ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

بقلم: سالي روني

ترجمة: صالح الرزوق

***

تحدثا في الطريق إلى العيادة السنية عن زيارة عيد الميلاد. كان هذا شهر تشرين الثاني وماريان اقتلعت ضرس العقل، وكونيل يقودها إلى العيادة لأنه صديقها الوحيد الذي يمتلك سيارة، وكذلك الشخص الوحيد الذي تلجأ له في الحالات الطبية المزعجة مثل سن مصاب. وأحيانا يقودها إلى عيادة الطبيب كلما احتاجت لمضاد حيوي ضد عدوى القنوات البولية، وهو حدث متكرر. وحينها كانا في الثالثة والعشرين. توقف كونيل عند زاوية العيادة، فصمتت الإذاعة تلقائيا. كان قد حصل على إجازة صباحية من العمل ليقود ماريان إلى هذا الموعد، ولكنه لم يخبرها بذلك، وبادر بهذا العمل جزئيا وهو تحت الإحساس بالذنب. قبل أسبوع أنبأته ماريان في شقته بالمشكلة، وبعد ذلك اشتكت من وجع في فكها، وأوشك أن يسألها: هل من عادتك التشكي والتذمر؟. ثم تجادلا. وكان كلاهما مخمورا قليلا. تذكرت ماريان الحادث بشكل مختلف. فهي حسب علمها اشتكت لكونيل من الكنبة، ثم صمتت بسبب وجع في فمها. وكان موقفه إيجابيا، ثم مارسا الجنس على مقعد طويل آخر. ولاحقا حينما عاودت الكلام عن فمها، قال كونيل: أنت تشتكين أكثر من الآخرين. وكانا يستلقيان متجاورين على الكنبة. قالت له: هل تقصد بالآخرين صديقاتك الأخريات؟. قال كونيل: لا. وهو يعني الناس، أو أي إنسان آخر. وتابع: أنه لا يعرف أحدا يتذمر أكثر منها.

قالت ماريان: لا تحب الاستماع لشكاوى الناس لأنك عاجز عن التعبير عن تعاطفك.

قال: ولكن أخبرتك أنني متأسف منذ اشتكيت لأول مرة.

قالت: أنت تحب النساء الصابرات لأنك لا تنظر إلى النساء كمخلوقات كاملة.

قال: كل مرة أنتقدك فيها، تحولين الموضوع إلى شيء له علاقة ببغض النساء.

حينها عدلت ماريان من وضعها وجلست، وجمعت شعرها بشكل لفافة، وبحثت عن حباسة لتثبيته، وقالت: أشتبه أنك تعقد علاقات مع أشخاص لا تعرف كيف تحاورهم.

قال: أنت منزعجة وتصبين جام نقمتك علي. ولكنني لست غبيا تماما.

لمست شعرها بيديها لتتأكد أنه مرتب، ثم عادت لتستلقي بجانبه. كانت الكنبة رديئة، وعليها رسوم زهور بنية. قالت: أنت تراني إنسانة راشدة. ولذلك لست منجذبا لي.

- بل منجذب.

- جنسيا وليس عاطفيا.

راقبته وهو ينظر إلى السقف. وكان وجهاهما متقاربين.

قال: أتصور لو أنني متعلق بك عاطفيا لن أتقبل فكرة وجود أصدقاء آخرين لك.

- رغم ذلك في الحقيقة أنت لست مغرما بي.

- أنا لا أحب ذوقك باختيار الأصدقاء. وهذا شيء مختلف.

قالت: هل تعرف ماذا حصل لدانييل. أخبرته أنني أحلم بالزواج، فقال، مني؟. قلت له كلا. من صديقي كونيل. وبقية الجدال لم يكن عنك. ولكن عن أشياء أذكرها عمدا لأزعجه لأنني أستمتع برؤيته وهو مستاء من نفسه.

- آه.

ذهبت ماريان بعد ذلك إلى البيت، متسائلة إن تشكت كثيرا. وفي وقت عودتها إلى شقتها، كان كل رأسها يؤلمها. أخذت زجاجة جين من داخل باب الثلاجة، وصبت القليل في فمها لتجربه. وغرغرت بالكحول البارد حتى غسلت لثتها، فارتفع ألم مبرح في فكها، وترقرقت دموع عينيها. لفظت الجين في مغسلة مطبخها وبدأت تبكي.

في الصباح التالي ذهبت إلى العيادة السنية بمفردها. وفي طريقها فكرت كيف ستخبر طبيب الأسنان عن إحساسها بآلام فكها. وتخيلت نفسها تقول: إنه ليس قويا كل الوقت، ولكنه لا ينفع للجنس الفموي. أخذ الطبيب نظرة سريعة من فمها، ووصف لها مضادات حيوية لعلاج ما وصفه أنه عدوى "بغيضة فعلا". وقال طبيب الأسنان: لا أستغرب أنك تتألمين. فذلك السن مغروس في خدك مثل سكين في الزبدة. وكتب شيئا على ورقة ونظر إليها وأضاف: ما أن تخف العدوى، سأخلصك منه بلا عواقب. وسترتاحين.

وشعرت ماريان بالسعادة العميقة لعلاج ألمها على يد محترفين. والآن لم يبق غيرهما في غرفة الانتظار العلوية. المقاعد بلون النعناع الأخضر الباهت. قلبت ماريان في نسخة من "ناشيونال جيوغرافيك" ولمست سنها بطرف لسانها. نظر كونيل إلى غلاف المجلة، وهي صورة قرد بعينين واسعتين. في تلك الليلة من الأسبوع السابق، اتصلت ماريان به أولا لتخبره أنها انفصلت عن دانيال. كان كونيل في الحمام حينما رن الهاتف فرد باري، شريكه في الشقة. وحينما عاد كونيل، قال باري ببراءة: هيي. ما اسم البنت الغنية التي رافقتها في المدرسة؟ أنت تعرفها. البنت التي رغبت بنكاحها.

رد كونيل وهو يظن أن السؤال بريء: ماريان؟ لماذا؟.

بعد ذلك ألقى باري الهاتف نحوه وقال: أرادت أن تكلمك.

حينما رفع كونيل الهاتف سمع صوت ضحكها.

في غرفة الانتظار كان كونيل يفكر بلورين، صديقته منذ قرابة عشر شهور. فقد انتقلت إلى مانشستر في أيلول ومنذ أسبوعين ضاجعت شخصا آخر وكانت مخمورة. وعندما اعترفت له، لم يخامر أعصابه أية مشاعر، وتساءل إن بقي لديه أي اهتمام بها.

ولعدة أيام، شعر على نحو غامض أنه كئيب ومرهق، ثم نام مع ماريان، التي اتهمته أنه لا ينظر للنساء ك "كائنات كاملات التكوين". ثم أدرك أنه في الحقيقة لا ينظر إلى لورين ك "مخلوقة كاملة الخلقة"، ولكن كشخصية ثانوية في حياته الخاصة. ولهذا السبب، ما تفعله خارج المسرح، لا يعنيه. وبعد أن غادرت ماريان في تلك الليلة، فتح صفحة جديدة في متصفحه وطبع عليها: لماذا أنا متبلد الشعور. في الصباح التالي اتصل بلورين بواسطة السكايبي وأخبرها أنه عليهما أن ينفصلا. وافقته، دون إملاءات. قالت: استمتعنا بوقتنا، ولكن علاقة بعيدة الأجل لم تكن لتنجح. وكان لهذا التصور لمسار علاقتهما القليل من التشابه مع أي شيء فكر أو شعر به. ولذلك هز رأسه وقال: نعم. بالضبط. لم يخبر ماريان بمكالمة سكايبي هذه. كانت دراما سنها مستمرة ولم يود أن يبدو أنه اتخذ قرارا صعبا بعد نومه معها. كانت تقول كلما تكلما: كالزبدة أنا أعاني. والحقيقة أن كونيل لم يفهم الرمز الحقيقي للزبدة وقرر الآن أن الوقت تأخر ويمكنه أن يسأل.

قال: ما هذه الزبدة التي تواصلين الكلام عنها؟.

قالت: أن خدي كالزبدة.

قال: أنت ماذا؟.

- تذكر أن طبيب الأسنان قال إن السن يقطع خدي مثل الزبدة.

حدق كونيل بها من فوق طرف الناشيونال جيوغرافيك الأصفر الذي بيدها.

قال: اللعنة، هل كان فعليا يقطع خدك؟.

- ألم تسمعني؟ كنت أكلمك عنه قرابة أسبوع.

- أحيانا أعتقد أنني فقدت الإرسال معك.

عادت إلى المجلة مستغربة.

قالت: مهارة الحياة.

هل تعلمين أنني قطعت علاقتي مع لورين. هل سمعت بذلك؟.

تظاهرت أنها تقرأ. ولكنه رأى أنها تفكر ماذا تفعل أو تقول. كانت حركة ذهن ماريان شفافة بنظره، وتلمع بومضات سريعة هكذا قبل أن يتابعا.

قالت: لم تذكر الموضوع.

- نعم. هذا حصل.

سعل، ولكنه لم يكن بحاجة لذلك. هذه علامة ضعف، وهو يعلم أن ماريان ترى ذلك، مثل الدم بالماء.

قالت: متى حصل الأمر كله؟.

- قبل أسبوع.

- آها.

لم تنطق "آها". أغلقت المجلة فقط وأعادتها إلى الطاولة الزجاجية الصغيرة بحركة تمثيلية. ابتلع كونيل لعابه. لماذا يبتلع؟ كانت ماريان سيئة في أيام الدراسة ومكروهة من الجميع. وكان يحب التفكير بذلك بطريقة سادية كلما اعتقد أنها ستتغلب عليه في الحوار. في سنته الأخيرة في الجامعة فض بكارتها ثم طلب منها أن تكتم السر، ولكنه لا يعتز بهذه المشاعر الآن. استلقت هناك كأنها تفكر ولماذا أخبر الآخرين بالسر؟ ورأى أن ذلك محير قليلا. شعرت ماريان بالإهانة لأن كونيل لم يخبرها بلورين حتى الآن. وتسترت على هذه المشاعر بتركيز انتباهها الممتعض ببطء على ما يحيط بها. وتساءلت إذا كان كونيل لم يبلغها لأنه يعتقد أنها يائسة. فماريان بنت الثالثة والعشرين عرضة أحيانا لنفس القلق المقيت الذي يميز حياتها البالغة. وفي سنوات جامعتها لم تكن تحتقر الآخرين، ولكن بنفس الوقت تحكم بها الخوف من احتقار الناس. وكان كونيل أول إنسان أعجب بها، ومع ذلك لم يكلمها بحضور أصدقائه. كانت تقلل من قيمة الأشياء لتحتفظ بحبه، ولكنها تتظاهر أن الأشياء لا تقلل شأن شيء. واحتفظت بهدوئها خلال المكالمات التي يجريها.

قال: نعم. توقعت أنك سمعت. كانت قطيعة على السكايبي. ونسبيا سرتها القطيعة.

- لورين بنت ثابتة الجنان.

- قد يكون هذا صحيحا.

نظر من النافذة وحاول أن يتثاءب. كان يمقت نفسه. ولم تكن لديه فكرة عن أفكار ماريان.

رغما عنه وبدوافع ذاتية فكر أنه طيلة وقته مع لورين، لم يدعها إلا بالصدفة. ولكنه مع ماريان يجد الفرصة سانحة على الدوام. وبسيطة لدرجة عظيمة تشبه الحماقة. وطبعا هو يدرك أن هذا لا يدل على أي شيء.

قالت ماريان: حسنا. لا تقلق. نعلم كلانا أننا بمفردنا. ولكنني لا أطلب منك أن تكون شريكي.

- لن أقلق من ذلك. يا للغرابة.

فتح الباب، وخرجت الممرضة تقول: ماريان؟. جاهزة.

نظرت ماريان إلى كونيل، وبادلها النظر. كرهته لدقيقة ولكن الشعور السلبي يزول دائما. لم يتعمد أن ينبه هذه الحاجة الماسة فيها. مع دانييل تشعر بالحرية والتسلط، لأنها لم تتعامل معه بجدية على الإطلاق. ورغبته في إلحاق الأذى بها تؤكد فقط أنه يعتمد عليها. ولكن كونيل ليس بحاجة لشيء، وبرفقته تشعر بالضعف. لمست وجهها بيدها، وتبعت الممرضة إلى غرفة الجراحة. وبعد إغلاق الباب، نهض كونيل ومشى إلى النافذة. نظر إلى الشارع، ورؤوس المارة. كان يوما مشرقا، باردا وأزرق مثل قطع الجليد. وحاول أن لا يفكر بأوجاع ماريان. وهو يعلم أنهم سيخدرون الجزء الضروري من فمها، ولكن أثاره ذلك أيضا. فماريان لم تعرب عن خوفها من معاناتها الفيزيائية. رأى كونيل أشياء سيئة تحدث لها. ومع ذلك، آلمه حين قالت إنها لا تريد أن تكون شريكته، جزئيا لأن ذلك يشبه نكران الجميل. ولكنه لم يزمع أن يطلب منها ذلك. بدأ يقضم إبهامه. حتى شعر أنها احمرت وأصبحت طرية وفقدت قوامها في فمه. في البداية أسعده قطيعتها في آخر الأمر مع دانيال. كان واحدا من مصممي الغرافيك النحيلين بنظارات ذات إطار سميك، وكلام مسهب عن الجندر. جاوره كونيل في البار يوم حفلة عيد ميلاد ماريان، وخلال المحادثة شاهدا مباراة بورنماوث - شيلسي على شاشة كبيرة.

سأله دانييل: هل يهمك من يخسر ويربح؟

قال كونيل: حسنا. شيء من ذاك. سيتراجع بورنماوث إلى مرتبة أدنى إذا خسروا هذه المباراة.

قال دانيال: أقصد من ناحية فلسفية.

كانت هذه محادثة جادة بينهما.

ثم ضحك دانيال قائلا: الذكورة شيء هش.

لم يلمح كونيل لبعض الأمور التي تصادف أنه يعرفها عن سيئات دانيال. لم يذكر مثلا أنه

 يحب أن يربطها ويضربها بالحزام. أراهن أن هذا يجعلك تبدو رجلا قويا.

في قسم الجراحة أعطوا ماريان المخدر. وأدخل طبيب الأسنان أداة حادة في لثة ماريان ليرى إن كانت تشعر بها، ولكنها لم تشعر بشيء. بعد ذلك استعد لخلع السن. في البداية أمكنها سماع صوت طحن. وانعكس ضوء مصباح أبيض متوهج على عينيها من المرآة المعلقة فوقها، ثم شعرت بطعم سادو مازوشي من مطاط قفازات طبيب الأسنان. تلولب شيء ما، وملأ فم ماريان سائل غريب ورقيق. لم يكن له طعم الدم. ثم شعرت بشيء ينزلق على لسانها، شيء ناعم وثقيل، وفجأة انتصبت بجلستها فقال طبيب الأسنان: ابصقيه. بصقت شيئا في يد طبيب الأسنان. كان جزءا صغيرا أصفر من جسمها. والآن شعرت بطعم الدم، ومعه شيء آخر. وآلمها رأسها. التمع السن في راحة طبيب الأسنان مثل القشدة. قال طبيب الأسنان: امرأة ممتازة. أطراف السن مثل شقائق النعمان. وارتجفت ماريان.

يخشى كونيل أنه إنسان فارغ عاطفيا. حاول أن ينظر في عدد الناشيونال جيوغرافيك الموجود على الطاولة. ولكن أعوزه التركيز، وعاود التفكير بأوجاع ماريان. ورطت ماريان نفسها بأمور لا تسعدها. وهذا رأي يشعر كونيل بالذنب حياله. وكان يعلم أنها تجلب على نفسها اللوم بسبب أخطاء لم ترتكبها ببساطة لقوة شخصيتها. كان الآخرون يغشون ماريان وربما بتواطؤ منها، مع أن المفروض أن توقفهم عند حدهم. وأخبرته بأشياء أجبرها دانيال على القيام بها. أشياء يمكن رؤيتها. وقالت: أعلم أنها حماقات. ولم أستمتع بها. ثم ضحكت. وكره ضحكتها تلك.

وضع طبيب الأسنان في فم ماريان ضمادة وطلب منها أن تعض. شعرت بالضعف، كأن سنها طفل مريض ولدته. وتذكرت أن كونيل في صالة الانتظار، وغمرها إحساس بالامتنان، فغرقت بالعرق. احتكت الضمادة بلسانها النائم وامتلأت عيناها بالدموع. انتهى الجانب الطبي من الزيارة. وأعانوها على اقتلاع نفسها من الكرسي كأنها صفحة من جريدة. وفتح باب الجراح والتفت كونيل من النافذة.

أشارت ماريان بحماقة إلى فمها. أعادوا إليها سنها في علبة زجاجية هزتها بوجهه ليخشخش السن في داخلها. كان وجهها مضلعا وغير منتظم مثل خيمة منهارة. وشعر بمشاعر مختلطة. في الجامعة اعتاد أن يتخيل نفسه وهو يلقي ملاحظات ثقافية أو حكيمة أمام ماريان. وهي تخيلات لا يزال يعود إليها مكرها في لحظات الإجهاد. وضحكاتها المتخيلة تهدئ أعصابه.

قال: هل انتهيت تماما؟.

هزت رأسها، وحاولت أن تبلع. شعرت بخطأ في فمها، وأنها دخلت في جسم لا يعود لها.

قال: مر الوقت بسرعة. كيف تشعرين؟.

نفضت كتفيها. وشعرت بالرجفة التي اختزلتها بتنهيدة، وحاولت أن تكبت هذا النوع الخاص من القبح. وبكت تقول: تأخر الوقت. وفركت بحماقة عينيها وأنفها والحفرة المخدرة في خدها الأيمن. انتفضت مجددا. ولكن أصبح بكاؤها، على الأقل، صامتا.

شاهد كونيل ماريان تبكي من قبل مرة واحدة، حينما كانا مراهقين. كان لأمها في ذلك الوقت صديق حميم، يدعى ستيفن. وكان يأتي أحيانا في الليل إلى غرفة ماريان ل 'يتكلم'. ذهبت إلى بيت كونيل في إحدى الليالي بعد ما حصل، وبكت قائلة: أحيانا أعتقد أنني أستحق الأسوأ، لأنني إنسانة سيئة. لم يسمع أبدا شخصا يتكلم هكذا. انتابه الغثيان، ومنذئذ لم يفارقه الغثيان، حتى لو لم يشعر به. كان شيئا لا يتحكم به وخارج سيطرته.

قال: دعينا نذهب إلى السيارة.

في السيارة كانت صغيرة ووحدها. بيد تحمل الإناء وفيه سنها، وباليد الأخرى لفافة إضافية من الشاش لأجل فمها. وضعت الاثنين في حضنها بحرص، ومدت يدها إلى الواقي الموجود فوق مقعدها لتنظر بالمرآة.

قال: لا ضرورة لذلك.

توقفت ويدها على المرآة.

قالت: هل أبدو سيئة لدرجة مريعة؟

كان صوتها مكتوما وعميقا.

قال: بنظري لست سيئة. ولكن يبدو أنك هشة ولا أريد أن أخيفك.

واعتقد أولا أنها تسعل، ثم لاحظ أنها تضحك.

قالت: أبدو سيئة. لماذا لم تعترف لي عن لورين؟.

عجن المقود بيديه. وراقبته يفعل ذلك. مسحت بكمها دمعة تهدد عينها اليسرى، بتكتم.

قال: هذا الكلام المختصر الذي تلقينه على مسامعي عن النظر للنساء ككائنات بشرية. أقلقني بالفعل نوعا ما.

- ماذا، لهذا السبب انفصلت عنها؟.

أثاره هذا السؤال، بطريقة من الطرق، بالإضافة إلى أن ماريان كانت تبكي فعلا. كان يفكر، دون قصد منه، بجسمها العاري. كان ينظر إليه مثل صورة تدل على الضعف وليس الجنس، وربما كان يشعر بالاثنين معا. وهو يعلم أنها ببساطة تبكي بسبب رواسب ألم حقيقي، ولم يكن يستمتع بذلك. غير أن رغبتها أن تكون موضع عنايته لمس شيئا فيه. أوهام وتخيلات تشير بلامبالاتها الباردة ظاهريا لشيء ما. ولاحظت أنه لا يرد على سؤالها المباشر.

راقب حركة المرور كأنه يفكر بشيء آخر. وأملت أن فضولها المفرط يبدو إنكاريا. وهذه استراتيجية ديناميكية تتبناها لتخفي عن كونيل مشاعرها تجاهه. وما تشعر به لا يمكن التعبير عنه بسهولة. الناس يحبون أشياء كثيرة: أصدقاءهم، ذويهم. وسوء التفاهم حتمي.

قال: لا زلت تبكين، أليس كذلك؟.

قالت: يعاودني نفس الشعور. هذا كل شيء.

***

...........................

* سالي روني Sally Rooney كاتبة إيرلندية معاصرة. من أهم أعمالها "محادثة مع الأصدقاء"، و"أناس طبيعيون". القصة مترجمة عن "ذي وايت ريفيو". العدد 18، 2016.

قصة: بوب ثوربر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

ليلة الأربعاء، أنا مستلقٍ على الأريكة، أشعر بدوار خفيف من زجاجتين من شراب "روبيتوسين" للسعال، رأسي ينبض وأذناي تشتعلان بتنميل. أشعر بنشوة، لكنها نشوة بائسة، وللأسف هي النشوة الوحيدة التي سأحصل عليها الآن بعد أن وضعت أمي قفل دراجة على خزانة الخمور. أُسند رأسي على مسند الذراع، وأغمض عينًا واحدة، وأتظاهر بمشاهدة كرة السلة مع "والتر"، الذي قدمته أمي على أنه "صديقها الجديد الذي يعيش معنا". أكره مشاهدة أي رياضة على التلفزيون ما عدا التنس، الذي كنت ألعبه سابقًا. لكنني وعدت أمي أن أكون مهذبًا مع والتر طيلة وجودي في المنزل، رغم أن الرجل يشبه نسخة غير مضحكة من الممثل الكوميدي "دون ريكلز" - والذي، بغرابة وسخرية القدر، يزعم والدي أنه أظرف رجل على وجه الأرض.

رسميًا، أنا في المنزل لبضعة أيام فقط، رغم أنني مؤخرًا أفكر جدّيًا في الاستسلام، وإيقاف دروسي، وإنهاء الأمر، لأنه - لنواجه الحقيقة - من الواضح أنني لا أفلح كطالب في إحدى جامعات النخبة.

والتر، الذي تتباهى أمي بأنه مليونير عصامي، يمتلك مستودعًا للوازم السباكة، وأتساءل إن كان بإمكانه أن يوفر لي وظيفة. حتى لو كانت بدوام جزئي، سيكون ذلك جيدًا. أحاول جمع ما يكفي من اللعاب في فمي لفك لساني المتشبث بسقف حنكي، لأسأله إن كان العمل جيدًا، ثم فجأةً، اقترحت أمي عليّ دعوة ضيف إلى عشاء الغد.

تطلق هذا الاقتراح الغريب في اللحظة الأخيرة من مطبخها، حيث تقف وهي ترتدي رداءً ورديًا، ونعالًا وردية، ومئزرًا طويلاً، تعدّ طعامًا يكفي لكتيبة كاملة.

الرائحة الكثيفة للقرع والقرفة الممزوجة بحرارة الفرن العالية وأواني الطبخ البخارية كادت أن تُدخلني في النوم، فأتثاءب وأقول:

- ترجمة من فضلك. عمّ تتحدثين؟

يبدأ الخلاط بالعمل، صوته أعلى من جزازة العشب، ثم يتوقف فجأة. تقول أمي:

- عليك أن تدعو أحدًا، هذا كل شيء.

والتر، الذي يراهن مبلغًا كبيرًا على نتيجة المباراة، يضغط على الزر. ينخفض صوت التلفزيون. أراقبه وهو يزيل الوبر من أكمام بيجامته السوداء المطوية.

تقول أمي:

- أحضر شخصًا يحب الأكل. لا يهمني من يكون.

والتر، الذي لا يزال ينظر إلى التلفزيون، يتحرك في كرسيه ويقول:

- تقصدين 'مَن'، وليس 'من'.

يبتسم بفم مفتوح - ليس لي، بل لنتيجة المباراة غير المتكافئة. فريقه يفوز.عندما يلتفت ليُظهر لي أسنانه البيضاء الناصعة بفعل الليزر، أمدّ رقبتي لأرى خلف الأريكة.

- أعطيني مثالاً يا أمي. من عليّ أن أتصل به ليلة عيد الشكر وأدعوه؟

بصوت ناعم كالعسل والسكر، وكأنها أبعد مما هي عليه، تجيب:

- أي شخص تريده يا عزيزي. أحضر شخصًا لديه شهية صحية.

ألتفت إلى والتر وأقول:

- حسنًا، ما القصة؟ ماذا تدبر الآن؟

تظهر أمي في المدخل، ثلاث لفات وردية من بكرات الشعر ملفوفة بإحكام حول رأسها، بينما تمسك ملعقة خشبية. وعلى مئزرها كُتب: "أنا الطاهية، لا خادمتكم، فلا تطلبوا مني شيئًا!

تقول:

- لماذا تهمس؟ لا تسأله. ماذا يعرف هو أصلاً؟"

يركز والتر بشدة على جواربه المزخرفة. تقول أمي وهي تحدق في والتر:

- إنها مسألة حسابية بسيطة، مجرد ثلاثة منا يجلسون لتناول مأدبة بهذا الحجم الذي أعدّه سيكون خطيئة مميتة.

تؤكد على كلمة "مأدبة" بنعومة، وتنطق كلمة "خطيئة" بقوة حتى أنني أستطيع أن أشعر باهتزاز الهواء.

ينحني والتر ليحك بقعة في السجادة. أقول:

- أدعو من؟ من حولنا ليس لديه خطط لعيد الغد؟

ينظر والتر لأعلى.

- ألا تكره عندما تفعل هذا؟"

ترد عليه:

-  اصمت! لم يسألك أحد عن شيء..

يغمض والتر عينيه ويقطب وجهه وكأنه تلقى ضربة مطرقة، تقول أمي:

- ضيف عشاء، شخص آخر لنشاركه عطلتنا. هذا كل شيء. نهاية القصة. لا تجعل منها قضية اتحادية. لا يهمني من ستجلب.

- إذاً ما تقولينه، لأكون واضحاً، هو أنني يمكنني دعوة أي شخص على الإطلاق؟

يزيد والتر من تعابير الألم على وجهه. تقول أمي:

- أنا متأكدة أن لديك قائمة طويلة من الفتيات لتختار منهن.ضع كل أسمائهن في قبعة واختر واحدة فقط."

- أوه، تريدينني أن أحضر فتاة؟ هل هذا ما تعنينه يا أمي؟"

والتر، الذي هو أصلع بشكل أساسي ما عدا هلالاً من تجاعيد صبغت بالأسود، يتظاهر بجذب شعر غير موجود.

- إنها تريدك أن تستقر وتتزوج. ألا ترى؟ إنها قلقة عليك وحيداً في تلك الجامعة الكبيرة. نتحدث معا- تخبرني أشياء - كل آمالها في الحياة معقودة عليك. أما أنا فلا تخبرني ما تريده.

وبينما يتحدث، تطلق أمي عليه سيلاً من النظرات القاتلة حتى ينكمش مرة أخرى في كرسيه السمين. يقول:

- من الأفضل أن أُغلق فمي الآن.

لا أهتم البتة بوالتر، لا يهمني أنه لديه بعض المال في البنك أو أن أمي تتصرف وكأنهما متزوجان بالفعل. لا يهمني أن لدى والتر زوجة بالفعل. أقول:

- أحضر أي شخص أريده؟ أي شخص؟ أنت جادة؟ تقصدين هذا حقاً؟

تقول أمي:

- سيكون شرفاً لنا أن نستضيفه، أليس كذلك يا والي؟

- نعم، نعم. بالتأكيد.

يقولها والتر وعيناه على التلفاز. فريقه يخسر الآن. أعلن بنبرة انتصار:

-حسناً. إنها صفقة .

ختمت عليها بقبلة ، تقول أمي وهي تقبل الهواء.

- لكن ليس أكثر من واحد.

يقول والتر:

- لن أدفع لإطعام جيش كامل

لست متأكدًا تمامًا، لكن تخميني الأفضل هو أن الشخص الذي تتوقعه أمي أن أدعوه هو تلك الطالبة الجميلة في تخصص الأنثروبولوجيا، أبيجيل، التي أحضرتها إلى المنزل في عيد الفصح. كانت فتاةً ذات شعر عسلي مذهل وساقين طويلتين كعارضة أزياء، ومنذ أن هجرتني وأنا أعاني بشدة. آخر ما سمعت، كانت أبيجيل مخطوبةً للاعب بيسبول في الدوري الثانوي. لذا بدلاً منها، قررت دعوة والدي البيولوجي، بوب الأب، الذي لم تلتقِ به أمي أو تتحدث إليه منذ ما يقارب الثلاث سنوات.

كان بوب الكبير ساحرًا كعادته. وصل صاحيًا وبقي هكذا إلى حد كبير. خلال حديث ما قبل العشاء، تناول النبيذ الأبيض برشفات خفيفة وبقي مهذبًا، محترمًا، وساحرًا بكل معنى الكلمة. وعندما جلس الجميع لتناول الطعام، وقف ليؤدي صلاة الشكر. لا أحد يؤدي صلاة الشكر بسلطة أكبر من والدي.

عندما انتهى، صفقت وحدي. لم أقف رغم أني شعرت أن التصفيق وقوفًا كان مناسبًا. قالت أمي:

- لا تتصرف كالأحمق فقط لأن والدك هنا.

أجبت:

- هل هو هنا؟ أين؟ من سمح له بالدخول؟

فتبسم والداي لبعضهما.

والتر، ومنحيه حقه، قام بتقطيع الديك الرومي بمهارة الجراح.

قال بوب الأب:

- طائر شهي المظهر يا ريتا. كل شيء، كل شيء يبدو فاتحًا للشهية.

فاحمرت وجنتا أمي بينما تضع البطاطس المهروسة في الصحن.

خلال معظم الوجبة، لم يكن هناك سوى صوت خدش شوكات وهم يقطعون الطعام وخرير أربعة أفواه تمضغ، وجميع الأعين مثبتة على الأطباق. تعليقات والتر المتقطعة، كلها تافهة وسطحية، محاولات يائسة للمزاح، تموت سريعًا في صمت. بين القضمات، ظلت أمي تدفع خصلة شعر خلف أذنها. صمت مشحون يطن في الجو؛ وكثف الغلاف الجوي للغرفة ليصبح كثيفًا كالمرق.

وفي لحظة ما، أغمضتُ عينيّ ودعوتُ بأمنية صامتة. تمنيتُ أن يُخرج والدي أسنانه الاصطناعية ويجعلها تقفز بين الأطباق والصحون، معيدًا أداءه الذي قدمه العام الذي حصل فيه عليها، حوالي عام ٢٠٠٣.

لكنّ الحظّ لم يحالفني.

في كل مرة يملأ فيها بوب الأب كأسه، أشكّ في دوافعي لدعوته.

يقول والتر بعد إخلاء الطاولة، رغم أنه لا يبدو منزعجًا حقًا. إنه يؤدي دوره، ذلك الدور الذي كلّفه لنفسه:

- كانت هذه خدعة قذرة.

يقول وهو يحدق بي من فوق نظارته القرائية:

- أمك محقة، أنت وغدٌ ماكر، مثله تمامًا.

أسطوانة أمي الغنائية لعيد الميلاد تعزف بصوت عالٍ في وضع التشغيل العشوائي. ما زال هناك قهوة وفطيرة وآيس كريم بانتظارنا. أجلسُ على مسند قدم، مواجهًا والتر، وظهرُني إلى المدفأة، وأحتسي شيئًا مذاقه يشبه نبيذ البورت. والتر يدخن أحد السيجار الرفيع الذي استعاض به عن السجائر. نلعب الكاناستا بأوراق من مجموعتين، أوراق مقامرة مستعملة مثقوبة من الوسط. أمي وبوب الأب في المطبخ، يتحدثان همسًا بجورب الحوض. يقول والتر وهو يسحب ورقة من المجموعة:

- وأنت جاسوس فوق ذلك كله..

ليس رجلًا ضخمًا. بالكاد يصل إلى ذقني. لديه بعض المال في البنك، لكنه شبه عودٍ أمام والدي. وكأغلب الأشياء، يأخذ اللعبة بجدية مفرطة، ممسكًا بأوراقه ملتصقة بصدره.

- أتعرف يا بوبي؟ أنت لا تساعد أحدًا. قد تظن أنك تفعل، لكنك مخطئ. أنت تراهن على الفريق الخاطئ، يا بوبي. لاحظ ما أقوله لك يا بني. لا تنحرف أبدًا عن الفائز المضمون. ولا تراهن أبدًا على حصان ميت.

أستطيع رؤية أمي وبوب الأب من خلال المدخل. يقفان بزاوية جانبية، يمسكان طبق عشاء مليئًا بالرغوة بينهما، منخرطين في لعبة شدّ حبل مصغرة. بوب الأب يبتسم، وأمي تميل برأسها وتنظر إليه وكأنها لم ترَ شيئًا بهذا الروعة من قبل. أرتّب أوراقي، وألعق أسناني ببطء قبل أن أبتسم لوالتر. ثم ألقي ما أعتقد أنه يدّي الفائزة.

(النهاية)

***

.......................

الكاتب: بوب ثوربر/ Bob Thurber وُلد بوب ثوربر عام 1955 ونشأ في فقر مدقع، قضى عقدين من الزمن يعمل في وظائف وضيعة بينما يدرس ويُتقن فن الكتابة القصصية. خضع لفترة تدريب طويلة، حيث كتب تقريبًا كل يوم لمدة عشرين عامًا قبل أن يقدّم أعماله للنشر. منذ ذلك الحين، حصلت قصصه القصيرة على قائمة طويلة من الجوائز الأدبية والتقديرات، منها جائزة باري هانا للرواية. ظهرت أعماله في أكثر من 70 مختارات أدبية. ألف بوب ستة كتب، منها "فتى توصيل الجرائد: رواية غير تقليدية". يعيش حاليًا في ماساتشوستس.

* تعليق على القصة من محكمة المسابقة، ديانا نادين:

لا أتردد في تكرار ما قلته العام الماضي عن مدى استمتاعي بقراءة جميع المشاركات. إنه دائمًا لمن دواعي السرور، ولا أنفكّ أبدًا عن الدهشة من الخيال والإبداع الذي تتسم به العديد من القصص. لكن ما أثار إعجابي بشكل خاص في قصة "عيد الشكر 2010" هو الحوار الذكي للغاية والوصف الدقيق للمشاهد. كانت الصور حيةً لدرجة أنها تَمثلت في مخيلتي أشبه بكوميديا أمريكية على شاشة التلفزيون أو السينما، وليس مجرد قصة قصيرة. دائمًا ما نقول "اعرض ولا تُخبِر"، والفقرة التالية مثال رائع على ذلك، حيث تقدم لمحة عن شخصية والدة الراوي بكلمات قليلة: "تظهر أمي في المدخل، ثلاث لفات وردية من بكرات الشعر ملفوفة بإحكام حول رأسها، بينما تمسك ملعقة خشبية. وعلى مئزرها كُتب: "أنا الطاهية، لا خادمتكم، فلا تطلبوا مني شيئًا!"

على السطح، تبدو هذه قصة قصيرة مضحكة عن عائلة مضطربة تحتفل بعيد الشكر، لكن ما يميزها ويجعلها تستحق الفوز هو الذكاء والتبصر الذي يكشف لنا ما يحدث حقًا خلف الكواليس. النص سهل القراءة، لكن من الواضح أنه نتاج صياغة مدروسة بعناية.

قصة: فيرجينيا فاينمان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

مرة أخرى أراد زوجي الانفصال عني. لم آخذ الأمر بجدية لأنني أعلم أننا لن ننفصل أبداً. نحن نحب بعضنا كثيراً. السبب كان كالعادة: قلة وتدني مستوى العلاقة الجنسية.

قال لي:

- أنتِ لا تشتهينني، عندما أقترب منكِ تتشنجين.

شرحت له كما لو كان طفلاً:

- لكني أشتاق إليك. وماذا عن يوم عيد ميلادك، ألم نكن معًا؟

- أيجب أن يكون عيد ميلادي حتى يحدث ذلك؟

بدأت أفتّش في ذهني عن تواريخ أخرى، قبل وبعد عيد ميلاده. كانت هناك أيام... كانت.

- وماذا عن تلك المرة التي...؟

قاطعني:

– دائمًا كأنك تقطرينها لي بالقطّارة، كأنها صدقة. عمري أربعة وأربعون عامًا وأشعر أنني ميت.

قلقت.

في اليوم الأول، خرجت لأتسوق، نظّفت البيت، حضرت العشاء، شغّلت برنامج كابوسوتو. تحدثت عن مزايا المودة، والحب غير المشروط، ومعرفة أن هناك شخصاً يمكنك الاعتماد عليه في كل شيء. رد عليّ.

- لهذا أفضّل أن أذهب لأعيش مع أختي.

في اليوم الثاني، حدّثته عن أزواج آخرين نعرفهم، مضى على زواجهم أكثر من خمسة عشر عامًا مثلنا، ورأيت كم هم منسجمون؟ لا يمارسون الجنس أبدًا. وهم يعتنون بأطفالهم و يذهبون إلى السينما والمسرح، ويسافرون… العلاقة لا تُنهار بسبب هذا...

قال لي:

- لا شان لي بالآخرين.

في اليوم الثالث، حدثته عن البيت، بيتنا الجميل، وعن تعقيد بيعه، وتقسيمه... قال:

- سأرحل أنا.

- لكن حبيبي، لديك آلاف القطع من الأثاث، ومجموعات من المجلات، والأرشيفات.

أمسكت بيده ونظرت إليه، منتظرةً أن يقول لي إنه يحبني، وأننا سنتراجع عن القرار. نظر بثبات إلى حمامة على النافذة.

في اليوم الرابع قلت:

- حسناً، سأرحل أنا.أنا امرأة مستقلة، لا أحمل أعباء، أكره الاستهلاك، أكتفي بأشياء قليلة، لا أحتاج حتى ثلاجة، سأستأجر غرفة صغيرة، ولكن كيف سأدفع كل هذا: تأمين، وشهر مقدم، وعمولة شهرين للسمسار، والمصروفات المشتركة التي أصبحت باهظة جداً، بالإضافة إلى أننا اشترينا هذا المنزل معاً. أتذكر كم أقرضتنا أختي من المال؟ أتذكر كيف أعجبنا بالفناء الصغير لنشرب الماتيه و...؟

قال:

- سأدفع لكِ إيجار الغرفة حتى بيع المنزل.

في اليوم الخامس بكيت على القطة، حملتها طوال الوقت، جروتنا الصغيرة، طفلنا المشترك، سأفتقدها، انظر كيف تمدّ كفّها الصغير إليّ. قال:

- خذيها معكِ.

– كيف؟ ألا تحبها؟ إذًا لم تحبّها أبدًا؟

دموعي على فراء القطة التي تهتز في حجري.

- سأفتقدها، لكن إذا أردتِ، خذيها معكِ.

في اليوم السادس اقترحت أن نحدد يومًا ثابتًا في الأسبوع للجنس، الجمعة، صباحًا وظهرًا ومساءً، مع مشروب، وجل، وملابس داخلية مثيرة، وألعاب....

-  ما رأيك ؟

- قلتِ هذا من قبل ولم نفعل شيئًا.

في اليوم السابع:

- هل تعتقد أن الجنس هو كل شيء يا مارتن؟ هل لأنك تمارس الجنس جيداً مع شخص ما ستحصل على ما كان بيننا طوال هذه الـ15 سنة؟ هل تعرف كل الأشياء الجيدة بيننا، التي ترميها في القمامة؟ هل تظن أن العلاقة تُبنى فقط على الجنس؟

- لا، لكن حين أبني علاقة جديدة، سيكون الجنس فيها أمرًا مهمًا.

حينها حزمت حقيبتي وخرجت. وعند الباب قلت له:

- يوم الاثنين ذهبت للتسوق.

-   نعم، عرفت.

- اشتريت أعواد ثقاب. علبة من نوع "غران فراغاتا". فيها أربعمئة عود.

-   "......"

- لا أحتمل أن تعيش أعواد الثقاب أكثر مني ستشعل بها سخان الماء لتغتسل بعد أن تكون مع امرأة أخرى.و ستشعل بها الموقد لتُعد لها فنجان قهوة.

نكس رأسه. بدأ في البكاء. أدخل حقيبتي، عانقني، قبّلني قبلة طويلة. قال لي:

-دعينا نحاول.. إلى أن تنفد أعواد الثقاب.

(انتهت)

***

....................

الكاتبة: فرجينيا فاينمان/ Virginia Feinmann: (بوينس آيرس، 1971) كاتبة وصحفية ومترجمة.

https://www.audiocuento.com.ar/una-vez-mas-mi-marido-se-quiso-separar-de-mi-virginia-feinmann

من الأدب الكردي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - الشبك

حدقت إلى السماء

فلم تقع عيني

على أي زرزور

من تلك الزرازير

التي هاجرت العام الماضي

فاستغربت ذلك

وتساءلت مع نفسي

منذهلا

ترى هل من شباك

في المهجر؟

**

2 - تفادي

إن هذا البلبل يتجنبني

ويوكر بعيدا عني

دون أن يعلم

بوجود آلاف البلابل

الجميلة الصداحة

مثله

تغرد في قلبي

**

3 - ورد

من أجل عينيك

تتفتح كل هذه الورود

وتغتاظ

إن لم أقطفها لك

فلا تعاود الأنتشار

في السهول

في الربيع المقبل

وسوف تكف

عن التفتح

***

....................

نوزاد رفعت: شاعر كردي من مواليد 1951 أربيل – العراق

عاما بعد صراع مع مرض السرطان   (72) وافاه الأجل في عام 2022 عن

كتب الشعر منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي

نشر في العديد من الصحف والمجلات الكردية

الكتب التالية: صدرت له

(غابة ذلك السفح) 1978

(القلق) 1985

(الثلج الدافيء) 1992

- عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001 .

بقلم: يان جي

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

في البداية كانت نانا أول من ذكر اليابانيين. كان يوما ماطرا في بالينا. الريح الباردة والرطبة تهب من الشاطئ الغربي، وتزمجر عبر البلدة، وتجرف معها آخر ما تبقى من الصيف الأخضر. كنا في حجرة جلوس نانا. النار مشتعلة. وأكواب الشاي في أيدينا. البسكويت على الطاولة. قالت نانا إن الطقس الآن أبسط مما كان عليه في طفولتها. أضافت: حينها كنا على الأقل ننعم بعشرين يوما من الصيف. وكنت مفتونة آنذاك بالجيرانيوم الموجود على حافة النافذة. رأيت أصيصين منه، أحدهما بزهور وردية، والثاني بلون أحمر قرمزي، وكلاهما مزهر بطريقة سريالية ومنعشة، كما لو أن هذه الأيام هي بداية الصيف. وأدهشني، تقريبا، استفزني، مناعة الجيرانيوم تجاه الطقس، حينما سمعت نانا تقول: صادفتهم عدة مرات، هؤلاء اليابانيين، في الثمانينات بلا شك.

قال توماس: نعم. اعتادوا زيارة البلدة كثيرا.

هل تتذكرينهم أنت أيضا؟.

شعرت نانا قليلا بالدهشة وقالت: طبعا أتذكرهم. رافقت واحدا منهم في المدرسة.

واستدارت نانا نحوي وأخربتني لأبقى في دائرة الحديث: هؤلاء اليابابانيين الذين نتحدث عنهم كانوا يعملون في مصنع كيلالا. استثمر المصنع في الثمانينات أو أواخر السبعينات شركة يابانية كبيرة. ولكنه أغلق أبوابه من فترة طويلة.

سألتها: هل لا زالوا يعيشون هنا؟.

قال توماس: لا. رحلوا منذ عهد بعيد.

قالت نانا: لا يمكن أن تعلم. لا بد من وجود بعضهم هنا. سمعت بافتتاح سوبر ماركت آسيوي كبير للتو في سليغو. هل تصدق ذلك؟.

لاحقا تركنا نانا في المطر الرذاذي. واختصرنا طريقنا من خلف محطة الوقود لنصل إلى البيت بسرعة. رأينا بعض المراهقين يتسكعون وراء جدار إحدى الحدائق الخلفية. صبيان وثلاث بنات. ويدخنون. وعندما تخطيناهم، نظرت لي بنت بشعر أزرق كأنني مشبوهة. والتقطت رائحة الحشيش. ابتعدنا بهدوء، وانعطفنا عند نهاية الشارع.

سألت توماس: كيف كنت تعيش هنا في أيام مراهقتك؟.

قال: ألعب كرة القدم في المدرسة. وأتبادل النكات… الروتين المعتاد كما أفترض.

حينما وجدت في شقة توماس نسخة من “مطاردة الغنمة البرية” لموراكامي شعرت بالاستغراب. وقلت له: توقعت أنك لا تحب قراءة الكتاب اليابانيين.

قال: بل أقرأ كل شيء. ثم إنه ليس كاتبا يابانيا بالضبط.

كان يجلس على الكنبة بسرواله القصير فقط، ويسكب لنفسه الويسكي. ترك الزجاجة، ورفع الكأس، وأخذ رشفة. حصل ذلك سابقا عندما كنا في نيوجرسي. ومرت علينا خمسة شهور ونحن نلتقي، وخرجنا معا ست مرات. تناولنا العشاء. شاهدنا الأفلام والعروض المسرحية وسوى ذلك من وسائل تجفيف النقود. وسريعا بدأنا نشتري الخضار، ونتفحص الكتب، ونقتني التسجيلات، كل ذلك معا. واحتفظت بحقيبة اللوازم النسائية في بيته. وفعل هو المثل. باختصار تعلق الواحد منا بالآخر. وقال طلاب كلية الأدب الإنكليزي في جامعة آر - والتي استضافتنا بصفة كتاب مشاركين ببرنامج الكتابة الدولي. قلت له وأنا أجلس على طاولة الطعام وأقلب الصفحات: آسفة. لكنه أهم كاتب ياباني في المرحلة الحالية. ألا تعرف ذلك؟.

نعم. ولكنه متأمرك جدا. وشائع جدا. وذوقه استهلاكي جدا.

فكر لثانية خاطفة وقرر أن ينهي كلامه بقوله: على نحو ما.

قفزت من الطاولة وأنا أقول: إأفهم أنه لديك اعتراض عليه.

قال: كلا. كلا. ليس عندي مشكلة معه. هو كاتب جيد. ولديه رؤية وطموحات. ونثره أنيق. ولكنني غير مرتاح للطريقة غير الناضجة التي يستهلك بها نفسه. نوع من أنواع التعلق بالذات. تسلسل الذات. هناك خط رفيع بين التكرار الشعري والإنتاج التجاري. وأعتقد أنه تجاوز ذلك الخط منذ وقت بعيد.

جلست بجواره وسألته: هل تشير إلى أعمال موراكامي الرابحة؟.

ملأ فمه بالويسكي وقال: كلا ونعم. يمكن القول لتفسير معنى ما ذكرت .. له علامته الخاصة، كليشيهاته، طرائفه…

ترك الكأس الفارغ وتابع: والسرد الموازي، البطل وخياله القرين، غرائبه والتماعاته، والإحساس المستمر بالبلوغ والظهور المتكرر لكل هذه العناصر..

أضفت: ولا تنس البنات التوائم والصدور المتشابهة تماما.

تابع يقول: ونعم. الجنس. الجنس في كتبه دائما تعبر بقوة عن وجهة نظر وإحساس الذكور. وهذه مشكلة وليست حلا. وهي شائعة بين الكتاب الذكور.

ملت نحوه وقبلته. وهمهمت: أنت تعلم أنني أشتعل حينما تكون جادا.

عانقني وقبلني. وذهبنا إلى السرير ثانية.

سألت توماس في ذلك اليوم: هل تتذكر وقتنا في برينستون. حينما تكلمنا عن موراكامي؟. يبدو كأنه مرت عليه أوقات طويلة.

