية  حاصلة على ماجستير في الفنون الجميلة من كلية سارة لورانس. نشأت في نيو هامبشاير وتقسم وقتها حاليًا بين سنغافورة وإنديانابوليس. انتقلت إلى آسيا في عام 2010 وتحب العيش هناك.

 

مدرسة القديس ألفونسو الثانوية وجامعة المبتدئين للذكور بقلم: أرافيند أديغا

ترجمة: صالح الرزوق

***

وراء الحديقة بمسافة قصيرة يقف برج قوطي رمادي هائل الحجم، وقد رسم عليه المعطف العسكري وشعار 'يشع ويحرق'. هذه هي مدرسة القديس ألفونسو الثانوية وجامعة المبتدئين للذكور. وقد تأسست عام 1858، وهي واحدة من أعرق المؤسسات التعليمية في ولاية كارناتاكا. والمدرسة التي يديرها الجزويت في كيتور معروفة ومشهورة، والعديد من أعضاء إدارتها درسوا في معهد التكنولوجيا الهندي وكلية الهندسة في ولاية كارناتاكا، وغيرها من الجامعات العريقة في الهند وخارجها. مرت عدة ثوان، وربما دقيقة كاملة، بعد انفجار وقع هناك، لكن لم يحرك لازرادو، أستاذ الكيمياء، ساكنا. جلس وراء طاولته، وذراعاه متباعدتان، وفمه مفتوح. وكان الدخان يهب من المقعد في مؤخرة الغرفة، وغبار أصفر يشبه حبات الطلع يملأ الغرفة، ورائحة الألعاب النارية الخانقة معلقة في الجو. غادر الطلبة غرفة الصف. ولكنهم راقبوا ذلك من وراء منفذ الأمان.

وجاء معلم الحساب جوماتي داس من الباب المجاور، وبرفقته معظم طلاب صفه. ثم جاء الأستاذ نورونها، وهو أستاذ التاريخ الإنكليزي والقديم، ومعه سربه أصحاب العيون الفضولية. وشق المدير الأب ألميدا، طريقه عبر الزحام ودخل غرفة الصف النتنة، وراحته تسد أنفه وفمه. ثم خفض يده وصاح: "ما معنى هذا الضجيج والفوضى؟".

بقي لازارادو وحده في الغرفة، وقف عند طاولته مثل بطل صغير لا يريد مغادرة المرفأ الذي يحترق. وأجاب بنغمة ثابتة: "قنبلة في الصف يا أبتي. في آخر مقعد من الصف. انفجرت أثناء المحاضرة. بعد دقيقة من بداية الشرح".

طرف الأب ألميدا بعينيه أمام الدخان الكثيف ثم التفت إلى الطلاب وقال: " للأسف انحدر شباب هذا البلد إلى الجحيم وأساؤوا لسمعة آبائهم وأجدادهم". وغطى وجهه بذراعه، ثم تقدم بحذر نحو المقعد، والذي انقلب على قفاه بسبب الانفجار، وصاح: "لا يزال الدخان يتسرب من القنبلة. أغلق الباب واطلب الشرطة".

ثم لمس كتف لازارادو وقال: "هل سمعتني؟ يجب أن نغلق الأبواب و...".

أصبح وجه لازارادو أحمر من الخجل، وارتعش من الحرارة، والتفت فجأة وصاح بالمدير والمعلمين والطلاب: "يا لكم من ملاعين. ملاعين".

بغضون دقائق فرغت كل كلية المبتدئين. اجتمع الصبيان في الحديقة، أو في ممر العلوم وجناح التاريخ الطبيعي، حيث يتدلى من السقف هيكل قرش عظمي لفظه البحر على الشاطئ وكان مثل أعجوبة علمية. احتفظ خمسة صبيان بمسافة عن بقية التلاميذ، ووقفوا تحت ظل شجرة بانيان ضخمة. وكان يمكن تمييزهم من سراويل ارتدوها، لهما ثنيات، بينما شارة الماركة التجارية مثبتة على الجيوب الخلفية أو على الجوانب، وكذلك كان لهم شكل قضيبي. وهم شابير علي، والذي يمتلك والده متجر إيجار الفيديو الوحيد في البلدة، وتوأم باخت وهما عفران ورضوان، أبناء تاجر السوق السوداء، وشانكارا بي كيني وكان والده جراح عمليات تجميل في الخليج، وبينتو ابن عائلة مزرعة البن.

واحد منهم زرع القنبلة. كل واحد من هذه الجماعة تعرض للتجميد من الدراسة بسبب سوء سلوكه، وأعاد سنته السابقة بسبب علاماته السيئة، بالإضافة إلى تهديده بالطرد بسبب التدني والانحطاط. ولو زرع أحدهم قنبلة سيكون واحدا من هذه الجماعة. وكانوا يتوقعون ذلك بأنفسهم. فقد سأل شابير علي زميله بنتو:"هل فعلتها؟". نفى بحركة من رأسه. نظر علي إلى الآخرين، وكرر السؤال بصمت. حتى قال في خاتمة المطاف: "وأنا لم أفعلها أيضا".

قال بنتو: "ربما هذا صنيع الرب". ضحك الجميع. وكانوا يعلمون أن كل من في المدرسة يشتبه بهم. قال التوأم باخت إنهما سيذهبان إلى باندر لتناول وجبة برياني بلحم الحملان، ولمراقبة الأمواج، أما شابير علي فقد أراد أن يذهب إلى متجر الفيديو الذي يملكه والده، أو يشاهد فيلما من أفلام التعري في البيت، واحتار بنتو هل يرافقه أم لا. وبقي واحد منهم في المدرسة لأنه لم يكن بمقدوره أن يغادر. فهو معجب بما حصل، الدخان والاضطراب. واحتفظ بقبضته مضمومة تحسبا. اختلط بالزحام، وأصغى للدمدمة وكأنها ملعقة من العسل. عاد بعض الأولاد إلى المبنى، ووقفوا على الشرفة في الطابق الثالث من الكلية وهم ينادون من كان تحت في الساحة، وأضاف ذلك للضجة السائدة، وأصبحت الكلية كأنها خلية نحل اعتديت عليها بالضرب بقضيب طويل. كان يعلم أن هذا هو جوه - كان الطلاب يتكلمون عنه، والأساتذة يلعنونه. وأصبح إله هذا الصباح.

لعدة سنوات كان المعهد يعاقبه - بقسوة: ضربه الأساتذة بالعصي، وعلقه المدراء عن الدوام وهددوا بطرده (وكان متأكدا بالسر، أنهم يسخرون منه لأنه هويكا، من نسل منخفض). والآن يمكنه أن ينتقم من المعهد. احتفظ بقبضته مضمومة. سمع بعض الأولاد يقولون: "هل تعتقدون أنه إرهابي... مثل الكشميريين، أو البنجابيين؟".

أراد أن يصيح قائلا: كلا أيها المجانين. هذا أنا. شانكارا. النسل الوضيع. وراقب الأستاذ لازاردو، كان شعره مضطربا، يحيط به طلابه المفضلون، "الأولاد الطيبون". وكان يبحث بينهم عن الدعم والتأييد.

وشعر، ويا للغرابة، بدافع ملح أن يقترب من لازاردو ويلمس كتفه، كأنه يقول: "يا رجل أنا أشعر بالفجيعة. وأفهم مدى الإهانة التي أصابتك. وأتعاطف مع غضبك". وهكذا أنهى المشكلة الطويلة بينه وبين أستاذ الكيمياء. وشعر بالرغبة أن يكون واحدا من الطلبة الذين يثق بهم لازاردو في مثل هذه اللحظات، أحد "أولاده الطيبين". ولكن لم تتمكن منه هذه الرغبة. أهم شيء كان التخفيف من غلوائه. وراقب معاناة لازاردو وابتسم. استدار نحو يساره. سمع من يقول: "جاء الشرطة".

أسرع إلى الباحة الخلفية في الكلية، وفتح البوابة، وهبط على السلالم الحجرية الطويلة، نحو مدرسة الصبيان. بعد فتح الممر عبر الملعب، نادرا ما كان أي شخص يسلك هذا الطريق. كان اسم الطريق المحكمة القديمة. ولكن تغير موضع المحكمة، ورحل المحامون، وأغلق الشارع لعدة سنوات- بعد انتحار تاجر زائر في هذا المكان. وكان شانكارا يمر بهذا الطريق منذ صباه، وهو المفضل لديه في المدينة. ومع أنه بمقدوره مناداة سائقه إلى الكلية، كانت لدى الرجل تعليمات لانتظاره عند أسفل السلالم.

كانت أشجار البنيان مصطفة على طول الطريق. وكان شانكارا، حتى لو تمشى في الظل، يعرق كثيرا. (وهو دائما هكذا، سريع التعرق، وكأن حرارة تتفشى وتتراكم في داخله). معظم الأولاد تضع أمهاتهم في جيبهم المناديل، ولكن لم يسبق لشانكارا أن حمل منديلا، وليجفف نفسه كان يتبع طريقة بربرية: يمزق قطعة كبيرة من ورقة شجرة مجاورة، ويكشط بها ذراعيه وساقيه مرارا وتكرارا. حتى يحمر جلده ويصبح مكشوفا. والآن يشعر أنه جاف. غادر الطريق وهو عند منتصف السفح، ومر من بين أشجار طويلة، وتقدم إلى فسحة كانت مختفية تماما باستثناء من يعرفها. وفي داخل هذه الباحة تمثال للمسيح، مصنوع من البرونز الأسود. كان شانكارا يعرف هذا التمثال منذ سنوات حين اكتشفه وهو صبي وكان يلعب لعبة الاستغماية. كان هناك شيء خاطئ بالتمثال. بجلده الأسود، والتعبير المقلوب على شفتيه، وعينيه البراقتين، يبدو أشبه بأيقونة للشيطان وليس كمخلص. وحتى الكلمات المنقوشة على قاعدته - 'أنا المبعوث وأنا الحياة' - تبدو كأنها استفزاز للرب. لاحظ أنه لا يزال هناك بعض السماد حول قدمي التمثال - بقايا المسحوق الذي استعمله نفسه لتفجير القنبلة. جرف بسرعة المسحوق بأوراق نبات جاف. ثم استند على قاعدة تمثال المسيح: وقال: "سخيفون". وقهقه ضاحكا. وحالما فعل ذلك، شعر كأنه يختصر انتصاره في تلك الضحكة الوحيدة.

جلس عند قدمي المسيح الأسود، وغادره التوتر والحماس ببطء. كان دائما يرتاح قرب صور المسيح. ومرت أوقات فكر خلالها باعتناق المسيحية. بين المسيحيين لا يوجد فرق يعتمد على العرق. وكل إنسان يحاكم بما صنعته يداه في حياته. ولكن بعد طريقة القسس الجزويتيين في معاملته - ضربه في صباح يوم الإثنين خلال التجمع في الباحة وأمام كل المدرسة - أقسم أنه لن يكون مسيحيا أبدا. ولا يوجد مؤسسة أفضل من مدرسة كاثوليكية للذكور لتنفير الهندوس من التحول إلى الدين المسيحي. لوح بيده مودعا المسيح، وتأكد أنه لا يوجد سماد حول قاعدة التمثال. تابع الهبوط على سفوح الهضبة. وكان سائقه، وهو رجل صغير الحجم ببذة ذات لون خاكي وممزقة، بانتظاره، في منتصف الطريق.

صاح: "ماذا تفعل هنا؟ طلبت منك أن تنتظرني في أسفل الهضبة. وأن لا تصعد للسفوح".

انحنى السائق وراحتاه مطويتان. وقال: "سيدي لا تغضب مني... سمعت... أن قنبلة.. وطلبت مني أمك أن أتأكد أنك..".

كم تنتشر الأخبار بسرعة. هذا شيء أقوى منه. فهي تحتل حياة هذه البلدة.

قال للسائق وهو يتابع إلى الأسفل: "القنبلة - آه. ليست خطيرة". هل كانت غلطة- تساءل - هل عليه أن يبالغ عوضا عن التهوين منها. لم تكن صدفة مقنعة. فقد أرسلت أمه السائق ليتفقده، كما لو أنه طفل صغير - وهو، الذي فجر القنبلة. وصر بأسنانه. فتح السائق له باب سيارة أمباسادور، ولكن بدل أن يدخل في السيارة، بدأ بالصراخ: "أيها اللعين. يا ابن الصلعاء".

التقط أنفاسه ثم قال: "أيها اللعين. أيها اللعين". وضحك بهستيرية، ودخل في السيارة، بينما السائق يحملق به. في طريقه إلى البيت، فكر كيف يمكن لأي سيد آخر أن يتوقع الولاء من سائقه. ولكن شانكارا لا يتوقع منه شيئا. كان يشك أن سائقه من البراهمانيين. وقفا عند ضوء أحمر. سمع سيدتين في سيارة أمباسادور مجاورة تتكلمان عن انفجار القنبلة - "يقولون أن الشرطة أغلقت كل المدرسة والكلية الآن. ولا أحد يمكنه المغادرة حتى يجدوا الإرهابي".

وتبادر لذهنه، أنه وجد مهربا محظوظا، ولو أنه مكث قليلا، سيسقط في فخ الشرطة. حينما وصل إلى مسكنه، هرع من الباب الخلفي وخبط الدرجات وهو يصعد إلى غرفته. وفكر في لحظة من اللحظات أن يرسل بيانا إلى الهيرالد دون. يقول فيه: "لازاردو رجل أحمق والقنبلة التي انفجرت في صفه تؤكد ذلك لكل العالم". ولم يفهم لماذا تركها ملقاة على منضدته. ولذلك مزقها فورا. ثم فكر بإمكانية تجميع القطع الممزقة حتى تبدو الرسالة سليمة، أو إمكانية ابتلاعها، وفي النهاية قرر ابتلاع بعض العبارات الهامة - رادو، قن، ب، صف". وأشعل النار بالبقية، باستعمال ولاعة كانت في جيبه. وفكر إنه بالإضافة إلى قرفه من ابتلاع ورق سيرقد في معدته، لم تكن الرسالة مناسبة للطباعة، لأن غضبه في النهاية لم يكن يفي بجوهره لازاردو حقه. كان أعمق. ولو طلبت منه الشرطة تصريحا، سيقول ما يلي: "فجرت قنبلة لأضع حدا ل 5000 سنة من نظام عرقي قديم لا يزال يعمل في بلدنا. فجرت قنبلة لأبين أنه لا يجوز الحكم على أي إنسان على أساس صدفة حصلت يوم مولده، وهذا هو حالي".

حسنت هذه العبارات المرموقة من مشاعره. وتأكد أنه سيعامل في السجن على نحو مختلف، كأنه شهيد من الشهداء. وستنظم هيئة هويكا للتطوير الذاتي مسيرات من أجله، ولن تجرؤ الشرطة على لمسه. وربما بعد إطلاق سراحه، ستحييه حشود كبيرة - وسيكون له مستقبل سياسي.

والآن عليه أن يرسل رسالة من مجهول إلى الصحف مهما كلف الأمر. أخذ ورقة نظيفة وبدأ يكتب، رغم أن معدته كانت مضطربة بسبب الورق الذي ابتلعه. وها هو قد انتهى. أعاد قراءتها.

"بيان الهويكا المتهمة. لماذا انفجرت القنبلة اليوم". ثم أعاد النظر بها. كان من المعروف أنه هويكا. الجميع يعرف ذلك. تكهنوا بذلك، وكانت تكهناتهم مثل اتهام لا وجه له يأتي من الأبواب السوداء لغرف الصف كما جرى اليوم. كل الموجودين في المدرسة، وفي كافة أنحاء البلدة، يعلمون أن غنيا مثل شانكارا كيني، هو ابن امرأة من الهويكا. وإذا أرسل تلك الرسالة، سيعلمون أنه الشخص الذي زرع القنبلة. قفز. كان هذا صوت بائع الخضار، الذي جاء بعربته حتى جدار البيت الخلفي: 'بندورة. بندورة. بندورة حمراء يانعة، هيا اشتر بندورة حمراء ناضجة'.

رغب أن يذهب إلى الباندر، وأن يحجز في فندق رخيص، ويدعي اسما غير اسمه. ولن يعثر عليه أحد هناك. تجول في أرجاء غرفته، ثم أغلق الباب بقوة، وارتمى في سريره، وجر الغطاء فوقه. وتحت عتمة الغطاء كان لا يزال يسمع صياح البائع المتجول: 'بندورة، بندورة حمراء ناضجة. أسرع قبل أن تتعفن'.

*

في الصباح، كانت أمه تشاهد فيلما هنديا قديما بالأبيض والأسود استأجرته من متجر فيديو والد شابير. هكذا تمضي كل صباح في هذه الأيام. فهي مدمنة على الميلودراما. قالت وهي تلتفت بمجرد أن سمعت صوت مجيئه: "سمعت يا شانكارا بحدوث بعض الفوضى في المدرسة". تجاهلها وجلس عند الطاولة. لم يستطع أن يتذكر آخر مرة كلم أمه بجملة تامة. قالت أمه وهي تضع الخبز المحمص أمامه على الطاولة: "عمتك أورميلا يا شانكارا قادمة إلينا. من فضلك لا تبتعد عن البيت اليوم".

قضم من الخبز المحمص، ولم يرد على أمه. وجد أنها تحب الهيمنة، وتسبب التحسس ومتنمرة. ولكنه يعلم أنها تتألم لأن ابنها نصف براهماني. وترى نفسها أدنى منه، فدمها بالكامل من الهويكا.

قالت: "شانكارا. من فضلك أخبرني: هل ستكون موجودا؟ وهل ستعاملني بطريقة حسنة اليوم فقط؟".

ألقى قطعة الخبز في الطبق، ووقف على قدميه، وتوجه إلى السلالم.

صاحت: "شا - نكا - را. ارجع".

كان يلعنها ولكنه شعر بمخاوفها. كانت لا تريد مواجهة المرأة البراهمانية بمفردها. فروحها تسعى أن تكون مقبولة ومحترمة. فهي والدة ابن مذكر، وريث - وإن لم يكن في البيت، ليس لديها ما تعرضه. إنها مجرد هويكا تطفلت على بيت براهمانيين. وفكر: أنه خطؤها لأنها تشعر بالبؤس بحضورهم. وقد أخبرها مرارا وتكرارا: يا أمي. تجاهلي أقاربنا البراهمانيين. ولا تذلي نفسك باستمرار أمامهم. وإن كانوا لا يريدوننا بالمقابل يجب أن لا نريدهم. ولكنه لم يمكنها القيام بذلك. لا تزال تود أن تكون مقبولة. وتذكرة قبولها هي شانكارا. ليس لأنه مقبول كلية وتماما بين البراهمانيين. فهم ينظرون إليه كنتاج لمغامرة عشوائية من طرف أبيه، ويربطونه (وهو متأكد) بنطاق شامل من الفساد. فهو مزيج من الجنس بلا زواج وانتهاك للعرق الأسود وماذا تتوقع من ذاك؟. هذا الشيطان الصغير والظريف: شانكارا.

بعض الأقارب البراهمانيبن مثل العمة أورميلا تزورهم منذ سنوات ولكنها لا تحل التربيت على وجناته، أو إرسال قبلات طائرة إليه، أو القيام بتصرفات بعيدة تؤديها العمات لأبناء أخوتهن. وكان يشعر وهو حولها أنها مضطرة لتحمله. اللعنة، لم لا يحب أن يكون محمولا.

طلب من السائق أن يقوده إلى شارع أمبريلا، وحدق من النافذة لا على التعيين بينما السيارة تعبر من متاجر المفروشات ومنصات عصير قصب السكر. غادر السيارة أمام عرض وايت ستاليون (فيم ناطق بعنوان الجياد البيض). وقال: "لا تنتظرني. سأخابرك بعد أن أنتهي من الفيلم".

تسلق السلالم، وشاهد صاحب المتجر بالجوار يلوح له بحرارة. وهو أحد الأقارب من طرف أمه. رجل يومض له بابتسامات عريضة. ثم بدأ يشير له كي يأتي إلى متجره ويجالسه. كان شانكارا دائما يحصل على معاملة خاصة بين أقاربه الهويكا. فهو نصف براهماني، ولذلك يعتبر أعلى كثيرا بمعايير عرقية. أو لأنه غني جدا، وعليه هو أرقى منهم بكثير بمعايير الطبقات. وهو يشتم بصمت تابع الصعود على السلالم. ألا يفهم هؤلاء الهويكا الأغبياء؟. لم يكن يكره اي سيء اكثر من توددهم اليه، بسبب نصفه البراهماني. ولو أنهم يمقتونه، وإذا أجبروه على الزحف إلى متاجرهم للتعبير عن خطيئة نصف براهماني، لما جاء إليهم ليلتقيهم يوميا. وهناك سبب آخر يدعوه للامتناع عن زيارة هذا القريب بالذات. فقد سمع إشاعة أن كيني جراح العمليات التجميلية يحتفظ بخليلة في هذا القطاع من البلدة - بنت هويكا أخرى. وهو يشتبه أن قريبه يعرف هذه المرأة، وأنه يفكر باستمرار: هذا الصاحب شانكارا - شانكارا البائس والساذج - يعرف القليل عن كنوز أبيه. لكن شانكارا يعرف كل شيء عن زلات والده - هذا الأب، الذي لم يشاهده منذ ست سنوات. وحتى أنه لم يكتب له أو يخابره بالهاتف، ولكنه يواصل إرسال رزم السكاكر والشوكولا الأجنبية. ولكن بطريقة ما، كان يشعر أن والده هذا يعرف ما هي الحياة. خليلة من الهويكا قرب السينما وامرأة هويكا جميلة أخرى بصفة زوجة. وهو الآن يعيش حياة مرحة ومترفة في الخليج. يجمل الأنوف والشفاه للنساء العربيات الثريات. بالتأكيد لديه هناك خليلة أخرى. رجال من نوعية والده لا ينتمون لأي نسل أو دين أو عرق. ويعيشون أنانياتهم الشخصية. وهم الرجال الحقيقيون المتبقون في عالمنا هذا.

كان شباك التذاكر مغلقا. "العرض القادم في 8.30 مساء". هبط السلالم بسرعة، وتجنب أي احتكاك بالنظر مع قريبه. تجاوز سلمتين إضافيتين بتعجل، وتوجه إلى "متجر التجار المثاليين للمثلجات" وطلب خليط الحليب مع جوز الهند. شربه بسرعة، وحالما بلغ السكر دماغه مال للخلف، وضحك، وقال لنفسه: "تافه". لقد انتهى. أهان لازارادو لأنه أهانه أولا. وصاح: "خليط حليب وجوز هند آخر. مع مثلجات مضاعفة".

كان شانكارا على الدوام واحدا من التفاحات الفاسدة في المدرسة. منذ بلغ ثماني أو تسع سنوات، كان يتورط بالمشاكل. ولكن أسوأ مشاكله كانت مع عوق لسان معلم الكيمياء هذا. في أحد الصباحات ضبطه لازاردو يدخن سيجارة أمام منصة عصير القصب خارج الكلية. صاح السيد لازاردو: "التدخين قبل العشرينات يمنع تطورك الطبيعي ككائن بشري. لو أن والدك هنا وليس في الخليج سيفعل ما سأفعل بالضبط الآن".

أجبر شانكارا طيلة ما تبقى من يومه على الركوع أمام صف الكيمياء. وركع وعيناه على الأرض، وفكر، مرارا وتكرارا، هو يفعل هذا لأنني هويكا. لو أنني مسيحي أو بانت لن يهينني هكذا.

في تلك الليلة، استلقى في السرير، وجاءته الفكرة: ما دام قد أضرني، سألحق به الضرر بالمثل. وتبادر ذلك لذهنه، بوضوح ساطع، مثل شعاع من ضوء الشمس، مثل خلاصة لكل عمره. وتحولت الفورة البسيطة إلى قلق، وكان يتقلب في سريره من جنب إلى آخر، قائلا: مصطفى، مصطفى. عليه أن يقابل مصطفى الآن. وهو صانع القنابل.

سمع الاسم منذ عدة أساببع مضت، في بيت شابير علي. في تلك الليلة كانوا جميعا - عصابة الأولاد الخمسة الأشرار - وللتو قد شاهدوا فيلم تعر آخر في بيت شابير علي. دخلت المرأة من الخلف. ودس الرجل الضخم الأسود عضوه فبها عدة مرات. لم يكن شانكارا يعرف أن هذا ممكن بهذه الطريقة. ولا بنتو، فقد تابع تنهداته من المتعة. راقب شابير علي دهشة أصدقاءه دون أن يندمج معهم. فقد شاهد هذا الفيديو العديد من المرات ولم يعد يحرك شهوته. كان يتعايش مع الشرور والأخطاء ولذلك لم تكن مثيرة له - لا مشاهد القتل ولا الاغتصاب ولا حتى جماع الحيوانات. الاحتكاك الدائم مع الشر حوله تقريبا إلى طور من أطوار البراءة. بعد الفيديو، استلقى الأولاد على سرير شابير علي، وهددوا بالعبث هناك، ولكن مضيفهم حذرهم من التفكير بذلك. وعرض عليهم شابير علي واقيا ذكريا ليسعدهم، ودسوا أصابعهم في داخله بالدور.

"ما فائدته يا شابير؟".

"من أجل صديقتي"

"اخرس يا منحرف"

"أنت المنحرف".

تكلم البقية عن الجنس. وكان شانكارا يصغي ويتأمل السقف، ويتظاهر أنه منفرد بنفسه. كان يشعر أنه دائما خارج هذه النقاشات لأن البقية يعلمون أنه ولد طاهر لم يفعلها. وهناك بنت في الكلية وتتكلم مع الذكور. وكلمها شابير علي، وادعى أشياء أعمق. وحاول شانكارا أن يتظاهر أنه كلم النساء أيضا. وربما خدع عاهرة في شارع المحكمة القديمة. ولكنه متأكد أن الآخرين يرون ما في داخله. بدأ علي يمرر الأشياء عليهم. تبع الواقي الذكري حديد تمرين العضلات وكان يحتفظ به تحت سريره. ونسخ من مجلة المشاغب، والفتى اللعوب بلاي بوي، ومجلة نادي كرة السلة الوطنية الرسمية.

قال: "احزروا ما هذا". كان شيئا صغيرا وأسود، ومثبت به مؤقت.

قال حينما لم يحزر أحد: "إنه صاعق".

سأله شانكارا وهو يقف على السرير ويقرب الشيء من الضوء: "وماذا يفعل؟"

قال: "إنه يفجر يا أبله. تستعمله بالقنابل". وانطلقت الضحكات.

قال شابير: "صناعة القنابل أسهل شيء على وجه الأرض. خذ كيسا من الأسمدة، وأضف هذا الصاعق، وهذا كل شيء".

سأل أحدهم ولكن ليس شانكارا: "من أين حصلت عليه؟".

قال شابير علي تقريبا بالسر: "مصطفى أعطاه لي".

مصطفى. مصطفى. تمسك شانكارا بالاسم وبإحكام.

سأل أحد التوأمين: "وأين يعيش؟"

"شابير خابرنا للتو. وقال لقد فعلناها أيها الرجال. ولكن لم أفعلها أنا. ولا رضوان أيضا. شابير يكذب". ثم أدرك كل شيء. شابير خان الجميع واتهمهم جميعا - على أمل أن ينتزع اعترافا. تداخلت الطمأنينة مع الغضب. وقع بالفخ تقريبا. والآن يشعر بالغضب لأنه يمكن للشرطة أن تكتشف أنه خابر 100 وبذلك يضعون أيديهم على هاتفه. فكر أنه بحاجة لخطة. خطة. نعم. لقد وجدها. إذا سألوه سيقول إنه اتصل بشابير علي ليخبره بالجريمة. وسيقول: "شابير مسلم. وعليه أن يفعل ذلك ليعاقب الهند بسبب كشمير".

في الصباح التالي، ذهب لازارادو إلى مكتب المدبر، وجلس بجانب الأب ألميدا، والذي كان في مكتبه. وتأمل الاثنان المشبوهين الخمسة.

قال لازارادو: "لدي قرينة علمية. بصمة بقيت على بقايا القنبلة". شعر بعدم تصديق المتهمين.

لذلك أضاف: "بصمات الأصابع بقيت حتى على أرغفة الخبز في مدافن الفراعنة. وهي لا تفنى. وسنجد اللعين الذي فعلها، الجميع متأكد من ذلك". وأشار بأصبعه. وقال: "وأنت يا بنتو. أيها الولد المسيحي. ألا تشعر بالخجل".

قال بنتو: "لم أفعلها أنا يا سيدي".

تساءل شانكارا: هل عليه أن يعلن براءته ليكون بمأمن؟.

نظر اإلهم لازارادو بعين نفاذة، بانتظار أن يكشف المذنب عن نفسه. مرت الدقائق. وأدرك شانكارا: أنه لا يمتلك بصمات أصابع. وليس لديه جهاز كاشف للكذب. وهو يائس. وتمت إهانته. والسخرية منه، وأصبح نكتة في الكلية، وهو يفكر بالانتقام.

صاح لازارادو: "أيها الحمقى". وكررها بصوت مرتجف: "هل تعيرونني؟ هل تعيرونني لأنني لا أستطيع أن ألفظ حرف 'إب'". ولم يضبط الأولاد أنفسهم إلا بصعوبة. وشاهد شانكارا أنه حتى المدير قد أدار وجهه نحو الأرض، ويحاول كتم ضحكته. ولازارادو يعلم ذلك: ويمكن أن تراها على وجهه. وفكر شانكارا: هذا الرجل كان نكتة طيلة حياته، بسبب عوق الكلام. ولهذا السبب هو مجال للسخرية في غرفة الصف. والآن خربت هذه القنبلة كل سيرته المهنية. ولن يتمكن من استعادة ماضي حياته باعتزاز، مثل بقية المعلمين مع أنهم مزيفون. ولن يتمكن في حفل وداعه أن يقول: "مع أنني كنت صارما، كان طلابي يحبونني". ودائما هناك من يهمس من وراء ظهره - نعم، أحبوك كثيرا وفجروا قنبلة في غرفة صفك.

في تلك اللحظة، فكر شانكارا، أتمنى لو تركت هذا الرجل وشأنه. وأتمنى لو أنني لم أذله رغم إهانة الآخرين لي ولأمي.

قال: "أنا فعلتها يا سيدي".

التفت كل الحاضرين في الغرفة نحو شانكارا.

قال: "فعلتها. والآن توقف عن إزعاج الآخرين وعاقبني".

ضرب لازارادو المنضدة بيده وقال: "أيها الزاني بأمه. هل هذه نكتة؟".

" لا يا سيدي".

صاح لازارادو: "طبعا هي نكتة. أنت تسخر مني. وتسخر مني في العلن".

" لا يا سيدي-".

قال لازارادو: "اخرس. اخرس". ورفع أصبعا وحركه في أرجاء الغرفة بعصبية وهو يصيح: "أشرار. ملاعين. اخرجوا".

خرج شانكارا والأربعة الأبرياء برفقته. كان بمقدوره أن يلاحظ أنهم لم يصدقوا اعترافه. وهم اعتقدو أيضا أنه يسخر من المعلم بوجهه.

قال شابير علي: "تجاوزت حدودك هناك. يارجل فعلا أنت لا تحترم أي شيء في هذا العالم".

انتظر شانكارا خارج الكلية وهو يدخن. كان بانتظار لازارادو. وحينما فتح باب غرفة الموظفين وخرج أستاذ الكيمياء، ألقى شانكارا السيجارة على الأرض وداس عليها بحذائه. وراقب أستاذه قليلا. وتمنى لو هناك طريقة ليقترب منه ويقول له أنا آسف.

***

.........................

* أرافيند أديغا Aravind Adiga كاتب أمريكي من أصول هندية.

بقلم: آريا أبر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لم يكن النادي يُسمى "البنكر" حقًا، لكن هذا هو ما سأطلق عليه، لأننا عشناه هكذا: ملجأ من حرب حياتنا اليومية، مبنى حيث كانت تاريخ هذه المدينة وهذا البلد يتآكل تحت أقدامنا، حيث يمكن لأجسادنا أن تجول بحرية وتحلم. مكان مثل "البنكر" جذب مزيجًا متنوعًا من الشخصيات، وأعجبتني جميعهم. لكن ما أحببته أكثر كان الرجال الصلع الغريبون الذين لم يكن بإمكانك تصنيف انتماءاتهم السياسية أو أرصدة حساباتهم المصرفية أو تفضيلاتهم الجنسية. كانوا من ديترويت أو فرايبورغ أو دبلن؛ كانوا يتحدثون عن ريلكه ويشتركون معك في آخر قطرات الأمفيتامينات عند شروق الشمس. كانت عيونهم كبيرة ومليئة بالأسرار وملتهبة قليلاً مع نهاية الليل. كانوا أول من يصل وآخر من يغادر. كانوا دائمًا هنا، أولئك الذين يستخدمون الغرف المظلمة فعلاً. كنت تستطيع أن تميزهم من وجوههم المتجعدة، فهم محترفون في هذا المجال، في حياة مزدوجة تعيش في قلب المدينة المظلم، لأنهم ببساطة لم يهتموا بما يظنه الآخرون. لم يكن لديهم جمهور، ولا عرض: لا، هذه كانت حياتهم. ومع ذلك، كان هناك نوع من الرقة في تهورهم. لقد كانوا يحيون الحفلات منذ قبل ولادتي، منذ قبل أن يسقط الجدار. والأهم من ذلك، أنهم لم يحكموا عليك أبدًا، مهما كان نوع الأحمق الذي قد تكون قد أظهرت نفسك به.

لم يكن أي من أصدقائي هناك. ليس أنني كنت أملك الكثير منهم—لقد تركت فيليكس، صديقي الأول، بمجرد أن عدت من المدرسة، لأنني من الناحية التقنية لم يكن مسموحا بأن يكون لي صديق، وقد كان سيئًا في الفراش. وانتقلت ملاني إلى لندن لدراسة تصميم الأقمشة. الأشخاص الوحيدون الذين تبقوا هم آنا ورومي، اللتان درست معهما في المدرسة وانتقلتا إلى برلين من أجل الجامعة. في الآونة الأخيرة، كانتا تنصحانني بالتروي، لكنهما لم تفهما الشعور المتسارع في صدري، هذا القلب الذي يشبه سيارة سباق لا أستطيع إيقافه. وعدت آنا بأنها ستأتي إلى البانكر، لكن رسالتها النصية توقعت أن تصل بعد ساعة. لذا قمت بشم جرعة في الحمام مع هذه الفتاة الشقراء المبيضة، التي لن أراها مجددًا، ثم صعدت إلى الطابق العلوي إلى حلبة الرقص الأخرى، حيث كانت موسيقى الهاوس تنساب بسلاسة مع الإيقاعات الإلكترونية والعينات الصوتية العميقة. وقفت عند البار، آملاً أن لا تكشف وحدتي عن عدم أمنيتي. كنت ألعب بشعري، محاولًة أن أبدو متعجرفة وغير قابلة للوصول.

لقد لاحظت رائحته قبل أن أراه: الفلفل الوردي والدخان. كان يقف هناك، مارلو وودز، بطول ستة أقدام وثلاث بوصات، مرتديًا سترة جلدية متهالكة. كنت عادةً أحب من رجالي : الأشقر والصارم أو الداكن كالقطران، لكن مارلو لم يكن أيًا منهما، كان في مكان ما في المنتصف تمامًا، بفك مربع وذقن به غمازات، وأنف إمبراطور. شعر دهني يتساقط في موجات شبه أنثوية إلى ذقنه. حاولت أن أتمالك نفسي عندما وضع يده على كتفي، رغم أنني كنت على وشك الشعور بالغثيان من الافتتان. كان يمضغ العلكة، ولاحظت وشمًا صغيرًا لعنكبوت ينبض على جانب رقبته. وقف وظهره إلى الساقي، ومرفقيه متكئين على المنضدة. نظر إلي من الجانب بابتسامة ماكرة.

"مرحباً. أنا مارلو."

كان الجميع يعرف من هو: الكاتب الأمريكي الذي كان دائماً يحمل المخدرات. كان قد نشر كتاباً في أوائل العشرينات من عمره، وترجم إلى عدة لغات. كنت قد رأيت صورة له في تقرير بمجلة عن فناني برلين. رغم أنني لم أتذكر التفاصيل، إلا أنني لم أنس وجهه في تلك الصورة اللامعة. كان مفعماً بالرياح وجاداً، ويدخن سيجارة بين شفتيه. كانت الصورة وحدها قد سحرتني بطريقة غريبة؛ كانت عينيه الزرقاوتين تخترقان الصفحة بذكاء. كنت قد رأيته من قبل، في أحد النوادي على ضفاف الماء، حيث كانت الشمس تحول حلبة الرقص إلى شريط من الضوء وكان الصوت أكثر بهجة مما هو هنا. بالطبع، لم يلاحظني. كان أميراً يتحرك في الغرف وكأنها ملكه، محاطاً بمجموعة كبيرة من الأصدقاء، من بينهم صديقته الشقراء، التي على ما أذكر كانت دائماً ترتدي قميصاً من "سونك يوث".

"أنا نيلا."

صافحته، وكانت يده باردة ورطبة، وهو تصرف بدا لي رسميًا بشكل مفاجئ.

" بالمناسبة، فقدت هذه."

مدّ يده لي، وفي  وميض الأضواء ، لاحظت ولاعة صغيرة رمادية.

"ليست لي."

" نعم، ربما سقطت من جيبك."

هززت رأسي، وضحك، وكانت ابتسامته كاشفة عن اسنان متباعدة وغمزات .

"حسنًا، أعتقد أنه يجب أن تحتفظي بها."

كانت أنفاسه دافئة على عنقي، وأدخل الولاعة في حقيبتي، شعرت بوخز صغير في قلبي.

" حسنًا،" قلت، غير قادرة على النظر إليه.

"هل لديك مخدرات؟

"هل يمكنني أن أشتري لك مشروبًا أولًا؟"

بعد عشرين دقيقة، دفعني بقوة داخل حجرة الحمام، وكل شيء مغطى بالقذارة والعرق. أطفأ سيجارته على الجدار بجانب وجهي، وكدت أميز رائحة الكبريت الخفيفة لشعر محترق.

قال : "معذرة، المكان ضيق جداً هنا".

وسط فوضى الملصقات والبطاقات، درست بقية ملامحه: ياقة قميصه الأخضر على شكل حرف V، والسلسلة الذهبية التي تحمل عملة تعكس الضوء. إذاً هذا هو، الرجل الجذاب من المجلة. مبتسمًا، نفخ في وجهي، وبدأت أحسب إلى أي مدى أنا مستعدة للذهاب مقابل جرعة، ولكن بعد أن أخرج علبة صغيرة من جيب سرواله، سألني فقط من أين أنا.

"برلين"، قلتها، وكانت الحقيقة. لكنه فعل الشيء الرهيب الذي كنت دائمًا أخشاه أن يفعله الناس – سأل مرة أخرى، سأل من أين أنا حقًا. ولأن رأسي كان كتلة مشوشة من السيروتونين، وفكي يتصرف كحصان دوار، أو ربما لأنني كنت خائفة حتى هنا، قلت: "والداي من اليونان"، وكانت كذبة، لكنها بدت كتفسير معقول لوجهي الداكن الملامح وأنفي المعقوف وخصلات شعري الجامحة. أحيانًا كنت أكذب وأقول إنني من كولومبيا؛ أحيانًا أخرى من إسبانيا أو إسرائيل. لم أكن أرغب في الحديث عما جلب والديّ من كابول، أو أن أخبره أنه ربما التقى عمي وهو يقود سيارة أجرة، جالسًا في المقعد الخلفي، يشعر بالأسى لذلك الرجل الأسمر المحطم أمامه بسبب كل ما اضطر لتركه خلفه. ولم أرد أن أقول إنني لم يكن مسموحًا لي حتى أن أكون هنا، وإن وجودي هنا كان سرًا قبيحًا وكبيرًا. الحقيقة لم يكن لي مكان هنا. وفي نهاية المطاف، كان من الأسهل في تسعة من أصل عشرة مواقف أن أكذب بدلاً من أن أشاهد الشفقة تشوه وجه أحد ما. لم أرد أن أكون موضع شفقة. بدا مهتمًا.

"اليونان"

قالها مرة أخرى، ثم مضيفا:

"مثير للاهتمام."

كان المسحوق رطبًا وقويًا، وعندما استنشقت الجرعة أحسست بحرقة حادة فتحت جيوب أنفي المسدودة، ونسيت الوخزة الخافتة التي خلفتها الكذبة.

"أفعل هذا فقط لأغراض البحث"

قلت ذلك وأنا أشهق بخفة، فضحك. كان إضحاك الرجال أمرًا في غاية السهولة، أسهل شيء يمكنني القيام به.أضفت :

" أكتب عنه ورقة بحثية للجامعة."

قال بصوت هادئ تتخلله  رخوة لطيفة:

"أنا أمريكي. سأصدق أي شيء"

"أعرف."

"إذن، يجب أن أبتكر حقائق أخرى عن نفسي لأفاجئك."

قلت : "لماذا لغتك الألمانية جيدة هكذا؟"

"لأنني... كان لديّ صديقة. ووفوق ذلك درستها في المدرسة الثانوية."

"حقًا؟

احتفظت باللغة الألمانية التي تعلمتها في المدرسة الثانوية؟"

تجاهلت عمدًا الجزء المتعلق بالصديقة.

"وأمي كانت ألمانية، من الناحية الرسمية."

" من الناحية الرسمية."

حاولت أن أحسب في رأسي أن هذا الرجل لديه أم ألمانية — من أين كانت عائلتها، وأي نوع من الألمانية كانت تتحدث؟

"دوري الآن. لماذا لغتك الإنجليزية جيدة هكذا؟"

"مدرسة ثنائية اللغة، " قلت، وتركته يصدق ما يشاء. كنت أعرف ماذا قد يظنني: شخص جاء من عائلة غنية. عندما أعدت له مخدره، بقيت يدي على يده لحظة أطول مما ينبغي. تبادلنا النظر، مشحونين بالإيقاع الفوضوي للهواء. أخذت النظارات الشمسية الحمراء المربعة من على رأسه ووضعتها على وجهي؛ كانت العدسات ملطخة ببقع غائمة. لمس التجويف بين عظام ترقوتي، فأغمضت عيني، مستسلمة لدفء اللحظة ولإيقاع موسيقى التكنو الخافتة القادمة من قاعة الرقص، تتخللها مقاطع من الإسبانية والألمانية في الأكشاك المجاورة.

قال:

"أنت جميلة جدًا"

بدأت أضحك وألقيت رأسي للخلف، لأنني لم أكن جميلة أبدًا. كان وجهي يبدو قويًا وملكيًا بسبب عظام وجنتي المرتفعة وعيني اللوزيتين، وربما كنت صغيرًة. لكنني كنت أعرف ما هو الجمال. لقد كنت أتمتع بصفات مختلفة، تلك التي أرادت أمي أن تنزعها مني وبصق عليها والدي. تلك الصفات التي يحبها الرجال. كان الجمال فضيلة مأساوية كثيراً ما يُساء استخدامها لأننا نخدع بها، لكنني كنت أتمتع بشيء أكثر قتامة، شيء أكثر قبحاً. مثل جوع متوتر للحياة، مثل صوت يقول لي إنني سأفعل أي شيء.

قال:

"في أمريكا نشكر المجاملات"

ثم انتزع النظارة الشمسية من وجهي.

ابتسمت قائلة  :

"شكراً لك، سيدي".

***

.....................

* المقتطف التالي مقتبس من رواية "Good Girl" لأريا آبر. وُلدت آبر وترعرعت في ألمانيا وتعيش الآن في الولايات المتحدة. فازت مجموعتها الشعرية "Hard Damage" بجائزة "Prairie Schooner Book Prize" وجائزة "Whiting Award". كانت زميلة في برنامج "Wallace Stegner" في جامعة ستانفورد وطالبة دراسات عُليا في جامعة كاليفورنيا الجنوبية، وظهرت كتاباتها في The New Yorker و New Republic و The Yale Review و Granta وغيرها من المنشورات. نشأت آبر وهي تتحدث الفارسية والألمانية، وتكتب باللغة الإنجليزية، وهي لغتها الثالثة.

الكاتبة : آريا آبر/  Aria Aber (مواليد 1991) هي شاعرة وكاتبة أمريكية  من أصل أفغاني ، نشأت آبر في ألمانيا، حيث ولدت لأبوين لاجئين أفغان.  وتقيم الآن في لوس أنجلوس، كاليفورنيا. تشغل آبر حاليًا منصب أستاذة مساعدة في الكتابة الإبداعية بجامعة فيرمونت، وتقيم بين فيرمونت وبروكلين. لها كتابان: الأول ديوان شعر "أضرار جسيمة " عام 2019 ، والثاني روايتها التي صدرت هذا الشهر يناير 2025 تحت عنوان " فتاة طيبة / Good Girl" والتي ترجمنا هذا المقتطف .

بقلم: مارغريت آتوود

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

اللحظة

اللحظة التي تقف فيها،

بعد عدة سنين من العمل الشاق والرحلة الطويلة

في وسط غرفتك،

منزلك، النصف فدان، الميل المربع، الجزيرة، البلد،

عارفا اخيرا كيف وصلت الى هناك،

وتقول: انا امتلك ذلك،

*

هي اللحظة ذاتها التي فيها ترخي الأشجار

وثاق اذرعها الرقيقة من حولك،

وتسترجع الطيور لغتها،

وتتصدع الحافات الصخرية وتنهار،

وينحسر الهواء عنك مثل موجة

ولا تستطيع التنفس.

*

كلا— يقولون هامسين—. انك لا تمتلك شيئا.

كنت زائرا، مرة بعد مرة

متسلقا التل، غارسا الـعَلَم، مصرحا.

نحن لم ننتمِ اليك.

انك لم تجدنا قط.

كان الأمر دائما عكس ذلك.

***

.........................

مارغريت آتوود: شاعرة وروائية وناقدة كندية غزيرة الانتاج ومتعددة الاهتمامات من مواليد أوتاوا عام 1939 . نشرت العديد من المجموعات الشعرية والقصصية والروايات نال معظمها جوائز مهمة، من بينها جائزة آرثر سي كلارك لعام 1987 عن روايتها (حكاية الخادمة) وجائزة البوكر لعام 2000 عن روايتها (السفاك الأعمى) ومؤخرا جائزة كافكا العالمية لعام 2017. تحظى أعمالها بحفاوة نقدية وشعبية على حد سواء، وترجمت إلى عشرات اللغات. من عناوين مجموعاتها الشعرية: "لعبة الدائرة" 1964؛ "خطب الدكتور فرانكنشتاين" 1966؛ "سياسة القوة"1971 ؛ "قصائد ذوات رأسين"1978؛ "قصائد الأفعى" 1983؛ "صباح في المنزل المحترق" 1995؛ "الباب" 2007؛ و"الزورق الورقي" 2023.

 

بقلم: أرافيند أديغا

ترجمة: صالح الرزوق

***

بعد غداء مكون من القريدس بالكاري والأرز تتناوله في باندير، ربما يود الإنسان زيارة هضبة المنارة ومحيطها. شيد البرتغاليون هذه المنارة الشهيرة، وجددها البريطانيون، ولكنها ليست قيد الاستخدام. يجلس حارس عجوز ببذلة زرقاء في أسفل المنارة. إذا كان الزوار بثياب الفقراء، أو إذا خاطبوه بلغة تولو أو كانادا، يقول لهم: "ألا ترون أنها مغلقة؟". وإذا كان الزوار بهندام جيد أو يتكلمون بالإنكليزية، يقول لهم: "أهلا وسهلا". ويرافقهم إلى المنارة ويتقدمهم على السلالم الحلزونية حتى القمة، وهناك يتوفر لك مشهد رائع ترى منه بحر العرب. في السنوات الحالية افتتحت الشركة غرفة للمطالعة في المنارة. وشملت المحتويات مقالات الأب باسيل  دي عيسى، و  تاريخ كيتور المختصر لإس جي. أخذت حديقة ديشبريمي هيماشاندرا راو المحيطة بالمنارة اسمها من المناضل في سبيل الحرية الذي علق شعار المؤتمر  بألوانه الثلاثة على المنارة أثناء الحكم البريطاني.

وهناك كنا نرى المشهد التالي، على الأقل، مرتين في العام. سجين يقفز إلى الأمام، والقيد حول معصميه، نحو محطة شرطة هضبة المنارة، برأس مرفوع، ونظرة تغطي وجهه وتدل على ضجر مزمن. بينما يتبعه شرطيان، بعناء ليلحقا به، وهما يقبضان على سلسلة مربوطة بالقيد. والغريب في الموضوع أن الرجل المقيد يبدو كأنه يجر وراءه الشرطيين، مثل شخص خرج مع قردين في نزهة.

في السنوات التسعة السابقة، اعتقل الرجل المعروف باسم زيروكس راماكريشنا إحدى وعشرين مرة، على رصيف غرانيتي أمام متنزه ديشبريمي هاماشاندرا راو لأنه يبيع لطلاب جامعة سانت ألفونسو، وبأسعار مخفضة، كتبا مصورة أو مطبوعة بشكل غير قانوني. كان شرطي يأتي في الصباح، حينما يكون رامامريشنا جالسا مع كتبه الموزعة فوق ملاءة سرير زرقاء اللون، ثم يضع خيزرانته على الكتب ويقول: هيا بنا يا زيروكس.

يلتفت بائع الكتب لابنته ريتو، البالغة إحدى وعشرين عاما من العمر،  والتي تعاونه بمبيع للكتب، ويقول: "اذهبي إلى البيت يا عزيزتي، والزمي الهدوء" ثم يمد يديه للقيود.

في السجن تفك قيود زيروكس ويودع في الزنزانة. ويجهد رؤوس رجال الشرطة، وهو يمسك القضبان، بحكايات مسلية. وربما يروي لهم حكاية مضحكة عن بنت جامعية شاهدها في ذلك الصباح ترتدي الجينز الأمريكي، أو كلمة قذرة جديدة بالتولو سمعها في الحافلة وهو في طريقه إلى قرية سوق الملح، أو ربما، إن كانوا بمزاج طيب يسمح بوقت أطول للترفيه، يقص عليهم، كما فعل عدة مرات من قبل، حكاية أبيه وهو يكافح طيلة حياته ليكسب لقمة عيشه - كان يحمل النفايات من بيوت السادة الأغنياء، وهي المهنة التقليدية لمن هم من نوعه. وطيلة يومه يتسكع الرجل المسن حول الجدار الخلفي لبيت السيد، بانتظار أن يشم رائحة البراز البشري. وحالما تبلغه تلك الرائحة، يأتي إلى البيت، وينتظر بركبتين مثنيتين، مثل حارس الكريكيت الذي ينتظر الكرة (وكان زيروكس يثني ركبتيه لتمثيل ذلك). وحالما يسمع "صوت إغلاق" الصندوق، يحمل المبولة من حفرة في الجدار، ويفرغها في خميلة الورود، وينظف المبولة بمريول ويعيدها قبل أن يأتي الشخص التالي لاستعمال دورة المياه. وذلك هو العمل الذي امتهنه طيلة حياته. هل تصدقون ذلك.

ثم يضحك السجانون.

كانوا يأتون لزيروكس بسامبوسك ملفوف بالورق، ويقدمون معه الشاي. فقد كانوا يعتبرونه رجلا مستقيما. ويطلقون سراحه في منتصف اليوم، فينحني لهم ويقول: "شكرا". وكان ميغيل دي سوزا، محامي الناشرين وتجار الكتب في شارع أمبريلا، يتصل بالمخفر ويصيح: "هل أطلقتم سراحه مجددا؟ ألا يعني قانون البلاد لكم أي شيء؟". وكان راميش مدير المخفر يبعد البوق عن أذنه ويتابع قراءة الصحيفة، بحثا عن أسعار سوق البورصة في بومباي. وهذه كل أماني راميش في حياته: أن يقرأ ملخص سوق البورصة.

حوالي أواخر المساء عاود زيروكس عادته. رتب نسخا مصورة أو نسخا مطبوعة بأسلوب رخيص مثل كارل ماركس وكفاحي وبعض الكتب المطبوعة وأفلاما وألبومات وغير ذلك على القماش الأزرق المفروش على الرصيف في هضبة المنارة، وجلست ريتو الصغيرة بظهر منتصب، بأنفها الطويل والسليم وشاربها الخفيف. وهي تراقب الزبائن الذين انتقوا بعض الكتب وكانوا يقلبون فيها.

قالت لزبون لم يعجبه الكتاب: "أعد الكتاب إلى مكانه. أعده بالضبط للمكان الذي أخذته منه".

زعق زبون لزيروكس:" أريد المحاسبة لامتحان القبول؟".

وصاح آخر: "محاضرات متقدمة في الحمل".

"متعة الجنس؟".

"كفاحي؟".

"لي لاكوكا؟".

وسأل شاب وهو يقلب في كتاب: "ما هو أفضل عرض تقدمه؟".

"خمس وسبعون روبية".

"ياه، أنت تغتصبني. هذا كثير جدا".

استدار الشاب وانصرف، ثم التفت وعاد وقال: "ما هو آخر سعر رخيص لديك. لا يوجد عندي وقت أضيعه معك".

"اثنان وسبعون روبية. إما أن تقبل به أو أن تنصرف. لدي زبائن آخرون".

كانت الكتب تصور أو أحيانا تطبع في مطبعة قديمة في قرية سوق الملح. ويحب زيروكس أن يكون بجوار الآلات. كان يربت على الآلة، وكان يعشق الآلة، ولا سيما حينما تومض كالبرق وهي تعمل، ويحب دورانها وهمهمتها. لم يكن يقرأ اللغة الإنكليزية، ولكنه يعلم أن للكلمات الإنكليزية ذات سلطة، وأن للكتب الإنكليزية جاذبية. وكان ينظر إلى صورة هتلر على غلاف كفاحي، ويشعر بسلطته وقوته. وينظر لوجه خليل جبران، ويراه شاعريا وغامضا، ويشعر بغموضه وشعريته. ويراقب وجه لاكوكا، المسترخي ويداه خلف رأسه، فيقاسمه استرخاءه. ولذلك قال لمدير المخفر راميش في إحدى المرات: "لا أريد أن أسبب لك أو للناشرين المشاكل، يا سيدي. أنا محب للكتب فقط: وأحب أن أطبعها، وأن أحملها وأبيعها. كان والدي يعمل بالبراز ليعيش يا سيدي. ولكنه لم يكن يقرأ أو يكتب. وسيتباهى بي كثيرا لو تمكن من رؤيتي وأنا أعيش من بيع الكتب".

وقع زيروكس مرة واحدة بمتاعب حقيقية مع الشرطة. وذلك حينما اتصل أحد الأشخاص بالمخفر وقال إن زيروكس يبيع نسخا من آيات شيطانية لسلمان رشدي منتهكا قانون الجمهورية الهندية. وحينما أحضر إلى المخفر في هذه الحالة وهو بالأصفاد لم يمنح التسهيلات المعتادة، ولم يقدم له كأس الشاي. وصفعه راميش.

ثم قال له: "ألا تعلم أن الكتاب ممنوع، يا ابن الصلعاء؟ هل تريد أن تحرض المسلمين على العنف؟ وتتسبب لي ولكل الشرطة هنا بالنقل إلى قرية سوق الملح؟".

توسل زيروكس بقوله: "اغفر لي. لم أكن أعلم أنه كتاب ممنوع حقا... أنا فقط ابن رجل ينظف البراز يا سيدي. وينتظر طيلة اليوم ليسمع صوت المبولة. أنا أعرف مكاني يا سيدي. ولا أحلم أن أتحداك. كانت غلطة يا سيدي. اغفر لي يا سيدي".

سمع المحامي دي سوزا بائع الكتب، وهو رجل صغير الحجم بشعر زيتي وشارب أنيق، بما جرى، وجاء إلى المخفر. نظر إلى الكتاب الممنوع - كان مجلدا ضخما بغلاف رقيق ويحمل صورة ملاك على الغلاف الأمامي - وهز رأسه كأنه لا يصدق.  وقال: " ابن البائس اللعين ذاك، يعتقد أنه سيصور الآيات الشيطانية. يا لها من وقاحة".

جلس على طاولة مدير المخفر وصاح: "أخبرتك أن هذا سيحصل إن لم تعاقبه. أنت المسؤول عن كل ذلك". نظر راميش إلى زيروكس نظرة ملتهبة، وكان يستلقي على السرير بصبر، كما طلبوا منه.

قال: "لا أعتقد أن أحدا شاهده يبيعه. وستجري الأمور على أتم ما يرام".

وطلب راميش ليخفف من غلواء المحامي من شرطي أن يأتي بزجاجة روم الكاهن العجوز. وتبادل كلاهما الكلام قليلا.

قرأ راميش فقرات من الكتاب وقال: "لا أرى دواعي هذا القلق في الواقع".

قال دي سوزا وهو يحرك رأسه: "المسلمون عنيفون. عنيفون".

وصلت زجاجة الكاهن العجوز. شرباها في نصف ساعة وذهب الشرطي ليأتي بغيرها. وكان زيروكس في زنزانته هادئا، ينظر إلى السقف، تابع الشرطي والمحامي الشرب. سرد دي سوزا لراميش متاعبه، وأخبر مدير المخفر المحامي بمتاعبه. أحدهما أراد أن يكون طيارا يحلق بين الغيوم، ويطارد المضيفات. والآخر - لم تكن لديه رغبات سوى العمل في سوق البورصة. وهذا كل شيء.

في منتصف الليل سأل راميش المحامي: "هل تريد أن أخبرك بسر؟".

وقاد المحامي خلسة إلى السجن وأبلغه بسر. بالاأنه بالإمكان خلع أحد قضبان الزنزانة. وخلعه الشرطي، وحرره، وأعاده إلى موضعه. وقال: "احذر. لا يحصل هذا كثيرا في هذا المخفر. ولكن هذا ما يجري حينما يحين الأوان".

ضحك المحامي. حرر القضيب وألقاه على كتفه، وقال: "ألا أبدو الآن مثل هانومان ؟".

قال الشرطي: "نعم. مثل التلفزيون تماما".

طلب المحامي فتح باب الزنزانة، وفتحت له. شاهد الاثنان السجين مستلقيا على فراشه، ذراع تغطي وجهه لتحميه من وخزات النور القادم من زجاجة ضوء عارية فوقه. وظهر جلد عار فضي تحت قميصه البوليستر الرخيص. وشعر أسود غزير مسترسل، وبدا لناظريه كأنه ينمو من حضنه. وبالكاد يمكن رؤيته.

قال: "هذا اللعين ابن المنبوذ. انظر كيف يشخر".

"كان والده ينظف البراز- وكان أصدقاؤه يعتقدون أنه سيرمي هذا البراز عليهم".

"يبيع آيات شيطانية. ويبيعها أمامي، كيف يجرؤ؟".

"هؤلاء الناس يعتقدون أنهم يمتلكون الهند. أليس كذلك؟. يريدون الحصول على أي عمل ممكن، وعلى كل الشهادات الجامعية. وكل ال...".

جر راميش سروال الرجل الذي يشخر. رفع القضيب عاليا، وعندها قال المحامي: "افعلها مثل هانومان حين يظهر في التلفزيون". استيقظ زيروكس وهو يصرخ. قدم راميش القضيب لدي سوزا. وتناوب الشرطي والمحامي. ضرب القضيب على ساقي زيروكس، عند مفصل الركبة، كما يفعل المهرج في التلفزيون، ثم ضرب القضيب على ساقي راميش عند أسفل الركبة بالضبط، كما يفعل المهرج إله القرد في التلفزيون، ثم ضرب بالقضيب ساقي زيروكس فوق الركبة بالضبط، ثم وهما يضحكان ويتبادلان التهنئة، ترنح الاثنان إلى الخارج، وهما يناديان على أي شخص ليقفل المخفر وراءهما.

وطيلة الليل وعلى فترات كلما استيقظ زيروكس كان يتابع صراخه.

في الصباح عاد راميش، وأخبره شرطي بما حصل لزيروكس. فقال:" اللعنة. لم يكن ذلك حلما". وأمر رجال الشرطة بمرافقة الرجل السجين إلى مستشفى هافلوك هنري العام، وطلب نسخة من جريدة الصباح، ليتمكن من الاطلاع على أسعار سوق البورصة.

في الأسبوع التالي وصل زيروكس وسط صخب وضجيج فقد كان على عكازتين، ودخل المخفر، وابنته تتبعه.

قال: "يمكنك أن تكسر ساقي، ولكن لا يمكنني التوقف عن بيع الكتب. هذا قدري يا سيدي".

قطب راميش وجهه ولكنه تحاشى عيني الرجل.

قال زيروكس وهو يرفع إحدى عكازتيه:" سأصعد إلى أعلى الهضبة يا سيدي. وسأبيع الكتب".

اجتمع راميش وبقية رجال الشرطة حول زيروكس وابنته وتوسلوا إليه. ولكن أراد زيروكس أن يخابروا دي سوزا، وفعلوا ذلك. جاء المحامي مع شعره المستعار، وبرفقة مساعديه، وكلاهما بالرداء الأسود والشعر المستعار. وحينما سمع لماذا استدعاه الشرطي انفجر بالضحك.

قال لراميش:" هذا الشاب يعاندك فقط. ولا يمكنه صعود الهضبة وساقه هكذا".

وأشار دي سوزا بأصبعه إلى منتصف قامة زيروكس وهو يقول: "وأنت إذا حاولت بيعه احذر - لن أكسر ساقيك فقط في المرة القادمة".

ضحك شرطي.

نظر زيروكس إلى راميش مبتسما بطريقته التهكمية. وانحنى وطوى راحتيه وقال: "اتفقنا".

جلس دي سوزا ليشرب روم الكاهن العجوز مع الشرطة - وجهزوا لعبة ورق أخرى. قال راميش إنه فقد بعض النقود في الأسبوع الماضي في السوق. وامتص المحامي أحد أسنانه وهز رأسه، وقال إنه في مدينة كبيرة مثل بومباي لا يوجد غير الغشاش والكذاب والبلطجي.

استدار زيروكس بمعونة عكازيه، وغادر المخفر. وتبعته ابنته. وتوجها إلى المنارة. واستغرق الصعود ساعتين ونصف الساعة، وتوقفا ست مرات ليشرب زيروكس الشاي، أو كوبا من عصير القصب. ثم مدت ابنته الملاءة الزرقاء أمام حديقة ديشبريمي هيماشاندرا راو، انحنى زيروكس وجلس على الملاءة، ومد ساقيه ببطء، ووضع بجانبه كتابا كبيرا بغلاف رقيق. وجلست ابنته أيضا لتراقب الكتب، وظهرها مستقيم ومنتصب. وكان الكتاب الممنوع في كل جمهورية الهند، هو الشيء الوحيد الذي نوى زيروكس أن يبيعه: كتاب الآيات الشيطانية لسلمان رشدي.

***

........................

أرافيند أديغا Aravind  Adiga  كاتب أمريكي من أصول هندية. حاز على البوكر البريطانية عن روايته "النمر الأبيض". وهذه القصة فصل من روايته "ما بين اغتيالين". ويقصد اغتيال المهاتما غاندي وأنديرا.

بقلم: أمبارو دافيلا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لن أنسى اليوم الذي جاء فيه ليعيش معنا. جلبه زوجي عند عودته من رحلة.

كنا قد مررنا حينها بحوالي ثلاث سنوات من الزواج، وكان لدينا طفلان، ولم أكن سعيدة. كنت بالنسبة لزوجي أشبه بالأثاث، الذي يعتاد الإنسان على رؤيته في مكان معين، ولكن لا يثير أي انطباع. كنا نعيش في قرية صغيرة، معزولة وبعيدة عن المدينة. كانت قرية شبه ميتة أو على وشك الاختفاء.

لم أستطع كبح صرخة من الرعب عندما رأيته للمرة الأولى. كان مظلمًا، شؤمًا. بعيون كبيرة مصفرّة، شبه دائرية وبدون رمش، كانت تبدو وكأنها تخترق الأشياء والناس.

تحولت حياتي التعيسة إلى جحيم. في نفس الليلة التي وصل فيها، تضرعت إلى زوجي ألا يحكم عليَّ بعذاب رفقته. لم أستطع تحمله؛ كان يثير فيَّ عدم الثقة والرعب. "إنه غير ضار على الإطلاق"، قال زوجي وهو ينظر إليَّ باستخفاف واضح. "ستعتادين على صحبته، وإذا لم تتمكني من ذلك..." لم يكن هناك أي وسيلة لإقناعه بأن يأخذه بعيدًا. فبقي في منزلنا.

لم أكن الوحيدة التي تعاني من وجوده. الجميع في البيت — أولادي، المرأة التي تساعدني في الأعمال المنزلية، وابنها الصغير — كنا نشعر بالرعب منه. فقط زوجي كان يستمتع بوجوده هناك.

منذ اليوم الأول، خصص زوجي له غرفة في الزاوية. كانت غرفة كبيرة، لكنها رطبة ومظلمة. وبسبب هذه العيوب، لم أكن أستخدمها أبدًا. ومع ذلك، بدا وكأنه سعيد بالغرفة. وبما أنها كانت مظلمة إلى حد ما، كانت تناسب احتياجاته. كان ينام حتى حلول الظلام ولم أعلم أبدًا في أي ساعة كان يخلد إلى النوم.

فقدت القليل من السلام الذي كنت أتمتع به في المنزل الكبير. خلال النهار، كان كل شيء يسير وكأنه طبيعي ظاهريًا. كنت أستيقظ دائمًا في وقت مبكر جدًا، ألبس الأطفال الذين كانوا قد استيقظوا بالفعل، أقدم لهم الإفطار وأشغلهم بينما كانت غوادالوبي ترتب المنزل وتخرج لشراء المستلزمات.

كان المنزل كبيرًا جدًا، مع حديقة في المنتصف والغرف موزعة حولها. بين الغرف والحديقة كانت هناك ممرات تحمي الغرف من شدة الأمطار والرياح التي كانت شائعة. كان ترتيب منزل بهذا الحجم والعناية بالحديقة، التي كانت شغلًا يوميًا لي في الصباح، مهمة شاقة. لكنني كنت أحب حديقتي. كانت الممرات مغطاة بالكروم التي كانت تزهر طوال معظم العام. أتذكر كم كنت أحب، في فترة بعد الظهر، أن أجلس في أحد تلك الممرات وأخيط ملابس الأطفال، بين عطر الياسمين والبوجنفيل.

في الحديقة كنت أزرع الأقحوان، والبنسات، والبنفسج الألبي، والبيغونيا، والهيليوتروبا. بينما كنت أسقي النباتات، كان الأطفال يقضون وقتهم في البحث عن الديدان بين الأوراق. أحيانًا كانوا يقضون ساعات، صامتين ومنتبهين جدًا، يحاولون التقاط قطرات الماء التي كانت تتساقط من الخرطوم القديم. لم أكن أستطيع أن أتوقف عن النظر بين الحين والآخر نحو غرفة الزاوية. على الرغم من أنه كان ينام طوال اليوم، لم أستطع أن أثق به.

كان هناك العديد من المرات التي كنت فيها أعد الطعام وأرى فجأة ظله ينعكس على موقد الحطب. كنت أشعر به خلفي... كنت أرمي ما في يدي على الأرض وأركض خارج المطبخ، أصرخ مثل المجنونة. ثم كان يعود إلى غرفته وكأن شيئًا لم يحدث.

أعتقد أنه كان يجهل تمامًا وجود جوادالوبي، فلم يكن يقترب منها أو يلاحقها. لكن الوضع كان مختلفًا مع الأطفال ومعي. كان يكرههم، وكان يراقبني دائمًا.

كلما خرج من غرفته، كان يبدأ أسوأ كابوس يمكن أن يعيشه إنسان. كان يقف في جناح صغير أمام باب غرفتي، ولا أجرؤ على الخروج بعدها أبدًا. في بعض الأحيان، وعندما كنت أظن أنه لا يزال نائمًا، كنت أذهب إلى المطبخ لتحضير عشاء الأطفال. وفجأة، أكتشفه في زاوية مظلمة من الردهة، مختبئًا تحت الكروم المتشابكة.

" ها هو، يا جوادالوبي!"

هكذا كنت أصرخ في يأس.

لم نكن أبدًا نذكر اسمه، لأنه كان يبدو أن ذكره يعيد ذلك الكائن المرعب إلى الوجود. كنا دائمًا نقول: "ها هو، خرج، هو نائم، هو، هو، هو..."

كان يتناول وجبتين فقط، واحدة عندما يستيقظ عند الغروب، وأخرى ربما في الفجر قبل أن يخلد إلى النوم. كانت غوادالوبي هي من تحمل له الصينية، وأستطيع أن أؤكد أنها كانت تلقيها في الغرفة بسرعة، لأن تلك المرأة المسكينة كانت تشاركنا نفس الرعب، بل ربما كان خوفها أعمق. كان طعامه لا يتجاوز اللحم، لم يكن يلمس غيره.

عندما كان الأطفال ينامون، كانت جوادالوبي تأتي إلي بالغداء إلى الغرفة. لم أستطع تركهم وحدهم، وأنا أعلم أنه قد استيقظ أو أنه على وشك الاستيقاظ. بعد أن تنتهي من مهامها، كانت جوادالوبي تذهب مع صغيرها للنوم، بينما كنت أبقى وحدي، أتأمل في نوم أطفالي. بما أن باب غرفتي كان يبقى مفتوحًا دائمًا، لم أجرؤ على النوم، خوفًا من أنه في أي لحظة قد يدخل ويهاجمنا. ولم يكن ممكنًا غلق الباب؛ لأن زوجي كان يعود دائمًا متأخرًا، وإذا لم يجده مفتوحًا، كان سيعتقد... وكان يعود في وقت متأخر جدًا. قال مرة إنه كان مشغولًا جدًا في عمله. وأعتقد أن هناك أشياء أخرى كانت تشغله أيضًا...

في إحدى الليالي، بقيت مستيقظة حتى قرب الساعة الثانية صباحًا، أسمعه في الخارج... وعندما استيقظت، وجدته بجانب سريري، يحدق فيَّ بنظراته الثاقبة والعميقة... قفزت من السرير وألقيت عليه مصباح البنزين الذي كنت أتركه مشتعلاً طوال الليل. لم يكن هناك كهرباء في تلك القرية، ولم أكن لأتحمل البقاء في الظلام، وأنا أعلم أنني في أي لحظة قد... نجا من الضربة وخرج من الغرفة. تحطم المصباح على الأرضية الطينية، واشتعل البنزين بسرعة. لولا تدخل جوادالوبي التي هرعت استجابة لصراخي، لكان  قد احترق البيت كله.

لم يكن لدى زوجي وقت للاستماع إلي، ولم يكن يعنيه ما يحدث في المنزل. كنا نتبادل الحديث فقط عن الأمور الضرورية. منذ وقت طويل، نفد الود بيننا واندثرت الكلمات.

أشعر بالغثيان كلما تذكرت تلك اللحظة... كانت غوادالوبي قد خرجت للتسوق وتركت الطفل الصغير مارتين نائمًا في صندوق صغير اعتادت أن تضجعه فيه خلال النهار. ذهبت للاطمئنان عليه عدة مرات، وكان ينام بهدوء. كان الوقت يقترب من الظهيرة. كنت أسرّح شعر أطفالي حين سمعت بكاء الطفل مختلطًا بأصوات غريبة وصراخ مروّع. هرعت إلى الغرفة لأجده يضرب الطفل الصغير بوحشية وقسوة.

لا أستطيع أن أشرح كيف نجحت في انتزاع الطفل من بين يديه وكيف أمسكت عصا كانت قريبة مني وهاجمته بكل الغضب المكبوت في داخلي منذ فترة طويلة. لا أعلم إن كنت قد تسببت له بأذى كبير، فقد انهرت فاقدة الوعي. عندما عادت غوادالوبي من السوق، وجدتني مغشيًا عليّ وطفلها مغطى بالكدمات والجروح النازفة. كان الألم والغضب الذي شعرت بهما لا يوصفان.

لحسن الحظ، نجا الطفل واستعاد عافيته سريعًا.

خشيت أن تهجرني غوادالوبي وتتركني وحيدة في ذلك الجحيم. لكن وفاءها وشجاعتها كانا أقوى من كل خوف، فقد كانت امرأة نبيلة، تحمل في قلبها مودة عميقة لي ولأطفالي. غير أن ما حدث ذلك اليوم أشعل في قلبها نيران كراهية لا تهدأ، تطلب الانتقام العاجل.

عندما رويت لزوجي ما جرى، وطلبت منه أن يأخذه بعيدًا، مؤكدة أنه قد يقتل أطفالنا كما كاد أن يفعل مع مارتين. لكنه واجهني ببرود قاتل:

— لقد أصبحتِ أكثر هستيرية كل يوم، إنه لأمر مؤلم ومخزٍ أن أراكِ في هذه الحالة. لقد قلت لكِ مرارًا وتكرارًا إنه كائن غير مؤذٍ.

في تلك اللحظة، فكرت في الهرب، بعيدًا عن البيت، عن زوجي... وعن ذلك الوحش. لكنني كنت مكبّلة بالفقر والعزلة. لم يكن هناك مال، ولا وسيلة للهروب. بلا أصدقاء ولا أقارب ألجأ إليهم، شعرت وكأنني طفلة يتيمة ألقيت في بحر مظلم بلا ضفاف.

أما أطفالي، فقد تسلل الرعب إلى أعماقهم. لم يعودوا يجرؤون على اللعب في الحديقة، وأصبحوا يلتصقون بي كظلي. وعندما كانت جوادالوبي تخرج إلى السوق، كنت أغلق الباب علينا بإحكام، محصنة نفسي وأطفالي داخل الغرفة.

ذات يوم، قلت لغوادالوبي بصوت متهدج:

- لا يمكن أن تستمر هذه الحال.

نظرت إليّ بحزم وقالت:

- علينا أن نفعل شيئًا، وبسرعة.

سألتها بيأس:

- ولكن ماذا يمكننا أن نفعل ونحن وحدنا؟

ابتسمت ابتسامة مليئة بالغموض وقالت:

- نعم، نحن وحدنا... ولكن معنا كراهية تغلي.

رأيت في عينيها بريقًا غريبًا، مزيجًا من الغضب والعزم. شعرت بالخوف يزحف داخلي... لكن، للمرة الأولى، شعرت أيضًا ببصيص أمل ينبض في الظلام.

لقد جاءت الفرصة حينما كنا في أشد الحاجة إليها، وعندما لم نتوقعها على الإطلاق . غادر زوجي إلى المدينة لقضاء بعض الأعمال. أخبرني أن الأمر سيستغرق حوالي عشرين يومًا للعودة.

لا أعلم إذا كان قد علم أن زوجي قد رحل، لكن في ذلك اليوم استيقظ قبل الموعد المعتاد ووقف أمام غرفتي. نامت جوادالوبي وطفلها في غرفتي، وأخيرًا تمكنت من إغلاق الباب.

قضيت جوادالوبي معظم الليل ونحن نضع الخطط. كان الأطفال نائمين في هدوء. بين الحين والآخر كنا نسمع خطواته تقترب من الباب ثم يضربه بغضب...

في اليوم التالي، قدمنا الإفطار للأطفال الثلاثة، ولتكون الأمور أكثر هدوءًا ولكي لا يفسدوا خطتنا، حبسناهم في غرفتي. كان لدينا الكثير من الأمور التي يجب إنجازها وكان هناك عجلة كبيرة لإنجازها، لدرجة أننا لم نتمكن من تضييع الوقت حتى في تناول الطعام.

قطعت جوادالوبي العديد من الألواح الكبيرة والمتينة، بينما كنت أبحث عن المطرقة والمسامير. وعندما تمَّ تجهيز كل شيء، توجهنا بصمت نحو الغرفة في الزاوية. كانت أبوابها نصف مفتوحة. ونحن نحبس أنفاسنا، خفضنا الأقفال، ثم أغلقنا الباب بالمفتاح وبدأنا في تثبيت الألواح حتى أُغلق تمامًا. أثناء عملنا، كانت قطرات العرق الثقيلة تنساب على جباهنا. لم يُسمع أي صوت منه في ذلك الحين، كان يبدو وكأنه غارق في نوم عميق. وعندما انتهينا من كل شيء، عانقنا بعضنا البعض، نحن و جوادالوبي، والدموع تملأ أعيننا.

كانت الأيام التالية مرعبة. عاش العديد من الأيام بلا هواء، بلا ضوء، بلا طعام... في البداية كان يضرب الباب، ويرتطم به، ويصرخ بشكل يائس، ويخدش... لم نستطع أنا وجوادالوبي أن نأكل أو ننام، كانت الصرخات مروعة... في بعض الأحيان كنا نعتقد أن زوجي سيعود قبل أن يموت. إذا وجده هكذا...! كانت مقاومته كبيرة، أعتقد أنه عاش ما يقارب الأسبوعين... في يوم ما، لم يُسمع أي صوت. ولا حتى أنين... ومع ذلك، انتظرنا يومين آخرين قبل أن نفتح الغرفة. عندما عاد زوجي، استقبلناه بخبر موته المفاجئ والمربك.

***

......................

(تمت)

* الكاتبة: أمبارو دافِيلا/  وُلدت في عام 1928 في زاناتيكيتا، المكسيك. كانت روائية وشاعرة وكاتبة، ولها إسهام كبير في بلدها، حيث كانت رائدة في إنتاج القصص التي تمزج بين الخيال والغرابة. تبرز هذه الخصيصة نفسها أهمية الكاتبة في المجال الأدبي، خصوصًا من خلال تقديمها لأسلوب فريد يدفع القارئ للتنقل بين الواقع والخيال. من بين الجوائز التي حصلت عليها، جائزة خافيير فيلاروتيا في عام 1977 عن مجموعتها القصصية أشجار متحجرة التى أشهر أعمالها إلى جانب مجموعة الزمن المكسور (1959).  وأما قصة الضيف فتعد واحدة من أشهر أعمالها أيضا، توفيت الكاتبة في 18 أبريل 2020 عن عمر يناهز 92 عامًا.

إيثيل روهان في الكتابة عن الحزن

بقلم: إيثيل روهان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

"لطالما عانيت طوال معظم حياتي في صمت وخجل بينما الرجال الذين آذوني أفلتوا بلا عقاب."

***

لم تكن نوال أول جثة شاهدتها. لكنها كانت الأكثر تأثيرًا في نفسي. مر أكثر من ثلاثة عقود منذ وفاتها عن عمر يناهز الواحد والعشرين، وما زال جزء مني في التاسعة عشرة من عمره، واقفًا داخل منزلها العائلي في شارع أيونا المليء بالأشجار، دبلن، أيرلندا. أرى وجهها الخالي من الدماء لكنه ما زال جميلًا لأول مرة، وأقاوم بقوة رغبة رهيبة في الضحك.

في تلك اللحظة، التي امتدت بطريقة مستحيلة تتجاوز الثواني التي كانت يحددها دقات الساعة على الرف، كنت أؤمن تمامًا أن نوال ستنهض فجأة من تابوتها ذي الخطوط البيضاء وتصيح بفرح "خدعتكم!"

وفاءً للتقاليد الأيرلندية في الجنازات، زار كل المعزين نوال داخل تلك الغرفة المزدحمة الثقيلة، حيث لمس البعض يديها المربوطتين بخيوط المسبحة البنية، وقبل البعض جبهتها المرمرية، وجميعهم لا شك أنهم نقلوا كلمات وداع أو دعاء. أتمنى لو أنني أستطيع تذكر آخر لحظاتي مع نوال، سواء وهي على قيد الحياة أو أثناء وقوفي فوقها في تابوتها، لكنني لا أستطيع.

ما أتذكره بعد الصدمة المدهشة عندما رأيتها جثتها لأول مرة، هو أن شقيقتها قالت إنهم قد غيروا أحمر شفاه نوال بعد أن جلبها موظفو الدفن إلى المنزل. قالت والدة نوال بطريقة جعلت أسفل حلقي يتألم:

"لم تكن هي"

"لقد كان أمامها طريق طويل لتقطعه"

قالها شخص آخر، في إشارة إلى رحلة نوال عبر الأطلسي من نيويورك إلى دبلن، وهي وحيدة بين شحنات الطائرة. تمامًا كما كانت أحشاء والدتها هي من حملتها إلى ولادتها، حملت بطن الطائرة جسدها إلى دفنها. لم أستطع التوقف عن التفكير في الفرق بين هذين المكانين المظلمين.

في تلك اللحظة، التي امتدت بطريقة غريبة تتجاوز الثواني التي كانت يحددها دقات الساعة على الرف، كنت أؤمن تمامًا أن نوال ستنهض فجأة من تابوتها ذي الحواف البيضاء...

كررنا كم كان الأمر بلا معنى، كم كان غبيًا، أن تموت نوال بسبب شيء يمكن تجنبه مثل نوبة ربو.

***

مع مرور السنوات، وصلت إلى مرحلة لم أفكر فيها كثيرًا في نوال. حتى جاء الوقت الذي بدأت فيه مسودة روايتي الثانية، أغني، أنا. لا أعرف أبدًا إلى أين سأذهب في كتابتي. أبدأ مع لمحة من القصة وأواصل من هناك، كلمة بكلمة. بهذه الطريقة، أفاجأ باستمرار بما يظهر على الصفحة. وربما لم أكن مفاجئة  أكثر من ذلك كما حدث في رواية  (أغني، أنا).

لم أتوقع بشكل خاص أن يظهر العديد من موتاي مرة أخرى. ظهر عدد من الأشباح. والديّ، نوال، بائعة المتجر المعتدى عليها من طفولتي، ونيكول، صديقة متوفاة حديثًا، ومغنية وموسيقية محبوبة من منطقة خليج سان فرانسيسكو. كما عاد ذلك الطيف الآخر المستمر من الفقدان والشوق في حياتي — المرأة التي كنت سأكونها، الحياة الأخرى التي كان من الممكن أن أعيشها، لو أنني نشأت في طفولة خالية من الصدمات والإساءة. كما عادت الأغاني لتطاردني.

في الثمانينات، كنا نوال وأنا نغني ونرقص على أغاني فرقة الروك الأيرلندية باجاتيل داخل نفس غرفة المعيشة التي بعد بضع سنوات قليلة من المستقبل سيغلق فيها موظف الدفن غطاء تابوتها بمسامير نحاسية لامعة. كانت أغنيتنا المفضلة من باجاتيل هي "صيف في دبلن"، وهو ما أضاف مزيدا من السخرية المأساوية لوفاتها التي كان من الممكن تجنبها. توفيت نوال في نوفمبر، في أعماق شتاء ولاية نيويورك، بعيدًا عن أشعة الشمس، بعيدًا عن الوطن.

لقد كنت أشغل الأغنية بشكل متكرر في الأيام والأسابيع التي تلت رحيلها، سجل يدور بلا توقف، وإبرة لا ترفع. كانت كلمات الأغنية عن الحب لدبلن قد أصبحت تحمل مزيدًا من الرجفة بعد أن قررت نوال الانتقال إلى أمريكا. كنت أكره أنها ستغادر، وأعجب بها، وأغبطها على تلك الخطوة الجريئة. "صيف في دبلن"، وما تحتويه من حنين لمدينة العاصمة الأيرلندية ومكاننا، أصبحت نشيدنا لجرأتها في الانتقال إلى أمريكا. بعد وفاتها، أصبحت كلمات الأغنية مثل نذير شؤم مروع لأنها كانت تغادر دبلن، وتغادرنا، بطريقة أكثر نهائية.

بعد ثلاث سنوات من هجرة نوال إلى أمريكا، تبعت خطاها وقررت أن أخوض تجربتي الخاصة في أرض جديدة وحياة أخرى. في الفترة التي سبقت مغادرتي، كنت أعاني من مشاعر متناقضة من الرعب والتهور. هل كنت أغامر بالمصير؟ ماذا لو أصابتني المأساة أيضًا؟ ماذا لو متُّ شابة أيضًا؟

أننا نعيش حياة واحدة كان يعارض هذه المخاوف، وفي النهاية غذّى فيّ شعور "أنه من الأفضل أن تكون قد جربت" اللامبالاة. فكرت: ماذا كانت نوال ستعطي لتغني وترقص على أغاني باجاتيل مرة أخرى؟ لتكون بين الجميع وكل شيء تحبهم ليوم آخر؟ الحياة للعيش. للفعل. للعطاء. ركبت طائرة دلتا إيرلاينز من دبلن إلى سان فرانسيسكو عبر أتلانتا وانفرجت السحب من أجل نوال.

بينما كنت أواصل كتابة المسودة الأولى من أغني، أنا، أصبحت أغاني باجاتيل جزءًا من تجميع موسيقي متزايد كنت أشغله بشكل مستمر. مشهدًا تلو الآخر، شكلت قوة الأغنية التحويلية العمود الفقري للرواية. بينما التصلبت الصدمة كهيكلها العظمي.

تبدأ رواية أغني، أنا بحادثة سطو على متجر، وهي حادثة مثيرة مستوحاة من مشاهدتي للجريمة نفسها في طفولتي. بطلة الرواية، إستر، هي واحدة من موظفي المتجر في ذلك الصباح المشؤوم، وخلال الجريمة المسلحة تعاني زميلتها من نوبة ربو. في تلك اللحظة، لم تكن أفكار نوال قد بدأت تظهر لي بعد.

لم أدرك إلا لاحقًا في المشهد، عندما تتذكر إستر صديقها من أيام الجامعة الذي لم يتمكن من الوصول إلى جهاز الاستنشاق الخاص به وتوفي بسبب الربو، أنني كنت أستحضر الخيال من تجربة حقيقية أخرى في حياتي. شيئًا سأستمر في فعله طوال الرواية، لا سيما الألم الحقيقي في الرغبة في إلغاء موت الأحباء والعيش في حياة مختلفة.

لكن ذروة تأثير نوال في أغني، أنا، وجذب القصة المميز من ماضيي، يتركز على استعادة أصوات النساء. في الرواية، تترك النساء أصواتهن وحقائهن تتردد بطرق حرفية ومجازية، بما في ذلك تشكيل جوقة واحتضان أنفسهن الحقيقية. في حياتي، وجدت صوتي في الثلاثينيات من عمري من خلال الكتابة، التي كانت بمثابة الترياق للصمت الذي فرضته بداياتي الإيرلندية المتواضعة

بعيدًا عن القيود القمعية التي فرضتها الدولة الأيرلندية والكنيسة الكاثوليكية على الفتيات والنساء، كنت أيضًا أختنق بالأسرار. أبرز هذه الأسرار كان حالة الهوس المَرَضِيّة والمخيفة التي كانت تعاني منها والدتي، وصديق العائلة الذي كان يسيء إليّ جنسيًا، والصديق الذي كان يسيء إليّ عاطفيًا ونفسيًا، وفي إحدى المرات جسديًا.

في التاسعة عشرة من عمري، حصلت على سر آخر. في يوم دفن نوال، أصر مديري على أن أعود للعمل فورًا بعد قداس الجنازة، مما حرمني من الوقت للذهاب إلى المقبرة ومشاهدة نوال تدخل الأرض. وبعد شهر، قام نفس المدير—الذي كان وجهه الإسفنجي وضحكته المحتقنة تذكرني بالمغتصب الذي أساء إليَّ—بملامستي بعد حفلة العمل في عيد الميلاد.

خلال موسم العطلات الذي تبع ذلك، دفنت أفكار مديري المهووس وفعلته المستمرة في محاولة اقتحامي، متمسكة بالصمت ومفكرة في نوال وولادتها في ديسمبر. هدية. مقدسة. أفكار الهدايا والمقدس عادت إليَّ أثناء كتابة أغني، أنا.

جلبت نوال، وجميع الأشباح التي ألهمت الرواية، شيئًا عميقًا للقصة ولِي. طوال معظم حياتي، كنت أعاني من الخجل والصمت بينما كان الرجال الذين آذوني يفلتون من العقاب. أصبحت كتابتي، وأغني، أنا على وجه الخصوص، وسيلتي لمواجهة تلك الجرائم والبراء من جروحها. الرواية هي أنشودة معركتي.

كم هي مراوغة ومخادعة تلك الذاكرة؟ كنت على وشك أن أكتب أنني علمت بوفاة نوال من أخي الأكبر، الذي اتصل بي على هاتفي المحمول بينما كنت أمشي في شارع أوكونيل. لكن ذلك مستحيل في عام 1986. لا بد أنني قابلت أخي في المدينة ذلك اليوم.

لا أستطيع إلا أن أقول على وجه اليقين أنني علمت بوفاة نوال في أحد أكثر الشوارع شهرة في قلب دبلن، على بعد خطوات من رائحة نهر ليفي الكريهة التي خلّدتها أغنية "صيف في دبلن" "Summer in Dublin" لفرقة باجاتيل. توقفت في مكانى على الرصيف، بينما كان المارة وحركة المرور تمر من حولي بسلاسة، وجسدي وعقلي في قبضة شلل مشابه لذلك الذي شعرت به عندما تعرضت للتحرش، والتعرض للإساءة، والصدمة. إذا لم أتحرك، أو أفكر، أو أتحدث، أو أتنفس، فليس الأمر واقعًا. كنت أرغب في البقاء داخل تلك الثواني القاتلة لأطول فترة ممكنة، قبل أن أضطر للخروج إلى العالم دون نوال.

خلال قداس جنازة نوال، قرأ والدها المرتجف من على المنبر قصيدة "الخلود" لكلاير هارني. كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها القصيدة وقد هزتني. تلك القصيدة، وسطرها الأخير المؤلم، عادت إليّ في 2 يناير 2021، اليوم الذي علمت فيه بوفاة ليام ريلي، المغني الرئيسي وكاتب الأغاني في فرقة باجاتيل.

في ذلك المساء الرمادي والضبابي في سان فرانسيسكو، أخذت استراحة من انقطاعي لكتابة أغني، أنا، وفي غرفة معيشتي، شغّلت ألبوم Gold: The Best of Bagatelle بأعلى صوت، وبدأت أرقص وأغني مع جميع أغانيه الأربعة عشر. كان صوتي يعلو أكثر فأكثر، ورقصت بحماس أكبر شعرت بالحياة، شعرت بالفرح، شعرت بالحرية. ولم أكن بمفردي. طوال مدة دوران ألبوم أغاني باغاتيلا، لم تكن نوال قد فارقت الحياة.قد ماتت بعد.

***

.......................

الكاتبة: إثيل روهان / Ethel Rohan  روائية وكاتبة مقالات وكاتبة قصة قصيرة إيرلاندية الأصل أمريكية المعيشة، حصلت على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة من كلية ميلز، جامعة كاليفورنيا. نشأت إثيل روهان في أيرلندا، وتعيش الآن في سان فرانسيسكو. لها رواية وحيدة (وزنه عام 2017 م)  وأربع مجموعات من القصص القصير هى على الترتيب: (قطع خلال الظلام 2010 م – يصعب قول ذلك 2011م – تصبح على خير يا لا أحد 2013 م - في حال الاتصال عام 2021 م  والقصة المنشورة  هنا من المجموعة القصصية الثالثة (تصبح على خير يا لا أحد) التى تضم ثلاثين قصة قصيرة جدا.

بقلم: غواديلوب نيتل

ترجمة: صالح الرزوق

***

في حياتي البالغة ستة وثلاثين عاما، لم يخطر لي أن أستعين بخدمات بغي مأجورة. وفي أسوأ الحالات، حينما كنت شابا، قدمت الجنس على سبيل الإحسان - مثل وجبة طيبة وسرير دافئ – وذلك حينما تجولت في أرجاء أوروبا وحقيبتي على ظهري. ويمكن أن تقولوا إن زوجتي ليلي زرعت بذرة في رأسي بعد كلام عابر فتح الباب لسلسلة طويلة من الأفكار والأفعال. في أمسية من الأمسيات، ونحن نتمشى في حارتنا باتجاه شوارع صغيرة مهجورة تجاور شارعنا، أشارت ليلي إلى شيء جديد، وهو في الحقيقة باب ضيق بلون العلكة الوردية، ويتخلله قلوب زرقاء وخضراء مرسومة بألوان الباستيل. وكان يبدو مثل باب غرفة نوم بنت مراهقة. كانت شمس المساء تتراجع، وتنير أرض الزقاق المرصوفة، وجدرانها الرمادية بضوء بنفسجي، حتى أنها جعلت لون الباب يتوهج بلون غير طبيعي. وأفترض أن هذه الإضاءة هي التي جعلتنا ننتبه له.

قالت زوجتي بحماسة ولد صغير: “هل شاهدت ما يجري هناك؟". وقفت على أطراف أصابعها لتحظى برؤية أفضل. رأيت في مكان مرتفع من الجدار، نافذتين صغيرتين وجذابتين مفتوحتين مثل جفنين ناعسين. وعوضا عن أن يسمح تصميمهما برؤية ما يدور في الخارج، كان عملهما على ما يبدو التهوية مع حرمان المارة من رؤية ما يجري في الداخل. وإذا بذلت جهدا، يمكنك أن تلاحظ أشياء قليلة للزينة ولكنها جعلت المكان محيرا تماما.

أشارت زوجتي إلى شمعدان بخرزات برتقالية من الزجاج – أو لعلها من البلاستيك؟ - وكان يتدلى من السقف. وعلى الجدار بالون أحمر له بريق معدني وبشكل كلمة إنكليزية هي "حب".

قالت ليلي لتوقظ فيني الفضول الذي انتابها: "يا له من مكان ضيق وغريب. هل وقعت عينك عليه من قبل؟".

“أبدا".

"أنت الذي تعود إلى البيت من هذا الشارع. ولا أصدق أنك لم تشاهده من قبل".

قلت لها بقليل من التعجب: "حسنا. نعم. ولكنه لم يكن هنا قبل الآن. وظهر فجأة في الليل. ولربما قاموا بطلائه في الأمس".

“إن كان الأمر هكذا، لا بد أن تفوح منه رائحة الدهان الجديد، أليس كذلك؟. وعلى الأرجح أنه كان هنا منذ أسابيع ولكننا لم نلاحظه".

غامرت بالقول: “ربما هي غرفة بنت غادرت بيتها لأول مرة". وكنت مطمئنا لهذا التفسير، لولا معارضة زوجتي.

أجابت بثقة عالية بالنفس: “لم أعرف امرأة كبيرة بالعمر وتترك بيتها والبالونات لا تزال معلقة في غرفة نومها. أليس الأرجح أنه لبغي أو لقوادها؟".

بالمقابل اقتنعت أنه لا يوجد للذوق الرديء عمر، وكنت متعبا ورغبت بالعودة إلى البيت، بأسرع ما يمكن، ولذلك اخترت أن أوافقها.

قالت زوجتي وكانت نصف جادة ونصف عابثة:" إياك أن تفكر بزيارة هذا المكان. هل تفهم؟". وأشارت لي بأصبعها.

تظاهرت أنني فقدت الاهتمام بالموضوع، ولكن الحقيقة هي العكس تماما. وفي ذلك الأسبوع فكرت بالمكان في عدة مناسبات. وفي أبعد الاحتمالات كان الباب الصغير يظهر في خيالي، ولكنه موارب، وكأنه يدعوني للدخول. وفي إحدى الليالي تخيلت أنني أدخلت رأسي، بما يسمح لي برؤية مالك الغرفة: طالبة، ذات بشرة ناعمة وسمراء، كانت تجلس بثيابها الداخلية، ومنحنية لتلمس طلاء أظافر أصابع قدميها. وتسببت لي التخيلات بحركة بين ساقي، كانت غير معتادة في هذه الأوقات، حتى أنها أدهشتني رغما عني، كان انتصابا قويا لم أمر به منذ سنوات. وكان بجانبي رأسها مدفونا في كومة من الوسائد، التي تشخر عليها زوجتي في الليل. نظرت إلى ساعتي: أشارت إلى منتصف الليل وخمس وعشرين دقيقة. فكرت أن أتسلل من البيت وأذهب إلى كالي ماريبوسا، ولكن فورا تذكرت صوت ليلي يمنعني حرفيا من الاقتراب من تلك المنطقة. وتساءلت متى آخر مرة مارسنا فيها الحب معا، ولكن لم أتذكر رغم ما بذلت من جهد.

سأكون كاذبا إن قلت إن ليلي ليست زوجة متحكمة. حتى قبل زواجنا، كان اتخاذ القرار بيدها كلما واجهنا شيء هام له علاقة بحياتنا العائلية. وهي من اختارت شراء البذة والحذاء ليوم الزفاف، واسم ابنتنا، والبيوت التي استأجرناها خلال أول عدة عقود عشنا فيها معا. ومرة وفرنا بعض النقود لشراء أرض، فاختارت هذا الحي وتحكمت تماما بكل عمليات البناء. وأنا لا أشتكي - فذوقها وذوقي كانا منسجمين، ويجب أن أقر أنه لسنوات كانت شخصيتها الحازمة تحميني من الصداع، ولكن هذا لا يمنع أنها جعلتني أشعر مرارا وكأن التيار يجرفني. وكانت استراتيجية البقاء عندي تتلخص في احتلال مساحات رمادية، تلك التقاطعات التي لا تغطيها اهتمامات زوجتي بسبب تفاهتها. أمور مثل اختيار نوع القهوة التي نشربها وكيف نعزل النفايات، وسمحت لي هذه السخافات أن أحتفظ بكرامتي، ولكنها لم تكن كافية لتمنحني قدرا محسوسا من الإقبال على الحياة، ولا أن تجنبني النفور الذي شعرت به لعدة عقود، لأنني لست سيد مصيري. وربما لهذا السبب، حينما اكتشفت الأثر الداخلي لذلك المكان، قررت أن أهمل أمر المنع وعدم الاقتراب، وذهبت بتمردي إلى آخر حد ممكن. ليس من السهل الاحتفاظ بهذا العزم. عدة مرات كنت أمشي في كالي ماريبوسا، آملا أن أخطو من فوق عتبة ذلك الباب الصغير، ولكنه كان مغلقا على الدوام. والنوافذ بالمثل مغلقة معظم الوقت، وجعل الجليد معرفة ما يدور في الداخل مستحيلا. أما الواجهة فقد تبدلت ولم تصمد. كانت الحجارة تبدو وكأنها منطوية على نفسها، وتغط بالسبات. وحتى لون الخشب، الذي أحببته، كان أكثر خمولا، كأنه تحلل بالماء.

كان ذلك في يوم الخميس 24 أيلول - أتذكره جيدا لأنه في ذلك اليوم، كانت كلارا، ابنتنا، ستبلغ الواحدة والثلاثين من العمر، ولكن حينها وقعت أول حادثة. كان المفروض أن تأتي كلارا في تلك الأمسية لتحتفل معنا. اتصلت بها في أول اليوم لأقول لها عيد ميلاد سعيد، وتحادثنا كيفما اتفق لعدة دقائق. ثم أنفقت عدة ساعات بالتركيز على مبلغ بوليصة تأمين توجب علي تسليمها إلى أحد زبائني. أضجرني العمل، وقررت أن أبتعد عن مقعدي. وجدت زوجتي في المطبخ وهي تبدأ بالعمل على الكيك الذي تخبزه لابنتنا في كل عام. وكانت خلاصة الفانيلا قد نفدت، وطلبت مني أن أذهب إلى السوبرماركت لأحصل على شيء قليل منها. بدلت ملامح وجهي كي لا أثير شبهاتها، ولكن في أعماقي سرني هذا المنفذ للخروج في ذلك الوقت من اليوم. كانت الشمس تغيب، ورأيت كالي ماريبوسا مطلية بلون بنفسجي مجددا. ورجل وامرأة يدردشان أمام الباب المفتوح. كان ظهر المرأة لي، ولذلك يصعب أن تقدم أي تفاصيل عنها، باستثناء أنها نحيفة وذات ورك عريض. ولها شعر أسود طويل، جمعته تحت قبعة بنفس لون بلوزتها. وكانت ثياب الرجل من طراز مماثل. وكما يظهر أنهما يعملان في السينما أو في سلسلة مطاعم الوجبات السريعة. من مكان وقوفي أمكنني أن ألمح الغرفة خلفهما: الشمعدان البرتقالي لا يزال داكنا، واستطعت رؤية سرير بجانب جدار القرميد، وهو ما دعم نظرية زوجتي عن طبيعة العمل هنا.

فتح الرجل صندوق سيارة، وبدأ بتفريغ عدة علب من الورق المقوى، صغيرة، مثل التي تستعمل بنقل الكتب، مع أنني استبعدت أنها تحتوي الكتب. لم أود أن يشاهدوني وأنا أستمع، ولذلك استدرت وتوجهت مباشرة إلى السوبر ماركت. اشتريت مستخلص الفانيلا، وعدت إلى البيت بأسرع ما يمكن. لم يكن الرجل والمرأة بمكانهما، ولكن كان الباب نصف مفتوح. والنور يضيء في الغرفة، والبالون المعدني معلق بالجدار ويعكس نفس البريق المضيء الذي رأيته أول مرة. وفي غضون ذلك كان السرير قد اختفى. وحلت بمكانه كنبة، وأمامها، طاولة قهوة صغيرة. قال صوت عذب جدا وشعرت أنني مجبر على طاعته: “يمكنك أن تدخل إن أردت ذلك". وحينها رأيت هناك شخصا يجلس في مؤخرة الغرفة، أمام ما يجب أن يكون خزانة، أو بأبعد تقدير، باب الحمام. وكان الشخص بثياب مثل البقية: بنطال أسود، وصدرية حمراء، وقبعة. واستحال علي تحديد الجنس. وكان في حضنه علبة حلويات مثل التي يأتي بها باعة الحلويات الجوالون إلى السينما والمسارح قبل بداية العرض بقليل. ماذا جعل هذا الشخص هناك على أهبة العمل، كما لو أنه يوجد زبائن ليبيعهم بضاعته؟. المشتري المحتمل الوحيد، وعلى الأقل في هذه اللحظة، هو أنا. وللحظة من الوقت فكرت أن أسأل لمرة واحدة ما طبيعة هذا المكان، ولكن لم أفعل، ربما لأنه من الواضح أن الحلويات واجهة، والسؤال لن يكون مستهجنا فقط، ولكن سيضع كل أصحاب العلاقة في موضع الدفاع عن أنفسهم.