كان على الكنبة، يقرأ الصنداي تايمز، وحوله أكوام من الصحف. لم يرد حتى مر وقت. وقال: لا تكوني سلبية وعدوانية.

زادت غزارة المطر، وضرب نافذة مطبخنا مثل رصاص صغير الحجم، ثم سال على الأرض. وبصعوبة أمكنني رؤية أشجار التفاح في الحديقة الخلفية. سألته وأنا أغسل البطاطا: هل أخبرت شون برسالة قصيرة أن العشاء سيتأخر؟.

قال توماس وهو في كرسيه ذي المسندين يقرأ: لا تقلقي. لن يتذمر أحد.

في تلك الأمسية، جاء من سوينفورد شقيق توماس المدعو شون مع صديقته بالسيارة، وانضما إلينا على العشاء. وحالما التأم شملنا توقفت الأمطار.

سألت شون: كيف كان شكل توماس في مراهقته.

آه. قالت سارة صديقة شون وهي ترفع يدها. ابتلعت ملء فمها البيذ الأبيض وقالت: كان نحيفا جدا ويرتدي بلوزات فضفاضة وزوجا من النظارات السميكة. ولا يتكلم مع الفتيات. وأعني ذلك. على الإطلاق.

ضحكت ونظرت إلى توماس قائلة: حقا؟.

كان يقطع شرائح الخنزير بحرص. قال: نعم. كان بليدا نوعا ما. لا يحب الرياضة، ولا الموسيقا. أحب الكتب فقط على ما أفترض.

قلت: يبدو لي أيضا بليدا.

عاد المطر. وجلد السطح بقوة.

كان كذلك. هل تتذكرين صديقتي بولين؟. كانت المسكينة مغرمة بتوماس لبعض الوقت. وكلما أتيت لرؤيتك ترافقني، وتتسكع حول البيت وتبذل جهدا لتلفت اهتمام توماس. بنت مسكينة.

أنهت سارة كأسها وأومأت طلبا للمزيد.

قدم لها شون الزجاجة وقال: بولين من؟. بولين موراي؟.

كلا. ليس بولين موراي. أنتم أيها الشباب لم تكونوا بمجموعتها. أعني بولين أوكالاغان. أحد أخوتها لاعب روكبي.

ضحك شون بصوت مرتفع وقال: آه. آل أوكالاغان. بالتأكيد أذكر بولين. كانت تحب توماس؟ حقا؟ متى كان ذلك؟.

ضيقت سارة عينيها وقالت: ربما في السنة الثالثة أو الرابعة من المدرسة الثانوية. وأعتقد في ذلك الصيف حينما اختفى الصبي الياباني. صبي من مدرستك. ماذا كان اسمه؟.

قال شون: آه. أتذكر الآن. ذلك الصيف كان سيئا. ماطرا وتعيسا فقط. نعم وخرج الحراس بحثا عنه لعدة أيام. ماذا كان اسمه يا توماس؟. ألم يكن في صفك؟.

نظرنا جميعا إلى توماس الذي كان ينهي طبقه بطريقة الجراح.

سأل شون مجددا وابتسامة عريضة على وجهه: هل تتذكر اسمه؟.

أفلت توماس أدوات طعامه وشرب من الكأس. ثم قال: تيتسويا. اسمه إيتا تيتسويا.

أول جملة نطق بها توماس معي كانت: هل أنت يابانية؟. كان ذلك في يومي الثاني في أمريكا. وكلانا كنا في مكتب التسجيل في جامعة آر - بانتظار إصدار بطاقة الجامعة.

قلت له وأنا أغلق كتابي: كلا. لست يابانية. أنا صينية.

وحينها كنت أقرأ “الضجة البيضاء” لدون داليلو. والتقطتها من رفوف صديقي تانغ قبل أن أغادر بكين. كان تانغ يمتلك مجموعة كبيرة من الكتب الإنكليزية الأصلية، وكلها هدايا من والده، الذي يعمل في وزارة التربية ويسافر إلى الخارج بانتظام لحضور مؤتمرات مختلفة. وسمح لي تانغ باختيار كتاب واحد هدية وداع قبل السفر فاخترت داليلو. تذكرته كيف زمجر وقال: آه. لا. لماذا أخذت الضجة البيضاء؟. فقد قرأته عدة مرات. قلت له: اخترته لكن ليس للقراءة.

تنهد قائلا مثل امرأة ريفية: إذا لماذا؟.

لأنه الكتاب الذي يعبر عن موقف احتجاج دائم، منارة لا يراها غير عيون البحارة المتشابهين، ويترك علامة تدل على وجودي في الغابة، كي يجدني رفاقي وينقذونني. وباعتبار أنني كنت ذاهبة إلى برينستون في نيوجيرسي كان لا بد أن أختار كتاب “الضجة البيضاء”. بعد أن قلت ذلك لتانغ أصبح وجهه حزينا وغريبا. وقال: أعيديه لي بعد عودتك. لم أفعل ذلك. في مكتب التسجيل نظر توماس لكتابي وقال: هذه روايتي المفضلة من بين أعمال داليلو.

حقا؟. أنا معجبة بها أيضا. وربما هذه خامس أو سادس مرة أقرأها.

هل أنت طالبة هنا؟.

كلا. كلا. تجاوزت مرحلة الطلبة. ولكنني كاتبة زائرة في قسم الأدب الإنكليزي.

آه. هل أنت كوان. لحظت أنك مألوفة. شاهدت صورتك في موقع البرنامج. أنا توماس كيني. الكاتب الإيرلندي.

وأشرقت ملامحه بشكل واضح. وتعرفت عليه. كان الشاب الإيرلندي الذي اعتقدت أنه حسن المظهر عندما نظرت في قائمة الكتاب الزوار.

قلت له: أنت لا تشبه صورتك.

آه. كيف؟.

قلت له: تبدو غامضا في الصورة.

ضحك وقال: بسبب الطقس الإيرلندي.

ولم نخرج معا إلا بعد عدة أيام. عقد القسم حفلة عشاء للترحيب بالكتاب الزائرين. بعدها ذهبنا إلى بار قريب وطلبنا المزيد من البيرة والناشو. قال الكاتب الأنغولي وهو يتناول قطعة ناشو من كومة جبنة سائلة صغيرة: كيف لا يمكن لأحد أن يحب أمريكا؟.

جرع توماس شراب البودفايزر الذي قدموه له قائلا: نعم. وكيف لا تحب بيرتهم؟.

كان معنا محاضرة شابة من قسم الأدب الإنكليزي جاءت مع حلقة شباب قابلتهم، قالت: ولكنك لم ترد على السؤال يا توماس؟ كيف أصبحت كاتبا؟.

زفر توماس قائلا: ها. كما ترين. أنا من الجزء الغربي من إيرلندا. المزدحم بالكتاب. ولدينا في البلدة التي أعيش فيها كتاب أكثر من الجزارين.

سألته المحاضرة: رائع. هل من سبب لذلك؟.

هز توماس رأسه ووقف وهو يقول: الطقس فقط. وأنا ذاهب إلى البار. من يريد ويسكي؟.

رفعت يدي قائلة: أنا. هل يمكنك أن تسألهم إن كان لديهم يامازاكي؟ الويسكي اليابانية.

نظر نحوي لحظة. مبهوتا على نحو معتدل. ابتسم وقال: أنت مندفعة جدا نحو هذه المدينة يا سيدتي. وسأحاول جهدي. أحيانا كنت أفتقد لتوماس في نيوجرسي. ليس لأنه يبدو أفضل من صورته ولكن لأنه أقرب للإنسان حين يتكلم معه، وشعرت برقته عند تبادل القبلات. ولذلك هو مؤهل للكلام عن إيتو تيتسويا، بالطريقة التي ناقشنا بها موراكامي بحماس. وكنه حاليا يبدو قليل الاهتمام. أبعد طبقه وسأل: ماذا يوجد للتحلية؟.

قالت سارا: أحضرنا تورتة التفاح.

وقف وقال: ممتاز. سأخفق القشدة.

سألت شون وهو في طريقه إلى الثلاجة: وهل وجدوا الصبي الياباني في النهاية؟. أين كان؟ ولماذا اختفى؟.

قال شون: لا أذكر الآن.

قالت سارة: يمكنك البحث في أرشيف الجريدة المحلية. وأنا متأكد أن لديهم حكايات من تلك الفترة.

عاد توماس مع القشدة وبدأ البحث عن الخلاطة وقال: لماذا هذا الاهتمام المفاجئ باليابانيين؟.

لا أعلم. ربما يمكنني كتابة قصة عنهم. أشعر بالقرب منهم.

أخذ الخلاطة من الجرن وقال: لماذا؟ أنت لست يابانية؟.

قلت حينما صب توماس القشدة في طبق كبير وشغل الخلاطة: أقرب لهم من هنا.

ملأت الضجة الكهربائية المطبخ. في تلك الليلة كنت أتابع القراءة حينما جاء توماس إلى السرير. قال وهو يرفع طرف اللحاف من جانبه: علي أن أذهب إلى سليغو في الغد. هل ترافقينني؟.

قلت: ربما كلا. علي أن أذهب إلى المكتبة لأفحص الصحف القديمة.

التفت نحوي. وشعرت بأنفاسه وهي تجرف الفراغ بيننا، استنشاق. زفير.

قال: أنت جادة؟.

ولم لا؟. أنا مهتمة. ربما أجد حكاية وأكتبها. كان اليابانيون في التسعينات يعيشون في مايو. لماذا لم تذكر ذلك أبدا؟.

ولكنك لم تطلبي مني أن أقدم لك تقريرا عن كل الشرقيين الذين وضعوا قدمهم في هذا المكان. بعض البورميين يعيشون في محيط البلدة. هل ستذهبين لإجراء لقاء معهم؟.

انزلق قليلا. واتخذ موضعه المناسب، وأغلق عينيه. واصل المطر الهطول طيلة الليل. وتوقف قبيل الفجر. وعندما غادرنا البيت كان الطقس صافيا ومشرقا. ظهرت الجبال بنفسجية في سماء زرقاء كالكريستال. قادني توماس إلى البلدة قبل أن يغادر إلى سليغو. وأنا أغادر السيارة قال: نلتقي لاحقا.

كانت علاقتي ودية مع مدير المكتبة. اسمه بول. قال: هويا كوان. بكرت اليوم. الطقس ممتاز في الخارج.

ابتسمت وأنا أقول: نعم. تماما. هل بمقدوري أخذ نظرة من الصحف القديمة؟.

جر بول أرشيف المنطقة الغربية 1990 - 1999. عشر أعوام مضغوطة في إسطوانة فيلم بحجم راحة اليد. وعلمني كيف أستعمل جهاز الإسقاط في غرفة القراءة. وقال: الآن خذي وقتك.

وفعلت. الكثير وقع في التسعينات. كل مرة، وكلما رحلنا أكثر نحو الماضي تبدو لي حياة توماس غريبة أكثر والعكس بالعكس. في عام 1992 كان توماس في غرب إيرلندا مراهقا بشعر طويل، بينما كنت أنا تلميذة صينية ذات سبع سنوات. ويوميا يقودني جدي إلى المدرسة بدراجته ثم يعيدني بعد الظهيرة. وأكتب واجباتي المدرسية في غرفة نومهما حينما كانت الجدة تطهو العشاء على الشرفة. كان العالم صامتا تماما. عندما وجدت في النهاية حكاية إيتو تيتسويا لم أكن متيقنة أنها التي أبحث عنها. ورد في العنوان: تم العثور على مراهق من سكان المحلة بعد ست أيام. لحسن الحظ، كانت توجد صورة. ورأيت صبيا له مظهر شرق آسيوي. تيتسويا. وكان يضحك بحرارة بطريقة لا توائم الموضوع. مثل أحد كلاب شيبا إينو الشهيرة. وقف وسط عدة أولاد. وبعده مباشرة زوجي توماس كيني. وشعره يتدلى مقدار بوصتين تحت كتفيه. ملقيا على وجهه ظلا طويلا مستطيلا. ولم يكن يبتسم ولا يضع نظارات. وظهر غامضا وبعيدا كما لو أنه أقحم على الصورة. البطل وخياله التوأم. سمعت صدى صوته يتردد في رأسي. في برينستون كان مكان زيارتي هو مكتبة لبيع الكتب وتدعى “المتاهة”.

وهو في ناسو ستريت. وغير بعيد عن مبادلات تسجيلات برينستون المشهورة عالميا. والتي يغرق فيها توماس نفسه لساعات، بحثا عن قرص لكينغ توبي أو ساينتست. وفي كل مرة، وهو بطريقه إلى متجر التسجيلات، يزورني في مركز الرعاية مع فنجان قهوة ويقول قبل أن يغادر: أراك لاحقا. ولاحقا يعني بعد فترة طويلة. عموما أحيانا ينتهي مبكرا ويأتي لينضم لي في “المتاهة”. تذكرت أنه في أحد الأيام وكنت جالسة على الأرض، وأقلب بكتاب، وجاء، وسألني عما أقرأ. عرضت عليه الكتاب، وهو “راقصة إيزو” لكاواباتا. وقلت: كاتبي المفضل في كل العالم.

قال: آه. كاتب ياباني. لم أقرأ بالفعل لكتاب يابانيين. كيف أسلوبه؟.

قلت وأنا أعض شفتي بعض الوقت بحثا عن كلمة مناسبة: هو مثل… ممتاز على نحو لا يصدق. حزين لدرجة مذهلة. و… مع لمسة إيروتيكية خفيفة.

هممم. وجلس توماس بجانبي وتابع: أنا أصغي الآن.

هذه القصة هي عنوان المجموعة. وبحثت عن الصفحة من أجله. تابعت: ها هي. وهي ميلانكولية فعلا. وتدور حول الحب الأول.

قلب عدة صفحات وقال: آه. حقا؟. هل يمكننا الذهاب لتناول البيتزا. أنا نصف جائع.

أمام منصة البيتزا سألته: والآن خبرني. متى تصادف أول حب لك؟.

قطب وجه وابتلع البيتزا. وأخيرا قال: بعمر 17 تقريبا.

سبع عشرة؟. ومن هي حسنة الحظ؟.

ابتلع بعض البيرة وقال: بولين.

بولين؟.

نعم. بولين من سوينفورد. لا شيء مذهل أو ميلانكولي. بنت محلية فقط.

وعاد إلى طعامه. أكلنا بهدوء لبعض الوقت وبعد شريحتي بيتزا استعاد نشاطه وقال: وماذا عنك؟.

قلت له: أول حبيب لي كان تانغ. قابلته في مسابقة شعرية، مناسبة نصف رسمية أعدها قسم الأدب الإنكليزي. اقتحم تانغ المكان فجأة. وقفز على المسرح وزمجر ببعض أشعار بابلو نيرودا. تأثر نصف الحضور بينما صفق النصف الآخر. لاحقا، حينما خرجت للتدخين جاء وكلمني وتبادلنا أرقام الهواتف. وترافقنا لبعض الوقت ثم انتبهنا أن الحال عرضة لمزيد من التدهور فتوقفنا. وعدنا صديقين. وكان تانغ صديقا ممتازا. وكان بلا جدال مركز دائرتنا الاجتماعية. وأفضل شيء أنه كان المفضل. ولد أحمر إن صحت العبارة. عدا عن رفوف الكتب الإنكليزية، وأقراص تسجيلات فينتاج، كان يقدم لنا ويسكي يامازاكي المستورد باستمرار مع علب أصلية من مارلبورو وايت. وفي اليوم السابق لسفري إلى أمريكا، حجز تانغ جناحا في فندق بينينسيولا لإقامة حفل وداع. وجاء كل الأصدقاء. جلسنا على السجاد، وتبادلنا زجاجة يامازاكي 12 عملاقة، وقرأنا الشعر معا. وفي وقت ما صاح تانغ: أنت مغادرة غدا إلى أمريكا. ويجب أن تدخني أول سيجارة حشيش في أرض الوطن.

وفعلت ذلك. وأتذكر أنني شعرت بالسعادة لبعض الوقت ثم تقيأت. في اليوم التالي، ذهبت إلى المطار ولم أقابل تانغ منذئذ.

بعد نهاية المنحة في جامعة آر - تجولت أنا وتوماس في الولايات لثلاث شهور. وخلال تلك الفترة سمعت من صديق مشترك أن تانغ توفي بحادث سيارة قبل اعتقال والده بتهمة الفساد. وعموما تلك قصة أخرى.

بالعودة لقصتنا. اختفى طالبان من جامعة سانت مورداك في الرابع من آب. وأبلغ السيد كيني الحرس عن الحادث في السادس من آب، وهو والد أحد الطالبين. بحث حراس ومتطوعون من بالينا وكيلا لثلاثة أيام عنهما وأخيرا وجدوهما في البئر المقدس لسانت ماري قرب روسيرك آبي. ومن غير الواضح كيف شقا طريقهما إلى البئر وبقيا هناك حوالي ست أيام. وبالأخص أن الأيام الأخيرة كانت ماطرة جدا. وبفضل الحراس والمتطوعين عادا إلى البيت سالمين، وبرعاية مناسبة من عائلتيهما… وانتبهت مجددا أنه لا يسعنا الاعتماد إلا قليلا على ذكرياتنا. بالنهاية الذكريات هي اعترافات في محكمتنا. كنا نختار ما يخدمنا، ونغض البصر عن اللحظات غير المريحة ثم ننسج معا المواد لنستعملها في صالحنا. وأنا أغادر المكتبة، تذكرت نقاشا مع توماس حول اسمي.

سألني: ماذا يعني كوان بالصينية؟.

يعني النبع. أو البئر. مياه تتسلل من تحت الأرض.

تنهد وقال: آه. هذا جميل. وقبل يدي.

ملت عليه، وألقيت رأسي على كتفه. وقلت: هذه كلمة بسيطة. ويوجد كلمات صينية أجمل كثيرا.

اذكريها. اذكريها لي.

قلت: لا يمكنني. لا يمكنني شرح جمال اللغة. وهذا شيء يصعب شرحه بيننا.

قبل يدي مجددا وقال: حسنا. لا تكوني متفائلة جدا. لا بد هناك أشياء كثيرة لا يسعنا تناولها بالكلام بيننا.

عدت إلى البيت بمحاذاة ضفاف نهر موي. لم تمطر ليوم كامل. البارات امتلأت قبل موعد العشاء. أشياء لا يمكننا تداولها بيننا. ماذا يعني بالضبط بذلك؟. هل يفكر بإيتو تيتسويا بالطريقة التي أتذكر بها الماضي. في الحقيقة يجب أن أعترف أنه لا يمكنني التأكد إذا كنا تكلمنا فعلا. مضى على ذلك فترة طويلة في أمريكا. بعد قص الحكايات والتعب والضنى مرات كثيرة، أصبح توماس في نيوجيرسي شخصية خيالية بنظري. من سيحدثني، بعد الجنس المضمخ بالروح، عن الأدب والموسيقا والبلاد واللغات بالإضافة لأشياء تافهة أخرى. ومع ذلك هناك ما يجب أن يحدث في القصة التي سأكتبها. قصة اليابانيين. ستكون حكاية مثالية. عندما رجعت إلى البيت شاهدت توماس قد عاد. وأدهشني أنه في المطبخ يطبخ.

سألته وأنا أتخلص من معطفي: ماذا تفعل؟.

قال ومغرفة كبيرة في يده: في طريق العودة إلى البيت ذهبت إلى السوبر ماركت الآسيوي الذي ذكرته نانا وحصلت على بعض الجايوزي. توقعت أنك ربما تفضلين تناول طعام صيني.

أسرعت إلى القدر لأفحصه قائلة: هل وضعتها؟ وهل غليت الماء أولا؟.

لاحقا تناولنا الجايوزي في وقت العشاء وأثنينا على أشجار التفاح الموجودة في الحديقة الخلفية. وهي تلمع تحت شمس الغروب الملتهبة. انتهى اليوم دون عناء، وترك فقط آثارا بلا شكل ولا ظل، كأنها قصة أخرى لهاروكي موراكامي.

***

...............................

يان جي Yan Ge  الاسم المستعار للكاتبة الصينية داي يوشينغ. وهي من سيشوان. تعيش في دبلن. لها 11 كتابا. منها “الحصان الأبيض” رواية قصيرة، “صورة الشيطان بالمرآة” رواية قصيرة، عائلتنا، وغيرها. حصلت على جائزة إذاعة الصين الأدبية. الترجمة من آيريش تايمز 2017.

 

بقلم: سالي روني

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

وقف ناثان قرب شجرة عيد الميلاد الفضية في صالة القادمين من مطار دبلن، ويداه في جيبيه. كان المدرج الجديد مضاء ونظيفا، ويحوي عدة سلالم متحركة. كنت للتو قد نظفت أسناني بالفرشاة في حمام المطار. حاولت حمل حقيبتي الدميمة على نحو مضحك. وعندما رآني ناثان سألني: ما هذا، حقيبة تبعث على الضحك؟.

قلت: تبدو بحالة طيبة.

أخذ الحقيبة من يدي. وقال: آمل أن لا يعتقد الناس أنني أحملها لأنها لي.

كان ما يزال بثياب العمل، بذة بحارة نظيفة جدا. ولا يمكن لأحد أن يعتقد أن البذة له. هذا واضح. وكنت أرتدي جوارب نسائية طويلة مثقوبة فوق أحد الركبتين، ولم أغسل شعري منذ غادرت بوسطن.

قلت: تبدو بحالة طيبة لدرجة غير معقولة. مظهرك أفضل من المرة الماضية التي رأيتك بها. توقعت أنني أتدهور. مع العمر. لكن شكلك جيد. ولا زلت شابا. كيف تتصرف، تمارس اليوغا أم ماذا؟.

قال: كنت أجري. وركنت السيارة هنا بالجوار.

في الخارج كانت الحرارة تحت الصفر، وتشكلت طبقة رقيقة من الجليد على زوايا لوح الزجاج الأمامي لسيارة ناثان. فاحت من داخل سيارته رائحة معطر الهواء، مع ماركة عطر الحلاقة التي يستعملها وهي “إيفينتس”. لم أكن أعرف اسم عطر الحلاقة ولكن عرفت شكل الزجاجة. كنت أراها أحيانا في الصيدليات وحين يكون يومي سيئا أفتح السدادة.

قلت: أشعر فيزيائيا أن شعري غير نظيف. ليس غير مغسول فقط ولكن متسخ عمليا.

أغلق ناثان الباب، ووضع المفاتيح في بادئ الحركة. اشتعلت اللوحة بألوان اسكندنافية لطيفة.

قال: ليس لديك أخبار خاصة لتخبريني بها شخصيا. أليس كذلك؟. 

وهل يفعل الناس ذلك؟.

هل ليك شيء من قبيل التاتو السري أو ما شابه؟.

قلت له: لو لدي لكنت أرسلتها كمرفقات بصيغة JPEG. صدقني.

كان يقود إلى الخلف ليخرج من باحة موقف السيارات، باتجاه الزقاق المرتب المضاء الذي يفضي إلى المخرج. وضعت قدمي على المقعد الأمامي، ليمكنني حضن ركبتي ولمس صدري بهما بصعوبة.

ثم قلت له: لماذا تسأل؟. هل جد جديد؟.

نعم. نعم. لدي صديقة الآن.

أدرت وجهي لمواجهته ببطء شديد، درجة بعد درجة. كما لو أنني شخصية في فيلم رعب بطيء.

قلت: ماذا؟.

قال: في الحقيقة سنتزوج. وهي حامل.

ثم أدرت وجهي كما كان بالسابق لأحدق في الزجاج الأمامي. طاف لون المكابح الأحمر الأمامي في السيارة  على الجليد مثل فعل الذاكرة.

قلت: حسنا. هذا شيء طريف. نكاتك مرحة دائما.

قال: ولكن يمكن أن يكون لي صديقة. نظريا.

سألته: عن ماذا سوف نضحك إذا معا فيما بعد؟.

نظر لي بينما الحاجز يرتفع من أجل سيارة أمامنا.

قال: هل هذا هو المعطف الذي اشتريته لك؟.

نعم. أرتديه ليذكرني أنك شخص حقيقي.

فتح ناثان نافذته، ووضع تذكرة في الآلة. من نافذة ناثان جاء هواء الليل اللذيذ والجليدي. نظر نحوي مجددا بعد أن أغلقها.

قال: أنا سعيد برؤيتك لأنني أعاني من مصاعب لو تكلمت بلهجتي الطبيعية.

هذا شيء جيد. كنت أتخيلك طيلة الوقت وأنا على متن الطائرة.

أتشوق كي تروي لي ذلك وأسمعه منك. هل تودين أن نشتري طعامنا ونحن في الطريق إلى البيت؟.

لم أخطط للعودة إلى دبلن في عيد الميلاد، ولكن والدي فرانك كان تحت العلاج من اللوكيميا في ذلك الوقت. وقد توفيت أمي من مضاعفات الولادة ولم يعاود فرانك الزواج، ولذلك، والكلام شرعا، كان هو عائلتي الوحيدة الحقيقية. وقد وضحت في إيميلي بعنوان “عطلات سعيدة” والذي أرسلته إلى زملاء الصف المستجدين في بوسطن أنه يموت الآن.

عانى فرانك من الوصفات الطبية. في طفولته كنت مرارا ما أمكث برعاية صديقاته، وكن لا يمنحنني محبتهن، ويهملونني، ولذلك أنطوي على نفسي وأقضم مثل النيص. كنا نعيش في المنطقة الوسطى، وعندما انتقلت إلى دبلن للدراسة في الجامعة، كان فرانك يخابرني، ويكلمني عن والدتي الراحلة. وأخبرني أنها ليست “قديسة”. ثم بدأ يطلب اقتراض بعض النقود. وفي السنة الجامعية الثانية لم يتبق معي مدخرات ولم يعد بمقدوري دفع الإيجار، فبحثت عائلة الوالدة على من يمكنني أن أعيش معه ريثما أنتهي من الامتحانات.

كانت أخت ناثان الأكبر متزوجة من أحد أعمامي، ولذلك انتقلت لأعيش معه. وكنت حينها بالتاسعة عشرة. كان هو يبلغ أربعا وثلاثين سنة ولديه شقة بغرفتي نوم جميلتين، ويعيش بمفرده، والشقة مجهزة  بمطبخ مطعم بالغرانيت. وفي تلك الفترة بدأ يعمل مع “برامج سوفت وير مسلكية”، وهو عمل له علاقة بمشاعر  وتصرفات الزبون. وأخبرني ناثان أن واجبه يتلخص بتحريك شعور الناس بالأشياء: ليشتروا أشياء سيحين دورها لاحقا. وجاء الوقت الذي اشترت غوغل فيه الشركة. والآن يربح الجميع رواتب مجزية ويعملون في بناء  تحتوي حماماته على مجففات يدوية عالية الثمن.

ارتاح ناثان لحياتي معه: ولم يطرأ شيء غريب عليه. كان نظيفا، ولا يثير المشاعر الجنسية. وكان طاهيا جيدا. ونشأ لدى كل واحد فينا اهتمام بالآخر. وكنت أقف معه كلما واجه خلافا حقيقيا في مكتبه، واشترى لي أشياء كنت أراها في نوافذ المتاجر وتعجبني. وكان المفروض أن أنتظر معه حتى نهاية الامتحانات في الصيف الماضي. ثم انتهى الأمر أن أبقى برفقته تقريبا ثلاث سنوات. عشق زملائي في الجامعة ناثان، ولم يفهموا لماذا ينفق كل هذه النقود علي. أنا تفهمت الموضوع كما أظن. ولكن لم أتمكن من توضيحه. أما أصدقاؤه على ما يبدو افترضوا وجود نوع من الترتيبات الشائنة، لذلك حينما يغادر الغرفة يتبادلون الغمزات.

قلت له: يعتقدون أنك تدفع لي لقاء شيء ما.

شجع ذلك ناثان على الضحك.

قال: ولكنني في الحقيقة لا أجني شيئا يعادل بقيمته ما أنفقه عليك من نقود. أليس كذلك؟. حتى أنك لا تغسلين ثيابك اللعينة.

في عطلة الأسبوع شاهدنا “القمتان التوأم” ودخنا الحشيش معا في غرفة معيشته، وعندما تأخر الوقت طلب طعاما لا يمكن لأي منا أن يأكله كله. في إحدى الليالي أخبرني أنه يستطيع تذكر يوم تعميدي. وقال إنهم قدموا الكيك. وكان فوقه ولد صغير من القشدة.  وأخبرني أنه طفل ظريف.

قلت: أظرف مني؟.

حسنا. نعم. أنت لست أظرف منه.

دفع ناثان نفقات سفري بالطائرة من بوسطن إلى البيت. وكل ما توجب علي أن أستفسر. في الصباح التالي بعد الحمام وقفت وشعري ينقط على السجادة في الحمام. وتفحصت مواعيد الزيارة المدونة في هاتفي. كان فرانك قد أصبح في مستشفى دبلن للعلاج الداخلي من عدوى ثانوية أصابته خلال العلاج الكيميائي. كان عليه تلقي المضادات الحيوية في  السيروم. بالتدريج في الحمام، وحينما كان البخار الحار يتلاشى، تغطي جسمي طبقة رقيقة من البثور الجلدية. وعلى المرآة اتضح انعكاس صورتي وأصبح رقيقا حتى أمكنني رؤية مسامي. في أيام الأسبوع كانت ساعات الزيارة من 6 حتى 8 مساء. وبما أنه تم تشخيص حالة فرانك قبل ثماني أسابيع، أنفقت ما توفر لي من وقت بالاطلاع على معلومات في الموسوعة عن سرطان الدم الليمفاوي المزمن. ولم يبق تقريبا شيء لم أطلع عليه. تجاوزت المنشورات المطبوعة من أجل المرضى، ووصلت إلى النصوص الطبية المعمقة، واتصلت بحلقة حوار عن السرطان في الإنترنت، وقرأت pdf المقالات المحكمة. ولكن لم أتوهم أنني ابنة طيبة، أو أنني أقوم بذلك كرمى لفرانك. كنت بطبعي أنكب على المجلدات الضخمة التي تقدم المعلومات في وقت الأزمة. كما لو أنني أتأقلم مع المشاكل وأسيطر عليها بالثقافة. وبهذه الطريقة علمت كيف أنه من غير المحتمل لفرانك أن يعيش. ولم يكن مستعدا ليخبرني بذلك. رافقني ناثان بالتسوق لأجل عيد الميلاد بعد الظهيرة، قبل زيارة المستشفى. زررت معطفي ووضعت قبعة فرو كبيرة لأبدو غامضة من خلال واجهات المتاجر. كان صديقي الأخير، والذي التقيت به في جامعة بوسطن، يقول عني “الصلبة”. ولكنه أضاف: “لا أقصد ذلك بالمعنى الجنسي”. ولكنني جنسيا، كما أخبرت صديقاتي،  دافئة جدا ومعطاءة. أما الصلابة فتأتي في السياق المعاكس بالضبط.

ضحكوا، ولكن على ماذا؟. كانت هذه هي نكتتي، ولذلك لم يمكنني أن أستفسر منهن.

كان لقرب ناثان الفيزيائي مني تأثير معوق. وكلما انتقلنا من متجر إلى آخر، يمر الوقت من جانبنا مثل المتزلج على الجليد. لم يسبق لي أن زرت مريضا بالسرطان من قبل. عولجت أم ناثان من سرطان الثدي في وقت ما من التسعينات. وكنت شابة وصغيرة جدا ولا يسعني أن أتذكر التفاصيل. وهي الآن معافاة، وتلعب الغولف كثيرا. وكلما قابلتها، تخبرني أنني تفاحة بعين ابنها. وتستعمل تلك المفردات بالذات. وكررت تلك العبارة، ربما لأنها بدون معنى شرير. ولعل هذا ينطبق علي لو أنني صديقة ناثان المقربة، أو ابنته. واعتقدت أنه بوسعي أن أحتل مكاني في طيف  يبدأ بصديقة وينتهي بابنة. ولكن سمعت ناثان في إحدى المناسبات يعرفني بصفة ابنة خاله، وهي طريقة استبعاد أمقتها.

ذهبنا من أجل غداء في شارع سوفولك، ووضعنا الحقائب الفخمة بما فيها من مشتريات تحت الطاولة. سمح لي أن أطلب النبيذ الفوار وأغلى وجبة رئيسية لديهم.

سألته: هل ستتفجع علي حال موتي؟.

لا يمكنني سماع كلمة مما تقولين. امضغي طعامك.

امتثلت له وابتلعته. راقبني في البداية ثم صرف نظره. قلت له: هل ستكون فاجعة كبيرة إذا مت؟.

أكبر مأساة يمكنني التفكير بها. نعم.

لن يحزن غيره.

قال: الكثيرون سوف يحزنون. أليس لديك زملاء دراسة؟.

منحني اهتمامه الآن، ولذلك قضمت لقمة أخرى من شريحة اللحم وابتلعتها قبل أن أتابع.

قلت: أنت تتكلم عن صدمة. ولكنني أقصد فاجعة.

وماذا عن صديقك السابق الذي أمقته؟.

دينيس؟. ربما سيعجبه أن أموت.

قال ناثان: حسنا. هذا موضوع آخر.

أنا أتكلم عن فاجعة كاملة. معظم من يبلغ أربعا وعشرين عاما يتركون وراءهم الكثير من المعزين، وهذا كل ما أقوله. ولكن في حالتي لا يوجد غيرك.

يبدو أنه فكر بذلك وأنا مشغولة بشريحة اللحم.

لست مرتاحا لهذا الكلام بيننا وإلحاحك على أن أتخيل موتك.

ولكن لماذا؟.

كيف سيكون شعورك إذا مت؟.

قلت: أردت أن أعلم أنك تحبني.

حرك بعض السلطة في طبقه بأدوات طعامه. كان يستعمل أدوات طعامه مثل البالغين، ولم يرمقني بنظرة ليتأكد إذا كنت معجبة بأسلوبه. ولكنني دائما أرمقه بنظرات نفاذة.

قلت: هل تتذكر ليلة رأس السنة قبل سنتين؟.

لا.

لا بأس. أيام وقفة العيد رومنسية جدا.

ضحك لذلك. كنت ماهرة بإضحاكه حتى لو أنه لا يرغب بالضحك.

قال: تناولي طعامك يا سوكي.

سألته: هل بوسعك أن تقودني إلى المستشفى في السادسة.

نظر ناثان لي كما لو أنه يوحي أنه مستعد للأمر. كان الواحد منا يتوقع الآخر. مثل نصفين في دماغ واحد. أمام واجهة المطعم بدأ سقوط البرد، وتحت ضوء الشارع البرتقالي ظهرت رقاقات الثلج كأنها علامات ترقيم.

قال: بالتأكيد. هل تريدين مني أن أدخل معك؟.

كلا. سوف ينفر من حضورك بكل الأحوال.

لست مهتما به. ولكن لا بأس.

في السنوات الأخيرة، وهو تحت قبضة أدوية تتضمن الأفيون، كانت حالة فرانك الذهنية غير مستقرة، وتماسكه متذبذب كما يمكنك القول. وأحيانا كان يستعيد نفسه على الهاتف: فيتشكى من تذاكر مواقف السيارات، أو أنه يسمي ناثان بأسماء ساخرة مثل “السيد راتب”. كانا يتبادلان البغضاء، وكنت أتوسط بين هذه الكراهية المتبادلة بطريقة جعلتني أبدو فيها أنثى ناجحة. في أوقات غيرها، كان يحل محل فرانك رجل آخر، شخص بلا ميزة وبريء بطريقة ما، ويكرر الأشياء بلا معنى ويترك فترات صمت طويلة أحاول ملأها. ولكنني كنت أفضل الأول، لأن لديه على الأقل أخلاق مرحة. قبل تشخيص اللوكيميا، كنت أمزح وأصف فرانك ب “الأب المستبد” كلما حان وقت الموضوع في حفلات الجامعة. وينتابني الإحساس بالذنب قليلا الآن. كان غير متوقع، ولكنني لم أكن أرهب جانبه، ومحاولاته في التلاعب، مع أنها ثقيلة، لم تؤثر بي. لم أكن مكشوفة له. وعاطفيا، كنت أنظر لنفسي مثل كرة ناعمة ولكن صلدة. لم يمكنه شرائي. وكنت أنأى بنفسي. وفي أثناء المكالمات الهاتفية، زعم ناثان أن التباعد استراتيجية أتبعها للتأقلم. كان التوقيت في بوسطن، حينما خابرته، الحادية عشرة ليلا. وهذا يعني أنه الرابعة صباحا في دبلن، ولكن ناثان يرد على الاتصال دوما.

قلت له: هل أبتعد عنك؟.

قال: كلا. لا أعتقد أنني أضغط عليك كثيرا.

آه. لا أعلم. هيا أخبرني هل أنت في السرير؟.

الآن؟. بالتأكيد. أين أنت؟.

كنت أيضا في السرير. وليست هذه أول مرة أتصل به من السرير، وضعت يدي بين ساقي، وتظاهر ناثان أنه لم ينتبه. قلت له: يعجبني صوتك. وبعد عدة ثوان من الصمت المطبق، أجاب: نعم. أعلم أنه يعجبك.

طيلة حياتنا المشتركة معا، لم يكن لديه صديقة، ولكنه يأتي أحيانا إلى البيت متأخرا، ويمكنني سماع صوته من وراء جدار غرفة نومي وهو يعاشر الامرأة الأخرى. ولو تصادف وقابلت المرأة في الصباح التالي، أتأملها خفية لأقرر إذا ما كان هناك أي تشابه فيزيائي بيننا.

بهذه الطريقة وجدت أن الجميع بمعنى من المعاني متشابهون. لم أشعر بالغيرة. وفي الحقيقة كنت متحمسة لهذه المواقف بالنيابة عنه. ولكن لست متأكدة تماما إذا كان يسعده ذلك كثيرا.

لعدة أسابيع متتالية الآن كنت أنا وناثان نتبادل الإيميلات عن تفاصيل رحلتي الجوية، وخططنا لعيد الميلاد، وإن كنت أتصل بفرانك. أرسلت تفاصيل قراءاتي، واقتبست من مقالات أكاديمية أو من مواقع مؤسسات السرطان. وذكرت المواقع أنه في اللوكيميا الوعائية تنضج الخلايا جزئيا ولكن ليس كليا. وتبدو هذه الخلايا طبيعية ولكنها ليست كذلك. 

حينما وصلنا إلى أمام المستشفى في تلك الليلة، ذهب ناثان إلى موقف السيارات، فقلت: أنت انصرف. سأعود مشيا إلى البيت. نظر نحوي ويداه على المقود بالوضع المتأهب، كما لو أنه في امتحان القيادة، وأنا أفحصه. قلت له: اذهب. المشي ينفعني. أعاني من إرهاق الطيران.

نقر بأصابعه على المقود. وقال: حسنا. اتصلي بي إذا عاود المطر بالهطول. اتفقنا؟.

غادرت السيارة، وابتعد بها دون أن يلوح لي. شعرت بحب جارف ومستنفذ له، حتى أصبح من المستحيل أن أراه كما هو بوضوح. إذا ابتعد عن اتجاه نظري لأكثر من ثوان قليلة، لا يمكنني أن أتذكر شكل وجهه. قرأت أن صغار الحيوانات ترتبط بأشياء غير معقولة أحيانا، مثل الصقور حين تسقط بغرام مربيها، أو الباندا حين تتعلق بحارس حديقة الحيوانات، أشياء من هذا النوع. في إحدى المناسبات أرسلت إلى ناثان قائمة بمقالات عن هذه الظاهرة. أجابني: ربما تعين علي أن لا أحضر حفل تعميدك.

قبل عامين من الآن، حينما كنت بعمر سنتين، رافقته إلى حفلة عيد أول العام وعدنا إلى البيت بسيارة أجرة وكنا ثملين جدا. وحينها كنت أعيش معه، وأعمل على إنهاء درجتي الجامعية. وراء باب شقته، قبلتي ونحن نستند على جدار يحمل خطاف المعطف. انتابتني الحمى وشعرت بالغباء مثل إنسانة عطشانة وفجأة انسكب ماء غزير في فمها. ثم همس في أذني: ليس علينا أن نفعل هذا حقا. كان في الثامنة والثلاثين. وهكذا قضي الأمر. وذهب إلى السرير. لم نتبادل القبلات ثانية. حتى أنه نفى ذلك حينما تكلمت عن الموضوع بطرافة، وكانت هذه أول مرة لا يلتزم معي بالأصول والدماثة. قلت له بعد أسابيع: هل أخطأت بشيء معك؟. ولم تكمل ما بدأنا في تلك المرة. كان وجهي يحترق، وشعرت بالأمر. قطب وجهه. ولكنه لم يرغب بإيذائي. فقال: كلا. وانتهى الأمر. وهكذا.

كان للمستشفى باب دوار، وتفوح منه روائح المطهرات. ولونت المصابيح السجادة بلون رمادي، وكان الناس يثرثرون ويبتسمون، كما لو أنهم في صالون مسرح أو جامعة وليس بناء للمرضى والمحتضرين.

قلت لنفسي: يحاولون أن يكونوا شجعانا. ثم أضفت: وربما بعد قليل ستكون هذه هي الحياة. تبعت الإشارات إلى الطابق العلوي وسألت الممرضات عن غرفة فرانك دوهيرتي. قالت الممرضة الشقراء: لا بد أنك ابنته. سوكي. أليس كذلك؟. اسمي أماندا. بوسعك أن تتبعيني. 

 أمام غرفة فرانك، ساعدتني أماندا بارتداء مريول بلاستيكي حول وسطي، وربطت كمامة طبية ورقية خلف أذني. وقالت إن هذا لمصلحة فرانك وليس من أجلي. فجهاز مناعته أصبح ضعيفا ولكنني لست كذلك. طهرت يدي برشة كحول بارد ومرطب. ثم فتحت أماندا الباب. قالت له: ابنتك هنا. رأيت رجلا صغيرا يجلس على السرير بقدم مضمدة. كان بدون شعر وجمجمته مستديرة مثل كرة مسبح زهرية اللون. وكان فمه متورما. قلت: آه. حسنا. كيف الحال.

في البداية لم أعلم إذا تعرف علي، ولكن حينما ذكرت اسمي كرره عدة مرات. جلست. سألته هل جاء إخوته وأخواته لزيارته. لم يكن يبدو أنه يتذكر. وحرك إبهامه إلى الأمام والخلف قسرا، أولا باتجاه، ثم باتجاه آخر. وعلى ما يبدو أخذ ذلك اهتماما كبيرا منه، ولم أتأكد إن كان يصغى لي. قلت: بوسطن ممتازة. باردة جدا في هذا الوقت من السنة. آل شارلز كانوا متجمدين عندما غادرت. وشعرت كأنني أقدم عرضا إذاعيا عن الرحلات وذلك لجمهور غير مهتم. حرك إبهاميه إلى الخلف والأمام. ثم إلى الأمام والخلف. قلت: فرانك؟. دمدم بشيء، وفكرت: حسنا. حتى القطط تعرف أسماءها.

قلت: كيف تشعر؟.

لم يرد على السؤال. هناك جهاز تلفزيون مثبت على الجدار بمكان مرتفع.

قلت: هل تشاهد التلفزيون في النهار لأوقات طويلة.

وتوقعت أن لا يرد، ولكنه من حيث لا أدري قال: الأخبار.

قلت له: تتابع الأخبار؟.

لم يتأثر.

قال فرانك: أنت مثل أمك.

حدقت به. وشعرت أنني أبرد أو ربما أسخن. شيء غير مفيد طرأ على حرارتي.

ما المعنى؟.

قال فرانك: لديك فكرة أي نوع من الناس أنت. أليس كذلك؟. كل شيء عندك تحت السيطرة. زبونة جيدة. حسنا. سنرى مدى تماسكك وبرودك حين تتركين وحدك. إممم؟. ستكونين هادئة جدا على الأرجح.

كان يبدو أن فرانك يخاطب بكلامه الإبرة المغروسة في عروق جسمه الخارجية من ذراعه الأيسر. وكان يتابع بلامبالاة مميتة وهو يتكلم. وانتبهت لارتعاش صوتي مثل مشاركة سيئة في كورال.

قلت: ولماذا يجب أن أبقى وحدي.

قال: لأنه سينصرف وسيتزوج.

من الواضح أن فرانك لم يتعرف علي. وأدركت ذلك، فتراخيت قليلا، ومسحت طرفي عيني بالقناع الورقي. كنت تقريبا أبكي. ربما كنا غريبين نتكلم عما إذا كانت ستثلج أم لا؟.

قلت: ربما سأتزوجه.

ضحك فرانك على ذلك. تمثيلية بدون سياق واضح، ولكنه أمتعني بكل حال. كنت أحب أن أجني من كلامي ضحك الآخرين.

سيفقد الأمل. وفي النهاية سيجد إنسانة شابة.

أصغر مني؟.

حسنا. أنت تفهمين أليس كذلك؟.

ضحكت. منح فرانك أنبوب السيروم ابتسامة ودودة.

قال: ولكنك بنت مستقيمة مهما قالوا.

بهذه الهدنة الغامضة انتهى حوارنا. حاولت أن أكلمه أكثر، ولكن بدا أنه غير قادر على التواصل، أو أنه ضجر جدا. مكثت ساعة، مع أن وقت الزيارة ساعتان. وحين قلت إنني مغادرة، لم يلاحظ كلامي على ما يبدو غادرت الغرفة. وأغلقت الباب بحرص. وأخيرا تملصت من قناعي الورقي ومن المريول البلاستيكي. ضغطت على زر منفذ السائل المطهر حتى ابتلت يداي. كان باردا. ولدغني. دعكتهما حتى جفتا. وغادرت المستشفى. كانت تمطر في الخارج. ولكن لم أتصل بناثان. ومشيت كما لو أنني قررت ذلك، وغطيت بقبعتي المصنوعة من الفرو رأسي حتى أذني ووضعت يدي في جيبي. وأنا أقترب من تارا ستريت رأيت حشدا صغيرا يحيط بالجسر من جانبي الطريق. الوجوه وردية في الظلام وبعضهم يحمل المظلات. وفوقهم صالة ليبرتي ممدودة بشكل قوس  يشبه الأطباق الصناعية.  كانت تمطر بضباب رطب وغريب، وجاء قارب إنقاذ على طول النهر بأنوار مشتعلة. في البداية كان الزحام يبدو كأنه كتلة واحدة غامضة، وتساءلت هل يجري عرض باحتفال ما، ثم رأيت ما ينظر إليه الجميع: شيء يطفو على النهر. ولاحظت جوانبه والقماش التي يتسرب منه. وكان له حجم كائن بشري. ولم يعد للحشد إيحاء بتجمع أو احتفال. اقترب الزورق بشعلته البرتقالية التي تدور بصمت. ولم أقرر المغادرة. وتوقعت أنني لا أرغب برؤية جسم إنسان ميت، وهو يحمل من نهر ليفتي بقارب إنقاذ. ولكن انتظرت. وقفت بجوار زوج اثنين آسيويين، امرأة حسنة المظهر بمعطف أسود أنيق ورجل يتكلم بالهاتف. ظهرا لي زوجا رائعا، شخصين انجذبا إلى هذه الدراما ولكن ليس بسبب المتعة الرخيصة، وإنما بسبب التعاطف. وتحسن شعوري حيال وجودي هناك حينما انتبهت لهما.

وضع رجل من قارب الإنقاذ قضيبا بخطاف في الماء، بحثا عن أطراف الشيء. ثم بدأ يجره. خيم علينا الصمت: وحتى أن الرجل صمت عن مكالمته بالهاتف. وظهرت قطعة القماش بصمت مطبق، وخرجت مع الخطاف فارغة. ودبت الفوضى لدقيقة: هل تم تعرية الجسم من ثيابه؟. ثم أصبحت الصورة واضحة. القماش هو الشيء ذاته. وكان كيس نوم يطفو على وجه النهر. عاد الرجل إلى مكالمته بالهاتف. والمرأة ذات المعطف بدأت بتوجيه إشارة له عن شيء ما كأنك تقول: تذكر أن تسأل عن الوقت. وبعدئذ أصبح كل شيء طبيعيا وبسرعة.

ابتعد قارب الإنقاذ، وانتظرت وكوعاي على الجسر. وجهاز دورتي الدموية يعمل بشكل اعتيادي، وخلاياي تكبر وتموت بمعدل طبيعي. لا شيء في جسمي يحاول أن يقتلني. وطبعا كان الموت شيئا طبيعيا محتملا. وبمرحلة ما تيقنت من ذلك. ومع ذلك وقفت بانتظار رؤية الجثمان في النهر. متجاهلة الأحياء الذين تحلقوا حولي، كما لو أن الموت معجزة تتجاوز معجزة الحياة. كنت معتادة على البرد. وكان الجو أبرد مما يسمح بالتفكير بالأشياء القادمة. وحتى وقت عودتي إلى الشقة تخلل المطر معطفي، وفي الردهة رأيت قبعتي بالمرآة كأنها فأرماء قذر وقد يستيقظ بأي لحظة. تخليت عنها مع المعطف. قال ناثان من الداخل: سوكي.

رتبت شعري بشكل لائق. قال: كيف تم الأمر؟. دخلت. كان على الكنبة، وفي يده اليمنى ريموت التلفزيون.

قال: أنت مبتلة جدا. لماذا لم تتصلي بي؟.

لم أرد.

أضاف ناثان: هل من أمر سيء؟.

هززت رأسي. كان وجهي باردا، يلتهب بالبرد، وأحمر كإشارة مرور. ذهبت إلى غرفتي، وتخلصت من ثيابي المبتلة، وعلقتها. كانت ثقيلة، وتتمسك بشكل جسمي في ثنياتها. سرحت شعري وارتديت ردائي الفضفاض  المطرز وشعرت بالنظافة والتماسك. فكرت: هذا ما تصنعه الكائنات البشرية بحياتها. أخذت نفسا عميقا للتماسك ثم غادرت إلى غرفة المعيشة. كان ناثان يشاهد التلفزيون، ولكنه ضغط على زر كاتم الصوت حينما رجعت. جلست على الكنبة بجانبه وأغلقت عيني وحينها مد يده ليلمس شعري. اعتدنا على مشاهدة التلفزيون هكذا، وهو يلمس شعري بهذه الطريقة تماما. دون انتباه. وكان شروده مريحا لي. بطريقة ما أردت أن أعيش فيه، كأنه مكان بحد ذاته، حيث لا يشعر أنني دخلت. وفكرت أن أقول: لا أريد العودة إلى بوسطن. وأريد أن أعيش معك هنا. ولكن قلت: شغل الصوت إذا كنت تشاهده، فأنا لا أمانع.

ضغط على الزر مجددا، وعاد الصوت، موسيقا صاخبة تلدغ السمع، وصوت أنثى تشهق. فكرت: جريمة وحينما فتحت عيني رأيت مشهدا جنسيا. وكانت على يديها وركبتيها والشخصية المذكرة وراءها.

قلت: أحبه هكذا. من الخلف. أقصد. بهذه الطريقة يمكنني أن أتخيل أنه أنت.

سعل ناثان، وأبعد يده عن شعري. ثم قال بعد ثانية: عموما أنا أغلق عيني. انتهى المشهد الجنسي. وأصبحا في صالة محكمة. سال لعاب فمي. وقلت له: هل يمكننا أن نتناكح؟. ولكن بجدية.

نعم. كنت أعلم أنك ستقولين ذلك.

هذا سيحسن شعوري كثيرا.

قال ناثان: يا للمسيح.

ثم مال للصمت. وكنا متأهبين لمتابعة حوارنا. لكنني بردت. ويمكنني الإحساس بذلك. لمس ناثان كاحلي، وبدأت أهتم بدون تركيز بحبكة الدراما التلفزيونية.

قال ناثان: هذه ليست فكرة حسنة.

لماذا؟. أنت تحبني أليس كذلك؟.

على نحو شرير.

قلت له: ولكنه طلب منة صغيرة واحدة.

كلا. دفع نفقات عودتك بالطيارة كان منة صغيرة. ولن نتجادل حول هذا. فهي ليست فكرة جيدة.

في السرير في تلك الليلة سألته: متى سوف نعلم إن كان هذا فكرة سيئة أم لا؟. ثم هل علينا أن نعلم؟. كل شيء يبدو حاليا على ما يرام.

قال: كلا. الوقت مبكر جدا. وأعتقد أنه حينما تعودين إلى بوسطن سيكون لدينا وجهة نظر أخرى.

لن أعود إلى بوسطن. لكن لم أقلها. هذه الحوارات قد تبدو طبيعية. ولكنها ليست كذلك.

***

......................

سالي روني  Sally Rooney روائية معاصرة من إيرلندا. أحدث أعمالها رواية صدرت عام 2024 بعنوان “الاستراحة بين الفصلين”.

بقلم: رينا بريست

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

العلامة

في البدء كان ظلام،

ثم حزمة من امور اخرى—والكثير من الناس.

بعض الأمور قيلت وفسرت على نحو فضفاض،

**

او ربما لم يتم ابلاغ الأمور بوضوح.

بصرف النظر—لقد كان هناك دائما علامة.

ذلك الأمر الذي يخص الوديعين—

**

كيف سنرث الأرض؛ كان ذلك وعدا

اعطي في معاهدة عند فجر الزمن

واتفق عليه في ظلام بدائي

**

ووثق في سجل روحي.

كانت طبيعة الاتفاق هكذا:

سيبدو ان العالم سيدفع باتجاه يتجاوز فيه قدرته الاستيعابية.

**

سيتم "اكتشاف" كوكب جديد يبعد عنا 31 سنة ضوئية.

السفر عبر الفضاء سيتطور تطورا سريعا،

مما يجعل الرحلات سهلة ومتاحة. صفائح الجليد ستذوب.

**

ستصبح الأمور قبيحة. سيكون السبيل الوحيد للمغادرة

هو ان تشتري تذكرة. سيتم تسعير التذاكر

بالمبلغ الذي يمكن ان ينتج عن

**

التخلي عن الانسانية الأساسية.

ستبين العلامة كيف كسبت ثروتك:

اذا ارتكبت جريمة قتل، او مارست الاتجار بالبشر او استغللت الضعفاء،

**

او سرقت او ابتززت او سممت او خدعت او غششت

او بطريقة اخرى اخضعت الطبيعة لتحقيق ثروة

تكفي لأن تكون ثمنا لعبورك الى الأرض الجديدة؛

**

ان فعل اسلافك هذه الأشياء وانت لا تقوم بشيء

كي تنتفع من جرائمهم بل لا تفعل شيئا للتعويض

من خلال اعادة الثروة الموروثة الى الصالح العام

**

فسوف تمنح العبور. تم الاتفاق على ذلك.

الوديعون سوف يمكثون، الأقوياء سوف يغادرون.

وكل شيء سيبدأ ثانية.

**

سيرث الوديعون الأرض،

وما الذي سنفعله نحن بخصوص ذلك

سوى ان نضع وداعتنا جانبا؟

***

........................

* شاعرة وكاتبة تنتمي الى قبيلة اللومي (او اللاقتأميش) من قبائل السكان الأصليين لأميركا الشمالية. تلقت تعليمها في كلية سارة لورنس. نشرت ثلاث مجموعات شعرية ونالت جوائز عديدة من بينها جائزة الكتاب الوطني الأميركية..

مقتطف من رواية "فقط دخان" لخوان خوسيه مياس

(ترجمة: توماس بونستيد ودانيال هان)

ترجمها إلى العربية: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

النص التاي من رواية " فقط دخان " لخوان خوسيه مياس. لقد حاز ميلاس على أعرق الجوائز الأدبية في إسبانيا: جائزة نادال، وجائزة بلانيتا، وجائزة الرواية الوطنية. ألّف العديد من مجموعات القصص القصيرة والأعمال غير الروائية، بالإضافة إلى أكثر من اثنتي عشرة رواية، منها ثلاث نُشرت في أمريكا الشمالية: " فقط دخان "، و"لا تدع أحدًا ينام"، و"من الظلال". وهو مساهم منتظم في صحيفة El País,/ البلد، وحاز أيضًا على العديد من الجوائز الصحفية.

بعد إنهاء جميع الأوراق المتعلقة بالميراث، توجهت الأم وابنها إلى شقة الأب ليأخذا المفاتيح ويتفقدا ما يجب التخلص منه وما ينبغي الاحتفاظ به قبل عرض الشقة للإيجار. كانت الأمطار تهطل بغزارة، وكان هناك ظلام يخيّم على المدينة كما لو أنه كسوفٌ أخلاقي.

كانت الساعة الخامسة مساءً.

تقع الشقة في الطابق العاشر من مبنى مكوّن من خمسة عشر طابقًا، تُطل معظم نوافذه على الطريق الدائري إم -40، أحد الطرق السريعة التي تحيط بمدريد. وقف كارلوس مسحورًا لبعض الوقت، يحدّق في المركبات التي تدور هناك في الأسفل، ملتصقة ببعضها البعض، بينما يتناثر من عجلاتها رذاذ الماء مثل المراوح. ثم أفاق من شروده عندما سمع صوت أمه.

قالت: "سأبدأ بغرفة النوم"، وكأنها تمنحه بعض الوقت لنفسه—لعلها، كما افترض الفتى، أرادت أن تتيح له فرصة للتواصل التخاطري مع الرجل الميت، بعدما حرمته من ذلك حين منعته من حضور الجنازة.

عندما اختفت المرأة في نهاية الممر، أخذ كارلوس يذرع غرفة الجلوس ذهابًا وإيابًا، محاولًا تخيّل والده في هذا الحيز الذي، لولا الكتب التي تكسو الجدران، لبدا خاليًا ومجردًا من الطابع الشخصي. الأثاث، الذي كان كله من الإنتاج السوقي، كان باهت الملامح بلا أي تميز. لكن، في الجهة المقابلة للتلفاز، كانت هناك مقعد جلدي قابل للإمالة، لا ينسجم مع بقية الأثاث: بدا كأنه بذخ لا مبرر له. فكّر الشاب: من ذاك المقعد، كان والدي يشاهد الأفلام المرتبة بعناية على رفوف خصصت بوضوح لهذا الغرض، منفصلة عن رفوف الكتب. لم يكن كارلوس من هواة السينما، ولا من القرّاء، لذا لم يتوقف طويلًا عند عناوين الكتب أو الأفلام.

تحرّك بحذر، كمتسلّل يشعر أنه دخيل، وسرعان ما وجد نفسه في الممر حيث تصطف أربعة أبواب (ثلاث غرف نوم وحمام، كما افترض، لأن المطبخ كان بجوار المدخل). كانت أمه تفتش في غرفة النوم في نهاية الممر، فدخل إلى الغرفة الأولى على اليمين، والتي بدت وكأنها مكتب أستاذ. وعلى المكتب، الذي كان بسيطًا ومرتبًا، لم يستطع إلا أن يلاحظ دفترًا ذا غلاف ناعم، وقد كُتبت صفحاته الأولى بخط يد واضح لكنه متوتر، وهو ما عزاه إلى والده.. وقد تأثر بهذا الاكتشاف، ففكّ قميصه من البنطال، وحرصاً على عدم إتلاف الدفتر، خبّأه عند أسفل ظهره، مشدوداً تحت حزامه. ثم أعاد قميصه إلى مكانه، ومشى بضع خطوات ليتأكد من أن الدفتر ثابت في موضعه.

ثم، متظاهرًا برباطة جأش لم يشعر بها، توجه إلى حيث كانت والدته تنظر بتأمل إلى الأغراض في غرفة النوم، والتي كانت قليلة ومتباعدة أيضًا. بدت عليها خيبة الأمل.

قالت:

"الأمر صادمٌ للغاية!"

فأجابها كارلوس:

"أجل."

سألته:

"ماذا كنت تفعل؟"

" كنتُ فقط ألقي نظرة هناك."

"هل وجدت شيئًا مثيرًا للاهتمام؟"

"لا، لا شيء. الكثير من الكتب."

ألقى الفتى نظرة حذرة داخل الحمّام الملحق بغرفة النوم، والذي كانت رائحته كرائحة حمّام استُخدم فعلًا. ظن أنه يشم رائحة عرق جسد، ذكرته برائحته هو. وعلى المغسلة رأى ماكينة حلاقة كهربائية من نفس الماركة التي يملكها، وكوبًا بلاستيكيًا يخرج منه فرشاة أسنان.

وفي غرفة النوم الثالثة، التي قد تكون مخصصة للضيوف، عثرا على طاولة كيّ وكمية من القمصان المجعدة على السرير.

قمصان والده.

*

كان الظلام قد حلّ حين انطلق كارلوس ووالدته عائدين إلى المنزل. كانت الأمطار قد توقفت. ومن حين لآخر، كان البرق يضيء السماء، يتبعه الرعد بلا خطأ. قادا السيارة والنوافذ مفتوحة، إذ كان شهر يونيو قد دخل بقوة والجو معتدل. كان من الجميل استنشاق ذلك الهواء الرطب بعد أشهر من التلوث والجفاف. كانت والدته تقود. لم يكن لدى كارلوس رخصة قيادة؛ لم يشعر قط برغبة في تعلّم القيادة.

سأل:

"لماذا كان يعيش وحده؟"

فأجابت والدته، كما لو كانت تردد ترنيمة محفوظة:

"لأنه كان رجلاً معذّبًا، والرجال المعذّبون عادةً ما يعيشون وحدهم."

"أنتِ أيضًا تعيشين وحدك."

"أنا أعيش معك. ثم إن لديّ حبيب. سأحضره إلى البيت يومًا ما، سترى."

"لم يكن لديه الكثير سوى الكتب والأفلام."

"من؟"

"من تظنين؟ أبي."

"هذا أفضل. تفريغ بيت قد يكون كابوسًا."

*

في وقت لاحق، وبعد أن تأكّد من أن والدته قد ذهبت إلى سريرها للنوم، أغلق كارلوس باب غرفته على نفسه، وفتح دفتر والده للمرة الأولى، وأخذ يقرأ:

إنه الموت، هي من تدفعني إلى كتابة هذه السطور.

موت فتاة في العاشرة من عمرها كانت ابنتي، وإن لم يعرف ذلك أحد سوى أمها وأنا.

لقد قتلتها، رغم أنني لا أستطيع إثبات ذلك.

أعيش في هذه الشقة منذ ما يقرب من عشرين عامًا، منذ أن انفصلت عن زوجتي، بعد وقت قصير من إنجابنا لولد سمّيناه باسمي. كارلوس، الذي انقطعت علاقتي به خوفًا من أن أحبه.

اخترت، كي أُبعد نفسي عن ابني، أن أتلاشى تدريجيًا، أن أُطيل أمد الانسحاب لأشهر، حتى لا تكون القطيعة موجعة لأي منا.

ومع ذلك، تركت القطيعة جرحًا في داخلي، لم يكن عميقًا أبدًا، لكنه لم يلتئم ولم يتحول إلى ندبة، وها هي الآن تسبب لي ألمًا مستمرًا، وإن كان أقل حدة، على ما أظن، من ألم حب الأبناء حين تدرك أن كل نبضة في قلوبهم حدث لا تفسير له؛ كل نفس يتنفسونه واقعة فريدة؛ وكل رمشة جفن منهم معجزة.

الطريقة التي اتبعتها في التوقف عن كوني أبًا له كانت، باختصار، أن أُبعِده عني، أن أُقصيه من حياتي.

وهذا بالضبط ما فعلته مع أول وآخر رواية حاولت كتابتها، والتي تركتها غير مكتملة ثم أحرقتها في النهاية، كما لو أنني أتخلّص من شاهد على جريمة.لقد آلمني ذلك أيضًا، لكن ليس بقدر ما آلمني الصراع من أجل أن أمنحه بداية جيدة في الحياة.

وعدت نفسي آنذاك بأني لن أكتب مجددًا، ولن أنجب أطفالًا مرة أخرى، وقد أوفيت بهذا الوعد، إلى أن انتكست الآن، وأنا أروي على هذا الورق شيئًا لا يستطيع تحمّله إلا الورق نفسه.

إذًا… لنبدأ.

قبل نحو اثني عشر عامًا، انتقل زوجان شابان حديثا الزواج إلى الشقة المجاورة لشقتي، وسرعان ما نشأت بيننا علاقة صداقة وثيقة جدًا.

الزوج، بسبب طبيعة عمله، كان يسافر كثيرًا، لذا أصبح من المعتاد أن نلتقي أنا وزوجته بمفردنا، وغالبًا في شقتي. أميليا — هكذا كان اسمها — كانت تحب القراءة، وكانت تجد متعة كبيرة في استعارة الكتب مني. وبما أنني تعرّفت إلى ذوقها سريعًا، فقد كانت اقتراحاتي غالبًا ما تصيب الهدف.

شخصيات الروايات — فهي لم تكن تقرأ سوى الروايات — بدأت تربط بيننا بروابط تجاوزت حدود الصداقة.

أحيانًا، عندما يكون زوجها مسافرًا، كنا نقضي الليل معًا.

ليس الليل بأكمله؛ بل كانت تغادر في ساعات الفجر الأولى، تفتح باب الشقة المجاورة، وتدخل إلى سريرها، الذي، من حيث ترتيب البيتين المتناظر، كان بمثابة انعكاس لسريري.

لم أرَ أي خطر في ما كنا نقوم به، لأنها، مثلي، كانت حذرة للغاية، ومثلي تماما، لم تكن تطالب بأن تتطور العلاقة إلى شيء آخر. ولم يكن يبدو أننا نخون زوجها، لأن علاقتها به، حسب ما كانت تقوله لي أميليا، لم تزد إلا تحسنًا منذ بدأت علاقتنا.

في أحد الأيام، أخبرتني أميليا بأنها حامل، مؤكدة أنني الأب الوحيد الممكن. قالت إنها قامت بحساباتها وتعرف تمامًا الليلة واللحظة التي تم فيها الحمل.على الفور، ارتفع حذري، لكنّها، وبصبر كبير، هدّأت شكوكي: ستتظاهر بأن الطفل هو ابن زوجها.

وبعد أن حُسم الأمر، توقفنا عن اللقاء على انفراد.

صدّقتها، لأنها كانت امرأة ذات قناعات راسخة، وهكذا، وبعد أن تجاوزت لحظات الشك والذعر الأولى، بدأت فكرة أن أكون أبًا سرًا، ومن دون أي التزامات، تثير فيّ شيئًا من الحماسة: أن أكون أبًا من دون متاعب الأبوة، لكن طفلتي — فقد عرفنا سريعًا أنها فتاة — ستكون على مقربة مني ، في الشقة المجاورة تمامًا.سأراها تكبر، وسأقدّم لها الهدايا في عيد ميلادها، وربما تناديني "عمو".

عمو كارلوس .كان ذلك يبدو لي رائعًا .ربما هذه التجربة الثانية في الأبوة ستخفف من الألم الذي سبّبته لي التجربة الأولى.

وُلدت الطفلة، ماكارينا، وقدّمت يد العون للوالدين الجديدين.وبمرور السنوات، أصبحت بالفعل بمثابة عمّ لها، ولحسن الحظ، لم ترث مني أية ملامح جسدية — كانت تشبه أمها كثيرًا.كثيرًا ما كنت أعتني بها حين يضطر والداها للخروج، وكنت أفعل ذلك بسرور بالغ، فقد كانت طفلة ذكية وفضولية للغاية، وكانت تستمتع بصحبتي كما كنت أستمتع بصحبتها.

وعندما بلغت ماكارينا الخامسة من عمرها، انفصل والداها، وهو ما زاد من عمق علاقتي بها وبوالدتها، حتى أصبحنا، رغم أننا نسكن في منزلين منفصلين، أسرة حقيقية. في بعض الأمسيات، كنت أذهب لاصطحابها من المدرسة، وأعيدها إلى شقتي، وأساعدها في أداء واجباتها، كي تنتهي منها سريعًا وتتمكن من مشاهدة التلفاز قبل أن تأتي والدتها لتأخذها.

كانت أحيانًا تروي لي حكايات عن المدرسة وصديقاتها بينما نتقاسم طبقا من الفستق الحلبي، الذي كانت تحبه كثيرًا.كنت أراقب حركاتها بعناية، محاولًا أن أجد في ملامحها أو سلوكها شيئًا يشبهني، ومع ذلك، لحسن الحظ، لم أجد.

كانت حياتنا تسير بهدوء نسبي، ومع ذلك، لم أستطع إنكار أن تحت ذلك الهدوء كان الشيطان نفسه يتقلب، ذاك الذي دفعني من قبل إلى هجر عائلتي الأولى وتدمير روايتي غير المكتملة.

ثم، منذ أيام، أخبرتني ماكارينا أن شيئًا غريبًا جدًا حدث لها. قالت:

"لم أخبر أحدًا بهذا."

سألتها، محاولًا أن أبدو مهتمًا أكثر مما كنت في الحقيقة:

"ما هو؟"

فقالت:

"فراشة بيضاء خرجت من أذني."

عندما قابلتُ كلامها بصمت بارد، وربما ساخر، أضافت أنها كانت وحدها في البيت، لأن أمها ذهبت إلى كشك الجرائد في الشارع.

كانت تحلّ جدول الضرب لكنها تركته للحظة لتذهب إلى المطبخ وتأخذ قطعة شوكولاتة.

ثم، بينما كانت واقفة هناك، وهمّت بمد يدها إلى الخزانة، شعرت بوخز في أذنها اليمنى، وحين رفعت يدها لتحكّها، لاحظت أن شيئًا ما كان يحاول الخروج. أزاحت إصبعها، وفورًا خرجت فراشة بيضاء، ليست كبيرة جدًا،رفرفت قليلًا بالقرب من السقف، ثم حطّت على شفاط المطبخ.

قالت:

"الشيء المذهل هو أنني كنت تلك الفراشة. كنت في مكانين في آنٍ واحد: واقفة على أرضية المطبخ، كإنسانة، وأيضًا فوق شفاط المطبخ، كفراشة، وكنت أرى نفسي وأنا أنظر إليّ – إلى نفسي - بدهشة."

سألتها:

" وماذا حدث بعد ذلك؟"

قالت:

"سمعت صوت الباب، وكانت أمي، طبعًا.ثم طارت الفراشة عائدة إلى أذني ودخلت إلى رأسي من جديد."

قلت، مرددًا عبارتها:

" إلى رأسك؟"

"نعم، واختفت."

"فهمت."

بعد لحظات،  سألتني، وقد لاحظت ملامحي الجامدة.

" ألا تصدقني؟"

أجبتها مبتسمًا:

"طبعًا لا "

أومأت ماكارينا إيماءة لم أستطع تفسيرها بدقة، ثم تابعنا أكل الفستق في صمت.

بعد أن جاءت أميليا وأخذتها، خرجتُ إلى الشرفة لأدخّن سيجارة، فإذا بفراشة بيضاء، ليست كبيرة جدًا، تحطّ على الدرابزين. قلت:

"مرحبًا، ماكارينا."

وهذا كل ما في الأمر.

*

في اليوم التالي، جاءت والدتها بها إلى شقتي لأن موعدًا غير متوقع قد طرأ ولم يكن لديها وقت لكي تجد مربية. قلت لها ألا تقلق، يمكنها أن تذهب، لا مشكلة، لم يكن الأمر مزعجًا.

كانت الساعة السابعة مساءً، وهو الوقت الذي أتناول فيه عادةً وجبة خفيفة، فلما بقينا وحدنا، أخرجتُ وعاءً من الفستق وبدأنا نأكله معًا بينما كانت تخبرني عن المدرسة. ثم سألتني عن طبيعة عملي "بالضبط"، فقلت لها إنها تعرفه بالفعل: أنا مدرس لغة إسبانية .

قالت:

"هذه أسوأ مادة لدي، لكنني جيدة في الرياضيات."

قلت:

"لا يمكنك أن تملكي كل شيء."

قالت:

"اسألني شيئًا."

قلت:

"ماذا تحصل إذا أضفت ستة إلى ستة وستين؟"

ردت على الفور:

"اثنان وسبعون."

كنت على وشك أن أقول لا، أنه إذا أضفت ستة إلى ستة وستين فستحصل على ستمائة وستة وستين، لكني لم أكن متأكدًا من أنها ستفهم المزحة ولم أرد أن أربكها.

قلت:

"جيد جدًا."

وبما أن الفستق جعلنا نشعر بالعطش، سكبتُ كأسين من الماء مع ثلج وشريحة ليمون.

قالت:

"تقول أمي إنه لا يجب أن أشرب ماء مثلج."

قلت:

"هل تريدين أن أزيل الثلج لك؟"

قالت:

"لا."

أخذت الكأس ورشفت منه بحذر شديد. ضحكتُ وضحكت هي أيضا،  ثم جلسنا في صمت قليلاً. كانت قد أخرجت شريحة الليمون من الكأس وأخذت تمصها بتعبير يجمع بين اللذة وعدم الارتياح.أخيرًا، تحدثت مرة أخرى.قالت:

"هل تعرف ماذا حدث لي أمس؟"

قلت:

"ماذا؟"

قالت:

"كنت بمفردي في غرفتي، وبدأت أذني تشعر بوخز. ثم خرجت الفراشة من أذني مرة أخرى."

قلت:

"آه، صحيح."

قالت:

"لم تخرج لفترة طويلة، لأن أمي نادتني، فطارت الفراشة مباشرة إلى رأسي."

قلت:

"كم تستغرق فترة 'ليست طويلة'؟"

قالت:

"مدة تسخين الحليب في الميكروويف."

قلت:

"دقيقة، إذًا."

قالت:

"أكثر أو أقل، لكنني قضيت كل الوقت أطير في كل أرجاء الغرفة. فى الحقيقة  يجعلك هذا تشعر بدوار البحر عندما ترى الأشياء من الأعلى ومن الأسفل في نفس الوقت."

أعطيتها ابتسامة تعبر عن أنني فهمت، ثم جاءت أميليا لتحضرها.

تلك الليلة، عندما خرجت إلى الشرفة لأدخن سيجارتي قبل النوم، رأيت فراشة تجلس على الدرابزين، تشبه تمامًا الفراشة التي رأيتها في الليلة السابقة، ربما كانت نفس الفراشة. كانت أجنحتها البيضاء تتلألأ في الظلام. حركت سبابتي وسبابتي الأخرى نحوها كما لو كانا ملقطًا، وتمكنت من الإمساك بها. قلت:

" أمسكتك، ماكارينا" .

أخذتها إلى الغرفة التي أقرأ فيها وأصحح أوراق وامتحانات طلابي، وغرست دبوسًا في صدر الحشرة وثبّته في لوحة الفلين على الحائط. لفت انتباهي شكل جسدها الذي بدا وكأنه يشير إلى شكل فتاة، لكنني رفضت الفكرة واعتبرتها فكرة مريضة. راقبتها ترفرف بأجنحتها قليلاً لأنها لم تمت بعد، ولكن عندما ماتت أخيرًا، بقيت أجنحتها مغلقة تقريبًا بالكامل، على عكس ما تراه في المجموعات المحفوظة.

بعد ذلك، سمعت طرقًا شديدًا على الباب الأمامي. كانت الفتاة قد مرضت مرضًا شديدًا وكانت تطلب مساعدتي بيأس. سألت أمها بينما أركض نحو غرفة نومها:

" ما خطبها؟"

قالوا لي:

"تشتكي من ألم شديد في صدرها."

وعندما وصلت إلى غرفتها، كانت قد توقفت عن التنفس. فقدت أميليا عقلها، واضطررت إلى إخراجها من الغرفة.

*

كانت بقية صفحات الدفتر فارغة. لقد منعته الموت من أن يكتب فيها. ظن كارلوس أنها كانت بداية قصة أو رواية، شيئًا خياليًا.

فكّر في نفسه: الرجال المضطربون يكتبون أشياء مضطربة.

(انتهى المقتطف)

***

د. محمد عبد الحليم غنيم

23/ 5 / 2025

بقلم: جيني إيربينبيك

ترجمة: صالح الرزوق

***

تستلقي جدتي على كرسي الحديقة فوق الأعشاب. تأخذها نوبة وسن في شمس ما بعد الظهيرة، وقد وضعت على أنفها للحماية ورقة نبات بلاستيكي حمراء. ولهذه الورقة عروق منتفخة كأنها حقيقية، وقد صممت لغاية حماية الأنوف من الشمس. وقفت بجانب كرسي الحديقة أتأمل جدتي. شعرها رقيق محمر، تلمع من تحته جمجمتها الشاحبة، عيناها مغلقتان، ولكن حتى في نومها تشمخ بوجهها، وتعرض أنفها الأقنى مع ورقة الحماية، للشمس، ولا تسمح لرأسها بالسقوط على جانبها، ويبدو بدنها فقط أثقل مما هو عليه في حالة اليقظة، كما لو أنه ذاب بالحرارة، وتدفق شحمه في ساعديها وساقيها، وكل ما يمكن لجلدها أن يفعل هو الاحتفاظ بتماسك هذا الارتخاء الشبيه بعمود ضخم، وهو رقيق، رقيق لدرجة أنه يوشك على التمزق، كما أنه حساس ومتجعد، ومشع كأنه لؤلؤة أصيلة. من الطرف الذي أقف فيه، تدلت يد من يدي جدتي، لمستها بحذر بأناملي لأرى إن كان سيصدر عنها صوت خشخشة. لكنها لم تخشخش. وهذا يعني أنها حية. كانت جدتي تضع خاتما له حجرة كريمة مربعة ولا تخلعه من يدها. ولذلك أصبح الخاتم في مسيرة حياتها دائما ولا يمكنها انتزاعه بسبب تورم جسمها. ولتتحرر من هذا الخاتم، عليها أن تبتر أصبعها، كما أعتقد، ثم تقفز على السلالم، سلمتين اثنتين اثنتين، حتى يفضي بها السلم إلى غابة من الشوكيات، فتمر من خلالها إلى الماء.

وأرى جدتي بعد الظهيرة، حينما تأتي إلى الشاطئ لتسبح يوميا في البحيرة. وها هي تخطو قدما، بكامل قامتها، ورأسها مغطى بقبعة استحمام زرقاء تتخللها انثناءات، وبقية جسمها مستور تحت بيكيني من خياطة يدوية. وقدماها البيضاوان أكثر بياضا من المعتاد، وتبدو مزخرفة بصور الأزهار، لأنها ترتدي حذاء استحمام مطاطي كبير الحجم. وبهذه الطريقة تتابع الجدة نحو السلالم التي تقود إلى البحيرة، وتهبط نحوها خطوة خطوة، وما أن تبلغ آخر سلمة، تتابع المشي لفترة طويلة قبل أن تباشر السباحة. ودون أن ترتجف، تكمل مسيرتها بقدم منتعلة فوق مختلف النفايات المخفية تحت السطح: الوحل الناعم الذي يبتلع بهدوء قدم المرء، والنبع البارد الذي يشكل البحيرة متسللا من تحت الوحل، والأغصان الصغيرة، والثمار السوداء لنبات جار الماء التي تمخر عباب الماء - حتى ترسب في القاع، وشظايا الزجاج وبقايا الأشنات. أنا أتجول في جزيرتي، مثل دولاب مطاطي كبير، وأراقب جدتي وهي تدخل في البحيرة، وأتخيل السمك الأحمر يسبح حول تلك الأعمدة الممتلئة. وبعد الوصول لعمق معين، تسلم نفسها لسطح الماء، تستلقي على ظهرها، وتعوم، أسمي هذا الأسلوب بالسباحة باسم طواف الرجل الميت. حاولت أن أقلدها بعدة مناسبات، ولكن كنت أغوص دائما: أبدأ بالساقين، ويبدأ جسمي بالهبوط رغما عني مثل شمعة تذوب في حرارة الشمس. وتعجبني جدتي لأنها قادرة على السباحة دون حركة، وربما سيجرها إلى الأسفل، البيكيني المصنوع يدويا، بعد أن يتشرب الماء، وهناك تحتها يعوم السمك الأحمر بمسار متعرج نحو الأمام والخلف. والآن لا أرى منها غير أنفها فوق سطح الماء كأنه زعنفة ذيل سمكة قرش.

ما بين سباحتها وغدائها، مثلما هو الحال في الصباح، تعود جدتي إلى العمل. العمل يعني المكوث في غرفتها، تغلق الباب، وتحفظ النصوص غيبا. أحيانا أقف في الممر لأصغي. وهذا الممر مجرد معبر في الخزانة، فهناك خزانات محفورة في الجدران، وهي موصدة، والمفاتيح مع جدتي فقط. والرائحة الخفيفة للملاءات المكوية الحديثة تتسلل من هذه الخزانات - وأنت لا تعرف محتويات هذه الخزانات - وهي متصلة بدون إضاءة مع الغرفة المغلقة والتي أعلم بالتأكيد أنه لا أحد فيها غير الجدة. ومع ذلك يأتي منها عدد كبير من الأصوات التي لا أعرف أصحابها.

بيني وبين هذه الأصوات باب من زجاج مضاعف مثبت عليه، ويقعقع كلما ذرعت جدتي الغرفة بخطواتها إلى الأمام والخلف. وأحيانا يظهر خيالها عبر هذا الزجاج، وأشعر بالدهشة كلما نظرت إلى خيال جدتي في حين أن الصوت المسموع يدل بوضوح على بنت صغيرة وهي تتلو: أخرج من أعماق غرفتي الصامتة / الآباء الرماديون في الدولة، دون اختيارنا / أنا قادمة، وبعيدا عن نظراتكم، أزيل / الحجاب الذي يظلل قممي المعزولة /.

بعد لحظة، وظل جدتي لا يزال مرئيا، أسمع صوت رجل يتكلم، يقف هناك وبصوت ينم على التحدي، يقول: حينما كنت طفلا كنت أنظر إلى الشمس. تبع ذلك صمت طويل. وهذا الصمت تمخض عن صوت لا هو نسوي ولا ذكوري، ويشبه هزيم الرعد، وجعل الزجاج المضاعف يرتعش. ماهاديفا، يا إله الأرض. ومن بين هذه الكلمات، بقيت صيحة تعجب واحدة لا يبدو أنها تتعارض مع الخيال المسحور الذي أمامي بأنفه الشبيه بذيل سمكة قرش. على الرمل. على الرمل. يوجد كل ما بنته يد البشر. وأنا أسمع صوت جدتي الذي أعرفه، ولكن مثل بقية الأصوات، أتساءل هل جدتي تحاذر أن لا تتكلم كثيرا معي حينما تخرج من هذه الغرفة لأنها تتوجس من كل هؤلاء الآخرين الذين سكنتها أصواتهم. فقد يقفزون من فمها مثلما تقفز الضفدعة من فم الأميرة الدميمة كلما ذكرت كذبة.

ليس لدينا ضيوف، ولكن لدينا إلى جانب جدتي اثنان يظهران يوميا في بيتنا.

أولا هناك الحدائقي، مسلح بمقص تقليم كبير، وينشغل بمعركة لانهائية ضد القفر الذي يبدأ من أطراف الحديقة. وكل دخيل يجعله يغضن جبينه. وهذا الجبين يشبه صخرة عالية وقاسية وتخلو من الشعر. وكل شيء معوج يتم قصه ليتحول إلى خطوط مستقيمة، وكل شيء طويل يقصره. أيضا يشطر حطب الموقد، وينظف أنابيب الماء، ويطرق المسامير بالجدران. وكلما رأيته، يكون بين يديه العظميتين أداة معدنية ثقيلة يستعملها لطرق ووخز وقص شيء ما. وأحيانا أتساءل هل يستفيد من لياليه، حينما لا يعمل هنا على خدمتنا، ليخدم نفسه: فيقص شعره حتى لا يبقى إلا القليل منه كي يغطي به الجزء المتعرق منه، ويقضم أظافره، وينفخ خديه، ويشد الجلد على أطراف جمجمته.

الضيف الآخر في بيتنا هي التي تطبخ لنا لأن جدتي لا تتقن الطهي. ولهذه المرأة وجه جديد كل عام. إما أنها تثرثر كثيرا، أو تبكي باستمرار، الثالثة تدعو كل عائلتها معها، والرابعة لم نطردها بأنفسنا، فقد فرت من السجن وجاءت الشرطة في أحد الأيام وراءها. الطاهيات يأتين ويذهبن، ولكن في الغداء ثلاث أطباق أساسية. هناك حساء لحم العجل النقي، أو حساء البندورة مع القشدة، وهناك عدة أنواع من حساء القشدة مع خضار الطبق الأساسي التالي، أو عصيدة مخفوقة بالبيض، ويتبعها قرنبيط مشوي وحار مع فتات الخبز، أو الأسبراجوس مع صلصة البيض، أو لحم العجل المسلوق، أو البطاطا المسلوقة بقشرتها وبجانبها الجبنة الطرية والأعشاب، أو السمك المشوي والأرز، وهناك الغولاش ومكعبات اللحوم، أو الحساء مع الكثير من بذور الكراوية. وبين حين وآخر هناك صحن صغير من لحم الرأس لجدتي، لحم الرأس، لحمة دماغ العجل، وأراقب جدتي وهي تأكل، وتدس هذا الدماغ المفروم في فمها ورأسها، وأتساءل إن كانت هذه طريقتها لامتلاك كل تلك الأصوات المتباينة. وهناك الجبنة الطرية مع الفريز، المثلجات مع القشدة المخفوقة، سلطة الفواكه، حلويات الفانيلا، التوت. ثم تحين الاستراحة. فأرى الجدة والورقة البلاستيكية ذات العروق على أنفها، وأكون أنا في ظل الهوثورن، وعلى مبعدة تقعقع الطاهية بالأطباق، ويشذب الحدائقي الحديقة بحزم من الأغصان التي يبترها،

وحين يفترض أنني نائمة، ألهو بتمشيط أطراف اللحاف الصوفي الذي أستلقي تحته. لا أود أن أنام، فهو يضجرني، وأنتظر فقط تلك الهمسات العميقة التي تعيش في رأس جدتي وتظهر حينما تغرق بالنوم. ثم أقفز على السلالم، اثنتين اثنتين، لتقودني من بين الشجيرات الشوكية حتى الماء.

بعد العشاء ومع بداية الليل، غالبا يأتي سائق جدتي لينقلها إلى البلدة. وبخلاف تبدل الطهاة، بقي السائق نفسه كل هذه السنوات، بقبعة مثقوبة يرفعها دائما للتحية، وبما أن القبعة بقبت نفسها كل هذه السنوات، فإن البقعة التي يمسكها منها أصبحت لماعة جدا من الدهون. كانت جدتي تظهر على مسرح البلدة، أمام الجمهور - فهي ممثلة، وتوجد في غرفة المعيشة صورة تعلن عن ثمن التذكرة التي يتوجب على الناس دفعها ليستمعوا إلى كلامها. وأسعدني أن أشتري تذكرة لأسمع جدتي تتكلم، باعتبار أنها لا تكلمني دائما، وأنا غير مهتمة حقا إن كان هذا صوتها أو أنه صوت آخرين تتقمصهم، ولكنها لم تصحبني معها أبدا. وقبل أن ينصرف السائق من أمامي، يضيف سلسلة من الحركات زادت من لمعان قبعته، ثم يفتح الباب للجدة، ويمد ذراعه، وبعد أن ترتاح بمجلسها، وتنجح بلملمة كل أجزاء ثوبها الطويل الزاهي في الداخل، يغلق الباب بهدوء ويبتعد بها.

في الليل لا يوجد طاه، والأعشاب التي وضعتها في زجاجات صغيرة مليئة بالماء وتركتها على حافة نافذة المطبخ، بدأت بالذبول والانحناء، وبقايا الخبز يغطيه عفن كالزغب، وأباريق الشاي فقدت أغطيتها، وانكسرت الأطباق إلى أجزاء، واصفر السكر في العلبة، ولحقت الرطوبة بالملح، وأمكنني أن أرمي به أي شخص كأنه حجرة لو كان هناك أحد.

ليلا يغطي الصدأ السكاكين، وتنتفخ الأدراج ولا يمكن تحريكها، وتتسابق الدلق (تشبه بنات عرس. "هامش مترجم") في العلية مع بعضها البعض، وتستعمل أسنانها، وتتبول على السقف فوق رأسي، وتتجمد الستائر وتتمزق، وتتمدد إطارات النوافذ، فتتحرر ألواح الزجاج، ويتطاير الزجاج، ويتساقط ويتناثر - كل ذلك والطاهي غير موجود. وفي الليل الحدائقي غير موجود، فقد ذهب إلى بيته، وهناك يقف أمام مرآة قذرة، يخاصم نفسه، ويشد شعره. ويحفر خديه بالمقص، ويغرس أسنانه في يديه، ولا يوجد هناك أحد ليغضن جبينه أمام هذه الفوضى، ولا أحد يجعل الوقت على فترات مرتبة، وفي الليل يمكنني الاستماع لصوت نمو العشب، ويمكنني الاستماع للعشب وهو يتلوى ويخرج من الأسفل ليستعمر الممرات. الطاهي غير موجود. والحدائقي غير موجود - وأنا - أنا - أنا أنتظر جدتي.

حينما أكون طويلة بما يكفي لأقدم ذراعي لجدتي في نزهاتنا، ستقدم لي التعليمات بأسلوبها الفني في الإلقاء. فهي تجزئ الكلمة إلى حروف مستقلة وسأعمد لتهجئتها مرارا وتكرارا حتى لا يبقى لها معنى ولكن تبدو مألوفة، لغة بذاتها. ما، مي، مو، ميو، ماو، موي، ماي. ثم تقدم لي جملا أرددها، كأنها حجارة في الفم حتى يتعلم لساني كيف يناور من حول المعوقات.

في البداية تقريبا اختنقت وأنا أجرب هذه الطريقة وفوق ذلك وأنا أركز كي لا أتقيأ، ولكن بالنهاية تسمع ما يشبه طرقات الحصى على السن حينما أتكلم، ويكون صوت الجملة واضحا ومفهوما، سواء كانت جنوب، أو شمال، أو غرب أو شرق الصخرة التي وضعتها جدتي في فمي.

تبقى تجربة أقف فيها أنا وجدتي متواجهين كل في زاوية من الغرفة. ننادي بعضنا البعض: هاي. مرات ومرات. هاي. هاي. ولا أفهم لماذا حينما أقف في غرفة برفقة جدتي، ويمكنني رؤيتها جيدا وتماما، يجب علي أن أناديها هكذا، وفي النهاية تأتي لحظة يصبح فيها صوتي شعاعا موجها إليها، وهي اللحظة التي أشعر فيها لأول مرة أنني وصلتها.

والآن أنا في بيتي وفي بلعومي، حنجرتي، سقف حلقي، وقد امتلكت الكلمات، وهي تعيش على لساني وبين شفتي، أتنفس بأنفي حتى أعماق جسدي وأغذي الكلمات بالهواء. وجدتي تعلمني كيف أنطق عدة جمل متتاليات كي أرسم بها مشهدا طبيعيا، وتعلمني كيف أتأنى، وألزم الصمت. ثم تعلمني أنه بإمكانك أن تبكي حين تودين البكاء. وأن تضحكي حينما تريدين الضحك. ابكي أو اضحكي بأعلى صوت وأطول فترة تريدين. وأخيرا علمتني كيف أتراجع وأكون وراء صوتي، كما لو أنني أعير جسدي لشخص يود أن يتكلم، وهكذا يمكنه أن يؤكد حضوره، وأعيره أفكاري ليفكر بها، ومشاعري ليحس بها. والآن أرى لماذا لم تتكلم جدتي معي بصفتها الجدة - فقد تراجعت كثيرا وراء صوتها ولم يعد بإمكانها رؤية حفيدتها. وفي نهاية الأمر بدأت أمثل علنا لنفسي. تلوت القصائد، والعروض والمونولوجات من مسرحيات، وجاء الناس ودفعوا ثمن الدخول ليسمعوني أتكلم. وأول عدة أمسيات، جلست جدتي بين المشاهدين وصفقت لي بيديها الناعمتين غير القادرتين على إصدار صوت. ثم قالت: لن أمثل بعد الآن، فأنت تتقنين عملك. قالت ذلك كما لو أنها تتخلص من كومة طوب كبيرة وثقيلة. استلقيت هناك تحت التراب والحجارة لأقول كلا، ولكن جدتي قررت أن لا تستمع لاعتراضي. ومن هذا اليوم، توقفت عن التمثيل فعلا، ولكن في البيت ما زلت أسمع كلامها وراء أبواب مغلقة، كما لو أنها تتمرن، ولكنني لم أعرف هذه النصوص ولم يمكني فهم الكلمات، وأحيانا أسمعها تضحك، ولكن ليست هذه هي الضحكة التي تعلمتها منها، عالية وطويلة كما تريد. ولكنها رقيقة، ضحكة شبح قديم، بالحقيقة ضحكة صبية. بالتدريج علمت أنها ضحكتها وقد استعادتها مثل ضحكة ضائعة، ضحكة شبابية وجدت طريق العودة إلى جسم عجوز، وقد ولجت فيه الآن. حينما سألتها مع من تتحدث، وبأي لغة، قالت إنها تتحاور مع الطيور، ومع كلب الجيران الذي ينبح عليها دائما، فتنبح للرد عليه. رفعت واحدة من شفتيها الذابلتين: هذا يعني أنها تبتسم.

في الصباح التالي رأيتها تمشي حول أطراف الحديقة، ومجددا توقفت عدة مرات للاستماع. كانت تمشي بصعوبة، حوضها ينثني، وذراعاها معقودان خلف ظهرها، فتبدو من الخلف كما لو أنها رهن الاعتقال. ثم ثانية وقفت بلا حراك، لتحدق بالغابة، وهزت رأسها كأنها تتساءل ولم يعجبها الجواب الذي جاءها من الغابة. بعد أن أمضت وقتا طويلا تستمع لمناطق مختلفة من الأغصان والفروع الممتدة نحوها، عادت إلى البيت وجلست على مقعد في الصالة لأتمكن من تخليصها من حذائها، والذي له قفل فضي ضخم كالسفينة، ومبتل بالندى. سألت: في أي عالم اختفى الحدائقي؟. قلت لها: الحدائقي مات قبل المسيح. قالت: آه، لم أكن أعلم. وابتسمت ثانية. وحينما استعدت للنهوض مدت لي يدها، يدا دبقة مثل لحاء الأشجار المشقوقة والتي تسيل منها العصارة قبل القطع.

ضاعت جدتي عدة مرات. بعد أن تفحصت كل شبر من الحديقة حتى أطرافها، خرجت إلى الشارع، وتجولت بخطوات مرهقة ولكن واثقة، وهي تجدف بذراعيها مثل سلحفاة، وكأنها تريد أن تنفصل عن الهواء وتترك بسرعة كل شيء وراءها. مرة رأيتها واقفة أمام مدخل جانبي لبيت الجيران، وهو باب مهجور على ما أذكر. وكان مغطى كله باللبلاب، والمقبض صدئ. هبطت جدتي على السلالم التي غطاها الطحلب وبدأت تدق على الباب بقبضتيها المرفوعتين. قبضت على ذراعها وقدتها إلى البيت. سألتها: عمن تبحثين؟. ردت: على أمي. فهي وراء الباب. سألتها: وراء ذلك الباب؟. قالت: نعم.

وكيف علمت؟.

تكلمت معها بالأمس.

سألتها: حول ماذا؟.

قالت: حول كل شيء. حول كل شيء يقلقني. وكل شيء يسعدني.

وأحيانا تفرط جدتي بإضافة المساحيق. أو تنسى أن تغلق سحاب بنطالها، وأحيانا توجد بقع على بلوزتها، أو أن أظافرها وسخة، وتنسى تنظيف الشعر الذي ينمو على وجهها. والآن لا تشبه المرأة بهيئتها، ولكنها تظهر مثل شيء قديم، غير بشري، مثل حيوان أو نبات، كما لو أن العمر يقربها من حالة مموهة، وهي خطوة ضرورية قبل أن تتمكن في النهاية من الاندماج بالطبيعة.

ولم يعد يبدو أن جدتي تنتمي لجسدها هذا. فقد بلي وتلف. سألتني: هل يجب أن أتغذى؟ وقلت لها: طبعا.