قلت: “عذرا، زوجتي بانتظاري لتجهز كعكة عيد الميلاد، وأسرفت بهدر الوقت كثيرا. سيزعجها ذلك. وإن لم أرجع إلى البيت حالا ستضعني في الفرن عوضا عن الكعكة".

رفعت مضيفتي نظراتها. كانت فتاة بشعر قصير، وبعينين واسعتين بنيتين، وقد ثبتتهما علي بتكهن.

قالت بصوت ناعم كالسابق وهي تمد يدها بورق سيلوفان في داخله قطعة سكاكر صغيرة الحجم:" خذ معك إحدى سكاكرنا، على الأقل - ستحلي طريق عودتك للبيت. هذه عينة. ولن أتقاضى ثمنها منك". لم أود أن أكون بليدا، فقبلت هديتها، ووضعتها في فمي. ومباشرة سال على لساني طعم كرات اليانسون. كنت أحب معظم الحلويات، ولكن بعضها يمتلكني، ومنها اليانسون. وحالما استمتعت بنكهتها، أسرعت بالمشي إلى زوجتي بعد أن سرقني الوقت. دخلت إلى البيت وأنا ألهث لتعلم أنني كنت أجري في الطريق إلى البيت، ولكن عوضا عن أن أجد ليلي أمام الموقد، ومئزرها مغطى بالدقيق كما تركتها تقريبا قبل أربعين دقيقة، رأيتها جالسة على الكنبة، وهي مندمجة مع واحدة من الأعمال الكوميدية التي أتسلى بها، مع أنها لم تشاركني بمشاهدتها على الإطلاق. في البداية قلت لنفسي، إنها قررت أن تستغني عن مستخلص الفانيلا، ولكن لم يكن هناك أي رائحة للكيك، ولم أجد أثرا في المطبخ يدل أنها كانت تخبز.

قلت بلهجة ندم مصطنع: “آسف يا عزيزتي. كان المتجر مزدحما حقا. متى ستأتي كلارا؟ وهل لديك وقت يكفي للانتهاء من تحضير كيك عيد الميلاد؟".

وحينها حولت نظرتها من التلفزيون، وتعبير عجيب على وجهها وقالت:" أعتقد أنك مرتبك. لا يزال أمام عيد ميلادها شهر آخر". كنت رجلا كثير الشرود، ولذلك سرني أن أقتنع أنني أخطأت بتقديراتي، لو لا هذه الفترة المسائية التي أمضيناها بالتخطيط لقائمة الطعام والتحضير لأطباق عشاء عيد ميلادها.

قلت متلعثما: “أليس اليوم هو الرابع والعشرون من أيلول؟".

"هو كذلك. ولكن عيد ميلاد كلارا في الخامس والعشرين من تشرين الأول. ألا تتذكر تاريخ ميلاد ابنتك؟".

طبعا أتذكره. وكتبته العديد من المرات على كل أنواع الوثائق الرسمية خلال حياتي، وأنا متأكد أنه ليس في تشرين الأول. سمحت لليلي أن تتابع مشاهدة فيلمها، وصعدت إلى غرفتي لأهاتف كلارا. من الخلف أمكنني سماع ضجيج مطار، وكان صاخبا، وتخلله ذلك الصوت المعدني الذي ينادي على المسافرين ليشرعوا بركوب الطائرة، ومن الواضح أنه لم يكن لديها أدنى نية بالقدوم في هذا المساء.

"هل يمكنني الاتصال بك بعد ساعتين يا أبي؟".

ولا بد أنها لاحظت الحيرة التي نقلتها عدة كلمات تلعثمت بها، لأنها سألت مباشرة: “هل من خطأ ما؟ هل أمي بخير؟".

"كل شيء جيد. فقط أردت أن أحييك".

ولكن استمر الاضطراب في بقية الليلة. وكلما تنحنحت واستدرت، كنت أتساءل إذا كنت لا أعاني من نوع من أنواع الخبل، مثلما كانت تلمح ليلي في مناسبات منتظمة، وإذا كان علي أن أرى طبيب أعصاب. عملت طيلة الصباح اللاحق، مع الحرص أن لا أفكر بأي شيء ليس ضمن نطاق الحسابات والاحتمالات، ولكن ما أن خفت حدة الحرارة وبدأت السماء تعتم، عدت أدراجي إلى كالي ماريبوسا، منجذبا لغموضه. كان الشمعدان مضاءا حين وصولي، ورأيت الباب نصف المفتوح. وكان عندي شعور أن أحدا ما بانتظاري. وفي هذه المرة لم تتوقف قدمي عند المدخل، ولكن على مبعدة أقدام منه. وكان رجل آخر يقف منتظرا عند الباب. ولم يكن ببذة. وكان يبدو مثل موظف في السينما، ويشبه أي جار من جيراني. وقبل أن يقرع الباب، رتب قبة سترته، ومسد بنطاله. وبالحال سمحوا له بالدخول. كان الشارع مهجورا، ولذلك جمعت فلول شجاعتي لمتابعة ما عزمت عليه، حتى أنني ووضعت أذني على الباب. وتمكنت من سماع أطراف حوار استنتجت أنه حميم، ولكن ربما كان مجرد تبادل أسرار. ولم أرغب أن يضبطني أحد وأنا أتجسس من أمام الباب، على هذه الغرفة، مهما كان هذا المكان. وعليه بدأت أتخبط في مسيري على طول هذا الشارع الفارغ. ماذا أملت أن أجد بالضبط؟. سألت نفسي هذا السؤال وأنا أتجول بعصبية حول الشارع. وأيقظت نظرية زوجتي الافتتان الغريب في داخلي، وكذلك انتبهت أنني منذ سنوات مشتاق ليس لعصيانها فقط، ولكن لارتكاب فعل يتجاوز الحدود. أن أجرب البغاء، وعلى بعد عدة أقدام من بيتي، كان بالتأكيد فعلا مشينا. ولكن هل هو مكان للبغاء؟. لم أكن مقتنعا. وإذا كان مبغى، لم أكن متأكدا أنني سأجرؤ على الإقدام عليه، مباشرة. ومجرد هذا الاحتمال حرك في داخلي، مزيجا من الخوف والاضطراب، الذي لم أمر به منذ مدة طويلة، وهو بحد ذاته عامل إضافي. استغرق الرجل أكثر من نصف ساعة بقليل، قبل ظهوره مجددا، وذلك حينما قررت أن أغادر. ولاحظت باهتمام السعادة المطبوعة على وجهه، وشعرت بشيء يشبه الحسد - وبنفس الوقت الإعجاب - لهذا الشخص، فهو أجرأ مني، مع أنني الأول الذي جمع فلول شجاعته لحل هذا اللغز في حينا. وربما كنت جاهزا لمقاطعة طريقه وسؤاله عما اكتشفه في الداخل، ولكن أردت أن أرى وأسمع بنفسي. وما أن فرغ الشارع مجددا، دفعت ذلك الباب بحرص، ولكن دون أن أتردد ولو لحظة واحدة. قال صوت من الداخل: “تعال. وتفضل بالجلوس. كنا بانتظارك". ثم رأيت الفتاة التي قدمت لي السكاكر الصغيرة.

منذ أيام صباي، كنت أواصل الكلام بلا انقطاع لأتغلب على الارتباك. وفي تلك الأمسية لجأت إلى هذا التكتيك بكل إمكانياته. أوضحت للبائعة أنني انتظرت فترة طويلة قبل أن أقرر المجيء، ولم أكن معتادا على مبارحة المنزل، وبلا شك شجعني أن هذا المتجر قريب جدا من مكان معيشتي، وحيث أعمل بصفة مقاول مستقل. وقلت أيضا - وندمت على ذلك - إن أحوال زوجتي لا تذهب بالاتجاه المبشر منذ عدة سنوات، وبعد تقاعدها، على وجه الدقة، كانت تنتظر في البيت دوما وهي تفرض علي ما يجب أن أفعل وما لا أفعل. ولأختم التفاصيل الطويلة، أكدت للبائعة أنني بحاجة لبعض العاطفة الإضافية، وفتحت عيني على وسعهما لاؤكد أن هذه حقيقة داخلية. كلما تذكرت ذلك اليوم، كنت أمنع نفسي من الشعور بالخجل، ومن النوستالجيا التي تغمرني. لأنه منذئذ تبدلت حياتي كلها.

أجابت المرأة الشابة: “لا تقلق. نحن هنا لمساعدتك في تلبية احتياجاتك. هذا عملنا".

وتوقعت أنها ستقودني إلى مؤخرة المكان، أو في أسوأ سيناريو، ستنهض وتغلق الباب، وتبدأ بالتخلي عن ثيابها دون مزيد من الكلفة. ولكنها اكتفت بإخراج ملف للنماذج، نماذج من السكاكر. وقالت: “اختر واحدة". وهي تقلب الصفحات البلاستيكية الشفافة التي تعرض مجموعة المحتويات. وبنفس الإسهال اللغوي الذي عانيت منه، أخبرتها أن السكاكر المنكهة باليانسون والتي جربتها في الأمسية السابقة، كانت لذيذة، ويسعدني أن أختار منها، ولكن أتمنى في هذه المرة، أن تكون أكبر قليلا.

ابتسمت البائعة لي بسرور. وبأصابعها الطويلة والرقيقة، انتقت قطعة سكر من الملف ووضعتها في كيس شفاف يسمح بالرؤية.

وقالت:" هذه المرة ثمنها خمسمائة يا سيد مونكادا".

اعتقدت أن المبلغ هائل - ويغطي الخدمة التي أنتظرها منها، وإن لم يكن كافيا، فهو على الأقل يعادل ثمن خمس أكياس من السكاكر ويمكن الحصول عليها في السوبرماركت - ولكن علاقتي مع هؤلاء الناس كانت قد بدأت، ولم أود أن أترك لديهم انطباعا سيئا، ولذلك حاولت التستر على دهشتي.

سألت بما أمكن من اللهجة الطبيعية: “ماذا يتضمن هذا السعر؟".

قالت بحدة وهي تتبنى لهجة جادة تماما: “السكاكر وكل عواقبها. هل لديك عائلة أخرى يا سيد مونكادا؟ هل تشترك بحياتك مع أحد غير زوجتك، وهل من شخص مهم جدا بالنسبة إليك؟".

وحينها انتبهت للمعلومات التي سربتها لهذه المرأة الشابة، عن حياتي الشخصية، ولكن أن تكون كتوما شيء، وأن تسألني مختلف الأسئلة شيء آخر تماما. وفكرت باحتمال أنهم يودون تدمير سمعتي.

قلت بفظاظة:" لا. فقط أنا وهي".

وأنا أمتص السكاكر، شكرت البائعة وأسرعت بالهرب من البيت، عازما أن لا أعود إليه. ولدى الوصول إلى البيت، لم أشاهد سيارة زوجتي في المرآب. وكان باب المطبخ مغلقا، مع أننا نتركه دائما مفتوحا. وكانت كل أغطية النوافذ مقفلة، مع أننا لسنا في الليل، وكانت إنارة الشرفة مضيئة. في غرفة الطعام وجدت ملاحظة بخط يد ليلي تقول:" سأكون في المحكمة حتى السادسة. وسأعود للعشاء". مرت سنوات لم تعمل خلالها زوجتي على قضية، وأكثر من ذلك منذ أن ذهبت إلى المحكمة شخصيا. بدأ قلبي يدق، توجهت إلى المطبخ، وأخرجت من الثلاجة السمك والخضار، وبدأت بتحضيرها، كما اعتدت لسنوات، حينما كانت زوجتي تعمل خارج المنزل، وكانت تلك أسعد أيام حياتي. بعد ساعتين عادت ليلي. كانت التنورة الضيقة التي ترتديها تبدو مثالية. ولم يكن الوزن الذي فقدته وحده ما أذهلني: كان شعرها طويلا أيضا، ومقصوصا بطريقة أنيقة، وبدون شعرة بيضاء واحدة على رأسها. شكرتني على العشاء، وسكبت لنفسها أول كأس نبيذ، وكررت ذلك عدة مرات. وبدأت بالكلام والتوضيح حول المحاكمة وكل من قابلته في هذا الصباح، وكأنها متأكدة أنني مهتم بهذه التفاصيل، وبالتأكيد - لدهشتي البالغة - أنني شعرت بالاهتمام يتجدد في نفسي. وبعد ذلك فورا جلست ليلي في حضني، وبدأت بفك أزرار قميصي. رغبت بها أكثر من الرغبة التي كانت توقظها في داخلي حينما تعارفنا لأول مرة. وحينما كانت شفتاي تنزلقان على رقبتها، قلت لنفسي إن الخمسمائة بيزو مبلغ مضحك وقليل حقا.

بقيت هكذا لأسبوع، أستمتع بالوضع الجديد حتى أقصى حد. ليلي تذهب إلى المحكمة في الصباح، وأنتظر أنا في البيت وحدي، أعمل على أوراق الضمان في مكتبي، ثم أسترجع الحسابات في بقية أرجاء المنزل. في المساء أبذل كل طاقاتي لإعداد عشاء لذيذ، لأنتهي نهاية سعيدة، سواء في غرفة المعيشة أو غرفة النوم. من يحتاج للتفكير بمعاشرة امرأة غريبة بينما ليلي بأفضل حالاتها؟. والآن حددت مصدر كل هذه التبدلات، ولكن التفكير بها كان وراء حدود طاقتي. وقررت حتى لا أنشغل بها، أن أفترض أن الحياة هي هكذا دائما، وستتواصل هكذا دون نهاية. وعوضا عن العودة إلى متجر السكاكر في تلك الأمسية، استيقظت من غفوة طويلة، وتبددت سنوات الشقاء في زواجي وتحولت إلى حلم رديء. كانت حياتي مع ليلي على أتم وفاق حتى تلك النقطة، وتساءلت إن كان من الأفضل أن أدعها هكذا إلى الأبد. قرابة الأسبوع الثالث، بدأت أشعر بغياب شيء ما حاولت جهدي، منذ البداية، أن أعرفه.

سألت زوجتي في أمسية من الأمسيات قبل العشاء مباشرة: "هل سمعت من كلارا؟".

أجابت: “من هي كلارا؟".

لم أتمكن من الطهي في تلك الأمسية. حاولت أن أخفي على الأقل القلق الذي يقضمني من الداخل، فتركت كل شيء في المطبخ، دون أن أتخلى ولو عن مريولي، وذهبت إلى مكتبي وحبست نفسي فيه. بحثت بلا نجاح عن رقم ابنتي في جهاز الهاتف. لم أشاهد أي صورة لها أيضا. رفضت أن أصدق ذلك، وطبعت اسمها الكامل في حقل البحث في متصفحي، بمحاولة للعثور عليها، ولكن بلا نتيجة. تذكرت حواري مع بائعة السكاكر، وعنفت نفسي لأنني لم أخبرها بالحقيقة. لأنني وضعت كلارا خارج حكايتي، تم استئصالها من حياتي. وتشكل عندي إحساس أنني ضحيت بغباء بأغلى شيء عندي في العالم مقابل عدة سنوات من المتعة المادية. ذهبت للعثور على زجاجة ويسكي في المطبخ وجلست أبكي بغضب بكل طاقتي لبقية تلك الليلة. في اليوم التالي، عدت إلى كالي ماريبوسا، لأطلب منهم استعادة ابنتي.

قالت: "هذا فوق قدراتنا تماما يا سيد مونكادا. ولو بمقدورنا ذلك ليس من العدل أن نفعل: فهي غلطتك. أنت أخفيت عنا معلومات هامة حينما طلبناها منك. وإذا طلبت خدماتنا في أي وقت مجددا من الضروري أن تخبرنا بالحقيقة. وبهذه الطريقة يمكن تجنب هذه المشاكل".

بذلت جهدي للتأقلم مع حياتي، وأقسم بقبر أمي، أن ندمي لا حدود له. كنت أبكي كل الوقت، وفي كل ساعة من النهار أو الليل، وأمام نظرات زوجتي المندهشة. وكما لو أن هذا لا يكفي، فقد كنت بعمر سبع وخمسين عاما، وليلي تبلغ واحدا وأربعين، ولذلك كنت أبذل جهودا لم أتمكن من متابعة إيقاعها المطلوب مني. كل صباح أستيقظ متعبا مع الشعور أنني نزفت دمائي حتى جفت. وللتخفيف قليلا من متاعبي، بدأت أطلب الطعام المنزلي مرتين في الأسبوع. وفي حوالي الساعة 6 مساء كنت أخابر أحد المطاعم التي تفضلها زوجتي: سيسيليان تراتوريا، أو المطعم التايلاندي في إينسينوس. في البداية تقبلت الأمر، وبعد شهر بدأت تقلق من التكاليف.

قالت: "أنا أعمل كالكلبة وأنت في البيت. ألا يمكنك حتى الاهتمام بطهي العشاء؟".

وزاد الوضع سوءا حينما اعترضت على النكاح اليومي. وكلما كانت تزحف نحوي، كنت أبتعد عنها وأحبس نفسي في غرفة المكتب أو أنشغل بالتلفزيون. وأعلنت ليلي عن نفورها وكرهها لي بكل وضوح. ولم تكن تمتنع عن تحرشها بي. وفي بداية أحد الأيام هددتني بالفراق. أجبت بعصبية واضحة: “حسنا. اذهبي إذا. ربما سأنعم بعد ذلك بهدوء البال". ولكنها لم ترحل. وحملت حقيبتها وملفات عملها، وارتدت حذاءها، وغادرت البيت كما لو أنني لم أنطق بحرف. وعادت بعد الظهيرة من المحكمة جائعة وبنفس الإلحاح على الجنس. وتابعنا على هذا المنوال لعدة أسابيع إضافية، وبيننا حرب حول رغباتها ورغباتي. ورغما عنا كان يبدو كأن زوجتي مرتبطة بالبيت وبجسدي. وزال الضجر من حياتي، وتحولت إلى جحيم أرضي. ولم يبق عندي أي حل غير العودة إلى المتجر الصغير.

حيتني البائعة بطريقتها التجارية الغامضة قائلة:" كيف حالك سيد مونكادا؟ هل من خدمة أقدمها لك؟". ولكن هذه المرة رأيت أن حالها وكل أجوائها لا تحتمل. ومع أنني غير مدعو، جلست على الكنبة، ثم استلقيت عليها دون وقار. ثم بلا اهتمام، ودون اعتبار لتهذيبها الذي تأثر بموقفي، أخبرتها بالتفصيل عن وضعي العائلي. وقلت بالختام:" بيننا أنا وزوجتي فارق عمر كبير. ولكننا بحاجة لنفس المستوى من الجهد لنفهم بعضنا البعض". ثم سألتها وأنا أجلس:" هل بإمكانك أن تجعلي كلينا شابا؟".

نظرت البائعة في عيني كأنها تبحث عن حشرة مجهرية تحتمي في تلافيف حدقتي.

وقالت: "يمكنني ذلك يا سيد مونكادا، ولكن الشباب يأتي معه بعدد كبير من العيوب. ولست متأكدة أنك تعرفها".

أجبت:" وعدة فوائد. من ضمنها احتمال الدخول ببداية جديدة وتصحيح بعض أخطائنا".

قالت: “فكر جيدا بذلك يا سيدي. هل أنت متأكد أنك تريد ذلك؟ العودة من هناك ليس أمرا يسيرا".

قبلت بعناد دون الإصغاء لتحذيراتها. وكان الثمن هذه المرة عشرة أضعاف. دفعت بتحويل مصرفي، متوقعا تحسنا نسبيا في حياتي. وكانت هذه آخر مرة أجد فيها حسابي المصرفي بحالة صحية. على شرف الشيطان، قلت وابتلعت السكاكر، وحالما نهضت من الكنبة، شعرت بدفقة نشاط في جسمي لم أكن أتوقعها. في تلك الأمسية كنت أنا وليلي بعمر عشرين عاما، وحديثي الزواج. ومثل الأيام القديمة، بقي التاريخ كما هو، والبيت أيضا، باستثناء المفروشات كانت متواضعة جدا. من بعيد أمكنني سماع صوت مكنسة كهربائية. ووجدت في ثلاجتنا الصغيرة علبة بيض ودستة من علب البيرة. فتحت إحداها فورا وجلست في الكرسي أمام الباب الرئيسي، وساقاي مفتوحتان على وسعهما، بوضعية تناسب عمري الحالي. وبقيت هكذا لعدة دقائق، معجبا ببصري الحاد الآن. لم يكن في السماء غيمة واحدة، وغمرت الشمس كل شيء بضوء واعد. وحالا وصلت ليلي، وهي بالشورت مع قميص يكشف عن كل ظهرها. انتفخت ما بين ساقي بالرغبة، لدرجة شديدة، وكان من الصعب أن أتحكم بها.

قالت: "إذا انتهيت من كناسة المرآب، هل بإمكانك أن تكنس المطبخ، أيضا؟".

أجبت بلامبالاة:" إذا كنت أفكر بأي شيء فهو أنت".

وقطبت زوجتي وجهها.

قالت:"هل تعاطيت بعض المخدرات دون أن تخبرني؟ أنت تتصرف بشكل غريب".

أجبت وأنا أشرع بالضحك، مستغربا من جرأتي:" لم أشرب أي شيء، يا سكرتي. ما عدا سكاكر حصلت عليها من المتجر في كالي ماريبوسا".

قالت:" طلبت منك أن لا تقرب من ذلك المكان أبدا. ماذا لم تفهم من كلامي".

كان يسحرني رؤية كيف أن بعض الأمور التي نقولها أو نفعلها في المستقبل (لا أعرف كيف أشير للأزمنة الأخرى بسوى ذلك) لا تزال صالحة لفترة زمننا الجديد هذه.

قالت: "لا تجن يا صغيري. البنات ليس كما تتصور. هن شريرات بطريقة مختلفة". وأرسلت من عينيها نظرة تدل على القلق وتابعت مع المكنسة مجددا وهي تقول:" إذا أسرعت وأنهيت واجباتك سيكون لدينا وقت لنخرج ونأكل في السوق لاحقا".

تأثرت باقتراحها. لا يمكن لليلي البالغة واحدا وأربعين عاما أن توافق على تناول الغداء في مكان مثله، كثير البلبلة ومتواضع ولكن طعامه طيب المذاق. أقنعت نفسي أنني اتخذت القرار الصائب بالعودة إلى بدايتنا كزوجين، حين كان أمامنا الكثير لننقذه. وسريعا اكتشفت أن الأمر ليس بسيطا جدا. في هذه الفترة الجديدة، كانت ليلي متيقظة أكثر من كل المرات السابقة. كما لو أن هذا لا يكفي، كان لها مقاربة صارمة وخاصة لنواياها الإيروتيكية، كان علي أولا أن أستحم وأحلق. الجنس منحة تخلعها علي حينما أطيع الأوامر، أو ألبي طلباتها الدائمة بدون جدال ولا الدخول بمشاحنات. وكنت بحاجة لجسمها كما كنت في السابق بحاجة لدوائي المضاد للالتهابات وحبوبي المنومة. والآن وقد تزوجنا حديثا، كان هدفها، على ما يبدو، وضع سلسلة من القواعد الصارمة والواضحة جدا، لتحكم أوضاع حياتنا المشتركة: في هذا الوقت كان هدفي تصحيح كل أخطائي الغبية، التي اقترفتها في مسار فتراتي السابقة. ومجددا علقنا بحرب مستمرة. ولا أستطيع أن أنكر أنه في أكثر من مناسبة تبادر لذهني أن أعود إلى المتجر لأطلب سكاكر إضافية، ولكن لم يكن لدي النقود الكافية، لتغطية نصف تكاليف الإيجار. وحتى لو كنت قادرا على تدبير أمري، لست متأكدا أنني سأفعل: أي شيء يتبدل بسرعة بالغة - يمكنه التسبب بالإزعاج، والتعب، الذي لا يمكن التعايش معه.

في أحد الأيام كنت أمشي باتجاه كالي ماريبوسا، ورأيت مجددا الباعة ببذاتهم وكانوا يحملون علبا من الكرتون موجودة في شاحنة توصيل، وتذكرت عصر ذلك اليوم من شهر أيلول حينما اكتشفت أنا وزوجتي ذلك الباب الغريب.

لكن أين ذهبت ليلي، ليلي الحقيقية، التي عشت معها كل سنوات السعادة وقلة الحظ والضجر، أم الابنة التي عاشت واحدا وثلاثين عاما، والتي لا يمكنني أن أتكلم عنها مع أحد؟.

في تلك اللحظة، وبالرغم من كل تحفظاتي، لم أمنع نفسي من الدخول والتوسل للبائعة أن تعيدنا كما كنا قبل بداية الحكاية، وقبل أن تبدل تاريخ عيد ميلاد كلارا.

قالت: "لا شيء يتغير ويعود كما كان بالضبط، يا سيد مونكادا. أنت لا تدرك أن كل مرحلة تختلف حسب طريقة تذكرك لها. يمكنني أن اجعلك أكبر مجددا، إن كنت تريد هذا حقا، ولكن من يضمن أنك ستحب حياتك؟ وأعتقد، من صميم قلبي، أن هذا بعيد الاحتمال".

أوضحت للبائعة، مع أن جسمي قوي وأنا ابن العشرين، أشعر أنني مجهد ذهنيا. ووجدت في هذا العمر أنني أكافح بقوة لأنام على فراش قاس كهذا، وأن آكل البيتزا كل ثلاثة أيام مرة، وأن أنفق نهايات الأسبوع في نواد ليلية صاخبة، والأسوأ أنه تنقصني الحماسة الضرورية لأعيش أربعة عقود إضافية.

قالت: "لقد تبدلت كثيرا في فترة قصيرة للغاية، يا سيدي. دع عدة شهور تمر. وستستعيد طاقتك تدريجيا، حالما تنسى تاريخك وهويتك السابقة".

ارتجفت وسألتها:" وإن لم يحصل ذلك؟".

"حينها يمكنك أن تعمل معنا. أن تشاهد حياة الآخرين شيء مبهج، وليس متعبا، وسترى ذلك. ويمكنك أن تعيش هنا، إن أحببت".

أرعبني الاقتراح، ولذلك قطعت الحوار مباشرة، وأغلقت الباب الصغير ورائي، مصمما أن لا أضع قدمي في هذا المكان بعد الآن. مشيت في حي بالكاد أعرفه، وأنا أشعر بوزن الحنين على كاهلي. ومن نافذة بيتنا، رأيت ليلي منهمكة بقطع الخضار. وقفت أنظر إليها لعدة دقائق، دون أن أعلم أيهما تملكني أكثر، الإحساس بالغرابة أو الألفة. لكن الفتاة التي رأيتها لم تكن زوجتي بل مصغر منها، ولكنها هي بنفس الوقت - ولا يهم كم أعجبتني - وهو الشيء الوحيد الذي تبقى منها. وحينما رأتني من النافذة، ابتسمت بدهشة، وتركت سكينتها على الطاولة، وفتحت الباب. ما أن دخلت، حتى أحطت خصرها، وهناك عند باب المطبخ، أكدت لها أنني جاهز لتكوين عائلة. وأنني سأبذل جهدي، كي لا نحتاج لشيء، وسيكون لدينا في الخزانة دائما مستخلص الفانيلا.

***

.................................

* القصة من مجموعتها "المصادفات". منشورات بلومزبيري. نيسان 2025.

* غواديلوب نيتل Guadalupe Nettel: كاتبة مكسيكية.

 

تأليف: مارسيلو بيرماجر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

1- علاقات خطرة

أحبّت غزالة أسدًا، وكانت تخشى الاقتراب من حبيبها، الصياد الماهر. في إحدى الأمسيات، وهي مصممة على أن تموت مفترسة بدلاً من أن تموت من الحب، اختبأت خلف بعض الأغصان وقالت لعدوها الحبيب:

–  يا أسد، أنا أحبك. أعطني فرصة. انظر إليّ، وإذا لم أعجبك، فاسمح لي بالهرب.

أجاب الأسد:

–  حسنًا.

وافق الأسد الذي كان قد أكل بالفعل.

تجاوز الأسد الفروع والغصون التي كانت تختبئ وراءها الغزالة، وظل يراقبها في صمت لفترة طويلة. ثم تقدمت الغزالة للزواج وقبل الأسد.

في حفل الزفاف، بعد أن رقصت الغزلان وشربت (لم يحضر الأسود لأنهم كانوا يعارضون الزواج)، اندفع ااسد نحو أصدقاء وأقارب زوجته الجديدة، وبدأ في افتراسهم واحدًا تلو الآخر دون أدنى صعوبة.

صرخت الغزالة بيأس عندما لم يتبق سوى عدد قليل من أهلها:

- ماذا تفعل؟

قال الأسد بثقة وثبات:

- "إذا وقعت في حب عدوك، فليكن لديك على الأقل الإخلاص للتخلي عن أصدقائك"

***

2- جلد الأسد

في تلك الأزمان التي كان فيها الأسد مازال ملكا الغابة، لبس حمار جلد أسد. كان الحمار وهو مختبىء تحت جلد الأسد، يخيف النمور والزرافات ورفاقه من الحمير.

وفجأة، لمح اللقلق طرف أذن الحمار وعند ذلك صرخ فى دهشة:

- إنه حمار، حمار مختبئ تحت جلد أسد!

حاصرت جميع الحيوانات الحمار المحتال. ولم يكونوا على استعداد لقبول المزاح، فاقتربت منه بنوايا قاتلة؛ حيث لمع سكين في يد القرد وكان الأسد يستعد لتوجيه أول ضربة.

استولى الحمار بسرعة على السكين من يد القرد، وقطع جلد الأسد الذي كان على وشك عضه، ثم صرخ منتصرا:

- انظروا، انظروا ماذا يوجد تحت جلده.

لحم، ودم، وعظام. إنه مثلنا جميعًا. دمه أحمر مثل دمنا، وعظامه بيضاء مثل عظامنا؛ لا شيء يجعله مؤهلاً ليكون ملكًا.

إنه أيضًا مختبئ تحت جلد أسد!

(تمت)

***

.....................

الكاتب: مارسيلو بيرماجر/ (وُلد في 29 نوفمبر 1966 في بوينس آيرس) كاتب يهودي أرجنتيني. وهو حفيد لمهاجرين من رومانيا وبولندا وليتوانيا وسوريا. يُعرف بشكل رئيسي بكتابة سيناريو فيلم العناق المفقود الذي صدر عام 2004. من أبرز كتبه: الخرافات البرية.

 

قصة: سيلفينا أوكامبو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

أنزلت أدريانا نظرتها إلى ثدييها؛ كان الفستان مصنوعًا من الصوف السميك، ومطرزًا بالورود، وكانت الأكمام سيئة الخياطة مما منحها شعورًا غير مريح، يشبه الاختناق الذي تشعر به عند الاحتجاز في مصاعد خشبية متوقفة بين الطوابق. كان الإفطار جاهزًا على الطاولة؛ كانت دائمًا تتناول الإفطار واقفة وهي ترتدي ملابسها في غرف الفنادق كل صباح.. وبعد ذلك، في تلك الساعة الخالية من الأغاني في المدينة، فتحت باب الغرفة المجاورة، حيث ينام بلينيو.

دخل بلينيو، مُعلنًا عن الصباح، مندفعًا بساقيه الملتويتين، كما لو أنه يحمل على كل جانب من ذراعيه تعب العديد من الأشخاص، أو دلاء كثيرة من الماء، أو سلالًا كثيرة من الفاكهة. وكانت عيناه حزينتين من الخبث والتقليد. أجلسته أدريانا على فخذيها العاريتين وتعطيه مكعبات السكر كل صباح من حياتها. كانت أحيانًا تتساءل إن كان هو السبب الحقيقي وراء انضمامها إلى فرقة السيرك تلك، أم إن الفضل يعود لها ولعروضها البهلوانية. لكن صيحات الإعجاب كانت تطاردها أثناء الرحلات، على متن السفن، وفي محطات القطار، وعبر نوافذ القطارات حيث كانت تصلها أصوات الدهشة: "انظروا! الفتاة مع القرد!". كل ذلك لم يكن موجهًا إليها، ولا إلى قبعتها الصوفية الحمراء، ولا إلى كتفيها العريضتين. أن يكون قرد قادرًا على ركوب الدراجة كان أمرًا يدهش الجمهور، وأن يؤدي القرد حركات توازن على كرسي كان معجزة، و كان بلينيو يعرف كيف يؤدي كل هذه الأشياء.

صحيح أن أدريانا أظهرت كل صبرها: فقد أمضت ساعات طويلة، ويداها لزجتان بمكعبات السكر، تعلم بلينيو الحركات. ومع ذلك، أثناء العروض، كانت التصفيقات موجهة لبلينيو، بينما هي، بحركاتها البهلوانية، بساقيها المتورمتين المغطيتين بجوارب وردية، وذراعيها العاريتين تمامًا، كانت تضطر لانتزاع التصفيق بعد كل حركة، تجبر الجمهور على التصفيق بجولة كبيرة كفنانة بارعة، توزع القبلات على جانبي المدرجات. عانت أدريانا في البدايات من قفزات قلبها مثل دقات الطبل التي تعلن عن الحركات الخطرة: كان صدرها ينتفخ كأنه بذور تحت عنق أحمر تتخلله عروق ملتوية. وعندما تنتهي العروض، كانت تسقط على سرير في غرفة مهجورة. كانت تشعر بنبضات قلبها تخترقها في نقاط متفرقة على طول زيها الضيق. كانت صحتها تحرمها تعاطف الآخرين؛ فقد يكون جسدها منهكًا من التعب، لكن وجنتيها ظلتا ورديتين دائمًا.

أمضت فرقة سيرك إدنا  سنواتها متنقلة من بلدة إلى أخرى، واستمرت في البقاء بفضل نصف دزينة من الأفيال التي كانت تجيد المشي برجل مرفوعة في الهواء، وتجيد المضمضة بالرمال بصوت يشبه صوت الأبواق، وتعرف كيف تجلس على براميل تدور بجنون، وتسير فوق القزم برفق، كراقصات الباليه، دون أن تسحقه؛ وأيضًا بفضل بلينيو الذي كان يثير عواصف متلاحمة من التصفيق، ومشعوذ ياباني بارع.

كانت أدريانا تعمل منذ أن كانت في العاشرة من عمرها؛ نشأت بين مناظر الحبال المعلقة والشبكات الدوارة، وبين أقدام الفيلة المدربة الخشنة.لم تعش يومًا في الريف. لم تعرف من الحيوانات سوى تلك التي تعيش داخل الأقفاص. ذات يوم، قبل فترة وجيزة، دُعيت إلى نزهة في منطقة تيغري. بعد جولة بالقارب، نزلوا في منتزه يسمى "لاس فيوليتاس". نامت أدريانا تحت نخلة، وعندما استيقظت، وجدت قدمًا خشنة لفيل مستندة إلى جسدها. رفعت عينيها على طول ساق الفيل حتى وصلت إلى قمم النخيل الخضراء. كان الهواء خاليًا من نشارة الخشب والرمال، وحدثت أغرب تجربة في حياتها: يوم في الريف.

لم يحدث أي شيء استثنائي في حياتها. كانت تعيش في عزلة كصحراء بلا سماء. كانت تغفو على المقاعد وهي تنتظر دورها، وعيناها محاطتان بحافة من لهب النوم العميق (ولهذا كان زملاؤها ينادونها "النعسانة كان بلينيو يوقظها، يشدّ تنورتها، ويهز ذراعيها، بينما كان الجمهور يمر خلال الفواصل لزيارة الحيوانات. وبين كل هؤلاء الناس، في يوم ما، بينما كانت في تلك الوضعية التي يفرضها النوم، التي تلين الذراعين، وتثقل الجفون التي تستعد للسقوط كدمعتين كبيرتين، وتفتح الفم قليلًا، وتصطبغ الوجنتان باللون الأحمر بفعل ضغط التطريز أو السجادة أو يد مفتوحة، وقع رجل في حبها.

في تلك اللحظة، أصبحت الحركات البهلوانية، المشتعلة، التي تؤديها هذه المرأة النائمة حقيقية في نظره؛ كل ذراع، وكل ساق كان بمثابة غشاء لعضلات ناعسة ومرتخية، كعناق ناعم.

كان ذلك الرجل، في طفولته، قد رأى في السيرك كائنات ملائكية شقراء متنكّرة كبهلوانات؛ وربما لهذا السبب توقف ونظر طويلًا إلى البهلوانية، وكأنها انبعثت من ذكريات طفولته. أما هي، من خلف حجاب النوم، فقد رأته بعيدًا، بعيدًا جدًا، في أعلى المدرجات، يغمز لها بعينه من خلف شاربين وحاجبين غريبين يعلوان جبهته.

وهي، خلف الحلم، رأته بعيدًا، بعيدًا، في أعلى الدرجات، يغمز لها خلف شاربين بحواجب غريبة جدًا كان يضعها على جبهته. كانت قوة النظرة شديدة لدرجة أن أدريانا استيقظت، لكنها لم ترَ أحدًا. سألت : "بلينيو، من كان ذلك الرجل؟"

اقترب بلينيو ليتلصص من خلف الستائر، ثم عاد مترنحًا دون أن يقول شيئًا.

حتى ذلك اليوم، كانت قد عاشت في عزلة كصحراء بلا سماء، ثم فجأة غطّت تلك السماء الغائبة أجنحة فراشات تم جمعها في ريو، أرسلها لها ذلك الغريب كهدية – وكان بلينيو هو من تلقى قبلات الشكر. بين أرجوحات السيرك والكراسي المكدسة، كانت يدا أدريانا الكبيرتان والمستديرتان ترتجفان بفرح وهي تدعو بحماس، بعد أسبوع، عندما اقترب رجل طويل القامة، يرتدي بدلة زرقاء مائلة إلى البنفسجي، لتحيتها.

بعد تلك اللقاءات القصيرة، التقيا كل يوم في سيارة أجرة، حيث اكتشفت أدريانا أن الحب كان نوعاً من  مباراة الصيد قدر الإمكان. أراد صديقها على الفور أن يأخذها إلى شقة مفروشة، لكنه لم يستطع أن يأخذها إلا إلى حانة ألمانية، حيث كانت موسيقى الدانوب الأزرق غير متناغمة، مما أدى بهم إلى الخطوبة النهائية كانت تضطر إلى مقاطعة لقاءاتها بشكل دقيق لتذهب إلى غرفة الفندق وتطعم بلينيو؛ كانت مهمة مقدسة استمرت حتى في يوم خطوبتها. كان حبيبها، محبوساً هذه المرة داخل بدلة مخططة، يعبس جبينه قائلاً:

-  سأبدأ بالشعور بالغيرة.

سألت أدريانا:

- من من؟

- من بلينيو.

لفتهما ضحكة قصيرة أثناء الرقص. كان الجو بارداً جداً في الخارج تلك الليلة، وكان داخل الحانة الألمانية دافئاً برائحة ثقيلة من الناس، والبيرة، والمقليات. في وسط الطاولات كانت توجد زهور معدنية ضيقة وطويلة بها ثلاث زهور ميتة.

أحيانًا، عندما كانت أدريانا تعود إلى غرفتها وتجد بلينيو ينتظرها، كانت تظن أنها سمعت صوته يسألها:

- ألا تتزوجينني؟

كانت مذهولة، وتعتقد أنها حلمت بتلك الكلمات، فتتردد قليلاً ثم تجيب خجلاً:

- أحبك، لكن ليس بما فيه الكفاية لأتزوج منك.

ثم كانت تفرك عينيها وتقول لنفسها:

- يبدو أنني حلمت.

فيجيبها بلينيو:

- الحياة حلم للمحبين.

فترد:

-  لكنني لست في حالة حب.

-  أنا، نعم.

و هكذا، أصبحت هذه الحوارات المتكررة تبدو طبيعية بالنسبة لها.

بالنسبة لأدريانا، كانت الأيام قصيرة جدًا؛ أما بالنسبة لخطيبها، فكانت لا تنتهي أبدًا. وفجأة، في ظلام غيابها، أشرقت عينا بلينيو المذنبة. فكر الصديق في عدم جدوى خفض صوته، حتى أصبح مثل صوت الكاهن وهو يتلو القداس، تقديسًا لعروض اصطحاب صديقته إلى غرفة مفروشة. بدا له، بسبب ضيق الوقت، أن كلماته تفتقر إلى القوة والإقناع. وكان بلينيو هو المسؤول عن ذلك. هو من كان يسرق منه قلب حبيبته؛  كانت أدريانا تفرغ وقتها له، تعلمه (دون خجل، في قميص نومها) كيفية ركوب الدراجة. وكانها تعيش حياتها، فقط لتطعمه.

كانت الصحف في بوينس آيرس قد أعلنت عن وداع سيرك إيدنا، لكن جميعها كانت عروض وداع. في ذلك الصباح، خرجت أدريانا من الفندق مبكرًا لشراء بعض الأشياء، وعادت تمامًا في الساعة الثانية عشرة لتطعم بلينيو. في المدخل بالفندق، قامت بحركة وكأنها تحاول إيقاف دقات قلبها، أو كما لو كانت تبتلع، دون ماء، حبة دواء كبيرة جدًا. دخلت إلى غرفة النوم، وفتحت الباب الذي يربطها بالغرفة المجاورة: كانت هناك فوضى كبيرة للغاية من الكراسي والطاولات المقلوبة تحيط ببلينيو، الذي كان ملقى على الأرض، كالميت. هو، الذي كان يتحدث قليلًا جدًا دائمًا، كان الآن، وهو ميت، بحاجة إلى التحدث. ركعت أدريانا، وبعد أن مررت يديها عليه، لاحظت أن يديها أصبحتا ملطختين بالدماء. ثم رأت جرحًا مفتوحًا في صدر بلينيو، فبدأت تبكي بحرقة. كانت تعتقد أنه مات. ثم عاد صوت بلينيو ليصدح بطريقة غامضة:

-    هل ستتزوجني؟

أجابته أدريانا بنفس الدهشة، لكنها مصممة:

– أحبك وسوف أتزوجك.

عند سماع هذه الكلمات، جلس بلينيو وخرج من جلده ليتحول إلى أمير. نظرت إليه أدريانا بنشوة وتعانقا.

– أفتقد بشرتك وعينيك وطريقتك الجريئة في النظر.

-  هل كنت منجذبة إليه أكثر من قبل؟

-أعتقد ذلك.

قالت له أدريانا وهي تأخذه من ذراعه:

–  هيا، حان الوقت لتظهر على المسار الصحيح. الجمهور يدعوك.

–  لن يشجعوا الأمير بدلاً من القرد. سترى أنه لن يصفق أحد.

–  سوف نشرح للجمهور ما حدث. سوف أطلب المغفرة لأنك تغيرت.

–  لن يفهم أحد. لن يصفق أحد. سوف يرمون البرتقال في وجهي.

-  أحسن. إنها باهظة الثمن.

دخل قزم ورفع الستار ليسمح لهم بالمرور. دخل بلينيو وأدريانا إلى ساحة ركوب الخيل، وهما يعانقان بعضهما البعض. ظهر صديق أدريانا وسأل:

-أين أدريانا؟

- على المسرح، مع بلينيو، تحول إلى أمير.

-  ألم يمت بلينيو؟

-  أصبح بلينيو أميرًا.

ولدهشة الخطيب، صاح القزم منتصرًا:

- هناك دائمًا جمال للوحش ووحش للجمال.

وسمعت صافرة غاضبة قادمة من المدرجات، وأصوات تصرخ:

- القرد نعم، الأمير لا. القرد نعم، الأمير لا.

كما سُمع صوت المروض القوي الذي لعب دور سيد التشريفات:

- أيها السيدات والسادة، سترون عرضًا جديدًا: الأمير يعود ليكون قردًا في أحضان محبوبته. انظروا كيف يحبان بعضهما البعض.

كانت التصفيقات مدوية. وصرخ الجمهور:

- لا قرد، نعم أمير. لا قرد، نعم أمير. نعم قرد، لا أمير. نعم قرد، لا أمير.

(تمت)

***

..........................

الكاتبة: سيلفينا أوكامبو (28 يوليو 1903 - 14 ديسمبر 1993)   كاتبة قصص قصيرة وشاعرة وفنانة أرجنتينية.  أطلق عليها صديق أوكامبو وزميلها خورخي لويس بورخيس لقب "واحدة من أعظم الشعراء في اللغة الإسبانية، سواء على هذا الجانب من المحيط أو على الجانب الآخر".  وُلدت  أكامبو في عائلة عريقة ومزدهرة في بوينس آيرس، وهي الأصغر بين ست أخوات. بعد دراستها للرسم مع جورجيو دي شيريكو وفيرنان ليجير في باريس، عادت إلى مدينتها الأم حيث عاشت هناك لبقية حياتها، وكرست نفسها للكتابة. كانت أختها الكبرى، فيكتوريا، مؤسِّسة المجلة ودور النشر الحديثة الهامة "سور"، التي دعمت أعمال خورخي لويس بورخيس وأدولفو بيوي كاساريز، وفي عام 1940 تزوجت سيلفينا أوكامبو من بيوي كاساريز. ظهرت أول مجموعة قصصية لأوكامبو، "رحلة منسية"   ، في عام 1937؛ وأول مجموعة من دواوينها السبعة، "إحصاء الوطن"   ، في عام 1942. كانت أيضًا مترجمة غزيرة الإنتاج، حيث ترجمت أعمالًا لِإميلي ديكنسون، وإدجار آلان بو، وهيرمان ملفيل، وسويدنبورغ، وكتبت مسرحيات وحكايات للأطفال.

***

 

قصة: جي دو موباسان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

جلس جاك دو راندال، بعد تناوله العشاء بمفرده في المنزل، وأخبر خادمه أنه يمكنه الخروج، ثم توجه إلى مكتبه ليكتب بعض الرسائل.

كان ينهي كل عام على هذا النحو، يكتب ويتأمل. كان يستعرض أحداث حياته منذ يوم رأس السنة الماضي، الأشياء التي أصبحت الآن ماضية وميتة؛ وكلما ظهرت وجوه أصدقائه أمام عينيه، كتب لهم بعض السطور، تهنئة قلبية بمناسبة الأول من يناير.

جلس إلى مكتبه، فتح درجًا، وأخرج منه صورة امرأة. نظر إليها لبضع لحظات وقبّلها. ثم وضعها بجانب ورقة رسائل وبدأ الكتابة:

"عزيزتي إيرين: لا بد أنكِ قد استلمتِ الآن التذكار الصغير الذي أرسلته لكِ، والذي وجهته إلى الخادمة. لقد أغلقتُ على نفسي هذا المساء كي أقول لكِ——"

وهنا توقف قلمه عن التحرك. نهض جاك وبدأ يمشي ذهابًا وإيابًا في الغرفة.

منذ عشرة أشهر كان لديه عشيقة، لكنها ليست كغيرها. لم تكن امرأة تنخرط معها في علاقة عابرة، من عالم المسرح أو النساء ذوات السمعة المشبوهة، بل كانت امرأة أحبها وربحها. لم يكن شابًا صغيرًا، لكنه كان لا يزال شابًا نسبيًا بالنسبة لرجل، وكان ينظر إلى الحياة بجدية وبروح إيجابية وعملية.

وفقًا لذلك، بدأ بوضع ميزانية شاملة لعاطفته، تمامًا كما كان يفعل كل عام حين يعد ميزانية صداقاته التي انتهت أو تلك التي عقدها حديثًا، وكذلك الظروف والأشخاص الذين دخلوا حياته.

هدأ أول شغف الحب في قلبه، وبدأ يسأل نفسه بدقة تاجر يجري حساباته، ما هو حال قلبه تجاهها، وحاول أن يتصور ما سيكون عليه في المستقبل.

وجد في قلبه عاطفة كبيرة وعميقة؛ مزيجًا من الحنان والامتنان والألف التفاصيل الدقيقة التي تخلق روابط طويلة الأمد وقوية.

رنّ جرس الباب فجأة، فانتفض. تردد. هل عليه فتح الباب؟ لكنه قال لنفسه إنه يجب دائمًا فتح الباب في ليلة رأس السنة لاستقبال الغريب الذي يمر ويطرق، مهما كان.

أخذ شمعة من الشمع، ومرّ عبر المدخل، وأزال المزاليج، وأدار المفتاح، وفتح الباب. هناك، رأى عشيقته واقفة شاحبة كالجثة، متكئة على الحائط.

تلعثم: "ما بكِ؟"

ردت: "هل أنت وحدك؟"

"نعم."

"دون خدم؟"

"نعم."

"  وأنت ألن تخرج؟"

" لا."

دخلت بملامح امرأة تعرف المكان جيدًا. وما إن وصلت إلى غرفة الجلوس، حتى سقطت على الأريكة، وغطّت وجهها بيديها، وبدأت تبكي بحرقة.

ركع عند قدميها وحاول أن يبعد يديها عن عينيها كي ينظر إليهما، وهتف:

"إيرين، إيرين، ما بكِ؟ أتوسل إليكِ أن تخبريني ما الذي يحدث؟"

ثم، بين شهقاتها، همست:

"لم أعد أستطيع العيش هكذا."

" العيش هكذا؟ ماذا تعنين؟"

"نعم. لم أعد أستطيع العيش هكذا. لقد تحملت الكثير. لقد ضربني هذا العصر."

"من؟ زوجكِ؟"

" نعم، زوجي."

" آه!"

شعر بالدهشة، إذ لم يكن يتصور أبدًا أن زوجها يمكن أن يكون عنيفًا. كان زوجها رجلًا من الطبقة الراقية، من رواد النوادي، عاشقًا للخيول، مداومًا على حضور المسرح، ومبارزًا ماهرًا بالسيف. كان مشخصا مشهورا، يتحدث عنه الجميع، ويحظى بتقدير في كل مكان، بفضل لباقته، على الرغم من عقله المتواضع، وغياب التعليم والثقافة الحقيقية التي تُعين على التفكير كرجل من الطبقة المثقفة. وأخيرًا، كان يمتلك احترامًا صارمًا للأعراف الاجتماعية.