قالت: هذا يكفي. وأبعدتني عنها حينما حاولت أن أضيف بعض اللحوم إلى طبقها، وضعت بين أسنانها ورقة خس فقط، بالتدريج، ثم نقبت في طبقها عن فاكهة مسلوقة، أو حركت زبدية الآيس كريم حتى ذابت وبعد ذلك رشفتها. قالت: شيء متعب. دائما نفس الشيء، تأخذينه من أعلى ثم يخرج من أسفل. هل يجب أن نأكل؟.

 بالطبع. أحيانا تدفع حصتها نحوي لأنهي ما تبقى منها. أولا اعتقدت أن الكمية كثيرة، ثم أدركت: تريد أن تتأكد أنها تأكل ما يأكله البشر. قالت: شيء متعب.

سألتني: هل يتعين علي أن أراها لحظة موتها؟. لم أفهم هذا. قالت: لم أذهب بجنازة أبدا. ثم سألتني مجددا: هل يجب أن أشاهدها حين تموت؟. الآن فهمت. قلت لها: كلا. ليس عليك أن تشاهديها. قالت: هذا جيد.

وقالت: لم تقع عيني على جثمان. فقط ماما. لثانية فقط. ثم خلعت الخاتم ذا الحجرة الكريمة المربعة من أصبعها، وأعادته إلى أصبعها، خلعته وأعادته إلى مكانه. والآن يسهل عليها ذلك، لأن أصابعها أصبحت رفيعة. خلعته، واستعادته. قالت: لن أكون جثة جميلة.

وأصبحت عادة لي أن أنام في الليل بجانب سرير جدتي، لأنه لا تستطيع أن تجد طريقها بعد النوم. فهي لا تعرف الطريق إلى الحمام حين تستيقظ، ولم تعد لديها فكرة عن البيت الذي أمضت حياتها فيه. وأحيانا تتكلم في نومها، تصيح - على الرمل. الرمل. شيء مني لم يسمح لي أن أفقد الجملة التي بقيت أجزاؤها في حلم جدتي. كنت أستلقي بجانبها، وأحلم، وفي حلمي أعلم أن جدتي ستعيش ما دامت القصيدة لم تنتهي. وتبدو الجدة غير راضية بجوابي الصامت، فتقول: شيء غريب أن تجد كلمة واحدة طريقها للخارج من بين طبقة كلمات.

حينما أدركت جدتي أن أياما كاملة تمر أحيانا وهي نائمة، جلست على طرف السرير لتبقى متيقظة. سألتني: كيف يمكنك أن تعيشي ما دمت لا تفعلين شيئا غير النوم. لا تزال قوية بما فيه الكفاية لتضع قدميها على الأرض حين تنهض، ولكن قدميها عاريتان لأنهما لا تناسبان خفها المنزلي. تداعى جسم جدتي، ولكنه لا يزال رطبا، مثل سفينة يتسرب منها الماء، وحين تجلس، يسرع الماء إلى قدميها. ويمكنني رؤية أصابع قدميها وأعلم أنها أصابع قدمي جدتي. وهي مثل شكل أصابع قدمي الأصلي. ولكن الماء يهاجم هذا الشكل من الداخل، وتجمع قوتها لتنفجر. والآن لا يمكنني التوقف عن التفكير أن البحيرة وجدت طريقها إلى جدتي في النهاية. وأنا أراقبها وهي جالسة لعدة أيام وليال. قالت: ولطالما أنا جالسة أنا حية. وأنا جالسة.

ثم حان اليوم الذي أقول فيه: السيارة في الخارج أمام البيت.

شكت الجدة أن السائق لا يزال حيا. قلت لها: بالتأكيد هو على قيد الحياة. حدقت بالسائق، الذي فتح الباب لها دون أن يرفع قبعته بالتحية، حتى أنه كان بدون قبعة، فقالت جدتي: هذا ليس سائقي. قلت لها: طبعا هذا هو عينه، ودفعتها على المقعد، وثنيت ساقيها، ورفعت قدميها حتى أصبحتا في داخل السيارة. ولدى عودتي من المستشفى، صعدت إلى الأعلى وبلغت خزانة المعبر، وأصغيت للباب الذي يقود إلى غرفة جدتي. ارتجفت ألواح الزجاج المضاعف بهدوء حينما اقتربت، وعدا ذلك بقي كل شيء ساكنا. رائحة الملاءات المكوية مؤخرا فاحت من الخزائن، وكانت مغلقة، وكنت أعلم أين علقت المفاتيح باعتبار أنني مسؤولة الآن على البيت. تناولت المفاتيح من الخطاف، وفتحت الخزائن، ونظرت إلى كومة الملاءات المنشاة، وإلى واقيات الوسائد المطرزة، وإلى زوج جوارب مطوية وصف طويل من البلوزات. حافظت على ترتيب الملاءات كما اعتادت جدتي أن ترتبها طيلة حياتها، وغسلتها وكويتها وطويتها، ثم علقت المفاتيح بمكانها. حاكيت حساسية جدتي بالترتيب. ولكنها هربت، وأنا أعلم ذلك الآن، ولم تكن مضطرة لتحمل معها شيئا في هروبها، فجأة ببساطة تحولت لشيء آخر، مثل مومياء تحولت إلى غبار حينما تم اكتشافها، وذهبت مع الريح. والآن أتذكر جملة قالتها لي في أحد تلك الأيام حينما ضلت طريقها.

وجدتها في زاوية الشارع، وقفت هناك، تمد يدها لكل المارة. سألتها: لماذا تصافحين كل هؤلاء الأغراب؟. أجابت بدون أن تتوقف عن تحية كل من حولها: أنا في طريقي إلى الصوف الذهبي.

فتحت باب غرفة يحمل رقما أو علامة، وأردت أن أقول لجدتي تصبحين على خير. كانت في سريرها مستلقية ومغطاة، وأصبح جسدها خفيفا وبالكاد يتحمل الأغطية. حفنة جسد يستلقي هناك تحت اللحاف، ولأول مرة في حياتي انحنيت لهذا الجسد لأعانقه. لأعانق وأحضن القليل المتبقي من جدتي. عندما استدرت مجددا على العتبة، رأيتها وقد سقطت بالنوم، ولكنها كانت تمد يديها لي، حتى بعد النوم لا تزال يداها ممدوتين لي.

***

.......................

* جيني إيربينبك Jenny Erpenbeck كاتبة من ألمانيا الشرقية سابقا. حازت على المان بوكر من لندن عن روايتها "إيكاروس". القصة مترجمة من مجموعتها: الطفلة العجوز وقصص أخرى.

ثلاث قصص قصيرة جدا

تأليف: كيم تشينكوى - Kim Chinquee

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

1- مجرفة

انتزعت الأعشاب من حديقة زوجته السابقة، نما البعض حتى صار شجيرات، ولكنها تستطع الوصول إلى الجذور. بيدين عاريتين، التقطت العصي والأغصان وكرات البيسبول وأغلفة الحلوى المدفونة تحت الشجيرات ومقص صدئ و مشبك. وضعت تلك الأشياء بجانب الأرجوحة. وكان حولها ورود وزنابق وقلوب نازفة وقلوب نازفة والعديد من النباتات الأخرى التي لن تعرف أسماءها أبدًا. كان هناك الكرات والريحان والنعناع. مازال يستخدم التوابل في الأطباق التي يعدها. لقد علمها كيف تصنعها. كان طعامه لذيذًا. نزلت على ركبتيها ودن قصد اقتلعت شجرته من الخزامى، لقد ظنت أنها ميتة، لكنها لم تكن كذلك.

**

2- الصوم الكبير

إنه الصباح الباكر، تبدو فروع الأشجار المبللة عابسة، فى يوم الجمعة العظيمة (يوم الصوم الكبير) لقد ربحت مارِي للتو عشرة آلاف دولار في سحب اليانصيب. تشعر وكأنها قد امتلكت قصرًا لشخص ما.

تنظر داخل الثلاجة: فارغة، باستثناء شريحة أو اثنتين من الخبز. ثمة مطر فى الخارج، تتسرب المياه من خلال شق في النافذة المكسورة، تأتى بمنشفة من الحمام، وهي المنشفة أهدتها لها أختها في ديسمبر الماضي بمناسبة عيد ميلادها. مرسوم عليها دولفين.

تفكر ماري في المحيط، الذي رأته ذات مرة في شهر العسل قبل أحد عشر عامًا. تفكر في زوجها. هناك فواتير يجب أن تدفع. لديها وظيفة فى شركة التأمين الرخيص. لكن ليس لديها تأمين على حياتها.

تفكر في ابنها، جوني.عمره خمس سنوات وقد رافقته إلى المدرسة هذا الصباح.كانت تحمل المظلة. قالت له:

- لقد فزت اليوم فى هذه المسابقة السخيفة.

قال:

-  أفزت؟

قالها وهو ينظر إليها بعينيه الخضراوين، يشبه والده، زوج مارى الذي توفي في حادث سيارة قبل عام في عيد الميلاد.

أكدت له مارى:

- فزت بعشرة آلاف دولار.

سألها وهو يخوض بحذائه فى بركة من مياه المطر:

- هل هذا كثير؟

راقبته وهو يمشي إلى المدرسة، تنز مياه من حذائه على طول الممر. التفت لينظر إليها.

لوحت له مودعة إياه.

سوف تشتري له مجموعة الطبول التي ألح في طلبها. نظرت من النافذة إلى المطر المتساقط. أغمضت عينيها وتخيلت ابنها وهو يقرع الطبول وجسده كله يهتز من الفرحة.

**

3- من فضلك تعال إلى الباب

حاول الصعود. هو، على حبل، على الرغم من أنني لست متأكدة من كيفية وصوله إلى هناك.

استأجرت أنا وأختي غرفة في فندق. كان مجرد فندق، به بقايا عطر، وستائر معلقة مثل الورق المقوى. ليس مثل صندوق خشب الأرز فى طفولتنا، ذلك الصندوق الذي كانت أمنا  تغلقه دائمًا  وتضعه في نهاية السرير.

لم أتذكره أنه حاول الوصول إلى الباب، لم يكن والدنا هكذا أبدا

لم نكن نتحدث أنا وأختي. لا يعني ذلك أننا كنا مستائين أو فى شجار. فقط لم يكن لدينا حقا ما نتحدث عنه. كنا نستطيع الجلوس صامتات لساعات، ننظر فقط إلى بعضنا. كان شيئاً اضطررنا أن نعتاد عليه في النهاية.

من المرجح أننى كنت أفكر في صديق، من ذلك النوع الذي كنت على الأرجح أحبه. ربما كنت أتمنى أن أتصل به. ربما كنت أتمنى أن يكون متحليا بقدرات فوق قدراته العادية. هؤلاء هم الرجال الذين أتوق إليهم.

كان زوج أختي يحب إلقاء النكات عندما تصبح الأمور جادة.  لم أكن متأكدة أين كان. حقاً تمنيت لو كان هناك. كنت أريد نكتة جيدة في تلك اللحظة.

ربما كنت أحتسي شيئاً. بيرة أو نبيذ أو فودكا.. كنت عادة أشرب كثيرا، أو لعلي أقلع عن كل هذا.

فى البداية رأيت أختي. ثم سمعت شيئا من النافذة. نظرت إلى أسفل، وهناك كان والدنا مرة أخرى.

عادت أختي من مكان ما بمطرقتين. قالت إنه أفضل ما يمكن أن فعله. طرقنا ذلك الحبل بالمطرقة. كان والدنا مثل التنين. اقترب. لم تجد المطرقة نفعا.

سألت أختي إذا كانت تعتقد أن السكين أجدى فى القطع.

واصل والدنا الاقتراب. كان يتسلق بجهد كبير، بدت ذاكرتي مدمرة. كان يبكي. كان رأسه أصلع. كنت أستطيع أن أرى ذلك وأنا أنظر إليه من أعلى.

بعد فترة اقترب أكثر. ركلته فسقط.

جلست أنا وأختي هناك لبعض الوقت.  لم نتحدث كثير حقًا. أحضرت أختى كوبا من الماء وقالت إن عليها أن تعود إلى زوجها. قلت: حسنًا، وأنا أتساءل عن رجال الشرطة، إذا ما كان علينا أم نقدم بلاغا لكنهم لم يكترثوا كثيرًا حين حاولنا فى مرات سابقة.

حيتنى أختى مودعة، ثم غادرت، عدتُ إلى حافة النافذة. كان الليل قد حلّ، والنجوم مبعثرة في السماء، وأضواء المدينة تلمع من بعيد،صامتة مثلي تمامًا.

(تمت)

***

......................

المؤلفة: كيم تشينكوى / Kim Chinquee  كاتبة قصص أمريكية، تعيش كيم تشينكوي في ميشيجان، حيث تُدرّس الكتابة الإبداعية.وخدمت فى المجال الطبى بسلاح الجو الأمريكي، غالبا ما يشار إليها بملكة قصة الومضة، نشرت المئات من القصص فى المجلات الورقية والالكترونية والمختارات الأدبية، وقد حصلت على العديد من الجوائز، تعمل محررة أدبية ورئيس تحرير، إلى جانب قيامها بتدريس الكتابة الإبداعية فى جامعة ولاية بافالو. لها ثمانية كتب فى القصة القصيرة.

 

من الأدب الكردي:

بلقم: لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - غلطة

إن الحب ما هو

إلا غلطة

يكررها كل واحد منا

للمرة الألف .. !

**

2 - عيد الميلاد

أقول:

السحب هي الأخرى

تحتفل بعيد ميلادها

فتراها ترقص

وتطبل

على قمم الجبال

الشاهقة

**

3 - السنارة

ترمي السحب سنارتها

الطويلة في المياه

بحثا عن السمك

أو بحثا عن أحذيتها

لانها حافية

الأقدام ... !

**

4 - أطفال السحب

لكم هي قاسية

قلوب السحب

لقد وزعت أطفالها

حفاة الأقدام

فوق صخور

الذرى .. !

**

5 - سلالة الرمال

أريد أن أقترن بإحدى

الصحارى ..

لتسود في الأرض

سلالة الرمال

أريد أن أتخذ من الزمن

عكازا

أسوق به

السحب..!

**

6 - أين؟

لمن هذا التابوت

المحمول فوق أكتاف

الغيوم؟

أين هو ضيفنا

لماذا لم يأت بعد؟

متى ستنطلق

المظاهرة؟

***

......................

* عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001 .

 

بقلم: سعدات حسن مانتو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في تلك الأيام الماطرة نفسها؛ كانت أوراق شجرة البيبال خلف النافذة تُغسل بالطريقة ذاتها. وعلى سرير الزنبرك المصنوع من خشب الساج، والذي تم تحريكه قليلًا بعيدًا عن النافذة، كانت فتاة مراثية تتشبّث براندهير.

خارج النافذة، كانت أوراق شجرة البيبال، كأقراط طويلة، تصطك في الظلام الخافت.

تشبثت الفتاة الماراثية براندهير، كأنها ترتعد. كان المساء قد اقترب، وبعد أن قضى نهاره في قراءة الأخبار والإعلانات في صحيفة إنجليزية، صعد إلى الشرفة ليستنشق بعض الهواء. وهناك رآها، ربما عاملة في مصنع الحبال القريب، تحتمي تحت شجرة تمر هندي. تعمد لفت انتباهها بتنحنحه، ثم أشار لها بالصعود إلى الأعلى.

كان يشعر بالوحدة منذ أيام كثيرة. فبسبب الحرب، التحقت جميع فتيات بومباي المسيحيات تقريبًا، واللواتي كنّ زهيدات الثمن فيما مضى، بقوات الدعم النسائية. وقد افتتحت بعضهن مدارس رقص قرب منطقة فورت، حيث لا يُسمح بالدخول إلا للجنود البيض.

وهذا ما سبب اكتئاب راندهير العميق: فمن جهة، تناقص عدد الفتيات المسيحيات؛ ومن جهة أخرى، فإن راندهير — الأكثر تهذيبًا، وتعليمًا، وصحة، ووسامة من الجنود البيض — لم يكن يُسمح له بدخول حانات الرقص فقط لأن بشرته ليست بيضاء.

قبل الحرب، كانت لراندهير علاقات جنسية مع العديد من الفتيات المسيحيات قرب ناگپارا وفندق تاج. كان يعرف طبيعة هذه العلاقات، ويدرك — أكثر من أولئك "الهجينات" المسيحيات أنفسهن — أن تلك القصص الغرامية لم تكن سوى صيحات موضة، وأنهنّ، في النهاية، سيتزوجن واحدا من الحمقى .

لقد أشار إلى الفتاة المراثية بالصعود فقط انتقامًا من هازل، التي كانت تسكن في الشقة أسفل منه.كل صباح كانت ترتدي زيها العسكري، وتميل قبعتها الكاكيّ على شعرها القصير، وتخرج إلى الرصيف وكأنها تتوقع من المارة أن يفرشوا لها الأرض بأجسادهم.

كان راندهير يتساءل دائمًا لماذا ينجذب لهؤلاء الفتيات المسيحيات. لا شك أنهن كنّ يُظهرن الأجزاء الجديرة بالإظهار من أجسادهن بجرأة، ويتحدثن عن اضطرابات الدورة الشهرية دون أدنى خجل، ويروين قصصًا عن عشاق سابقين، ويبدأن بالرقص ما إن تُعزف الموسيقى…

كل ذلك حسن، لكن ألا يمكن لأي امرأة أن تتحلى بهذه الصفات؟

لم يكن راندهير ينوي أن ينام مع الفتاة المراثية حين أشار لها بالصعود. لكن بعد لحظات، عندما رأى ملابسها المبتلة، وفكر فى نفسه: «آمل ألا تُصاب بالتهاب رئوي، المسكينة»، ثم قال بصوت واضح :

- انزعي هذه الملابس وإلا أصبتِ بالبرد.

فهمت قصده، لأن عروق عينيها احمرّت وبدت وكأنها تسبح. لكن عندما أخرج راندهير روبه الأبيض وناولها إياه، فكّرت فيه مليًا وفكت سترتها/ كاشتا*، التي بدت الآن أكثر اتساخًا بسبب البلل. وضعتها جانبًا ولفّت الروب حول فخذيها بسرعة. حاولت خلع بلوزتها الضيقة، لكن طرفيها كانا مربوطين بعقدة مدفونة في انحناءة صدرها الضحلة والمتسخة. حاولت طويلًا، بمساعدة أظافرها البالية، فتح عقدة البلوزة، لكنها أصبحت صعبة بسبب المطر. بعد أن تعبتُ أخيرًا، استسلمت، وقالت لراندهير شيئًا ما باللغة الماراثية، معناه: "ماذا أفعل؟ لن تُفتح".

جلس راندهير بجانبها وبدأ بفتح العقدة. لكنه سرعان ما تعب من ذلك أيضًا، فأمسك بطرفي البلوزة بكلتا يديه وسحب. انزلقت العقدة؛ تطايرت يدا راندهير في كل مكان؛ برز ثديان نابضان للعيان. شعر راندهير للحظة أن يديه، كيدَيْ خزّاف ماهر، قد شكّلتا كوبين من الطين الطري المعجون على صدر هذه الفتاة الماراثية.

كان لثدييها نفس الطابع نصف الناضج الممتلئ بالعصارة، ونفس الجاذبية، ونفس البرودة الدافئة التي تُوجد في الأطباق الرطبة حديثة الخروج من بين يدي الخزّاف. وكان هناك بريقٌ غريبٌ ممتزج بهذين الثديين الشبابيين النقيين. كأن طبقة من الضوء الخافت تحت لونهما القمحي الداكن قد أطلقت هذا البريق، بريقٌ موجودٌ وغير موجود في آنٍ واحد. كان انتفاخ ثدييها يشبه مصابيح طينية تحترق عبر مياه عكرة.

في تلك الأيام الممطرة نفسها. تساقطت أوراق شجرة البيبال خارج النافذة. كانت ملابس الفتاة الماراثية المبتلة مكومة في كومة قذرة على الأرض؛ بينما تعلقت براندهير. بعث فيه دفء جسدها العاري المتسخ نفس الإحساس الذي يُحدثه الاستحمام في حمّام حلاقٍ دافئٍ رغم قذارته في عزّ الشتاء القارس.

طوال الليل، ظلت متعلقةً براندهير. اندمج الاثنان في بعضهما. لم يتبادلا أكثر من كلمتين، لكن كل ما يحتاج إلى قوله تم نقله عبر شفتيهما وأنفاسهما وأيديهما. طوال الليل، تجولت يدا راندهير بخفة الهواء على ثديي الفتاة الماراثية. كانت حلمتاها الصغيرتان والتورمات السمينة المنتشرة في دائرة سوداء حولهما تستيقظان بالإحساس، مسببتين في جسدها رعشةً جعلت راندهير نفسه يرتجف.

كان قد عرف هذا الارتعاش مرات عديدة من قبل؛ وكان على دراية تامة بمتعته. أمضى ليالٍ كهذه سابقًا، ضاغطًا صدره على ثديي العديد من الفتيات الناعمة المتماسكة. قد نام مع فتياتٍ غير خبيراتٍ تمامًا والتفت حوله، وقلن له كل شيء عن منازلهنّ الذي لا ينبغي إخباره لغريبٍ أبدًا. قد أقام علاقاتٍ جنسيةً مع فتياتٍ يقمن بكل العمل الشاق ولا يسببن له أدنى متاعب. لكن هذه الفتاة الماراثية التي وقفت غارقة تحت شجرة التمر الهندي، والتي أشار لها لتصعد إلى الطابق العلوي، كانت مختلفة.

استنشق راندهير رائحة غريبة تنبعث من جسدها طوال الليل؛ كانت كريهةً وحلوةً في آنٍ معًا، فاستنشقها بعمق. من تحت إبطيها، وثدييها، وشعرها، وظهرها — من كل مكان؛ أصبحت جزءًا من كل نفسٍ يتنفسه راندهير. طوال الليل ظل يفكر، هذه الفتاة الماراثية رغم قربها الشديد مني لن تكون بهذا القرب لولا هذه الرائحة المنبعثة من جسدها العاري. لقد تسللت إلى كل ثلمة في عقله، ساكنةً أفكاره القديمة والجديدة معا.

لحمت تلك الرائحة راندهير والفتاة معًا طوال تلك الليلة. دخل كل منهما في الآخر. هبطا إلى أعماق سحيقة، حتى أصبحا كيانًا واحدًا، قمة خالصة من النشوة البشرية، نشوةٌ، رغم كونها عابرة، إلا أنها أبدية، ورغم تحليقها في الهواء، فإنها ثابتة، لا تتزحزح ولا تتحرك. أصبح الاثنان كطائرٍ، بعد أن حلق عاليًا في زرقة السماء، بدا ساكنًا لا يهتز.

فهم راندهير الرائحة التي انبعثت من كل مسام هذه الفتاة الماراثية، لكنه عجز عن تشبيهها بأي شيء، كالرائحة التي تفوح من الماء عند رشه على الطين. لكن لا، تلك الرائحة كانت مختلفة؛ لم يكن فيها أي شيء من زيف اللافندر والعطور المصنعة؛ كانت حقيقيةً تمامًا، كالعلاقات الجامعة بين الرجل والمرأة، حقيقيةً وعتيقة.

كان راندهير يمقت رائحة العرق. بعد الاستحمام، كان عادةً يضع مسحوقًا معطرًا تحت إبطيه وفي مناطق أخرى؛ أو بعض الخلطات الأخرى التي تكبح رائحة العرق. ما أدهشه الآن هو أنه لم يشعر بأدنى اشمئزاز وهو يقبل إبطي الفتاة الماراثية المشعرين؛ بل على العكس، شعر بنوعٍ غريب من المتعة. أصبح شعر إبطيها الناعم رطبًا من العرق. الرائحة التي انبعثت منهما، وإن كانت مفهومة من جوانب عديدة، إلا أنها في النهاية كانت غير مفهومة. شعر راندهير أنه يعرفها، ويدركها، بل ويفهم معناها، لكنه لا يستطيع أن يجعل أي شخص آخر يفهمها.

في تلك الأيام الماطرة ذاتها نظر من النافذة نفسها فرأى أوراق شجر البيبال تُصدر صوتًا خافتًا وقد غسلها المطر. بدا صوتها وحفيف الريح وكأنهما يمتزجان. كان الظلام دامسًا، لكن النور كان مدفونًا في الظلام كما لو أن شعاعًا من ضوء النجوم قد شق طريقه مع قطرات المطر. في تلك الأيام من المطر، حين لم يكن في غرفة راندهير سوى سريرٍ خشب تيكٍ واحد. أما الآن فهناك سرير آخر بجواره؛ وفي الزاوية، طاولة زينة جديدة. نفس أيام المطر، نفس الفصل، قليل من ضوء النجوم يتسرب مع قطرات المطر. لكن الهواء صار الآن كان مشبعًا برائحة الحناء.

كان السرير الآخر خاليا. وعلى السرير الذي استلقى عليه راندهير جانباً، يراقب قطرات المطر وهي تداعب أوراق الشجر في الخارج، غطت امرأة بيضاء البشرة في النوم بعد أن حاولت عبثًا إخفاء الجزء العلوي من جسدها العاري بذراعيها. كان سلوارها الحريري الأحمر ملقى على السرير الآخر؛ حيث تدلى خيط من رباطه القرمزي الداكن.  كانت ملابسها الأخرى ملقاة أيضًا على السرير؛ حمالة صدرها، وسروالها الداخلي، وقميصها المزين بأزهار ذهبية، ووشاحها - كلها حمراء، حمراء بشكل مذهل. كانت مشبعة برائحة الحناء القوية. تجمعت بقع صغيرة من اللمعان مثل الغبار في شعر الفتاة. وعلى وجهها، اجتمع اللمعان وأحمر الشفاه لينتج لونًا غريبًا، باهتًا وبلا حياة. ترك حزام حمالة الصدر علامات على صدرها الأبيض.

كان ثدياها بلون الحليب، لكن تشوبهما مسحة زرقاء. أما إبطيها فحليقان، يبدوان كأنهما مُغبرّان بالكُحل. كان راندهير قد تأمّل هذه الفتاة مرارًا، وفكّر: "أليس الأمر وكأنني فتحت لتوي صندوقًا خشبيًا، وأخرجتها منه، كما تُخرج رزمة من الكتب أو أطقم الخزف؟ بل حتى جسدها يحمل الخدوش والآثار نفسها التي نجدها على الكتب والخزف."

فك راندهير أربطة حمالة صدرها الضيقة المحكمة؛ حيث ظهرت آثارها على اللحم الطري في ظهرها وصدرها. وكانت هناك أيضًا بقعة على خصرها من الرباط المشدود بإحكام. أما عقدها الثقيل ذو النهايات الحادة فقد ترك انبعاجات على صدرها، كما لو أن مساميرَ قد غُرزت فيه بقوة. في تلك الأيام الممطرة نفسها. تتساقط قطرات المطر على أوراق شجرة البيبال الناعمة الملساء، تصدر ذلك الصوت نفسه الذي سمعه راندهير طوال تلك الليلة. كان الطقس رائعا؛ هبت نسمة باردة؛ لكن رائحة أزهار الحناء القوية امتزجت بها.

انسابت يدا راندهير كالهواء على ثديي هذه الفتاة الشاحبة بيضاء البشرة، البيضاء كالحليب. بعثت أصابعه رعشة في جسدها الناعم. عندما ضغط صدره على صدرها، سمع صوت كل وتر ارتسم في جسدها. لكن أين كانت تلك الصرخة، تلك الصرخة التي استنشقها في رائحة تلك الفتاة الماراثية، تلك الصرخة التي كانت أوضح بكثير من صرخة طفل عطشان للحليب، الصرخة التي بعد أن تجاوزت حدود الصوت حتى تلاشت، فلم تعد تُسمع، ولكن ظل إحساسها حاضرًا بعمق لا يُوصف؟.

كان راندهير يحدق عبر قضبان النافذة. حيث كانت أوراق شجرة البيبال تصطخب بالقرب منه، لكن بصره كان يتجاوزها إلى أبعد من ذلك، إلى حيث يلمع ضوء خافت غريب عبر السحب الكثيفة، ضوءٌ يشبه ذاك الذي رآه في ثديي الفتاة الماراثية، ضوءٌ كجوهر السرّ، مختفٍ وظاهر في آنٍ واحد.

بين ذراعي راندهير، استلقت فتاة بيضاء البشرة، جسدها ناعم كالعجين الممزوج بالحليب والزبدة؛ من جسدها النائم فاحت رائحة الحنّاء المنهكة، المتبقية من الليل—رائحة بدت له كأنها زفرة رجل يحتضر، حامضة، كالتجشؤ؛ باهتة، حزينة، خالية من أيّ بهجة.

نظر راندهير إلى الفتاة المستلقية بين ذراعيه كما ينظر المرء إلى الحليب المتخثر، بكتلته البيضاء الخالية من الحياة العائمة في ماء فاتر. بنفس ذلك الاشمئزاز الفاتر، تركته أنوثتها بارداً. كان عقله وجسده لا يزالان مأخوذين بتلك الرائحة التي انبعثت بشكل طبيعي من الفتاة الماراثية؛ الرائحة التي كانت ألطف وأمتع بكثير من رائحة الحناء، التي لم يتردد في استنشاقها، التي تسللت إلى أعماقه بإرادتها وحققت غايتها الحقيقية.

بذل راندهير محاولة أخيرة لملامسة جسد تلك الفتاة الأبيض الحليبي، لكنه لم يشعر بأي رعشة. أما زوجته الجديدة- ابنة قاضي الدرجة الأولى، الحاصلة على بكالوريوس آداب، والتي كانت محط إعجاب العديد من الشبان في جامعتها- فلم تحرك فيه ساكنا في رائحة الحناء القاتلة، بحث عن تلك الرائحة التي استنشقها في تلك الأيام الممطرة، عندما كانت أوراق شجر البيبال تُغسل على نافذة مفتوحة، من جسد فتاة ماراثية قذرة.

(تمت)

***

....................

الكاتب: سعادت حسن منٹو/  (11 مايو 1912 - 18 يناير 1955) كاتب مسرحي  وروائي باكستاني، نشط في الهند البريطانية ولاحقًا، بعد تقسيم الهند عام 1947، في باكستان.اشتهر منٹو بكتاباته بالأردية، حيث ألّف 22 مجموعة قصصية، ورواية واحدة، وخمس سلاسل من المسرحيات الإذاعية، وثلاث مجموعات من المقالات، ومجموعتين من الرسومات الشخصية. تُعتبر أفضل قصصه القصيرة من الأعمال الأدبية الراقية التي يحترمها الكتّاب والنقاد. حوكم منٹو ست مرات بتهمة الفحش في كتاباته: ثلاث مرات قبل عام 1947 في الهند البريطانية، وثلاث مرات بعد الاستقلال في باكستان، لكنه لم يُدان قط. يُعتبر أحد أبرز كتاب الأردي في القرن العشرين.

 

بقلم: كاثي فيش

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

هذه الغيرة التي لديك مشكلة، تحتاجين إلى أن تحبي نفسك أكثر، تحتاجين إلى أن تكون أكثر ثقة بنفسك. أنا منجذب جدًا للنساء الواثقات من أنفسهن. لدي العديد من الصديقات. كتبت لي وهي غاضبة جدًا، وساعدتها. ألا تريدنني أن أكون الرجل الذي يساعد النساء؟ حسنًا، إذًا أنا الشخص السيئ هنا وأنتِ الملاك المثالية، أليس كذلك؟ أحبك، لكنكِ لا تتصرفين بعقلانية، أنتِ مجنونة قليلًا... هل أنتِ في دورتك الشهرية؟... ماذا قالت صديقاتك عني؟ هل تصدقين صديقاتك أكثر مني؟... أنا صادق معك 100%... لقد بحثتِ عن أشياء سيئة عني على الإنترنت!... أنا – كما تعلمين - أحب الانضمام إلى مواقع بأسماء مستعارة ومتابعة النساء... أنا لطيف ومهتم بحياتهن، هل هذا يجعلني متحرشًا؟... أعترف أنني كنت أطلب صورًا من النساء... أوه، ذلك البريد الإلكتروني الذي يحتوي على صورتي والذي أرسلته لكِ عن طريق الخطأ كان من عنوان بريد قديم... لا أعرف ماذا حدث، التكنولوجيا، أليس كذلك؟... حسنًا، كان مجرد تصرف أحمق يفعله السكارى... انتظري، الآن تعيدين ذكر تلك المرأة مرة أخرى، التي ادعت أن بيننا علاقة... إنها مجنونة!... كان بيننا محادثة طويلة عبر البريد ليلًا نتحدث عن أشياء مملة: الحياة، الأطفال، الكلاب... تحدثنا لثلاث ساعات وأرسلت لي صورًا، لكنني بالتأكيد لم أطلبها... وفجأة تعتقد أن بيننا شيء!... يا إلهي، إنها مجنونة!... لقد أساءت فهم الموقف... لا يجب أن تصدقيها... هذا يحدث لي دائمًا، أعتقد أنه يجب عليّ أن أكون أكثر حذرًا. أتمنى لو لم تكوني هكذا غير واثقة من نفسك.. أتمنى لو تستطيعين أن تكوني أكثر تسامحًا... لقد سامحتكِ مرارًا بسبب غيرتك، التي ما زالت مشكلة.

(انتهت)

***

...................

الكاتبة: المؤلفة: كاثى فيش/ Kathy Fish: كاتبة امريكية معروفة اشتهرت بكتابة القصة القصيرة جدا، لها أربع مجموعات من القصص ورواية قصيرة، تقوم بتدريس الكتابة الابداعية فى جامعة ريجيس في دنفر، كولورادو .

 

قصيدتان

بقلم: جيمس جريفيث فيرفاكس

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1) (منتصف النهار)

تحتشد السحب

وتشتد الرياح

مخضبة بالأدمع

والنهر عكر، رمادي اللون

ينساب في منعطف

كأنه شفرة فولاذية

شريرة

ثم يضيق مجراه

أخيرا

يمزق هذا الفرند المستل

بيد القدر

سنوات عمرنا

ليفصل النور

عن الظلام

***

(2) (الغسق)

ثمة سحابة مديدة

عجفاء

تطارد الشمس الآفلة

مثل الكلب السلوقي*

يسود لون السهل

وتغدو الموجة ذهبية اللون

لقد غسق الليل

لينتهي اليوم

تتمايل الخفافيش

وهي خارجة في دوائر

وتستفيق النجوم

على التوالي

***

.......................

* الكلب السلوقي: أو كلب الغزلان، كلب صيد منذ القدم . قد تكون التسمية متصلة بكلمة (سالوكي – الأرض الغاطسة) السومرية، أو بمدينة (سلوقية) الواقعة في العراق في الوقت الحاضر، بحسب بعض المصادر . 

- جيمس  جريفيث  فيرفاكس (1886 – 1976): شاعر ومترجم وسياسي بريطاني . خدم في الفرقة الهندية ال 15 خلال الحرب العالمية الأولى . كان صديقا للشاعر والناقد الأمريكي (عزرا باوند) (1885 – 1972) . نشر أول مجموعة شعرية له في عام 1906، وتحت عنوان (بوابات النوم وقصائد أخرى) . من أعماله (حتى الموت، شعراء الحرب) 1964 .

- للمزيد من الاطلاع على شعر الحرب العالمي ينظر (قبلة أخيرة قبل الذهاب إلى الحرب: مختارات من شعر الحرب العالمي) للمترجم، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2022 .

مقتطف من رواية صمت

بقلم: كارلا سواريز

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما كنت في السادسة من عمري، قرر والدي الانتقال للنوم في الصالة. لا أتذكر الكثير من ذلك الوقت، سوى صوت باب الغرفة يُغلق بعنف، ونداءات أمي الخافتة خلال الساعات التالية.

كنا نعيش في بيت جدتي، شقة كبيرة مليئة بغرف تحوي عوالم مختلفة؛ غرفة الجدة، وعمتي العزباء، وعمي الذي يعمل في التدليك، ثم نحن الثلاثة، قبل أن ينتقل أبي إلى الصالة.

كانت أمي أرجنتينية قررت في الستينيات القدوم إلى هافانا لدراسة المسرح، وهناك تعرفت على عمتي، التي بدأت في المسرح ثم انتقلت إلى الرقص، ومنه إلى الأدب، وهكذا، كانت تبحث دائماً عن نفسها، كما كانت تقول، أو "تضيع" كما كانت الجدة تقول.

بفضل عمتي، وصلت أمي إلى "البيت الكبير" والتقت بوالدي، الذي كان آنذاك ضابطاً شاباً في الجيش، من هؤلاء الذين تقدموا بجرأة وارتدوا الزي العسكري الذي كان يعجب الفتيات، خاصة التقدميات مثل أمي، التي وقعت في حب عميق وتخلت عن جنسيتها حتى لا يشعر أبي بالانزعاج لارتباطه بأجنبية. بالنسبة لعائلة أمي في أمريكا الجنوبية، كان هذا القرار بمثابة تنكر لهم كعائلة، فقرروا قطع العلاقات مع ابنتهم "الخائنة". أما الجدة، فمن ناحيتها  قبول امرأة تعيش في بيتها مع ابنها دون زواج كان عاراً، ولهذا قررت هي الأخرى التخلي عن زوجة ابنها. وهكذا بدأت أمي علاقتها دون موافقة أحد، لكنها كانت مقتنعة تماماً بحبها وصداقتها مع عمتي. أما العم فلم يكن يُحسب، لأنه لم يكن على علاقة جيدة مع أبي. حتى قبل ولادتي، كان أبي والعم بالكاد يتحدثان. لذا، اقتنعت أمي بضغط من زوجها بأن تتعامل مع أخيه ببرود ولامبالاة.

نشأت محاطة بكبارٍ مختلفين تماماً. كان لجدتي أربعة أبناء، أكبرهم كان المفضل لديها واحتل مكان الجد بعد مغادرته المنزل. حدث ذلك قبل ولادتي بزمن، لذا لم ألتقِ به قط، وكان ذكر اسمه محظوراً في البيت. في أحد الأيام، هجر الجد الجدة، فانتقل الابن الأكبر إلى غرفتها وأصبح سندها حتى قرر الزواج والانتقال لمكان آخر، عندها أعلنت الجدة الحرب على المرأة التي أخذت بكرها وحولت كل حبها إلى أبي، الأصغر. كان أبي يعد بمستقبل باهر، وأصبح شريكاً لوالدته في كرهها الصريح لأخيه الأكبر عندما قرر الانتقال بعيداً، حتى استقر في ميامي مع زوجته. بالطبع، كل هذا حدث قبل ظهوري في العائلة، لأنه بمجرد انتقال أمي إلى البيت، شعرت الجدة بأنها مضطرة لاحتقار ابنها العسكري، إذ يبدو أنه لم ينوِ إضفاء الشرعية على علاقته.

في تلك الفترة، أعتقد أن الجدة مرت بظروف صعبة، واضطرت للاختيار بين عمتي (الابنة الثانية) والعم الثالث. لم تكن علاقتها مع عمتي جيدة أبداً، لأنها كانت المفضلة لدى الجد، وكانت كلما حاولت الجدة التحدث عن زوجها السابق باحتقار، تقفز عمتي للدفاع عنه بكلمات سحرية تجبر الجدة على الصمت. أما العم الثالث فكانت له مشاكله الخاصة، ليس فقط بسبب قطيعة أبي معه، بل بسبب سرٍّ عائلي لم يجرؤ أحد على البوح به. أعلم أنه قبل أمي، كان أبي والعم يتشاركان الغرفة نفسها، حتى قررت الجدة نقله إلى غرفة صغيرة بجوار المطبخ. بالطبع، في ذلك الوقت، كان أبي لا يزال المفضل، وعندما ولدت، كان العم قد أسس مملكته بعيداً عن الجميع، في ذلك الركن الخلفي.

قضت الجدة بضع سنوات دون ابنٍ مفضل، حتى قرر العم ذات يوم - قبل أن ينتقل أبي للنوم في الصالة - أن يتفرغ لعمل التدليك. وهكذا بدأ البيت يزدحم بفتيات صغيرات يدخلن إلى الصالة، يبتسمن لي وأنا طفلة رضيعة، ثم يعبرن المطبخ متجهات إلى غرفة العم وجلساته. بالنسبة للجدة، كان ذلك بمثابة بصيص نور، فحسمت صراعها الداخلي وركزت كل قواها على الابن "المدلك" الذي كان يعود كل يوم محملاً بالزهور والحلوى لها.

حتى تلك اللحظة، ربما حافظت غريزتي الطفولية على أمل أن تحتضنني جدة تُهدهدني بأغانٍ وتُغمرني في حجرها، لكن اختيارها للعم حطم أحلامي. كنتُ "غير شرعية"، مولودة خارج إطار الزواج، وابنة لأجنبية أيضاً. باختصار، اضطررت للاكتفاء بذراعي أمي وعمتي، التي كانت تتركني بمجرد أن أتبول بحجة أن بول الأطفال يُصيبها بالزكام! أما أبي، فكنت أراه نادراً؛ كان غارقاً في العمل، لذا علقت أمي صورة له فوق مهدي. كل ليلة قبل النوم، كانت تجعلني أُرسل قبّات للصورة، ثم تهديني حفلاً موسيقياً كاملاً من الأغاني التي بدت في صوتها حلواً كالعسل، تُغرقني في النعاس. تقول إن أول كلمة نطقتُها بعد "بابا" و"ماما" كانت "بندقية"، لأن أغانيها لم تكن تدور حول دباديب أو فراشات، بل عن بنادق وموت. وعندما كانت تسهر مع عمتي بجانب مهدي في الليل، كنت أسمع كلمات غريبة متنافرة، فأبدأ بالصراخ - لغتي الوحيدة التي توائم ذلك الجو!

كانت غرفة عمتي أفضل غرفة في البيت. هناك انتقلت أحاديثهن الليلية عندما بدأت المشي. كن يتحدثن بينما أتجول في الغرفة أمسك بكل ما تقع عليه عيناي: كتباً، دُمى، أكواب، أقلام، أجهزة غريبة... كانت عمتي تمتلك كنزاً من الأشياء وتُصاب بالذعر إذا كسرتُ شيئاً. هناك تعلمت كلمتي "خرا" و"لعنة"، اللتين بدتا لي جميلتين لكثرة ترديدهن إياهما. أحببتُ أيضاً الراديو الصغير في الغرفة؛ كانت عمتي ترفع الصوت أحياناً وتشرع في العزف بشكل مزعج، فتحلّ الفرحة ونقفز نحن الثلاث على السرير حتى نسمع صوت الجدة من الغرفة المجاورة تضرب الباب، فنلزم الصمت مكتومات الأنفاس من الضحك. بعد قليل، تجبرني أمي على السكون لعبور الممر إلى غرفتنا، نرسل قبّات لصورة أبي ثم ننام. لكني كنت أجد صعوبة في النوم لأنها كانت تسهر معظم الليل تقرأ كتاباً تحت ضوء المصباح الخافت. عالمي آنذاك كان محصوراً في غرفة عمتي وغرفتنا، لأن أمي أعلنت أن الصالة "منطقة محظورة" بعد مشادة طويلة مع الجدة بسبب تبولي مرتين أو ثلاث على الأريكة أو على إحدى الفتيات اللاتي كن يأتين لجلسات تدليك العم!

حتى تلك اللحظات، كان كل شيء يسير على ما يرام. كانت عائلتي متماسكة تمامًا، كان لدي أب اعتاد أن يترك لي هدايا صغيرة فوق المهد، وأم كانت تغني الأغاني، وعمة شديدة المرح، وجدة كثيرة المشاجرات مثل معظم الجدات، وعم يمتلك الكثير من المعارف.

كنت سعيدة. كنت أقضي النهار بالتناوب بين أمي والعمة، وكان ذلك وقتي المفضل، لأنها كانت تجلس للكتابة على الآلة الكاتبة، وأنا أستطيع أن آخذ كل ما أريد، أن ألعب بأغراضها، أن أتسلق السرير بينما هي تكتب دون أن توبخني إلا نادرًا. كنت أفعل ما يحلو لي، وكانت تقترب مني فقط بين الحين والآخر عندما تشم رائحة مزعجة؛ فتقوم بتغيير حفاضتي وتلقي (الحفاضة) في وعاء ثم تقدمه لأمي شاكية لأن رائحة براز الأطفال تسبب لها الغثيان.

في تلك السنوات الأولى، كانت عمتي أديبة وتقضي ساعات طويلة في المنزل، لذلك كانت أمي تتركني تحت رعايتها بين الحين والآخر. أما بقية الأيام، فكنت أسافر مع أمي من مكان إلى آخر، إلى أماكن مليئة بأشخاص يتحدثون كثيرًا، أو إلى قاعات التدريب حيث كان الجميع إما يوبخونني أو يمررونني من يد إلى أخرى حسب مزاجهم، لكن الأمر كان ممتعًا أيضًا لأنهم أحيانًا كانوا يعطونني دمية أو قناعًا فألعب طوال العصر.

ثم حدث ذات ليلة شيء فظيع. كنا في غرفة العمة وكانتا تتحدثان كالعادة، وفجأة نهضت عمتي غاضبة وهتفت بشيء عن "الواقعية الاشتراكية" مصحوبة بـ"هراء مطلق". وبالطبع لم يعجب ذلك أمي، فاشتعلت غضبًا وبدأت تصرخ بشكل غريب وعلى غير المعتاد. انزويت في زاوية دون أن أفهم شيئًا، ورأيتهما تتشاجران، وكاد الأمر يصل إلى الاشتباك بالضرب، حتى أمسكتني أمي من ذراعي وقالت إن عمتي غبية وإنها لن تطأ تلك الغرفة أبدًا بعد اليوم.

فى تلك الليلة، لم أضطر إلى إرسال القبلات إلى صورة أبي، وبالطبع لم أستطع النوم. أما أمي فقد ظلت تدور في الغرفة، تنظر إلى الساعة، وأبي لم يعد. بقيت متظاهرة بالنوم طوال الوقت، متكورة تحت الأغطية، وكانت تلك أول ليلة أشهد فيها عودة أبي. فتح الباب ودخل بهدوء محاولًا عدم إصدار صوت، حتى اصطدم بنظرة أمي الحادة من السرير.

— إذا جئتني بحجة أنك كنت في الحراسة مرة أخرى، سأقلع خصيتيك.

أشار أبي بعلامة إرهاق وقال شيئًا عن الذهاب إلى الصالة، حتى لا يوقظ الطفلة. لكن أمي نهضت غاضبةً مضيفةً أنها لا تكترث أبدًا إذا سمعت الطفلة أم لا، وأنها سئمت من الاختباء في الصالة كي لا تسمعها الجدة والطفلة، سئمت من كل شيء ومن هذه العائلة المجنونة، من نوبات حراسة أبي، وحماقات الجدة، والعالم المناضل، وللأسف العمة المتعجرفة ونصف الخائنة. في تلك الليلة اكتشفت أنه بعد الأغاني التي كانت تغنيها لي، كانت تبقى مستيقظة تنتظر عودة أبي لتذهب إلى الصالة وتتشاجر. واكتشفت أيضًا أن الأمور لم تكن على ما يرام كما كنت أظن.

منذ تلك الليلة، توقفت أمي والعمة عن التحدث ولم تعد هناك زيارات ليلية للصالة. كنت أنام، ومع أولى صرخات أمي المكتومة، أستيقظ لأغطي أذني بالملاءة، وعندما تشتد الأمور، أبدأ في البكاء، بقوة، بقوة، حتى تدق الجدة الباب مطالبةً بالصلاة والشكوى لأنه لم يعد بالإمكان حتى النوم في هذا البيت. عندها تستغل العمة الضجة من غرفتها لتشغل المذياع، بينما تمسكني أمي، ويقرع أبي باب أخته بعنف مطالبًا بالاحترام، وتذهب الجدة لإيقاظ العم، لأنه الوحيد الذي يعتبره، الوحيد اللائق الذي يعيش في بيته.

بسبب كل ذلك، انفجرت أمي بالبكاء في اليوم الذي قرر فيه أبي الذهاب للنوم في الصالة. كنت في السادسة من عمري، وقضيت قرابة ثلاثين ساعة دون طعام لأن أمي ظلت تبكي وتنشج، تمسح مخاطها وتواصل البكاء بلا توقف، بلا عزاء، ترمي المناديل المبللة على الأرض ثم تجفف دموعها بالملاءات لتواصل البكاء، حتى ابتل كل شيء ولم يتبق سوى ملاءاتي الجافة. نظرت إلي أمي، التقت نظراتنا، فانقطع بكاؤها فجأة.

—  لن أبكي بعد اليوم، صغيرتي، أعدك.

ولم تبكِ بعد ذلك، لكنها أيضًا لم تفعل شيئًا آخر. حينها اشترت جهاز التسجيل ذلك المستعمل وبدأت في سماع التانجو. تخلت عن المسرح، توقفت عن الحديث مع الجميع في البيت؛ كانت تخرج من الغرفة فقط عندما ترى الأمر ضروريًا، وأحيانًا لتأخذني إلى الحديقة وتتناول جرعة في بار الزاوية. لم تكن أمي تسمع سوى التانجو، وكانت تساعدني على النمو. عندما يخاطبها أبي، كانت تكتب على ورقة ما تراه مناسبًا، فقط ذلك، ثم تعود إلى سماغ أغانيها. كنت أراقبها صامتة، وأقسَمت لنفسي أنني لن أبكي هكذا أبدًا، لن أظهر دموعي أبدًا، لأن وراء البكاء لم يكن سوى تانجو، وهذا ما كان يجعلني أرغب في البكاء، ولم أكن أريد، لن أبكي أبدًا، أبدًا بهذه الطريقة، لا من أجل شيء، ولا من أجل أحد، ولا حتى من أجل ما كنت بالكاد أفهمه آنذاك.

كبرت وأنا أسمع الكلمات التي يتبادلها الآخرون، صمت أمي وكلمات التانجو، أغنيات طفولتي، تلك التي كانت ترددها دائمًا:

"...عندما تُغلق كل الأبواب..."

وتعوي أشباح الأغنية،

مالينا تُغنّي التانجو بصوتٍ مُتهدّج،

مالينا تحمل حزن آلة الباندونيون...

(انتهى)

***

..................

الكاتبة: كارلا سواريز/Karla Suárez: كاتبة كوبية. وُلدت في هافانا عام 1969. منذ طفولتها، كانت شغوفة بالرياضيات وكتابة القصص والموسيقى. درست الجيتار الكلاسيكي وحصلت على شهادة في الهندسة الإلكترونية، وهو مجال ما زالت تمارسه. وسواريز مؤلفة لخمس مجموعات قصصية وأربع روايات. حازت رواياتها على العديد من الجوائز، منها جائزة "لغة التراپو" لرواتها الأولى "صمت" (1999)، والتي اختيرت بفضلها ضمن أفضل عشرة روائيين لعام 2000 من قبل صحيفة "إل موندو". كما فازت بجائزة "بري كاربيه" للكاريبي والعالم وجائزة الكتاب الجزري في فرنسا عام 2012.تعيش حاليًا في لشبونة، حيث تشرف على نادي القراءة في معهد ثيربانتس وتدرّس الكتابة الإبداعية في مدرسة الكتّاب بمدريد.

 

لورا إي. ريتشاردز

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان الفتى الصغير يعمل بجد في الحقل والحظيرة والمخزن طوال النهار، إذ إن أسرته كانت من الفلاحين الفقراء، ولا يستطيعون دفع أجر لعامل. لكن عند غروب الشمس، كانت هناك ساعة واحدة تخصه وحده، إذ منحها له والده. كان الفتى يصعد خلالها إلى قمة تل، وينظر عبر الوادي إلى تل آخر يرتفع على بُعد أميال. وعلى ذلك التل البعيد، كان هناك بيت ذو نوافذ من الذهب الصافي والماس. كانت تتلألأ وتلمع لدرجة تجعله يغمض عينيه حين ينظر إليها؛ لكن بعد وقت، بدا وكأن سكان البيت قد أغلقوا النوافذ بالمصاريع، فيتحول المشهد إلى ما يشبه بيتًا ريفيًا عاديًا. وكان الفتى يظن أنهم يفعلون ذلك لأن وقت العشاء قد حان، ثم يعود هو إلى بيته ويتناول عشاءه من الخبز والحليب، ومن ثم يذهب إلى فراشه.

ذات يوم، ناداه والده وقال له:

"لقد كنت فتىً صالحًا، وقد استحققت يوم عطلة. خذ هذا اليوم لنفسك؛ لكن تذكّر أن الله هو من وهبه لك، فحاول أن تتعلم فيه شيئًا نافعًا."

شكر الفتى والده وقبّل والدته، ثم وضع قطعة من الخبز في جيبه، وانطلق في طريقه ليبحث عن البيت ذي النوافذ الذهبية.

كان السير ممتعًا. كانت قدماه الحافيتان تتركان آثارًا في الغبار الأبيض، وعندما كان يلتفت إلى الوراء، كانت آثار الأقدام تبدو وكأنها تتبعه وتؤنسه. وكان ظلّه أيضًا يسير بجانبه، يرقص أو يجري معه كما يشاء؛ فكان ذلك باعثًا على البهجة والسرور.

بعد قليل، شعر الفتى بالجوع، فجلس بجانب جدول بنيّ اللون كان يجري عبر سياج من شجيرات الألدر على جانب الطريق، وأكل خبزه وشرب من الماء الصافي. ثم نثر الفتات للطيور، كما علمته والدته، ومضى في طريقه.

وبعد وقت طويل، وصل إلى تلٍ أخضر عالٍ؛ وعندما تسلق التل، رأى البيت في القمة؛ لكن بدا أن النوافذ كانت مغلقة، فلم يرَ النوافذ الذهبية. اقترب من البيت، وكاد يبكي، إذ كانت النوافذ من زجاج صافٍ كغيرها من النوافذ، ولم يكن هناك أثر للذهب في أي مكان.

خرجت امرأة إلى الباب، ونظرت إلى الفتى بلطف، وسألته عمّا يريد.

قال لها:

" رأيت النوافذ الذهبية من قمة تلنا، وقد جئت لأنظر إليها، لكنها الآن ليست سوى زجاج."

هزّت المرأة رأسها وضحكت. قالت:

"نحن أناس فقراء من أهل الزراعة، ولا يمكن أن يكون عندنا ذهب على نوافذنا؛ لكن الزجاج أفضل للرؤية من خلاله."

طلبت من الفتى أن يجلس على العتبة الحجرية العريضة عند الباب، وجلبت له كوبًا من الحليب وكعكة، ودعته إلى أن يستريح؛ ثم نادت على ابنتها، وكانت في مثل سنّه، وابتسمت لهما بلطف، ثم عادت إلى عملها.

كانت الطفلة حافية القدمين مثله، وترتدي ثوبًا قطنيًا بنيًا، لكن شعرها كان ذهبيًا كنوافذ البيت التي رآها، وعيناها زرقاوين كلون السماء عند الظهيرة. اصطحبت الفتاة الفتى وأخذت تتجول به في المزرعة، وأرته عجلها الأسود ذا النجمة البيضاء على جبهته، فحدثها هو عن عجله في البيت، الذي كان لونه كالكستناء وله أربع قوائم بيضاء. ثم، بعد ما أكلا تفاحة معًا، وصارا صديقين، سألها الفتى عن النوافذ الذهبية. فأومأت الطفلة برأسها، وقالت إنها تعرف كل شيء عنها، لكنّه أخطأ في تحديد البيت.

شرحت له:

" لقد جئت من الطريق الخطأ تمامًا! تعال معي، وسأريك البيت ذا النوافذ الذهبية، وحينها سترى بنفسك."

ذهبا إلى ربوة صغيرة خلف المزرعة، وبينما كانا يسيران، أخبرته الفتاة أن النوافذ الذهبية لا تُرى إلا في ساعة معينة، عند الغروب تقريبًا.

فقال الفتى:

" نعم، أعلم ذلك!"

عندما وصلا إلى قمة الربوة، استدارت الفتاة وأشارت بيدها؛ فإذا على تل بعيد يقف بيت ذو نوافذ من الذهب الصافي والماس، تمامًا كما رآها من قبل. وعندما أعادا النظر، رأى الفتى أن ذلك البيت لم يكن سوى بيته هو.

عند ذلك قال للفتاة الصغيرةَ أنه يجب أن يرحل؛ فأعطاها حجره الكريم المفضل، ذاك الأبيض ذو الخط الأحمر، والذي كان يحتفظ به في جيبه منذ عام. وأعطته هي ثلاث كستناء حصان: إحداها حمراء كالسَّاتان، وأخرى مرقطة، وثالثة بيضاء كالحليب. قبّلها، ووعدها أن يعود من جديد، لكنه لم يخبرها بما تعلّمه؛ وهكذا نزل التل عائدًا، وظلت الفتاة واقفة في ضوء الغروب تراقبه وهو يمضي.

كان الطريق إلى المنزل طويلاً، وكان الظلام قد حل قبل أن يصل الصبي إلى منزل أبيه ؛ لكن ضوء المصباح ولهيب الموقد كانا يسطعان من خلال النوافذ، مما جعلها تكاد تضيء كما رآها من قمة التل. وعندما فتح الباب، جاءت والدته لتقبّله، وأسرعت شقيقته الصغيرة لترتمي بذراعيها حول عنقه، ورفع والده عينيه وابتسم له من مقعده بجانب النار.

سألته أمه:

"هل كان يومك سعيدًا؟".

نعم، كان يوم الفتى سعيدًا جدًا.

سأله والده:

"وهل تعلمت شيئًا؟".

قال الفتى:

"نعم! لقد تعلمت أن نوافذ منزلنا من الذهب والماس."

(تمت)

***

...................

الكاتبة: لورا إليزابيث هاو ريتشاردز/ Laura E. Richards (27 فبراير 1850 – 14 يناير 1943) كاتبة أمريكية. ألّفت أكثر من 90 كتابًا، من بينها سير ذاتية، ومجموعات شعرية، وكتب للأطفال.  وُلدت لورا إليزابيث هاو في بوسطن، ماساتشوستس، في 27 فبراير 1850. كان والدها الدكتور صامويل جريدلي هاو، من مناهضي العبودية ومؤسس "مؤسسة بيركنز ومدرسة ماساتشوستس للمكفوفين". وقد سُمّيت على اسم تلميذته الشهيرة الكفيفة الصماء، لورا بريدجمان. أما والدتها، جوليا وارد هاو، فهي التي كتبت كلمات النشيد الشهير "نشيد معركة الجمهورية" (The Battle Hymn of the Republic). في عام 1917، فازت لورا بجائزة بوليتزر عن كتاب السيرة الذاتية "جوليا وارد هاو، 1819-1910"، الذي شاركت في تأليفه مع شقيقتيها، مود هاو إليوت وفلورنس هول.

بقلم: أرنولف أوفيرلاند*

ترجمة: سهيل الزهاوي

***

في هذا الكون، سعادةٌ في الحياة،

لا تُرضي النفسَ إلا حين تُدخل

البهجةَ والفرحَ في قلوب الآخرين،

تلك هي أصل السعادة.

*

في هذا الكون، حزنٌ يترقبنا،

إذا أدركتَ الحزنَ في غير أوانه،

فلن تُخفِّف الدموعُ من وطأته،

فالحزنُ يبقى، وإن سالت دموعنا.

*

لا يستطيع المرء أن يقضي الحياة،

واقفًا دومًا أمام شاهد القبر،

يتظلم من حسرته ولوعته،

*

اَلسنَة، نَافِذة مَفتُوحة على اَلعدِيد مِن الأيَّام.

اَلعدِيد مِن السَّاعات فِي اليوْم.

***

.....................

* كتبت هذه القصيدة في عام 1929 ونشرت في مجموعة "لوحة المنزل). في الماضي، في وقت كتابة القصيدة، اعتاد الناس كتابة رسائل متنوعة على لوحة معلقة في المنزل. كانت هذه اللوحات تحمل حكمًا وأمثالًا توجه أفراد الأسرة في حياتهم اليومية، مما جعلها جزءًا لا يتجزأ من ثقافة المنازل في ذلك الزمن.

 

بقلم: آدام زاغاييفسكي

ترجمة: صالح الرزوق

***

القطار السريع يجتاح بيوت

الضواحي مثل خنجر جائع للقلب فقط.

صوت دكتاتور أو ما شابه

يقترب مني عبر مكبرات الصوت

وسنجاب يقفز من غصن لآخر

ويذهب بعيدا.

هذه نهاية الصيف، ثمار أشجار الأرز ثقيلة،

وراهبة بثوب بني خشن

تبتسم كأنها مرتاحة لكل شيء حولها.

اليعاسيب تلمس طبقة الزيت اللماعة في البركة،

وزوارق التجديف تنزلق وتبتعد في وهج شمس الغروب القرمزية.

الحر، مثل ضابط الجمارك، يتحسس

كل شيء وهو في غمده.

ساعي البريد يغفو على الكرسي والرسائل تقفز

من حقيبته كأنها سنونوات، المثلجات تذوب فوق الأعشاب،

حيوانات الخلد تكوم التراب على شرف أبطال أموات

مجهولين.  أشجار سوداء

تقف فوقنا، وتمتد بينها نار خضراء.

***

.....................

آدام زاغاييفسكي - Adam Zagajewski: شاعر بولوني. القصيدة من مجموعته كانفاس. صدرت ترجمتها الإنكليزية في الولايات المتحدة عام 1991

أيلول يقترب، والحرب، والموت.

قصة: إيزابيل ألليندي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في سن الحادية عشرة، كانت إلينا ميخياس لا تزال فتاة هزيلة ذات بشرة شاحبة كأطفال العزلة، وفم تظهر فيه فراغات لم تملأها بعد الأسنان الدائمة، وشعر بلون الفئران، وهيكل عظمي بارز يكاد يخرج من مرفقيها وركبتيها، وكأنه أكبر بكثير من بقية جسدها. لم يكن في مظهرها ما يدل على أحلامها الملتهبة، ولا ما يُنذر بالكائن الحسيّ الذي كانت ستصبحه لاحقًا. وسط أثاثٍ باهت وستائر ذابلة في منزل والدتها الذي كان يُستخدم كبيت ضيافة، كانت تمر دون أن يلاحظها أحد. بدت كطفلة حزينة تائهة تلعب بين نباتات الجيرانيوم المغبرة والسراخس الضخمة في الفناء، أو تتنقّل جيئةً وذهابًا بين الموقد وطاولات غرفة الطعام لتقديم وجبة المساء.

وعندما كان أحد النزلاء يلاحظ وجودها، نادرًا ما كان ذلك لأمر سوى أن يطلب منها رشّ مبيدٍ للصراصير، أو ملء خزان المياه في الحمّام حين تعجز المضخّة المزعجة عن رفع الماء إلى الطابق الثاني. كانت والدتها، المنهكة من الحرّ ومن أعباء إدارة بيت الضيافة، تفتقر إلى الطاقة اللازمة للعطف، أو إلى الوقت لتمنحه لابنتها، لذا لم تلاحظ حين بدأت إلينا تتحول إلى مخلوق مختلف.

لقد كانت دائمًا طفلة هادئة، خجولة، منغمسة في ألعاب غامضة، تحدث نفسها في الزوايا وتمصّ إبهامها. لم تكن تغادر المنزل إلا للذهاب إلى المدرسة أو السوق، ولم تُبدِ اهتمامًا يُذكر بالأطفال الصاخبين الذين من عمرها والذين كانوا يلعبون في الشارع.

التحوّل الذي طرأ على إلينا ميخياس تزامن مع وصول خوان خوسيه بيرنال، "العندليب"، كما كان يحب أن يُسمي نفسه، وكما أعلن ذلك الملصق الذي علّقه على جدار غرفته بصخب.

كان معظم نزلاء البيت من الطلاب أو من موظفي إحدى الدوائر الحكومية الغامضة. "ناس محترمون بحق"، كما كانت تقول أم إلينا دائمًا، فهي كانت تفخر بأنها لا تقبل في بيتها أيّ كان، بل فقط الأشخاص المحترمين، ممن لديهم مورد رزق ظاهر، ويتّسمون بحسن السلوك، ويملكون ما يكفي من المال لدفع أجرة الغرفة والطعام لشهر كامل مسبقًا، والأهم من ذلك: أن يكونوا على استعداد لاحترام أنظمة بيتها—والتي كانت أشبه بأنظمة معهد ديني أكثر منها بفندق.

" يجب أن تحافظ الأرملة على سمعتها وتحظى بالاحترام، لا أريد أن يتحوّل منزلي إلى ملاذ للمتشردين والمنحرفين"

كانت والدتها تردد ذلك دائمًا، حتى لا تنسى إلينا، ولا أحد غيرها.

وكان من بين مهام الفتاة أن تتجسس على الضيوف وتُبلغ أمها عن أي سلوك مريب. تلك المراقبة الدائمة أضفت على إلينا هالة خفيّة من الغموض، إذ كانت تتحرّك في صمت مطبق، فتختفي بين ظلال الغرف ثم تظهر فجأة كما لو عادت من بُعدٍ آخر.

كانت الأم والابنة تتقاسمان أعمال البيت الكثيرة، تغوص كل منهما في روتينها الصامت، دونما حاجة للكلام. وحقًا، كانتا نادرًا ما تتحدثان، وإن حدث، فخلال فترة القيلولة القصيرة، وكانت الأحاديث دومًا عن النزلاء. أحيانًا، كانت إلينا تحاول أن تلوّن حياة أولئك الرجال والنساء العابرين الذين لا يتركون أثرًا، فتنسج حولهم قصة حب سرية أو مأساة ما، لكنها كانت تصطدم دومًا بحدس والدتها الذي لا يخطئ في كشف الخيال.

كانت والدتها تعرف متى تخفي عنها إلينا شيئًا. كان لديها حسّ عملي لا يُقاوَم، وفهم دقيق لكل ما يدور تحت سقفها. كانت تعرف تمامًا ما يفعله كل نزيل في أي ساعة من الليل أو النهار، كم تبقّى من السكر في خزانة المؤونة، من يُتصل به حين يرن الهاتف، وأين تُركت المقصات آخر مرة.

كانت في شبابها امرأة مرحة، بل وجميلة، لكن فساتينها الرثة بالكاد كانت تحبس نفاد صبر جسدٍ لا يزال شابًا. غير أن سنوات الكفاح في سبيل لقمة العيش استنزفت روحها شيئًا فشيئًا.

لكن حين جاء خوان خوسيه بيرنال يسأل عن غرفة، تغيّر كل شيء، بالنسبة لها... وبالنسبة لإلينا أيضًا.

لقد أسرتها طريقة "العندليب" المتكلفة في الكلام، وتلك الهالة من الشهرة التي أضفاها الملصق المعلّق على غرفته، فتجاهلت قواعدها الصارمة وقبلت به نزيلاً، رغم أنه لا يشبه بأي شكل النموذج المثالي للنزيل الذي كانت تبحث عنه.

أخبرها بيرنال بأنه يغني ليلًا، لذا يحتاج إلى النوم نهارًا، وأنه بين عقود عمل ولا يستطيع دفع الأجرة مقدمًا، وأنه شديد التدقيق في طعامه ونظافته—فهو نباتي، ويحتاج إلى الاستحمام مرتين في اليوم.

كانت إلينا تراقب كل ذلك بدهشة صامتة، دون تعليق أو سؤال، وهي ترى أمها تسجل اسمه في دفتر النزلاء، ثم تصطحبه إلى غرفته، تكاد تترنح تحت ثقل حقيبته، بينما هو يحمل علبة جيتاره والأنبوب الكرتوني الذي يحوي ملصقه الثمين.

من زاويتها المموّهة على الجدار، تبعتهما إلينا على السلالم، ولاحظت النظرة الفاحصة التي ألقى بها النزيل الجديد على تنورة القطن اللاصقة بجسد والدتها المتعرق.

وحين دخلا الغرفة، ضغطت إلينا زر الكهرباء، فانطلقت شفرات المروحة السقفية تدور بصوت معدن صدئ.

كان وصول بيرنال بمثابة إعلان فوري لتغيير روتين المنزل.

أصبح هناك مزيد من العمل، لأن بيرنال كان ينام حتى يغادر بقية النزلاء إلى أعمالهم؛ وكان يحتكر الحمّام لساعات؛ ويستهلك كميات مذهلة من الخضار النيئة التي كانت تُحضَّر له خصيصًا؛ وكان يستخدم الهاتف باستمرار؛ ولم يكن يتردد في استخدام المكواة لتسوية قمصانه، دون أن يُحاسب على هذا الامتياز الغريب.

كانت إلينا تعود إلى البيت وقت القيلولة، حين تكون الشمس في أوج سطوعها والنهار خاضعًا لبريق أبيض فتاك، ومع ذلك، كان خوان خوسيه بيرنال لا يزال نائمًا.

وحسبما أمرتها والدتها، كانت إلينا تخلع حذاءها لتُحافظ على الصمت المصطنع في المنزل.

وكانت تدرك أن أمها بدأت تتغيّر يومًا بعد يوم. لقد لاحظت العلامات منذ البداية، قبل أن يبدأ النزلاء بالهمس خلف ظهر والدتها.

أولًا، كان العطر الذي بدأ يلتصق بأمها ويخلف أثرًا في الغرف التي تمر بها ، إلينا، التي تعرف كل زاوية في البيت، والتي دُرّبت طويلًا على التلصص، سرعان ما اكتشفت زجاجة العطر مخفية خلف أكياس الأرز وعلب المعلبات في خزانة الطعام.

ثم لاحظت الكحل الداكن الذي يحدد جفون أمها، واللون الأحمر على شفتيها، والملابس الداخلية الجديدة، وابتسامتها الفورية كلما نزل بيرنال في المساء، وشعره لا يزال مبتلًا من الحمام، ليأكل أطباقه الغريبة التي لا تصلح إلا ليوجي.

كانت والدتها تجلس مقابلة له، تستمع إليه وهو يروي مغامراته كفنان، ويفصّل كل حكاية بضحكة عميقة.

لأسابيع عدّة، كرهت إلينا ذلك الرجل الذي استولى على كلّ مساحة في البيت وكلّ انتباه أمّها. كانت تنفر من شعره المصفوف ببريق البريانتين، وأظافره المصقولة، وحماسه المفرط في استعمال عود الأسنان، وتفكّره المتكلّف، وافتراضه الوقح بأنّ الجميع في خدمته. تساءلت عمّا قد تراه أمّها فيه: لم يكن سوى مغامر صغير الشأن، مؤدٍّ في الحانات لا يعرفه أحد، بل ربّما كان وغدًا كاملًا، كما همست الآنسة صوفيا، إحدى أقدم النزلاء.

في مساء أحد دافئ، حين لم يكن هناك ما يُفعل وتوقّف الزمن بين جدران المنزل، ظهر  خوان خوسيه بيرنال في الباحة يحمل جيتاره؛ استقرّ على مقعد تحت شجرة التين وبدأ يعزف بعض الأوتار. جذبت الأصوات جميع النزلاء، الذين راحوا يطلّون واحدًا تلو الآخر، أولًا بتردّد، غير واثقين من سبب هذا الحدث غير المألوف، ثمّ بحماسة متزايدة؛ أحضروا كراسي غرفة الطعام ورتّبوها في حلقة حول العندليب. كان صوته عاديًّا، لكنّه كان يملك أذنًا موسيقيّة جيدة ويغنّي بجاذبية معيّنة. كان يعرف جميع البوليروهات النموذجية والبلدات الريفية من التراث الشعبي، وبعض أغاني الثورة المليئة بالتجديف والكلمات البذيئة التي جعلت النساء يحمررن خجلًا.

لأوّل مرة في ذاكرتها، شعرت إلينا بجوّ من الاحتفال في البيت. وعندما حلّ الظلام، أضاءوا مصباحين يعملان بالكيروسين وعلّقوهما على الأشجار، وأحضروا البيرة وزجاجة الروم المخصّصة لعلاج الزكام. كانت إلينا ترتجف وهي تملأ الكؤوس؛ شعرت بكلمات الأغاني الموجعة وأنين الجيتار في كلّ ذرة من جسدها، كأنّها حُمّى. كانت أمّها تنقر بإصبع قدمها على الإيقاع. فجأة، نهضت، وأمسكت بيدي إلينا، وبدأتا ترقصان، تبعتهما على الفور البقيّة، بمن فيهم الآنسة صوفيا، يرفرفون ويضحكون بتوتر.

رقصت إلينا لبرهة بلا نهاية، تتحرّك على إيقاع صوت بيرنال، ملتصقة بجسد أمّها، تستنشق العطر الزهريّ الجديد، سعيدة سعادة خالصة. ثم شعرت بأمّها تدفعها بلطف بعيدًا، وتنسحب لترقص وحدها. كانت أمّها، بعينيها المغمضتين ورأسها مائلًا إلى الخلف، تتمايل كما لو كانت قطعة قماش تُجفّف في النسيم. انسحبت إلينا من ساحة الرقص، وعاد جميع الراقصين إلى مقاعدهم، تاركين صاحبة البيت وحدها في وسط الباحة، ضائعة في رقصتها.

بعد تلك الليلة، بدأت إلينا ترى بيرنال بعينين جديدتين. نسيت أنّها كانت تكره شعره اللامع، وأعواد أسنانه، وغروره، وكلّما رأته أو سمعت صوته، تذكّرت الأغاني التي غنّاها في تلك السهرة الارتجالية، وعاد الاحمرار إلى بشرتها، والارتباك إلى قلبها، حُمّى لم تكن تعرف كيف تعبّر عنها بالكلمات.

أخذت تراقبه حين لا يكون ناظرًا إليها، ولاحظت شيئًا فشيئًا تفاصيل لم تنتبه لها من قبل: كتفاه، عنقه القويّ بعضلاته، تقوّس شفتيه الثقيلتين، أسنانه المثالية، أناقة يديه الطويلتين النحيلتين. شعرت برغبة لا تُحتمل لأن تكون قريبة منه، لتدفن وجهها في صدره الأسمر، لتسمع صدى الهواء في رئتيه ونبضات قلبه، لتشمّ رائحته التي كانت تعرف، غريزيًّا، أنّها ستكون قويّة نافذة، مثل الجلد الجيّد أو التبغ.

تخيّلت نفسها تلعب بشعره، تتمعّن بعضلات ظهره وساقيه، تكتشف شكل قدمه، تتلاشى في دخان وتتسرّب إلى داخل حنجرته لتسكن جسده بالكامل. ولكن إن صادف ونظر نحوها والتقت أعينهما، كانت إلينا، مرتجفة، تهرب لتختبئ في أعمق وأكثف زاوية من الباحة.

أصبح بيرنال يسيطر على أفكارها؛ لم تعد تحتمل مرور الوقت بعيدًا عنه. في المدرسة، كانت تتحرّك كأنّها في كابوس، عمياء وصمّاء عن كلّ شيء سوى أفكارها الداخليّة، التي لم يكن فيها متّسع لأحد سواه. ماذا كان يفعل في تلك اللحظة؟ لعلّه نائم، ممدّد على بطنه في السرير، والنوافذ مغلقة، والغرفة مظلمة، والهواء الدافئ يحرّكه مروحة السقف، خطّ من العرق يسيل على ظهره، وجهه غارق في الوسادة.

عند أوّل صوت يرنّ معلنًا نهاية اليوم، كانت تركض إلى البيت، تتمنّى أن لا يكون قد استيقظ بعد، لكي تتمكّن من الاستحمام وارتداء فستان نظيف، ثم تجلس في المطبخ تنتظر، متظاهرةً بحلّ واجاباتاها المدرسيّة، حتى لا تُكلّفها أمّها بأعمال المنزل.

وحين تسمع صوته وهو يخرج من الحمام، يصفر، كانت تموت من التوتّر والخوف، واثقة من أنّها ستفنى من اللذّة إن لمسها، أو كلّمها، تموت شوقًا ليحدث ذلك، وفي الوقت نفسه مستعدّة لأن تذوب في الأثاث، لأنّه، رغم أنّها لا تستطيع العيش من دونه، لم تكن قادرة على تحمّل حضوره الملتهب.

راحت تتبعه في كلّ مكان بصمت، تخدمه من دون أن تُطلب منها الخدمة، تحاول أن تتكهّن برغباته وتلبّيها قبل أن ينطق بها، لكن دائمًا مثل شبح، لا تريد أن يلاحظ أحد وجودها.

لم تستطع إيلينا النوم ليلًا لأنه لم يكن في المنزل. كانت تنهض من أرجوحتها وتجوب الطابق الأول كالشبح، تستجمع شجاعتها أخيرًا لتتسلل على أطراف أصابعها إلى غرفة برنال. كانت تغلق الباب خلفها وتفتح المصراع قليلًا ليدخل انعكاس ضوء الشارع ليضيء الطقوس التي ابتكرتها لتستعيد بقايا روح الرجل التي تركتها في ممتلكاته. وقفت تحدق في نفسها في مرآة بيضاوية سوداء لامعة كبركة طين داكنة، لأنه نظر إلى نفسه هناك، وامتزجت بقايا صورتهما في عناق. سارت نحو المرآة، وعيناها تحدقان، ترى نفسها من خلال عينيه، تقبّل شفتيها بقبلة باردة وقوية تخيّلت أنها دافئة كشفاه برنال. شعرت بسطح المرآة على صدرها، وبعنق حلماتها الصغير يتصلب، مما ولّد ألمًا خفيفًا يتدفق إلى أسفل حتى نقطة محددة بين ساقيها. بحثت عن ذلك الألم، مرارًا وتكرارًا. أخذت قميصًا وحذاءً من مكواة ملابس برنال وارتدتهما. سارت بضع خطوات حول الغرفة، حريصة جدًا على عدم إصدار أي صوت. لا تزال في ملابسه، حفرت في سراويله، ومشطت شعرها بمشطه، وامتصت فرشاة أسنانه، ولحست كريم الحلاقة الخاص به، وداعبت ملابسه المتسخة. ثم، دون أن تعرف السبب، خلعت ثوب نومها وحذائه وقميصه، واستلقت عارية على سرير برنال، تستنشق رائحته بشراهة، وتدعو دفئه لتلف نفسها به. لمست كل شبر من جسدها، بدءًا من الشكل الغريب لجمجمتها، وغضروف أذنيها الشفاف، ومحجري عينيها، وفتحة فمها، واستمرت في جسدها، ترسم جميع العظام والطيات والزوايا والمنحنيات لكل شيء تافه من نفسها، متمنية لو كانت ضخمة وثقيلة مثل الحوت. تخيلت جسدها يمتلئ بالحلوى؛ سائل لزج كالعسل، منتفخ، يتمدد بحجم دمية ماموث، حتى يفيض السرير والغرفة، حتى يملأ انتفاخه المنزل بأكمله. منهكة، تغفو لبضع دقائق، تبكي.

ثم في صباح يوم سبت، وهي تراقب من نافذتها، رأت إيلينا برنال يمشي نحو المكان الذي كانت فيه والدتها منحنية على الحوض تغسل الملابس. وضع يده على خصرها، ولم تتحرك، كأن ثقل يده كان جزءًا من جسدها. حتى من مسافة بعيدة، كانت إيلينا ترى إيماءته التي تحمل طابع التملك، وموقف والدتها من الاستسلام، وخصوصيتهما، التي تربطهما في سر هائل. غرقت إيلينا فى العرق، لم تستطع التنفس، وكان قلبها طائرًا خائفًا في قفصها الصدري، وأطرافها تتنمل، ودمها يتدفق حتى ظنت أنه سينفجر من أصابعها. كانت تلك اللحظة التي بدأت فيها بالتجسس على والدتها.

مرة تلو الأخرى، اكتشفت الأدلة التي كانت تبحث عنها؛ في البداية كانت مجرد نظرة، أو تحية طويلة جدًا، أو ابتسامة متواطئة، أو شك في أن أقدامهما تتلامس تحت الطاولة، وأنهما كانا يختلقان أعذارًا ليكونا وحدهما. وأخيرًا، في إحدى الليالي بينما كانت عائدة من غرفة برنال بعد أن أدت طقوس حبيبها، سمعت صوتًا كهمسات مجرى مائي تحت الأرض قادمًا من غرفة والدتها، وأدركت أنه طوال ذلك الوقت، كل ليلة بينما كانت تعتقد أن برنال كان خارجًا يغني ليكسب عيشه، كان الرجل على بُعد خطوات منها، بينما هي كانت تقبّل ذاكرته في المرآة وتستنشق أثر وجوده على الأغطية، كان هو مع والدتها.

بمهارة تعلمتها على مر السنين في جعل نفسها غير مرئية، انزاحت إلى الغرفة ورأتهما مشتبكين في لذتهما. كان المصباح ذو الحواف يتوهج بضوء دافئ يكشف عن العاشقين على السرير. تحولت والدتها إلى حورية وردية مكتنزة، متلوية، تتنهد، أشبه بشقائق النعمان البحرية، كلها مجسات ومصاصات، كلها فم وأيد وأرجل وفتحات، تدور وتلتف وتلتصق بالجسد الكبير لبرنال، الذي كان بدوره يبدو متيبسًا وأخرقًا، يتحرك بشكل متشنج كقطعة خشب ألقيت في رياح عاتية لا يمكن تفسيرها. حتى تلك اللحظة، لم تكن الفتاة قد رأت رجلاً عاريًا، وقد صدمها الفرق الجوهري. بدا لها ذكورته وحشية، واستغرق الأمر وقتًا طويلاً قبل أن تتمكن من التغلب على رعبها وتجبر نفسها على النظر. لكن سرعان ما استسلمت للدهشة وراقبت باهتمام كامل لتتعلم من والدتها الصيغة التي استخدمتها لخطف برنال منها، وهي صيغة أقوى من كل حب إيلينا، وكل صلواتها، وأحلامها، ودعواتها الصامتة، وكل طقوسها السحرية التي اختلقتها لجذب برنال إليها. كانت متأكدة أن لمسات والدتها وتنهداتها كانت تحمل مفتاح السر، وإذا تمكنت من تعلمها، فإن خوان خوسيه برنال سينام معها في الأرجوحة المعلقة كل ليلة بخطافين كبيرين في غرفة الخزائن.

قضت إيلينا الأيام التالية في غيبوبة. فقدت اهتمامها بكل شيء حولها، حتى ببرنال نفسه، الذي أخفته في مكان شاغر من ذهنها، وغاصت في واقع خيالي حل تمامًا محل عالم الأحياء. استمرت في اتباع روتينها بقوة العادة، لكن قلبها لم يكن في أي شيء مما كانت تفعله. عندما لاحظت والدتها قلة شهيتها، عزت ذلك إلى بداية مرحلة البلوغ—على الرغم من أن إيلينا ما زالت تبدو صغيرة جدًا—فوجدت وقتًا للجلوس معها وحدها وشرحت لها مزحة أن تكون قد وُلدت امرأة. استمعت إيلينا في صمت مفعم بالعبوس إلى الخطبة حول اللعنات التوراتية وتدفق الطمث، مقتنعة أن شيئًا من هذا لن يحدث لها أبدًا.

في يوم الأربعاء، شعرت إيلينا بالجوع لأول مرة منذ أسبوع تقريبًا. دخلت إلى المخزن ومعها فتاحة علب وملعقة، وابتلعت محتويات ثلاث علب من البازلاء الخضراء، ثم قشّرت الشمع الأحمر عن جبن هولندي وأكلته كما لو كان تفاحة. فورًا بعد ذلك، هرعت إلى الفناء، انحنت، وتقيأت حساء أخضر مقرف على نباتات الجيرانيوم. أعادها الألم في بطنها والمذاق المر في فمها إلى الواقع. تلك الليلة، نامت هادئة، ملفوفة في أرجوحتها، تمتص إبهامها كما كانت في مهدها. في صباح يوم الخميس، استيقظت سعيدة؛ ساعدت والدتها في تحضير القهوة للنزلاء وتناولت الإفطار معها في المطبخ. ولكن، بمجرد أن وصلت إلى المدرسة، اشتكت من آلام شديدة في بطنها، وتلوّت وطلبت مرارًا الذهاب إلى الحمام، حتى أذنت لها معلمتها بالعودة إلى المنزل في منتصف الصباح.

سلكت إيلينا طريقًا طويلًا، متجنبةً الشوارع المألوفة عمدًا، واقتربت من المنزل من الجدار الخلفي المُطل على وادٍ. استطاعت تسلق الجدار والقفز إلى الفناء بسهولة أكبر مما توقعت. كانت قد حسبت أن والدتها ستكون في السوق في ذلك الوقت، ولأنه يوم السمك الطازج، سيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تعود. كان المنزل خاليًا إلا من خوان خوسيه بيرنال والسيدة صوفيا، اللتين عادتا من العمل منذ أسبوع بسبب نوبة التهاب مفاصل.

أخفت إيلينا كتبها وحذاءها تحت بعض الشجيرات وتسللت إلى المنزل. صعدت الدرج، متشبسة الجدار وكاتمة أنفاسها، حتى سمعت صوت الراديو يزمجر من غرفة الآنسة صوفيا وشعرت بمزيد من الهدوء. فتحت باب غرفة برنال بدفعة صغيرة . كان الظلام يملأ الغرفة، وللحظة، بعدما جاءت للتو من ضوء النهار الساطع فى الخارج، لم تستطع أن ترى شيئًا. لكنها كانت تعرف الغرفة عن ظهر قلب؛ فقد قاست هذا الفضاء عدة مرات وكانت تعرف أين يوجد كل شيء، المكان الذي يصدر فيه الصوت عندما يضغط على الأرض، كم خطوة تفصل الباب عن السرير. مع ذلك، انتظرت حتى تأقلمت عيناها مع الظلام وتمكنت من رؤية معالم الأثاث. وبعد لحظات، استطاعت أن ترى الرجل على السرير. لم يكن نائمًا على بطنه، كما كانت تتخيل غالبًا، بل كان مستلقيًا على ظهره فوق الأغطية، مرتديًا سروالًا داخليًا فقط؛ كانت إحدى ذراعيه ممدودة والأخرى على صدره، وقد سقطت خصلة من شعره على عينيه. على الفور، اختفى كل الخوف والتوتر الذي تراكم لعدة أيام، وبدت إيلينا صافية، هادئة كمن يعرف ما يجب عليها فعله. بدا لها أنها عاشت تلك اللحظة عدة مرات؛ قالت لنفسها إنه لا يوجد ما تخافه، فهذا مجرد طقس يختلف قليلًا عن الطقوس التي مرت بها من قبل.

ببطء، خلعت زيها المدرسي حتى البنطال القطني الذي لم تجرؤ على خلعه من قبل. مشت نحو السرير. أصبحت قادرة على رؤية برنال بشكل أفضل الآن. بحذر شديد، جلست على حافة السرير بالقرب من يده، مركّزة على عدم ترك أية تجاعيد حتى على الأغطية. انحنت للأمام ببطء، حتى أصبح وجهها على بعد بضعة سنتيمترات من وجهه، فشعرت بدفء أنفاسه وعبير جسده الحلو؛ ثم، بحذر شديد، استلقت بجانبه، ممددة كل ساق بحذر شديد حتى أنه لم يتحرك. انتظرت، مستمعة إلى الصمت، حتى قررت أن تضع يدها على بطنه في لمسة شبه غير مرئية. مع تلك اللمسة، اجتاحت جسدها موجة خانقة؛ خشيت أن يكون صوت قلبها يتردد في أرجاء المنزل، وأنه سيوقظ برنال بالتأكيد. مرت عدة دقائق قبل أن تستعيد هدوءها، وعندما أدركت أنه لم يتحرك، استرخت، وتركت ذراعها تسقط بلا حركة—كان وزنها، في أي حال، خفيفًا جدًا حتى أنه لم يغير نومه. مسترجعة حركات والدتها، بينما كانت أصابعها تزحف تحت حافة سرواله الداخلي، بحثت إيلينا عن شفتي برنال وقبلته كما كانت تقبّل المرآة كثيرًا. كان برنال لا يزال نائمًا، فتأوّه؛ لفّ ذراعه حول خصر الفتاة بينما أمسكت يده الحرة بيدها لترشدها، وفتح فمه ليردّ قبلتها، وهو يهمس باسم حبيبته. سمعته إيلينا ينادي أمها، لكن بدلًا من أن تتراجع، اقتربت منه أكثر. أمسكها برنال من خصرها وجذبها فوقه، وأجلسها على جسده، وبدأ أولى حركات الحب. ثم، إذ أحسَّ بهشاشة ذلك الهيكل العظمي الشبيه بطائر على صدره، لمعت شرارة وعي عبر ضباب النوم القطني، ففتح عينيه. شعرت إيلينا بتوتر جسده، وشعرت به يقبض عليها من ضلوعها ويُلقى بها جانبًا بعنف حتى سقطت على الأرض، لكنها نهضت وركضت عائدة إلى السرير لتعانقه من جديد. صفعها بيرنال على وجهها وقفز من السرير، مرعوبًا مما لا يعلمه إلا الله من محظورات قديمة وكوابيس.صرخ:

"يا لها من فتاة شريرة!"

فُتح الباب، وكانت السيدة صوفيا واقفة عند العتبة.

***

أمضت إيلينا السنوات السبع التالية مع الراهبات، وثلاث أخريات التحقت فيهن  بالجامعة في العاصمة، ثم بدأت العمل في أحد البنوك. في هذه الأثناء، تزوجت والدتها من عشيقها، واستمر الاثنان في إدارة بيت الضيافة حتى وفرا ما يكفي من المال للتقاعد في منزل صغير في الريف، حيث زرعا القرنفل والأقحوان لبيعه في المدينة. علّق العندليب الملصق الذي يعلن عن فنه في إطار ذهبي، لكنه لم يغنِ في نادٍ ليلي مرة أخرى، ولم يفتقده أحد. لم يرافق زوجته قط عندما كانت تزور ابنة زوجته، ولم يسأل عنها قط - لئلا يثير الشكوك في نفسه - لكنه كان يفكر فيها باستمرار. بقيت صورة الطفلة معه، سليمة، لم تمسسها السنين؛ لا تزال الفتاة العاطفية التي رفضها. لو عُرفت الحقيقة، فمع مرور السنين، نمت ذكرى تلك العظام الخفيفة، وتلك اليد الطفولية على بطنه، وذلك اللسان الطفولي في فمه، لتصبح هاجسًا. عندما احتضن جسد زوجته الممتلئ، كان عليه أن يركز على تلك الرؤى، مستحضرًا صورة إيلينا بدقة لإيقاظ دافع المتعة الذي يتلاشى باستمرار. الآن، في منتصف عمره، كان يذهب إلى متاجر ملابس الأطفال ويشتري سراويل داخلية قطنية ويمتع نفسه، يداعبها ويداعبها. ثم كان يخجل من هذه اللحظات الفاحشة، فيحرق السراويل الداخلية أو يدفنها في حفرة عميقة في الفناء في محاولة يائسة لإخراجها من ذهنه. بدأ يتسكع حول المدارس والحدائق حيث كان بإمكانه الوقوف على مسافة ومشاهدة الفتيات الصغيرات اللواتي حملنه للحظة وجيزة إلى هاوية ذلك الخميس الذي لا يُنسى.

كانت إيلينا في السادسة والعشرين من عمرها عندما زارت والدتها لأول مرة، ومعها حبيبها، وهو نقيب في الجيش كان يلح عليها لسنوات كي تتزوجه. وصل الشابان - هو، لا يريد أن يبدو مغرورًا، بملابس مدنية، وهي محملة بالهدايا - في إحدى أمسيات نوفمبر الباردة. انتظر بيرنال تلك الزيارة كمراهق متوتر. كان يحدق في نفسه في المرآة كلما سنحت له الفرصة، يدقق في صورته، متسائلًا عما إذا كانت إيلينا ستلاحظ أي تغيير، أو ما إذا كان العندليب قد بقي في ذهنها محصنًا من ويلات الزمن. استعد للقاء، متدربًا على كل كلمة ومتخيلًا كل إجابة ممكنة. الاحتمال الوحيد الذي لم يفكر فيه هو أنه سيجد مكان الطفلة المتأججة التي أوصلته إلى حياة من العذاب امرأة شابة تافهة وخجولة للغاية. شعر بيرنال بالخيانة.

مع حلول الظلام، بعد أن خفت نشوة الوصول وتبادل الأم والابنة آخر أخبارهما، نقلتا الكراسي إلى الفناء للاستمتاع بنسيم المساء البارد. كان الهواء مشبعًا بعطر القرنفل. اقترح بيرنال كأسًا من النبيذ، وتبعته إيلينا إلى المنزل لتحضر الأكواب. لبضع لحظات، كانا وحدهما، وجهاً لوجه في المطبخ الضيق. بيرنال، الذي انتظر طويلاً هذه الفرصة، أمسك بذراع إيلينا بينما كان يخبرها كيف كانت كل تلك الحكاية خطأً فادحًا، وكيف كان نصف نائم في ذلك الصباح ولم يكن لديه أدنى فكرة عما كان يفعله، وكيف لم يكن يقصد أن يطاح بها على الأرض أو أن يناديها بما ناداها به، وسألها أن تشفق عليه وتسامحه، لعله حينها يعود إلى رشده، لأنه لما بدا وكأنه عمره كله استهلكته رغبة لا تنضب فيها، ألهبت دمه وسممت عقله. حدقت به، صامتة، لا تدري بماذا تجيب. عن أي فتاة شريرة يتحدث؟ لقد تركت طفولتها خلفها بعيدًا، وكان ألم تلك المحبة الأولى التي رُفضت قد تم حجزه في ركن مغلق من الذاكرة. لم تكن تتذكر أي خميس معين في ماضيها.

(تمت)

***

..................

الكاتبة: إيزابيل ألليندي (Isabel Allende) كاتبة تشيلية شهيرة وُلدت في بيرو عام 1942، وتُعد من أبرز الأصوات الأدبية في أمريكا اللاتينية. اشتهرت بروايتها الأولى بيت الأرواح (La casa de los espíritus) التي مزجت فيها بين الواقعية السحرية والتاريخ السياسي والاجتماعي لبلدها. تتميز أعمالها بالسرد الغني والعاطفي، وغالبًا ما تتناول فيها قضايا المرأة، المنفى، الهوية، والحب، متأثرة بتجربتها الشخصية كلاجئة بعد انقلاب بينوشيه في تشيلي عام 1973. تُرجمت أعمالها إلى عشرات اللغات، ونالت العديد من الجوائز الأدبية العالمية.

 

للشاعر الألماني الكبير غـوتـه

(1749-1832)

ترجمةً: د. بهجت عباس

***

ما أجمـلَ الطبـيـعــةَ البـاهـرةْ

تضيء لـي بفـتـنـةٍ ساحــرةْ!

مـا أروع الشَّمـسَ بأنـوارهـا!

وضَحْكةَ المَـزرعةِ العاطرةْ!

**

مـن كلَ غصنٍ نَضِـرٍ أخضرٍ

تـنـبـثـق البــراعـم ُ الـنّـافــرةْ

وألفُ صوتٍ في فضاء الدُّنى

تُطـلـقُـه أدغـالُـها السّـاهــرةْ ،

**

من كلِّ قـلـبٍ عـامـرٍ بالصَّفـا

تـنـبـعـثُ السَّـعـادة الغــامـرةْ

يـا أرضُ ! يـا شمـسُ ! ويــا

حُبـورُ ! يا فرحتَنا الزاهـرةْ!

**

يا حُبُّ! حبٌّ ذهـبيُّ الجَّـمـالْ

مثلُ غيومِ الصُّبحِ فوقَ الجِّبالْ

بدهشةٍ مـن فيـض هـذا السَّنا

تُباركُ المَـرجَ بهـذا الجّــلالْ

**

تـعــومُ فـي سديــم نُـوّارهـــا

كلُّ الدّنى  جبـالُهـا والرِّمـالْ

أيـا فـتـاةً ! يـا فـتـاتـي ! أنــا

فـي وَلـهٍ ليس لـه مـن مـثـالْ

**

وأنـتِ إذ عـيـنُـكِ فـضّـاحــةٌ

هائمــة في الحبِّ حدَّ الخيالْ

كما تُحبُّ الشَّدْوَ جوفَ الفضا

قـبّـرة طـائـرةٌ فــي اخـتـيــالْ

**

ومثلما تهوى زهـورُ الصَّباحْ

عطـرَ السَّما يغمرها بانـثيـالْ

**

ومــثلـما أهــواكِ يــا غـادتي

بدَميَ السّاخـنِ تحت الإهـابْ

أنـتِ الـتـي تمـنحـنـي فـرحــةً

وجــرأةً مـعْ عـنـفـوانِ الشَّبابْ

**

لأغـنـيـاتٍ فـي الهــوى عذبـةٍ

جديدةٍ والرقص بين الصِّحابْ.