كان يبدو مكرسًا لزوجته، كما ينبغي لرجل من أصحاب الثراء والنسب أن يكون. أظهر اهتمامًا كافيًا برغباتها، وصحتها، وملابسها، وما عدا ذلك، تركها حرة تمامًا.

كان راندال، بصفته صديق إيرين، يستحق المصافحة الودية التي يجدر بكل زوج مهذب أن يمنحها لصديق زوجته المقرب. ثم، عندما تحول جاك، بعد فترة من كونه صديقًا، إلى عشيق، أصبحت علاقته بالزوج أكثر وُدًّا، كما تقتضي اللياقة.

لم يكن جاك قد تخيل أبدًا أن هناك عواصف تعصف بهذا المنزل، فشعر بالارتباك بسبب هذا الكشف غير المتوقع.

سألها:

"كيف حدث ذلك؟ أخبريني."

فبدأت تحكي قصة طويلة، التاريخ الكامل لحياتها منذ يوم زواجها. أوضحت أن أول خلاف نشأ بسبب شيء تافه، لكنه تفاقم مع كل اختلاف جديد في وجهات النظر بين شخصيتين متباينتين.

ثم جاءت المشاجرات، والافتراق الكامل، الذي لم يكن ظاهرًا لكنه كان حقيقيًا. وبعد ذلك، أظهر زوجها سلوكًا عدوانيًا وشكوكًا وعنفًا. الآن، أصبح غيورًا، غيورًا من جاك، وفي ذلك اليوم بالذات، بعد مشهد حاد، قام بضربها.

وأضافت بحسم: "لن أعود إليه. افعل بي ما تشاء."

جلس جاك قبالتها، وركبتيهما متلامستان. أمسك بيديها وقال:

"حبيبتي، أنت على وشك ارتكاب خطأ فادح لا يمكن إصلاحه. إذا كنت تريدين ترك زوجك، اجعليه هو المخطىء، حتى تحافظي على مكانتك كامرأة محترمة في المجتمع."

سألته بقلق وهي تنظر إليه:

"إذن، ماذا تنصحني؟"

"أن تعودي إلى منزلكِ وتتحملي حياتكِ هناك حتى اليوم الذي تتمكنين فيه من الحصول على الانفصال أو الطلاق، مع الحفاظ على كرامتكِ."

"أليس هذا الذي تنصحني به يُعد نوعًا من الجُبن؟"

"لا، بل هو تصرف حكيم وعقلاني. لديكِ مكانة رفيعة، وسمعة لتحميها، وأصدقاء يجب الحفاظ عليهم، وعلاقات عليك التعامل معها. لا يجب أن تفقدي كل هذا بسبب نزوة عابرة."

نهضت وقالت بغضب:

"حسنًا، لا! لا أستطيع تحمل الأمر أكثر من ذلك ! انتهى الأمر! انتهى!"

ثم وضعت يديها على كتفي عشيقها، ونظرت إليه مباشرة في عينيه وسألته:

"هل تحبني؟"

" نعم."

"    "حقًا وبصدق؟"

"نعم."

"إذن ابقيني معك."

صرخ قائلاً:

"أبقيك؟ في منزلي؟ هنا؟ يا إلهي، أنتِ مجنونة. هذا يعني خسارتكِ إلى الأبد؛ خسارتكِ بلا أمل في استرجاعكِ! أنتِ مجنونة!"

فردت ببطء وجدية، مثل امرأة تدرك ثقل كلماتها:

"اسمع يا جاك. لقد منعني من رؤيتك مجددًا، ولن أمثل هذه الكوميديا بالمجيء سرًا إلى منزلك. عليك إما أن تخسرني أو تأخذني."

عزيزتي إيرين، في هذه الحالة، احصلي على الطلاق وسأتزوجكِ."

نعم، ستتزوجني خلال... عامين على الأقل. حبك صبور للغاية."

"  اسمعيني! فكري جيدًا! إذا بقيتِ هنا، سيأتي غدًا ليأخذكِ، كونه زوجكِ، وكونه يملك الحق والقانون في صفه."

"لم أطلب منك أن تبقيني في منزلك يا جاك، بل أن تأخذني إلى أي مكان تختاره. ظننت أنك تحبني بما يكفي لفعل ذلك. لقد أخطأت. وداعًا!"

استدارت وتوجهت نحو الباب بسرعة كبيرة لدرجة أنه لم يستطع الإمساك بها إلا عندما كانت قد خرجت من الغرفة:

"اسمعي يا إيرين."

كانت تقاوم وترفض الاستماع إليه. كانت عيناها مليئتين بالدموع وهي تردد بتلعثم:

"دعني وشأني! دعني وشأني! دعني وشأني!"

أجلسها بالقوة، وركع مرة أخرى عند قدميها، وبدأ يطرح عليها العديد من الحجج والنصائح ليجعلها تدرك حماقة وخطورة مشروعها. لم يغفل شيئًا اعتقد أنه ضروري لإقناعها، حتى وجد في حبه لها دوافع للإلحاح عليها.

ولكنها بقيت صامتة وباردة كالجليد. توسل إليها، ناشدها أن تستمع إليه، أن تثق به، وأن تتبع نصيحته.

وعندما انتهى من حديثه، لم تجبه إلا بقولها:

"هل تنوي أن تتركني أرحل الآن؟ أزل يديك لأتمكن من الوقوف."

" اسمعيني، يا إيرين."

"هل ستتركني أرحل؟"

"إيرين، هل قراركِ هذا لا رجعة فيه؟"

"هل ستتركني أرحل؟"

"أخبريني فقط، هل هذا القرار، هذا القرار الجنوني الذي ستندمين عليه بمرارة، لا رجعة فيه؟"

" نعم..دعني أرحل!"

" إذن ابقي. أنت تعلمين جيدًا أن هذا منزلك. سنرحل صباح الغد."

نهضت رغمًا عنه وقالت بنبرة قاسية:

"لا. لقد فات الأوان. لا أريد تضحية، ولا أريد تفانيًا."

"ابقي! لقد فعلتُ ما يجب علي فعله؛ قلتُ ما يجب علي قوله. لم أعد مسؤولًا عنكِ. ضميري مرتاح. أخبريني ما تريدينني أن أفعله وسأطيع."

استأنفت جلوسها، ونظرت إليه طويلاً، ثم سألته بصوت هادئ جدًا:

"حسنًا، إذن، وضح."

"أوضح ماذا؟ ما الذي تريدينني أن أشرحه؟"

"كل شيء—كل ما فكرت فيه قبل أن تغيّر رأيك. ثم سأقرر ما يجب أن أفعله."

"لكنني لم أفكر في أي شيء على الإطلاق. كان علي أن أحذرك من أنك كنتِ على وشك ارتكاب حماقة. وأنتِ تصرين؛ إذن أطلب أن أشاركك في هذه الحماقة، بل وأصر على ذلك."

"ليس من الطبيعي أن يغير المرء رأيه بهذه السرعة."

"اسمعيني، حبيبتي. الأمر هنا لا يتعلق بالتضحية أو التفاني. في اليوم الذي أدركت فيه أنني أحبك، قلت لنفسي ما يجب على كل عاشق أن يقوله لنفسه في مثل هذا الموقف:

'الرجل الذي يحب امرأة، والذي يبذل جهدًا لكسبها، والذي يفوز بها، والذي يأخذها، يدخل في عقد مقدس مع نفسه ومعها. هذا، بالطبع، في حالة التعامل مع امرأة مثلك، وليس مع امرأة ذات قلب متقلب وسهل التأثر.'

" الزواج، الذي له قيمة اجتماعية كبيرة وقيمة قانونية عظيمة، لا يمتلك في نظري إلا قيمة أخلاقية ضئيلة جدًا، بالنظر إلى الظروف التي يتم في ظلها عادة.

"لذلك، عندما تكون امرأة مرتبطة بهذا القيد القانوني، لكنها لا تحمل أي ارتباط عاطفي تجاه زوجها، الذي لا يمكنها أن تحبه، فهي  امرأة قلبها حر، تقابل رجلاً تهتم به وتعطيه نفسها، وعندما يأخذ رجل لا تربطه أي صلات أخرى هذه المرأة بهذه الطريقة، أقول إنهما يتعهدان تجاه بعضهما البعض بهذا الاتفاق المتبادل والحر أكثر بكثير من قول 'نعم' في حضور القاضي."

"  أقول إنه إذا كان كلاهما شخصين شريفين، فإن ارتباطهما سيكون أعمق وأكثر صدقًا وأكثر نقاءً من أي رابطة قدسها أي طقس ديني."

"إن هذه المرأة تخاطر بكل شيء. وذلك لأنها تعلم ذلك، ولأنها تعطي كل شيء، قلبها، وجسدها، وروحها، وشرفها، وحياتها، لأنها توقعت كل البؤس، وكل المخاطر، وكل الكوارث،  لأنها تجرأت على القيام بعمل جريء، عمل شجاع، ولأنها مستعدة، ومصممة على مواجهة كل شيء – زوجها، الذي قد يقتلها، والمجتمع، الذي قد ينبذها. لهذا السبب تستحق الاحترام وسط خيانتها الزوجية؛ ولهذا السبب يجب على عشيقها، حين يأخذها، أن يتوقع كل شيء أيضًا، وأن يفضّلها على الجميع مهما حدث. ليس لدي المزيد لأقوله. تحدثت في البداية كرجل عاقل واجبه أن يحذرك؛ والآن أنا مجرد رجل – رجل يحبك – آمري، وأنا أطيع."

عند ذلك ابتهجت، وأغلقت فمه بقبلة، وقالت بصوت منخفض:

"هذا غير صحيح، حبيبي! لا يوجد شيء خطأ! زوجي لا يشك في شيء. لكنني أردت أن أرى، أردت أن أعرف، ماذا ستفعل إذا تمنيت هدية من هدايا رأس السنة—هدية قلبك—هدية أخرى غير العقد الذي أرسلته لي. لقد قدمتها لي. لقد منحتني إياها. شكرًا! شكرًا! الحمد لله على السعادة التي منحتني إياها!"

(النهاية)

***

.....................

الكاتب: جي دو موباسان/ Guy de Maupassant: يُعد جي دي موباسان، الذي يُعترف به عالميًا كأب للقصة القصيرة الحديثة، من أبرز الكتاب الذين اشتهروا ببراعته في بناء الحبكات. وُلد في نورماندي وكان تلميذًا لفلوبر، الذي قام بتوجيهه في بداية مشواره الأدبي. كانت أولى قصصه، "كرة الشحم" (1880)، تُعتبر من روائع الأدب، واستمر في الكتابة بشكل منتظم، منتجًا من اثنين إلى أربعة مجلدات من القصص سنويًا، بالإضافة إلى أعظم رواياته، "بيير وجان". كان غنيًا ومشهورًا، لكنه أصيب بمرض الزهري وتم تشخيصه بالجنون في عام 1891. توفي موباسان في عام 1893، قبل أن يكمل عامه الثالث والأربعين، بعدما كتب لنفسه نعيًا: "لقد رغبت في كل شيء ولم أستمتع بأي شيء".

 

بقلم: فيليب ابلمان

ترجمة: د. عادل صالح الزبيدي

***

الى جامعي القمامة في بلومنغتن، انديانا، القطفة الأولى في العام الجديد

***

(هيئة الفراش في الشتاء، مثل حضن مؤتزر،

مثل قفازين من فراء،

مثل الطفولة الجاثمة تحت الموائد)

اليوم التاسع بعد عيد الميلاد،

في ظلمة الصباح خارج نافذتنا:

قرقعة صفائح، طنين احدهم يقفز،

صيحات، صافرة، "تحرك..."

اراهم في مخيلتي الدافئة

على الهيئة التي سأراهم فيها في البرد،

يرفعون الصفائح الهائلة ويركضون

(يركضون !) نحو المنزل التالي في الشارع.

*

عضلاتي الضامرة تتحرك

قلقة في شرنقتها القطنية:

ما الذي يحرك اولئك الرجال هناك في الخارج،

ما الذي يحفزهم على الركض نحو المنزل التالي ثم التالي؟

وفي منتصف طريق عودتي الى الحلم، اتأمل:

صالح المجتمع؟ "لنجعل من بلومنغتن

الطيبة القديمة مكانا انظف

للعيش فيه—أ ليس كذلك يا رجال؟ هيلا، هب!"

منافسة سليمة؟ "هيا يا ولد،

لنحرق ذلك الطريق اليوم ونبز اولئك المتأنقين

في العربة ثلاثة عشر!"

مصلحة شخصية متنورة؟ "صفيحة أخرى،

دولار آخر—لا تتباطأ يا ماك، انني سأرسل

ثلاثة ابناء الى الجامعة؟"

ام شيء آخر؟

فضاعة؟

*

بعد نصف ساعة، زحف الفجر تدريجيا

فوق شارع كلارك: طيات من الألوان انتشرت

مثل قوس قزح منثور—احمر ثم اصفر، واخضر،

وفوق ذلك لا يزال الليل الأسود والأزرق مخيما.

اشجار القيقب في شارع كلارك تحرك

ظلالها متماوجة مقابل الحمرة،

ومن خلال الأشجار الكثيفة الغصون،

اشاهد كتلة مكتنزة من عربة القمامة

واشكال رجال كالعصي كأنهم العاب تم تدويرها

يقذفون صفائح صغيرة—

ويركضون.

*

سيقومون بذلك طوال النهار، حتى يخيم الظلام ثانية،

وطوال النهار، سيرمي الناس وهم في زحمة مكاتبهم،

وامام المواقد الحارة، وعلى المكائن

علب الصفيح والأغصان الجرداء والمناديل الورقية الرطبة،

وكل ما لقيصر.

*

يا رجال القمامة،

العام الجديد يحييكم مثل العام القديم؛

بعد هذه الركضة الأولى انتم ايضا قد تستريحون

في فراشكم مثل احضان مؤتزرة دافئة كبيرة

وتعلمون ان الناس في كل مكان يؤمنون:

بأن تخليصهم من جميع اشياء هذه الدنيا

يجعلهم ينتظرون بثقة مجيئكم الثاني.

***

.......................

* فيليب ابلمان (1926-2020) شاعر وكاتب واستاذ ادب متمرس اميركي ظهرت قصائده في كبرى الصحف والدوريات الأميركية ونشر سبع مجموعات شعرية من عناوينها: "عشق صيفي وامواج متكسرة" و "امثال غادرة."

 

قصة قصيرة جدًا

بقلم: ناتاشا أيّاز

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

ذات مساء في يوليو. منذ سنوات، في حديقة الورود، يداه على فستان امرأة.

لن أنسى أبدًا كيف بدتا - يدا عازف بيانو، يدان تسكبان الكحول على جروحي كما لو كان ماء مقدسًا - عالقة هناك في لحظة الخيانة. تمنيت أن يسقط رأس المرأة بمهارة من عنقها إلى العشب. ليكون بمثابة كأس فوز لمعاناتي . وقفت خلف شجيرة الورد وراء الجدار الحجري في سانتينو، أشهد تقطيع أوصال طفولتي. كانت الورود وردية، وليست حمراء. لون أنف هر صغير، أو صدر دجاج بارد. كان جسد المرأة يخترق القيود حتى تجعّد الحرير، وأصبح لونه أصفر مثل شراب "الليمونسيلو". على الرغم من غضبي الطفولي، اقتربت أكثر، والشوك يضغط على أصابعي، وقلبي يذوب في فخذيّ. وعندما بدأ والدي يرفع الفستان الأصفر ببطء، التفتُ وركضتُ على الطريق المؤدي إلى منزلنا.

حدث ذلك مرتين قبل ذلك: كنت شاهدًا. مرة في وقت مبكر من نفس الصيف، ومرة أخرى في الصيف الذي قبله. دائمًا في حديقة الورود، كان والدي يتتبع خصور نساء غريبات. في كل مرة، كنت أفكر في أمي: وهي تمسح يديها على تنورتها البرتقالية، رائحة الكزبرة تفوح منها، ضاحكة على جملة في إحدى الروايات الكبيرة التي كانت تقرأها. فكرت في كيفية لمس والدي لوجه أمي، أصابعه تتتبع خط فكها، وكأنها ترسم أراضي مألوفة. كان هناك شيء في تلك اللمسة مختلف عن تلك التي كانت بينه وبين النساء في الحديقة، رغم أنني لم أستطع تحديد ما هو. كنت صغيرة جدًا على فهم تعقيدات الامتلاك. كنت أفكر في كيف أن فم أمي سينحني إلى شكل "أو" مصابة، وكيف أنها قد لا تعود أبدًا لتحتفظ بذقني وتقول لي: "أنت تشبهين والدك كثيرًا"، ولم أستطع أن أخبرها عن الحديقة. كنت قلقة من أنها، مثل الطيور البيضاء التي كنت أجدها أحيانًا ملقاة على شرفتنا، تلك التي كانت أمي تسميها جنودها الصغار، ستموت. كنت أخشى أن وجهها، الذي كان أقرب إلى وجه الأخت منه إلى وجه الأم، سيذبل قبل عينيّ بعقود. في ذلك الوقت، فهمت، ربما من خلال إحدى الحكايات الخيالية قبل النوم، أن المعرفة يمكن أن تغير المظاهر. كنت أعرف أن العقل يمكن أن يؤثر على الجلد، وأن الحزن يظهر في الأعراض. بدأت أبحث عن دلائل لخداع والدي في جسده. طفح جلدي مستمر أو جفن عيون مترهل. أي عيب صغير كان سيكفي، لكنه بقي جميلًا كما كان دائمًا. من رأسه إلى أخمص قدميه، كان والدي كاملًا.

في آخر مرة رأيته فيها في الحديقة، سمعت خطواته تتبعني بينما كنت أركض على المسار. لدي نظرية أن الرجال يمشون بخطوات ثقيلة. لا يهتمون بإزعاج السكون لأن السكون لم يخطر لهم كأمر مهم. النساء، في نظريتي، يمشين بخطوات خفيفة، أصابع قدميهن تلامس الأرض. هذا التعميم مبني بالكامل على والديّ. عندما كبرت، بذلت جهدًا لأفكر في أمي كلما لامست قدماي الأرض. أصبحت خطواتي خفيفة كالثعلب في الغابة، احترامًا لأمي ودافعًا متآمرًا للانقضاض على والدي. كنت أتخيل نفسي الشرطة السرية لنظام أمي. في تلك الليلة الصيفية، فررت من المشهد حافية القدمين، حاملة حذائيّ، واحدًا في كل يد. أمسك بي والدي من ياقة قميصي عند قاعدة شجرة صنوبر حلبي ونظر في عينيّ، مشيرًا بإصبعه في وجهي.

- " لن تقولي لها شيئاً. أنتِ لا تعرفين ما رأيتِ."

أومأت برأسي. لم أخبره أنني قد أمسكته مرتين من قبل، وأنني قررت بمفردي ألا أخبر أمي، وأنني كنت آمل أن يتحول شعره الأسود إلى أسلاك ويسقط. جعلني أرتدي حذائي. مشينا إلى المنزل معًا. عند عتبة باب منزلنا، سحب زهرة وردية واحدة وقدّمها لأمي مع انحناءة. شمّت الزهرة، ابتسمت، ووضعَتها في كأسٍ أزرق على حافة النافذة. في منتصف الليل، تركت السرير لأرمي الورد عبر النافذة ثم أغلقها بإحكام. وعندما جاء الصباح، كان هناك طائر، جسمه كقطرة حليب، ميتًا خارج الزجاج مثل نذير شؤم.

لم أخبر أمي بما كنت أعرفه. عندما حزم والدي حقائبه بعد عام ليعيش في بلد آخر مع ذات "فستان الأصفر"، ليختفي عنّا للأبد، أخذتني أمي من ذقني. وقالت:

- "لم نفقد شيئًا"

في الأسبوع الماضي، بعد خمسة عشر عامًا من رحيل والدي، تلقيت نبأ العثور عليه ميتًا في حمام أحد الشاليهات في جبال الألب. كان ذلك بسبب اعتلال عضلة القلب الناتج عن الإجهاد. قضيت اليوم في تنظيف شقتي وتنظيف يدي. في كل غرفة، أغلقْتُ النوافذ لكي أخفف من الرائحة المفاجئة للورد، التي كانت تصر على البقاء عبر الزمن مثل الحقيقة.

(تمت)

***

......................

الكاتبة: ناتاشا أياز/ Natasha Ayaz كاتبة باكستانية-أمريكية، فازت بمسابقة Narrative للقصة الربيعية لعام 2023، خريجة كلية بارد، حيث تخصصت في الفنون الكتابية. حصلت على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من جامعة كورنيل، حيث تدرس الكتابة الإبداعية.

 

من الأدب الكردي

شعر: لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(قبل)

تغدو قبلاتي سحبا

فتتبع آثارك،

متنقلة من سماء إلى سماء

وتحط على أسلاك

نافذة غرفتك

مثلما تفعل طيور السنونو...

إنها تتبع خطاك

وتذهب إلى حيث تفوح رائحتك.

إن قبلاتي لهي شبيهة بي:

إنها دون ام،

دون موطن

وليس لها من يحزن عليها.

إنها بقع من سحب

لامتناهية الأطراف،

تحلق بها عاصفة الحب الغيناء

فتتبع خطاك،

وتتبع خطاك...

وأنت في ليلة من ليالي الشتاء

القارسة،

لو سمعت حفيفا خلف بابك

فاعلمي انها سحب قبلاتي

تنقر بابك!!!

***

......................

- لطيف هلمت: شاعر وأديب كردي معروف غزير الإنتاج. يكتب بالكردية والعربية. ولد عام 1947 في قضاء كفري – العراق. له اسهامات في حقول القصة القصيرة والكتابة النقدية والفلكلور والترجمة الشعرية وادب الأطفال. من أعماله: شعر تلك الفتاة خيمة مشتاي ومصيفي، الله ومدينتنا الصغيرة، التأهب لولادة جديدة، العاصفة البيضاء، الكلمات الحلوة ورد ورد، نشيد الفقراء، أجمل قرية، تلك الرسائل التي لا تقرأها امي، فلسطين وطن غسان كنفاني، الرسالة التي تنتهي ولا تنتهي، عش آخر، الطفل والمطر، الطفل والعصفور، قلوب من الزجاج (بالعربية)، المدن الحدية (بالعربية).

 

بقلم: البيرتو ريوس

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

عيد الميلاد على الحدود، 1929

مقتبسة عن تقارير الصحف المحلية

وذكريات عن ذلك الوقت.

*

1929، الأيام الأولى من الكساد الكبير.

كان هواء الصحراء قارصا، لكن روح الموسم كانت حية.

*

على الرغم من الأوقات الصعبة، صمم اهالي بلدة نوغاليس بولاية اريزونا

على اقامة حفلة عيد ميلاد مهيبة.

*

بالنسبة لأطفال المنطقة—احتفال سيتحدى

كآبة العام وعناوين الصحف والشتاء نفسه.

*

في قلب البلدة، انتصبت شجرة عيد ميلاد شاهقة،

شجرة صنوبر في الصحراء.

*

سوف تزين اغصانها، كما وعدوا،

بما يزيد على 3000 هدية، 3000.

*

كانت الفكرة في البداية ان تنور الشجرة مثلما في المنزل،

بالشموع، لكنها كانت يابسة قليلا.

*

كانت الابر تبتدئ التفكير بالقفز.

اصبع على طول الغصن جعلها كلها تتساقط.

*

جلب الناس الشموع على اية حال. ارسلت الكنيسة

ايضا بعضا منها مستعملا.

*

بعض الأكياس الورقية التي رتبت الأوضاع.

كان الجميع يعرف ما يفعل.

*

ملأوا الأكياس بالرمل من مركز الاطفاء،

وضعوا الشموع فيها، صانعين بركة كبيرة من المصابيح الورقية المضيئة.

*

عن بعد، كانت الشجرة تطفو على بحيرة من الضياء—

النار التي هي عادة رعب في الصحراء، لكنها هنا اقرب للمعجزة.

*

للشجرة نفسها جلب الناس اكاليل من منازلهم، اكاليل

مصنوعة من كل شيء، من الجوز واليقطين والزهور،

*

وحتى الفلفل الأحمر الحار—الفلفلات نفسها تبدو

كأنها السنة لهب صغيرة.

*

ثبتها ناس البلدة كلها على الوحش—

كانت بعد كل ذلك تكبر وتكبر مع كل اضافة جديدة.

*

هذا الحمار الفضولي الذي كان حمله بهجة.

في النهاية كانت اللمسة الأخيرة البهرجان، البهرجان في كل مكان، مزيد من البهرجان.

*

دعي الأطفال من التجمعات القريبة وكذلك الأطفال

من عبر الحدود، في نوغاليس، بولاية سونورا، مسافة رمية حجر.

*

لكن كان هناك مشكلة. الحدود.

واذ اقترب يوم الاحتفال، اصبح واضحا بشكل مؤلم—

*

الأطفال في نوغاليس، بولاية سونورا، لن يتمكنوا من العبور.

كانوا، بعبارة دقيقة، على الجانب الخطأ من عيد الميلاد.

*

مصممين على ان يجدوا حلا، تعاون الناس في نوغاليس

بولاية اريزونا مع السلطات المكسيكية على الجانب الآخر.

*

بحركة كريمة مثلما هي جريئة، سعيدة مثلما كان الجو باردا:

عشية عيد الميلاد، 1929،

*

لبضع ساعات متسامية،

تحركت الحدود.

*

نقلها المسؤولون شمالا، متجاوزين المجلس البلدي، ليضعوا بهذه الطريقة

شجرة عيد الميلاد بمتناول الأطفال من كلتا البلدتين.

*

في نهار عيد الميلاد، تجمع آلاف الأطفال—

اميركيون ومكسيكيون، سكان اصليون وايتام—

*

حول الشجرة، بأيدِ ممدودة، وأعين فاغرة،

يتصايحون ويغنون معا.

*

وزعت الهدايا، لعقت الحلوى وقصبات السكر،

وليوم واحد، لم يكن هناك حدود.

*

حين وزعت آخر هدية،

حين عاد آخر طفل الى منزله،

*

استعادت الحدود اماكنها المعتادة،

لتفصل البلدتين عن بعضهما مرة ثانية.

*

غير انه، خلال تلك الساعات القليلة، اختفى الخط الماثل في الرمل.

الشيء الوحيد الذي كان مهما هو عيد الميلاد.

*

لم تذكر الصحف اية حوادث في ذلك اليوم، لا شيء يتجاوز

تراكض الأطفال، وجيوبهم مليئة بالحلوى والألعاب،

*

والناس المتجولين على كلا الجانبين،

وموسيقى فتح اغلفة الكثير من حلوى النعناع.

*

في ذلك اليوم القارس من شهر ديسمبر،

تجمع اهالي نوغاليس وفعلوا ما كان يبدو مستحيلا:

*

مهما نظروا نظرة هادئة الى العالم الخارجي،

فانهم ببساطة قد اعادوا رسم الحدود.

*

بعملهم هذا، اضافوا شيئا من الدفء الى شتاء الصحراء.

على الحدود، في هذا اليوم، كان عندهم مشكلة وحلوها.

***

......................

* البيرتو ريوس: شاعر اميركي من مواليد نوغاليس بولاية اريزونا لعام 1952. تلقى تعليمه في جامعة اريزونا. نال شعره جوائز عديدة ويشغل منصب شاعر ولاية اريزونا الأول منذ عام 2013 كما اختير ليشغل منصب رئيس اكاديمية الشعراء الأميركيين في عام 2014. من عناوين مجموعاته الشعرية: "همس لخداع الريح" 1982؛ "بستان الكلس" 1988؛ "مسرح الليل" 2006؛ "القميص الخطر" 2009؛ "اصغر عضلة في جسم الانسان" 2014؛ و "قصة صغيرة عن السماء" 2015.

 

 

قصة: تاتيانا تولستايا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان لهذا الدب تيدي عينان كهرمانيتان مصنوعتان من زجاج خاص — لكل عين بؤبؤ وقزحية. كان الدب نفسه رماديًا ومتيبسا، بفرو خشن. كنت أعشقه.

ثم مضى عمرٌ كامل. اشتريت شقتي الخاصة في سانت بطرسبرغ، وكنت أتجول في بيت العائلة أجمع ملابسي وكتبي، متوسلة إلى أمي أن تعطيني بعض التذكارات الصغيرة والأقمشة القديمة المخزنة في حقائب سفر قديمة جدا .  لم يكن أحد بحاجة إلى هذه الأشياء—لا أمي، وبالتأكيد لا أنا—لكنني أحب الأشياء غير الضرورية: فقد تلاشت منها كل المعاني العملية والتجارية والنفعية، وتبخرت فائدتها، ولم يبقَ منها سوى أرواحها العارية، جوهرها الحقيقي، كل ما كان مخفيًا تحت صخب الأيام وضجيجها.

بينما كنت أنبش في خزانة تحت الدرج، المحاط بأكياس الخيش المتسخة وعصي التزلج القديمة التي لم نتمكن أبدًا من التخلص منها، أتحسس الظلام في الفراغ بين الجدار والصندوق الخشبي، عثرت على الدب أو، بالأحرى، على ما تبقى منه: إطار خشبي مكسو بالفرو، بيد أمامية واحدة، وزر بلاستيكي يمثل عينًا، وخيوط سوداء متدلية مكان العين الأخرى.

أمسكته بقوة، أضم جسده المغبر والخشن إلى صدري، وأغمضت عيني لأمنع سيل الدموع غير المتوقع عليه.  وقفت هناك، في الظلام الخانق والضيق، أصغي إلى دقات قلبي المحمومة. أو ربما كان قلب الدب - من يدري؟

كيف كان الأمر؟ ربما كان شيئًا مثل هذا: تخيل أن لديك أطفالًا، يكبرون ويصلون إلى سن الأربعين، فتعتاد على هذا الواقع وتعيش معه. ثم أثناء تفتيشك في الخزانة، تجد هنا طفلك الأول، كما كان في الماضي—في عمر الثمانية عشر شهرًا، لا يستطيع الكلام بعد، تفوح منه رائحة الحبوب والشوفان والتفاح المهروس، وجهه منتفخ من البكاء، ضائع ولكن تم العثور عليه، ينتظرك طوال هذه العقود خلف صندوق خشبي في الخزانة، عاجزًا عن أن يناديك—وها أنتما أخيرًا تجتمعان من جديد.

أخذته معي إلى شقتي الجديدة. كان كل شيء هناك جديدًا بطريقة مهينة—أي غريبًا ودخيلًا.. كان المكان مليئًا بالأشياء التي تم شراؤها من متاجر التحف والأشياء المستعملة، أشياء كانت مملوكة سابقًا لأشخاص آخرين ولم تتأقلم بعد مع بيئتها الجديدة. بذلت قصارى جهدي لتخفيف غرابة هذه الصناديق ذات الأدراج والخزائن الجانبية الأجنبية باستخدام تحف والدتي وأقمشتها. وضعت الدب على سريري، ولم أكن أعرف ماذا أفعل به غير ذلك.

في تلك الليلة، نمت وذراعي حوله؛ فاستجاب بحذر لهذه اللمسة بذراعه الوحيدة.. كانت ليلة صيفية بيضاء، نوع من الشاش مع شفق قاتم، لا نوم، ولكن شوق إليه. كان الدب يعبق برائحة الغبار، غبار والشيخوخة، والضعف، رائحة عقودٍ طويلة وآلاف السنين. عندما فتحت عيني في عتمة هذا الليل المرمري تحت الماء، رأيت الخيط الأسود يتدلى من محجر عينه الصغير البائس. مررت يدي على رأسه الخشبي؛ كان مغطى بالندوب. لمست أذنه.

لا، فكرت، لا يمكن أن يستمر هذا. هناك قصة قصيرة لويليام فوكنر بعنوان "وردة لإميلي". تتحدث القصة عن امرأة تسممم حبيبها لمنعه من تركها، ثم تحبس نفسها في منزلها وترفض تركه لمدة أربعين عامًا حتى وفاتها. بعد جنازتها، تم العثور على جثة متعفنة في قميص نوم متعفن مستلقية على جانبه في سرير، وكأنها تحتضن شخصًا ما، وبجانبه، على وسادة بها انبعاج رأس، هناك خصلة شعر رمادية حديدية واحدة.

في الصباح، غادرت إلى موسكو. وعندما عدت بعد شهر، كان الدب قد اختفى. لم يكن على السرير، أو تحته؛ لم يكن في أي من الخزائن، ولا في المساحة الضيقة تحت الأرض. كان غائبًا تمامًا، لا أثر له في أي مكان.

(تمت)

***

..........................

المؤلفة: تاتيانا تولستايا/ Tatyana Tolstaya. كاتبة روسية ومقدمة برامج تلفزيونية وناشرة وروائية وكاتبة مقالات من عائلة تولستوي، وهي معروفة برواياتها الخيالية و"مقالاتها اللاذعة عن الحياة الروسية المعاصرة". وُلدت تاتيانا تولستايا (مواليد 1951) في لينينجراد في واحدة من أعرق العائلات الأدبية في المدينة. هي ابنة أخت ليف تولستوي، وحفيدة الكاتب والمسرحي والشاعر أليكسي نيكولايفيتش تولستوي (1883-1945)، وإن كانت تكره أن يتم التعامل معها " باعتبارها قريبة لشخص ما" ومع ذلك، فإن خلفية تولستايا بلا شك هي خلفية ثقافية وتعليمية. كان والدها أستاذًا للفيزياء علمها لغتين، وكان جدها لأمها مترجمًا معروفًا.وقد وصفها جوزيف برودسكي بأنها "الصوت الأكثر أصالة ووضوحًا وإشراقًا في النثر الروسي اليوم". من بين مجموعاتها القصصية: "على الشرفة الذهبية"، "المتجول في الضباب"، و"الجدران البيضاء". هي مؤلفة رواية "السلنكس" وكتاب "أطفال بوشكين: كتابات عن روسيا والروس"، وهو مجموعة من المقالات. كتبت لتلك المجلات المعروفة مثل "مراجعة نيويورك للكتب" و"النيويوركر"، ولقد كانت لمدة اثني عشر عامًا المشاركة في تقديم برنامج "مدرسة الفضائح"، وهو برنامج حواري روسي شهير يتناول الثقافة والسياسة. تعيش تاتيانا تولستايا في موسكو.

بقلم: مادلينا غروسمان

ترجمة: صالح الرزوق

***

هبت الريح على المرفأ. ولم ألاحظها إلا بعد نهاية رحيل الحشود وصخب مودعيهم، حينها غادرت عبارتك. ثم هبت تلك الريح حولي، ومعها صيحات وصفير وبقايا المغادرين: غبار لفافات البلاستيك، كؤوس القهوة، ورق لف السكاكر، أعقاب السجائر. بعد أن عدت إلى البيت، جاءت آنا، كما لو أنني أتوقعها. جلست على طرف الطاولة الآخر فوق الشرفة، كان البحر أسود كالليل، ويترامى تحتنا. لم يكن هناك قمر، لذلك ضاع نصف وجهها، وفمها الواسع، في الظل. التمعت شمعة على نصف الطاولة الآخر: رأيت مساحة ناعمة من خديها البالغين من العمر ما يزيد على ثلاثين عاما بقليل، وحينما استدارت رأيت عينيها المتعبتين وتحتهما انتفاخات، وكانتا مصبوغتين بعناية. كانت عائدة للتو بعد غياب خمس سنوات، وقبل ساعات من رحيلك. كنت أعلم ماذا تريد. جلست قبالتي، بلا حراك، في ذلك المقعد الذي تجلسين عليه، برشاقة ودماثة وحضورك يعلن عن نفسه مختلطا بصوت البحر. وانتظرت أن أتكلم عنك. ولكن كان هناك شيء في صدري، مزيج من الغضب والألم جعل أنفاسي متقطعة، والعثور على الكلمات مستحيلا. هي تعلم أنك رحلت، ولم تأت لتسمع ذلك، على هذه الجزيرة الضيقة، الجميع يعرف من يأتي، وعلى وجه الخصوص من يرحل. كلا. كانت بانتظار شيء آخر. رأيتها تصب من العبوة، التي جاءت بها معها، في كوبين صغيرين - راكي دافئ مع العسل والليمون والبهارات. قدمت كوبا لي بيديها - كانتا مشققتين ومسلوختين بسبب الطلاء والتربنتين وغسيل الأطباق في المساء في أحد المقاهي - ثم تراجعت ولفت سيجارة. كان ذهني كالضباب، كل شيء يبدو غير مترابط وأنا أحرك كوبي أمامي على الطاولة بدوائر صغيرة. حركته بدوائر كثيرة حتى أومأت لحركة الكوب وابتسمنا لذلك، وتذكرنا أول لقاء جرى بيننا في المقهى الذي تعملين فيه. وقفت عند البار، أحرك كأس ويسكي بدوائر صغيرة، مرارا وتكرارا. استغرقت بتلك الدوائر قبل أن تجفف يديها، وتقترب مني، وتسأل إن كنت أرغب بالكلام. حدقت بها، مذهولة من اهتمامها. هل أريد أن أتكلم؟. ثم أسقط أحدهم طبقا، وحينما ذهبت لتنظيف الأرض، فكرت ماذا يمكنني أن أقول. فكرت بذلك الصباح وأنا برفقة المتطوعين الآخرين، لمقابلة اللاجئين الذين تم إنقاذهم من زوارق ضيقة مثل قبعة على الرأس. جلست بجوار مايا في المستشفى. كانت قد أخرجت من البحر وهي متمسكة بثياب وليدها البالغ سنة واحدة من العمر، ولكنها تمزقت في يدها وهي تصارع لإنقاذه. كانت نحيلة وتعرج، وكل سلطة الحياة تخلت عنها باستثناء يدها، التي حضنت سترة ابنها الزرقاء وفردة حذائه الأحمر. كانت تحضنه بقوة، كأن نارا ملتهبة صنعت له عضوا جديدا أحمر وأزرق. جلست أحرك إبهامي بدوائر صغيرة فوق يدي الثانية، آملة أن تفتح عينيها، وتصحو. وحتى حينما سقطت بالنوم، بشيء من الخشوع، لم تفلت يدها من العجينة التي بللها ماء البحر المالح. تلك الصورة - المتمسكة بقوة بالحياة - تغلغلت بي، وقفت في المقهى وراقبت دورات كأسي، مثل مهدئ يخفف من الحواف الحادة. نظرت في أرجاء المقهى لبقية المتطوعين. حشد صاخب يشرب البيرة. بعد إعانة الناجين من الزورق، كنا نلتقي دائما هناك. لم يتكلم أحد عن مشاعره. ولكن ضحكنا بصوت مرتفع، وشربنا، وعانقنا بعضنا بعضا.

قلت: لم أسمع شيئا حين عادت آنا، وهي تطرف لي بعينها من وراء دخان يعلو ويتلوى.

كررت: لم أسمع شيئا. المأساة في كل مكان حولنا، طبقات منها، وكان لدينا مأساتنا، هذه المذلة الأوروبية: الإهانة والنقص. أخرجت هاتفها، وفتحته، وعرضت علي صور رسوماتها، وكل واحدة منها عن نتائج المجاعة الإنسانية. شخرت تقول: هذه طريقة جديدة لتحطيم الروح الإغريقية، ولكنهم لن ينجحوا، نحن متضامنون!.

ضحكت حين رأيت ذراعها القوي ينسدل، ويدها تطرق البار، حتى اهتزت الكؤوس. وهكذا أصبحنا صديقتين. تفصلنا أكثر من عشرين عاما، ولكن هذا لم يصنع أي فارق.

جلسنا وشربنا معا بعد نهاية نوبتها، ثم قادتني بسيارتها إلى البيت. حينما دخلت في مركبتها البالية، رأيت علب طعام كلاب مفتوحة ومهملة عند أقدامنا، جاهزة لإطعام الكلاب الشاردة على طول طريقها. وهناك أكياس من الطعام حملتها من المقهى، وثياب قديمة، وأشياء غريبة، تفوح منها روائح المقالي والسلوفاكي، والطعام اليوناني سريع التحضير، وكنا نوزعه في طريقنا على الأصدقاء وبعض العائلات.

لم تتغير. كبرت خمس سنوات فقط، ولكن لا يزال فيها شيء قديم من العزيمة السابقة، وموقفها السلبي وأنا أصر على الكلام. كانت محتشمة بانتظارها الصامت، وبخصلات ولفافات شعرها الأشقر الغزير، وسكونها بصبر وتجلد. أردت أن أقف وأعانقها، وأن أتذكر الماضي السخي الذي عملت عليه حتى أصبح له شكل محدد. لكنني اكتفيت بالجلوس هناك، مكسورة برحيلك، وبمحاولة لإعطاء أجزاء الماضي معنى.

من بحر إيجة أطلق قارب صفرته، التفتنا بوجوهنا إلى السواد الذي وراءنا - كأنه ينادينا - ورأينا الأمواج التي تتنفس غيابك، يا كاليب، بنسائم محملة بالملح والياسمين. أعدت تعبئة كأسي ونقرت على سيجارتها المطفأة وغير المشتعلة. كنت أفكر بأول لقاء لي معها. تكلمت دون النظر إليها.

نعم، أتذكر تلك الليلة حينما أغلقت البار، وألححت أننا نشعر بالكآبة ولا يمكننا زيارة أحد. وكنت تودين أن أقودك إلى بيتك مباشرة.

قلت ملاكة. أنا أعرف هذه المرأة، كنا صديقتين منذ أيام الطفولة. وأعرف ظروف حياتها!. وعلينا أن نقابلها الليلة، لأن الحياة على جزيرة لا تتوفر للزوجات المكسورات ولكن للأصدقاء.

تتبعنا طريقنا في الممر غير المضاء ومعنا أكياس بلاستيكية من الثياب والشموع، والخبز والجبنة. وها أنت، يا كاليب، بقايا امرأة تقف في شق ضوء رفيع ينزف من تحت بابك الأمامي. يمكنني سماع كلماتك، وترحيبك، من وراء اليد التي تابعت التلويح بها - وأنت تتكلمين - وتبدين خجلك من سن مكسور. رأيت ولدين يتكئان على جدرانك، وعيونهما مثبتة على الأرض، وفكرت، بعد التفكير بكل شيء مررت به في ذلك اليوم، أن هذه الصورة هي القاضية والتي ستدفنني تحت الأرض. ولكنك استدرت ونظرت لي، فحبست أنفاسي - حجرة قدحت شرارة - وكانت نظرتك المباشرة لا ترتدع، ورأيت فيها راية حمراء. كان وجهك برونزيا، ونظرتك تتحدى. قالت: مهما واجهت من مصاعب تستمرين واقفة، تبقين على قدميك، في داخل الدائرة. كل يوم مأساة ما. وفي الليل أستيقظ مقطوعة الأنفاس، وأسقط في نفق طويل مظلم، ليس له جدران. توقعت أنني أتصدع. ثم، من حيث لا أحد يحتسب، ظهرت كاليب. استدارت آنا لتنظر لي، معتقدة كما أفترض، أنني وجدت نقطة البداية. ولكن ليس بعد. لم أجد إطارا يمكن أن يناسب قصتك دون أن تتسرب منه.

وهكذا جلسنا معا وشربنا، ونحن ننظر إلى البحر، ثم اتت نظرت لي. قلت: آنا، أذكر تلك الليالي التي كنت تقودينني فيها إلى البيت، ونحن نقدم السلات المجانية، ونكافح الإملاق، كما تقولين عنه، وحين كان لديك قائمة عناوين تزورينها، في أيام متباينة. وحينما أعربت لك عن دهشتي من خططك كلها، قلت إن الاختلاف الوحيد على ما يبدو بين اليونانيين واللاجئين الآن، والميزة الوحيدة التي بين أيدينا، هو ما يمكننا توقعه، وأن نتكهن أين يمكن أن نكون غدا، ولكن لا يمكن اللاجئين أن يضعوا خطة، عليهم أن يرتجلوا. هل تذكرين ذلك؟.

وافقت آنا بحركة من رأسها، وغطت عينيها غمامة، ونظرت لي وهي تشعل سيجارتها. وجدنا كلتانا نقطة وجع هامة.

تراجعت في مجلسي إلى الخلف، ولم أكن سعيدة لكن مرتاحة. ها أنا جاهزة لأتكلم عنك أخيرا يا كاليب.

سألت آنا: هل أنت على ما يرام Eísai kalá يا كارمين؟ هل أنت بحال جيدة.

أومأت برأسي.

سمعت صرير ورق ريزلا وهو يحترق، ورأيت طرف سيجارتها المحمر وهي تدخن، كنت ممتنة لذلك الصبر الذي يتمتع به اليونانيون حينما يستمعون: لا ضرورة للتعجل، ولا للتوقع.

قلت: بصحتك Yámas، واقتربت لنقرع الكؤوس.

بعد أسبوع من أول أمسية، قابلت كاليب بالصدفة، كنت أصعد على التلال، وكانت قد خرجت لجمع الأعشاب. جلسنا وتكلمنا، وبلا لغة مشتركة، واستعملنا الكلمات القليلة المشتركة بيننا، والتي نعرفها. كان العشب دافئا وجافا والجو مشحونا بغمامة من عطر الخزامى كانت تنبعث من كومة سحبتها دون وعي من الأرض وبدأت بتمزيق براعمها. سمت كل عشبة جمعتها، وأخبرتني كيف تستعملها. كانت لديها عادة الدق على الأرض، والتربيت عليها بحنان كأنها تشكرها على عطاياها.

زفرت آنا. قالت: كل شيء هدية لكاليب، أليس كذلك؟.

وافقت بإشارة من رأسي وابتسمت، فقد شعرت، حتى في أول أمسية، أنك ستكونين بالنسبة لي هكذا. كنت أتمنى دائما أن أهذي معك على تلك التلال - المغطاة بالأعشاب والورود البرية - أو أن نراقب معا، تبدل ألوان البحر. بدأت أعود للحياة مجددا. ساعدتها بالعثور على عمل في تنظيف مدرسة لاجئين، ومع تلك الاستقلالية الجديدة، بدا أنها تستدير بحياتها متوقعة أنه بمقدورها أن تفعل أي شيء.

قلت: إذا مكثت هناك حتى بعد توقف اللاجئين عن العبور؟.

أجابت: نعم، حصلت على عقد إيجار طويل الأمد، لهذا البيت، لذلك سأعود لمدة شهرين، أربع مرات في العام. وكلما أتيت كانت تقابلني دائما مع تلك الورود من الحديقة - دافئة ومرحبة مثل قبلة ولد صغير، وهي تتفتح الآن في زجاجة بجوار سريري. وفي كل مرة، أفكر كم أصبحت رشيقة ولا مبالية وحكيمة. كانت تمشي منتصبة، وأسنانها مطبقة بإحكام. حتى أنها تعلمت اللغة الإنكليزية، وكانت تجلس في مؤخرة الصف، وتوزع وقتها بين الأولاد والتنظيف.

وبالأمس أتت كاليب تغني وبلغت نهاية زقاقي، وتجاوزت أحواض الخزامى، ومرت من تحت نبات البوغونفيليا ووقفت أمام باب بيتي وهي تغني.

أنت تعرفين أن صوتها رخيم مثل هواء الجزيرة، وبحرها، وتلالها. وحينما تغني تمتلك الأسماع.

ضحكت وهي تتقدم قائلة: أنا هنا. وبين ذراعيها باقة صفراء، ليمونات تدحرجت على طاولة المطبخ وكانت ممتلئة وحلوة.

شعرت بها - تتنفس هواء الغرفة وتضحك وتنعم بالشمس والليمون - وكل شيء أحيته في داخلي كان يحتضر.

مبتسمة راقبت هذه المرأة - شابة بما يكفي لتكون ابنتي - وكانت تبحث في جيبها و، كما أفعل دائما، تتساءل: أي رب أو قدر ربط حياتي بحياتها. قالت: سنأخذ أشياء صغيرة من حديقتي ونزرعها على الشرفة، وحملت بيدها عقلة من شجرة ورد. وحينما أخذتها منها بكلتا يدي، غرست شوكة ضخمة بإبهامي، فانحنت بعناية لتنتزعها. فكرت: وتلك هي المعجزة، ونظرت إلى رأس كاليب التي تعتني بإبهامي: ولاهتمامها بي. حينما قابلتها أول مرة، توقعت أنني سأعتني بها. وكنت أتعجب من ذلك، ولا أزال ممسكة بإبهامي، وأضغط عليها، لتخرج نقطة دم، وهنا ابتسمت لي وقالت، الألم يجعلك أقوى. صرفت نظري عنها، ولمحت ضوءا خاطفا من الشمس على الدم، ثم جمدت. ثم قلت بصوت غريب: كلا يا كاليب. هذا غير صحيح. لا خير بالألم. حدقت بجسمها، وبالطريقة التي تغطي بها كتفيها الرقيقين - وكلاهما عظام هشة، ثم تراجعت، كارهة لكل شيء كانت تخبئه عن أعين العالم. شعرت بالبرد، دقيقة خاطفة، ونظرت إليها مستعيرة عيني، شخص آخر. قلت بصوت مكسور، وأنا أنظر إلى كم بلوزتها الطويل، ولياقتها المغلقة بالأزرار حتى رقبتها: ألن ترتفع حرارتك في هذا الرداء اليوم. وكانت المسألة كأنني شخص آخر قام بضربها.

أعادت شعرها الكستنائي للخلف وفاحت منه رائحة الصابون، راقبت وجهها من مسافة، وهو يختبئ وراء ذقن استفزازية ناتئة إلى الأعلى. فكرت: لم يكن وجهها جميلا. الأنف كبير، مكسور مرتين، والفم الصغير مدرب على السخط. كانت غاضبة، وأعلم أن ذلك بسبب تبديل مسار القصة. وبدأت أشعر بصمت أننا لن نتشارك على أي فكرة. داهمني الخوف. لم أفهم معنى ما فعلت، أو لماذا فعلته. حاصرتني بنظرتها، عيناها بنيتان لماعتان، وفيهما شرارة مشتعلة. كانت هامدة، وشعرت بارتعاشة الهواء حولها، وكنت أعلم أنها لن تكون أنيسة، حتى تستعيد ما حطمته من جبروتها الداخلي.

قلت: آسفة. ثم بأمل يائس انتظرت. لم ترد. انتظرت، وراقبتها وهي تغسل يديها، وكانت قوية ومطمئنة. وتابعتها وهي تستدير لتغلي القهوة، ورأيت حركاتها السريعة حين تحضر الأكواب، ثم فتحت الأدراج من أجل الملاعق والفوط، بحركات سريعة ومتهورة، حتى أصبح للصمت صوت مسموع. كل شيء كان ساكنا في ذلك الانتظار الصامت، صداقتنا وخط الخطأ الذي فرضته.