كوني طَوالَ العمرِ في بهـجـةٍ

مادمـتُ في قلبـكِ حـبّـاً مُـذابْ

***

...............

 

Mailied

Johann Wolfgang von Goethe

 (1749-1832)

Wie herrlich leuchtet

Mir die Natur!

Wie glänzt die Sonne!

Wie lacht die Flur!

Es dringen Blüten

Aus jedem Zweig

Und tausend Stimmen

Aus dem Gesträuch,

Und Freud und Wonne

Aus jeder Brust.

O Erd, o Sonne!

O Glück, o Lust!

O Lieb, o Liebe!

So golden schön,

Wie Morgenwolken

Auf jenen Höhn!

Du segnest herrlich

Das frische Feld,

Im Blütendampfe

Die volle Welt.

O Mädchen, Mädchen,

Wie lieb ich dich!

Wie blickt dein Auge!

Wie liebst du mich!

So liebt die Lerche

Gesang und Luft,

Und Morgenblumen

Den Himmelsduft,

Wie ich dich liebe

Mit warmen Blut,

Die du mir Jugend

Und Freud und Mut

Zu neuen Liedern

Und Tänzen gibst.

Sei ewig glücklich,

Wie du mich liebst!

Do not Ask me Endure your Absence with patience

للشاعر : يحيى السماوي

ترجمة : رياض عبد الواحد

مراجعة : الدكتور رمضان سدخان

***

Text by: Yahiya Al-Samawi

Translated by: Riyadh Abdulwahid

Edited by : Ramadan M sadkhan

***

I would bless my death

if she were the one to mourn me,

the witness of my departure,

the voice to bid me farewell.

Let her recite above my shrouded body a verse that pleads safety for the fearful,

seeking intercession—

Let her kiss my lips,

close my eyes,

and draw my arm away from my ribs.

Before death, I turned my gaze to you—

so wipe my tears

with the silk of your palm,

and seek forgiveness for me,

for the sin of a lover

whose heart knew no reverence

before loving you.

He never spared a blossom

for a starving butterfly,

nor refrained from offering his cup to her.

He learned love

as a child,

a boy,

a youth—

and even in his age

grew older without knowing no love

but yours.

He passed seventy,

yet still bear the innocence of childhood—

sustained by tenderness.

Chaste in his desires—

even his folly

is a sanctified sin,

Pure and unspoiled .

He draws his bed close to the seventh heaven—

Intoxicated,

by the nectar

of delight.

His night's drink is sleeplessness

and his morning gift,

A voice

Its faint echo

that intoxicate my hearing.

I am,

O daughter of basil,

a river of yearning—

my waters are Iraq,

and spring is Samawa.

Do not ask me

to endure you absence -

for what is my tomorrow

if your shaded recess

is my only chamber of peace?

........................

لا تـسـألـيـنـي الـصـبـر عـنـك

للشاعر: يحيى السماوي

بـاركــتُ مـوتـي لـو تـكـونُ مُـشَــيّـعـي

يـومَ الــرَّحــيــل وشــاهِــدي ومُـوَدّعـي

*

تــتـلـو عـلـى جَـسَـدي الـمُــسَــجّـى آيـة ً

تـرجـو الأمـانَ لـخـائِــفٍ مُـسْــتــشْــفِـع ِ

*

ومُـمَــسّــداً بالـلـثـم ثـغـريَ .. مُـغـمـضـاً

جـفـنـي وتُـبـعِـدُ سـاعـدي عـن أضـلـعـي

*

يَـمَّـمْـتُ قـبـلَ الـمـوتِ نـحـوكِ مُـقـلـتـي

فـلــتـمــسـحـي بـحــريــر كــفٍّ أدمـعـي

*

واسـتـغـفـري لـيْ عـن خـطـيـئـةِ عـاشـقٍ

مـن قـبـلِ عـشــقــكِ قــلــبُــهُ لـم يـخــشَــعِ

*

لــمْ يَــدَّخِــرْ زهْـــراً لــجُــوع فَــراشَـــةٍ

يـومـاً ... ولا عـن كــأسِــهــا بــمُــمَــنَّـعِ

*

خَـبَـرَ الــهــوى طـفـلاً .. صَـبـيّـاً .. يـافـعـاً

وازدادَ كـهْــلاً ـ غــيــرَ عــشــقٍ ـ لا يَـعـي

*

قد جاوزَ " الـســبـعـيـنَ " وهـو طـفـولـةٌ

عــذراءُ يـســتـســقـي الـعــنـاقَ ويَـرْتـعـي

*

مُــتـبَــتّــلُ*ُ الــنَــزَواتِ ... حـتـى طــيــشُـــهُ

نُــسْـــكٌ عــفــيــفُ الإثــمِ غــيــرُ مُـخَــلَّــعِ

*

يُـدنـي مـن الـخـمــس الــطــبـاقِ ســريــرَهُ

ســكــرانُ .. لــكــنْ مــنْ رحــيــق تــمَــتـُّـعِ

*

فـنـديـمُـهُ فـي الـلـيـل سُــهــدٌ ... والــضـحـى

صـوتٌ بَـعــيــدُ الـرَّجْـعِ يُــثـمِـلُ مـســمـعـي

*

أنـا يـا ابــنـةَ الــرَّيـحـان نــهــرُ صَـــبــابــةٍ

مـائـي " عـراقٌ " و " الـسـماوةُ " مَــنـبَــعـي

*

لا تـســألـيــنـي الـصَّـبـرَ عــنــكِ فـمـا غـدي

إنْ كـان غــيــرَ ظـلــيــلِ خـدركِ مــهــجَــعـي؟

***

 

بقلم: لارا فابنيار

ترجمة: صالح الرزوق

***

لدى طبيب الجلدية خليلة. ولعدة أسابيع مضت أصبحت الموضوع الرئيسي للمحادثة في غرفة الانتظار البيضاء، المزخرفة بورقة نخيل متطاولة ووحيدة في زاوية الغرفة، وبجانبها إعلانات براقة عن طب الجلد. جلس هناك ثماني مرضى على مقاعد جلد أحمر، ومعظمهم روس، لأن مكان المكتب في كينغز هاي واي، وهي منطقة روسية في بروكلين. كان لدى الطبيب عدة صحف روسية، مكومة مع أعداد قديمة من التايمز ومن مجلة الرياضة المصورة، وكلها معلقة على حامل بلاستيكي خاص بالصحف. ولكن لم يعرها أحد أي اهتمام. أفضت جدة ميشا بالروسية لامرأة شعرها أبيض وترتدي سترة رياضية وخفا وتنورة طويلة قائلة: "أخذها إلى أروبا في تشرين الثاني. الخليلة. صحح لها ميشا بحصافة: "أريوبا". وكان يحاول قراءة كتاب، ولكن لم يسمح له همس الجدة المنفعلة وكلماتها الفخمة والرنانة مثل أريوبا وخليلة أن يركز. أحيانا حاولت التحرش بامرأة بقبعة رمادية جالسة بجوار ميشا. ولتفعل ذلك مالت فوق ميشا مرتكزة بكوعها الثقيل على ركبته للتوازن. وتوجب عليه ضغط كتابه المفتوح على صدره والانتظار حتى تنتهي، وحاول أن يبعد وجهه عن رائحتها التي اختلط بها العرق ومستخلص جذور الناردين وحشيشة الشبث. قالت: "أولا رافق زوجته بعطلة، ولكن صنعت الخليلة مشكلة، فاضطر لاصطحابها أيضا. كلهن هكذا كما تعلمين". وافقت المرأة ذات الشعر الأبيض بتحريك رأسها. ثم اقترب المزيد من المريضات الروسيات ليدلوا بدلوهن.

"تقصدين أن لدى الدكتور ليفي خليلة؟". قالت المرأة ذات الشعر الأبيض بانفعال: "نعم. حتى أنه أخذها إلى أروبا". نظرت إليها جدة ميشا باستنكار لأنها تزعم أنها المؤهلة بالكلام عن رحلة أريوبا. كل ثاني خميس، بعد المدرسة، يصحب ميشا جدته إلى طبيب الجلدية. ويتوسط بنقل الكلام بينهما، لأن الجدة لا تعرف الإنكليزية. ولم يمانع هذه الزيارات - لأنه ليس هناك الكثير لما يحتاج إلى ترجمة. والدكتور ليفي رجل نحيل وصغير بدوائر سود تحت عينيه. أخذ نظرة من البثور في كاحليها، وكتب شيئا في ورقة المريضة، وسألها: "كيف تشعرين؟". قالت الجدة بالروسية "أفضل". وترجم ميشا كلامها إلى الإنكليزية. ولم يتذمر ميشا من طبيبي العيون والأسنان. ولم يذهب ميشا مع جدته إلى طبيب الأمراض النسائية. قال بحزم: "ولد بعمر تسع سنوات لا شأن له بعيادة نسائية". وأدهش الجميع بتعليقه لأنه لم يجادل إلا قليلا منذ وصولهم إلى أمريكا، ولم يسمعه أحد يتكلم إلا فيما ندر. كان ميشا سعيدا - لسبب ما يخاف من النساء الحوامل ومن بطونهن المنتفخة، وكواحلهن البدينة، وطريقة مشيهن المترنحة والمتهاودة. وتوجب على والدته أن تأخذ إجازة لعدة ساعات لترافق الجدة إلى هناك. واشتكت من ذلك ونظرت إلى ميشا والجدة بتذمر. لم يجنب أحد ميشا الزيارات الشهرية إلى المتمرنين. قابل هذا الطبيب ميشا وجدته في غرفته الرائعة ذات الجدران المطلية بلون كريمي والمغطاة بالشهادات، واقترب بثقة من طاولته المهاغوني الكبيرة. جلس هناك بكامل قامته ومال نحوهما، بتاج شعره الأبيض الغزير المزرق، ووجهه الأحمر، ويديه البيضاوين النظيفتين، وهو يستمع بصبر لشكوى الجدة. بخلاف بقية الأطباء، لم يقاطعها. وفضل ميشا لو فعل. بدأت كلامها مع تنهيدة متفائلة: "مشكلتي...".وكانت تفخر أنها قادرة على وصف الأعراض بدقة وطلاقة. حينما وصفت في إحدى المرات تعرقها أنه "حمام غزير ينبع من تحت جلدها" قال لها والد ميشا: "يجب أن تكوني كاتبة يا أمي". ظهر الضياع على ملامح أم ميشا. ولم تعرف هل تبتسم للطرفة أم تعنف زوجها بسبب سخريته من أمه. واختارت أن تبتسم أخيرا. اعترضت جدة ميشا دون اهتمام بالسخرية قائلة: "كلا. طبيبة. يجب أن أكون طبيبة لو لم أكرس حياتي لخدمة زوجي". ومن عادة ميشا أن ينظر نحو الأسفل حينما تكلم الطبيب، ليتأمل بعينيه تخطيط البساط الملون بالبيج والبني. ولكن الزينة تنقطع في بعض الأماكن بسبب أرجل الأثاث وقدمي جدته التي تنتعل خفا عريضا أسود والتي ترفع صوتها بالكلام، مع همهمات بين حين وآخر مع تبديل في النبرة للتأكيد وهي تقول: "بطني لا تتحرك منذ أيام. ويجب زيارة الحمام كل عدة ساعات. وبالعادة أشعر بالحاجة وأسرع إلى الحمام فورا. وأضغط بقوة. ولا يحصل شيء. وأنسحب ولكن أشعر كأن صخرة عاتية في داخلي. وتضغط على بطني. فأعود وأجرب مجددا". وتثبت إحدى قدميها بالأرض، حينما تصف "الصخرة الثقيلة". نظر ميشا إلى جوربيها الأسودين السميكين. وقد أتت من روسيا كمية كبيرة منها، مع مؤونة كافية من مثبتات مقلمة عريضة تمسك بالجوارب. ولاحظ ميشا أن جوانب مقعده الجلدي أصبحت تحت أصابعه رطبة وزلقة، وشعر أنه يحمر، ولا سيما أذناه. وتساءل إذا انتبه الطبيب كم هما حمراوان. ولكنه لم ينظر إلى ميشا، بل إلى جدته مع ابتسامة مهذبة وصبورة. فكر ميشا: "هيا. يكفي. لا بد من وجود مرضى آخرين بالانتظار". لكن لم يتحرك الطبيب. ربما هو يستغل هذه اللحظات لينام بعينين مفتوحتين. تابعت: "حينما في النهاية أنتهي أشعر بالإنهاك، أشعر كأنني ربحت معركة. رأسي، يوجعني ودقات القلب تشتد فأتناول أربعين قطرة من جذور الشبيث، وأستلقي، وأستمر هكذا على الأقل لساعة". وبعد أن يأزف وقت الجدة، تلتفت إلى ميشا. فينظر إليه الطبيب كذلك، محتفظا بنفس التعابير المهذبة والصبورة على وجهه. ويفكر ميشا بالإسراع كالسهم نحو الباب، وتجاوز موظفة الاستقبال، ثم غرفة الانتظار، حتى بلوغ الشارع. فكر أن يخرج من النافذة، وهي نافذة خضراء عريضة بلاستيكية برأس مشطور عند حافتها. أمكنه رؤية نفسه يسقط على العشب، ثم يقف على قدميه، ويركض مبتعدا عن العيادة. ولكنه لم يقفز. جلس هناك، وهو يفكر كيف يتجنب كلمة "صخرة ثقيلة" أو جلوس الجدة في الحمام، قائلا: "إممممم.. هي.. جدتي.. مشكلتها... أنه لديها... تصاب غالبا بالصداع ويدق قلبها بسرعة عالية". ابتسم الطبيب لميشا موافقا، وكتب وصفة بيديه النظيفتين جدا والرشيقتين. "تايلينول". اشتكت الجدة لاحقا بصوت مسموع في غرفة انتظار طبيب الجلدية قائلة: "انظروا للأطباء الأميركيين!. أخبرته أنني أعاني من إمساك فوصف لي تايلينول!. هل يمكن تصديق ذلك؟". تعاطفت معها المريضات الروسيات بحماس. وأخفى ميشا أذنيه المحمرتين وراء "دليل ما قبل التاريخ المصور الكبير". وتمنى لو تنتقل إلى الموضوع الآمن عن خليلة طبيب الجلدية

والتي شاهدنها مرة حين فتحت الباب وتقدمت مباشرة إلى غرفة الدكتور ليفي، دون أن تبتسم، وهي تنظر أمامها. كانت امرأة ممتلئة وقصيرة، في أواخر الثلاثينات، بشعر أشقر محمر قصير، وبجينز أبيض ضيق، وجاكيت من الجلد اللماع. وهي تطرق ببوطها ذي الكعب الطويل وتخشخش بأساورها الذهبية خلال مشيتها. وتلوح بمفاتيح سيارة في يدها. خيم الصمت على جميع الموجودات في الغرفة وتبعنها بنظرات أعينهن، ومعهن ميشا. كان فمها جميلا، ومطليا بلون أحمر لماع. همست إحداهن بالروسية: "يا لها من قليلة حياء". وربما كانت جدة ميشا. أدى ميشا واجباته المنزلية في مطبخ أبيض طويل، لأنه برأي أمه المكان الوحيد الذي يحظى بإضاءة مناسبة، ولم يكن عرضة للهواء الشديد. لعام تقريبا أربعة منهم - هو وأمه وجده وجدته - عاشوا في شقة من غرفة واحدة ذات جدران طلاؤها ليس على ما يرام، وفيها سجادة بنية بالية، وأثاث مستعمل. وبدا كل شيء في الشقة ملكا لشخص آخر. نام ميشا وأمه في غرفة النوم، واحتل ميشا سريرا مطويا. ونام الجد والجدة على سرير - كنبة في غرفة المعيشة. أو ربما جدته هي التي نامت عليه وهي تشخر بهدوء. وكان الجد كما يبدو يسهر طيلة الليل. وكلما استيقظ ميشا، يسمع جده يتململ أو يزمجر أو يتجول بخطوات ثقيلة على أرض المطبخ التي تصر.

كان لديهم في روسيا شقتان منفصلتان. وعاشوا في مدينتين مختلفتين. جداه عاشا في جنوب روسيا، في مدينة صغيرة مزدحمة بأشجار التفاح والدراق. بينما أقام ميشا وأمه وأبوه في موسكو، قبل أن يغادر والده ليقيم مع امرأة أخرى. في موسكو امتلك ميشا غرفة خاصة به، صغيرة جدا، ليست أكبر من ست أمتار مربعة، وورق الجدران فيها يحمل صور زوارق شراعية. ولميشا سريره الخاص وطاولته مع مصباح قراءة بشكل تمساح. وقد رتب كتبه بأناقة في رف فوق الطاولة، واحتفظ بألعابه في علبتين من الخشب المضاعف بجانب سريره. وحينما يتشاحن والداه، يقولان له: "اذهب يا ماشا إلى غرفتك". ولكن خلال الشهور الأخيرة قبل مغادرة والده، لم يكن لديهما وقت ليطرداه إلى غرفته. كانا يتشاجران تقريبا باستمرار: يبدأ ذلك فجأة، بدون إنذار، وسط حوار عادي خلال الغداء، وهو يلعب الشطرنج، أو يشاهد التلفزيون، وينتهي بعد أن يأوي ميشا إلى سريره، أو ربما لا ينتهي أبدا، فيذهب ميشا إلى غرفته تلقائيا. يجلس على بساط صغير ببن سريره وطاولته ويلعب بمكعبات البناء، ويصغي لأصوات مكتومة تأتي من صراخ والديه. ويتابع لعبه بهدوء. أغرم ميشا بواجباته المنزلية، ولكنه لم يعترف بذلك. كان يمد كتبه وأوراقه وأقلامه أمامه، حتى تحتل كل وجه الطاولة. وأحب شيء له تلوين الخرائط، ورسم المخططات، وحل المسائل الرياضية، وحتى تمارين الإملاء - وكان يسره مرأى خطه، بحروفه الحاسمة والواضحة والمستديرة. وأكثر ما أغرم به خلال أداء واجباته البيتية أن أحدا لا يزعجه. وكل شخص يهمس: "اصمتوا. مايكل يدرس". وحتى جدته، التي تطهو بالعادة الغداء حينما يدرس، تلزم جانب الهدوء - وبصوت خافت تدندن بلحن من أوبرا شعبية مكسيكية تشاهدها يوميا على القناة الإسبانية. ولم تكن لغتها الإسبانية أفضل من الإنكليزية، ولكنها تقول أنت في العروض المكسيكية لا تحتاج إلى الكلام لتفهم ما يجري. والشيء الآخر الذي تحب مشاهدته في التلفزيون هو نشرات الطقس، لأنك لا تحتاج لكلمات أيضا: صورة الشمس تدل على يوم طيب، وقطرات المطر يعني الهطول، وصفوف من قطرات المطر تدل على أمطار غزيرة. وكانت أم ميشا تعارض الاشتراك بقنوات التلفزيون الروسي، لأنها تعتقد أنها تحرمها من التأقلم مع الحياة الأمريكية. ولنفس السبب، أصرت أن ينادي الجميع ميشا باسم "مايكل". وكانت أم ميشا متأقلمة بشكل جيد. فهي تتابع أخبار التلفزيون، وتستأجر الأفلام الأمريكية، وتقرأ الصحف الأمريكية. وتعمل في مانهاتن، وترتدي للعمل نفس الثياب التي شاهدها ميشا في مجلات غرف الانتظار. لكن تنوراتها أطول وكعاب أحذيتها أقصر وأغلظ.

ومشكلة الواجب المنزلي أنها تستغرق حوالي أربعين دقيقة فقط من وقت ميشا. وحاول أن يمددها بقدر استطاعته. وقد حل المسائل الإضافية كلها التابعة لفصل "ربما تجرب معها". أحضر كتابه وقرأه، وتظاهر أنها وظيفة لغة إنكليزية. وكان يتوقف من وقت لآخر وكأنه يواجه مشكلة، وعليه أن يفكر بها، ولكنه كان يكتفي بالجلوس، مراقبا جدته وهي تطبخ. أخرجت كل تلك الحزم وأكياس الخيوط وأكياس البلاستيك والأطباق والصحون المغلفة الغريبة، من الثلاجة ووضعتها على الكونتور، ولم تنس أن تشم كلا منها أولا. ثم فتحت الفرن وهي تصيح بصوت مرتفع وتشهق وتقول: "آسفة يا مايكل". بعد ذلك أخرجت ما لديها من أدوات للقلي والشي، وأودعتها في الفرن، وملأت بعضها بالماء ودهنت البقية بدهن الدجاج (تحتفظ دوما ببعض دهن الدجاج قرب يدها، فهي لا تثق بالزيت أو زبدة القلي). وحينما تئز وتئن المقالي وصفائح الشي على الموقد، تغسل وتقطع الجدة محتويات الحزم والأطباق، باستعمال لوحين من الخشب - أحدهما من أجل اللحوم، والآخر من أجل كل المتبقي. وكان ماشا يتعجب دوما كيف أن أصابعها القصيرة والمنتفخة سريعة. وخلال ثوان تختفي أكوام من المكعبات الملونة في المقالي والصفائح تحت أغطية مزخرفة ورقيقة. وغالبا تقول الجدة لزميلاتها في غرفة الانتظار: "كنت حكيمة. أحضرت كل الأغطية معي. في أمريكا نادرا ما تجدين ما يناسب". توافق النساء، بالتأكيد يوجد مشكلة في أغطية أمريكا. لطهي اللحم المفروم تستعمل الجدة فرامة لحوم معدنية يدوية، أحضرتها معها من روسيا أيضا. وعليها أن تنادي الجد إلى المطبخ، لأن الفرامة ثقيلة جدا - فهي لا تستطيع تدوير اليد، وحتى أنه لا يمكنها رفعها. كان الجد يرمي جريدته من يده، ويأتي خانعا، وهو يجرجر خفه، بنفس التعابير المستسلمة والمرهقة، التي تظهر وهو يتبع الجدة إلى البيت عائدين من مخزن التموين الروسي، حاملا الأكياس المنتفخة وعليها عبارة "شكرا" بخط أحمر وطويل. ثم يتخلى عن قميصه المطرز بالمربعات ويضعه على الكرسي. (أصرت الجدة أن يفعل ذلك قائلة "أنت لا تريد قطعا من اللحم النيء على قميصك"!). ويضع أمامه طبق لحم من الخزف ويغلق الفرامة وهي على حافة النافذة. ويقف منحنيا عليها، بثيابه الداخلية البيضاء وسرواله الصوفي الأسود. فقد أحضر معه إلى أمريكا خمس بذات جيدة اعتاد أن يرتديها خلال عمله في روسيا. والآن يرتدي السروال في البيت ويعلق الجاكيت في الخزانة مضيفا إلى جيوبها النفتالين. ويقبض الجد على يد فرامة اللحمة الصدئة ويديرها ببطء، بجهد في البداية، ثم أسرع بالتدريج. ويرتعش كتفاه اللحميان والمحمران ويسيل العرق على خديه المنتفخين، وأنفه المستدير ورأسه اللماع. وأحيانا تترك الجدة الطهي وتوجه هذه التعليقات: "ماذا لديك، أصابع مشوهة؟" أو "انتبه، وقعت منك قطعة ثانية" أو "أتمنى فرم هذه اللحمة بحلول العام القادم". ولم تكلمه هكذا أبدا بالروسية. حينما يعود من العمل إلى البيت في روسيا تسرع لتقديم غدائه وتضيف بنفسها ملعقتين كاملتين من القشدة الحامضة إلى طبق الشيشي. فيشرب الجد الحساء بصوت مرتفع وهو يثرثر كثيرا خلال طعامه. ولكنه حاليا لا يكلم ولا حتى الجدة. يقف بمكانه فقط، وبيده قبضة فرامة اللحمة، بعقد أصابع منتفخة، ويسرع بتدويرها حتى يحمر وجهه وتزرق عروقه وتتشابك على رقبته المنتفخة. ويركز نظرته على شيء بعيد خارج النافذة. اعتقد ميشا ربما كان جده يفكر بالقفز كما أراد في عيادة الطبيب. غير أن شقتهم كانت في الطابق السادس. وحينما يتم تحضير الطعام، تذهب الجدة لإحضار لمستها المفضلة، عشبة الشبيث. فهي تحتفظ لديها بباقة مسودة وذابلة قليلا ومنشورة على جريدة قديمة تمدها فوق حافة النافذة. تنتقي عشبة وتسحقها بأصابعها في زبدية صغيرة، وتضيفها إلى جميع الصحون التي طبختها. وعند الغداء تجد طعم الشبيث في كل شيء: الحساء والبطاطا وشوربة اللحمة والسلطة. وفي الحقيقة قليلا ما يكون للغداء أي طعم غير الشبيث - والجدة لا تثق بالتوابل، باستثناء القليل من الملح في الطعام، وبدون أي فليفلة. يراقبها ميشا كيف تنتقل من مقلاة إلى أخرى، مرتدية ثوبا له هيئة مربع قطن أسود، وتجفف وجهها المحمر والمبلول وشعرها الرمادي القصير بقطعة قماش، وتجرف قشور البطاطا من الكونتور، وتزمجر كلما سقطت إحداها على الأرض، ثم تلتقطها. ولم يفهم لماذا تتعب في تحضير الطعام، الذي لا يتذوقونه، ويستهلكونه في وقت الغداء بعشرين دقيقة، وبصمت. لم يستطع ميشا أن يتظاهر أنه منهمك بوظيفته إلى ما لا نهاية. وفي الختام تدرك جدته أنه لا يعمل. وكانت تتابع نشرة الطقس على التلفزيون، وإذا لم تجد ما يدل على كارثة طبيعية ترسل ميشا إلى باحة الألعاب مع جده. تصيح بالجد الجالس على الكنبة بقميص المربعات غير المزرر ومدفونا بالصحف الروسية: "اذهب. تحرك. اذهب وتنزه مع الصبي. كن مفيدا وغير روتينك". فيقف الجد ويزمجر ويذهب إلى مرآة الحمام، ليتأكد أنه بحاجة لحلاقة، وبالعادة يقرر عكس ذلك. ثم يزرر قميصه، ويدسه في سرواله، ويقول بشكل غائم: "لنذهب يا مايكل". ويعلم ميشا بعد المغادرة أن الجد سيحمل معه الصحيفة الروسية. وتضع الجدة نظارتها (لديها اثنتان، وكلتاهما من البلاستيك الرخيص، إحداهما زرقاء قليلا والثانية وردية)، وتتكوم على الكنبة، حتى تئن النوابض. وتجلس هناك وقدماها متباعدتان وتقرأ صفحة المبوبات، والإعلانات الفردية. وترسم دائرة حمراء حول بعضها، بقلم استعارته من ميشا، كي تعرضها لاحقا على أم ميشا، التي تبادر بالضحك، ثم تتحسس، وأخيرا تنزعج وتتبرم من الجدة. طيلة الطريق إلى باحة الألعاب، وحين المرور ببناء شقق من الطوب الأحمر وصفوف من البيوت الخاصة تجد فيها على الممشى صغارا يضعون قبعة اليهود وبنات يرتدين أثوابا طويلة ومزهرة، يتقدم الجد ميشا بعدة خطوات، ويداه مطويتان وراء ظهره، ونظره على قدميه، بدون أن ينطق أي كلمة. في روسيا الوضع مختلف. ربما لأن ميشا كان أصغر. حينما ينفق الصيف في بيت جديه يرافقه جده طوعا إلى حديقة ودون أن يطلب منه ذلك. ويتكلم كثيرا حينما يمشي في ممرات الغابة المظلمة والكثيفة: عن الأشجار، والحيوانات، وفتنة الأشياء العادية التي تحيط بهما. ولا يحاول ميشا الصغير أن يفهم معنى الكلمات. وتصله مختلطة بأصوات غيرها: خشخشة الأشجار، وزعيق طائر، وصليل مزعج للحصى وهو يسحب مقدمة صندله عليها. والأهم صوت جده. كانا يمشيان ببطء، ويد الصغير ميشا مؤمنة بيد جده المتعرقة والكبيرة. وبين حين وآخر يحرر يده ويمسحها ببنطاله، ولكنه يسرع ليحمل حقيبة يد جده. وما أن يصلا إلى ساحة اللعب ويقفا على أرضها الإسفنجية السوداء يقول الجد: "حسنا يا مايكل هيا العب". ثم يتجول في المكان بحثا عن صحف روسية على المقاعد. وبالعادة يجد اثنتين أو ثلاثا. ثم يذهب إلى جذع شجرة ضخمة، بعد أبعد زاوية عن طاولات الدومينو، حيث يجتمع حشد متحمس من الرجال الروس كبار السن، أو بعد أبعد زاوية من الطاولات حيث تجلس كبيرات السن الروسيات لمناقشة أمراضهن وأخبار خليلات الآخرين. وهناك لساعة كاملة في ساحة الألعاب، يجلس بلا حراك، باستثناء تقليب صفحات الجريدة.لم يعرف ميشا كيف يفترض به أن يلعب. رأى أولادا بعمر ثلاث سنوات على دراجة بثلاث دواليب يتجولون في أرجاء الساحة الطرية السوداء. أما الزحليقة فقد احتلها أولاد صاخبون بعمر ست سنوات، والأرجوحات شغلها أطفال صغار، تؤرجحهم أمهاتهم أو بنات بدينات مراهقات، كن يضغطن بمؤخراتهن لتمر من بين السلاسل. وبالعادة يمشي ميشا إلى أعلى زحليقة، ويدوس على قطع العلكة و برك من المثلجات الذائبة. يتسلق إلى الذروة ويزحف نحو كوخ بلاستيكي. ويجلس هناك متمسكا بمقعد مطاطي. وأحيانا يجلب معه كتابا. وكان محبا للكتب السميكة الجادة والتي تدور حول الحضارات القديمة، والبعثات الأثرية، والحيوانات المنقرضة منذ ملايين السنوات. ولكن في معظم الوقت يمنعه الضجيج المرتفع من القراءة. ثم يحدق ميشا بالأسفل نحو باحة الألعاب، والتي يبدو أنها تتحرك وتميد مثل حيوان قلق، ثم ينظر إلى جده الثابت بمكانه.

ثم شاهد الملاحظة عن حصة اللغة الإنكليزية مطبوعة بحروف سود عريضة على ورق مضيء زهري. كان اللون ساطعا جدا ويلفت النظر أينما وجدت الملاحظة. ومنذ بداية آذار أمكن رؤيتها في أي مكان من الشقة: على طاولة المطبخ، في غرفة النوم على وسادة مجعدة، على أرض دورة المياه بين المكنسة وكتالوغ ماسي، أو مدسوسة تحت الكنبة (فتجرها الجدة من هناك، وتنفخ طبقة الغبار عنها، وتمهدها بيديها، وتوبخ الجد بغضب). وقد اهتم بها الجميع، وقرأوها، أو على الأقل نظروا إليها. وتمت مناقشة إذا ما كان يتوجب على الجد أن يتبع الحصص. فهو يلائم المواصفات تماما. أي مهاجر شرعي مضى عليه في البلاد أقل من سنتين، ولديه إلمام بأساسيات اللغة الإنكليزية، مدعو لاتباع دورة محادثة أمريكية مدتها ثلاث شهور. وكتب بحروف أكبر من البقية: "الكثير من التعابير المتداولة". وبحروف أكبر: "بالمجان".

قالت أم ميشا في وقت الغداء "البرنامج ممتاز يا أبي. المعلمون أمريكيون، معلمون ماهرون، من هذا البلد وليس سيدات روسيات مسنات، يخلطن بين الأزمنة ويزعمن أن هذا لغة قواعد بريطانية كلاسيكية". ونظفت في طبقها حساء سمك السلور من الحسك. حاول الجد في البداية تجاهلها. ولكن أم ميشا أصرت: "أنت تتعفن بالحياة يا والدي. فكر كم هذه الفرصة رائعة، ستشغلك بشيء ما، شيء يهمك". قرقعت الأطباق بين يدي الجدة، وجرت الكرسي مع صرير، وأحيانا كانت تقاطع هذا الحوار بأسئلة مثل: "أين أعواد الثقاب؟ وضعتها هنا بالضبط" أو "هل تعتقدون أن هذه السمكة مطهية أكثر مما يجب؟". وساءها أن أحدا لم يفكر بضرورة انتسابها للدروس، مع أنها تعرف أن عبارة "الإلمام بأساسيات الإنكليزية" لا ينطبق عليها تماما. وأفضل ما بإمكانها أن تتهجأ اسمها الأول. أما كنيتها فتحتاج لمساعدة من ميشا. ولكن لا يشوش على أم ميشا أسئلة الجدة أو قرقعة الأطباق. وتقول: "ستبدأ بالمحادثة بسرعة، يا أبي. أنت تعرف القواعد، ولديك مفردات، ولكنك بحاجة لمساعدة". خفض الجد رقبته فقط، ورشف شايه، وهو يتمتم أن هذا هراء وأن منطقتهم في بروكلين لا تحتاج إلى الإنكليزية إلا قليلا.

فترد أم ميشا: "وماذا عن مواعيدك أنت وأمي؟ تعبت أنا ومايكل من مرافقتك إلى هناك كل مرة. هل هذا صحيح يا مايكل؟". وتنقل إبريق الشاي البورسلان الضخم، فيمنعها من رؤية وجه ميشا في الطرف الثاني من الطاولة. وافق ميشا. وتقرر أن يلتزم الجد بالحصص. في يوم أول حصة حمل الجد إحدى ستراته المعلقة على المشجب وارتداها، فوق قميص المربعات المعتاد. وسأل ميشا إن كان لديه دفتر لا يلزمه، فقدم له دفترا بغلاف بلون الرخام، مع قلم رصاص مشحوذ وقلم حبر. وضعها الجد في كيس بلاستيكي يحمل عبارة "شكرا". في الصالة أخذ من أعلى رف في الخزانة علبة حذائه الروسي، وسأل ميشا إن كان الحذاء بحاجة للتلميع. لم يعرف ميشا الجواب، فأعاد الجد العلبة إلى مكانها، وارتدى خفه. وجرجر خطواته إلى المصعد، والكيس تحت إبطه. بعد ذلك كل ليلتين في الأسبوع - يعقد الدرس يومي الاثنين والأربعاء - يتناولون الغداء بغياب الجد. وغيابه لا يصنع فرقا ملحوظا، ما عدا توتر أم ميشا والجدة أكثر قليلا. ويبدأ بقصاصة من الصحيفة الروسية، وإعلان ملون كبير - "شرف حفلتنا بحضورك وقابل قدرك! الثمن: خمسون دولارا (يتضمن الطعام والشراب)" - وينتهي ذلك بصياح أم ميشا: "لماذا تريد أن تزوجني؟ لتذهب بطريقك الآخر؟". وتمد الجدة يدها إلى زجاجة حشيشة الهر قائلة بصراحة: "لم أنطق بكلمة سيئة على زوجك".

"بل وجهت لي الكثير من الكلام. أنت لا توفرين النقود من المكالمات الدولية".

"أردت أن أفتح عينيك".

ثم تسرع أم ميشا وتخرج من المطبخ، والجدة تصيح لتعود، وهي تعد بحذر النقاط المضافة لكأس الشاي: "كيف بإمكانك أن لا تكوني ممتنة جدا. أتيت إلى أمريكا لأساعدك. تركت كل شيء وأتيت كرمى لك". جاءت أم ميشا إلى أمريكا كرمى لميشا. قالت له ذلك مرة، بعد عودتها من اجتماع ذوي الطلاب مع المعلمين. جاءت إلى البيت وقالت: "تعال معي إلى غرفة النوم يا مايكل". تبعها، وشعر بالعرق على يديه واحمرار أذنيه، مع أنه يعلم أنه لم يرتكب في المدرسة فعلا شائنا. جلست أمه على حافة السرير، وخلعت حذاءها بكعبه العالي، ثم تخلت عن سروالها. وهي تدلك قدمها البيضاء بأصابعها الملتوية قالت: "قال المعلم أنك لا تشارك يا مايكل. ولا تتكلم أبدا. لا في القاعة ولا في الاستراحة. إنكليزيتك جيدة، وحصلت على علامات ممتازة في امتحاناتك. ولديك علامة ممتازة في كل مقرراتك. ولكنك لن تصل إلى الدرجة الأولى في صفك". تركت قدمها وبدأت بالبكاء حتى سال صباغ أسود حول عينيها. قالت له وهي تلهث أنه هو مستقبلها، والسبب الوحيد لقدومها إلى أمريكا. ثم ذهبت إلى الحمام لتغسل وجهها، وتركت على الأرض كومة سروالها - دائرتان رقيقتان سوداوان اندمجتا معا. صاحت من الحمام: "لماذا لا تناقش يا مايكل؟".

ولكن ليس صحيحا أنه لا ينطق أبدا. إذا طرأ سؤال يرد بجواب دقيق، ولكنه يحاول أن يختصر قدر الإمكان. غير أنه لا يبادر بالكلام. ويدون كل ما يقال في الحصة، ويشارك في ذهنه بتعليقات وتعليقات معاكسة، وأحيانا يلقي النكات. مع ذلك شيء ما يمنع هذه الكلمات الجاهزة من أن تخرج من فمه. وينتابه نفس الشعور عندما يتصل والده في أيام السبت. كان ميشا يتدنفق كل الأسبوع يجهز لاتصاله، ولديه ألوف الموضوعات ليخبره بها. ويخبره ذهنيا بكل مجريات المدرسة، ويصف له زملاء الصف، وأساتذته. ويريد أن يتكلم عن أشياء قرأها في كتبه، وعن مدنه المفقودة، وحيواناته الغريبة. وبذهنه يضحك ميشا ويتخيل كيف سيخبر والده بكل القصص المضحكة التي قرأها عن الديناصورات، وكيف سيشاركه أبوه الضحك. ولكن حينما يخابره أبوه، يحل الخدر عليه. ويجيب على الأسئلة ولا يبادر بالنطق ولا يوجه أي سؤال. ويجلس والهاتف على سريره، بمواجهة الجدار، وأظافره تقشر طبقات الطلاء القديمة. يسمع أنفاس والده في الهاتف والتي تدل على نفاد الصبر وخيبة الأمل. ويرى ميشا أن كرهه للكلام هو سبب عدم اتصال والده في الأسابيع السابقة. والآن حان دور الجد ليؤدي واجبه المنزلي. جاء ميشا من المدرسة وشاهده عند طاولة المطبخ مع دفتره وقواميسه مكومة أمامه على الطاولة. وقد قص الجد لنفسه بطاقات ملونة صغيرة من ورق البناء وكتب عليها كلمات صعبة موجودة في القاموس: كلمة إنكليزية على طرف، ومعناها بالروسية على الآخر. وانهمك بالدراسة ولم يلفت اهتمامه شيء في تلك الأثناء. وتوجب على الجدة أن تذهب إلى مخزن الأطعمة الروسية بمفردها، وبالعادة تعود مع أكياس صغيرة وخفيفة لأنه لا يسعها أن تحمل الأشياء الثقيلة. ولم يستعمل أحد فرامة اللحمة. وأودعت في الخزانة مع مهملات أحضرت من روسيا: ورق الفرن، قوالب غريبة، ساموفر منهك صغير، أداة لاستخراج بذور الكرز الحامض. ولم يسعد ذلك الجدة. ودمدمت أنها تحمل على كاهلها كل البيت وألقت نظرات تأملية على زوجها. قالت أم ميشا: "من فضلك اتركيه بمفرده. على الوالد أن يتعلم شيئا، ولم يبق له غير ثلاث شهور". وتساءل ميشا هل يستمتع الجد بوظيفته مثله. وأيضا تساءل هل يغش الجد مثله، متظاهرا أن وظيفته تستغرق وقتا أطول مما تحتاج إليه في الحقيقة. وبعد بداية الحصص بثلاث أسابيع، أخذ الجد العلبة وحذاءه الجلدي من الرف. وذهب إلى مخزن أحذية واشترى علبة طلاء بني قاتم صغيرة. ولهذه الغاية بحث عن كلمة "طلاء أحذية" في القاموس. قبل كل حصة يلمع حذاءه بنشاط بقطعة قماش. ويدمدم مستجيبا لنظرة الجدة: "لا أريد أن يظن المعلم أن الروس خنازير". يجلس القرفصاء، ورأسه للأسفل، ووجهه ورقبته محمران جدا، مثلما يحمر كلما قال إنه لا يتحسن وعليه حضور دروس إضافية في أيام السبت. وحينها تضع الجدة بعض الأشياء في الخزانة. تغلق باب الخزانة الأبيض بصوت جازم وتقول: "رغم كل هذه الدراسة ولا تتحسن". في إحدى الأمسيات نهض الجد عن الكنبة، وارتدى سترته، ووضع بعض النقود في جيبه، وذهب إلى كينغز هاي واي، وعاد بقميص جديد، أزرق خفيف مقلم بخطوط زرق قاتمة. وكل ما قاله للجدة "كان معروضا بسعر مخفض".

قالت جدة ميشا في صالة انتظار طبيب الجلدية: "وهذا كل ما قاله. كان معروضا بسعر مخفض. لو أنني لا أعرفه لاعتقدت أن لديه خليلة. ولكنني أعرفه". هزت المستمعتان رأسيهما بتعاطف، وهما امرأتان روسيتان، إحداهما تضع قبعة صوفية سميكة لونها بنفسجي لماع، والثانية سوداء وعادية. كشرت الجدة ورفعت أحد حاجبيها لتؤكد كلامها. ونظرت نظرة لها معنى للمرأتين، ومالت عليهما، وهمست شيئا. وأضافت: " ذلك - لعدة سنوات حتى الآن". قالت المرأة ذات القبعة البنفسجية: "ولكن هذا جيد، هذا أفضل". فكرت الجدة بكلامها وقالت: "نعم، نعم، هذا أفضل، طبعا". تخيل ميشا جده مع خليلة، مع خليلة طبيب الجلدية، لأنها الخليلة الوحيدة التي شاهدها. وتخيل جده يتمشى معها على ضفاف خليج رؤوس الحملان - شيب هيدز باي - بين أزواج آخرين، وإحدى يديها تتدلى من كم جلدي لماع لتقبض على يد الجد، ويدها الأخرى تلهو بمفاتيح سيارة. ثم تخيلها تقبل الجد على خده وتترك عليه علامة من طلاء الشفاه الأحمر. فيجعد الجد أنفه ويسرع لمسح العلامة، كما يفعل ميشا حينما تقبله أمه بعد العمل. وصورة جده الجاد الذي ينظف خده بقوة جعلته يبتسم. وخليج رأس الحملان هو المكان الذي يأخذ الجد ميشا إليه للنزهات المسائية. ولعدة أسابيع بعد الحصص واصلا الذهاب إلى باحة اللعب، ولكنه أهمل الصحف الروسية. وبدأ الجد يحمل معه بطاقات الكلمات الملونة. فيوزعها أمامه على الجذع ويضع على كل منها حجرة ليمنع الريح من جرفها. وأحيانا يقرأها بتمهل، بالهمس أو بتحريك شفتيه أو بعينيه. ولكن غالبا ما يتلفت وعلى وجهه دهشة واضحة وعدم تصديق كأنه يراها لأول مرة. ثم في أحد الأيام قال الجد إنه سيأخذ مايكل إلى خليج رأس الحملان ليرى السفن ويستنشق هواء المحيط المنعش. احتجت الجدة في البداية، قائلة إنها مسافة طويلة، والجو عاصف هناك، وقد يصاب الولد بنزلة برد. ولكن أصر الجد، كما كان حاله في روسيا. وقال إن الولد بحاجة للتريض، وهذا الكلام لا تراجع عنه. وفي خليج رأس الحملان لم يتوقفا لرؤية السفن. وعبرا الجسر الخشبي الذي يصر، وتابعا على طول الضفة، ومرا بالصيادين، والأشجار الطويلة، والمقاعد الخضراء المهترئة التي تحتلها نساء وحيدات كما يبدو. وفي نهاية الدرب التفا وعاودا المشوار ثلاث أو أربع مرات. الجد يمشي أمامه، أسرع من المعتاد، ويعرج قليلا بحذائه الجلدي القاسي. نظر نحو الأمام، وأحيانا ينظر نحو الأشجار والمقاعد. وتولد عدة مرات عند ميشا انطباع أن جده أومأ لشخص جالس على مقعد. وفي إحدى المرات انزلق على رأس سمكة على الرصيف، وتقريبا سقط وهو ينظر بذلك الاتجاه. وتوقف ميشا عدة مرات لينظر إلى معدات الصيادين اللماعة، ورؤوس وذيول السمك المستعملة كطعم، وباطن الدلاء البلاستيكية البيضاء، والفارغة عادة. وعندما اشتدت الريح بردت أذنا ميشا وكادت أن تطيح بقبعة اليانكي الصغيرة من فوق رأسه، واسودت الأمواج وارتفعت في الماء، وشاهد ميشا الأسماك تقفز وتنثر الماء حولها لمسافة كبيرة. وحينما سحب أحدهم سنارة صيده، تبعها ميشا بعينيه، وحبس أنفاسه ولعق شفتيه. وأمل ولو مرة أن يرى سمكة تقع بالمصيدة. وبعد نهاية حصص الجد، تأكد ميشا أنهما لن يعودا إلى هنا. وعليه العودة إلى الكوخ البلاستيكي في باحة اللعب، والذي ترتفع حرا ته صيفا، وتفوح منه رائحة المطاط المحروق.

سجلت الجدة كل مواعيدها على تقويم كبير معلق على الجدار بجانب الثلاجة، وهو بمثابة بقعة مضيئة على جدار المطبخ الشاحب. يحمل اسم "أديرة روسية شهيرة"، وكان مطبوعا في ألمانيا، وقد اشترته من شاطئ برايتون. وتحت الصورة اللماعة والجميلة لدير زاغورسك، ببرجيه الذهبيين العائمين في سماء زرقاء مشرقة، تجد تفاصيل شهر حزيران. في الخامس عشر منه تاريخ نهاية حصص الجد، وقد أحاطته بدائرة رسمتها بقلم ميشا الأحمر. قالت أم ميشا حينما مرت بجانب التقويم وهي في طريقها لتضع طبقها في المغسلة: "هل رأيت، لم تكن تريد أن تذهب، يا والدي. ولكنك ستفتقده بعد أن ينتهي". نفض الجد كتفيه. لم يظهر أنه تأثر بكلماتها أبدا. وظهر أن الجدة هي من تأثرت، وكلما ذكر 15 حزيران تتبدل ملامحها. وبقي الأهم. طلبت الجدة من الجد إحضار عشر أرطال خيار من شاطئ برايتون. قالت: "سعرها هناك عشرون سنتا للرطل. وسأصنع منها المخلل". وذكرت أنها تحتاج للخوخ والمشمش للمربى، والكرز الحامض لحلوى الكرز الحامض، والإجاص الصغير الصلب للطهي، والتفاح لفطيرة التفاح. وألقت نظرة حنين باتجاه فرامة اللحوم المتوقفة، وأخبرته بوصفة رائعة سمعت بها في عيادة طبيب الأسنان قائلة: "سأجهز الزرازي. قالت آنا ستيبانوفنا إنها تكون أفضل باستعمال البصل الأخضر عوضا عن البصل. وسأحتاج للكثير من لحم البقر المفروم لأجله". ثم وجدت وكالة سفر روسية، تقدم تخفيضات لسياحة العجائز. وقالت للجد: "سنذهب إلى بوسطن، وإلى واشنطن، وإلى فيلادلفيا. تكلمت النساء في صالة الانتظار عن رحلات بدون توقف، وجلست هناك ولم أفتح فمي من الخجل. عليك الآن أن ترافقني. لن أذهب بمفردي، كما لو أنني لم أتزوج. فغير المتزوجات يحصلن على مقاعد سيئة في الخلف، بجانب دورة المياه". وفكر ميشا أنه ليس أمرا سيئا للجدة إذا حالفها الحظ للجلوس بجانب دورة المياه. غير أنه لم يعلق.