استدارت آنا بوجهها نحو الخلف بعكس جهة البحر. لماذا وجهت إليها ذلك السؤال يا كارمن، لماذا؟. رشفت الراكي، وشعرت بحرارته وهي تلذع فمي، وشعرت به يلسع الأطراف بألم يفجر الدموع والذي نذعر به حينما نحطم حياة ثم نحاول تجميعها مجددا. ولأنني كنت مضطربة. ربما شعرت بالذنب. نعم الذنب. الذنب؟. رفعت نظرها وهي تعيد ملء الكأس متسائلة. صمتي. صمتنا. وفضولها المرحب به.

واقفة في ذلك المطبخ بالأمس في وسط صمتك، تذكرت الظلام المرعب الذي أتى بي عنوة، في إحدى المرات، وكيف أنت وصلت، يا كاليب، وأنا أخاطر بالهبوط. وكنت مكسورة - ولكنك قدمت لي المساندة.

راقبت كاليب وهي تصب القهوة وتحمل فنجانين إلى الطاولة، حيث توجد ثلاث وردات توباز مقطوفة وكانت مرصوصة بجانب الليمون.

قالت: كيف إبهامك، واستعادت موسيقية صوتها الرخيم.

قلت وأنا أبتسم من وراء وردات التوباز والليمون الذي احتفظ بابتسامتها: أفضل. أفضل بكثير.

سرحت شعرها إلى الخلف، وجرت كميها إلى الأسفل حتى رسغيها، وأشارت قائلة: الألم جمعنا معا، ولكننا انتصرنا عليه، ألمك وألمي. والآن لنترك كل ذلك وراءنا.

وهكذا تقريبا تواصلنا، ثم انتهى كل شيء، تلك المحادثة التي لم تنعقد أبدا.

كما ترين، علقت بسحرها الذي يروي ما يسر. مع أنني أعلم أنه مموه - بالابتسامات، وباقات ورود الحدائق - والجروح السود والبنية والحمر تتوزع كالقبلات على جسمها نتيجة الضرب بالأثاث الذي يوضع في طريقها أو يلاحقها خلال هبوطها على السلالم إلى البيت.

كانت لامبالية بطريقة كلامها، وطريقة ابتسامتها، وطريقة رفع رأسها. وكان إشراقها يبدو أنه يوازن بين ليل ونهار الحياة.

قالت آنا: أعتقد أن إشراقتها طريقة للتأقلم، وللتعتيم على كل تلك الآثار التي تحملها في الداخل الكثير من أمهاتنا وشقيقاتنا وخالاتنا وصديقاتنا.

أومأت بالموافقة. نعم. هكذا الأمر، يا كاليب، وأنا أدرك هذا الآن. كان هذا ذاتك المشرقة التي أحببتها كثيرا - فقد شعرت بالبقاء في وجودك - كانت راحتاي حول شعلتك، وهذه هي الصلاة.

جاءت اليوم كاليب، وهي ترتجف أمام باب بيتي، وأحضرت أولادها لسبب ملح، ومعها أكياس بلاستيك تحتوي ثيابا مغسولة للتو، وذلك لتجفيفها قطعة قطعة على شرفة ببتي. وقالت إنه عليها أن تغادر في تلك الليلة لأنه في هذه المرة شرع بقتلها، فأتت إلي لأنها تشعر عندي بالأمان، ويمكنها أن تتستر على فراقها للجزيرة.

كانت مذعورة - تتمسح حول البيت - وتجعل من فكرة الرحيل كأنها غبار يمكن تنظيفه. راقبتها، ورأيت رضوض ذراعيها ورقبتها واضحة وقد نسيت أن تخفيها وهي تضع الخطط العاجلة للرحيل. أحببتها بعاطفة تشبه السخط الذي تتقنه النساء، حين تشهدن على تراجع روح المقاومة فيهن. وشعرت بذلك، ونحن ننظر للنهار في الخارج، وراء نوافذ مغلقة، بانتظار المساء، وسر الرحيل.

جلست بحضور دموع الأولاد، مستسلمة وأختنق. لم يودوا فراق: أصدقائهم، ومدرستهم، والجزيرة.

ولكنهم يعلمون بكل الرضوض التي لم تفارق نظرهم مهما حاولت أمهم التستر عليها، وكل العظام المكسورة، وكانوا أمام الباب، ويضغطون على القفل. شاهدتهم حينما كانت أغنية الجنادب تعبر عن الحر في الخارج، وراقبنا كالي تذرع الأرض، تذرعها في غرفته غير المضاءة - منفصلة عن نفسها - وهو شيء غريب عنا. غادرنا بعد أن حل الليل في الخارج - امرأتان وولدان - نركض في الظل كأننا نهرب من حرب، دون مكاسب، وبحماقة، ومعنا أكياس الغسيل البلاستيكية التي ترتطم بسيقاننا، وأنفاسنا المتقطعة تتابعنا في الزوايا المعتمة ومن خلف الأشجار حيث تختبئ السيارة. حشرنا أنفسنا فيها، دخلناها عنوة، وأكياس بلاستيك فوق أكياس بلاستيك، ثم بدأت بالقيادة.

كيس قريب من صدري وفيه ملاءتان، وهي المفروشات الوحيدة التي بقيت لها. جلسنا ببلادة مثل كل تلك الأكياس الصامتة والمتعرقة. دون لغة. ولكن كانت هناك ضجة. استمعنا لطرقات المحرك، صوت خافت ملحاح لم تود سماعه، وبين بكاء الولدين الهادئ، ارتفع الصوت وخرق الصمت. كنت منتبهة له - لم ينقطع مثل تلك الملاءات الرطبة المضغوطة على صدري - وعلمت أن المحرك يحتاج لعناية وهي غير جاهزة لسماعه وأن ما أمسكه بين ذراعي هو كل ما يعزلهم عن الشارع ولكن لم أسأل ماذا لو حصل ما نكره؟. كانت قادرة على التخطيط للرحيل، وما تبقى يمكنها أن ترتجله.

في المرفأ، وقفت بالسيارة في الزقاق بانتظار وصول العبارة، وأطفأت المحرك، وجلست بين الولدين في الخلف، وأحيانا كانت تمد يدها لتلمس رأسي.

نظرت إلى الرصيف حيث ينتظر الناس ليغادروا أو يودعوا المسافرين. هناك كنا نحن، المتطوعين في أثينا نأتي في الأسبوع مرتين لنقف مع اللاجئين بانتظار زورق مبحر إلى أثينا. أول مرحلة من رحلتهم إلى أوروبا وكنا نساعدهم على ركوبه.

انتظرنا معا، لنشاهد العبارة آتية، وهي تناور بحجمها الواسع لتدخل في المرفأ. وكتلتها اللماعة تشق عباب الليل - مثل قصر عائم. راقبنا الجسر المتحرك وهو يقعقع، ويفتح أطرافه، والضوء ينصب منه، والسعادة التي رافقت تدفق الناس. كانوا يتقدمون على أمل العثور على مكان. وقفنا وبكينا معا، ثم وقفنا ونحن نلوح، وضفة من النور المتألق يفيض على الطرف المعتم من البحر. لم نسأل ماذا سيفعلون بعد وصولهم. لا يسع اللاجئين التخطيط مسبقا، ولكنهم يرتجلون. وبدأت الأنوار من السيارات تشكل خط انتظار آخر، وكانت كاليب ورائي، تلمع في المرآة، وذراعاها يحيطان بكتفي ولديها، وأصواتهما مثل ثلاث موجات حزينة ترتطم ببعضها البعض. ثم بدأت شرطة المرفأ تعوي بين زحام المنتظرين والمتململين. فتح الرصيف أبوابه وجاءت العبارة، وتمهلت كتلتها بين أسلاك الحواجز الملتصقة بالرصيف. وزمجر رصيف مزدحم وهو يفتح فمه غير الصبور لتمر منه الشاحنات نحو المخرج، ولتدخل شاحنات وسيارات غيرها. كانت كاليب وراء المقود وعندما وصلت الإشارة بالحركة، تراجعت وقبلت الطفلين وعانقتها، ولم أتمكن من العثور على كلمة واحدة بريئة من احزان ثقيلة يصعب حملها على القارب. تماسكنا بالأيدي، وابتسمنا للضوء المبعثر الذي كان يومض من جهة الشاحنات الزاحفة - خيوط من ابتسامات سالت على خدينا وأكلتها الظلال الرقيقة - أغلقت ذلك الباب، ولاحظت كيف أصبحت هزيلة، طفلة تقود ولدين إلى خط انتظار السيارات الواقفة وراء الشاحنات. كان علي أن أسال إلى أين ستذهب بعد وصولها إلى أثينا. وقفت بجانب السيارة حالما بدأت تتحرك، لتمر من بين صيحات توجيه طابور الزحام، وعلقت بين أصوات الأبواق والمنبهات، والسيارات والشاحنات، وحاولت أن أواكبها - وأردت أن أشاهدها وهي تستدير برأسها وتنظر لي مرة أخرى - أسرعت أجري إلى الأمام وحول الشاحنات ثم وقفت بالقرب من المعبر وهي ينخفض بانتظار وصولها، هذه هي السيارة مجددا، وهناك ثلاث وجوه شاحبة ينيرها ضوء المرور - وكنت مختبئة كما لو أنني في حلم، أو فيلم أو حياة أخرى - ثم مرت اللحظة. لا أعلم إذا لاحظت وجودي، لأنها لم تنظر، ولم يتبق معها علم المقاومة الأحمر بعد الآن.

مدت آنا يدها على الطاولة، ووضعتها فوق يدي. ثم قالت، وكان عليها ذلك، أنها لن تعود، وهي ليست قادرة على العودة. وليس بسبب الخوف منه، كل الجزيرة ستقف ضدها إذا تركت الولدين. وسيحاول أن يجدها، ولذلك لن تتصل بك أو بي أو بأي صديق.

سحبت يدي، وأنهيت كأسي، ووضعتها على الطاولة بضربة قوية، قاسية، وحركات سريعة تقول: أنا أعلم ذلك فعلا. ونهضت، ووقفت لأنظر من فوق الجدار المنخفض إلى البحر.

سألتني: هل أنت على ما يرام؟.

لم أرد.

أعتقد أنك تحاولين إخباري أنه حينما كانت كاليب تعيش هنا، كانت لديها طريقتها بامتلاك الجزيرة ولكنها أصبحت الآن... مثل لاجئة، وهذا كل شيء؟.

قلت: سمحت لنفسي بالكلام عما جرى، ولكن ليس هذا ما أردت قوله تماما.

قالت آنا: ولكن هذا صحيح يا كارمين. ويجعلني حزينة. سمعت نبرة لصوتها. فقد كبرنا معا على هذه الجزيرة ولكنها رحلت الآن، ولم تترك خلفها غير الصمت والمشقة. كانت تبكي، ولم أرغب بتقديم كلام معسول لتهدئتها، ولا حتى أن أستدير لأمنحها نظرة أخيرة.

ألست حزينة يا كارمن؟. ثبت عيني على البحر، واتساعه الأبيض والأسود الهائج.

جاءت آنا ووقفت بجانبي. سألتني: ماذا حدث لك، ونظفت أنفها. كنت مليئة بالعاطفة حينما كان اللاجئون يعبرون.

لقد تغيرت.

أنفقت سنتين غارقة بالحزن، يا آنا، ثم قابلت كاليب. ولو كنت مؤهلة لأشعر بشيء ما الآن، سيكون الغضب، ولكن المسألة معقدة أكثر من ذلك. في المكان الذي أتيت منه، حينما نفقد الأصدقاء، نشعر بالحزن، نعم، ليس الغضب، ولكنها مشاعر على أي حال... نحن لا نجلس ونفكر بذلك.

كانت آنا تلف التبغ بورق سيجارة عنوة. وكانت حانقة وأرادت مني أن أشعر بنفس الحنق. رمتني بنظرة ملتهبة، قبل أن تشعلها. قالت: من قبل قلت انك شعرت بالذنب، وعلينا جميعا أن نشعر بالذنب، وصمتنا المشترك أجبرها على الخروج.

ربما، ولكن هذه قصة غيرها. وأنا أحاول أن أتذكر ما تركته وراءها لأنه بدل الطريقة التي أبصر بها.

كانت ولاعة آنا لا تشتعل. وكلما قدحتها، تضيء وجهها شرارة ضعيفة، وتلمع بشفرة مورس غامضة تدل على الحزن. ولبعض الوقت، غمرتني المشاعر، وأوشكت أن أميل وأحضنها - وأتفاعل مع دموعها. لكن امتنعت عن ذلك.

قلت: اسمعي يا آنا. أول عيد ميلاد مر هنا، غرق خلاله تسع أطفال بعبور واحد. ولم يصدق أي من الناجين أن أطفالهم ماتوا. وتوجب علينا نحن المتطوعين أن نرافق الآباء ليتعرفوا على الجثث. كانت المشرحة ممتلئة، ولذلك تم إقامة وحدة تبريد وكانت موصولة بجدار الكنيسة في باحة المستشفى. وهي بناء طويل يحتوي على أدراج متسلسلة كانت منتصبة كأنها الرب لتعلن عن حقائق مؤكدة. ولتؤكد ما لا يريد أحد أن يقر به. كانت الرياح ساكنة، والشمس غسلت اللون الأزرق البراق لقوس السماء وأنارته. تجمعنا حول الثلاجة في طقس يناسب العطلة تماما. وحينها فتحوا الثلاجة. ورن صوت المعدن وهو يفتح. وارتعش الهواء بينما كان المعدن يقرقع، وتبعه صوت زيت سائل صدر عن انزلاق الأدراج، مترجما وزنه القليل المزعج. ثم بدأ كل شيء: البكاء النسائي الثاقب الذي مزق الهواء، وشق عباءة السماء الحريرية. عشت وتذكرت تلك الدقيقة، دمدمة المولدة، وصوت الأدراج وهي تنزلق لتفتح، وبكاء الأمهات، وفي أحد الأيام رويت ذلك لكاليب. وأستطيع أن أقول إنها تأثرت، ولكن قالت: ثم ماذا حصل؟. ماذا جرى بعد ذلك؟ لم أفهم. نظرت لي نظرة قاسية وقالت: كل ما قدمته لي هو الجزء المزعج. وبعد هذا، وبمئات الطرق البسيطة، سيواصل أولئك البشر طقوس متابعة حياتهم. وهو الجزء الذي أريد أن أسمع عنه، كيف ينهض الناس، مرارا وتكرارا، ويمتلكون زمام حياتهم مجددا. 

اقتربت من الجدار المنخفض وجلست، وتنفست من تلك المسافة المالحة الرائعة التي كانت عبارتك تتعمق فيها، تحت رف السماء، بطيئة وسوداء، ثم تتحول تدريجيا لمضيئة ووردية.

تنهدت آنا، ثم جلست على الجدار بقربي. أشرقت الشمس. وتعجبت فجأة، وهي تشير إلى المكان الذي انشقت السماء منه. وراقبنا أول شعاع نور، خفيف ثم مؤكد، وهو يتمدد بعرض البحر، وتذكرت الأيام الصباحية التي أتيت فيها. قلت: أحيانا وهي في طريقها إلى البيت كانت توقظني باكرا، بيدين ناعمتين وحمراوين وتفوح منهما روائح الخبز. أعرف تلك الأوقات الباكرة التي تتلو الليالي، وحينها يكون مخمورا وهي تكسب بعض الرضوض الجديدة وتخبئها. لم نناقش ذلك أبدا. جلسنا نشرب القهوة - وقطع من فطيرة سباناكوبيتا السميكة والدافئة بيننا. كنا نجلس ونتكلم ونواصل الكلام. بتيار هادئ عن هذا وذاك: نصيحة تقدمها لابنتها التي تنضج، ومتى تقطف الزيتون، وأين تجد أفضل معصرة للزيت، وماذا تزرع لتفيد الأرض، وكيف تصغي للريح.

وحتى بعد أن ذهبت إلى بيتها، لا زلت أسمع الصوت المميز - تلك الدمدمة لحياكة الكلام، وهي تقفل على ثغرات الحياة، وتلتقط الخيوط التي انفصلت - لتعديل الطراز وتجديده.  ضحكت آنا. وأراهن أنها أخبرتك أين توجد أفضل ثمار التين، أو نوع الحساء المناسب للمريض والمفجوع. قلت: أو كيف تهدئين صديقة. ثم استدرنا وتعانقنا، فبكت على كتفي. دخلت آنا وسقطت بالنوم. انتظرت، دون حراك، على هذا الجدار المنخفض، أصغي بانتباه وأنتظر، حتى سمعت - أصواتنا - وهي تنسج في بدايات الضوء البنفسجي، وخلف البيت كان البحر يجري. ثم أغنيتك.

بعد ذلك استيقظت كل الأرض، والضياء، وعطور الجزيرة. وعلمت أنني وجدتها، موجودة داخل أغنيتك نصف البكماء. جنين الشيء الذي تركته وراءك: ما نعرفه ولا نجرؤ على الإقرار به، ما يفترض أن أحتفظ به، للذين سيأتون لاحقا.

قالت آنا: لا زلت لا أقتنع أنها رحلت، وكانت على الباب تستعد للمغادرة. حضنتها بقوة ولكن لم أرد.

لاحقا شعرت بقدوم الريح، التي كانت تدور حول المرفأ حينما ابتعدت عبارتك. وفجأة وبشكل حتمي، أسرعت حولي، محملة بغبارنا وأنفاسي المتقطعة والدامعة.

***

...............................

* مادلينا غروسمان Madelena Grossmann كاتبة بريطانية. درست في جامعة واريك وساسيكس. وتحمل درجة في القانون من جامعة فريجي في بروكسل. تعيش في أثينا / اليونان.

من اجل استعادة الروح من الطواف في الأرض بقدميها البشريتين

بقلم: جوي هارجو

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

ضع كيس رقائق البطاطس ذلك ارضا، وكسرة الخبز البيضاء تلك، وزجاجة المشروب الغازي تلك.

*

اغلق ذلك الجوال، والحاسوب، وجهاز التحكم عن بعد.

*

افتح الباب، ثم اغلقها خلفك.

*

خذ نفسا تمنحه الرياح الودودة. انها تسافر في الأرض لتجمع ارواح النباتات وتطهرها.

*

اعده بامتنان.

*

ان غنيت فستعطي روحك دفعة كي تطير نحو آذان النجوم وتعود.

*

اعترف بهذه الأرض التي احبتك منذ ان كنت حلما انبت نفسه داخل شهوات والديك.

*

دع قدميك المرتديتين خفين يأخذانك الى مخيم الحراس الذين عرفاك قبل الزمن، والذين سيوجدون بعد الزمن. انهم يجلسون امام النار التي كانت موجودة من غير زمن.

*

دع الأرض توازن اهتياجك العصبي ما بعد الكولونيالي القلق.

*

احترم الحشرات الصغيرة والطيور والناس الحيوانات الذين يرافقونك. اطلب مغفرتهم عن الضرر الذي جلبناه نحن البشر لهم.

*

لا تقلق.

*

القلب يعرف الطريق ولو انه قد يكون هناك بنايات متعددة الطوابق وطرق سريعة ونقاط تفتيش وجنود مسلحون ومجازر وحروب واولئك الذين يحتقرونك لأنهم يحتقرون انفسهم.

*

قد تأخذ منك الرحلة بضع ساعات او يوما او عاما او بضع اعوام، مائة او الفا او حتى اكثر.

*

راقب عقلك. من غير تدريب قد يهرب ويترك قلبك للمأدبة البشرية الضخمة التي يعدها لصوص الزمن.

*

لا تضمر مشاعر الندم.

*

حين تجد طريقك نحو الدائرة، نحو النار التي يديم ضرامها حراس روحك، سيرحب بك.

*

عليك ان تنظف نفسك بالسدر او المريمية او اية نبتة علاجية.

*

اقطع الروابط التي تربطك بالفشل والعار.

*

اطلق الألم الذي تمسك به في عقلك وكتفيك وقلبك حتى قدميك. اطلق ألم اسلافك كي توسع الطريق لأولئك القادمون باتجاهنا.

*

اطلب المغفرة.

*

اطلب عون اولئك الذين يحبونك. هؤلاء الأعوان يتخذون اشكالا عدة: حيوان، عنصر، طير، ملاك، قديسن حجر، او احد الأسلاف.

*

استرجع روحك. ربما تكون محتجزة في زوايا وتجاعيد العار والحكم الالهي والاساءة البشرية.

*

يجب ان تنادي بطريقة تجعل روحك ترغب بالعودة.

*

خاطبها مثلما تخاطب طفلا محبوبا.

رحب بعودة روحك من طوافها. قد تعود اشلاءً، خرقا. اجمعها. ستفرح للعثور عليها بعد ضياعها مدة طويلة.

*

ستحتاج روحك ان تنام قليلا بعد ان تحممم وتعطى ملابس نظيفة.

*

الآن بامكانك ان تقيم حفلة. ادعُ كل شخص تعرف انه يحبك ويدعمك. احتفظ بمكان لأولئك الذين ليس لديهم مكان آخر يذهبون اليه.

*

أقم عرضا بالهبات وتذكر ان تجعل خطبك قصيرة.

ثم عليك ان تفعل الآتي: ساعد الشخص الذي يلي ليتلمس طريقه في الظلام.

***

..............................

جوي هارجو: شاعرة اميركية من الهنود الحمر (من قبائل مسكوجي) ولدت عام 1951 في مدينة تولسا بولاية اوكلاهوما. تعد واحدة من ابرز ناشطي وممثلي الموجة الثانية لما يعرف بنهضة سكان اميركا الاصليين خلال اواخر القرن العشرين. حاز شعر هارجو على جوائز عديدة، وشغلت منصب شاعر الولايات المتحدة وهو منصب يمنح لأول مرة لشاعر من الهنود الحمر.  من عناوين مجموعاتها الشعرية: (الأغنية الأخيرة) 1975؛ (اي قمر ساقني الى هذا؟) 1979؛ (المرأة المعلقة من الطابق الثالث عشر) 1983؛ (المرأة التي سقطت من السماء) 1994؛ و(كيف اصبحنا بشرا) 2001؛ (شروق اميركي) 2019، و(نسج الغروب بضياء قرمزي) 2023.

قصة: إدوارد وورتيس (آفى)

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كل يوم في الساعة الثالثة بعد الظهر، كانت السيدة ماركهام تنتظر ابنها ويلي ليخرج من المدرسة. كانا يسيران إلى المنزل معًا. وإذا سُئلت عن سبب قيامها بذلك، كانت تجيب: "يجب على الآباء مراقبة أطفالهم."

عند مغادرة ساحة المدرسة، كانت السيدة ماركهام تسأل دائمًا: "كيف كانت المدرسة؟"

كان ويلي يبدأ في الحديث ثم يتوقف. لم يكن متأكدًا من أن والدته تستمع إليه. بدت وكأنها منشغلة بأفكارها الخاصة. كانت كذلك منذ أن هجرهم والده قبل ستة أشهر. لم يعرف أحد إلى أين ذهب. كان لدى ويلي شعور بأن والدته تائهة أيضًا، مما جعله يشعر بالوحدة.

في أحد أيام الإثنين بعد الظهر، وبينما كانا يقتربان من المبنى الذي يعيشان فيه، شدته فجأة وقالت:

"لا تنظر في ذلك الاتجاه."

"أي اتجاه؟"

" إلى ذلك الرجل هناك."

اختلس ويلي نظرة من فوق كتفه. كان هناك رجل، لم يسبق له أن رآه من قبل، يجلس على صندوق حليب بلاستيكي أحمر قرب الرصيف. كان شعره الرمادي المتشابك يتدلى كستارة بالية على وجهه المتسخ. كان حذاؤه ممزقا. وُضعت يداه الخشنتان على ركبتيه، وكانت إحداهما ممدودة وراحتها للأعلى. لم يبدو أن أحدًا يعيره أي اهتمام. كان ويلي متأكدًا من أنه لم يرَ شخصًا وحيدًا بهذا الشكل من قبل. بدا وكأنه قطعة علكة ملقاة على الرصيف.

سأل ويلي والدته بصوت منخفض.

"ماذا به؟"

بينما كانت تحرص على النظر إلى لأمام، قالت السيدة ماركهام:

"إنه مريض."

وسحبته مضيفة:

"لا تحدق . إنه تصرف غير مهذب."

"أي نوع من المرض؟"

بينما كانت السيدة ماركهام تبحث عن إجابة، بدأت تمشي بسرعة أكبر. وقالت:

"إنه تعيس."

"ماذا يفعل؟"

" هيا، يا ويلي، أنت تعرف تمامًا. إنه يتسول."

" هل تعتقدين أن أحدًا أعطاه شيئًا؟"

"لا أعلم. والآن، هيا، لا تنظر."

" لماذا لا تعطينه شيئًا؟"

" ليس لدينا ما يمكننا الاستغناء عنه."

عندما وصلا إلى المنزل، أخرجت السيدة ماركهام صندوق كرتون أبيض من الثلاجة يحتوي على كعكة. باستخدام إبهامها كمعيار، قطعت بعناية قطعة من الكعكة بسمك نصف بوصة وأعطتها لويلي على طبق نظيف. كان الطبق موضوعًا على بساط بلاستيكي مزين بصور ورود تحمل قطرات ندى تشبه الألماس. كما أعطته كوبًا من الحليب ومنشفة مطوية. كانت تتحرك ببطء.

قال ويلي: "هل يمكنني الحصول على قطعة أكبر من الكعكة؟"

أخذت السيدة ماركهام صندوق الكعكة ومررت ظفرها الوردي المشذب على لوحة البياناات الغذائية. وقالت: "قطعة بسُمك نصف بوصة هي الحصة، والحصة تحتوي على المتطلبات الصحية التالية. هل تريد أن تعرفها؟"

"لا."

"المعلومات موجودة على الصندوق، لذا يمكنك أن تثق بما هو مكتوب. العلماء يدرسون الناس ثم يكتبون هذه الأمور. إذا كنت ذكيًا بما يكفي، يمكنك أن تصبح عالمًا. مثل هؤلاء."

نقرت السيدة ماركهام على الصندوق، ثم أضافت:

"إنهم يتقاضون أجرًا جيدًا."

أكل ويلي كعكته وشرب الحليب. وعندما انتهى، حرص على تنظيف فتات الكعكة عن وجهه ومسح أثر الحليب عن شفتيه باستخدام المنشفة. كانت والدته تحب أن يكون أنيقًا.

قالت والدته:

"والآن، اذهب وأتمم واجباتك المنزلية. بعناية. أنت في الصف السادس، وهذا مهم."

جمع ويلي كتبه التي كانت موضوعة على الكرسي الثالث الفارغ. وعند مدخل المطبخ توقف ونظر إلى والدته. كانت تنظر بحزن إلى صندوق الكعكة، لكنه لم يعتقد أنها كانت تراه. لقد جعلته تعاستها يفكر في الرجل المتسول في الشارع.

سأل فجأة:

ما نوع التعاسة التي تظنين أنه يعاني منها؟"

"من تقصد؟"

"ذلك الرجل."

بدت السيدة ماركهام مرتبكة.

"الرجل الذي يتسول. الذي كان في الشارع."

قالت:

"آه، قد يكون أي شيء"

ثم أضافت  بصوت غامض:

"يمكن للإنسان أن يكون تعيسًا لأسباب كثيرة."

وعند ذلك  استدارت لتنظر من النافذة، وكما لو كانت الإجابة هناك.

"هل التعاسة مرض يمكن علاجه؟"

"أتمنى لو أنك لا تسأل مثل هذه الأسئلة."

"لماذا؟"

بعد لحظة، قالت:

"الأسئلة التي لا إجابات لها لا ينبغي طرحها."

"هل يمكنني الخروج؟"

"الواجب المنزلي أولاً."

استدار ويلي ليذهب مجددًا.

وفجأة قالت السيدة ماركهام:

" المال. المال يمكن أن يعالج الكثير من التعاسة. لهذا كان هناك ذلك الرجل يتسول. قال لي بائع ذات مرة: 'ربما لا تستطيعين شراء السعادة، لكن يمكنك استئجار الكثير منها.' يجب أن تتذكر ذلك."

"كم لدينا من المال؟"

" ليس ما يكفي."

"   هل هذا هو السبب في أنك تعيسة؟"

"ويلي، قم بواجبك."

بدأ ويلي في طرح سؤال آخر، لكنه واثق أنه لن يحصل على إجابة. غادر المطبخ.

كانت الشقة تتكون من ثلاث غرف. الجدران مطلية بلون أخضر نعناعي. مشى ويلي عبر الممر نحو غرفته التي كانت في الجهة الأمامية من المبنى. من خلال التسلق إلى حافة النافذة والضغط على الزجاج، تمكن من رؤية الرصيف على بُعد خمسة طوابق أدناه. كان الرجل لا يزال هناك.

كانت الساعة تقارب الخامسة عندما ذهب ليخبر والدته أنه انتهى من واجباته المدرسية. وجدها في غرفتها المظلمة، نائمة. منذ أن بدأت العمل في وردية الليل في متجر صغير قبل أسبوعين، كانت تأخذ قيلولة في فترة ما بعد الظهر.

وقف ويلي عند عتبة الباب لفترة، على أمل أن تستيقظ والدته. وعندما لم تفعل، ذهب إلى الغرفة الأمامية ونظر إلى الشارع مرة أخرى. لم يتحرك الرجل المتسول.

عاد ويلي إلى غرفة والدته.

قال بصوت خافت:

"سأخرج."

انتظر ويلي فترة معقولة حتى تستيقظ والدته. وعندما لم تفعل، تأكد من أن مفاتيحه في جيبه، ثم غادر الشقة.

وقف ويلي خارج باب المبنى، محاولًا إبقاء عينيه على الرجل. بدا وكأن الرجل لم يتحرك على الإطلاق. تساءل ويلي كيف يمكن لشخص أن يظل ساكنًا طوال هذه المدة في برودة هواء أكتوبر. هل كان الثبات جزءًا من مرضه؟

قضى ويلي عشرين دقيقة يراقب الرجل، دون أن يلاحظ أي من المارة وجوده. تساءل إن كانوا قد رأوه فعلًا. لم يمد أحد يد العون، ولم يضع أحد نقودًا في يده المفتوحة.

مرت سيدة تقود كلبًا مربوطًا بحبل. انجذب الكلب نحو الرجل الجالس على الصندوق، وهو يهز ذيله بحماسة. جذبت السيدة الكلب بعيدًا قائلة: "إلى جانبي!"

ركض الكلب إلى جانب السيدة، واضعًا ذيله بين ساقيه. لكنه التفت مجددًا لينظر إلى الرجل المتسول.

ابتسم ويلي وهو يتذكر كيف فعل الكلب تمامًا ما فعله عندما طلبت منه أمه ألا يحدق.

أخرج ويلي قطعة نقود من النيكل من جيبه. وجدها دافئة وملساء. تساءل كم من السعادة يمكن استئجارها بنيكل واحد.

قبض ويلي على قطعة النيكل بين أصابعه وهو يتقدم بخطى بطيئة نحو الرجل. وعندما وقف أمامه، توقف فجأة وقد اجتاحه شعور بالارتباك. لم يرفع الرجل عينيه عن الأرض، وبقي في مكانه بلا حراك، تفوح منه رائحة كريهة.

مد ويلي يده وقال:

"تفضل."

ثم أسقط العملة في يد الرجل اليمنى المفتوحة.

قبض الرجل أصابعه على العملة وقال بصوت خافت:

"باركك الله."

ثم رفع عينيه بسرعة خاطفة نحو ويلي، مثل وميض أضواء السيارة الأمامية، قبل أن يخفضهما مجددًا.

تردد ويلي للحظة قبل أن يعود إلى غرفته. وقف عند نافذته وألقى نظرة على الشارع، وخُيّل إليه أنه رأى العملة في يد الرجل، لكنه لم يكن واثقًا.

بعد العشاء، بدأت السيدة ماركهام تستعد للخروج إلى عملها الليلي. قبّلت ويلي وقالت كعادتها:

"إذا واجهت مشكلة عادية، اتصل بالسيدة ميرفي في الطابق الأسفل. ما رقمها؟"

أجاب ويلي:

"274-8676"

"وإذا كانت المشكلة كبيرة، فاتصل بالجدة."

"369-6754."

"أما إذا كانت مشكلة خاصة جدًا، فاتصل بي."

"962-6743."

"وفي حالات الطوارئ، الشرطة."

"911."

"لا تنسَ تجهيز ملابسك للصباح."

" سأفعل."

"ولا تفتح الباب لأي أحد."

"لن أفعل."

"ولا تشاهد التلفاز بعد التاسعة."

"أعلم."

"لكن يمكنك القراءة حتى وقت متأخر."

ابتسم ويلي قائلاً:

"أنتِ من سيتأخر الآن."

ردت بابتسامة:

"أنا ذاهبة."

ثم خرجت متجهة إلى عملها.

بعد أن غادرت، وقف ويلي لفترة طويلة في الردهة. بدا الشقة الخاوية كأنها كهف عميق تحت الأرض. في ذلك اليوم، أخبرت معلمة الصف ويلي وزملاءه عن نوع من الأسماك يعيش في الكهوف. هذه الأسماك لا تستطيع الرؤية، إذ إنها بلا عيون. قالت المعلمة إن العيش في الكهف المظلم هو ما جعلها على هذه الحال.

رفع ويلي يده وسأل:

" إذا أرادت الخروج من الكهف، هل تستطيع؟"

" أعتقد ذلك."

"هل سيعود إليها نظرها إذا خرجت؟"

ابتسمت المعلمة وقالت:

"سؤال جيد"

لكنها لم تقدم إجابة.

قبل أن يذهب إلى السرير، ألقى ويلي نظرة أخرى من النافذة. عبر بقعة الضوء التي ألقاها عمود الإنارة، رأى الرجل.

فى صباح الثلاثاء، عندما ذهب ويلي إلى المدرسة، كان الرجل قد اختفى. لكنه عندما عاد من المدرسة مع والدته، كان الرجل هناك مجددًا.

همست والدته بإلحاح:

"أرجوك، لا تنظر إليه."

أثناء تناوله وجبته الخفيفة، قال ويلي:

"لماذا لا يجب أن أنظر؟"

" عمّ تتحدث؟"

"ذلك الرجل. في الشارع. المتسول."

" قلت لك. إنه مريض. من الأفضل أن تتصرف كأنك لم تره. عندما يكون الناس في تلك الحالة، فإنهم لا يرغبون أن ينظر إليهم أحد."

"لماذا لا يرغبون ؟"

فكرت السيدة ماركهام قليلاً ثم قالت:

" يشعر الناس بالخجل من كونهم تعساء."

نظر ويلي إلى والدته بتمعن:

"هل أنتِ متأكدة أنه تعيس؟"

أجابت:

"ليس عليك أن تسأل إذا كان الناس تعساء. هم يخبرونك بذلك طوال الوقت."

" كيف؟"

"من خلال مظهرهم."

"هل هذا جزء من المرض؟"

" أوه، ويلي، لا أعرف. هكذا هم فقط."

تأمل ويلي قطعة الكعك الصغيرة التي أعطته إياها والدته. قبل عام، كان والداه يبدوان سعيدين تماماً. بالنسبة لويلي، كان العالم يبدو سهلاً ومليئاً بالنور. ثم فقد والده وظيفته. حاول العثور على أخرى لكنه لم ينجح. جلس لساعات طويلة في غرف مظلمة. أحياناً كان يشرب. وبدأ والداه في الشجار كثيراً. وفي يوم من الأيام، اختفى والده.

لمدة أسبوعين، بقيت والدته في الظلام. وكانت تبكي.

نظر ويلي إلى والدته وقال:

"أنتِ تعيسة."

ثم أضاف:

"هل تشعرين بالخجل؟"

تنهدت السيدة ماركهام وأغمضت عينيها.

"أتمنى لو أنك لا تسأل هذا."

"لماذا؟"

"لأنه يؤلمني."

"لكن هل تشعرين بالخجل؟"

أصر ويلي. لقد شعر أن من الضروري أن يعرف؛ حتى يتمكن من فعل شيء.

لم تجب إلا بهز رأسها.

قال ويلي:

"هل تعتقدين أن أبي قد يعود؟"

ترددت قليلاً قبل أن تجيب:

"نعم، أعتقد ذلك."

تساءل ويلي إذا كان هذا ما تعتقده حقًا.

سأل ويلي:

"هل تعتقدين أن أبي تعيس؟"

"من أين تأتي بمثل هذه الأسئلة؟"

"هي في عقلي."

"هناك الكثير في العقل لا يستحق الاهتمام."

"الأسماك التي تعيش في الكهوف ليس لها عيون."

"ماذا تعني؟"

" قالت معلمتي إن ذلك بسبب الظلام. ينسى السمك كيف يرى، لذلك يفقد عيونه."

" أشك في أنها قالت ذلك."

"لقد قالت."

"ويلي، لديك خيال واسع جدًا."

بعد أن غادرت والدته إلى عملها، وقف ويلي وهو يحدق في الشارع من نافذة شقته. كان الرجل هناك، ما زال في مكانه. فكر ويلي في النزول للقائه، لكنه تذكر أنه لا يُسمح له بالخروج عندما تعمل والدته في الليل. لذا قرر أن يتحدث إليه في اليوم التالي.

في ظهيرة ذلك اليوم، يوم الأربعاء، وقف ويلي أمام الرجل وقال:

"ليس لدي مال، ولكن هل يمكنني التحدث إليك؟"

رفع الرجل وجهه. كان وجهه متسخًا و يبدو على عينيه علامات الإرهاق الشديد، وكان في حاجة إلى حلاقة.

قال ويلي:

" قالت أمي إنك تعيس. هل هذا صحيح؟"

أجاب الرجل:

"ربما."

" ماذا الذي يجعلك تعيسا؟"

ضيق الرجل عينيه وأمعن النظر في ويلي، ثم قال:

"لماذا ترغب في معرفة ذلك؟"

أجاب ويلي بهزة من كتفيه.

مرر الرجل لسانه على شفتيه، وتحركت تفاحة آدم  فى عنقه. ثم قال بصوت خافت:

" للإنسان الحق في الصمت"

ثم أغلق عينيه.

ظل ويلي واقفًا على الرصيف لبضع لحظات قبل أن يعود إلى شقته. وعندما دخل، نظر من النافذة. كان الرجل لا يزال في مكانه. في تلك اللحظة، شعر ويلي وكأن الرجل كان يراقب المبنى والطابق الذي يعيش فيه.

في اليوم التالي، يوم الخميس، وبعد أن وضع قطعة نقود في يد الرجل هذه المرة، قال:

"لم أرَ شخصًا يبدو تعيسا مثلك. لذلك أعتقد أنك تعرف الكثير عن التعاسة."

تنهد الرجل وقال:

"ربما."

رد ويلي:

"وأنا بحاجة إلى إيجاد علاج له."

"علاج؟"

"علاج للتعاسة."

زفر الرجل في صمت ثم قال:

"لماذا؟"

" أمي تعيسة."

"لماذا؟"

"أبي رحل."

"لماذا رحل؟"

"أعتقد لأنه كان تعيسا. والآن أمي تعيسة أيضًا، طوال الوقت. فإذا وجدت علاجًا للتعاسة، سيكون أمرًا جيدًا، أليس كذلك؟"

" ربما. بالمناسبة، هل لديك شيء لتأكله؟"

هزّ ويلي رأسه وقال:

"هل ترغب في قطعة كعك؟"

"أي نوع؟"

"لا أعرف، كعك."

"يعود ذلك إلى نوع الكعك."

في يوم الجمعة، قال ويلي للرجل:

"لقد اكتشفت ما نوع الكعك."

" أحقًا؟"

"كعك الباوند، لكنني لا أعرف لماذا يُسمى هكذا."

"طالما أنه كعك، فلا بأس."

سكت الاثنان للحظات، ثم قال ويلي:

"في المدرسة قالت معلمتي إن هناك أسماكًا تعيش في الكهوف، والكهوف مظلمة جدًا حتى أن الأسماك بلا عيون. ما رأيك؟ هل تصدق ذلك؟"

" بالطبع."

" أتصدق؟ لماذا؟"

" لأنك قلت ذلك."

"أتعني أنك تصدق لمجرد أن أحدا قال ذلك؟"

"ليس أي أحد. إنه أنت."

شعر ويلي بالحيرة وقال:

"لكن ربما لا يكون هذا صحيحًا."

أطلق الرجل تنهيدة:

"مهلاً، هل تصدق ذلك؟"

أومأ ويلي برأسه.

قال الرجل:

"إذن، أنت لست شخصًا عاديًا. لديك عينان، تستطيع أن ترى. أنت لست سمكة."

"آه."

ابتسم ويلي سعيدًا.

سأله الرجل:

"ما اسمك؟"

أجاب ويلي:

"ويلي."

قال الرجل:

" هذا اسم طفل. ما اسمك عندما تكبر؟"

رد ويلي:

"ويليام."

قال الرجل:

"وهذا يعني شيئًا آخر."

"ماذا يعني؟"

قال الرجل:

"سأخذ بعضًا من هذا الكعك."

تفاجأ ويلي وقال:

"أحقًا؟"

أجاب الرجل:

"لقد قلت ذلك، أليس كذلك؟"

شعر ويلي فجأة بحماسة شديدة، وكأن الرجل قد منحَه هدية. لم يكن ويلي متأكدًا تمامًا ما هي تلك الهدية، لكنّه كان يدرك أنها شيء مهم، وكان يشعر بالسعادة لامتلاكها. لحظة من الزمن، ظل يحدق في الرجل، يلاحظ خطوط وجهه، وانحناء شفتيه، والندبة الصغيرة على جانب ذقنه، ولون عينيه اللتين اكتشف أنهما زرقاوان.

"سأحضر لك الكعكة!"

صاح ويلي، وركض عائدًا إلى الشقة. أمسك بالعلبة من الثلاجة مع سكين، ثم أسرع بالخروج مرة أخرى إلى الشارع.

قال وهو يفتح العلبة.

"سأقطع لك قطعة منها "

قال الرجل:

"هيه، هذه ليست كعكة باوند."

نظر ويلي إليه بقلق، ثم ردّ الرجل:

"لكن كما قلت لك، لا يهم."

وضع ويلي إبهامه على الكعكة ليتأكد من أنها بالحجم الصحيح، ثم قطع قطعة صغيرة باستخدام السكين، مُحددًا عرضها بدقة.

قبل أن يقطعها، قال الرجل فجأة:

"انتظر!"

رفع ويلي نظره وقال:

"ماذا؟"

" ماذا كنت تفعل بإصبعك؟"

"كنت أقيس الحجم. الجزء الصحيح. الشخص يجب أن يحصل على جزء واحد فقط."

"من أين تعلمت هذا؟"

"مكتوب على العلبة. يمكنك أن ترى بنفسك."

قدم العلبة إلى لرجل.

تفحص الرجل العلبة ثم أعادها إلى ويلي قائلاً:

"هذا مجرد كذب."

"كيف عرفت؟"

"ويليام، كيف يمكن لعلبة أن تحدد مقدار ما يحتاجه الشخص؟"

"لكن العلبة تقول ذلك. العلماء قالوا إنه تم قياسه، ولذلك هم يعرفون. ثم وضعوه هناك."

قال الرجل مجددًا:

"مجرد أكاذيب" .

بدأ ويلي يشعر أن هذا الرجل يعرف أشياء كثيرة. سأل:

"حسنًا، إذن، كم يجب أن أقطع؟"

قال الرجل:

"عليك أن تنظر إليّ، ثم إلى الكعكة، ثم عليك أن تقرر بنفسك."

" أوه."

نظر ويلي إلى الكعكة. كانت القطعة بعرض ثلاث بوصات تقريبًا. نظر ويلي إلى الرجل. بعد لحظة قطع الكعكة إلى قطعتين، كل منهما بعرض بوصة ونصف. أعطى قطعة للرجل واحتفظ بالأخرى في الصندوق.

"بارك الله فيك".

قالها الرجل وهو يأخذ القطعة ويضعها في يده اليسرى. بدأ في تمزيق قطع صغيرة باستخدام يده اليمنى ووضعها في فمه قطعة تلو الأخرى. كانت كل قطعة تمضغ بتأنٍ. بينما كان ويلي يراقب الرجل وهو يأكل.عندما انتهى الرجل، لعق الفتات عن أصابعه.  قال الرجل:

"الآن سأعطيك شيئًا"

قال ويلي، متفاجئًا:

"ماذا؟"

"علاج التعاسة."

سأل ويلي، وعيناه مفتوحتان:

"أتعرفه؟"

أومأ الرجل برأسه.

" ما هو؟"

"هو هذا: ما يحتاجه الشخص دائمًا يكون أكثر مما يصرح به."

سأل ويلي:

" من هم؟"

أشار الرجل إلى علبة الكعك. وقال:

"الأشخاص الموجودون على العلبة".

كرر ويلي في ذهنه ما قاله الرجل، ثم أعطى الرجل القطعة الثانية من الكعكة.

أخذ الرجل القطعة قائلاً: "رجل طيب"، ثم تناولها.

ابتسم ويلي.

كان اليوم التالي هو السبت. لم يذهب ويلي إلى المدرسة. ظل طوال الصباح ينظر من نافذته بحثًا عن الرجل، لكن المطر كان يهطل ولم يظهر. تساءل ويلي عن مكانه، لكنه لم يستطع تخيله.

استيقظت والدة ويلي في منتصف النهار.جلس ويلي معها بينما كانت تتناول إفطارها. أعلن:

"لقد وجدت علاجًا للتعاسة."

"أحقا؟"

قالت والدته ذلك وهي تقرأ فاتورة من صاحب متجر البقالة.

"إنه: 'ما يحتاجه الشخص دائمًا أكثر مما يصرح به ."

وضعت والدته أوراقها جانبًا وقالت:

"هذا هراء. من أين سمعت هذا؟"

" من ذلك الرجل."

"أي رجل؟"

"في الشارع. الذي كان يتسول. قلتِ – أنت - إنه كان تعيسا، لذا سألته."

"ويلي، قلت لكِ أنني لا أريدك حتى أن تنظر إليه."

"إنه رجل طيب..."

"كيف عرفت ذلك؟"

"تحدثت إليه."

" متى؟ وكم مرة؟"

انكمش ويلي.:

"فقط فعلت، هذا كل شيء."

" ويلي، أنا أمنعك من التحدث إليه. هل تفهمني؟ هل تفهم؟ أجبني!"

كانت نبرة صوتها حادة للغاية .

قال ويلي:

"حاضر"

لكنه كان قد قرر فى دخيلة نفسه أن يتحدث إلى الرجل مرة أخرى. كان بحاجة إلى أن يشرح له سبب عدم استطاعته التحدث إليه بعد الآن.

ولكن في يوم الأحد، لم يكن الرجل هناك. ولم يكن موجودًا في يوم الاثنين أيضًا.

قال ويلي لوالدته أثناء عودتهما من المدرسة.

" ذلك الرجل اختفى"

"رأيْتُ. لستُ عمياء."

"أين تعتقدين أنه ذهب؟"

" لا يهمني. لكن يجب أن تعلم، أنا من جعلته يرحل."

توقف ويلي فجأة:

"ماذا تعنين؟"

"اتصلت بالشرطة. لا نحتاج إلى إزعاج شخص مثله هنا؛يضايق الأطفال."

" لم يكن يضايقني."

"من المؤكد أنه كان يفعل."

"كيف تعرفين؟"

" ويلي، لدي عينان. أستطيع أن أرى."

حدق ويلي في والدته:

"لا، لا تستطيعين. أنتِ سمكة. تعيشين في كهف."

ردت السيدة ماركهام:

"سمكة؟ ما علاقة الأسماك بأي شيء؟ ويلي، لا تتحدث بالتفاهات."

" اسمي ليس ويلي. اسمي ويليام. وأعرف كيف أبقى سعيدًا. أعرف!"

كان يصرخ الآن.

"ما يحتاجه الشخص دائمًا أكثر مما يقول! دائمًا!"

ثم دَارَ على عقبيه ومشى عائدًا نحو المدرسة. عند الزاوية، نظر إلى الوراء. لمح والدته تتابعه. استمر في السير. واستمرت هي في متابعته.

(تمت)

***

.....................

الكاتب: إدوارد إيرفينج وورتيس / Edward Irving Wortis وُلد إدوارد إيرفينج وورتيس في 23 ديسمبر 1937 نيويورك؛ وهو ابن جوزيف (طبيب نفسي) وهيلين المعروف باسمه القلمي آفي، كاتب أمريكي متخصص ف الأدب الموجه للشباب والأطفال وكاتب زائر في المدارس في جميع أنحاء الولايات المتحدة. التحق آفي بجامعة أنطيوخ، ثم جامعة ويسكونسن - ماديسون حيث حصل على شهادة البكالوريوس في عام 1959 والماجستير في عام 1962. حصل على درجة الماجستير في علوم المكتبات من جامعة كولومبيا في عام 1964. عندما كان طفلاً، كانت شقيقته التوأم إيميلي تناديه "آفي"، وهو الاسم الوحيد الذي يستخدمه الآن. وعلى الرغم من صراعه مع عسر الكتابة، قرر آفي التركيز على الكتابة كطالب في السنة الأخيرة من المدرسة الثانوية. نُشر أول كتاب له في عام 1970 ونشر منذ ذلك الحين أكثر من 80 كتابًا. تم تكريم آفي بميدالية نيوبيري عن كتابه "كريسبين: صليب الرصاص" وجائزة نيوبيري عن كتابه "لا شيء سوى الحقيقة".

كتب آفي 80 كتابًا، معظمها للأطفال والشباب. إلى جانب اعترافات شارلوت دويل الحقيقية، كتب كتبًا لفئات عمرية مختلفة وفي العديد من الأنواع المختلفة بما في ذلك الخيال التاريخي والخيال والروايات المصورة والكوميديا والألغاز وقصص الأشباح وحكايات المغامرات والخيال الواقعي والكتب المصورة.

بعد أن عاش في بروفيدنس، رود آيلاند في الثمانينيات والتسعينيات، يعيش آفي الآن في جبال روكي في كولورادو، مع زوجته ليندا كروز رايت.

بقلم: سوزان مينوت

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان ليو من زمن بعيد، وكان أول شخص رأيته عاريًا. في الربيع قبل أن يملأ آل هيلمان حوض السباحة الخاص بهم، كنا ننزل إلى هناك في المياه العميقة، مع زيت الأطفال، وما إلى ذلك. التقيت به في الشهر الأول بعيدًا عن المدرسة الداخلية. كان هناك هالة من ضوء الحرم الجامعي خلفه. لقد دهشت.

كان روجر أهوج. في سيارته غير القانونية، قُدنا إلى الخزان، والراديو يصدر أصواتًا عالية، نتحدث بسرعة، بسرعة، بسرعة. كان دائمًا يحاول فتح سحاب سروالي. تم طرده في السنة الثانية.

بحلول الوقت الذي بدأت فيه الفرقة لعزف أغنية  "خيول برية"، كنت قد تذوقت لسان بروس. كنا نختبئ في الظلال على الجانب الآخر من مكبر الصوت، بعيدًا عن رؤية السيدة دونوفان. كان طعمه مثل الملح، ورقبتي مائلة إلى الوراء، لأننا كنا نرقص بشدة قبل ذلك.

كانت جملة من أغنية تيم: "أود أن أراك في ملابس السباحة." كنت أعلم أنها جملته عندما قال نفس الشيء تمامًا لأنني سمعت منه ذلك أيضًا مع آني هاينز

كنت تذهبين في نزهات للخروج من الحرم الجامعي. كانت تمطر بشدة، وسروالي مبلل كما لو كنت خروفًا مبللًا. ثبتني تيم على شجرة، وكانت الغابة ذات لون بني فاتح وبني غامق، وكان المنزل الأبيض نصف مخفي وقد أضاءت أنواره بالفعل.  كانت المياه صاخبة كالجمهور الذي يهمس. أدلى بتعليقات معينة عن جبهتي، وعن خدي.

بدأنا بالجلوس في أحد طرفي الأريكة ثم كانت أقدامنا مضغوطة ضد مسند الذراع، ثم ذهب لتشغيل التلفاز وعاد بعد أن خلع قميصه، ثم نزلنا إلى الأرض ووقف مرة أخرى ليغلق الباب، ثم عاد إلي، جسد ينتظر على السجادة.

كنت تحاولين مسح الطاولة أو غسل الصحون، وكان ويلي يرفع قميصك من تحت ويضع يديه تحته من المام، واقفًا خلفك، يصدر أصواتًا مثيرة وثقيلة في أذنك.

يحب ذلك عندما أغسل شعري. يغطي وجهه به وإذا بدأت أقول شيئًا، يقول: "اسكتي."

لفترة طويلة، كان فيليب يشغل تفكيري. كلما قلّ اهتمامهم بك، زاد تواجدهم في تفكيرك.

لم يكن والداي لديهما أي فكرة. الآباء لا يعرفون حقًا ما يجري، خاصة عندما تكون بعيدًا في المدرسة معظم الوقت. إذا التقوا بهم، قد تقول والدتي: "يبدو أوليفر لطيفًا" أو "أحب هذا" دون أن يكون لديها رأي قوي. وإذا لم تعجبها، قد تقول: "إنه شخص غريب، أليس كذلك؟" أو "جوني لطيف للغاية لكنه بلا طعم". أما والدي فكان خجولًا جدًا لدرجة أنه لم يتحدث معهم أبدًا، إلا إذا كانوا يمارسون الرياضة، فكان يسألهم عن ذلك.

كانت الرمال باردة تقريبًا تحتي قدميلأن الشمس كانت قد غابت منذ فترة طويلة. وضع إيبن كومة فوق قدمي، وراح يداعب كاحلي، وكانت الأمواج المزعجة تهدر خلفه في الظلام. كان أول شخص أعرفه يموت، في وقت لاحق من ذلك الصيف، في حادث سيارة.

فكرت في الأمر لفترة طويلة.

قال على الشرفة: "تعالي هنا"

ذهبت إلى الأرجوحة وأمسك معصمي بإصبعين.

" ماذا؟"

يقبل راحة يدي ثم يوجه يدي إلى سحاب سرواله.

كانت الأغاني ترتبط بأي فتى كان. كانت "Sugar Magnolia" تتعلق بتيم، مع السطر "يتدحرج في القصب / بجانب ضفة النهر." مع "Darkness Darkness"، كنت أتصور فيليب بشعره الطويل. وعند سماع "Under My Thumb"، كانت هناك رائحة سترة جلد الغزال الخاصة بجايمي.

كنا نختبئ في غرف الاستماع خلال وقت الدراسة. مع غلاف أسطوانة فوق نافذة الباب، لم يكن بإمكان المعلم الموجود أن ينظر إلى الداخل. خرجت محمرة الوجه ومشوشة، وعندما عدت إلى السكن، فوجئت بمدى احمرار شفاهي في المرآة.

في أحد عطلات نهاية الأسبوع في منزل أخ سيمون، بقينا داخل المنزل طوال اليوم مع الستائر مغلقة، في السرير، ثم خرجنا إلى متجر 24 للحصول على بعض الآيس كريم. وقف عند رف المجلات وقرأ من مجلة MAD بينما كنت أبحث عن صوص الزبدة، أتوق لشيء حلو.

كنت أستطيع فعل بعض الأشياء بشكل جيد. كانت لدي مهارات في بعض الأمور، مثل الرياضيات أو الرسم أو حتى الرياضة، لكن في اللحظة التي يضع فيها فتى ذراعه حولي، أنسى الرغبة في فعل أي شيء آخر، مما كان يبدو مريحًا في البداية حتى أصبح مثل الغوص في الوحل.

كان الأمر مختلفًا بالنسبة للفتيات.

عندما كنا صغارًا، قام الإخوة في الجوار بتقييد كاحلينا. أمسكوا بباب حظيرة الماعز ولم يسمحوا لنا بالخروج حتى نظهر لهم ملابسنا الداخلية. ثم كانوا ينسون مطاردتنا وعندما كنا نلعب الكرة الويفل، كنت أكون جيدة تمامًا مثلهم.

ثم أصبح الأمر مختلفًا. لمجرد أنك ترتدين تنورة قصيرة، يصرخون عليك من السيارات، يبطئون لفترة قصيرة، وإذا لم تنظري إليهم، ينطلقون بسرعة ويصفونك بالعاهرة.

"ما الذي يحدث معي؟" يسألونك بلهجة مباشرة.

أو يقولون: "لماذا لا تخرجين معي؟ أنا لا أطلب منكِ الزواج"، على وشك أن يغضبوا.

أو يحاولون التحدث بصوت عادي، يقولون: "اسمعي، كل ما أريده هو قضاء وقت ممتع."

فكنت أوافق لأنني لم أكن أستطيع التفكير في شيء للرد به دون أن يكون واضحًا، وإذا خرجت معهم، نوعًا ما، عليك أن تفعلي شيئًا.

جلست بين ماك وإدي في المقعد الأمامي للشاحنة. كانا يتشاجران حول شيء ما. لدي شعور بأن الأمر يتعلق بي.

بعض الليالي كنتِ تشعرين بنوع من الاستسلام، ربما إذا شربتِ النبيذ. الاستسلام كان يعني نسيان نفسك، وتضعين أنفك على رقبته وتشعرين وكأنكِ سنجاب، آمن، مرتاح، في حلم هادئ. لكن بعد ذلك تبدأين في الانزلاق من ذلك والشعور بالظلام الذي يتسلل ويصبح كأن هناك كهفًا. ترين الشكل الغامض للنوافذ وتشعرين بنفسكِ وكأنكِ كهف، مملوء تمامًا بالهواء، أو بالحزن الذي لا يتوقف.

في سنوات المراهقة. كنت تعرفين تمامًا ما تفعلينه ولا ترين الأشياء التي تبدأ في الوقوف في طريقك.

الكثير من الأولاد، لكن أبدًا ليس اثنان في الوقت نفسه. كان الواحد يكفي ليبقيكِ في حالة ما. تبدأين في رؤية أحدهم ويجتاحكِ شيء يشبه عاصفة سريعة ولا تستطيعين التفكير في أي شخص آخر. الأولاد كانوا يأخذون الأمر بشكل مختلف. كانت عيونهم تتنبه لأي فتاة تمر بجانبهم. وكنت تتصرفين وكأنكِ لا تلاحظين.

كانت النكتة أن طبيب المدرسة كان يعطي  حبوب منع الحمل  مثل الأسبرين. لم يكن يسألكِ أي شيء. كنت في الخامسة عشرة من عمري. لدينا صورة له في الاجتماع المدرسي، وهو يحمل جهازًا داخل الرحم على شكل حرف T. كانت معظم الفتيات يتناولن الحبوب، لأنهن لم يكن قادرات على التعامل مع اللولب /الحاجز المانع للحمل. كنت أحتفظ بعلبة الحبوب في الدرج العلوي مثل أمي، وأفكر فيها في كل مرة أتناول فيها الأقراص الصفراء في الصباح قبل الذهاب إلى الكنيسة.

إذا كانوا خجولين للغاية، فسأكون أكثر خجلاً. كان أندرو متوترًا. بقينا مستيقظين نتصفح ألبوم عائلته، نتشارك علبة من سجائر "أولد جولد". قبل أن يطلع الصباح، شغلنا التلفاز. كان هناك رجل يشرح كيفية زراعة الشتلات، وكان فمه يتحرك إلى الجانب بتشنج. وجد أندرو الأمر مضحكًا واستمر في تقليده. ضحكت مجاملة له. عندما غفونا أخيرًا، تجرأ ووضع ذراعه حولي، لكن هذا كان كل شيء.

أنتظر حتى يأتوا إليك. بخليط من الخوف والثقة المفرطة، يقفون خطوة إلى الوراء. يتجرؤون على لمس الزر في معطفك، ثم يفقدون شجاعتهم بسرعة ويسقطون أيديهم، فتفعلين أي شيء من أجلهم. تلمسين خدهم.

تجلس الفتيات في غرفة الاستراحة ويتحدثن عن الأولاد، يدخن بشكل جنوني.

تقول لي جيل عندما نتحدث عن المشاكل:

" مم تشتكين ؟"

تقول جيدي:

" نعم ، أنتِ دائمًا لديكِ صديق."

أنظر إليهن وأفكر، كما لو أن ذلك صحيح..

كنت أعتقد أن أسوأ شيء يمكن أن يطلق عليكِ هو "مغرية". لذلك، إذا قمتِ بالمغازلة، عليكِ أن تكوني مستعدة للمضي قدمًا في الأمر. إذا كانالنوم مع شخص  أمرًا عاديًا بعد أن تجربيه. لم يكن هناك ما يدعو للقلق حيال ذلك. لكن المشاكل كانت تتعلق بشيء آخر تمامًا.

كان ماك في أشد أيام الصيف حرارة على الإطلاق. كنا نقيم في منزل مستأجر على جزيرة مع مجموعة من الأشخاص. لم يكن أحد ينام في تلك الموجة الحارة، كنا نتجول في المنزل عراة، وهو أمر اعتدنا عليه بفضل الشاطئ العاري. كان إدي مستلقيًا على طاولة القهوة في غرفة المعيشة ليبرد نفسه. أما ماك وأنا، فقد كنا نعرق طوال الليل، مع بقاء باب غرفة النوم مفتوحًا للهواء.

قال لي في الثالثة صباحًا: "لا أستطيع تحمل هذا. سأذهب للسباحة". ذهب وبعض الشباب في الممر إلى الشاطئ. الحرارة كانت تجعلني عصبية. جلست على صندوق متشقق بجوار النافذة المفتوحة. أدخن وأدخن حتى شعرت بأسوأ حال، أنتظر شيئًا ما—أعتقد أنني كنت أنتظر عودته.

كان أحدهم في رحلة تخييم في كولورادو. قمنا بربط كيسي النوم معًا، بينما كانت أصوات الذئاب تملأ الجو بعيدًا. كان الأزواج الآخرون يهمسون في خيامهم. أما بول فكان يستيقظ قبل الفجر، ليبدأ بإشعال النار لإعداد الفطور. لم يكن يتحدث كثيرًا خلال النهار، أما في الليل، فكانت يده تتلمس شعري عند رقبتي.

كانت هناك أوقات تبالغين فيها. تنساقين مع الموقف. وفي اليوم التالي تجدين نفسك في حالة ضباب تام، هائمة، ذاهلة، تعبرين الشارع وكأنك على وشك أن تُدهسي.

كلما كان لدى الفتى المزيد من الفتيات، كان ذلك أفضل. يبدو عليه التوهج، وكأنه قد جنى ثماراً، وأصبح مزهواً. يتجول بخطوات واثقة، وكأنك تشعر أنه يحمل المزيد بداخله، قلباً أكبر، مزيداً من القصص ليحكيها. أما الفتاة، فمع كل فتى، وكأن بتلة تُقطف في كل مرة.

ثم تبدأين في الشعور بالتعب، والإحساس بالضعف، وكأنك في حساء مخفف بالماء.

جاء أوليفر ليتزلج معنا. استلقينا بجوار النار بعد أن ذهب الجميع إلى الفراش. كل صرير يصدر يجعلك تظنين أن أحدًا قادم من الطابق السفلي. أما السوار الفضي الذي أعطاني إياه فقد كان هدية من صديقته السابقة.

في الإجازات، كنا نذهب للتزلج، أو تذهبين جنوبًا إذا دعاك أحد. بعض الناس لديهم شقق في نيويورك لا تستعملها عائلاتهم كثيرًا. أو منازل صيفية، أو أخوات أكبر سنًا. لذلك كنا دائمًا نجد مكانًا نذهب إليه.

وضعنا الخطة في ساعة القهوة. تسلل سيمون والتقاني عند البوابة الرئيسية بعد إطفاء الأنوار. تسللنا إلى الكنيسة وقضينا الليلة في الشرفة. كان طعمه مثل البصل من الساندويتش الذي أكله.

الأولاد يكونون إما على أحد طريقتين: إما لا يستطيعون الجلوس بهدوء أو لا يتحركون أبدًا. أمام التلفاز، لا يبدون أي استعداد للتحرك. في عطلة نهاية الأسبوع يلعبون كرة القدم باللمس بينما نجلس نحن على الأطراف، نمضغ أعشابًا ونتابع. نحن دائمًا نراقبهم يركضون حولنا. نرتجف في المدرجات، ونضرب أحذيتنا ببعضها البعض للحفاظ على دفء أصابع أقدامنا، وهم يتسابقون على الجليد، يلوحون بعصيهم حول القرص. عندما يكونون في الحلبة، يرفضون النظر إليك، بل يركزون على بعضهم البعض تحت خوذاتهم المنخفضة. نهتف لهم لكنهم لا يرفعون نظرهم، حتى في وقت الإيقاف عندما لا يحدث شيء، وحتى عندما يقومون بالتدريبات قبل بدء أي مباراة.

تحت الخيمة الوردية، وبينما كنا نرقص، انحنى وهمس في أذني. تسللنا بهدوء إلى العشب خلف السور. بعد وقت طويل، بينما كان يغادر طاولة البوفيه حاملاً طبقين مليئين بالبيض والنقانق، رأيت بقع العشب على ركبتي سرواله الأبيض.

كان عضو تيم أشبه بانحناءة الموزة، رشيقاً ومتناسقاً. لكل منهم تفرده الخاص. أما عضو ويلي، فكان أشبه بكومة من الجوز في حالة السكون، وآخر كان نحيفًا مثل نقانق رفيعة. لكنها مثل الوجوه؛ لا تتفاجئين حقًا.

ومع ذلك، لا تكونين متأكدة مما يمكن توقعه..

أنظر في وجهه وهو ينظر لي. أنظر في عينيه فترد عينيه نظرتي. ثم ينظر إلى فمي فأنظر إلى فمه، ثم أعود إلى عينيه، ثم أتراجع قليلاً لأتأمل وجهه بالكامل. يخطر في بالي: من؟ من أنت؟ يميل رأسه قليلاً إلى الجانب وكأنه يجيب بصمت.

أقول: "من أنت؟"

"ماذا تقصدين؟"

"لا شيء."

أنظر مرة أخرى إلى عينيه، بعمق. لا أستطيع أن أعرف من هو، ولا ما يفكر فيه.

يقول:

" ماذا؟"

أنظر إلى فمه.

أقول:

" فقط أتساءل"،

وأتجول بنظري على وجهه. أدرس خط ذقنه. كان شكلها كالكاكي.

" من أنت؟ بماذا تفكر؟"

يقول: "

عن ماذا بحق الجحيم تتحدثين؟"

ثم يغضبون بعد ذلك عندما تقولين  لهم "كفى". وبعد ذلك، عندما يكون من الأسهل أن تشرحي لهم أنك لا تريدين  ذلك. ولن تخطر ببالك فكرة أنك ربما لم تكوني مستعدة لذلك من البداية .

إيدي الحنون. خضنا في البحر، حيث الأمواج تتدفق كجاموس هائج، تضرب أفخاذنا بقوة واندفاع. أحطت بذراعي كتفيه المنمشين، فاحتواني بثبات، ورفعني، وطفوت على الماء، وهزني كما تهتز قوقعة في البحر.

لم أكن أعرف لمن كانت تلك الحفلة، الشقة مكتظة بالناس، نخطو فوقهم في الممر. كانت الغرفة التي تنبعث منها الموسيقى شبه فارغة، الأرضية عارية، وأنا بحذائي الأحمر. ظهر شاب، ينحني على إحدى ركبتيه، يحيط خصري بذراعيه، ونبدأ بالتمايل على أنغام موسيقى الجاز. أصابعي تتجه نحو السماء، ونرقص، وندور، ونتمايل على على أغاني مثل "Smoke Gets in Your Eyes" أو "I’ll Love You Just for Now". يضع رأسه على صدري، تمر يده برفق وسلاسة على داخل فخذي، ونصبح متناغمين، متحررين، وناعمين كحرير. أضرب بكعبي الأحمر الأرض، وهو يلفني بحركة ساحرة. لم أره مرة أخرى بعد ذلك، لكنني فكرت: "كان يمكن أن أحب هذا الرجل".

تتساءلين كم من الوقت يمكنك الاستمرار في ذلك. تبدأين في الشعور وكأنك شفافة، مثل نافذة حمام تسمح فقط بدخول الضوء الرمادي، النوع الذي لا يمكنك الرؤية من خلاله.

إنهم يواصلون المجيء. جاء جوني في عطلة عيد الفصح من بالتيمور، وسمحت له بالدخول إلى المطبخ بينما كان الجميع نائمين. لديه أصدقاء ينتظرون في السيارة.

قلت: "أنت مجنون؟ الجو عاصف هناك!"

قال: " لا بأس ، إنهم يتفهمون."

لذلك يحصل على بعض القبل الطويلة مني، بجانب الثلاجة، قبل أن يعود إلى منزله، لأنني أكره الفتيات اللواتي يدفعن وجه الصبي بعيدًا كما لو أنها مصنوعة من صابون آيفوري، كما لو أنها أفضل منه بكثير.

الورقة التي وجدتها في خزانتي أخبرتني أن أرى المدير. لم يكن لدي أية فكرة عن السبب. كان قد تلقى شكاوى حول تصرفاتي العاطفية في الساحة العامة. كان ويلي في ذلك الربيع. أخبرني المدير أنه لا يهمه ما أفعله، لكن أكاديمية كيسي لديها سمعة للحفاظ عليها في البلدة. أنزل نظارته على أنفه وقال: "لدينا عشرون فدانًا من الغابات في هذه الحرم الجامعي. إذا كنت تريدين التقبيل مع صديقك، فهناك عشرون فدانًا لتفعلي ذلك بعيدًا عن أعين الناس. هل تفهمين؟"

كان الجميع يحصلون على إذن لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في أماكن مختلفة، ثم نذهب جميعًا إلى منزل أحدهم حيث يكون الوالدان بعيدين. عادةً ما يكون هناك عدد الأولاد أكبر من من الفتيات. نقتحم خزانة المشروبات الكحولية وندخن الماريجوانا على طاولة المطبخ، ولم تكن تعرف أبدًا من سينتهي به المطاف في أي مكان، أو مع من. كانت هناك دائمًا كوارث. شربت سيزي  حتى الثمالة وكسرت رأسها على الدرابزين واحتاجت إلى غرز. ثم كانت هناك المرة التي سار فيها وندل بليير عبر نافذة الصورة في منزل لويس وتمزق جسده بشكل رهيب.

لقد أخافني. في السرير، لم أجرؤ على النظر إليه. استلقيت مغمضة العينين، مستمتعة لأنه كان يعرف جميع الزوايا بشكل خبير، ويداه لا ترتعشان أبدًا، يتجولان في جميع أنحاء جسدي، يرفع شعري عن مؤخرة رقبتي، ويعطي دفعة إضافية بوركيه، وكأنه يقول ها قد تم. فتحت عيني قليلاً، محجوبة الرؤية برموشي المنخفضة لأن النظر إليه كان صعبًا للغاية، فمه كان مرخيًا وورديًا ومنفتحًا، وعيناه تنظران من خلال جبهتي، أو حين كان ينهض على ركبتيه وينظر من خلال حلقي. شعرت بالخجل لكنني لم أتمكن من النظر في عينيه.

تتساءلين عن سبب شعورك بأن الأمور وكأنها خارجة عن المألوف قليلاً. تبدأين في الشعور وكأنكِ قطعة لحم مفرومة.

في المدرسة الداخلية، الجميع يصاب بالاكتئاب. ندخل ونرى مشرفة المنزل، السيدة جونتر. تزوجت عندما كانت في الثامنة عشرة. كان السيد جونتر حبيبها في المدرسة الثانوية، أول صديق لها.

نسألها:

"وهل كنت تعلمين منذ البداية أنك تريدين الزواج منه؟"

تبتسم وتقول:

"نعم."

تقول جيل، مشتكية من صديقها:

" دائمًا يريدون شيئًا منك"

تقول جيدي: "أجل . تشعرين دائمًا وكأنك مجبرة على تقديم شيء."

تقول السيدة جونتر: "هذا صحيح. أيتها الأطفال."

بعد ممارسة الجنس، تتكورين مثل الجمبري، شيء عميق بداخلك محطم، وكأن هناك مكانًا قد أغلق بقسوة ويثير الغثيان، وببطء، يمتلئ قلبك بحزن ساحق وقلق غامض لا يمكن وصفه. لا تحاولين أن تشرحي، لأنك تعلمين جيدًا أنه لا شيء، في النهاية، كل شيء يمتلئ بالموت، تمامًا وبشكل مطلق. بعد الحيوية والسرعة في الحب، يتوقف الحب فجأة. تتقلبين، والموت ممدد بجوارك مثل وشاح من الريش، أو ثعبان، خفيف كالهواء، و... لا تطلبين شيئًا ولا تحاولين أن تقولي له شيئًا، لأنه من الواضح أن الخطأ خطؤك. لم تتمكني من - من ماذا؟ من فتح قلبك. تفتحين ساقيكِ لكن لا تستطيعين، أو لا تجرؤين بعد الآن، على فتح قلبك.

يبدأ الأمر هكذا:

تحدقين في أعينهم. تلمع أعينهم وكأن جميع النجوم قد ظهرت. ينظرون إليك بجدية، عيونهم مشتعلة بهدوء، وأيديهم تبدأ خجولة دائمًا وبلمسة رقيقة لدرجة أنك لا تستطيعين إلا أن تأخذي تلك الرقة وتسمحي لنفسك بالانجراف. عندما يدسون شعرك خلف أذنك بإصبع واحد، بحركة متأنية، أنتِ...

تفعلين كل ما يريدونه.

ثم يأتي ما بعد ذلك . ما بعد ذلك عندما لا ينظرون إليك. يحكون خصاهم، يحدقون في السقف. أو إذا التفتوا إليك، تتغير نظرتهم تمامًا. يشعرون بالمفاجأة. ينظرون إليك بلا مبالاة، مستغرقين في أفكارهم، ويبدو أنهم قد فوجئوا قليلاً. أنتِ لم تعودي هناك. تخبرك نظرتهم الفارغة أن الفتاة التي كانوا يمارسون الجنس معها لم تعد موجودة. يبدو أنك اختفيت.

(تمت )

*** 

..................................

المؤلفة: سوزان مينوت/ Susan Minot (من مواليد 7 ديسمبر 1956) روائية أمريكية، وكاتبة قصص قصيرة، وشاعرة، وكاتبة مسرحية، وكاتبة سيناريو، وفنانة تشكيلية. .  فازت بالمركز الثاني في مسابقة القصة الربيعية لعام 2020 التي نظمتها مجلة Narrative، هي مؤلفة الروايات "ثلاثون فتاة"، و"قرود"، الفائزة بجائزة بري فيمينا أترانجي، و"جنون"، و"مساء"، و"شغف". كما كتبت مجموعتين قصصيتين هما "شبق وقصص أخرى" و"لماذا لا أكتب"، ومجموعة شعرية بعنوان "قصائد الساعة الرابعة صباحًا" كما كتبت مينوت السيناريو لفيلم "سرقة الجمال" للمخرج برناردو برتولوتشي، وشاركت مع مايكل كانينجهام في كتابة سيناريو فيلم "مساء". تعيش في مدينة نيويورك و"نورث هافن" في ولاية مين.

***

تأليف: روبرت لي فروست

ترجمة: محمد إبراهيم الفلاح

***

في الغابةِ الصَّفراءِ هِمْتُ مُحَيَّـرًا

بينَ السَّبيلينِ الهُدى قد ضَلَّني

*

وَأنا الوَحيدُ السَّائرُ المُغتالُ بِالـ

عَقلِ الَّذي بَعدَ اهْتداءٍ ذَمَّني

*

قَبل المَسيرِ العَينُ كَمْ طالتْ بِها

نَظَراتُ مَفتونٍ لِدَربٍ أزَّني

***

لكِنَّني قد خُضتُّ آخَـرَ غَيرَهُ

عَجَبًا!... وَكَمْ عُجْبٍ بِآدمَ شَفَّني!

*

هُـوَ مِثلُـهُ زاهٍ وَيَحلو خَـوضُـهُ

أو هكذا احْتَــجَّ الفؤادُ وَرَدَّني

*

مُعشَوشِبٌ وَالسَّيرُ فيه تَمايلٌ

ما ضَـرُّهُ؟... لا شيءَ شابَ تيقُّني

***

وَكِلاهُما في الصُّبحِ أخضَرُ ما رأتْ

عَينُ العَـذارى وَالعُطورُ تَعُمُّني

*

ما قصَّ أنفي أو فؤادي مُنكَــرًا

إذ لا خُطًـى نَـزَعَـتْ لِنَشْــوِ المُدْمِـنِ

*

ما أبْشعَ النَّـدَمَ الَّذي كَـم زارَني

أنساه لكنْ ظلُّهُ لم يَنْسَني

*

هو ذا شعورُكَ بالَّذي هو أوَّلٌ

مَهما تُـراوغْ ذُو صَـدًى لا يَنْثَني

***

إنِّي لأعْلَـمُ أنَّ دَمْعي مُقْبِـلٌ

أنَّ المَراثي بَعـدَ حِينٍ مَسْكَنـي

*

أنَّ السَّبيلَ وَما خَطَـوتُ مِنَ الخُطى

غَيـر الَّذي قد جازَ فيه تَيمُّني

*

يا سالكَ الدَّرْبِ الَّذي فيه الهُـدى

أتْقِـنْ شُكُوكَـكَ قاطِعًا بِتَيَقُّنِ

***

.................

The Road Not Taken,

by Robert Lee Frost

***

Two roads diverged in a yellow wood,

And sorry I could not travel both

And be one traveler, long I stood

And looked down one as far as I could

To where it bent in the undergrowth;

*

Then took the other, as just as fair

And having perhaps the better claim,

Because it was grassy and wanted wear;

Though as for that, the passing there

Had worn them really about the same,

*

And both that morning equally lay

In leaves no step had trodden black

Oh, I kept the first for another day!

Yet knowing how way leads on to way,

I doubted if I should ever come back.

*

I shall be telling this with a sigh

Somewhere ages and ages hence:

Two roads diverged in a wood, and I --

I took the one less traveled by,

And that has made all the difference

***

تأليف: كالفن ميلز

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

أخيرا تباعد الزوجان كي يستعيدا أنفاسهما، رقدا في هدوء تام فوق الملاءات الرطبة، فليس من صوت سوى تنفسهما البطيء، لاحظ الفتي في تلك اللحظة أن الزهور التي جلبتها الفتاة إلى شقته قبل ثلاثة أيام كانت قد ماتت بالفعل.  فيما عدا بعض البراعم المتفتحة، فإن بقية الزهور كانت بنية اللون وجافة ؛ على وشك السقوط.

سألته:

- فيم تفكر؟

أجاب بعد برهة:

- كنت أفكر فقط في الزهور.

قالت:

- تبدو كما هي لم تتغير.

أبعدت خصلات الشعر السوداء المتلة بالعرق عن وجنتيها وجبينها، جذب الفتي نفسًا عميقًا، كان الهواء حوله دافئًا وثقيلًا، تساءل الفتى:

- هل فكرت فيم سيحدث لنا؟

قالت:

- ماذا تقصد؟

كان رد فعلها سريعًا، جلست عندئد وتطلعت إليه. كان الفتي حريصًا على رؤية وجهها، والنظر في عينيها، لكنه كان خائفًا في تلك اللحظة، فظل يحدق في الزهور.

قالت:

- لا أستطيع أن أصدق أنك ستفعل هذا.

قالت ذلك وأصدرت صوتًا مبهمًا من أقصى حلقها، كان الفتي يعرف أنها تراقبه ، أضافت:

- ربما أخبرك أيضًا في حينها.

وبدأت تتنفس من أنفها، لذلك كان الفتي يستطيع أن يسمع كل نفس من أنفاسها.

سألها:

-   تخبريني بماذا؟

التفت لينظر إليها، لكنه لم يكن قادرًا على النظر إلا لبضع ثوان، عندما تراجعت نظرته، فتحت الفتاة فمها لكي تتنفس بهدوء من جديد، قالت:

- إنهما عيناك.

سأل:

- ماذا بها؟

- خضراوان.

- هما عسليتان، ففي بعض الأحيان تكونان خضرواين.

أصرّت:

- إنهما خضراوان الآن .

- أحقًا؟

تساءل في صوت ضعيف، وفكر قليلًا.

قالت:

- أنت لا تفهم.

كان صوتتها عميقًا وهي تتمتم بالكلمات.

- ماذا تقصدين؟ عيناي عسليتان، هذا يعني أنهما ذات ألوان مختلفة في أوقات مختلفة، تكونان خضراويين أحيانًا و رماديتين في أحيان أخرى.

- نعم، لكن ما الذي يحدد ذلك؟

- لا أعرف، لون قميصي، الحساسية، الطقس.

قالت:

- هذا ليس ما..؟

- ما الذي ليس كذلك؟

تحركت الفتاة إلى حافة السرير، تبحث عبر الأرض عن سروالها الداخلي. عثرت على سروالها الداخلي، نهضت وبدأت في ارتداء ملابسها. ابتعدت بنظرها عنه، مواجهة النافذة، لم ير الفتى سوى استدارة صدرها من الخلف، لين ورخو وبلا حلمات ظاهرة ، إلى جانب رقة وانحناءة قفصها الصدرى ، كان لديها غمازتان قرب قاعدة عمودها الفقري، واحدة على كل جانب، فوق حافة حزام سروالها الداخلي، قالت:

- هما خضراوان الآن.

كانت ترتدي نصف ملابسها، وتحدق عبر النافذة إلى مظلة الأشجار في الأسفل. كانت الشقة تقع في الطابق العلوي، ولم تكن معتادة على النظر إلى الأشجار من هذا الارتفاع. بدت الأشجار وكأنها بلا جذوع من تلك الزاوية، وبلا فروع. كانت بستان الأشجار يشكل سجادة خضراء كبيرة. قليل فقط منها كان يقف منفردًا، مثل كرات القطن. مستديرة منفوشة، وفيما عدا ذلك فكرت أنها مثل السحب.

سألها:

- أهما حضراوان؟

قالت:

- نعم.

أخذ نفسًا قصيرًا وصغيرًا.لا بد أنها سمعت ذلك لأنها قالت:

- كنت أعلم أنهما سيكونان كذلك .

قال:

- يا يسوع المسيح، ما الذي تتحدثين عنه؟

- في كل مرة نمارس فيها الحب تتحول عيناك إلى اللون الأخضر، كنت أخشى أن أقول ذلك من قبل.

- أفي كل مرة؟

- نعم .

تأمل الفتى الزهور مرة أخرى، ونظر إلى ظهر الفتاة، ثم نظر أخيرًا من النافذة، كان كل ما يمكن أن يراه هو السماء الزرقاء الأردوازية، كانت هناك أشجار في الخارج، تمتد عبر التل لمسافة طويلة. مع الرطوبة والمطر الصيفي بدت مظلة الأشجار أقرب إلى انفجار أحضر. لكن هذا لم يغير حقيقة موت الزهور. من حيث كانت الفتاة واقفة كانت الأشجار هي كل ما تسطيع أن تراه، وكان الفتى يعلم ذلك. ولكن من حيث كان مستلقيًا، لم تكن تلك النافذة سوى مستطيل من اللون الأزرق الشاحب.

(انتهت)

***

...........................

المؤلفة: كالفن ميلز / Calvin Mills  كاتب قصة قصيرة ومسرح أمريكى ، يقوم بالتدريس فى كلية مينسولا فى برت إنجليش فى واشنطن.

 

A long-forgotten, passionate tale crafted for discerning and intelligent young minds Written Ali Al-Kasimi and translated by Hassane Darir

***

The Exalted Sultan

Once upon a time, there lived a Sultan of immense power and unparalleled honor, a ruler renowned for his wisdom and vast knowledge. As the monarch of a prosperous Muslim kingdom, he was affectionately known as the Emir of the Believers. His nation, blessed with a rich civilizational history and a prime geographical location, was encircled by vast seas and traversed by wide, flowing rivers. Its people, celebrated for their generosity and courage, thrived on trade and agriculture.

Officially recognized as the 23rd supreme Sultan, he was lovingly called The Exalted Sultan by his subjects. His reign was distinguished by valor and strength. He repelled invaders, expelled occupiers, and restored the independence and unity of his kingdom. Known for his unwavering commitment to justice, he established a constitutional framework for governance and formed a Shura Council, whose members were elected by the citizens to legislate laws.

The Exalted Sultan tirelessly worked to advance his nation and improve the well-being of his people. He prioritized their fundamental needs—ensuring food, shelter, clothing, and security for all. He constructed expansive trade routes and substantial dams to irrigate fields, laying the foundation for economic prosperity.

A passionate advocate for education and the pursuit of knowledge, the Sultan founded numerous schools and universities and dispatched student delegations to advanced nations to learn modern sciences and technologies. He surrounded himself with scholars and writers, adorning his palace with a magnificent library brimming with manuscripts and books.

The Sultan's reverence for knowledge and scholars was legendary. Every year, during a designated month, he gathered the finest intellectuals from across the world at his palace. Each scholar was allotted a day to ascend a beautifully crafted pulpit and deliver a lecture on ethics to an audience comprising the kingdom's ministers, commanders, and dignitaries seated humbly on the ground.

The Sultan himself sat among them, crouching like a lion on a green carpet, flanked by his eldest son on his right and his youngest on his left. By taking this humble position beneath the scholar's pulpit, the Sultan imparted a silent yet profound lesson in humility, respect for scholars, the glorification of knowledge, and the importance of applying the fruits of scientific research.

Dressed in traditional Arab-Islamic attire, the Sultan’s presence was marked by elegance and symbolism. On the little finger of his right hand, he wore a ring adorned with a radiant blue stone, inscribed with the words: "None prevails but God."

The Amiri School[2]

The Sultan's profound dedication to science and his unwavering passion for knowledge were especially evident in the upbringing of his crown prince. He firmly believed that the progress and advancement of the nation hinged upon its leadership. As the saying goes, “When the king is righteous, his subjects will be upright and thrive, for people follow the example of their rulers.”

To ensure his heir received the best education, the Sultan established the Amiri School, a special institution located within the royal palace. He decreed that twelve boys of the same age as the crown prince, representing all social classes of the Sultanate, be selected to study alongside him. The only condition was that they must be among the brightest young minds. Among them were the sons of farmers, laborers, shepherds, doctors, and others, reflecting the diverse fabric of the nation. The Sultan extended the same initiative to the education of his younger son and his little princess.

To provide an unparalleled learning environment, the Sultan selected the most prominent scholars to serve as educators at the Amiri School. He outfitted the school with state-of-the-art laboratories, top-tier sports equipment, and the finest musical instruments. Taking a personal interest, the Sultan supervised the school’s examinations, cultural activities, and graduation ceremonies, ensuring it served as a model for all other schools in the Sultanate.

The Sultan believed that governance was a profession requiring expertise and preparation. Leaders must be trained in the principles of statecraft—managing the nation’s affairs, fostering its prosperity, and maintaining harmonious relationships with citizens and foreign nations. This conviction underpinned his decision to establish the Amiri School as a center of specialized education for his crown prince.

The Sultan issued clear instructions to the school's director and teachers to treat all pupils fairly and equally, with no distinction between a prince and a commoner. He insisted they be provided with the finest education, access to the latest sciences, and training in the most effective skills. The curriculum included renowned languages, rigorous research, and practical work, all designed to shape them into virtuous individuals and exemplary leaders.

In addition to these directives, the Sultan gave a special recommendation regarding his crown prince. He requested that the school’s director and teachers maintain a record of the prince’s questions and intellectual inquiries. This register was to be reviewed weekly and presented to the Sultan himself. During regular one-on-one meetings with his son, the Sultan would address these questions, offering guidance on matters of politics and governance. He shared with the prince the secrets of leadership, the principles of serving the people, and the methods of governance that elevate a nation.

Secrets of Sorrows

The crown prince was a remarkable young man—intelligent, handsome, and blessed with extraordinary physical strength, rare intellectual acumen, and refined compassion. Despite his noble status, he chose to dress like ordinary people. On the index finger of his left hand, he wore a ring adorned with a green stone, and inscribed on its inner circle with the words: "Knowledge is enlightenment."

From an early age, the prince displayed a deep concern for the poor, the needy, and the marginalized in society, including the disabled, the elderly, and orphaned children. He frequently visited impoverished neighborhoods, attentively observing their conditions, inquiring about their needs, and offering help whenever possible. His actions endeared him to the people, who affectionately called him “the beloved prince” or “the prince of the poor.”

The beloved prince possessed a radiant presence—a handsome face with harmonious features and an aura of charisma. Yet, those who gazed upon him noticed a subtle veil of sadness in his expression, like a gentle shadow tempering the brilliance of sunlight streaming through a window. Rarely was he seen laughing; instead, a polite, subdued smile illuminated his face most of the time—a smile that conveyed a blend of warmth and sorrow.

This underlying sadness concerned the Exalted Sultan, who struggled to understand its origin. Seeking answers, he secretly instructed his personal physician to examine the prince. The doctor returned with reassuring news: “My Sultan, your son, the prince, enjoys unparalleled physical, mental, and emotional health.”

The Sultan’s advisors offered various interpretations. Some suggested that the prince resented the constant surveillance and restrictions imposed by his security detail, as he naturally gravitated toward freedom, preferring to mingle with the people and roam without the constraints of guards. Rumors circulated within the palace that the prince had attempted several times to leave unaccompanied. Each time, his guards—fully armed and vigilant—quickly followed and surrounded him as soon as he exited the palace.

Another rumor claimed the prince had resorted to disguise to evade his escorts. On one occasion, it was said, he slipped out of the palace dressed as a chef’s assistant, passing unnoticed by the guards. However, when his absence was discovered, his security detail mounted their horses and dispersed in all directions, urgently searching for him.

The director of the Amiri School and its teachers had their own perspective. They believed the expression on the crown prince’s face was not sadness, but a reflection of his constant contemplation of the immense responsibilities awaiting him. His thoughts were often consumed by ways to alleviate the suffering of the poor and improve their lives.

The Sultan himself may have contributed to this thoughtful demeanor. During their private lessons, he posed probing, philosophical questions designed to encourage deep reflection. These questions often had a profound purpose, such as:

Can a person’s wealth and comfort endure if others remain poor and hungry?”

How can you help the poor escape the curse of poverty and achieve the blessing of prosperity? Do you give them a fish to eat each day, or do you teach them how to fish, enabling them to rely on themselves and preserve their dignity?”

These queries were more than lessons; they were puzzles that instilled in the young prince a sense of duty, a relentless drive to seek solutions for the betterment of his people. The beloved prince's thoughtful demeanor, though tinged with sorrow, was a testament to his profound sense of empathy and his determination to carry the weight of his future responsibilities with wisdom and integrity.

The Wonderful Sparrow

On the beloved prince's tenth birthday, the Exalted Sultan presented him with a rare and thoughtful gift to bring joy to his heart—a beautifully ornate silver cage containing a magnificent bird. This bird was unlike any other, with vibrant feathers, a sweet fragrance, and a melodious voice that could sing like a dove or a nightingale. Sometimes, it even mimicked human speech like a parrot, greeting the prince with the phrase: "Good morning, little prince." Every time the bird spoke, a smile graced the young prince's lips.

The prince cared deeply for the bird. He filled its water vessel, replenished its grains, and gently stroked its soft feathers with his fingertips. Over time, the bird became his constant companion, a cherished friend who brought warmth to his days.

One afternoon, the prince reclined on a sofa in his office, gazing through the large windows that overlooked the palace’s lush garden. Outside, the sun bathed the world in light, the trees were heavy with fruit, and flowers of every hue perfumed the air. Birds flitted freely from branch to branch, their songs blending harmoniously with the gentle rustling of leaves swayed by the breeze. The scene stirred a longing in the prince's heart.

He thought to himself: “Can I desire freedom for myself and yet deny it to another? Can I truly love this bird while keeping her confined?” He reflected deeply, knowing he loved the sparrow from the depths of his heart and believed she loved him in return. Her vibrant green eyes, the calmness of her wings under his touch, and her rhythmic chirping whenever he stepped away all spoke of her affection. Yet, doubt clouded his thoughts.

Would she still love me if she were free?” he wondered. He desired a love born of choice, not captivity. True love and freedom must coexist. “If I love her as I claim, I must also grant her the freedom to choose”.

The prince also recognized that freedom comes with responsibility. Freedom without action is meaningless, and action leads to change. With freedom comes accountability for one's choices and deeds.

With these thoughts, the prince rose from his seat, his steps slow but purposeful, reflecting his resolve. He approached the ornate silver cage and gazed at the sparrow with sorrowful eyes. Opening the cage door, he gently placed his hand inside. The bird, sensing his intention, calmed under his touch. He lifted her tenderly, walked to the window, and looked out at the open sky, the tall swaying trees, and the vast expanse of the palace gardens.

With a deep breath, he released the sparrow into the air. For a moment, she hesitated, her wings fluttering in uncertainty, before soaring upward. She flew across the garden and landed gracefully on the branch of a tall palm tree near a cluster of golden dates.

The palace guards, witnessing the scene, quickly reported the event to the Exalted Sultan. That evening, during their usual lesson, the Sultan addressed his son:

"I have heard, my son, that you released the sparrow from her cage. This is a noble act, one that reflects your love for freedom. Freedom is indeed a sacred and wonderful gift, a natural right bestowed upon all beings. However, remember this: true freedom lies in choosing between good and evil."

The Sultan continued, "My son, there is no such thing as absolute freedom. A person’s freedom ends where the freedom of others begins. To ensure freedom benefits all, it must be governed by laws that balance individual liberties with the rights of the community. Without such structure, freedom can devolve into chaos, turning what should be a blessing into a curse."

To illustrate, the Sultan shared a story:

"Two young men once argued heatedly. One of them, carried away by his passion, used hand gestures to emphasize his points. As he pointed his finger at the other’s face, it accidentally touched his opponent’s nose. The second young man calmly remarked, ‘Your freedom to move your finger ends where my nose begins.’"

The Sultan’s words left the young prince thoughtful, reinforcing his understanding of freedom as not only a right but also a responsibility—a balance between personal desires and the collective good.

The Prince's Dreams

The beloved prince often dreamed in his sleep. These dreams were reflections of his thoughts, his worries, and the challenges that preoccupied him. For the prince, a dream—whether born of night or day—was essential. He believed that many great endeavors began as mere dreams. After all, how could human life proceed without the power of dreaming?

One night, as the prince lay in bed, he thought of the drought that had gripped the land for two long years, leaving the people anxious and yearning for rain. His thoughts then turned to the wondrous sparrow he had set free. Would he ever see her again? Slowly, drowsiness enveloped him, and a soothing relaxation spread through his body. Closing his eyes, he drifted into sleep.

In his dream, the prince saw his extraordinary sparrow. She spread her radiant wings and soared high into the heavens, passing through clouds until she reached the skies above. There, her wings began to stretch wider and wider, transforming into a vast umbrella whose shadow covered the earth. The sparrow's feathers started to scatter, forming a magnificent rainbow that arched from the heavens to the ground, glowing with seven brilliant colors: violet, indigo, blue, green, yellow, orange, and red.

Then, to his amazement, the feathers turned into raindrops. At first, they fell lightly, tapping gently against his window. The sound grew louder as the rain poured down, awakening the prince. He jumped out of bed and rushed to the window.

The tapping continued. When he looked out, he could hardly believe his eyes—the wondrous sparrow was there, tapping on the glass as if waiting for him to open it. Was this still a dream? Could it be real? In the blur between reality and dream, the prince’s heart raced.

The sparrow smiled and greeted him, “Good morning, my beloved prince.”

The prince’s voice trembled with joy as he replied, “Good morning, my beautiful sparrow.”

He flung the window open, cupped the sparrow gently in his hands, and pressed her close to his chest. Her tiny heart beat rapidly against his palm. Overwhelmed with emotion, he brought her closer to his lips and kissed her shimmering green eyes before releasing her once more into the open air, granting her the freedom he himself so deeply cherished.

As the sparrow disappeared into the wide expanse of the morning sky, the prince felt a profound peace settle over him. “I did not lose her when I set her free”, he thought. “Freedom did not break our bond; it strengthened it”. She had returned, not out of obligation, but from a true longing born of love and devotion.

That morning, the sparrow made herself at home in his hands, resting peacefully without any chains. The prince thought of the poet Al-Mutanabbi’s words: “Whoever finds kindness is bound by it.” Indeed, the sparrow had chosen to stay connected to him, not through force, but through love.

The wondrous sparrow made it a habit to visit the prince each morning. She would alight on his window, wake him with her cheerful call, and bid him good morning. She gazed at him with affection before fluttering her wings and soaring back to her nest in the tall palm tree.

One night, however, the prince was abruptly awakened by a terrible nightmare. In the dream, three monstrous vultures with bare necks, razor-sharp beaks, and cruel talons descended from the sky like bolts of lightning. They attacked the palm tree, clawing their way toward the sparrow’s nest. The vultures sank their talons into the sparrow's delicate neck, attempting to capture her and drag her away.

The sparrow flapped her wings with all her might, desperately trying to escape the grip of the dreadful vultures. The prince, filled with terror and desperation, ran toward the tree. His heart pounded as he reached its towering trunk, but before he could act, the sparrow broke free and soared toward him.

When she landed, she nestled near his ear, as if whispering a secret only he could hear. The prince gently cupped her in his hands, holding her close to his chest, where her tiny heartbeat mirrored his own. He thanked God for her safety, realizing with immense relief that it had been nothing more than a nightmare.

The prince vowed silently to always protect the sparrow, cherishing the bond they shared—a bond built on kindness, trust, and the freedom to choose.

The Prince's Love

The prince grew into a handsome young man, known for his noble character, sharp intellect, and broad education. As he matured, his concern for the well-being of his people deepened. He frequently visited the markets to ensure that food supplies were abundant and fairly priced, making them affordable for all. On these tours, he was accompanied by officials and men of authority. Yet, the prince noticed that many people hesitated to speak freely in the presence of such company.

To address this, the prince began disguising himself as a common laborer. Slipping out of the palace unnoticed, he wandered through neighborhoods and villages alone, observing his people’s lives firsthand. He found comfort in these excursions, believing his people meant him no harm.

The prince’s sense of duty had been shaped by his father, the Sultan, who taught him that power must be exercised with justice and compassion. A wise ruler, his father said, helps the weak and weary, combats oppression, and fosters security and prosperity. In return, the people’s love and loyalty would grow, creating a harmonious and flourishing realm.

Sometimes, the prince would leave the palace on horseback, accompanied by guards and attendants. But, eager to travel unnoticed, he would outpace them, using his skill in horsemanship and sharp wit to evade their pursuit. Once alone, he would dismount and walk through the poorer neighborhoods or remote villages, disguised, seeking to understand the hardships of his subjects.

One day, while disguised, the prince ventured far from the capital and reached the outskirts of a small village. In a meadow nearby, he heard the soft, haunting notes of a flute. Following the sound, he found a young shepherdess sitting by a stream under the shade of a great oak tree. Her flock grazed peacefully, and a loyal dog sat watchfully at her side.

As the prince approached, the dog barked sharply, ready to defend its mistress. The shepherdess raised her staff, calming the dog with a firm gesture. Though the dog retreated, it kept a wary eye on the stranger.

The prince greeted her, and she returned his greeting with a quick glance. Their eyes met, and the prince felt his heart race. Her piercing green eyes stirred a memory—did they remind him of his beloved sparrow from childhood? Searching for words to prolong their meeting, he asked her about the village. The shepherdess, however, seemed unimpressed by his questions.

You’ll find what you’re looking for in the village,” she said curtly. “I don’t have time to talk.”

And what keeps you so busy,” the prince asked, smiling, “besides tending these gentle lambs?”

I have plenty to do,” she replied. “After finishing my weaving, I practice reading from this book.” She pointed to a book lying beside her.

Intrigued, the prince asked, “Why didn’t you go to school to learn to read?”

There’s no school in our village,” she said, her tone sharp with disappointment. “There’s one in the neighboring town, but it’s too far away.” With a wry smile, she added, “The authorities build schools in cities and forget about villages like ours.”

Moved by her words, the prince offered, “Would you like me to help you read your book?”

The shepherdess gave him a pointed look, “You can help me by leaving.”

Despite her abruptness, the prince admired her straightforwardness and strength. As he bid her farewell, she called after him, her tone playful, “May safety always be with you.”

Her natural manner and candid speech struck him deeply. Unlike the formal courtesies and excessive flattery he was accustomed to, her words felt sincere and unpretentious.

On his return to the palace, the prince couldn’t stop thinking about the children’s lack of access to education in villages. That evening, he invited the minister of education to dinner. The minister, a dignified elder with a thick beard and spectacles, listened attentively as the prince began to speak.

My father, the Sultan—may God protect him—has always taught me that justice means treating all citizens fairly and equally, regardless of their station or circumstances,” the prince said. “Education is a right for every citizen, and it is our duty to provide it to all, no matter their age, wealth, or location.”

The prince continued, “Villages and rural areas need schools just as much as cities. Without access to education, these communities suffer, their productivity declines, and their people face greater hardships. Neglect forces many people to migrate to cities, where they live in misery, creating new challenges for urban administrators.”

I know you are committed to the Sultan’s directives and have worked tirelessly to establish schools across the Sultanate. However, I’ve discovered that some small villages and remote areas still lack schools for their children. I propose that your department draft a decree to make education compulsory, presenting it to the advisory council for approval as law.”

Additionally, I suggest compiling a list of underserved villages and estimating the cost of building schools in these areas. This could be included in the upcoming budget proposal, allowing construction to begin in time for the next academic year.”

The minister, impressed by the prince’s insight and passion, replied respectfully, “As you command, beloved Prince. Thank you for highlighting this noble cause. I will ensure your vision is realized.”