وكذلك الجد لم يعلق. ودفن نفسه في كتبه الدراسية. في 2 حزيران تنبأت نشرة الأحوال الجوية في التلفزيون بغيوم رمادية صغيرة وهطل مطري أسود وغزير. قالت الجدة وهي تغلق التلفزيون وتذهب إلى المطبخ حيث كان الجد وميشا يتابعان كتابة الواجب المنزلي أو بالأحرى يجلسان مع كتبهما المفتوحة: "أمطار غزيرة. ستمكثان الليلة في البيت". ظهرت السماء وراء النافذة رمادية غالبا، مع عدة بقع زرق. نظر ميشا نحو الأسفل. لم يكن الناس يحملون مظلاتهم، ورأى إسفلت الطريق الرمادي جافا ومغبرا. نظر إلى جده. وفحص جده السماء بعناية، ثم رفع غطاء النافذة عدة بوصات ومد يده. دخلت هبات رياح عاصفة ومتجلدة، وتسببت بانتصاب شعر ذراعه، غير أنه لبث جافا. قال: "سنعود قبل أن تمطر". فتنهدت الجدة بلا مبالاة. بدأ هطول القطرات الأولى من المطر حالما غادرا المبنى. ورسمت أثرا أسود على الرصيف، ولكنها لم تسقط على ميشا وجده. ثم سقطت نقطة مطر على طرف أنف ميشا. مسحها. وقرب خليج رأس الحملان توقف الجد ومد راحته المفتوحة. سقطت عليها بعض القطرات. قال الجد وهو يلتفت إلى ميشا ويمسح وجهه المبتل براحته المبلولة: "هذا ليس مطرا يا ميشا. أليس كذلك؟". تنهد ميشا. ونظر كلاهما نحو الخليج. كان قريبا جدا، وأمكنهما رؤية السفن، والأمواج الهائجة والرمادية الداكنة، وذرى الأشجار وهي تنحني تحت ضغط الرياح. طارت صفحات من الصحف والتي كانت مهجورة على المقاعد. هز ميشا رأسه وهو يمسك قبعته بإحكام: "هذا ليس مطرا غزيرا. سنقوم بجولة واحدة فقط. موافق؟". عبرا الشارع، وكانا وحدهما يسيران باتجاه المنتزه. أما معظم الناس فقد أسرعوا بالخروج. وبدأت حبات مطر منتفخة وكبيرة تتكاثر، وتضرب الرصيف الواحدة بعد غيرها مع صوت ارتطام، وحولت البقع الرطبة الصغيرة إلى أشكال ومنمنمات، ثم تحولت إلى برك. توقف الجد مترددا ونظر نحو المقاعد. لم يكن عليها أحد. فقال: "أعتقد من الأفضل يا مايكل أن نتوجه إلى البيت. فقد بدأت تمطر".

وبلغهما الهطل الغزير وهما ينتظران الضوء الأخضر عند إشارة العبور. وبسبب كل نواح الريح وطرقات المطر، لم يسمعا مباشرة نداء أحد الأشخاص عليهما. أو بالأحرى سمعه ميشا، ولكنه لم ينتبه فورا أن النداء باسم جده. "غريغوري ميخائيلوفيتش. غريغوري ميخائيلوفيتش". لم يستعمل أحد كنيته منذ غادر روسيا. ثم جاءت امرأة عجوز صغيرة الحجم بمعطف مطر بني، وتضع كيسا بلاستيكيا على رأسها، وكانت تعدو نحوهما، وهي تتخبط ببوط أسود مقاوم للبلل، وأكبر من مقاس قدمها. جر ميشا كم جده، وجعله يتوقف ويلتفت. قالت بأنفاس مقطوعة وهي تحاول أن تحمي رأس ميشا بالكيس البلاستيكي: "غريغوري ميخائيلوفيتش. تعال إلى بيتي. تعال بسرعة. وإلا أصاب الولد نزلة برد".

كان بيتها في آخر طابق من بناء حجري بني يتكون من ثلاث طوابق وهو على الرصيف المقابل للحديقة. صعدوا على سلالم معتمة، تفوح منها روائح غير سارة. فكر ميشا: "قطط؟". فهو لا يعرف رائحتها. تقدمتهما المرأة على السلالم. وهي منقطعة الأنفاس وقالت بجمل حادة وقصيرة: "ولد مسكين. كيف أمكنك أن تفعل به ذلك يا غريغوري ميخائيلوفيتش. وفي طقس كهذا. كنت هناك على أحد المقاعد. ولكن غادرته. حالما بدأت تمطر. ورأيتك من جهة الشارع الأخرى. وأصابني الهلع على الولد". انقطعت أيضا أنفاس الجد ولذلك لزم الصمت. وفي الداخل أمكن ميشا أن يلاحظ أن الشقة صغيرة جدا وقليلة الإضاءة قبل أن تغطي وجهه وكتفيه وظهره منشفة خشنة كبيرة يفوح منها رائحة صابون غير معهود. وشعر بيدي المرأة الصغيرتين والسريعتين تدلكانه. ودغدغه هذا الإحساس وأوشك أن يعطس. رفض ميشا والجد سروالين جافين ولكن قبلا جوارب جافة ووضعا الصحف في داخل حذائيهما وتركا الحذائين في الحمام ليجفا. وحينها قالت المرأة: "اسمي إلينا بافلوفنا. زميلة جدك في أيام المدرسة. كنا معا". شربا الشوكولا الساخنة في مطبخ صغير عند طاولة مستديرة بساق واحدة. حضر الجد وإلينا بافلوفنا الشوكولا الساخنة معا. سكب الجد الماء الحار من الإبريق، بعد أن قبض عليه من يده الخشبية بكلتا يديه، وأضافت أيلينا بافلوفنا المزيج في ثلاث أكواب صفراء وقربتها من الإبريق. وتبادلا عبارة "شكرا"، "من فضلك"، "اسمح أو اسمحي لي"، وابتسما العديد من المرات. وبدا كلامهما مثل تمثيلية مقتبسة من شيخوف كانت أمه تحب مشاهدتها في روسيا ولكن شعر ميشا أن جده وإيلينا بافلوفنا لا يمثلان. سألت إيلينا بافلوفنا "ما اسمك؟".

قال ميشا: "مايكل".

"مايكل؟ ولكنك لا تبدو كأنك مايكل. ميشا يناسبك أكثر. هل يمكنني مناداتك ميشا؟".

وافق ميشا بحركة من رأسه، وهو ينفخ بسعادة على شرابه الساخن (بالعادة في البيت تضيف أمه الحليب البارد لكوبه)، وقضم من كوكي محشو بمربى التوت اللذيذ. قالت إلينا بافلوفنا: "اشتريتها جاهزة. أنا لا أخبز. لماذا أتعب نفسي الأشياء اللذيذة تباع في المخابز وهي على أنواع؟ صحيح؟ ولكن ليس هذا السبب فقط. أنا طاهية سيئة جدا". ورأى ميشا أنها لا تخجل مما اعترفت به. كانت شقتها أصغر من شقتهم. غرفة ومطبخ. ومؤثثة مثلهم: كنبة من الخشب البني الصلب مشتراة من متجر مفروشات روسي رخيص، وطاولة قهوة مع خدوش وخزانة بأدراج وجدتها في النفايات، ومصابيح ثقيلة مشتراة من سوق موسمي للأشياء المستعملة. ومجموعة شاي روسية رقيقة وكتب في خزانة سوداء بأبواب زجاجية. قرأ ميشا العناوين - التي تطابقت مع ما لديهم - شيخوف، بوشكين، روايات تاريخية بأغلفة سوداء كئيبة، موباسان وفلوبير مترجمة إلى الروسية، قواميس لسان روسي - إنكليزي و إنكليزي - روسي، وسميكة. بعض العناوين مغطاة بصورتين كبيرتين. إحداهما لبنتين بملامح جادة وشعر أجعد، وكلتاهما أكبر من ميشا. قالت إلينا بافلوفنا وهي تتنهد: "حفيدتاي. تعيشان في كاليفورنيا مع ابني". الصورة الثانية بالأبيض والأسود ولشاب مبتسم يرتدي البذة. فكر ميشا: ابنها، ولكن قالت إيلينا بافلوفنا أنه زوجها. لاحظ أن لإيلينا بافلوفنا في مؤخرة رأسها شعر مجدول وأبيض ورقيق. لم يشاهد ميشا من قبل امرأة مسنة بشعر مجدول. والشعر الذي يخرج من الجديلة يحيط وجهها بتاج من الجدائل البيضاء الرمادية المنفوشة. ولها جلد جاف وناعم بتجاعيد صغيرة وقليلة تبدو كأنها مرسومة على وجهها بالقلم. ولها عينان صغيرتان وسوداوان. غطاهما الضباب حينما قرأت لهما رسالة أختها من ليننغراد. وقد ورد فيها: "كل شيء كما هو، نهر النيفا، الضفاف، قصر الشتاء، أنت وحدك يا لينوشكا التي اختفت". ربت الجد على يدها، التي برزت من كم أزرق باهت، وهي تقرأ ذلك. وكانت ترتدي ثوبا صوفيا أزرق بقبة عالية تغطي رقبتها، ومعه قلادة عنبرية. سألت وهي تفك قفله: "هل تريد أن تنظر إلى قلادتي. تقول والدتي إن في داخله ذبابة". أمسك ميشا بيديه قطعة العنبر الكبيرة وغير المصقولة. بارد وناعم من أعلى، خشن من الحواف. وفي داخله شيء أسود غريب له تفرعات رقيقة تبدو قليلا مثل قوائم حشرة. قالت إلينا بافلوفنا: "لست متأكدة وربما هو مجرد صدع. هل تعرف يا ميشا ما هو العنبر؟".

قال بحماس وهو يقلب العنبر بين يديه: "نعم. هو قطران الشجرة المتصلب، ويمكن للحشرات أن تعلق فيه حينما يكون طريا ولزجا. نعم، أعتقد أنها حشرة. ولكنها مشوهة". أبعد ميشا عينيه عن القلادة واحمر وجهه، فقد شاهد إلينا بافلوفنا وجده يتابعانه ببالغ السعادة لكلامه.

في الخارج كان كل شيء رطبا وناصعا بسبب المطر. وهبطت على رأسيهما من الأشجار قطرات مطر غزيرة كلما مرا من تحتها. أسرعا بالمشي، متقاربين، وحذاءاهما المبلولان يصران على الإسفلت الرطب الأسود. فقد غادرا من شقة إلينا بافلوفنا بمجرد توقف المطر. كان الحذاءان رطبين، ولكنهما أخرجا الصحيفة المنقوعة بالماء منهما وارتدياهما. ولم تحتج إلينا بافلوفنا، ولم تقل أنه عليهما الانتظار، وأن ميشا قد يصاب بالبرد من ارتداء حذائه الرطب. على عتبة السلم تناولت يد ميشا بيدها الجافة والصغيرة وقالت: "تعال يا ميشا مرة ثانية". ولكن كان لديه شك أنه سيراها بعد الآن. وكان لديه يقين أنه لا يجب أن يذكرها في البيت. وربما يتوجب عليهما الادعاء أنهما انتظرا توقف المطر في مدخل بناء أو في بقالية. وستبقى إيلينا بافلوفنا، المرأة ذات الجدائل الرمادية والعقد العنبري، سره وسر جده. ولسبب ما شعر ميشا بالدافع ليمسك يد جده، ولكن خطر له أن أولادا بعمر تسع سنوات لا يمشون وهم يمسكون بأيادي أجدادهم. وعوضا عن ذلك حدثه عن تكون العنبر، والبراكين، والحرباء، والديناصورات التي تبتلع الصخور الضخمة لتطحن بها طعامها، وعن التماسيح التي تصنع صنيعها أيضا. وتكلم دون أن يلتقط أنفاسه، وبلا توقف، وبتدفق، وهو يضحك من الإثارة، ويقاطع حكاية ليدخل بما بعدها. نظر إلى جده، الذي ركز عينيه على ميشا، وكان يومئ برأسه باستعجاب، ويتمتم من وقت إلى آخر قائلا: "تصور". أو "تصور كيف تتصرف الكائنات الحية لتعيش". وكلما أضاف ميشا المزيد من رواياته كلما ذكر كلمة "تصور". وعلى مقربة من بناء المسكن توقف الجد فجأة، وقاطع حكاية له عن تنين كومودو قائلا بصوت منقطع الأنفاس: "ميشا. هل تعلم أن دروسي لن تنتهي في 15 حزيران. أقصد هذه هي الخطة، ولكنني سأنضم لمقرر آخر، ثم آخر. يوجد الكثير من برامج اللغة الإنكليزية في بروكلين وبالمجان يا ميشا. لا تستطيع أن تقدر كم هي كثيرة".

سقطت من شجرة قطرة مطر كبيرة على رأس الجد. وسالت على جبينه. وتمهلت فوق أنفه، وتعلقت بأرنبة الأنف. وهنا ارتجف الجد وهز رأسه مثل الحصان. فضحك ميشا.

 ***

...............................

* الترجمة عن Open City

* لارا فابنيار Lara Vapnyar روائية وقاصة روسية معاصرة. تقيم في الولايات المتحدة. من أعمالها: مذكرات ملهمة 2006، عطر الصنوبريات 2014، لا نزال هنا 2016، بروكولي وقصص غيرها 2008.....

 

من شعر بيورنر تورسون

اختيار وترجمة: عبد الستار نورعلي

***

أن تكونَ ـ مثلُ كل الأشياء

اختفاء

جريمة، اضطراب، خسارة،

شلل،

كل شيء يحترق، النار هاطلة مثل زخات المطر.

*

النظرة طليقة

أحدهم يغني     لكنَّ الصوت يتلاشى في الهواء.

*

الريح تبعد ألسنة اللهب.

وهناك ينهض أحدهم عن سريره.

*

أن تكون هو مثل أنْ يكون كلُّ شيء.

كنْ ـ ثم اعتكفْ، في مواجهة نفسك:

*

لقد مرّت بخاطري فكرة أن أقتحم بيتي الخاص

حينها اصطدمتُ في الظلام بحافة الباب.

أقف صامتاً في كورس صاخب.

**

" الذئب هناك "

في مكان ما من هذا الحقل اختبأ

خنزير صغير

الآن يتعلق الأمر بالعثور عليه فحسب ...

*

"هناك"

هناك يتدحرج عجوزان.

*

"هناك بعيداً"

**

يلوح للناظر:

...........

سيقان  الأشجار النحيفة

انفكّت عن تيجانها الغامقة

وبحذر هبطت على الأرض

**

الآن هي بعيدة .

"بعيداً"

الآن يظنُ المرءُ أنه يلمح

شيئاً يختفي

*

قطعة قماش تسقط خلال ريح الغسيل

أم أنها تساق مع الجِمال، شراعاً

باتجاه فردوس أسود، خلف الأفق

*

يغمض المرء عينيه

من خلال نافذة الباص يرى صحراء الملح

تختفي

في كل ناحية

*

على الحافة

أبحثُ عن شيء

من السخفِ الاستماعُ اليه

*

مثلما حين يلج المرءُ الصحراءَ ـ وفجأة يطرق سمعه

كأنّ أحدهم يقلب ورقة في كتاب

*

أو يجلس لتناول الغداء في مقهى تعجُّ بالفوضى

وأحدهم غارق في النوم في أُذنِ شخص آخر

*

هناك أصوات جانبية تائهة تتأرجح

لا أحد يلتفت اليها

*

الآن أسمعها في الذاكرة

*

في أصفهان

أنا أشبه هذا الذي أتعثر فوقه

بين التجار الذين انحدروا، الرُزم

والجِمال تحت المعاطف، القبعات، الصناعات الحجرية

*

العلبُ الكارتونية يجب أت تُحزمَ من جديد

كي لا تسقط من ثقل وزنها

*

في الظلام الدامس أراحوا رِكابهم

آلاف النجوم قد أمطرت فوق طريقهم

*

يدٌ صغيرة بأجنحةٍ هي أول ما تقع عليه العين

ثم أغمضتُ عينيَ من كثافة الضياء

الذي يمسك الصخور في مكانها، بقمة رأس القبة

مثل كتلة جليد تحوم في بيت من الثلج

في فيلم عن ابن البرودة نانوك

*

إنها لا تتحرك حول مركز ثقلها

ـ مكعب الضوء الشفاف

بل فوق خيط، بين العين والعالم

***

.....................

* اختيار وترجمة وهامش: عبد الستار نورعلي

*من مجموعته الشعرية "في ظلّ أرنب بري I skuggan av en hare " الصادرة عام 2001

* بيورنر تورسونBjörner Torsson  1937-2020: شاعر سويدي كان مهندسًا معماريًّا، عمل أستاذًا في الكلية التكنولوجية بالعاصمة استوكهولم. يرسم في  شعره ظلالًا من الحزن والسوداوية، تلفان الحياة الإنسانية، وإن كانت لغته - بتأثير من تخصصه المهني - تدور في لعبة فنية تعبيرية تفاصيلية، لما يدور في النفس من أحاسيس تفتح نوافذ العتمة الداخلية.

بقلم: إيف بونفوا

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أولا: صخرة

كان يرغب

و لكن دون أن يعي

ذلك

لقد غادر الحياة

دون أن يحيا

كانت الأشجار والأدخنة

و أمواج الرياح

و خيبات الأمل

عالمه اللامتناهي

الذي لم يقبض منه

سوى منيته

***

ثانيا: نفس الصوت، دائما

أنا كالرغيف

الذي تقضمه أنت

كالنار التي تسعرها

كالنقاخ الذي يصاحبك

إلى بلاد الموتى

أنا كالجفالة

التي جعلت الضياء

تبلغ المرفأ

هذي الساعة

كطائر مسائي

يلتقط جفال السواحل

أنا كالريح المسائية

التي تجفل

و تبرد على حين غرة

***

ثالثا: طير الخرب

ينأى طير الخرب

عن منيته

فيوكر في البهم

السمر

قبالة الشمس

قاطعا كل الآمه

تاركا كل ذكرياته

إنه ما عاد يعرف موقع

الغد

من الأزل

***

....................

- إيف بونفوا  (1923 – 2016). شاعر وناقد فني ومترجم وفيلسوف فرنسي كبير. ترجم أعمال شكسبير الشعرية – المسرحية وقصائد وليام بتلر ييتس وجون دون وبطرارك وجورج سيفريس إلى الفرنسية. عمل أستاذا في إحدى الجامعات الفرنسية منذ عام 1981 وفي جامعات سويسرية وأمريكية. من دواوينه الشعرية: دوف حركة وثباتا 1953، قصائد، ضد أفلاطون، اللامحتمل، البساطة الثانية، الغيمة الحمراء، وفي خديعة العتبة. منح عدة جوائز، منها: جائزة غونكور في الشعر 1987، جائزة النقاد 1971، وجائزة الاكليل الذهبي 1999. ترجمت أعماله إلى عدة لغات ومنها العربية، وقد ترجم له أدونيس (الأعمال الكاملة) وترجم له محمد بن صالح أيضا إضمامة كبيرة من القصائد صدرت تحت عنوان (الصوت والحجر). مترجمة عن الكردية.

هنري . دابليو لونجفيلو

ترجمة : عبد الوهاب البراهمي

***

رميت بسهم في الفضاء

سقط على الأرض لست أدري أين؛

إذ كان يطير بسرعة فائقة، لا يقدر البصر

فيها أن يلاحق طيرانه .

شدوت بأغنية في الفضاء

فسقطت على الأرض، لست أدري أين؛

إذ من له بصر حادّ وقويّ

حتى يلاحق طيران أغنية؟

بعد فترة طويلة، وعلى شجرة بلوط

عثرت على السهم ما يزال سليما؛

والأغنية، من أولها إلى آخرها،

وجدتها في قلب صديق.

***

.....................

Poèmes que tout enfant devrait connaître

La Flèche et la Chanson

J’ai tiré une flèche dans les airs,

Elle est tombée à terre, je ne sais où ;

Car elle volait si vite, que la vue

Ne pouvait suivre son vol.

J’ai soufflé une chanson dans les airs,

Elle est tombée à terre, je ne sais où ;

Car qui a la vue assez perçante et forte

Pour suivre le vol d’une chanson ?

Longtemps après, dans un chêne,

J’ai retrouvé la flèche, encore intacte ;

Et la chanson, du début à la fin,

Je l’ai retrouvée dans le cœur d’un ami

HENRY W. LONGFELLOW

***

...................

هنري. دابليو لونجفيلو (شاعر أمريكي 1807-   1882).

مجموعة شعراء

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1) – يوشينو يوشيكو / اليابان

القمر في كبد السماء

القمر في بحيرة فوهة البركان

يضيء الواحد للآخر

***

(2) – بادري ستافري شيبي / ألبانيا

تتنازع الغمام

في كبد السماء –

يترقب التنوب هدير الرعد*

***

(3) – مارسيل بلتيير / بلجيكا

الأطيار

في كبد السماء –

غير معروفة

***

(4) – ستانكا بونيفا / بلغاريا

قمر بنصف إضاءة في كبد السماء

أختلق القصص

عن النصف الآخر

***

(5) – دجوردجا فوكيليتش روزيتش / كرواتيا

الغسق

رمشة عين رمادية

في كبد السماء

***

(6) – بادماسيري جاياثيلاكا / سريلانكا

رذاذ –

هجيج نار المخيم، وأجيجها

النجوم في كبد السماء

***

(7) – ألبرت أكسل / هولندا

جسم غريب -

طائرة ورقية هائمة

في كبد السماء

***

.....................

* التنوب، الشوح: شجرة من الصنوبريات، يستخلص منها الزيت العطري. منها أنواع (النوميدي، الإسباني، السوري).

- مترجمة عن الإنكليزية.

بقلم: براين بيلستن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

اضف الى السلة

تصفح البيض. انقر على بيضة.

اضف الى السلة

*

اشتر بيضة واحدة تحصل على بيضة واحدة مجانا.

اضف الى السلة.

*

اشتر خمس بيضات أخرى تتأهل لتوصيل مجاني.

اضف الى السلة.

*

بيضات أخرى نوصي بها بناء على تاريخ تصفحك...

اضف الى السلة.

*

الزبائن الذين اشتروا هذه البيضة اشتروا هذه البيضات ايضا...

اضف الى السلة.

*

اليك بضع بيضات اخرى قد تود معاينتها...

اضف الى السلة.

*

اية بيضات اخرى يشتريها الزبائن بعد مشاهدة هذه البيضة؟

اضف الى السلة.

*

تجنب وضع جميع بيضاتك في سلة واحدة مع صنفنا الجديد من السلال...

اضف الى السلة.

*

تصفح سلال. انقر على سلة.

اضف الى السلة.

*

اشتر سلة واحدة تحصل على سلة واحدة مجانا.

اضف الى السلة...

***

.....................

براين بيلستن: شاعر وكاتب بريطاني من مواليد برمنغهام لعام 1970 واسمه الحقيقي بول ميليتشيب. تلقى تعليمه في جامعة ويلز وبدأ نشر قصائده على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما وعرف بوصفه صوتا شعريا متميزا حتى أطلق عليه لقب (أمير شعراء تويتر). ظهرت له المجموعات الشعرية الآتية: (استقللتَ الحافلة الأخيرة الى الديار) 2016؛ (يا أليكسا، ماذا هنالك لنتعلمه حول الحب؟) 2021؛ (50 طريقة لتسجيل هدف) 2021؛ (أيام كهذه: دليل بديل عن العام في 366 قصيدة) 2022؛ و(واذاُ فهذا هو عيد الميلاد) 2023، كما نشر رواية بعنوان (يوميات احدهم) في عام 2019. يواظب بيلستن على نشر قصائده على مواقع التواصل على نحو شبه يومي.

قصة: يكيكو توميناجا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

أبي موظف في البلدية، يدير نظام الصرف الصحي بأكمله في طوكيو. من وجهة نظر أمي، وهو أسعد رجل عرفته في حياتها. في بعض الأحيان، عندما يكون ثملاً لكن ليس بما يكفي ليفقد وعيه، كان يكتب في الهواء وكأنه يبحث عن دفتر ملاحظات وقلم. كنا ننتفض من الفرح لأن هذا كان يعني أنه سيبدأ في الرسم. كان أخي الأصغر وأنا في ذلك الوقت في الثالثة والسادسة من العمر. على الترتيب.

" ماذا تريدان؟" كان يسألنا، فأقول "كوالا!" أما أخي فيقول "لا، روبوت!" ثم كان يرسم كوالا روبوت على مبنى كان يبدو كالشجرة. بعد ذلك، كان يطلب مزيدًا من الورق لكنه يتوقف عن سؤالك عن ما تريد. كان يرسم حيوانًا تلو الآخر بينما كانت والدتي تجلس بجانبه، تمزق البريد غير المرغوب فيه إلى أرباع باستخدام مسطرة لتصنع منه دفاتر ملاحظات. زرافة على ترامبولين جاكوار تلقف ثلاث كرات سوداء.  ثلاثة قرود حكيمة تشرب الجعة في حوض استحمام ساخن يقدمها لهم كلاب كان من المفترض أن تحرس المعبد. ثعابين تتنكر كالتنانين، قائلة: "ليس من السهل التظاهر بالقوة." بحلول الوقت الذي نفد فيه الورق، كانت لدينا مجموعة من رسومات الحيوانات. كان أخي وأنا نختلق قصصًا تتناسب مع كل رسم بينما كان والدي يبتسم، يظهر أسنانه المعوجة، يشعل سيجارة، ويشرب المزيد من الساكي.

قالت والدتي بينما كانت تجلب له زجاجة أخرى من الساكي الساخن.  "

- لا يوجد شيء لا يستطيع أن يرسمه.

أتذكر الضوء البرتقالي المترب في أعلى غرفة المعيشة، والهواء المدخن، ووالدتي التي كانت تحدق في والدي بعينيها الذائبتين.

"هذا كل شيء لليوم"

كان يقول ذلك وهو يجمع رسوماته قبل أن يأخذها إلى سلة المهملات. وهكذا نذهب إلى الفراش.

عندما قلت أبي أن البخار المتصاعد من فنجان القهوة يشبه راقصة باليه، قال لي: "اكتبي قصيدة."

لم يكن لدينا لوحات فنية في منزلنا. كان منزلنا صغيرًا جدًا بحيث لا يسع أن يُملأ بالكماليات. كانت اللوحة الوحيدة في الردهة موجودة دائمًا هناك، لكنني لم ألاحظها حتى وصلت إلى المدرسة الإعدادية. قالت والدتي.

"أبوك رسمها. كان يرسم كثيرًا في الماضي"

قرية أمام جبل، تدرجات مختلفة من اللون الأخضر، المنازل الحمراء، ونهر- مناظر طبيعية نموذجية من شمال اليابان- مثل لوحة قد تراها في حمام مطعم قديم. لم أستطع أن أقول إنها جميلة أو لا تُنسى.

في ذلك الوقت، كنت غير متأكدة ما إذا كنت يجب أن أصبح عاملة في محطة للطاقة النووية، أو مدربة كلاب إرشاد، أو أن أتوقف عن الحياة ببساطة.  سألت أمي.

" أين لوحاته الأخرى؟"

"اختفت. كانت تشغل مساحة كبيرة. تخلصنا منها."

اكتشفت مرتين دفتري مذكرات والدي القديمة. مرة، عندما كنت في الخامسة والعشرين من عمري، وجدت دفتر والدتي الذي يحتوي على قائمة موجهة إلينا: مكان إخفاء رمز الخزنة، رقم هاتف شركة التأمين على الحياة، وعنوان المنشأة الطبية التي ستتبرع بجسدها لها.. أما المرة الثانية فكانت بعد المدرسة الثانوية. في الحمام، كان هناك دفتر صغير أزرق ملقى على الأرض. إذا كان هناك ثقب في الحائط، كنت ستنظر من خلاله. إذا كان هناك دفتر بدون عنوان، كنت ستفتحينه. فالتقطته وفتحته كما تمليه عليَّ غرائزي. وفتحته كما أمرتني غريزتي. في اليوميات، كتب أبي: اليوم الأول: فشلت في اجتياز امتحان الجامعة لسنتين على التوالي. الجو بارد في الخارج. أنا مقدر لي أن أتجول وأرسم، على هذا الجبل. لا وظيفة، لا مال، لا حب، فقط أنا وقلمي الرصاص.

كان أبي في العشرين من عمره، وحيدًا على جبل بارد في الشتاء.  أغلقت الدفتر وجلست على مقعد المرحاض. لماذا هو هنا؟ فكرت في فتحه مرة أخرى للتأكد مما قرأته، أنه لم يولد ليكون عامل صرف صحي، لكنني لم أتمكن من مواجهة تلك الحقيقة، لذا دفعت الدفتر إلى جانب المقعد بأصابع قدمي، وأخذت فى العد حتى وصلت الى الرقم ثلاثمئة ثم أفرغت المرحاض.

في غرفة المعيشة، كان والدي يحمل صحيفة بيد ويشد شعيرات أنفه باليد الأخرى.

عوقبت بالإيقاف عن الدراسة لمدة أسبوع من المدرسة الثانوية، قبل عشرة أيام من تخرجي. لم أفعل شيئًا خاطئًا سوى أنني ذهبت للحصول على رخصة القيادة دون إذنهم. اكتشفت معلمتي ذلك لأنني اتصلت بها عن طريق الخطأ ظنًا مني أنني كنت أتصل بمعلمة البيانو، وتركت رسالة تفيد بأنني يجب أن أغيب عن درس للحصول على رخصة القيادة. لم يكن لدينا المزيد من الدروس وكان لدينا يوم واحد فقط للتدريب على حفل التخرج؛ ومع ذلك، قامت معلمتي بإيقافي وأعطتني مهمة كتابة مقال من خمس صفحات أعبّر فيه عن أسفي. كنت دائمًا طالبة مجتهدة، نموذجًا يُحتذى به، وحبيبة المعلمين، ولكن في النهاية تحولت إلى طالبة سيئة. في تلك الليلة، بينما كنت أحدق في رسائلي المبللة بالدموع على الورق، معتقدة أنه لن يكون هناك مستقبل أمامي، جلس والدي مقابلا لي وشرب الساكي كما هو معتاد. سحب ورقة من بين يدي ورسم قردًا يابانيًا، القرد الكلاسيكي الذي يعبر عن الندم، وجهه متجه نحو الأسفل، يداه على ركبتيه، وكتفاه منحنيتان كأنها تحت وزن كيس كبير من الأرز.

"مفتاح البقاء في هذا العالم هو التظاهر بأنك مثل هذا القرد"

قال والدي هذا وأومأ بثقة. شرب كوب الساكي في رشفة واحدة وكتب لي المقال.

"لا تأخذي هذا بجدية. تم تعليقك قبل التخرج! هذه هي ابنتي! انسخي مقالتي وسلميها لمدرستك، ستنبهر.

لم أخبر والدي عندما اكتشفت أنني حامل وقررت الزواج من ليفي، شاب لم يلتق به من قبل، في البلد الذي لم يكن قد زاره. أخبرت والدتي بأن تخبر والدي وتعيد لي رد فعله. بعد أسبوعين، وصلتني رسالة من المنزل.

"لا يهمني إذا كان يهوديًا أو مسلمًا. لا يهمني إذا كان رئيس الولايات المتحدة أو عامل بناء. طالما أنه يعمل ويدعمك ويدعم طفلك وأنتِ سعيدة، فإنني سعيد من أجلك.

والدك"

في أسفل الرسالة، كانت هناك صورة لطفل نائم بين ذراعي أمه. للمرة الأولى، رسم أبي وجهي.

أنا على متن القطار السريع من مدينة صديقتي إلى مدينتي. في يدي اليمنى، أمسك بكرة أرز دافئة وفي يدي اليسرى ورقتين من فئة عشرة آلاف ين، أعطتني إياهما صديقتي. أنا وابني نزور اليابان لأول مرة منذ ولادته. لكنني كنت بعيدة عن منزل والديّ عندما اتصلت حماتي بأمي من أمريكا لتخبرني عن حادثة ليفي.

وفقًا لوالدتي، فإن والدي هو أسعد رجل عرفته في حياتها. في السنوات الست والثلاثين الماضية، حل جميع مشاكل نظام الصرف الصحي في طوكيو، وغالبًا ما كان يعاني من صداع الكحول. عمله لم يسبب له قرحات في المعدة أو سرطان أو حصوات في الكلى. كان العمل سهلاً مثل تمشيط رأسه الأصلع، كما أخبر والدتي.

يتوقف القطار وأسمع المُنادي يعلن اسم بلدتي.

يتوقف القطار وأسمع المذيع يعلن اسم مدينتي. سيكون والداي وابني في انتظاري عند البوابة. عند بوابة المدخل. عندما أضع قدمي على السلالم المتحركة، أتخيل وجه والدي عندما يجدني وسط الحشد. سأجد شقًا في الأرض لأتعثّر عليه، أمامه مباشرة، لأجعله يضحك، لأجعله ينسى سبب وجوده هناك، ولأجعله يمد يده نحوي دون أن نضطر للنظر في عيون بعضنا البعض.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: وُلدت يوكيكو توميناجا / YUKIKO TOMINAGA ونشأت في اليابان. وصلت إلى نهائيات جائزة فلانري أوكونور للقصص القصيرة لعام ٢٠٢٠، التي اختارتها روكسان غاي. رُشِّحت أعمالها لجائزة بوشكارت، ونُشرت في مجلتي شيكاغو كوارترلي ريفيو وبيلينجهام ريفيو، ومنشورات أخرى. تعمل أيضًا في دار نشر كاونتربوينت، حيث تُساهم في تعريف القراء الناطقين باللغة الإنجليزية بكتب يابانية لم تُترجم من قبل.

ثلاث قصائد

بقلم: إدنا سانت فنسنت ميلاي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أولا: سأعود

سأعود مرة أخرى

إلى الشاطئ الأجرد

كي أعيد بناء

كوخي الصغير

على أحقافه،

فتعاود الطحالب البحرية

المرور عند بابه

ياردة

أو ياردتين..

ولكن دون أن يدفعني ذلك

إلى الإمساك بيدك

حيث سأكون قد يممت وجهي

شطر من أفهمه،

و سوف أكون سعيدة

أكثر من ذي قبل..

أما هوانا

ألذي همد في عينيك..

أما الكلمات

ألتي ما عاد ينبس بها

لسانك،

فهي أشياء

تموت الآن.

لكم هو قليل

الذي قيل،

لكم هو قليل

الذي غني،

و لكن دون أن يطرأ أي تغير

على الصخور

و السماوات الحزينة

عما كانت عليه

حين كنت يافعة...

***

ثانيا: الزوجة الساحرة

هي ليست زهرية،

ولا شاحبة

و لن تكون كلها لي

البتة.

مرنت يدها في أحدوثة

خرافية،

و فمها في عيد الحب.

لديها شعر اكثر مما هي بحاجة اليه.

الويل لي منها

في الجوناء..

صوتها أشبه بسلسلة

من الخرز الملون

او خطى تفضي

الى اليم..

تحبني بقدر ما تستطيع،

و تسايرني..

إنها لم تكن معمولة

لأي رجل

و لن تكون كلها

لي..

***

ثالثا: اضمحلال

أعلم ما الذي يشبهه

قلبي،

منذ أن مات

حبك..

إنه أشبه ما يكون

بحافة جوفاء،

تحبس بركة صغيرة،

تركت هناك عند المد..

بركة صغيرة

فاترة،

تجف من الحافة

إلى الداخل.

***

...................

- إدنا سانت فنسنت ميلاي: شاعرة ومترجمة وممثلة وكاتبة مسرحية أمريكية 01892 روكلاند – 1950 نيويورك). بدأت بنشر الشعر في سن ال 014). وبأسماء مستعارة أيضا 0فنسنت ميلاي، نانسي بويد، ادنا سانت ميلاي). حازت على جائزة ال 0بوليتزر) للشعر المقدمة من قبل جامعة كولومبيا بنيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1923 كثالث امرأة تفوز بهذه الجائزة الشعرية المهمة. من أعمالها: الأعشاب، الزمن لا يأتي بالراحة، اعتداء، عندما يكبر العام، عالم الله، ثلاث أغنيات للتبعثر، النهضة، قتل ليديس، الشجاعة التي امتلكتها أمي، النهضة، انحسار، الملك هنخمان، مقابلة قاتلة، رماد الحياة، بعد الظهر على تلة).

قصة: خوان بابلو رونكون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

1- يضع كلاوديو الخيمة الملفوفة وأكياس النوم في الجزء الخلفي من شاحنتي. إنه يوم جميل: الشمس ونسيم البحر اللطيف يبشران برحلة ممتعة. دخلت صديقتي أمبارو إلى المقصورة وشغّلت الراديو. تسأل كلاوديو: هل أحضرت الأشرطة؟ لكنه لا يسمعها، فهو مشغول بإعادة ترتيب حقائب الظهر. إنه يوم الأحد، الأسبوع الثاني من إجازتنا خارج سانتياجو، ولا يكاد يكون هناك أي شخص في ساحة المدينة. تقوم أمبارو بإخراج علبة الماريجوانا الخاصة بها وتبدأ في لف الحشيش. وضعت يدي على غطاء الرأس وأنا أراقبها بطرف عيني وهي تتحرك مثل أقدام السنجاب. قال كلاوديو: كل شيء جاهز، وابتسم لي قبل أن يركب الشاحنة.

2- كان ذلك في كل الأخبار. تحطمت طائرة من الأرجنتين كانت تنقل حيوانات الكنغر إلى حديقة حيوان بوين في غابة في جنوب تشيلي، حيث كنا نتجه. وقال مدير الشركة الأرجنتينية التي تنقل الحيوانات إن خمسة من حيوانات الكنغر قد نفقت ولم ينج سوى واحد .

3. أمبارو تنام مع كلاوديو. لقد عرفت ذلك منذ أسبوع تقريبًا، في بداية العطلة. أعرف ولكنني أتظاهر بأنني لا أعرف.

4- نحن على الطريق، نحن الثلاثة تكدسنا في صف واحد لأن شاحنتي بها مقصورة للسائق فقط. كلاوديو وأمبارو كلاهما نحيفان وحمراوا الشعر منمشان. تجلس أمبارو في المنتصف. تبدو منتشية، تضحك على أي شيء. نستمع إلى شريط من الثمانينات. إنه موسم البط وقد أحضر كلاوديو جميع معدات الصيد الخاصة به في حقيبة. تسأل أمبارو: هل طعم البط جميل؟ ويقول كلاوديو: "لم أجربه قط". ترد: فماذا تفعل بعد قتلهم؟ يقول كلاوديو: إنها ليست جريمة قتل، الصيد رياضة. وتقول إنها رياضة بربرية. همجية مثل قتل الثور أو مصارعة الديوك.

5. كلاوديو هو أقدم أصدقائي، كنا في المدرسة معًا. لقد كان دائمًا شخصًا أفضل مني: أكثر كرمًا، وأكثر ودية، ويشعر بالقلق دائمًا بشأن الآخرين. في مرات لا تحصى، منعني حذر كلاوديو ورباطة جأشه من القيام بشيء متهور، سواء في المدرسة والجامعة. وهو أيضًا أكثر وسامة مني ويحصل على درجات أفضل. ربما يكون عيبه الوحيد هو ميله الواضح إلى تقليد كل ما أفعله، بدءًا من الاهتمامات الفكرية وحتى طريقة لبسي. منذ سنوات مضت، كانت لدي صديقة في المدرسة قالت إن كلاوديو كان مثل حارسي الشخصي: دائمًا خلفي، يراقب ويفكر بصمت. أكبر فرق بيننا هو خجله. يبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا وكان يقول دائمًا إنه عذراء. إنه خجول للغاية مع النساء بينما أحاول دائمًا ممارسة الجنس بشكل طفولي. ربما لهذا السبب فوجئت جدًا بضبطه وهو يعبث مع أمبارو. كلاوديو، الذي كان دائمًا لطيفًا ومنتبهًا، كان يمارس الجنس مع صديقتي ذات ليلة في حمام المقصورة. ظنا أنني في حالة سكر وأنني فقدت الوعى . المنظر فظيع: أمبارو تجلس على كلاوديو وكلاوديو يجلس على المرحاض، وكلاهما يحاول عدم إحداث أي ضجيج. بمجرد أن فتحت الباب، رأيت جسدين يلهثان، وكل ما كنت أفكر في فعله هو العودة إلى السرير. لقد خدعت أمبارو عدة مرات ولم أهتم أبدًا بخيانتها لي. لسوء الحظ، في المرة الأولى التي فعلت فيها ذلك مع أمبارو، لم تكن قد انفصلت عن صديقها في ذلك الوقت. مشكلتي بالطبع هي مع كلاوديو. خيانة خروجه من الحمام، صامتًا ومتعرقًا، يتحسس طريقه في ظلام الكابينة، ويعود إلى سريره وكأن شيئًا لم يحدث.

6 - تقول أمبارو: دعونا نتوقف هنا، نزلنا أمام سوق صغير لشراء الكحول. الطقس حار. نحن الثلاثة نرتدي القمصان والجينز. تبدو شاحنة والدي صغيرة وقذرة عند مدخل السوق الصغير، مثل سيارة جالوبي على وشك التفكيك. أمبارو خبيرة في السرقة من محلات السوبر ماركت الإقليمية أو المتاجر على جانب الطريق، وتقول إن الحيلة تكمن في المشي بشكل طبيعي. الرجل في المخزن يرحب بنا. تتحرك أمبارو إلى الأمام ببطء. كلاوديو وأنا نذهب لإحضار الزجاجات. وبينما كنا نغادر السوق الصغيرة، أحضر أمبارو حقيبته الكبيرة والشوكولاتة والأغصان وعلبتين من الخوخ والنوجا. الحقيقة هي أن أمبارو يسرق الهراء دائمًا.

7- فكرة الذهاب في إجازة معًا كانت فكرتها. ربما منذ البداية فكرت في مضاجعة صديقتي. ورغم أنها ليست جميلة، إلا أن جاذبيتها شيطانية، وكأن كل حركاتها، حتى أصغرها، لها دلالة جنسية. قلت لها مرة وبدأت تضحك. لم يسبق لي أن قابلت امرأة في مثل عمرها تتمتع بخبرة كبيرة في السرير. تقول عادة، نصف جادة، ونصف مازحة: عندما يتعلق الأمر بذلك، ليس لدي كرامة،. تدرس أمبارو علم الاجتماع في جامعة خاصة، وتنحدر من عائلة ثرية، ويدفع والداها ثمن شقة صغيرة في أبوكويندو، بالقرب من المدرسة العسكرية، حتى تتمكن من تعلم الاستقلال والاعتماد على النفس . وتقول إنها يسارية وتنتمي إلى مجموعة من الطلاب الفوضويين. رأيتها ذات مرة وهي تصنع قنبلة صغيرة محلية الصنع. كنا في غرفتها، عراة، ننظر من النافذة في فترة ما بعد الظهر. لقد كنا نقوم بالتصوير طوال عطلة نهاية الأسبوع ولم أستطع التفكير بشكل صحيح في الحلم. كان الجو في غرفة النوم ثقيلا وأتذكر أنه في ذلك الوقت، بينما كنت أشاهدها تعمل على القنبلة اليدوية، تلك القنبلة الصغيرة المقرر أن تنفجر في احتجاج بعض العمال أو الطلاب، شعرت بالسعادة.

 8- تقول أمبارو: هل يمكنك أن تتخيل لو وجدنا الكنغر؟ لو كان على قيد الحياة، هناك دائما احتمال أن نجده في إحدى هذه الغابات، تقول ذلك وهى تشير بأنفه الصغير إلى الأشجار الكثيفة التي تصطف على حافة الطريق. يقول كلاوديو: إنه يجب أن يكون ميتًا الآن، فهذا ليس موطنه. تقول: "وماذا تعرف عن ذلك؟ يجيب كلاوديو، لا شيء، من يدري. تقول: لكنني أتخيل أنه ميت. ميت جدًا. يقول كلاوديو: لا أحد ينجو بمفرده". أقول لها: لكنك عشت حياتك كلها بمفردك. تقول أمبارو: وأنت ممتليء بالحياة .

9- وُلد كلاوديو في إسبانيا وجاء إلى تشيلي - إلى الحي الذي أعيش فيه وإلى مدرستي - عندما كان في التاسعة من عمره. أتذكر باعتزاز أول مرة رأيته يدخل الفصل الدراسي. الشعر الملون، أليس هو، كما هو الحال الآن، نصف متلعثم وعصبي؟ أصبحنا أصدقاء بعد فترة وجيزة. كانت حافلة المدرسة تقلنا عند مدخل المجمع السكني، وبعد الدرس كنا نقضي فترة ما بعد الظهر في لعب البلاي ستيشن أو كرة القدم مع الجيران في نفس عمرنا. انتهى الأمر بوالديه ووالدي ليصبحا أصدقاء أيضًا. لقد أمضينا الصيف معًا، وفي السراء والضراء، استمع لي كلاوديو في كل شيء: هكذا يجب عليك تمشيط شعرك، كلاوديو، هكذا تتحدث مع الفتيات، أفلام روكي هي الأفضل، هكذا تتصرف لقد سئمت من التغيب عن المدرسة... قضيت فترات ما بعد الظهيرة التي لا نهاية لها معه، عندما كنت مراهقًا، أشاهد الأفلام الإباحية وأتحدث عن النساء. في بعض الأحيان كان يزعجني أن كلاوديو يفعل دائمًا ما أفعله، لكنني أدركت بعد ذلك أنه لم يدرك ذلك، وأن ذلك كان بالنسبة له وسيلة للبقاء على قيد الحياة في بلد اكتشفه للتو. وبعد مرور سنوات قررت أن أدرس الهندسة المدنية في الجامعة الكاثوليكية والتحق معي كلاوديو في نفس التخصص وفي نفس الجامعة.

10 - الطريق رمادي اللون، رمادي أفتح بكثير مما كان عليه قبل بضعة كيلومترات. قررت أن أركن سيارتي لبعض الوقت في محطة استراحة. إنها الساعة الثانية والنصف بعد الظهر ونحن جائعون.

11 - عندما كنا في الصف الأول، تم طرد كلاوديو من الفصل لمدة أسبوع لحمايتي. لقد كسرت نافذة أبرشية - فقط لكسرها - وعندما علم كلاوديو أن الجاني سيعاقب بشدة، لم يتردد في تحمل اللوم والقول إنه هو من فعل ذلك، وأن الحجر أُلقي من يديه وليس من يدي.

12. في تلك الليلة، عندما اكتشفتهما في حمام المقصورة، استلقى كلاوديو على سريره ونام، أما أمبارو، فقد بقيت لفترة، ربما نصف ساعة، محبوسة في الحمام. منظر أمبارو مع صديقي جعلنى انتصب. قبل أن تعود أمبارو إلى السرير، مارست العادة السرية وأنا أفكر في ما رأيته للتو. وعندما انتهيت شعرت بإحساس غريب ومربك.

13. أنهت أمبارو رقائق البطاطس وبدأت في التقاط أصابع خبز كلاوديو. أنا بالكاد آكل أي شيء، لكني أفتح علبتي الرابعة من البيرة في الصباح. كل هذه الرقائق والوجبات الخفيفة الموجودة على جانب الطريق جعلتنى أشعر بالملل قليلاً.تقول أمبارو، إنه النزول، فهو يجعلني جائعًا دائمًا. قلت لها: نحن بالفعل في المنطقة التاسعة. تجاهلتنى أمبارو ولم تعرنى أي اهتمام، وعلق كلاوديو قائلاً إنه لم يتبق لدينا الكثير للوصول إلى المدينة، وعاد إلى قطع الخبز. تقول أمبارو إن البيرة دافئة. أقول لها، لا يهم، البيرة هي البيرة.

 14- منذ تلك الليلة، لم أستطع إلا أن أتساءل عما إذا كانت هذه هي المرة الأولى التي أتعرض فيها للخيانة.

15- عدنا إلى الشاحنة وإلى الطريق، ويقول كلاوديو إنه لم ير مثل هذه الشمس المستديرة وهذه السماء الصافية منذ وقت طويل.يقول: يبدو الأمر كما لو أننا نسافر إلى الشمال، تقول أمبارو إلى الجنوب ولكن إلى الشمال.