The Prince’s Memoirs

That night, the prince could not sleep. A strange sensation, one he had never felt before, stirred within him—a delightful ache in his heart, a yearning that refused to be quelled. He longed to return to that village, to see the shepherdess again, to linger in her presence, as though he were weary with thirst and she the only spring to quench it. He wanted to hear her voice, with its lilting village accent, as melodious as the flute she played. Her smile, shy and radiant, revealed neat, pearl-like teeth, while the blush in her cheeks bloomed like spring flowers. When she smiled, dimples danced on her face, making her beauty even more enchanting.

The prince yearned to share his feelings with a trusted friend, yet the wisdom of his father, the Sultan, held him back. His father often said: “Your chest, my son, is the safest place for your secrets. If your chest cannot hold them, others’ chests will hold them even less. A secret shared beyond two people is no longer a secret. Keep your own counsel, and the choice remains yours.”

The emotions surging within him were overwhelming—like a rushing spring, a runaway river, or a flood sweeping away all in its path. The weight on his heart demanded release, yet he could share his thoughts with no one. Rising from his bed, he went to his office, opened his diary, and let his feelings spill onto its pages. Writing was his refuge, a solace that lifted him beyond the confines of the palace. With pen in hand, he soared to a vast, limitless space, weaving an ideal world out of words. In that world, he painted dreams with letters and gave melody to his hopes with sentences. His words described what no eye had seen and no ear had heard before.

That night, he wrote:

Tuesday, 4 Rabi’ al-Awwal

I saw her today—the beautiful shepherdess. She was radiant, like the brilliance of a star, like a gentle breeze, free and unrestrained like a sparrow.

I do not know why her wide, dewy eyes reminded me of my wondrous little sparrow. Was it because they are green too? No, I don’t think so. The color green is everywhere—in gardens, fields, and pastures, even in stagnant, lifeless waters. Perhaps the similarity lies in their clarity and expressiveness. Like the sparrow’s, her eyes reflect a noble emotion.

The eyes are the mirror of the soul, revealing through their gaze the affection or animosity hidden in the heart, even when the lips remain silent. Eyes have their own language, one that is more eloquent and honest than words. Today, her eyes spoke to me of pure love. They stirred my heart, awakened my soul, and revived my spirit.

She shares with my beloved sparrow not only the greenness and clarity of her eyes but also her love for freedom and movement. Just as the sparrow flitted from branch to branch, from tree to tree, so too did the shepherdess dart about, her every motion infused with purpose.

I watched her as she chased after a stray ewe, guiding it gently back to the flock. Then, she hurried to a lamb that had stumbled into a puddle, lifting it tenderly to its feet. Her movements were graceful, light, and free—like a butterfly with translucent, colorful wings. She seemed to flit among the wildflowers, touching their petals, kissing their stems, and sipping their nectar to sustain herself.

The prince closed his diary with a deep sigh, his heart both lighter and heavier at once. Through writing, he had given voice to his feelings, yet his longing for her remained, stronger than ever.

The Shepherdess and the Nation

The prince remained restless, his mind caught in the undertow of a new and unfamiliar emotion. For days, he grappled with its mystery, striving to understand its nature and origin. “Is this noble emotion stirring deep within me what they call ‘love’?” he wondered. “Love, they say, is like a breeze—we feel its presence but cannot see it. It manifests itself  in longing, in the ache to be near the beloved.”

But why had he fallen in love with her, of all people? “Is it because she is beautiful?” he mused. “And what is beauty? Does it lie in the object itself, or does it emanate from the beholder? Is beauty an objective truth, defined by harmony, simplicity, coherence, brilliance of color, and purity of form? Or is it a subjective experience, shaped by one’s tastes, inclinations, and memories?”

These were the questions he penned in his diary that night.

At the height of his contemplation, a startling realization struck him: his love for the shepherdess was not unlike his love for his nation. Indeed, it seemed as though the girl had become the embodiment of the nation itself. His lifelong devotion to the land, cultivated since childhood, now coursed through his feelings for her—with all the same intensity, nobility, and fervor.

He could not explain how this association had taken root in his soul. He had loved his nation before he even understood its meaning. When he was a boy of no more than five, he had first heard the word from his father, the Sultan, who spoke it with reverence and passion. At the time, the child’s mind had equated “nation” with “mother,”[3] a term of comfort and boundless care.

But as he grew older, the prince noticed that his father used the word “nation” in contexts beyond what “mother” could encompass. Gradually, the young boy began to imagine the nation as a beautiful, ethereal maiden whom his father adored, a beloved he sought to please, honor, and serve.

When the prince’s understanding matured, he realized that the nation was neither mother nor maiden but something greater: a collective entity, cherished and idealized. Accompanying his father on royal duties, he observed how the Sultan spoke with reverence to ministers and officials, urging them to serve the nation. Standing respectfully behind his father’s chair in the Shura Council, he listened as the Sultan opened every speech with the phrase: “My beloved nation.”

The phrase resonated deeply with the prince. It seemed to him that the bond between his father and the nation was profound and enduring, a unity so complete that they almost became one. The words of the poet came to his mind:

I am the one I love, and the one I love is me;

We are two souls that have settled in one body.

The young prince felt this unity as he observed his father. It was as if the Sultan and the nation shared a single spirit, a common will, and a unified purpose, mirroring another verse:

His soul is my soul, and my soul is his;

If he wills, I will, and if I will, he wills.

One day, while attending lessons at the Amiri School, the young prince resolved to better understand this concept of “nation.” Breaking his usual preference for silent reflection, he raised his hand when the teacher asked if there were any questions.

The teacher, a venerable sheikh with a sharp mind and a kind demeanor, welcomed the rare inquiry with enthusiasm. “Go ahead, my beloved prince,” he said, smiling warmly.

The prince’s question was simple but profound: “What is a nation?”

The sheikh paused thoughtfully, adjusted his turban, and began. “A nation, my beloved prince, is, linguistically, a group of people. As Allah Almighty says in Surah Al-Imran:

Let there be among you a nation that calls for good, commands what is right, and forbids evil. Those are the successful.[4]

Or in Surah Al-Qasas:

When he arrived at the water of Madyan, he found there a nation watering their flocks[5]…

In this sense, ‘nation’ refers to a community of people. However, in its technical and political sense, a nation is a group bound by shared ties—whether physical, cultural, or spiritual—living within a defined geographical area.”

The sheikh elaborated, explaining that nations are united by bonds such as language, religion, shared history, and common goals. He described how the strength of a nation lies in its unity, its solidarity, and the collective will of its people to work toward a better future. “A bundle of sticks resists breaking, but scattered, they shatter easily,” he said, reciting the old adage melodiously.

The young prince thanked the sheikh with genuine appreciation. That day, he gained a deeper understanding of the nation as an abstract yet profound concept—a collective of shared identity, purpose, and hope.

Years later, standing at the cusp of manhood, the prince found his thoughts returning to that lesson. What bound him to the shepherdess seemed to encompass all the bonds the sheikh had described: shared purpose, love of the land, and a longing for unity. Yet it also carried something else the sheikh had not spoken of—an overwhelming yearning to see her, to hear her voice, and to confess his love.

The prince marveled at the strength of this emotion, which blurred the lines between his love for the nation and his love for her. Was it her honesty, her courage, her loyalty, or her ambition that made her feel like the embodiment of everything noble and pure in the nation? Or was his heart simply incapable of separating one love from the other?

Love, after all, defies reason. It follows no logic, submits to no rules. What he felt for the shepherdess was as vast and as uncontainable as his devotion to his nation. In her, he saw not only the essence of the land but also the hope and future it promised.

And so, the prince accepted the mystery of his emotions. The mind might wrestle with the heart, but it could never prevail.

The Prince’s Book

After three long days of anticipation, the beloved prince finally managed to slip away from the palace unnoticed, disguising himself to avoid the watchful eyes of the guards. He hurried toward the village, his heart racing with the excitement of seeing her again.

At the agreed-upon spot, he found the shepherdess sitting cross-legged beneath the shade of an ancient oak tree. She leaned her back against the sturdy trunk, completely absorbed in a book. Her serene posture, framed by the sunlight filtering through the leaves, made her look like a living painting. When she noticed his approach, she looked up, her expression a mixture of astonishment and concealed relief.

"You’ve returned again," she said, attempting to sound nonchalant. "Don’t you have work to keep you busy?"

The prince smiled warmly, his charm and radiance unmistakable even in his simple disguise. His voice was gentle as he replied, "Good morning, my dear. I’ve brought you something—a book that might help you learn to read faster. It would bring me great joy if you accepted it as a gift."

Her eyes widened in surprise, not just at his words but at the refined, eloquent tone in which they were delivered—so different from the rough speech of the villagers.

From the leather satchel slung over his shoulder, he produced a beautifully bound book. The shepherdess hesitated for a moment before taking it from his outstretched hands. When she opened it, her face lit up with a smile so bright it rivaled the sun, her beauty magnified in that moment. The prince's heart leaped with joy at the sight.

The book was adorned with vivid illustrations accompanying the text, each picture telling part of the story. It was a tale of Sinbad’s maritime adventures—his journey to a remote island filled with wonders and challenges.

"Thank you," she said softly, her voice filled with genuine gratitude.

The prince inclined his head modestly. "It’s my pleasure."

The shepherdess marveled at the man before her, who seemed so out of place in the humble village. Why would this handsome laborer take it upon himself to provide her with books and help her learn to read? She could not understand his purpose, yet she felt drawn to him, both intrigued and comforted by his presence.

After a moment’s hesitation, the prince asked, "May I know your name?"

"Shams," she replied, her voice almost a whisper. "My name is Shams."

The prince repeated the name softly, savoring its sound. Shams[6]. How fitting, he thought. She radiated warmth and brilliance, far surpassing the moon’s cold and borrowed light. He said aloud, "Pleased to meet you, Shams. My name is Taha."

From that day forward, the prince made it a habit to visit the village pasture every week, always in disguise as a humble construction worker. Shams’s loyal dog, which had initially barked at him with suspicion, now greeted him like an old friend, its tail wagging happily at his approach.

With each visit, the prince brought her a small gift: a bouquet of wildflowers, a box of sweets, a new book, a pen and inkwell, an embroidered handkerchief, a delicate container of kohl to enhance her already striking eyes, a silk shawl, or a finely crafted handbag. The gifts reflected his refined taste, yet he ensured that none appeared too extravagant, for fear of raising suspicion.

His father’s words echoed in his mind: “A gift opens hearts, softens feelings, and strengthens bonds of friendship and affection.”

As their meetings became more frequent, the prince began teaching Shams things she had never imagined—a world beyond the confines of her village. She listened with rapt attention. Her thirst for knowledge was boundless. To him, it seemed as though she were making up for lost time, striving to break free from the limitations imposed by her simple life.

The prince was amazed by her intelligence and her perceptiveness. She absorbed new ideas with ease, her sharp mind grasping even the most abstract concepts. With each passing day, their bond deepened, and their affection for one another grew stronger.

Yet, for all her feelings, Shams could not bring herself to confess her love. Her shy nature and the unspoken boundaries of their worlds held her back. But her luminous eyes betrayed her emotions, speaking the words her lips could not.

And though the prince was bound by secrets of his own, he found in her company a rare and precious solace. In her presence, he was not a prince burdened by the weight of a kingdom but simply Taha—a man discovering love for the first time.

The Beloved Falls Ill

One day, upon returning from the village, the prince was summoned by the Exalted Sultan. The Sultan ordered him to travel immediately to a neighboring country to negotiate over a recent border dispute that had nearly brought the two nations to the brink of war. The Sultan often entrusted his heir with such “field missions,” accompanied by advisors, to provide him with experience and deepen his understanding of politics.

This time, the Sultan shared some wisdom with his son, saying:

Wisdom demands resolving problems through diplomacy and goodwill—replacing hatred with love, and enmity with friendship. War should be avoided, for it takes innocent lives, leaves women widowed, destroys crops, dries up milk, and harms both people and the land. It often creates more complex problems than those it seeks to solve.”

Then, he recited the verse from the Quran:

Not equal are the good and the evil deeds. Repel evil with that which is fairer, and then he between whom and you there is enmity shall be as if he were a loyal friend.[7]

The Sultan added, “Do not forget that the duty of good neighborliness extends not only to adjacent houses but also to neighboring nations. Our Prophet (peace be upon him) instructed us to honor even the seventh neighbor.”

With that, he handed his son a letter of goodwill for the neighboring Sultan, along with gifts. He instructed him to stay as a guest for a while to strengthen ties of friendship with the Sultan, his family, and the dignitaries of his land.

The prince's mission lasted an entire month. In those days, modern means of communication such as telephones, fax machines, or emails did not exist. Thus, it was impossible for the prince to inform Shams of his absence, and she received no news of him. He soon began to feel an intense longing to see her, for absence magnifies yearning. Though he tried to remain patient, his longing overwhelmed him, burning his insides, melting his soul, and filling his eyes with unbidden tears.

As soon as he returned from his mission, he slipped out of the palace, evading the guards’ watchful eyes, and rushed to the village. However, at their usual meeting spot, he found neither Shams beneath the oak tree nor near the stream, nor in the fields. His eyes scanned the surrounding valleys and vast green meadows, searching among tree branches, flower stems, and bird wings, but all he found was disappointment. He neither saw her nor glimpsed even one of her sheep. Overcome with worry and haunted by fears and doubts, he entered the village and began asking about Shams.

A young boy informed him that she was bedridden and ill, and directed him to her home. The village had no doctor, as most physicians preferred the comforts and higher earnings of city life, often forgetting that medicine is a noble humanitarian service meant to alleviate suffering, whether in cities or villages. Thus, the prince mounted his horse and rode back to the city. He visited the Sultanate’s chief physician, a trusted confidant who adhered to the ethics of his profession and kept the prince’s secrets. Together, they returned to the village.

He knocked on Shams’ door. Her mother opened it, asking, “Who is it?”

The prince greeted her respectfully and said, “We heard that your daughter is ill. My companion here is a skilled physician who would be delighted to examine her and prescribe treatment or provide the necessary medications he carries in his bag.”

The woman welcomed them warmly, thanking them as she led them to the room where Shams lay. The prince’s heart raced as he stepped across the threshold, his eyes widening with anticipation. She was lying in bed, her face pale, her cheeks sunken, her eyes closed, and her body frail and emaciated. A little girl, no more than three years old, sat on the edge of her bed, gazing at Shams with deep sorrow. When the prince saw Shams in such a state, profound sadness gripped his soul, and his heart broke with grief. “My God,” he thought, “how has this vibrant flower withered? What has befallen her? What ails her?”

The doctor checked her pulse and placed his hand on her forehead to measure her temperature while she slept. Turning to her mother, he said, “This girl has not been eating well for some time.”

Yes,” the mother replied, her voice trembling. “She lost her appetite about a month ago, stopped eating altogether, and all my attempts to get her to eat have failed.”

As the sorrowful mother spoke to the doctor, her voice grew louder, as though defending herself against a silent accusation. The sound of her voice roused Shams, who opened her eyes. Seeing Taha kneeling beside her, she could not believe her eyes. She rubbed them with her fingers, as though chasing away sleep and dreams. When she realized it was real, a radiant smile spread across her lips, one she could not suppress despite her effort.

The prince gazed at her with yearning eyes, silently asking the cause of her illness without uttering a word. Shams looked back at him with weak eyes, heavy with unspoken reproach. Without speaking a single letter, her eyes seemed to say:

Is this how you vanish without farewell after becoming the light of my eyes, the air in my lungs, the water that quenches my thirst? Is this how you retreat from my life, like a gentle wave embracing the shore only to recede? So, this is how you drift away, taking loyalty, kindness, and generosity with you, leaving me only anguish and sorrow? Without you, nothing has flavor; without you, nothing has color; without you, nothing holds meaning. Separation is bitter; its days as long as an eternity. Your absence shattered me, and I began to think you left me out of indifference. I have run out of patience. If patience could be bought, I would have pawned my soul to purchase it. Oh, if only you knew how much I prayed and pleaded with my Lord for your return!”

The prince understood everything her eyes conveyed, as though a poet had described their silent conversation:

I asked her, though no words were spoken,

She replied, her silence unbroken.”

He did not know how to apologize for the pain he had caused her. He remained silent, his head bowed, as though saying:

By God, this parting was never my choice,

The days decreed it with their silent voice.”

He lifted his head and looked into her eyes with a gaze full of regret, weakly saying, “I was traveling.”

At that moment, her mother entered the room, carrying a tray with tea and sweets, which she set before the prince and the doctor. She said, “I made these sweets today, and I hope you will like them.”

The prince responded with utmost politeness, “Thank you, madam.”

Then he pointed with a smile to the girl sitting on the edge of the bed and asked the lady, “And is this little one also your daughter?”

Yes—no, I mean, yes. I took her in, raised her, and love her as my own. She is an orphan who lost her parents and needed the care of a family.”

The prince thought to himself, “Oh my God, the souls of these poor people are filled with noble emotions of love, tenderness, and compassion—emotions that often find no space in the hearts of the rich”. Turning to the little girl, he asked with a smile, “What is your name, little one?”

Shyly, her eyes fluttering, she replied, “Sudah.”

The prince carried her tenderly in his arms, holding her close with affection. In response, she planted a kiss on his cheek, filling his heart with joy.

The doctor took a bottle of medicine from his bag and said to Shams’ mother, “Let your daughter take a spoonful of this medicine three times a day. It will restore her appetite and strengthen her body.”

Little did the doctor know that Shams’ remedy was neither a potion prescribed by a physician nor a charm crafted by a magician. Her cure lay in the presence of her beloved. A single glance from his eyes brought warmth and life to her veins; a smile from his lips restored color and health to her pale cheeks.

When the prince and the doctor left, the doctor turned to the prince and asked, “Your Highness, may I seek your wise counsel on a matter that has divided us doctors?”

What matter is that?” the prince asked.

If a patient suffers from a terminal illness with no hope of recovery, should a doctor tell the patient and their family the truth so they can make arrangements, or should they ease the patient’s burden by sowing hope in their hearts? The doctors are divided, each side presenting compelling arguments. I remain undecided.”

The prince paused and then said, “I recall a saying of the Prophet (peace be upon him): When you visit the sick, give them hope of a long life.”

He then fell silent for a moment, looking pensively into the chief physician’s eyes, and asked, “But does this have anything to do with Shams’ illness?”

No, Your Highness,” the doctor replied hastily. “It is merely an ethical question we face in our profession. Thank you for guiding us on the right path.”

That evening, the prince returned to the palace, burdened with sorrow. Not only had he unwittingly caused Shams’ illness, but he also began to ponder the plight of all the sick villagers who lacked access to proper care. He thought deeply about how to provide medical services in the Sultanate’s villages and countryside. “Our universities must not only train doctors but instill in them a spirit of patriotism and pride in their profession as a noble humanitarian service,” he thought. “Every young doctor should spend at least three years in the countryside. Authorities must build clinics in villages and equip them with necessary medicines and tools. Renowned urban doctors must dedicate a day each week or a week each month to visit rural areas and offer their expertise to those in need”.

That night, after going to bed, the prince had a strange dream. He saw himself as a medical student at a university, wearing a white coat and a stethoscope around his neck. On the first day of the academic year, the dean of the medical school stood in the grand lecture hall, delivering an opening lecture dedicated to the ethics of knowledge and the profession. The dean said:

The finest knowledge is that which serves. And the truest words are those one observes.

Serve the poor and needy with your knowledge. Aid the weak and destitute, for knowledge without action is like a tree without fruit.”

The prince responded in his dream with heartfelt glee: “At your service, O wise dean!”

He then dreamed of riding his horse to the village and entering Shams’ home. He found her lying in bed. He felt her pulse with his fingertips and, for the first time, touched her hand. His palm trembled, and his heart beat wildly, like the wings of a bird caught in the rain. He placed his fingers on her forehead, leaned over, and kissed her radiant brow for the first time. His lips quivered as she whispered, “You are the cure, you are the healing, you are the water, and you are the air.”

Shams rises from her bed, light and graceful, and runs to the vibrant fields. She dances joyously among the blooming flowers, twirling in harmony with the swaying branches, delicate blossoms, fluttering butterflies, and singing birds. Her movements flow to the rhythm of the babbling brook and the gentle whisper of the wind. The prince, captivated, joins her, lost in the enchantment of the moment.

Leaves drift softly from the trees, cascading around them like blessings. Crowns of flowers descend gracefully, accompanied by an abundance of fruits that seem to celebrate their joy. Suddenly, feathers begin to sprout from Shams' arms, transforming them into radiant wings. She becomes a magnificent bird, spreading her right wing to invite the prince to climb aboard. Holding him close to her beating heart, she soars into the sky, carrying him with her.

Together, they glide through celestial realms—racing with falling stars, brushing against shimmering galaxies, and weaving effortlessly past fiery meteors. As they traverse the heavens, moons pass by, pausing to kiss them as if borrowing their light.

At last, Shams gently returns to earth, placing the prince tenderly in his bed. With the first light of dawn and the melodic call to prayer filling the air, he awakens with tears glistening in his eyes. Rising, he performs ablution and offers two rak'ahs of prayer—for God and for love.

The Prince's Letter

The prince awoke at dawn, consumed by anxiety and haunted by doubt. Could the doctor have concealed the true nature of Shams’ illness? Was his ethical question merely a veiled attempt to gauge the prince’s emotions? Could the dream he had last night, vivid and poignant, have been a sign of her impending departure from this world? The thought struck him like a dagger: if Shams were to leave him, what would become of him? How could he endure the loss of the only soul who had awakened such noble emotions in his heart, the one who brought light, color, and meaning to his life?

Longing burned within him, an unquenchable flame that urged him to express the feelings he could no longer contain. With trembling hands, he picked up his pen and began to write:

"Dearest Shams,

When I met you, I found the purity and sweetness I had always sought. You are the embodiment of sincerity and innocence. Your presence fills the world with wonder, joy, and beauty. When you speak, your words envelop my soul in warmth, and tenderness blooms within me. Watching you stride gracefully behind your sheep, I see the boundless path of freedom stretching before me, and my spirit soars among the clouds, carried by dreams. In you, I have found myself, my freedom, and the face of my nation. My soul and yours are inseparable..."

He paused, the words flowing easily yet weighed down by the burden of his secret. Despite his yearning to open his heart completely, he could not bring himself to reveal his true identity. The letter remained incomplete, his truth suspended between ink and silence.

The Soldiers and the Prince

At last, the chance came for the prince to leave the palace in disguise and visit Shams in her village. He found her as he always did, sitting beneath the sprawling oak tree, her sheep grazing nearby. A book about Sinbad’s voyages rested in her lap. She looked up and greeted him with a smile, her eyes alight with joy.

As they conversed, their laughter mingling with the rustle of the breeze, the distant sound of horses’ neighing startled Shams. The jingle of reins, the clink of armor, and the crack of whips echoed closer with every moment. She looked up to see a group of soldiers riding toward them, their foaming horses galloping hard. What puzzled her was Taha’s reaction—he did not turn to look, nor did he seem alarmed.

The soldiers arrived, their horses snorting and pawing the ground as they encircled the pair. Shams’ heart raced in fear for Taha’s safety. Gripping her staff, she stood protectively beside him, ready to defend him with her life. Yet he remained calm, his composure unbroken.

Her confusion deepened as the soldiers dismounted and saluted Taha with precision, their leader stepping forward to address him.

Your Highness, the Sultan, your father, urgently requests your presence,” the soldier said, his voice firm yet deferential.

Shams stared at Taha in disbelief, the words crashing down on her like thunder. “Your Highness”? What could this mean?

The prince’s face remained composed, though shadows of embarrassment and sorrow flickered across his features. The soldiers’ sudden arrival had thwarted his plan to reveal his true identity to Shams. Turning to her with an apologetic smile, he said gently, “I must leave now, but I will return soon to explain everything.”

He mounted his horse with practiced ease, the leader holding the reins. With a signal, he urged the steed forward, galloping away in a rising cloud of dust. The soldiers followed close behind, their movements disciplined and swift.

Shams stood rooted to the spot, her staff falling to her side. She watched until the dust settled and the last figure disappeared on the horizon. Her mind swirled with unanswered questions and emotions she could not name. The image of Taha’s smiling face lingered, a bittersweet memory etched in her heart.

Shams’ Thoughts

Shams was swept up in a storm of thoughts, her young, radiant mind whirling with questions and emotions. So, Taha was the prince—the Sultan's son. Why had he hidden his identity from her? How had he found her, of all the girls in the world, and fallen in love with her? And how had she grown so attached to him? Surely, this bond would only bring her heartache. Was this her destiny?

How could she possibly marry a man like him? They were worlds apart, separated by an unbridgeable chasm of status and circumstance. Her dreams, once so vivid and full of promise, now lay shattered—scattered like the dust stirred by the prince’s departing horse. Here, in the harsh light of day, her dream came to an end. Hope crumbled, collapsing like a fragile sandcastle swept away by the relentless tide of reality. She would remain alone, her days steeped in the bitterness of disappointment, living only with her memories and carrying sorrow as her closest companion.

If only he had been just the man he had pretended to be—Taha, the humble worker. They could have married, living a simple life filled with love and contentment. But had he deceived her? No, she couldn’t believe that. His eyes, his every glance, had spoken of sincerity and unwavering devotion.

Her mind teetered between despair and pride. Her doubts and fears burned like an unquenchable fire, yet beneath the ashes, a flicker of triumph took root. She felt an unexpected surge of pride. How she wished the other shepherdesses, the girls of her village, could know the truth—that Shams had been chosen by the prince himself. She, among all the maidens in the land, had captured his heart. In that moment, she longed for the whole world to know of her place in his affections, a testament to her beauty, her grace, and her singular charm.

Overwhelmed by this mix of emotions, Shams rose to her feet. She spun around as if carried by the rhythm of her thoughts, her movement like a joyous dance. Her voice rang out, clear and exultant, as she declared to the world around her:

"O laurel bushes, O nightingales of the trees, O stars of the sky, O waters of the valleys—did you see how the prince looked at me as he bid me farewell? Did you notice how his eyes, his lips, and every part of his soul declared his love for me, Shams?"

The Prince’s Gift

The prince felt a deep sense of gratitude and obligation toward Shams. Events had taken an unexpected turn—he had never meant to mislead her or take advantage of her trust. When he first disguised himself and met her, it was part of his royal duty to observe the conditions of his people firsthand. Yet, as their affection for one another blossomed, he resolved to disclose his true identity at the right moment.

Now, he felt the need to offer her something meaningful—something that reflected the depth of his feelings and his newly revealed identity. He hoped the gift might ease the pain he had caused, for gifts, as he had learned, could soothe hearts and mend misunderstandings.

Gathering a collection of precious jewels—accumulated over the years as tokens of honor and celebration—he wrapped them carefully into a bundle. Then, once again in disguise, he left the palace and made his way to the village.

Beneath the shade of the great oak tree, Shams sat silently, without a book or her knitting. Her thoughts seemed distant, her gaze weighed down by worry. He greeted her warmly and took a seat beside her, his tone gentle as he explained the reasons behind his disguise. His signature, charming smile remained ever-present as he spoke.

I have brought you something,” he said, his voice soft but eager. “A bundle of jewels for you to choose from as a gift.”

He opened the bundle, spreading its treasures before her. The array was dazzling—a constellation of precious stones and rare metals glimmered in the sunlight. There was the rich glow of yellow gold, so alluring to many, and the luminous luster of pure white pearls, fit for the finest necklaces and bracelets. Silver, pristine and radiant, lay beside fiery red agate and emeralds of the deepest green. Vibrant sapphires in hues of red, yellow, blue, and green sparkled like drops of captured sunlight. Red coral, painstakingly harvested from ocean depths, gleamed alongside beads of warm, golden amber.

Yet Shams showed no sign of awe. Her expression remained calm and composed as she carefully retied the bundle, as though these riches were no more than fleeting trinkets. She did not know that scholars and philosophers defined “substance”[8] as that which exists in and of itself. But she felt, with quiet certainty, that the man she loved was far more precious than any of these treasures. What value did jewels hold without the human soul? For she believed the human spirit to be the most precious jewel of all.

Handing the bundle back to him gently, she said with quiet conviction, “No, thank you.”

The prince blinked, surprised. “Don’t you want anything?” he asked, his tone edged with disbelief.

Shams met his gaze with a sincere smile. “I want your well-being,” she replied simply.

For a moment, the prince bowed his head in thought. “What a rare and extraordinary jewel she is”, he mused. She needed no gems, no precious stones, no ornaments to enhance her. Her golden hair was its own treasure, gleaming like the finest strands of gold. Her perfect, pearl-white teeth shone with natural brilliance. The ruby-red hue of her lips, the emerald-green glimmer in her eyes, and the ivory grace of her long neck surpassed any crafted adornment.

But more than her physical beauty, it was the purity of her soul and the sincerity of her affection that truly defined her worth.

In that moment, a saying his father, the Sultan, had once shared came to mind: “Fire tests pure gold; gold tests the loyalty of a woman; and a woman tests the integrity of a man.”

He looked at Shams with newfound admiration, realizing that her love and character were treasures no earthly jewel could ever match.

The Prince's Dilemma

That night, sleep evaded the prince. His thoughts were consumed by a decision that would shape his future. Not long ago, his father, the Sultan, had spoken to him—not as a ruler to a subject, but as one man to another, or as a friend to a trusted companion.

My son,” the Sultan had said, “you have reached manhood, and it is time for you to marry. Marriage is a noble tradition. It brings peace to the mind, stability to the heart, and ensures the continuation of our lineage. I will not impose a bride upon you; the choice is yours, for I trust your sound judgment. However, I do prefer that you marry the daughter of the neighboring Sultan. Those who accompanied you among the advisors have praised her beauty, her manners, and her intelligence. A union with her would also strengthen the bonds of friendship between our nations.”

In the world of royalty, marriages often served as political tools—alliances forged through unions between neighboring royal families or between rulers and tribal leaders, ensuring peace and loyalty. Yet, the prince felt no pull toward such arrangements. He had made up his mind: he would marry one of the daughters of the people.

No woman occupied his heart or thoughts but Shams. Her presence had awakened a new vision for his life. But he could not ignore the obstacles their love would face. Shams was a child of nature, as free and untamed as the breeze or the birds that soared through the skies. She had lived her life in the wide-open embrace of the fields, under the vast canopy of the heavens. Could she ever adapt to the confines of the palace?

He imagined her life within the royal walls. She would be like a rose severed from its stem—plucked from her natural environment and placed in a vase for display, destined to wither. Her days would no longer be her own. The solitude of the palace chambers would weigh heavily on her, and the constant presence of maids and attendants would encircle her like an inescapable chain. Her freedom to wander the fields would be replaced by the measured steps of a royal procession, and guards would shadow her every move.

The prince’s thoughts turned to a question that had haunted him since his youth:

How can a person desire freedom for themselves while denying it to others? Is it possible to restrain the freedom of those you love?

He remembered the bird he had freed as a child. He had released it from its cage because he loved it enough to grant it the sky. Could he now do to Shams what he had refused to do to that bird? Could he love her sincerely while confining her to a life of constraint?

He yearned for a relationship with Shams that honored mutual freedom, not restriction. Just as the loyalty of his people should arise from their free will and not from coercion, so too should love grow from choice, not compulsion. He envisioned Shams as a constant light in his life, not a possession to be controlled. She should be as untethered as the sun, which sets each day only to rise again, freely bestowing its warmth and light upon the earth.

He longed for Shams’ love to resemble his mother’s affection for him—the tender devotion of a free spirit, not the forced submission of the enslaved. To love her was to let her remain unbound, vibrant, and radiant, just as she was when they first met.

The Three Choices

The prince wrestled with the weight of his dilemma, his thoughts caught in a relentless cycle. At times, he heeded the voice of his heart; at others, the voice of reason; and still, at others, the voice of conscience. Within him, a fierce conflict raged—duty clashed with love, leaving him with only three possible paths:

The first choice was to follow his love for Shams and embrace freedom above all else. This would mean abandoning the palace and his royal duties to live with her in the village. Together, they could bask in the simplicity of love and freedom. Yet, this decision would mean forsaking the responsibilities he had been groomed for his entire life and betraying the trust and expectations of his people.

The second choice was to remain true to his responsibilities and marry Shams, bringing her to live within the palace, bound by royal customs and traditions. However, this would inevitably suffocate her free-spirited nature, transforming her into a shadow of herself—a once vibrant and joyful soul reduced to sorrow within the confines of the palace walls.

The third choice was to sacrifice his love for the sake of his people, leaving Shams to her life and freedom. But this would shatter her heart and condemn her to deep sorrow. It would also mean breaking the sacred bond they shared, betraying promises of love and trust. Such a choice would condemn him as well, leaving him to endure a lifetime of regret, heartbreak, and longing.

No matter which path he considered, the outcome seemed unbearable. Unable to reconcile the irreconcilable, the prince found himself paralyzed. That night, he recalled the words of a poet that resonated deeply with his plight:

There’s no great harm in what I bear;

Time wounds, yet time can also repair.

I stand perplexed, unsure, confined,

Between the clear and the undefined."

In his torment, he resolved to postpone the decision until the morning, clinging to the faint hope that the light of day might dispel the darkness of his dilemma. Perhaps the sun would illuminate a path he had yet to see. Or perhaps, somewhere out in the world, a wise girl or clever young man who had heard or read of his story might offer a resolution—a solution that could mend both his heart and his honor.

*

Questions on the Story’s Themes and Objectives

What is the significance of the annual lecture series at the Sultan’s palace?

How would you define “politics”? What does it mean to you?

Why do you think sorrow lingers on the young prince’s face?

Why do humans dream? How would you explain dreams? Have you read any books about dream interpretation? What distinguishes a dream from a nightmare? How do daydreams differ from dreams during sleep? Is there a clear boundary between dreams and reality? What was your most recent dream?

The narrator describes the prince as “physically fit, charming, and highly cultured,” and believes a person consists of body, spirit, and mind. Do you agree? Or do you think a person is made up of only body and spirit, or body and mind?

What does “authority” mean to you? Why do people either respect or resent authority?

Why do you think the shepherdess chose the flute? What is your favorite musical instrument, and why?

What is a “secret”? Is it better to keep it to yourself or to share it with a trusted friend? Why?

How do you define beauty? Do you think beauty is subjective or objective?

If you were a doctor treating a patient with a terminal illness, would you prefer to tell them the truth or withhold it? Why?

What is the significance of giving a gift? When is the right time to give someone a gift? How would you choose the perfect one?

What are the key reasons behind the prince’s dilemma? How would you resolve his predicament?

***

……………………………

[1] This is a translation of Ali Al-Kasimi’s عصفورة الأمير, literally the Prince’s Sparrow (published by Librairie du Liban Publishers in 2005).  After consultation with the writer, we opted for the present title.

The Prince's Jewel is a captivating and emotionally charged story that showcases Ali Al-Kasimi's vivid imagination, elegant prose, and extensive knowledge, delivering a compelling narrative that delves into profound aspects of our civilization, including humanity, love, beauty, dreams, freedom, justice, tolerance, development, power, and nationhood. Presented in an engaging and accessible manner, The Prince's Jewel appeals to both young readers and adults, making it suitable for leisure reading as well as educational settings. It invites readers, especially the bright youth, to explore deeper perspectives on life, expand their understanding, and experience a memorable literary journey that will leave a lasting impression.

[2] The Princely School

[3] The Arabic words for nation (أمة) and mother (أم) form a minimal pair.

[4] Surah Al-Imran (Quran 003:104)

[5] Surah Al-Qasas (Quran 028:023)

 [6] Shams is the Arabic term for the Sun.

[7] Qur’an 041:034

[8] In Arabic, the terms for jewel (جوهر) and substance (جوهر), in the philosophical sense as opposed to accident or property, are complete homonyms, hence the pun is lost in translation.

 

ترجمة د. بهجت عباس

***

وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غرَبَت

إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي

*

وَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُم

إِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي

*

وَلا ذَكَرتُكَ مَحزوناً وَلا فَرِحاً

إِلّا وَأَنت بِقَلبي بَينَ وِسواسي

*

وَلا هَمَمتُ بِشُربِ الماءِ مِن عَطَشٍ

إِلّا رَأَيتُ خَيالاً مِنكَ في الكَأسِ

*

وَلَو قَدَرتُ عَلى الإِتيانِ جِئتُكُم

سَعياً عَلى الوَجهِ أَو مَشياً عَلى الرَأسِ

*

وَيا فَتى الحَيِّ إِن غَنّيتَ لي طَرَباً

فَغَنّنّي واسِفاً مِن قَلبِكَ القاسي

*

مالي وَلَلناسِ كَم يَلحونَني سَفَهاً

ديني لِنَفسي وَدينُ الناسِ لِلناسِ

***

..........................

يعتبر الحسين بن منصور الحلاج، واحدا من أشهر الصوفيين وأكثرهم إثارة للجدل عبر التاريخ. ولد في البيضاء في فارس عام 244 هـ/ 857م، ثم انتقلت أسرته إلى واسط في العراق، وقتل في بغداد عام 309 هـ/ 922م، على يد رجال الخليفة العباسي المقتدر، على نحو بشع حيث جلد وصلب وقطعت جثته وأحرقت وألقيت رفاته في نهر دجلة.

فيديو

والله ما طلعت شمس - دلال ابو امنة  | Wallah ma talaat |

أو

فريدة مقام نهاوند والله ما طلعت شمس 

.....................

English

Poet: Al-Hallaj (857-922)

Translated from Arabic by Bahjat Abbas

By God, the sun neither rises nor sets,

Without your love coupled in my breath.

*

And I don't sit with people talking

And you are not my speech among them.

*

And I don't mention you in my sadness and joy

Without you in my heart between my whispers.

*

And I never intend to drink water due to thirst,

Without seeing an apparition of you in the chalice.

*

If I were able to come, I would come to you

Crawling on my face or walking on my head.

*

Oh boy of the neighborhood, when you sing for me in ecstasy,

Sing for me tenderly from your cruel heart.

*

What have I to do with people, who senselessly accuse me?

My faith is for me and people's faith is for them.

...............................

Deutsch

Dichter: Al -Halladj (857- 922)

***

Aus dem Arabischen übersetzt von Bahjat Abbas

Bei Gott, die Sonne geht weder auf noch unter

Ohne deine Liebe gekoppelt in meinem Atem

Und ich sitze nicht mit Leuten zusammen, mit denen ich rede

Und Sie sind nicht mein Rede unter ihnen

*

Und ich erwähne Sie nicht in meiner Traurigkeit und Freude

Ohne Sie sind in meinem Herzen zwischen meinem Flüstern

*

Und ich habe nie vor, Wasser wegen Durstes zu trinken,

Ohne eine Erscheinung von Ihnen im Kelch zu sehen.

*

Wenn ich kommen könnte, würde ich zu Ihnen kommen

Auf meinem Gesicht krabbeln oder auf meinen Kopf laufen

Oh Junge der Nachbarschaft, wenn du für mich in Ekstase singst,

Singe mir zärtlich aus deinem grausamen Herzen.

*

Was habe ich mit Leuten zu tun, die mich sinnlos beleidigen,

Mein Glaube ist für mich und ihr Glaube ist für sie.

 

توقف الصبي الإنكليزي الصغير وهو في طريقه إلى الشاطئ في أول أيام إجازته، عند منعطف الدرب، ونظر إلى الخليج الصخري الهائج، ثم إلى الشاطئ المزدحم الذي يعرفه جيدا منذ سنوات خلت.  تقدمته أمه مشيا، حاملة حقيبة مخططة وناصعة بواحدة من يديها. وكانت ذراعها الأخرى التي تتأرجح بحرية، بيضاء ناصعة تحت نور الشمس. راقب الولد تلك الذراع العارية البيضاء، وحرك بصره باتجاه الخليج، وهو مقطب الأسارير، ثم عاد بنظره إلى أمه. وحينما شعرت أنه ليس معها، التفتت وقالت: “آه. ها أنت هناك يا جيري". كانت تبدو قليلة الصبر، ولكنها مبتسمة. أردفت: “لماذا يا عزيزي لا ترافقني؟ هل تفضل..". وعبست بوجهها عمدا وهي تفكر بقلق بالتسالي التي يأمل بها سرا، والتي لا يمكنها تخيلها لانشغالها ولامبالاتها. كان يألف تلك الابتسامة المعتذرة والمتوترة. وأسرع خلفها تلقائيا. وحينما بدأ بالجري نظر من فوق كتفه إلى الخليج المهتاج، وطيلة الصباح وهو يلعب على الشاطئ الآمن كان يفكر بها.

في الصباح التالي، حينما حان أجل السباحة الروتينية وحمام الشمس، قالت أمه:" هل سئمت من الشاطئ العادي يا جيري؟. هل تريد أن نذهب إلى مكان آخر".

قال بسرعة مبتسما لها ومجيبا على البادرة العفوية - وبروح فارس: “آه، لا". ثم وهو يسير على الممشى برفقتها، اعترف بأعلى صوته: “أريد أن أذهب وألقي نظرة على تلك الصخور هناك". فكرت قليلا. كان مكانا هائجا، ولا يوجد أحد هناك، ولكنها قالت: “طبعا يا جيري. بعد أن تستجم تعال إلى الشاطئ الكبير. أو اذهب مباشرة إلى الفيلا، إن كنت ترغب بذلك". وابتعدت عنه، ولاحظ احمرار ذراعها العاري قليلا من شمس الأمس، وهو يتأرجح. وتقريبا أسرع وراءها، لأنه لم يقبل فكرة أن تبقى وحيدة، ولكنه لم يفعل. وكانت تعتقد طبعا أنها كبيرة وبالغة وستكون بمأمن بدوني. هل أقيده كثيرا بجواري؟ لا يجب أن يشعر أنه عليه أن يكون معي. علي أن أحذر.

فهو طفل فقط، بلغ الحادية عشرة من عمره. وهي أرملة. وقررت أن لا تكون متملكة ولا مهملة. وتابعت وهي قلقة إلى الشاطئ.  أما جيري، وما أن اطمأن أن أمه احتلت مكانها على الشاطئ، بدأ بالهبوط على المنحدر باتجاه الخليج. ومن مكانه، في الأعلى بين الصخور البنية المحمرة، انتبه لمشهد أخضر مزرق زاحف يتخلله لون أبيض. وكلما انحدر، شاهد أنه ينتشر  بين صخور صغيرة وفي شقوق بين صخور حادة وخشنة. وكان السطح المترجرج والرقيق يبدي بقعا زرقاء داكنة ووردية. وأخيرا وهو ينزلق ويرتطم على طول آخر بضع ياردات، شاهد حدا أبيض زاحفا وحركة ضحلة وبراقة للماء الذي يغمر الرمل الأبيض، ووراء ذلك، لون أزرق متماسك وثقيل. أسرع جريا إلى الماء وبدأ يسبح. كان سباحا ماهرا. قفز بسرعة فوق الرمل البراق، مرورا بمنطقة متوسطة ترتمي فيها الصخور تحت السطح مثل وحوش باهتة اللون، ثم وجد نفسه في البحر الحقيقي - بحر دافئ حيث صدمت أطرافه تيارات باردة وغير منتظمة من المياه العميقة. وحينما ابتعد جدا وأصبح بإمكانه أن ينظر إلى الخليج الصغير والشقوق التي كانت بينه وبين الشاطئ، صعد على سطح الطوف وبحث عن أمه.  ها هي. خط أصفر تحت مظلة تبدو مثل قطعة من قشور البرتقال. عاد سباحة إلى الشاطئ، وارتاح لأنها هناك، ولكنها وحيدة تماما.

في طرف الرأس الذي يحدد طرف الخليج البعيد ويفصله عن الحيد تجد صخورا مشتتة ومتباعدة. وفوقها، بعض الصبيان ينزعون ثيابهم. أتوا جريا وعراة إلى الصخور. سبح الولد الإنكليزي نحوهم، ولكنه احتفظ بمسافة تبلغ رمية حجر. كانوا من ذلك الساحل، وكلهم احترقوا بلون أسمر خالص ويتكلمون لغة لا يفهمها. وليكون معهم، ومنهم، بذل جهده بكل جسده وبمهارة. سبح مقتربا، التفتوا وراقبوه بعيون سود وضيقة وحذرة. ثم ابتسم له أحدهم مع تلويحة بيده. وهذا يكفي. استغرق دقيقة ليصبح معهم ويكون على الصخور بجانبهم، وهو يبتسم باستسلام وقلق ويأس. حيوه بصياح مبتهج، ولكنه استمر على قلقه، وابتسامته المرتبكة، وأدركوا أنه غريب شرد عن شاطئه، ولذلك أهملوه. ولكنه كان سعيدا. وها هو برفقتهم. عادوا للغطس، مجددا، وألقوا أنفسهم من نقطة عالية إلى حفرة زرقاء من البحر كانت بين صخور جرداء مدببة. بعد الغطس والصعود، سبحوا في المنطقة، ثم استلقوا على البر، بانتظار دورهم بالغطس من جديد. كانوا أولادا كبارا - بنظر جيري هم رجال. غطس، وراقبوه، وبعد أن سبح وأخذ مكانه، أفسحوا له مجالا. وشعر أنه مقبول بينهم فغطس مجددا، وبحذر، فخورا بنفسه. وسريعا ما وقف أكبر الصبية، وألقى نفسه في الماء، ولم يخرج. وقف الآخرون بتأهب، يراقبون ما جرى. انتظر جيري ظهور الشعر البني المسترسل ثم صاح صيحة تحذير، نظروا إليه ببلادة وعادوا للنظر بالماء. بعد فترة طويلة، خرج الصبي من الطرف الآخر للصخرة السوداء الكبيرة، وأطلق سراح أنفاسه من رئتيه بشهقة قوية مع صيحة انتصار. وفورا غطس البقية. في لحظة كان الصباح يبدو مشغولا بالأولاد المشاغبين،  في اللحظة التالية خلا الهواء وسطح الماء منهم. ولكن أمكن رؤية أشكال معتمة وزرقاء وثقيلة تجتمع وتتحرك.  غطس جيري. وتجاوز مدرسة سباحي الغطس، وشاهد جدارا صخريا أسود يلوح له، لمسه، وخرج على السطح فورا، من مكان كان الحاجز فيه منخفضا وترى ما وراءه. لم يشاهد أحدا. تحته في الماء، اختفت أشكال السباحين الباهتة. ثم خرج صبي وتبعه آخر، وذلك من الطرف الآخر للحاجز الصخري، وأدرك أنهم مروا من خلال ثغرة أو فجوة فيه. غاص مجددا. لم يمكنه رؤية شيء في لدغة الماء المالح، سوى الصخرة السوداء. حينما خرج كان الصبية جميعا على صخرة الغطس، باستعداد لمحاولة مثيرة جديدة. صاح مرعوبا من احتمال الفشل وبالإنكليزية: "انظروا لي. انظروا". وبدأ يرش ويركل الماء مثل كلب أحمق. نظروا إلى الأسفل مقطبين بوجوم. كان يعرف التقطيبة. في لحظات الخسارة، حينما يضغط لكسب اهتمام أمه، يكون مهتما بارتباك ووجوم سوف يثمر لديها.   ومع خزيه المتصاعد شعر بالتكشيرة المتوسلة المطبوعة على وجهه مثل ندبة لا يمكن إزالتها، نظر إلى حلقة الأولاد السمر الكبار على الصخرة وصاح: “سادتي مرحبا. شكرا  وداعا. يا سادتي". ثم وضع أصابعه حول أذنيه وحركها فتدفق الماء إلى فمه، شهق وغطس وصعد.  الصخرة التي كانت مثقلة بالصبيان، بدت لاحقا كأنها تراجعت وخرجت من الماء بعد زوال وزن الأولاد. وهؤلاء بدأوا بالطيران من جانبه نحو الأسفل للسقوط في الماء، وامتلأ الهواء بالأجسام التي تهوي. ثم فرغت الصخرة وهي تحت نور الشمس. عد: واحد، اثنان، ثلاثة... وتملكه الرعب عند الخمسين. لا بد أنهم جميعا غرقوا تحته، في كهوف الصخرة المائية. عند العدد مائة أمعن النظر بالتلال الفارغة، متسائلا إن كان عليه طلب النجدة. سارع بالعد، لاستعجالهم، ليعودوا إلى السطح بسرعة، وليهبطوا بسرعة - أي شيء ما عدا رعب العد في الفراغ الأزرق لهذا الصباح. ثم عند الرقم مائة، مائة وستون امتلأ الماء وراء الصخرة بالصبيان الذين ينفخون مثل حيتان بنية. فقد سبحوا عائدين إلى الشاطئ دون أن يمنحوه نظرة واحدة. تسلق صخرة الغطس وجلس عليها، وشعر بالخشونة والحرارة تحت فخذيه. جمع الأولاد ملابسهم وهربوا على طول الشاطئ إلى حيد آخر.  غادروا ليبتعدوا عنه. بكى ويداه على عينيه. لم يكن هناك أحد يراه، وكان يبكي لنفسه. وبدا له أن وقتا طويلا انقضى، فسبح لمكان يرى منه أمه. نعم، هي بمكانها، بقعة صفراء تحت مظلة برتقالية. سبح عائدا إلى الصخرة الكبيرة، وتسلقها، وغطس في البركة الزرقاء بين الجلاميد الساخطة ذات الأنياب. وغاص، حتى لمس جدار الصخرة من جديد. لكن آلم الملح عينيه جدا وأعماه. صعد إلى السطح، وسبح إلى الشاطئ، وعاد إلى الفيلا بانتظار أمه. وسريعا ما جاءت ببطء عبر الممر، وهي تؤرجح حقيبتها المخططة، والذراع العارية والمحمرة تتدلى بجانبها. قال بشيء من التحدي والعناد: “أريد نظارات سباحة".

منحته نظرة استفهام صبورة وهي تقول بلا اهتمام: “حسنا، طبعا، يا عزيزي".

ولكن الآن، الآن، الآن. عليه أن يحصل عليها في هذه الدقيقة. وليس فيما بعد. وبدأ بالإلحاح والشغب حتى رافقته إلى الدكان. وما أن اشترى النظارة، حتى اختطفها من يدها، كأنها توشك أن تحتفظ بها لنفسها، وغادر، وهو يجري على المنحدر فوق الممر الذي يقود إلى الخليج. سبح جيري نحو الحاجز الكبير الصخري، ووضع النظارة، وغطس. ولكن تأثير الصدمة بالماء كسر الجزء المطاطي المجوف، فانفصلت عنه نظارته. وفهم أنه يجب أن يسبح من سطح الماء إلى الأسفل نحو قاع الصخرة. ربط النظارة بإحكام وقوة، وملأ رئتيه بالهواء، وجعل وجهه للأسفل نحو الماء. والآن يمكنه أن يرى. كأنه يمتلك عيونا من نوع آخر- عيون السمكة التي ترى كل شيء واضحا ودقيقا ويتلامح لك في الماء الساطع. تحته، بست أو سبع أقدام، أرض نظيفة تماما، تلمع برمل أبيض، وتشتتها بعزم وإصرار المويجات والمد. وجاء هناك شكلان مخضران، مثل قطع طويلة مستديرة من الخشب أو الألواح. كانت سمكتين. رآهما أنف الواحدة باتجاه الثانية. وكانتا ثابتتين وبلا حراك وتتحركان إلى الأمام، وتناوران، وتعودان مجددا. كأنها رقصة في الماء. وفوقهما بسبع إنشات كان الماء يبرق كأن تطريزات من القصب تتسلل وتتساقط.  سمك أيضا - ملايين الأسماك الدقيقة، بطول ظفر الأصبع - وكانت تسبح في الماء، وخلال دقيقة أمكنه أن يشعر بعدد غير مقدر من لمساتها وهي تصطدم بأطرافه. كأنه يسبح بين رقائق الفضة. والصخرة الكبيرة التي مر منها الصبيان كانت منتصبة أمامه خارجة من الرمل الأبيض - ولكنها مسودة ومشرشرة قليلا بأعشاب مخضرة. ولأنه لم يشاهد فجوة فيها سبح عائدا إلى قاعدتها. ارتفع عدة مرات، وأخذ أنفاسا ملأت صدره، ثم عاد للغطس. وعدة مرات جاهد ليتمسك بسطح الصخرة، وليتحسسها، وتقريبا عانقها بدافع الحاجة الماسة للبحث عن مدخل،  ثم في إحدى المرات، وهو ملتصق بالجدار الأسود، برزت ركبتاه ودفع قدمه إلى الأمام فلم يجد عائقا. وهكذا وجد الفوهة. تمسك بالسطح، وتعثرت يداه بين الحجارة التي تبعثرت على الحاجز الحجري حتى وجد حجرة كبيرة، وبعد أن أصبحت في ذراعه، أرخى نفسه نحو الطرف الآخر من الصخرة. وتساقط واضعا ثقله مباشرة على الأرض الرملية. تمسك بقوة بحجرة المرساة، واستلقى على جنبه ونظر من تحت الرف الأسود نحو المكان الذي دخلته قدماه. فأمكنه أن يرى الحفرة. كان فراغا غير منتظم ومعتم. ولم يرى ماذا في أعماقه. أفلت المرساة، وتمسك بيديه بحواف الحفرة، وحاول أن يدفع نفسه فيها. دخل برأسه، ولكن علق كتفاه، فحركهما جانبيا، وهكذا أصبح في الداخل بمستوى خصره  لم يشاهد شيئا أمامه. ولكن شيئا طريا ومتماسكا لمس فمه، وشاهد سحلية تتحرك على صخرة مخضرة فغمره الرعب. فكر بالأخطبوطات، والأعشاب المتلاصقة. ابتعد إلى الخلف وفي ابتعاده لمح كتلة من الأعشاب غير المؤذية وهي تتدفق في فوهة النفق. ولكنه اكتفى بذلك. بلغ الضوء، وسبح إلى الشاطئ، واستلقى على صخرة الغطس. نظر إلى بئر المياه الزرقاء. كان عليه أن يجد طريقه عبر الكهف، أو الحفرة، أو النفق، وأن يمر من الطرف الآخر. وفكر أنه عليه أولا أن يتحكم بتنفسه. سمح لنفسه أن يهبط إلى الماء وحجرة كبيرة بيديه، ليتمكن من الاستلقاء دون جهد في قاع البحر. وبدأ العد. واحد، اثنان، ثلاثة. عد بإصرار. وأمكنه سماع صوت دمه في صدره. واحد وخمسون، اثنان وخمسون... آلمه صدره. أفلت الصخرة وصعد إلى الهواء الطلق. ولاحظ أن الشمس تغرب. أسرع إلى الفيلا ووجد أمه تتناول عشاءها. قالت له فقط: “هل استمتعت بوقتك؟". فقال لها: “نعم". حلم الولد طيلة الليل بالكهف الصخري المغمور بالماء، وما أن انتهى الإفطار حتى ذهب إلى الخليج.  في تلك الليلة، نزف أنفه كثيرا. فقد استمر تحت الماء لعدة ساعات، يتدرب على التحكم بأنفاسه، والآن يشعر أنه ضعيف ويعاني من الدوار. قالت له أمه: “لو كنت مكانك ما أفرطت بالحركة يا عزيزي".

في ذلك اليوم والذي يليه، تمرن جيري برئتيه، كما لو أن كل شيء، وأن كل حياته، وكل ما سيأتي، يعتمد عليهما. في الليل عاود أنفه النزيف، وأصرت أمه أن يرافقها في اليوم اللاحق. وعذبه أن يهدر يوما من أيام التمرين الذاتي الحريص، ولكنه بقي معها على ذلك الشاطئ، والذي يبدو له مكانا للصغار، مكانا تستلقي أمه فيه آمنة تحت الشمس. ولكنه قطعا ليس شاطئه. لم يطلب الإذن بزيارة شاطئه في اليوم التالي. وذهب قبل أن تفكر أمه بمشكلة الخطأ والصواب المعقدة. واكتشف أن استراحة يوم حسنت قدرته بمقدار عشر أعداد. وشق الصبيان طريقهم وهو عند العدد مائة وستون. كان يعد بسرعة، وبخوف. وإذا حاول ربما يمكنه الآن أن يعبر من النفق الطويل، ولكنه لم يعزم على رأي بعد. وجعله إصرار فضولي وغير طفولي يتحكم باندفاعته وينتظر. وفي نفس الوقت استلقى تحت الماء على الرمل الأبيض الذي يتخلله حجارة أتى بها من الفضاء العلوي، وفكر بمدخل النفق.  كان يعرف كل بقعة وزاوية منه، بمقدار ما سمحت له به رؤيته. وكأنه شعر بأطرافه المدببة وهي تلمس كتفيه. جلس قرب الساعة في الفيلا، حينما كانت أمه غير قريبة منه، وتأكد من التوقيت. كان مندهشا ثم فخورا حين وجد أنه يستطيع إمساك تنفسه دون جهد لدقيقتين. كلمة "دقيقتان" كما تثبت الساعة، قربت منه المغامرة الضرورية. بعد أربع أيام، وفي الصباح قالت له أمه عرضا إنهما عائدان إلى البيت. وقرر أن يفعلها في اليوم السابق للمغادرة، قال لنفسه بثقة تامة: سأفعلها ولو تسببت بقتلي. ولكن قبل يومين من المغادرة - وهو يوم يعتز به لأنه رفع عده مقدار خمس عشرة نقطة - نزف أنفه بغزارة وأصابه الدوار وتوجب عليه أن ينهار على الصخرة الكبيرة مثل كومة أعشاب مائية، وراقب الدم السميك والأحمر يتدفق على الصخرة ويسيل ببطء نحو البحر. أصابه الرعب. افترض أن الدوار غلبه في النفق؟ افترض أنه مات أو علق هناك؟ افترض - أن رأسه دار تحت الشمس الحارة  واستسلم تقريبا. وعزم أن يعود إلى البيت ويستلقي، وربما في الصيف القادم حينما يزيد عمره عاما - سيمر من الثغرة. ولكن حتى بعد أن عقد العزم وقرر، أو اعتقد أنه صمم على قرار ما، وجد نفسه جالسا على الصخرة وينظر إلى الأسفل، نحو الماء، وأدرك أنه الآن، وفي هذه الدقيقة، وحينما امتنع أنفه عن النزيف، وأصبح رأسه محتقنا وينبض - هي اللحظة التي يجب أن يجرب بها.  وإن لم يفعلها الآن، لن يفعلها مطلقا. كان مرعوبا ويرتجف من احتمال أنه لن يذهب، وكان مرعوبا يرتعش أمام النفق الطويل جدا الموجود تحت الصخرة، وتحت البحر.  وحتى في فسحة الشمس المضيئة بدا الحاجز الصخري عريضا جدا وثقيلا جدا، وأطنان من الصخور تسد المكان الذي سيذهب إليه. وإن مات هناك، سيبقى هناك حتى في يوم ما - وربما ليس قبل العام التالي - سيسبح إليه الأولاد الكبار ويكتشفون أنه مسدود. وضع نظارته، وأحكم ربطها، واختبر التجويف المطاطي. كانت يداه ترتعشان. ثم اختار أكبر حجرة يمكنه حملها وانزلق من طرف الصخرة حتى احتوى الماء البارد نصفه وبقي نصفه الآخر في الشمس الحارة. نظر مرة إلى السماء الفارغة، وملأ رئتيه بالهواء مرة، مرتين، ثم غاص بسرعة إلى القاع مع الحجرة. أفلتها وبدأ العد. تمسك بأطراف الثغرة بيديه وتسلل إلى داخلها، وهو يهز كتفيه جانبيا، فقد تذكر ضرورة ذلك، وكان يدفع نفسه إلى الأمام بركلات من قدميه. وسرعان ما أصبح كله في الداخل. كان في فجوة صخرية صغيرة يملؤها ماء مصفر رمادي. دفعه الماء إلى أعلى نحو السقف. وكان السقف حادا فآلم ظهره. جر نفسه إلى الأمام بيديه - بسرعة، ثم أسرع - واستعمل ساقيه مثل عتلات. ارتطم رأسه بشيء، وأصابه ألم حاد بالدوخة. خمسون، واحد وخمسون، اثنان وخمسون.. لم يكن معه ضوء،  وكان الماء يضغط مع وزن الصخرة.  واحد وسبعون، اثنان وسبعون - لم يشعر بالإجهاد في رئتيه. وشعر كأنه بالون يطير، كانت رئتاه خفيفتين وبسيطتين، ولكن كان رأسه ينبض.

تعرض للضغط باستمرار على السقف الحاد، وكان مخاطيا وحادا أيضا. فكر مجددا بالأخطبوط. وتساءل إذا كان في النفق أعشاب يمكن أن تعيقه. ركل ركلة مرعوبة وغريزية نحو الأمام، ومد رأسه، وسبح. تحركت يداه، وقدماه بحرية، كما لو أنه في ماء سائل. لا بد أن الثقب يتسع، وتوقع أنه عليه أن يسبح بسرعة، وخشي من الاصطدام برأسه إذا ضاقت الثغرة.

مائة. مائة وواحد.. شحب الماء. وامتلأ بمشاعر العزة. وبدأت رئتاه تؤلمانه. ضربات إضافية ويكون في الخارج. أسرع بالعد. وصل إلى مائة وخمس عشرة، ثم بعد وقت طويل، مائة وخمس عشرة مجددا. أصبح الماء، جوهرة صافية - اللون الأخضر حوله. ثم شاهد، فوق رأسه، شقا يتخلل كل الصخرة. ومر منه نور الشمس، ليكشف صخرة النفق السوداء النظيفة، وصدفة بلح بحر، ثم عتمات.  وصل لنهاية ما يمكن أن يفعله. نظر إلى الشق كما لو أنه مملوء بالهواء لا الماء، وكأنه يستطيع أن يضع فيه فمه ليستنشق الهواء. مائة وخمس عشرة، سمع نفسه يقول في داخل رأسه - ولكنه ذكر الرقم من فترة طويلة. عليه أن يدخل في غمار العتمة، أو سيغرق. انتفخ رأسه، وأزت رئتاه. مائة وخمس عشرة، تردد الرقم مائة وخمس عشرة في رأسه، وتمسك كيفما اتفق بالصخور في العتمة، وجر نفسه ألى الأمام ليترك الفضاء الضيق المضاء بالماء المشمس وراءه.  وشعر أنه يحتضر. لم يعد بوعيه. وكافح في الظلام بين فترات الإغماء. ألم متورم لا يطاق احتل رأسه، ثم انفجر الألم بضوء أخضر. مد يديه إلى الأمام، ولم يلمس شيئا: أما قدماه فقد ركلتا للخلف، ودفعتاه إلى الخارج ليصبح في البحر اللامحدود. صعد إلى السطح، ورفع وجهه إلى الهواء. كان يشهق كالسمكة.  وشعر أنه قد يغطس ويغرق. ولم يتمكن من السباحة والعودة إلى الصخرة. ثم قبض عليها وجر نفسه إلى الأعلى ووضع وجهه عليها إلى الأسفل، وهو يشهق. ولم يشاهد أي شيء سوى ظلام متكتل يتخلله عروق حمر. فكر: لا بد أن عينيه انفجرتا. وهما محتقنتان بالدم الآن. تخلى عن نظارته فسقطت في البحر جلطة دموية. كان أنفه ينزف، ولوث الدم النظارة.  سكب حفنة ماء من البحر المالح البارد ليغسل وجهه، ولم يعرف هل ذاق الدم أم ماء الملح. بعد فترة، هدأ قلبه، واتضحت عيناه، فجلس. أمكنه رؤية الأولاد المحليين يغطسون ويلهون على مسافة نصف ميل. لم يكن يرغب بهم. ولم يكن يريد شيئا سوى العودة إلى البيت والاستلقاء. بعد قليل سبح جيري إلى الشاطئ وتسلق ببطء درب الفيلا. تداعى على سريره، ونام. واستيقظ على صوت في الخارج يأتي من نهاية الدرب. كانت أمه عائدة. أسرع إلى الحمام، كي لا ترى وجهه المغطى بالدم، أو آثار الدموع. وغادر الحمام وقابلها وهي تأتي إلى الفيلا مبتسمة، وعيناها مشرقتان. سألته وهي تضع يدها على كتفه المسمر لحظة: “هل استمتعت بصباحك؟".

قال: “آه، نعم، شكرا لك".

قالت: “تبدو شاحبا قليلا". ثم بصوت قلق وحاد: “كيف ضربت رأسك؟".

أخبرها: “آه، ارتطمت بشيء فقط".

فحصته عن مقربة  كان مجهدا. وعيناه تلمعان. قلقت عليه. ثم قالت لنفسها: آه، لا تبالغي. لا شيء حدث له. وهو يسبح كالسمك. جلسا لتناول الغداء معا.

قال: “أمي. يمكنني أن أبقى تحت الماء دقيقتين - ثلاث دقائق على الأقل". كان كلامه عفويا.

قالت: “حقا يا عزيزي. حسنا. لا أفضل أن أبالغ بالأمر. ولا أرى أنه عليك أن تسبح اليوم".

كانت جاهزة لمعركة الرغبات، ولكنه استسلم فورا. ولم يعد أي أهمية بنظره للذهاب إلى الخليج.

***

..........................

دوريس ليسنغ Doris Lessing : روائية بريطانية حائزة على جائزة نوبل في الآداب.

 

قصة: ماجيلا بودوين

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

وصلت ناتاليا متأخرة إلى البار لكنها جلبت لنا قصة، وهو ما قوبل بقبول الجميع كعذر مقبول. هذه المرة لم تعتذر أختي عن التأخير الزمني، كانت تعلم أنها تحظى بتسامحنا منذ بضع ساعات. في النهاية، نحن جميعًا من أهل الصحافة، وفي بار الزاوية، لا تشكل الانتظار مشكلة أبدًا. جلست وبدأت في الحديث، وهو أمر نادر، لأنها عادة ما تستمع لما يقوله جابرييل، الذي يشغل كل شيء بحكمته الكبيرة. أحب أن أستمع إليها. لا أدري ما الذي في نبرتها الخفيفة والباردة التي تجعلني أشعر بالنعاس. لكن هذه المرة لم تكن صوتها هادئًا، فقد كانت قد تركت للتو الصحيفة ولا زالت نبضات الطباعة ونصف الليل تتردد في كلماتها. لقد قبضوا على رجل، هرب منهم، وبسبب قلقنا، سألنا إذا كان بريئًا. لكنها أجابت تقريبًا وكأنها تقدم اعتذارًا: "لا أعرف"، قالت ذلك وتشابكت يدها بيد جابرييل.

عرضت ناتاليا البيانات الوحيدة الدقيقة التي كانت تملكها: وفاة ريبيكا، وهي حقيقة صحيح مثل إعلانها كملكة الكرنفال. كانت قد حصلت على صور لكلا الحدثين. ثم تمكنا من إعادة بناء كرنفال رخيص، مع موكب خارج المدينة، ضائع بين الرمال والقمامة، الذي لم تتمكن ريبيكا من أن تكون جزءًا منه لأنها قُتلت قبل أن تتحقق منه. أخبرتنا ناتاليا عن فترة ملكتها القصيرة، ومن حديثها استطعنا أن نتخيل قرية نائية، فقيرة جدًا، كانت تسير، مثل الفتاة نفسها، نحو الزوال المحتم. قبّل غابرييل ناتاليا على رأسها، قبل أن تترك يده وتقول، مع بعض الترقب: "لم يكن أحد ليتوقع المصير الذي كان ينتظر الملكة، خاصة في اليوم الذي تم فيه اختيارها".

في يوم المسابقة، بدت متألقة، وشعرها منسدلاً وناعماً، وضحكتها خفيفة وزهرة قرنفل حمراء مثبتة على حزام الشورت الأحمر الصغير الذي يعانق وركيها المكشوفين. كانت ريبيكا في الرابعة عشرة من عمرها، لكنها لم تكن فتاة صغيرة منذ فترة طويلة. ربما لم تكن لديها طفولة على الإطلاق وولدت مباشرة في مرحلة البلوغ، اعتقدت كما أوضحت ناتاليا، كما أخبرها الخبراء، أن ريبيكا جاءت من ثقافة شهوانية في جوهرها. حاولنا فك ما يعنيه الخبراء بكلمة "شهواني" وترجمناه على النحو التالي: قبيلة أمازونية بدوية، صيادون ونساجون، حيث الفضائل الجسدية هي الفضائل الأساسية. كان لا يزال مجردًا جدًا. صدر أمومي مصحوب بأغنية أنثوية، حيث يتم غرس ملذات الجسد في الفتيات منذ سن مبكرة جدًا. قالت ناتاليا إنه وقت ومكان يتم سردهما شفويًا، حيث لم تكن الشهوة والمتعة خطايا بل شيئًا طبيعيًا وحيويًا. لقد حملنا شرحها إلى الجنة لبضع ثوان ثم إلى الجحيم على الفور، بينما كنا نعيد خلق هذا النظام البيئي نفسه في المدينة، حيث تصبح الحرية نيرًا وتؤدي إلى أقدم مطحنة للحوم على الإطلاق. يمكن للفقر أن يطحن كل شيء: الفتيات الهنود يقدمن أنفسهن مقابل مبالغ زهيدة من النقود، منذ أعمار لا يمكن نطقها، في هوامش المدينة. فسألت: وما هي المبالغ الزهيدة؟ أجابت ناتاليا دون أي شاعريّة: إنها اثنان بيزو.

جعلني صوتها المرهق أفكر في الثلج، وألم بشرتي المتجمدة، واختفاء الجليد عندما تحول إلى ماء. في لاباز. على عكس ريبيكا، تركت طفولتي في سن متأخرة، عندما ذهبت للدراسة مع أختي في لاباز. صحيح أنني لم أكن طفلة بالضبط؛ كانت مراهقتي، في الواقع، مراهقة طفولية في بلدة صغيرة عانيت منها مثل المرض. سبعة عشر عامًا متأخرة بعض الشيء بالنسبة لفتاة المدينة ولكن ليس لطفلة ريفية، مُدللة جدًا، ومتسرعة جدًا للانطلاق.

لا أستطيع أن أقول إنني أفرد جناحي مثل الكتاكيت عندما تكون جاهزة للطيران. لن تكون رحلتي مفضلة للرياح، أو ارتفاعًا سهلاً. الحذر هو الشيء الوحيد الذي لم يكن لدي أبدًا، وخاصة ليس في تلك الأيام، عندما كان أي احتياط سيكون إهانة لحريتي اللامعة. ستكون رحلتي شرسة ومتهورة، مباشرة إلى الأسفل؛ قفزة عنيفة نحو المجهول، انزلقت على ارتفاع منخفض فوق المدينة بأكملها وعبر كل شيء مباشرة، كنت أموت ليس فقط من أجل الرؤية ولكن من أجل المحاولة. نعم، أنا لا أدين بشياطيني لأحد. وعلى الرغم من أن ناتاليا تلوم نفسها أحيانًا على إحضاري إلى هذا المكان، فإن الحقيقة هي أن القرار كان لي وحدي. الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أتهمها به، عندما تمنيت أن أموت، هو إنقاذي، انتزاع الثلج من سقف السيارة ووضعه على خدي لمنعي من الإغماء. الثلج وصوتها يضعفان: ما الخطأ يا عزيزتي؟ ماذا فعلوا بك؟ ماذا سأقول لأبي وأمي؟ وأنا: لا شيء، لن تخبريهم بأي شيء. أقسمي لي.

تابعت ناتاليا قائلة: "كانت ريبيكا قد ركبت مع سائق سيارة أجرة وعدها بجولة. كل هذا سمعناه من فم فتاة أخرى، تُدعى أنجيليكا، وهي الشاهدة على اللحظة الأخيرة التي رُصدت فيها ريبيكا وهي على قيد الحياة. كانت الفتاتان قد رغبتا في الركوب في السيارة، لكن أنجيليكا لم تتمكن من ذلك، لأن بطنها كانت بارزة وكأنها في مراحل متقدمة من الحمل، فرفض السائق أن يأخذها. "هل هي حامل؟" سأل أحدهم، لا أذكر من كان، وكأنها كانت صدمة بالنسبة لهم. نظرت بعيدًا بشكل غريزي. وأكدت ناتاليا: "نعم، السائق رفض أن يأخذها، رغم أنه كان قد وافق على أخذها قبل أيام. كان من زوار منطقة بامبا. سألنا: " "كيف كان يبدو؟" أجابت ناتاليا: "سمين ، في الحقيقة كان مترهل البطن أكثر من كونه سمينًا. كان كبيرًا في السن، ضخمًا." كانت أنجيليكا قد وصفت بدقة: "كان يبدو مثل الجد، وأبيض مثل لون التاكسي. كان لطيفًا جدًا." كان يَدفع أكثر من عملتين، على الأغلب، لأن الفتاتين تشاجرتا قليلًا حول من ستذهب، وكان دائمًا يعيدهن مع آيس كريم. لكن في تلك الظهيرة أو المساء، كان الوقت حوالي السابعة وكان الضوء لا يزال موجودًا، اختار "الملكة" لأنها كانت الأجمل. ريبيكا لم تكن أجمل فقط، بل كما قال المصور الذي كان مع ناتاليا، كانت كاللبّ الأحمر العصيري لبطيخة كبيرة. في حرارة أربعين درجة، كما أضاف جابرييل."

كان جابرييل يتجنبني كما يفعل المرء عندما يغير الرصيف لتفادي تحية شخص يراه، لكنه لا يرغب في لقائه. كان يراقب حركات يدي من طرف عينه، ويعلق على كلماتي بصمت لا يلاحظه سوى ناتاليا وأنا. منذ كنت طفلة صغيرة، كان يرى فيّ كائنًا مدللًا، طفلة مشاغبة تثير في نفسه مزيجًا من الإزعاج والحنان. أظن أنني كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري حين بدأ جابرييل يزورنا لاصطحاب ناتاليا. لم يكونا قد أصبحا زوجين بعد، لكن وجودهما معًا كان طبيعيًا كما هو الآن. كان جابرييل يأتي في فترة بعد الظهر، يقذف النكات التي تشبعها سُموم روح دعابته. كانت ناتاليا توبخني خفية: "توقفي عن التنقيب في أنفك، أيتها القذرة!" لكنني لم أستطع أن أقاوم، وأدخلت إصبعي في أنفي حتى أقصى مدى. كان هواها المفضل هو الإمساك بي، وكان هواي أن أستمتع بتلك العادة المحرمة والمخجلة. لم يكن جابرييل ليدرك ذلك، لأن ناتاليا لم تكن لتفضحني أبدًا، لكنني لم أكن أعرف ذلك حينها. كنت أجهل الكثير من الأشياء، ومنها تأثير الكلمات. جاء جابرييل في وقت القيلولة بينما كنت ألعب جالسة على أرض الشرفة، غارقة في عالم من خيالاتي. قال لي: "أيتها المشاغبة"، وعندما رأيت عينيه مركّزتين على أطراف أصابعي، انفجرت في البكاء. لم يستطع جابرييل أن يفهم، وأختي، التي كانت تنحني من الضحك، قالت: "إنها مجرد كلمة محبة، يا غبية، ليست بسبب التنقيب في أنفك."

سأل أحدهم مرة أخرى عن ريبيكا وأراد إجراء تحليل نفسي. في هذا، سمحت لنا ناتاليا بأن نطلق أفكارنا. كيف نصف دون أن نسطح الأمور باستخدام صفة مبتذلة؟ قلنا: "كانت مرحة ومبتهجة، ولم يكن من الممكن تتويجها بطريقة أخرى." لكننا اتفقنا على أن الفرح يمكن أن يتخذ أشكالًا مختلفة. يمكن أن يكون هناك نوع من الفرح الجسدي، الذي يتجسد في مزاج كهربائي وأحيانًا عدواني، لكن هذا النوع من الفرح يستهلكه جهد الحياة؛ أو فرح أكثر عقلانية، يُلقح بشكل روتيني، وهو أكثر حسمًا من القدر، والذي نطلق عليه بشكل غير دقيق التفاؤل. اتفقنا على أن فرح ريبيكا كان لا بد أن يكون قليل التسامح، بمعنى أنه كان موجودًا رغم كل شيء، وكل شيء في حياتها كان بالفعل فزعًا؛ في هذه الحالة، كنا نتحدث عن فرح غير مستقر، وإذاً من يدري، قد يكون الجانب المنفتح في شخصية ريبيكا مجرد قناع، وسيلة دفاع. بدا أنه من الأنسب لشخص في سنها أن يكون له مزاج خجول، مرح، حساس تجاه المفاجآت. بالنسبة لها، كان المفاجئ قد يكون أي شيء تقريبًا، حتى أصغر الأمور: فستان جديد، طاولة مزينة بمفرش، ماء دافئ، الذهاب إلى المدرسة، أو تلقي هدية دون أن تضطر إلى دفع ثمنها. سكتنا.

قالت ناتاليا إن لا أحد افتقد ريبيكا حتى عثر عليها البوليس في شجيرة بجانب الطريق. لم يلاحظ أحد اختفاءها لأن ريبيكا كانت مثل القطة، حسبما قالت جدتها، كانت دائمًا تذهب وتعود. "ريبيكا كانت تحب السفر"، قالت أنجيليكا. كانت تحب أن تضيع. من لا يحب أن يضيع بين الحين والآخر؟ فكرتُ وأنا ألتوي من شدة البرد بسبب التكييف. ولهذا كان لديها علب لاصق هيركوليس في حقيبتها، وقد أخذتها بعيدًا. لم تعد ريبيكا تبدو كملكة عندما تعرف عليها في المشرحة، الآن بلا شورتاتها الصغيرة أو الزهرة الحمراء، بلا شعرها الأملس الذي أصبح في تلك اللحظة عبارة عن عقدة. كانت مغطاة بكيس من الخيش الذي لا بد أنه كان يحتوي في وقت ما على بطاطس. كانت جدتها قد مرّت يديها بشكل طقوسي على جسد ريبيكا دون أن تبكي عليها. من المؤكد أنها كانت تعتقد أن الموت لا يحتاج إلى تفسيرات، ولا يهم أن النقيب بذل جهده ليعلن عن الاختناق والشنق، طالما أنه لم يكن بالإمكان ادعاء الاغتصاب. أخبرت أنجيليكا ناتاليا أن جلد جسد صديقتها كان لزجًا بالغراء، نفس النوع الموجود في العلب ولكن بكميات كبيرة، وبسبب ذلك بالكاد استطاعوا تمييز وشومها: قلب، وزغة، ونجمة. الجسد حزين، همستُ. قصيدة مالارميه صحيحة جدًا.

كان جابرييل يأمل أن تلتقط ناتاليا إشارته لتغيير الموضوع عندما أخذت القصة هذا المنعطف المثير، لكن صمتنا المطلق شجعها على الاستمرار. قال باعتذار: "الصحافة قد تكون مرضًا مناعيًا." وأضافت ناتاليا بسخرية: "أحيانًا يكون من السهل أن تحصّن نفسك، لكن في أحيان أخرى... أحيان أخرى تكون فقط مصابًا."

لم تستطع ناتاليا إلا أن تتجادل مع جابرييل، رغم أن انتصاراتها كانت صغيرة: الحصول على الكلمة الأخيرة في محادثة، إنهاء النقاش بعبارة ذكية، أو ببساطة كونها أكثر جاذبية وسحرًا منه بشكل عام. فجأة لاحظت أنها كانت مرهقة جدًا. لم تنم جيدًا مؤخرًا، وجابرييل، نتيجة لذلك، لم ينم هو الآخر.

في أرقها المستمر، حاولت إعادة بناء جريمة قتل ريبيكا في ذهنها، لكنها لم تتمكن من ذلك. أما هو، الذي كان يرافقها في البداية، فقد طلب منها في النهاية أن تتوقف. قال ضاحكًا: "نامي، نامي يا امرأة." ضحكنا جميعًا، بما في ذلك ناتاليا، التي كانت قد بدأت تشعر بالبرد هي الأخرى.

كانا يفتحان زجاجتي بيرة إضافيتين، فاغتنمت الفرصة للهروب إلى الحمام. جلست على المرحاض، أشعر ببعض الراحة في المناخ الدافئ والخانق للحمام، ذلك المكان الذي لم يصل إليه شتاء البار الاصطناعي. وحدها سلالة مثل سلالتنا كانت قادرة على هذا النوع من الفضول العلمي، وربما المرضي، الذي يجعلنا نتحدث عن اغتصاب أو موت دون أن نفقد شهيتنا.

رششت الماء على وجهي وقرصت وجنتي أمام المرآة. كانت ناتاليا قوية عندما يتعلق الأمر بتلك النوعية من القصص، وإذا كان هناك من يعرف ذلك، فهي أنا. كانت هناك، تحملني على ظهرها، تكاد تجرني إلى موقف الحافلات—لأنه لم يكن لدينا مال—ثم تخفض حرارتي بخرق مبللة وهي تتمتم بين الصلوات: "مجانين، مجانين لعينون… الله يحفظك… الله يحفظكِ، يا ماريا…"

عدت إلى الطاولة.

بالنظر إلى ما كانوا يشرحونه عندما جلست، وبحسب الجدول الزمني لتحقيق رسمي، لم يحدث سوى القليل جدًا بين اكتشاف جثة ريبيكا وبين اضطرار الشرطة للقدوم إلى بوابات المجتمع لاعتقال الرجل المُدان. "خمس عشرة ساعة كحد أقصى"، قالت ناتاليا. ولم يكن اختيار الفعل عشوائيًا؛ فقد كانت الشرطة بالفعل "مضطرة" للقدوم لأن المجتمع لم يكن مستعدًا للانتظار حتى تكتمل العمليات "الرسمية" و"التحقيقية". خمس عشرة ساعة فقط، لا أكثر، في بلد قد تستغرق فيه العدالة أجيالًا.

قالت ناتاليا: " لكن بالطبع ، الوقت لا يكون مثاليًا أبدًا للمحكوم عليهم... ولا كان كذلك بالنسبة لي". كان مرور الساعات، كما قال الأطباء، هو ما منح الأحداث مسارها المأساوي. ساعات لم تستطع ناتاليا نسيانها لأنها فقدت إحساسها بالوقت، وكان جابرييل هو من جعلها تغادر الغرفة، ومن استدعى سيارة أجرة وسحبنا معًا إلى المستشفى.

أنا، شاحبة، ضائعة، متصلبة؛ وأختي التي بدا عليها الإنهاك، مرتعشة، وعيناها فارغتان من التعب ورعب الدماء.

عند الساعة الثالثة صباحًا، كنا الوحيدين المتبقين في البار. تحدث المصور وكأنه يروي خاتمة القصة: "نحن معتادون على هذا النوع من الأمور"، قال، "ليس الوقت هو ما يجب أن يثير الدهشة، بل الطريقة التي اكتشفت بها النساء القاتل المفترض." لكن أحدًا لم يُبدِ اهتمامًا.

أخبرت بعض الشاهدات—وهن نساء فضلن عدم الكشف عن هويتهن—ناتاليا أنهن كنّ جالسات على حافة الرصيف المهترئ عندما لمحْن فتى عند حدود منطقتهم. كان قد استحم للتو، يرتدي قميصًا مدسوسًا في سرواله، ويحمل لوح تقطيع بيديه. لم ينطق أي منهن بكلمة؛ فقط اعتمدن على حدسهن وتبادلن النظرات بطرف أعينهن كما تفعل العصافير.

حتى أن الفتى ابتسم لهن قبل أن يسأل عن ريبيكا. حينها، أجابت النساء بصوت واحد، في صخب عنيف تحوّل سريعًا إلى قطيع من الذئاب، ثم انضم إليهن الرجال الثملون، مخمورون بالكحول، باحثين عن فرصة لإشباع غضبهم بضرب أحدهم.

اختصرت ناتاليا القصة بكلمات مكثفة: "علقوه من عمود إنارة، وأضاء عليه الضوء الأصفر وكأنه كشاف مسرحي." أما المشهد التالي فكان مسرحية حقيقية: رجال ونساء وأطفال أحاطوا بالجسد المصلوب، يفرغون غضبهم تمامًا كما يفعلون في الكرنفالات، ولكن بدلًا من الرقص، انهالوا عليه بالحجارة والعصي والأحزمة، باسم الملكة الراحلة.

أخبرنا جابرييل أن الشرطة حينما ألقوا القبض على الفتى كان نصف ميت بالفعل، رأسه وجسده مهشمين، وملابسه ممزقة. أضافت ناتاليا تفصيلًا عاطفيًا: "أنجيليكا لا تزال تحتفظ بلوح التقطيع الخشبي الذي أحضره هدية لريبيكا، لمطبخ جدتها." كان نجارًا، أوضحت، يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا وطوله 1.7 متر. في إفادته، اعترف بأنه دفع مقابل ريبيكا مرتين من قبل.

عندما كانا معًا، بدا جابرييل وناتاليا كزوجين من مقدمي البرامج التلفزيونية. كان ارتباطهما مثاليًا. لم يكن عبثًا أنهما أنجبا ثلاثة أطفال إلى هذا العالم. ثلاثة، في غياب واحد. وخلال كل حمل، كانت شقيقتي بعينيها المذنبتين تنظر إلي وكأنها تحاول تجنب إيذائي، رغم أنني كنت أحرص على طمأنتها بأني سعيدة لأجلها، وبأني لا أشعر بالضيق.

" هناك ساعة تدق في قلب الجريدة،" قالت ناتاليا. قالت ذلك وهي تبدو منهكة، بينما كان وقت الإغلاق يطغى عليها، في تلك الليلة التي كتبت فيها عن قاتل دون أن تصدق الأمر حقًا. "قد يكون مجرد فتى مر بجانب المكان،" أخبرت محررها، "لكنني لا أعلم،" اعترفت لنا. كان في وجهها غيمة من الندم، على الرغم من نبرة استسلام حاولت أن تضفيها على كلماتها.

كانت تمتلك كل التصاريح اللازمة: إسحاق شينجانو، ساؤول روساليس، روكي باندو، خوان بوستوس، خوانا نومين، المدعي العام، المحقق، الزعيم المحلي، الجدة. جميع من استشارتهم أكدوا أن القضية قد أغلقت، وأن المجتمع قد أصدر حكمه؛ العدالة أخذت مجراها لأنهم قبضوا على المذنب.

سأل جابرييل: كيف لهم ألا يرحبوا بشخص يستطيع تهدئة الأمور؟ شخص يطمئنهم ويمنحهم القدرة على الاستمرار في حياتهم؟"

شخص ينقذك، فكرت، بالطريقة التي أنقذتني بها ناتاليا دائمًا؛ بالطريقة التي أرادت أن تنقذني بها الآن، وهي تحاول إقناعه بأن يسمح لها أن تكون رحمي.

أخيرًا أطفأوا جهاز التكييف، وحين فعلوا ذلك، خيم الصمت على الغرفة وكأنه يحمل صدى. شعرت وكأن شعاعًا من الضوء قد سلط على غرفة غارقة في الظلال. ثم سأل جابرييل: "لكن كيف عرفوا أنه هو؟ ما السبب الذي قدموه؟" فأجابت ناتاليا بابتسامة مريرة: "عرفوا لأنهم ربطوا شريطًا أحمر حول قدم ريبيكا اليسرى حتى تقودهم إلى القاتل. وكان الفتى أول من ظهر يسأل عنها."

سألت ، معاتبة بشكل غير عادل: "وماذا فعلت أنتِ إذًا؟" كما لو أن أختي كان يجب عليها أن تحل كل شيء. فأجابت ناتاليا معتذرة: "كتبتُ، أفضل ما يمكنني."

(تمت)

***

............................

الكاتبة: ماجيلا بودوين /  Magela Baudoin صحفية وكاتبة ومعلمة بوليفية. وُلدت في بوليفيا عام 1973. على مدار مسيرتها الصحفية التي استمرت 20 عامًا، نشرت مقالات وتقارير ومقابلات وعمود صحفي في العديد من الصحف والمجلات البوليفية، مثل لا رازّون ولا برينسا ونويفا كرونيكا. حصلت على درجة الماجستير في التواصل الصحفي والمؤسساتي والتجاري، وتخصصت في التواصل المؤسسي. وهي مديرة وكالة التواصل رودريغيز وبودوين. كانت بودوين مؤسسة ومنسقة لبرنامج الكتابة الإبداعية في الجامعة الخاصة في سانتا كروز. جمع كتابها الأول، الذي نُشر في عام 2010، مقابلات مع نساء بوليفيات مثيرات للجدل، حيث تمزج بودوين بين الموارد الصحفية والأدبية. في عام 2014، حصلت على جائزة ألفاجوارا الوطنية للرواية في دورتها السادسة عشرة، وفي عام 2015 حصلت على جائزة غابرييل غارثيا ماركيز للقصة القصيرة في أمريكا اللاتينية.

قصة: كارينا ساينز بورجو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

توجهنَّ إلى كوكوتا عند الظهر. كانت جميعهن جائعات، باستثناء الجدة، التي استلقت على المقعد وعينيها مثبتتين على سقف الشاحنة. عندما بدأت الرحلة، توقفت هيرمينيا العجوز عن الأكل خوفًا من أن تتركها ابنتها وحفيدتها في أحد مسالك الحدود. كانت قد حولت الجوع إلى وسيلة للبقاء آمنة.

في البداية، كن يعبرن مرة واحدة في الشهر. أما الآن، فكن يعبرن كل أسبوع. كن يغادرن قبل أن يسطع الفجر، ويعودن في وقت متأخر من الليل، أحيانًا مع ثلاث حبات طماطم صغيرة أو علبة مكرونة تكفيهن ليومين فقط. كن يغليها في ماء مملح ويأكلنها في الفطور والغداء والعشاء. لم يكن يهمهن ما يحصلن عليه، كانت كل رحلة تكسر عظام هيرمينيا.

- قلنا لكِ، أمي: ابقي في البيت، لكنكِ لم تسمعي!

- هممم —أطلقت العجوز تنهيدة، تمضغ مخاوفها كما لو كانت تمضغ "شيمو" (مادة لزجة).

- أنتِ أكثر عنادًا من الحمار —أصرت كوراليا بينما كانت تبحث في قاع حقيبتها.

بعد أن حفرت طويلًا، حصلت ابنتها على حلوى قديمة وعلبة من المناديل الورقية، لا شيء آخر. كانت آخر الليمونيات قد أُكلت قبل الوصول إلى "كاباشو فييخو".

— وماذا تريدين؟ أن أبقى وحدي في هذا البيت؟ — تمتمت هيرمينيا. — في أي لحظة قد لا تعودن وتتركونني.

— أمي، من فضلك لا تقولي أشياء سخيفة.

- كيف نترككِ؟ — اعترضت ميلاجروس، حفيدتها، وهي تهزّ في ذراعيها طفلًا صغيرًا كان ينفجر بالبكاء بشكل غير متوقع حتى كاد يثقب طبلة أذن العائلة بأسرها.

كانت هيرمينيا تتحمل تلك الرحلات بثبات. كانت متهالكة حتى النخاع. كان لديها هالة من العزلة تشبه مرتفعات الأنديز، وسيقانها متقوسة، وشعرها مربوط في تسريحة بسيطة. من كان ليرها قبل بضع سنوات، لما كان قد عرفها. فقدت من وزنها ما جعل وجهها يتحول إلى كرة مفلطحة، النسخة التالفة من تلك التي كانت في يوم من الأيام تمسك بزمام حياتها وحياة من حولها.

لم تكن تشبه المرأة الممتلئة التي كان الأطفال يسمونها «وجه الأريبا» بعد الآن. من كثرة ما كانت تخبز، انتهت هيرمينيا لتصبح مثل تلك الأرغفة المصنوعة من القمح التي كانت تبيعها في دكان صغير أضرم فيه العسكريون النار في إحدى المداهمات الطلابية. لم يتكفل أحد بتعويض الخسائر. ومنذ تلك اللحظة، بدأت السنوات تتراكم على هيرمينيا كما لو كانت انهيارًا ثلجيًا، حتى طمستها تمامًا.

لم تكن امرأة حلوة الطبع، وإذا كانت قد كانت كذلك في يوم من الأيام، فإنها لم تعد تتذكر. كانت تضحك قليلاً وتحافظ على ذلك المظهر الصلب والقاسي الذي تتركه ملابس البرمالين، كما لو كانت ترتدي ستارة بدلاً من ملابس. كان زوجها أنطونيو قد توفي منذ عشرة أعوام. في إحدى الصباحات الباكرة، انزلق شاحنته المحمّلة بالبضائع في منحنى على الطريق عبر الأنديز واصطدمت بصخرة في هاوية. لم تحتفظ هيرمينيا بالحزن على وفاته، على الرغم من أن أي شخص كان يمكن أن يظن أنها ولدت بوجه الأرملة. لم تكن الحياة سهلة على العجوز، لكنها لم تشتكِ. لم تشتكِ والدتها ولا جدتها، فلماذا تشتكي هي؟

قالت لها حفيدتها، بكل براعة:

- جدتي، خذي الطفلة بينما أنا وأمي نحل موضوعًا ما. انتظرينا هنا، فهمتِ؟

- نعم، يا ابنتي، فهمت.

تنهدت هيرمينيا وأخذت الطفلة في ذراعيها. لم يكن يعجبها كثيرًا أن تعتني بالطفلة، لكنها تعلمت أن تستخدمها كضمان للحياة: كان حملها يحميها. كانت مقتنعة أنه بهذا الشكل فقط سيعودون للبحث عنها. سمعت ذلك مرات عديدة. قبل مغادرة البلاد، كانت العائلات تترك كبار السن وراءها. يتركونهم لمصيرهم، مع بطانية وزجاجة ماء أمام أبواب المستشفيات. هكذا يموت الشيوخ على الجانب الآخر من الحدود: ملطخين بالخوف ويسألون متى سيعود أبناؤهم لأخذهم.

نظرت العجوز إلى السماء، داعية أن يضرب صاعق رعدي حديقة سانتاندير، التي كانت في تلك الساعة مليئة بالحمام و«المتسلقين»، كما كانوا يطلقون على الرجال والنساء الذين يعملون في المقايضة أو يأخذون زبائن محتملين من أكتافهم. كان هؤلاء الأشخاص يشتركون مع الحمام في هواء ملوث ومليء بالبراغيث. وكما كانت الحمام تنتزع أعقاب السجائر —لأنه لم يعد هناك خبز لإطعامهم—، كان المتسلقون يتنازعون فيما بينهم بضربات منقطة، يتشاجرون حول الفقراء الذين كانوا مستعدين لتبديل حتى أسنانهم مقابل بعض النقود.

اختفت كوراليا وميلاجروس في الشارع نحو الأسفل. استغرقتهما عشر دقائق للوصول إلى صالون الحلاقة "لوس غيريروس". كان محلاً مهدمًا، مزخرفًا بقصاصات من مجلات الموضة من الثمانينات: شعر منتفخ، وجفون أرجوانية، وسترات مزخرفة ببكتيريا، وفساتين قديمة الطراز. في الخارج، كان هناك مجموعة تقف في صف للدخول. لم تذهبا ليستريحا، بل ذهبتا لبيع شعرهما.

قالت امرأة، عندما حان دورهما أخيرًا:

- نعطيكِ ستين ألف بيزو مقابل شعرك، ولبقية أمكِ قليلاً أقل.

ردت كوراليا:

- لكن عندي أنا أيضًا شعر طويل.

- ليس له نفس اللمعان، ولصناعة شعر المستعار نستخدم شعرًا من الدرجة الأولى.

خفضت كوراليا نظرتها بينما كانت الحلاقة تمسك خصلة من شعرها بين أطراف إصبعيها الإبهام والسبابة.

أصرّت المرأة:

- إنه جاف ويفتقر إلى الفيتامينات. يبدو هشًا.

قالت كوراليا:

- حسنًا، انتهى الأمر هل تريدينه أم لا؟

- إذا قطعناه بالكامل، سيكون عشرين ألف بيزو.

- فقط عشرين ألف؟

- وأنا أعطيكِ سعرًا جيدًا.

قاطعتها ميلاجروس:

- لا تشغلي بالك، ماما.. إذا جمعناها مع ستين ألف بيزو من عندي، سيكون لدينا ثمانين. ليست صفقة سيئة.

- سيئة؟ بل فظيعة، يا ابنتي.

-اسمعي، إذا أردتِ، فكري ورجعي فيما بعد. لا أستطيع أن أنتظرك طوال اليوم حتى تقرري - إذا هي ما تريد، أنا أريد.

تقدمت ميلاجروس حتى لا تضيع الفرصة.

- البسي هذا— مدّت لها المرأة رداءً أسود— وانتظري في تلك الكرسي. سأستدعي الحلاقة.

قالت كوراليا بصوت منخفض:

-هل أنت متأكدة إنكِ تريدين تقصين شعرك، يا حبيبتي؟.

- إنه مجرد شعر، ماما. ولا أحد يشتري في السوق.

نظرت إليها والدتها وكأنها تنتظرها على الطرف الآخر من نفق طويل. جمعت شعرها في ذيل حصان وذهبت للبحث عن المرأة التي قدّرت شعرها بثمن منخفض. عادت بعد لحظات وهي ترتدي رداءً أسود ملوثًا ببقع صبغة وجلست بجانب ابنتها. كان أمامهما اثنا عشر شخصًا آخرين.

لم يكن هذا المكان مجرد صالون حلاقة، بل كان أشبه بثكنة: لا توجد مرايا، ولا مغاسل، وفقط صفوف ضئيلة من الكراسي البلاستيكية حيث كانت النساء تجلسن لقص شعورهن. لم تكن الحلاقات متخصصات، بل كان الهدف الوحيد هو القص. يقتربن من الرأس بمشط، ثم يفردن الخصلات، وأخيرًا تغمس المقص. كانوا يقصون الشعر بأقرب ما يمكن من فروة الرأس كي لا يهدروا أي خصلة.

عندما جاء دورهن أخيرًا، كان الصوت الذي يصدره المقص عند ملامسته للشعر مألوفًا لهما. صوت فرقعة، وخز، وانتزاع. كانت عملية انتزاع الأشياء لبيعها لمن يدفع ثمنها. شعرتا برغبة في البكاء أو الهروب، لكنهما لم تفعلا أيًا من ذلك: انتظرتا.

كانت هيرمينا، العجوز، في حالة من التوتر. كان الوقت يقترب من الساعة السادسة مساءً، والشمس بدأت تختفي خجولة وراء مغيب مدينة حدودية. من شدة البكاء، سقطت الطفلة في النوم. هذا هو تأثير الجوع: عندما يعتاد عليه الشخص، يُخدر أي رغبة. تساءلت هيرمينا في سرها: أين ذهبت تلك الأمور التي كانت تبدو دائمة؟

ظهرت كوراليا وميلاجروس. تعرفت عليهما من ملابسهما. من بعيد، بدتا هزيلتين ومرهقتين، وكأن الشيخوخة قد سبقت أعمارهن، على الرغم من أنهما لم تكونا قد بلغتا ذلك العمر بعد. نزعَت هيرمينا نظاراتها ومسحتها بفستانها لتتمكن من رؤيتهما بوضوح. كانت كوراليا قد فقدت كل شعرها، بينما بقيت لميلاجروس بقايا من شعر ضعيف وهزيل. أكثر من كونهما عادتا من السوق، بدا كأنهما عائدتان من الحرب. كانتا تحملان في يديهما حزمتي معكرونة وضعتهما في حقيبتهما دون أن تنطقَا بكلمة واحدة.

- اجمعي أشيائك يا أمي، فآخر شاحنة إلى روبيو ستغادر بعد خمسة عشر دقيقة.

وصلن إلى المنزل بعد الساعة الثانية عشرة. وضعن ثلاثة أكواب من الماء لتسخن في وعاء كبير، ثم أفرغن فيه ربع كيلو من المعكرونة. بعد أن وضعت الطفلة في السرير، جلست الثلاثة إلى المائدة. لم تأخذ هيرمينا العجوز سوى فنجان صغير من ماء النشا الذي جمعته من المغسلة. كانت ابنتاها يفصلان خيوط المعكرونة باستخدام شوكة. لم يخلطنها، بل كن يسرحنها كما لو كن يمشطن شعرًا موضوعًا في طبق من الصفيح. قالت لها كوراليا:

- اذهبي للنوم، أمي. غدًا في الصباح المبكر سنعود إلى كوكوتا.

إلى ماذا، إذًا؟

لم تكن هيرمينا قد أنهت جملتها عندما شعرت بنظرة ابنتها تنغرز في كعكة الشعر المجعد التي كانت مرتفعة على مؤخرة عنقها.

(انتهت)

***

....................

الكاتبة: كارينا ساينز بورجو/ Karina Sainz Borgo (كراكاس، 1982) كاتبة وصحفية فنزويلية تعيش في إسبانيا منذ عام 2006. نشرت كتبا في مجال الصحافة وروايتين. ومن بين هذه الأخيرة، تُعرف الأولى بالظاهرة التحريرية: ابنة المرأة الإسبانية (لومين، 2019)، والتي نُشرت وترجمت في عدة بلدان. وآخرها هو الجزء الروائي الثاني له بعنوان "البلد الثالث" (لومين، 2021). يعمل في مجال الصحافة الثقافية في Vozpópuli وZenda وOnda cero. كارينا ساينز بورغو هي امرأة من كاراكاس "طردت من بلدها" واستقبلتها مدريد، امرأة كرست نفسها للكتابة والقراءة، إرث يأتيها من والدتها وأختها ومشاعرها البعيدة من أراغون.

 

في نصوص اليوم