16 - في إحدى الليالي، بعد يومين من حادثة الحمام، فكرت في إنهاء المهزلة وإنهاء الرحلة جنوبًا وضرب كلاوديو ضربًا جيدًا. لقد فكرت جديًا في الأمر، حتى أنني كنت سأأخذ بندقيته لإخافته. لكنني ندمت على ذلك .

17- أنا لست مغازلة، هذا ما قالته لي أمبارو ذات مرة في شقتها.

18- أزيد السرعة. لا توجد سيارات تقريبًا، وعلى يمين ويسار الطريق تبدو أغصان الأشجار ثابتة وغير حقيقية، وتتلاشى تحت أشعة الشمس الحارقة. أنا أشرب البيرة ومن وقت لآخر أرى ساقي أمبارو.هذا الفستان الوردي الصغير لطيف.

19 - قلت لها: نعم أنت مغناج للغاية. قالت: لا، ووضعت قدميها العاريتين فوق التلفاز. المغناج هي الفتاة التي تغازل. أنا، لا. أنا لا أبذل أي جهد لأكون هكذا.نعم أنا هكذا .

20 - تجعلني البيرة أشعر بالغثيان قليلا. يحدث معى هذا دائما. أنا والبيرة لا نتفق عندما أشرب كثيرًا. لكن لا يهم. الطريق السريع الذي يتجه جنوبًا، ولكن يبدو أنه يتجه شمالًا، هناك، كل شيء معروض أمامنا وأنا الأحمق الذي يقود السيارة،الأحمق الذي لا يفعل شيئًا عندما يكتشف صديقته مع أفضل صديق له.أتناول مشروبًا جديدًا.

21 - الحقيقة هي أنني طوال هذا الأسبوع كنت أمارس العادة السرية وأفكر في مشهد الحمام.

22. لم أطلب من كلاوديو أن يتحمل مسؤولية قذف الحجر في الكنيسة. لقد فعل ذلك بنفسه، كما هو الحال دائما. قالت الفتاة التي كانت صديقتي في ذلك الوقت: "حارسك الشخصي أنقذك من الإيقاف".

23. فجأة، ظهر شيء كبير جدًا في الطريق فاصطدمت به وجهاً لوجه. ضجة مملة في منتصف الطريق. يتم دفع شيء ما إلى الخلف ويرتد لبضعة أقدام. تهتز الشاحنة بأكملها وأنا أضغط على المكابح بشكل حاد. ماذا بحق الجحيم كان ذلك؟ صرخت أمبارو وهي ترتعش بيننا من الخوف. الزجاج الأمامي متشقق ويبدو كما لو أن الشمس تشرق بشكل أكثر سطوعًا. أنظر في المرآة الخلفية: حزمة من شيء ما ترتعش، لكنني لا أعرف ما إذا كان هذا إنسانًا. أقول: علينا الخروج. تقول أمبارو: لا، هيا نذهب. أفتح الباب ويتبعني كلاوديو. الحزمة بلون القهوة ويبدو أنها تتحرك. نسير نحوها بخوف. تقرر أمبارو الخروج وتأتي خلفنا. لا توجد أي سيارات أخرى في هذه الساعة. فقط عندما نكون على بعد بضعة أقدام، أدرك أن الحزمة عبارة عن كنجر يحتضر. يرتجف وقد تشكلت بركة من الدم حوله. أقترب بحذر: إنه مجرد كنغر، لكنني لم أر واحدًا من قبل وأنا خائف منه. تتنهدت أمبارو بارتياح: الحمد لله أنه ليس إنسانًا. رأس الكنغر معوج وكأن رقبته مكسورة. يعاني من صعوبة في التنفس ويبصق فقاعات الدم. قلت: لقد خرج من الغابة، ولم أره. يحرك الحيوان ذيله، ذيله ضخم، قذر، عاري. لقد فقد معظم فروه. تقول أمبارو: "دعونا نعيده إلى الغابة".....

  جلد الحيوان خشن، وليس ناعمًا كما اعتقدت. أجد صعوبة في إدخاله إلى الشاحنة، لكن في النهاية تمكنت من ذلك. تلتقط أمبارو حقيبة ظهرها وحقيبة يدها من الأرض. عدت أدراجى، حاملًا كلاوديو هذه المرة. دمه أخف بكثير من دم الكنغر. وأرفعه أيضًا إلى الخلف، وأضعه جريحًا بجانب الحيوان. يقول لي: آسف، فأقول له: استرخ، وأقوم بتغطيته بالبطانية التي أحضرناها. لا تزال الشمس مشرقة، والطريق الذي يبدو أنه يتجه دائمًا نحو الشمال ما يزال، ممتدًا أمامنا. ركبت الشاحنة، وأسرعت، ورأيت شخصية أمبارو الضبابية في مرآة الرؤية الخلفية، واعتقدت أن الوقت ما زال مبكرًا، وأنه قريبًا، قريبًا جدًا، سنكون أنا وصديقي في المستشفى.

(انتهى)

***

....................

المؤلف: خوان بابلو رونكون/Juan Pablo Roncone. ولد خوان بابلو رونكون في أريكا، تشيلي، عام 1982.وفي سن التاسعة عشرة انتقل إلى سانتياغو، حيث درس القانون في جامعة تشيلي. Brother Deerهو كتابه الأول.

 

للشاعر اليوناني

ديونيسوس سولوموس

(Διογσιος Σολομος)

ترجمة: جمعة عبد الله

**

الحلم

أصغي إلى الحلم في روحي

في هالة الجمال

يبدو كأني أعيش معكٍ لليلة واحدة

في روضة جميلة

نمشي سوية

تحت أنوار النجوم

صحت بشغف مرهف:

أيتها النجوم هل رأيتم مثلنا من قبل؟

- هل رأيتم مثل هذا القوام الرشيق

عيونها

شعرها

يديها

قدميها

هذا القوام الفاتن

هذا الملاك الجميل

في هيئة ساحرة

لكن دون جناحين

قلت هذا وفجأة

وجدت نفسي محاطاً

بفتيات مزينات كالقمر

يتراقصن متشابكات في ايدهن البيضاء

يقتربن مني كأنهن يرومن خطفي

حينها سمعت ضحكة ملائكية

من حبيبتي

كأن السماء فتحت أبوابها

قالت: كيف رأيتهن.. جميلات؟

قلت: أنت أجمل

زغردت بضحكة عسلية

اخذتها جانباً وقطفت زهرة

وذبنا في عناق طويل حتى اشراقة الفجر

كأن عقد الرمان انفرطت حباته

لتتبرعم كالازهار

استيقظت من الحلم

وجدت وجوهنا شاحبة

ياليت كان الحلم حقيقة

لتنذكره دوماً سوية

***

...........................

* الشاعر اليوناني ديونيسوس سولوموس (1798 - 1857)   هو أكثر الشعراء شهرة، وحاز على الكثير من الألقاب مميزة، مثل الشاعر الوطني.  شاعرة ثورة الاستقلال من الحكم العثماني عام 1821، وفي عام 1818 كتب النشيد الوطني ومازال النشيد الوطني لجمهورية اليونان.

سـيـاحـة فـي فـردوسٍ أرضـي

للشاعر: يحيى السماوي

ترجمة: رياض عبد الواحد

***

Text by : Yahya Al- Samawi

Translated by: Riyadh Abdulwahid

Edited by : Ramadan sadkhan

***

What need have I for distant flight,

Beyond the bounds of dark and light?

To learn the fields from barren sand,

Or hell from heaven’s promised land,

Or dew from fire burning bright?

Enough, if seated close to thee,

To witness beauty’s artistry,

And taste what Eden holds in store—

Its sweetest fruits forevermore.

Purest gold and silver gleam,

Pearls that in the oysters dream,

And rubies glistening at the core.

I hear the rustling in the trees,

The cooing doves upon the breeze,

The harpist’s fingers soft explore.

The laughter of the playful air,

That dances through the branches bare.

The beggar’s tale in rags arrayed,

Yet love had crowned him, heaven-made,

A sovereign over suns and lore.

A thousand kisses, and one more- a tale woven by scheherazade in shahryar's chamber

And so, I drink, but not with wine,

For bliss like this is more divine.

I pluck from paradise so near,

Pluck from your near paradise its hanging delight,

And from the far, where nightgowns softly rend,

And from the secret veiled beneath the tent *of buttons…

*

Thy eyes lead on through forests wide,

Where wings of birds have never tried,

Through oceans Sindbad left ignored.

I sleep, and thou dost dream with me,

On beds of roses, soft and free,

Where petals line the sheets we wore.

What need have I for lands unknown,

When thou dost light my darkest stone,

And you weave grass upon a stone,

Till roses bloom from the wall alone.

...........................

سـيـاحـة فـي فـردوسٍ أرضـي

للشاعر: يحيى السماوي

ترجمة: رياض عبد الواحد

***

مراجعة الدكتور: رمضان سدخان

مـا حـاجـتـي لـلـسـفــرِ الـبـعــيــدِ خـارجَ الــمـدى

بـيـن تـخـومِ  الـلـيـلِ والـنـهـار  :

*

لأعـرفَ الـفـروقَ بـيـنَ  الـحـقـلِ والـصـحـراءِ

والـفـردوسِ والـجـحـيـمِ

أو بـيـنَ الـنـدى  والـنـارْ  ؟

**

يـكـفـي إذا جـلـسـتِ قـربـي أنْ أرى :

أجـمـلَ مـا قـد خـلـقَ الـلـهُ

وأشـهـى مـا  حـوى الـفـردوسُ  مـن ثـمـارْ

****

والـذهَـبَ الإبـريـزَ والـلُـجـيـنَ

والـيـاقـوتَ والـدُّرَّ

ومـا يـضـمُّـهُ فـي جَـوفِـهِ الــمَــحّـارْ

***

وأسـمـعُ الـهـديـلَ والـحـفـيـفَ والـخـريـرَ

والـحـديـثَ بـيـن أنـمـلِ الـعـازفِ والـقـيـثـارْ

****

وضـحـكـةَ الـريـحِ إذا داعَـبَـتِ الأشـجـارْ

**

وقـصَّـةَ الـفـقـيـرِ أضـحـى ذاتَ عـشـقٍ وهدىً

خـلـيـفـةَ الـلـهِ عــلـى  الـشـمـوسِ والأقـمـارْ

**

وألـفَ قُـبـلـةِ وقُـبـلـةٍ روَتْـهــا شـهـرزادُ الأمـسِ

فـي مـخـدعِ شــهـريـارْ

* *

فـأنـتـشـي مـن دونـمـا أخـمـارْ

***

أقـطـفُ مـن فـردوسِـكِ الـدّانـي مـن الـقـطـوفِ

والـبـعـيــدَ  مـن شِــقِّ قـمـيـصِ الـنـومِ

والـخـبـيءَ  تـحـتَ خـيـمـةِ الإزارْ

**

تُـدخِـلـنـي عـيـنـاكِ غـابـاتٍ مـن الـدهـشـةِ

مـا مَـرّتْ بـهـا أجـنـحـةُ الأطـيـارْ

**

وأبـحـراً لـم يـكـتـشـفـهـا الــســنـدبـادُ قـاهـرُ الـبـحـارْ

***

أغـفـو وتـغـفـيـنَ مـعـي عـلـى ســريـرٍ ووسـادةٍ مـن الأزهـارْ

**

مُـلـتَـحِـفَـيـنِ شــرشــفـاً مـن الـمـواويـلِ  ومـن وُرودِ  جُـلّـنـارْ

**

مـا حـاجـتـي لـلـســفــرِ الـبـعـيـدِ إنْ كـنـتِ أمـامـي

تُـقـمِـريـنَ الـلـيـلَ فـي كـهــفِ مـتـاهـاتـي

وتُــشـمــسـيـنَ  فـي ديـجـورهِ الـنـهـارْ

**

وتُـعـشِــبـيـنَ صـخـرَهُ فـيـطـلـعُ الـوردُ مـن الـجـدارْ

 

بقلم: شارل بيكوفسكي

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

لا أحد بمقدوره إنقاذك، ما عداك.

سيعرّضونك مرارا وتكرارا

لمحن يتعذّر تقريبا تجاوزها.

سيحاولون مرارا وتكرارا،

بالحيلة والقناع أو بالقوّة،

جعلك تبتعد، وتتنازل،

وتموت في صمت، في داخلك.

*

لا أحد بمقدوره إنقاذك، ما عداك.

وسيكون من اليسير أن تفشل،

من اليسير جدّا...

لكن لا تستسلم، لا تستسلم، لا تستسلم.

انظر إليهم .

وأنصت إليهم.

هل تريد أن تشبههم؟

أن تصبح ظلاّ بلا وجه،

دون فكر، دون قلب؟

هل تريد معرفة الموت

حتى قبل أن تكون قد عشت؟

*

لا أحد بمقدوره إنقاذك، ما عداك.

وأنت تستحقّ ذلك.

هي حرب عسيرة .

لكن إذا كانت هناك معركة جديرة بأن تربحها

فهي معركتك هذه

فكّر في ذلك.

فكّر فيما يعنيه

إنقاذ نفسك بنفسك.

***

شارل بيكوفسكي.

..........................

Personne ne peut te sauver

Personne ne peut te sauver, sauf toi.

Encore et encore, on t’exposera

à des épreuves presque insurmontables.

Encore et encore, ils tenteront,

par la ruse, le masque ou la force,

de te faire plier, d’abandonner,

de mourir en silence, à l’intérieur.

Personne ne peut te sauver, sauf toi.

Et il serait si facile d’échouer,

si terriblement facile

Mais ne cède pas, ne cède pas, ne cède pas.

Regarde-les.

Écoute-les.

Veux-tu leur ressembler ?

Devenir une ombre sans visage,

sans pensée, sans cœur ?

Veux-tu connaître la mort

avant même d’avoir vécu ?

Personne ne peut te sauver, sauf toi.

Et tu en vaux la peine.

C’est une guerre difficile,

mais s’il est une bataille qui mérite d’être gagnée,

c’est bien celle-ci.

Réfléchis-y.

Réfléchis à ce que signifie

te sauver toi-même.

***

Charles Bukowski

بقلم: راشيل شيرمان

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

علمت زوجتي بيث بوجود مشكلة، هكذا قالت، ولكن تجاهلتها. قادت السيارة عائدة إلى البيت من عملها، فهي ممرضة عمليات تجميل، وذهبت للنوم. قالت إنها تجاهلت شعورها بشيء يشبه فقاعة وستنفجر، ثم كأنها تريد أن تتبول، وأخيرا تقيأت، وبعد ذلك مات إحساسها. وكل هذا جرى بعد ما حصل، من حمل الولدين بوقت مبكر، وإبعادهما حتى قبل أن يتمكن الأبوان من احتضانهما. كان هناك شيء خطأ بخصوص توأمنا. كان يبدو أن الصبي الذي سميناه جوناثان بطيء. أما قدما البنت فقد كانتا تتحركان بشكل غريب نحو الداخل، وقال الطبيب إنها قد لا تتعلم المشي أبدا. وفي البداية ولدا صغيرين للغاية، واعتقدوا أنهما يوشكان على الموت.

بقي لعملي ساعة من الوقت، ساعة ونصف في وقت الازدحام. تبعت بالسيارة الطريق السريع، وأنا أستمع للإذاعة. استيقظت باكرا، لأتمكن من أداء تمارين اللياقة البدنية، ثم غادرت إلى المكتب، وكنت مسؤولا عن المبيعات في شركة ضخمة تتاجر بمكيفات الهواء. وكان لدي سكرتيرة لها شكل جدة. وأضع على طاولتي صورة لبيث تعود لأيام زواجنا الأولى. وعندما جاء التوأم لأول مرة إلى البيت، وضعناهما في غرفة سبق لزوجتي أن جهزتها: نصفها مطلي بلون زهري للبنت والثاني بلون أزرق للصبي. وحينما يبكيان بعد إيداعهما في السرير، كانت زوجتي تتجاهل ذلك. قالت: إنها تعلمهما كيف ينامان في الليل، وبالمثل تجاهلت أمرهما أيضا. لكن أحببتهما، وفي بعض الأحيان كنت أرغب بحملهما. وأحيانا كنت أتوسطهما، كل منهما تحت ذراع واحدة، ثم نستلقي معا على سريري، غير أن زوجتي قالت إنه لا يجوز أن يناما معنا، خشية أن نلحق بهما الضرر.

بعد ثلاثة أسابيع من إحضارهما إلى البيت، حملت بيث الولدين إلى الطبيب مجددا. في تلك الليلة اعترفت لي أنه نتيجة لخطأها ذهبت الأمور باتجاه سيء. ثم أفضت لي بما ذكره لها الطبيب: أن جوناثان فقد الهواء حينما تدفق الدم عليه وهو في بطنها. وقالت إنهم لم يقرروا ما هي المشكلة التي تعاني منها إميلي. ليس بعد.

كنا على الشرفة نرشف النبيذ الأبيض. كان لدينا بركة ونعيش في جنوب كاليفورنيا في منطقة جديدة تشرف على مساحة كبيرة من أرض ترابية. مع الوقت ازدحم المشهد المترامي الأطراف بالبيوت التي تشبه بيتنا. كان بيتنا في الشوارع الأمامية التي مهدت أولا. والبيوت متماثلة من الداخل، ولكن جهزت زوجتي بيتنا بطريقتها الخاصة. وعندما أتى الضيوف تعجبوا كيف سنحت لها الفرصة للقيام بكل ذلك: عمل وأمومة وبعد ذلك تجهيزات وديكور. ألقيت نظرة على الأرض. كان لا يزال هناك شجيرات تنمو. وبناء البركة قيد الإنجاز، ولم يتم بعد، ولكن على وشك أن تنتهي. اشترينا البيت مباشرة قبل ولادة الولدين لتتمكن بيث من تجهيزه. وحينها بدأت بقية البيوت في الحي تمتلئ بالسكان. وكلما رافقت التوأمين بنزهة وهما في العربة، في عطلة الأسبوع، كنت ألوح بيدي لجيراننا المستجدين، وأحيانا أتوقف لتبادل الحديث. ولكن لم ألاحظ بعد وجود أي مشكلة في التوأم، وكانت جميع النساء تناغي لهما، وتطلبن حملهما، وتطبعن القبلات على رأسيهما الصغيرين. وأحيانا كنت أتجاوز بهما المشروع السكني، حتى أبلغ التلال، حيث تقام مشاريع جديدة. وكنت حريصا على التحكم بالعربة. أقفل العجلات، ثم أجلس بجانبهما، وأشير إلى السماء والغيوم. وأنطق كلمة "سماء" و"غيمة"، وأؤدي حركات مضحكة بوجهي كي يبتسما. وحينما تغفو زوجتي في عطلتها الأسبوعية أخبر الولدين بحكايات عن حجمهما الصغير أول الأمر، وكيف كانا في الحضانة يربطان بالأنابيب لأسابيع، لأن أمهما، والتي يفترض أنها تستريح في سريرها، قررت أن تتابع عملها.

كان يصعب علي أن أثور بوجه زوجتي. كانت مشغولة، ومرحة، ويبدو أنه كان لديها حل لكل مشاكل التوأمين. وحاولت أن تغذيهما بحليب صدرها أولا، كانت تستلقي على السجادة في غرفة المعيشة، وتضخ مضخة حليبها. وكانت قد زرعتها في صدرها قبل سنوات بالمجان، وحصلت عليها من مديرها مكافأة لحسن تصرفها مع المرضى. كذلك قامت بوشم شفتيها بلون زهري حتى إذا استيقظت صباحا تبدو وكأنها عالجتهما بمواد التجميل. لكن مضخة الحليب لم تنفع، فبدأنا نغذي الولدين بالمستحضرات. في أيام العطل، وليلا، كان كل منا يضع أحدهما في حضنه، ويقدم له عبوة حليبه، ليمتصها بشراهة وسعادة. وكانا يشربان الحليب بمنتهى الحبور، ومن الواضح أنهما عزما على النمو والتحسن. وكان لهما أوقات إطعام خاصة، ومع ذلك كنت أحيانا أتساءل إذا كان يتوجب علينا تقديم المزيد من الغذاء لهما.

في أحد أيام السبت وأنا أنزه التوأمين في الحي، رأيت شاحنة تخرج من أحد البيوت.

لوحت بيدي قائلا "هاي". كان الرجل بلا قميص ويغادر بيته، وله شارب أشقر وشعر صدر خفيف. تصافحنا، وكان لكلينا قبضة قوية.

قال: "أنا هال".

قلت له: "مرحبا بك في الحي يا هال. أنا مايك. نحن نعيش في البيت رقم ثمانية".

نظر هال إلى التوأم وابتسم ثم قال: "يبدو أن لديك ما يكفيك".

بدأت إميلي تبكي، فنزعت حزامها، وحملتها، بينما كان جوناثان نائما. التفت هال نحو بيته وقال: "تعالي يا ماري وقابلي جيراننا الجدد".

خرجت امرأة من البيت. شعرها أسود ومربوط بشكل ذيل حصان. وذات وزن زائد، ولكن بوجه جميل. صافحتني بأصابع خفيفة وباردة، ولاحظت أن عينيها خضراوان وعجيبتان. قالت وهي تأخذ إميلي من بين ذراعي وتهدهدها لتتوقف عن البكاء: "أوه. انظروا إلى هذين الولدين الرائعين".

قال هال: "يا إلهي أنا بحاجة لاستراحة. هل تفكر بكأس بيرة؟".

دفعت العربة المزدوجة في الممشى، وجوناثان لا يزال نائما فيها، حتى دخلنا الباحة الخلفية. كانت بركتهم مكتملة، وينسكب عليها شلال من صخور صناعية. جلسنا على العشب، وأحضرت ماري مبردة. وضعت إميلي على بطنها، لتتمكن من الزحف والتجوال. قلت لهما: "زوجتي تولت ديكور البيت، وأدت عملا رائعا، عليكما أن تأتيا لإقامة حفل شواء".

أخبرني هال وماري أنهما عملا في متجر للخضروات، ولكنهما ادخرا خلال سنوات طويلة لشراء بيت. أخبرتهما عن عملي في المبيعات، وعن زوجتي وعملها بصفة ممرضة في جراحة التجميل. قالت ماري: "رائع. لا بد أن لديها قصصا مسلية".

قبل الولدين كنت أخرج مع زوجتي في عطلة الأسبوع لتناول الغداء. فنشرب النبيذ، وهي تروي لي القصص المضحكة عن عملها. في إحدى المرات أخبرتني أن رجلا جاء إلى مكتبها وطلب زراعة صدر على ظهره. كنت أحب أن أنظر إلى زوجتي من وراء الطاولة، وأنا أضحك، بينما هي تتكلم. ولكن هذا يبدو كأنه شيء من الماضي السحيق. فجأة استيقظ جوناثان وشرع بالبكاء. وجاءت موسيقا صاخبة من أمام البيت.

قالت ماري: "آه. آسفة جدا. هذه ابنتنا وصديقها". انصفقت أبواب سيارة، ورنت ضحكة بنت. حركت ماري عينيها. قال هال: "تعالي يا كيلي، وقابلي جيراننا الجدد".

نظرت ورائي حين فتحت صبية صغيرة بوابة جانبية في البيت. كانت ترتدي الجزء العلوي من بكيني مع سروال قصير، وسرة بطنها واضحة. وتبعها شاب أسود بلا قميص وجسم منحوت. قالت البنت: "هاي". وركعت بجانبنا. كان صدرها من النوع الذي ينتبج نحو الأعلى. طبيعي. حملت إميلي وهدهدتها إلى الأعلى والأسفل. قالت: "يا لهما من طفلين رائعين". وجرت طقوس التعارف. صافحت يد الشاب الأسود. قال: "ألفيس". كانت يده قوية وجافة. وهز رأسه.

قالت كيلي: "سأحضر بعض البيرة". نهضت ودخلت إلى البيت. كانت مؤخرتها ضخمة وتبرز بشكل صدر صناعي مثبت في الخلف. بعد عدة أكواب بيرة أخبرتهم أنني بحاجة لإيقاظ زوجتي، لذلك وضعت التوأم في العربة، ربطتهما بمقعديهما، ثم خرجت إلى أمام البيت، حيث وقفت سيارة كيلي الرشيقة السوداء. كان سقف السيارة مغلقا فنظرت إلى الداخل. رأيت سيجارات بالنعناع على ذراع الكرسي. وعلى لوحة الرخصة عبارة MCBOOTY . حينما عدت إلى البيت وضعت الولدين في مهدهما. تعالى صراخهما فأغلقت الباب. وذهبت إلى غرفة نومنا، والتي اعتنت بيث بديكورها لتبدو مثل فهود السافاري. ووضعت الشموع في شمعدانات خشبية سوداء طويلة، ولكن لم تسنح لنا الفرصة لإيقادها بعد. لم ترغب بيث بممارسة الجنس منذ ولادة الطفلين. كانت ترتدي البيجاما العريضة في السرير وتستدير بظهرها كلما لمستها، وحينما تنام أستدير نحوها، وألمس فخذي بفخذها، وأركز على ذلك العضو الصغير مني والذي يمكنني أن أشعر بواسطته بها. كانت بيث مستلقية في غرفة النوم، ببلوزتها وتشاهد التلفزيون.

قلت لها: "هيي". وخلعت ثيابي وتسلقت السرير لأكون بقربها.

سألتني دون أن تنظر لي: "أين كنت؟".

"آه، قابلت الجيران الجدد. ستعجبين بهم. ممتازون. عمليون. اسم الأب هال والأم ماري". وبدأت أدلك ذراعها ولكنها جرته بعيدا.

قالت: “عظيم. البيرة تفوح منك. كان بإمكانك أن تناديني".

قلت: "آسف. تركتك نائمة".

قالت وهي تنهض من السرير: "أيا كان. سأطلب سمك التاكو وأستلمه. ماذا تريد أنت".

ذهبت لأطمئن على التوأم بعد خروج بيث، كانا يغطان بالنوم. وعندما رجعت إلى البيت خرجنا إلى الشرفة، وتناولنا غداءنا. شربنا النبيذ، وشاهدنا التلفزيون، وذهبنا إلى السرير. كان اليوم التالي يوم أحد. رافقت الولدين مجددا بنزهة، وعوضا عن الخروج من المجمع السكني، ذهبت إلى بيت هال وماري، وقرعت جرس الباب. كانت سيارة كيلي في الممشى. قال هال حينما فتح الباب: "مرحبا بالجار".

كان بلا قميص ثانية، ودعاني إلى الداخل. أوقفت العربة على المرج، وأطلقت سراح الولدين من الأحزمة. حمل هال جوناثان وحملت إميلي.

سألني وأنا أتبعه إلى الداخل: "هل تريد بيرة؟".

قلت: "بالتأكيد".

كان بيتهما مثل بيتنا، باستثناء أنه على الطرف المقابل من الشارع، وهذا يعني أنه بيت معكوس: صورة بالمرآة لبيتنا. كانا قد أخرجا من الصناديق أشياء كثيرة بغضون أيام معدودة. وقاما بطلاء القاعة الأمامية بلون وردي. وكانت ماري ترتب الدمى على رفوف خزانة. أخذت إحدى الدمى وقدمتها إلى إميلي، ولوحت بيدي الدمية وهي تقول: "مرحبا! كيف حالك؟".

تبعت هال إلى المطبخ. قال لي وهو يغمز ويقدم لي علبة بيرة: "ماري اعتنت بالديكور".

كان في المطبخ مقاعد عند الكونتور، وورق جدران أبيض يحمل رسوم حيتان زرق صغيرة. في مجمعنا يمكنك الاختيار من مختلف أنواع الطلاء وورق الجدران. فالبناؤون جهزوا ذلك حتى قبل مجيئك. واختارت بيث الرمادي لغرفة المعيشة، واختارت ماري الأخضر الداكن. قال وهو يشير إلى سمكة ضخمة فوق التلفزيون: "هذه فكرتي. اصطدتها - وحنطتها".

خرجنا إلى الباحة الخلفية، حيث وضعوا الأثاث الخفيف الذي يصلح للمروج. كانت كيلي تسبح في البركة مع إلفيس. تكلم هال عن الصيد، وتابعت إلفيس وهو يدفع كيلي فوق الماء. وراقبتها حتى خرجت وابتعدت عن جانب البركة. وبعد أن غادرا الماء، لفت كيلي نفسها بمنشفة حول خصرها، وعصرت شعرها كما تفعل بالمنشفة لتجففها. قدم هال إلى كيلي وإلفيس علبتي بيرة. حملت كيلي إميلي وهدهدتها على ركبتيها. قالت: "أنت محظوظ جدا بهذا التوأم".

تساءلت متى ستبدأ مشكلة الولدين بالظهور، فهما غير قادرين على الزحف حتى الآن. أخبرتهما أن التوأم كانا غير ناضجين تماما، وانتظرا في المستشفى لوقت طويل قبل الانتقال إلى البيت. أصغت كيلي وهزت رأسها، وحمل إلفيس جوناثان ورفعه عاليا في الهواء. قالت كيلي وهي تفرك ركبة إلفيس: "أود لو يكون لي توأم. نحن مخطوبان، ولكن لم نضع الخاتم بعد".

قلت وهما يحملان الولدين: "تهانينا".

أصدرت بوابة البيت الجانبية صوتا عاليا، والتفتنا جميعا نحوها. رأينا بيث تدخل إلى الباحة الخلفية، وهي ترتدي صدارة البكيني مع مئزر سارونج. لوحت بيدها قائلة: "هاي. أنا الزوجة".

اقتربت وقبلتني من فمي. كان لأنفاسها رائحة النبيذ، ثم حملت إميلي من بين ذراعي كيلي، وهي تبتسم بشفتين مطبقتين، قدمت الجميع إلى كيلي، وردت بتلويحة من يدها.

قال إلفيس وهو ينهض ليفسح لها مكانا للجلوس: "تفضلي اجلسي".

قالت: "شكرا". في إحدى المرات أخبرتني أنها تحب شاكيل أونيل، وأدهشني ذلك. راقبت عيني بيث لأرى إن كانت تنظر إلى إلفيس. ونظرت إلى كيلي وتقاطعت عينا بيث مع عيني. جاءت ماري فشربنا المزيد. وضعت الرقائق على الطاولة فحملت كيلي كمية بيدها وأكلتها، ورشفت نبيذها. تكلمنا عن المجمع، وكيف أن المنفذ وعدنا أنه في خلال عدة سنوات سيتوسع العمل هنا. وبعد استكمال البناء ربما سيكون لدينا مركز للتسوق. خيم الليل، وبدأ الولدان بالعويل. أخبرت جيراننا المستجدين أننا نود أن نستضيفهم لدينا في أي وقت، وحينما كنا نغادر، رأيت كيلي وألفيس يقفزان في المسبح. ورأيت ألفيس يحمل كيلي مجددا وضوء البركة مصوب عليها. مدت قدميها ويديها مثل تمثال على زلاجة جليدية. أصبحت ساكنة تماما، ووجهها ينظر إلى السماء. رفعها في الهواء بيديه لدقيقة تقريبا، ثم لف خصرها وألقاها في الماء مجددا. بعد أن أودعنا الطفلين في السرير فتحت بيث زجاجة نبيذ أخرى.

قلت: "آه، بأولادي أنا متعب".

قالت: "حسنا". وسكبت لنفسها كأسا. كان السارونج قد سقط، ووقفت في المطبخ بالبكيني الأحمر. كانت ندوب العملية القيصرية قد شفيت، ولكن بمقدوري رؤيتها. وذكرتني بمناعتها كلما طلب منها الطبيب أن تمتنع عن الحركة. كان لزوجتي رض على فخذها.

سألت وهي واقفة: "ماذا؟".

قلت: "لا شيء".

تمنيت لو أن بركتنا جاهزة. خابرت المقاولين مرتين يوم الجمعة. وسأعاود الاتصال غدا. جلست بيث في المنتصف وأشعلت التلفزيون.

قالت بصوت أعلى منه: "كما أرى كيلي عاهرة صغيرة. هل شاهدت لوحة رخصتها؟".

قلت: McBooty .

"لديها أكبر مؤخرة رأيتها في حياتي. يجب إجبارها على اتباع حمية".

كان جسم زوجتي نحيلا ومقوسا ولكنها ليس لها قامة كيلي.

قالت زوجتي: "McBooty  ما هذا الهراء البذيء؟". ثم شخرت وضحكت.

في الليلة التالية بكرت بالعودة إلى البيت من العمل، وأخرجت الولدين في حين انشغلت بيث بالغداء. قالت: "لا تتأخر". كانت بمزاج جيد وتحضر شرائح الخنزير. ثم ارتدت ثيابها وطلت أظافرها. ذهبت مع الولدين إلى بيت هال وماري. كانت كيلي في الممشى بنفس الجينز القصير وصدرية البكيني اللذين ارتدتهما ليلة أمس. وتسقي النباتات بالخرطوم.

قالت: "هاي".

وجاءت لتلقي نظرة على الولدين.

سألت: "ما معنى لوحة رخصتك؟". لم يكن ألفيس موجودا.

قالت وهي تقف: "آه. اعتاد الأولاد في المدرسة الثانوية أن ينعتوني بذلك، كما ترى، لأن مؤخرتي..".

قلت: "آه. وعلق الاسم بذهنك؟".

قالت ضاحكة: "أعتقد ذلك".

قلت: "كنت أرافق الولدين بنزهة قبل الغداء. بينما بيث تحضر شرائح الخنزير".

قالت: "رائع".

قلت وبدأت أصعد بالعربة على الهضبة: "الأفضل أن أعود". ثم شعرت بالرطوبة على ظهري، التفت ورأيت كيلي واقفة بساقين متباعدتين، وبيدها الخرطوم كأنه مسدس، وتضحك بينما الشمس وراءها.

سألتني بيث: "ماذا جرى لقميصك". وحملت التوأم بوقت واحد، ووضعتهما في كرسيين مرتفعين.

"آه، كيلي رشتني حين كنت أرافق الولدين".

قالت: "تلك البنت بمؤخرتها العريضة تحتاج لرد جدي".

تقلب جوناثان بمحاولة لاستعمال يديه.

صاحت فجأة وهي تضرب ذراع جوناثان: "اخفض يديك. اخفضهما".

بدأ جوناثان بالبكاء وأخرجت بيث طبقي سباكيتي من الميكرويف. ووضعت طبقا على كل صينية للولدين. زودت بيث غرفة المائدة بالشموع. وضعت في الستيريو موسيقا كلاسيكية وغادرت المطبخ. قالت: "سوف نأكل هنا".

قلت وأنا أتبعها إلى غرفة المائدة: "لن يمكننا هنا سماع الأولاد"

قالت: "ولكنهم بحالة جيدة".

كان لدينا مربية أطفال تأتي من الثلاثاء وحتى الخميس. وتنتظر بيث في البيت يومي الاثنين والجمعة ولا تذهب إلى عملها، لتعتني بالطفلين. كانت المربية حلوة المعشر وتطهو لهما الحساء المنزلي. وكنت أتناول البقايا أحيانا بعد العودة إلى البيت. أحضرت بيث شرائح الخنزير والسلطة، وشربنا النبيذ الأحمر وأكلنا. فيما بعد، ولدواعي دهشتي، أحضرت كيك الشوكولاتة. وأنا أشرب انتبهت إلى الحبوب على الطاولة، ولأصابعي، وكيف تبدو بيث في وهج الشموع. أمكنني عزل الألوان من وجهها لمناطق مختلفة، كأنها دول على الخريطة. ابتسمت لي حينما نظرت إليها. سألتني بنعومة: "ماذا؟".

قلت: "لا شيء". ويمكنني التأكيد أنها تعتقد أنني أفكر بشيء جيد. وبعد الانتهاء من كل شيء، تبعتها إلى المطبخ. كان الطفلان في كرسييهما المرتفعين، وكلاهما نائم ومائل نحو الجانب الخارجي. وكانت السباكيتي ملتصقة بأيديهما ووجهيهما.

قالت زوجتي: "سأنقعهما في الحمام".

سألتها: "أليس الوقت متأخرا؟".

تجاهلتني وحملت إميلي من كرسيها. تبعتها وأنا أحمل جوناثان. مددت إميلي على بساط الحمام وربطناها. استيقظت باكية بينما بيث تضعها في الحوض وتسكب عليها الماء. بالعادة نودع الولدين للنوم في السابعة.

قالت: "هاته". وفعلت الشيء نفسه مع جوناثان. حملت الإسفنجة وبدأت تدعك وجهيهما. لم يكن يبدو أن الولدين ينظران لجهة ما. كانت عيناهما مبتلتين ولا تنظران لي. بعد أن انتهت بيث أحكمنا لفهما بالمناشف، وكانا مبتلين ومتعبين. وكانت قمة رأس إميلي طرية ولها رائحة الصابون. وألبسناهما بيجامتين ملونتين، وأرقدناهما في مهديهما.

قلت: "أنا منهك".

وذهبت إلى السرير، وخرجت بيث من الحمام مرتدية ثوبا بنفسجيا شفافا. وبنور الحمام المضاء من ورائها، كان بمقدوري رؤية كل شيء.

قلت: "يا إلهي".

اقتربت مني فشجعتها على القدوم وبدأت ألعقها. وكان بإمكاني سماع الأصوات التي اعتادت أن تصدر منها، فجذبتها لتقبلني. قالت فجأة: "آخ. ذقنك تجرحني. بحق الجحيم ألا تحلق منذ فترة بعيدة؟".

واستدارت، وحينما حاولت أن أعانقها دفعتني بعيدا.

سألتها: "ما المشكلة؟".

قالت: "لا شيء".

سألتها: "هل أنت حانقة؟".

قالت بهدوء: "أنت تعلم لماذا".

لدينا توأم يعانيان من مشاكل خطيرة، وهي من يتحمل هذا الخطأ كله. كنا نعيش في حي ممتاز، ولذلك لا يوجد سبب لأن تثور علي. اشتريت لها الأشياء التي أرادتها، وأعجبني طريقتها في ديكور المنزل. ضربت طفلي لأنهما يعانيان من مشكلة، فبكى الاثنان، ولكنني لم أغضب. بكى الطفلان، ولم أتمكن من التحكم بالمكان الذي اتجهت إليه أيديهما، فشعرت زوجتي بالغضب.

قلت: "لا أعرف لماذا يا بيث".

"حسنا، إن كنت لا تعلم، ليس بمقدوري أن أتصرف".

استلقيت هناك أصغي لبكائها. وبدأت ألمس نفسي وأنا على جانب السرير. تعالى بكاؤها فذهبت إلى الشارع وهناك حملت كيلي في المسبح وجعلتها فوقي، وكانت خفيفة كاليمامة. في الصباح التالي استيقظت في وقت غير معتاد وذهبت إلى تمارين الرشاقة. تأملت نفسي بالمرآة. وذهبت إلى المكتب ومر اليوم بشكل عادي. عدت بالسيارة إلى حيث زوجتي وولداي. وعندما دخلت إلى البيت وجدت بيث عند طاولة المطبخ، وهي تبكي. صاحت: "إنهم يعرفون".

سألتها: "ماذا؟ يعرفون ماذا؟". واقتربت منها وسمحت لي بمعانقتها وهي تبكي على كتفي.

انتظرتها حتى تلتقط أنفاسها، ثم مسحت عمودها الفقري بيدي. انكمشت على نفسها وشعرت أنها صغيرة وهشة وطيبة.

قالت: "ال.. الولدان.. أحدهم قال شيئا اليوم... رأيت سيدتين تتكلمان في البقالية... وذكرتا أن جوناثان يعاني من مشكلة".

سألت: "وماذا عن إميلي؟".

صاحت وهي تنظر لي بعين يسيل منها المكياج الأسود على خدها: "ما معنى هذا الهراء؟". ويفترض أن خطوتها التالية وشم ظل على عينها. أسرعت إلى غرفة النوم فتبعتها. كان باب غرفة التوأم مفتوحا، ولم أجدهما في سريريهما.

سألت: "أين التوأم؟".

كانت بيث قد أصبحت في السرير ورأسها بين يديها. قالت: "تركتهما مع أصدقائك الجدد. أريد أن أنفرد بنفسي".

قلت: "تعني هال وماري؟ هل يجالسان الأطفال؟".

صاحت: "نعم".

ارتبكت، ولكن لم أود أن يزيد غضبها. اقتربت من السرير وجلست بقربها وبدأت بدعك رقبتها.

قلت: "إنهما طفلانا، ونحن نحبهما. ولا يهم ما يفكر به الناس".

نظرت بيث نحوي مجددا من السرير المجهز بغطاء الفهود. وصاحت: "هل أنت حمقاء مغغلة؟".

توقفت عن تدليك رقبتها، ووضعت يدي في حضني، لم يتبق سبب لتغضب مني، نهضت من السرير وغادرت البيت، لأستعيد جوناثان وإميلي. لم أرغب أن أفرض نفسي على ماري وهال. حاولت أن أتصور طفلي وكأنني غريب أراقبهما. تساءلت إن كان من الواضح وجود مشكلة يعانيان منها. كانت كيلي تجلس على المرج الأمامي، وهي تدخن سيجارة النعناع.

صاحت وهي تلوح لي: "هيي". كانت ترتدي صدرية ثوب سباحة آخر ولكن مع نفس السروال الجينز القصير.

قالت: "جوناثان وأميلي نائمان في الداخل".

قلت: "جيد". فهما بأمان.

جلست على العشب بقرب كيلي. شعرت بعذوبة الأرض وبالتعب. نظرت إلى كيلي التي أطفأت سيجارتها بالأرض، فابتسمت لي بدون أن تقول شيئا. أخبرتها أنه واتاني حلم، وكان يبدو أولا أن أحداثه تجري في بيتي، ثم انقلب كل شيء، ثم تبين أنه في بيتها. وأخبرتها أننا كنا نسبح في هذا الحلم، هي وأنا، في البركة. وفي الحلم كان الشلال أقوى مما هو في الحقيقة، وكانت المياه تنزلق على منحدر يخرج منه حتى تبلغ الوادي. وأضفت أننا في الحلم انزلقنا معا، وكان متسعا بما فيه الكفاية، لنجلس متجانبين، وتابعنا وأيدينا متماسكة. نظرت لي، وهي تعبث بخاتم في يدها. كان خاتم خطوبة. تبادلنا النظرات، ثم ابتسمت. قالت ضاحكة وهي تدفعني بعيدا عنها: "اصمت. توقف عن هذا الهراء".

كان بإمكاني أن أقول إنني أكذب، وأنني لم أشاهد هذا الحلم أبدا. وحان الوقت لذلك، إن كنت قد رأيت هذا الحلم أصلا.

***

........................

* الترجمة من Open City

* راشيل شيرمان Rashel Sherman كاتبة أمريكية. صدر لها: الجرح الأول (قصص)، غرفة المعيشة (رواية) وغير ذلك..

من الأدب الكردي:

ثلاث قصائد للشاعر لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - الريح العصوف

أثيمة هي الريح العصوف

بسبب ما كسرته:

من أغصان الشجر

و ما مزقته

من أجساد الأطفال

و ما هجرته

من أطيار الغاب ..

أثيمة هي الريح العصوف

لكثرة الرمال

والسدم

ألتي ألقتها في مقل

المدينة..

أثيمة هي الريح العصوف

سوف يأتي اليوم ألذي نعدم

فيه هذه الريح العصوف!!!

***

2 – مداعبة

عاصفة ما داعبتني

فلحست بلسانها

الطويل:

آثار قدمي ..!

غيمة ما مازحتني:

ففرشت قدامي

سجادة منسوجة

من الماء ..!

فمك .. هو الآخر

داعبني:

فترك على شفتي:

بضعة فراشات

مشتعلة ..!!

***

3 - بعض الأشياء

هناك قصائد:

هي أبعد من أن تلمس بنان

الشاعر

عقائصها الغيناء ..

وثمة أعذبة:

لا يحظى البؤساء

بشذا دلالها

أبدا ...

وهناك أيضا مسرات:

سوف لن يلهو الأحبة

على أمواجها المؤتلقة

بالضياء

إبدا ...

***

.......................

- عن (من الشعر الكوردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001 .

 

ترجمة لقصيدة الشاعر طارق الحلفي

والمعنونة - ومضات رقمية

ترجمة: سالم الياس مدالو

***

Digital flashes

The paper books

Hang themselves  are

Suffering from collective

Forgetfulness disorder

2 -

Friends are in black

List waiting

Digital forgiveness

3 -

Artificial intelligence

Tries to dream

But it do not know

How to forget

4 -

A smart watch thinks

Instead of me to

Meassure my pules

And my sins to remind

Me that i forget

To be a human

5 -

The robot feeds a child

His food singing lullaby

And turn off the light

At his sleep time

6 -

Hypothetical man writes

His testament to distribute his

Money across

Inssured acounts

7 -

The streets return recycling

Of passerby and the faces

Are the same

And the sighs are imported

From yesterday

8 -

The city suffers from technical

Hold up and the traffic lights

Are depressed and the roads

Do not know where

To lead us

9 -

In the electronic store

Dreams are purified

And repeated adjusting

The ends to be

Suitable for all

10 -

The artificial hand writes love

Letter the recipient with

No memory refers it

To trash fiels

11-

In order to get lost

Pet cat wears a GPS -

but forgets how

To find it self

12-

The electronic rain

Is falling and the plastic

Fields are breathing

And the clouds ask

For permission

to download .

...........................

ومضات رقمية

طارق الحلفي

كتبُ الورقيةُ تُعلّقُ نفسها،

تعاني من اضطرابِ النسيانِ الجماعيّ.

2

الأصدقاءُ في القائمةِ السوداء،

ينتظرونَ عفوًا رقميًا مُحتملًا.

3

الذكاءُ الصناعيُّ يُجرّبُ أن يحلم،

لكنّهُ لا يعرفُ كيفَ ينسى.

4

الساعةُ الذكيّةُ تفكِّرُ نيابةً عني،

تقيسُ نبضي، تحصي خطاياي،

تذكّرني أنّي نسيتُ أن أكونَ إنسانًا.

5

الروبوتُ، يُلقّمُ طفلًا طعامَهُ

يُغنّيهِ تهويدةً مُبرمَجة،

ويُطفئُ ضوءَهُ عندَ النوم.

6

رجلٌ افتراضيٌّ يكتبُ وصيّتَهُ،

يوزّعُ ذاكرتَهُ على حساباتِهِ المُؤمّنة.

7

الشوارعُ تُعيدُ تدويرَ المارّة،

الوجوهُ مكرّرةٌ،

التنهّداتُ مُستوردةٌ من مسودّةِ أمس.

8

المدينةُ تُصابُ بعطلٍ تقنيّ،

الإشاراتُ الضوئيةُ تعاني الاكتئاب،

والطرقاتُ لا تعرفُ إلى أينَ تقودنا.

9

في المتجرِ الإلكترونيّ،

تُنقَّحُ الأحلامُ قبلَ الشراء،

يُعادُ ضبطُ النهاياتِ كي تُناسبَ الجميع.

10

يدٌ اصطناعيةٌ تكتبُ رسالةَ عشق،

المُرسَل إليهِ بلا ذاكرة،

يُحيلُها إلى ملفّاتِ المهملات.

11

كي لا تضيعُ، "GPS" قطةٌ أليفةٌ ترتدي

لكنّها تنسى كيفَ تجدُ نفسها.

12

المطرُ الإلكترونيُّ يَهطلُ،

الحقولُ البلاستيكيّةُ تتنفس،

. والغيمُ يَطلبُ إذنًا بالتحميل.

***

 

بقلم: لارا فابنيار

ترجمة: صالح الرزوق

***

كانت طويلة. أطول منه. نحيفة. ورك عريض. أنف بارز جدا. ولم يعتقد أحد من أصدقائه أنها جميلة. قال ماريك في إحدى المرات أن قوام لينا يشبه الكنغر. وأيده كوستيك بصوت كالنعيب. غير أن فلاديمير رآها أشبه بطير ضخم. مثل مالك الحزين أو الكركي. التقيا في صيف 1975. كان فلاديمير بالثانية والعشرين وتخرج للتو من جامعة ليننغراد الحكومية. وحضر حفلة عيد ميلاد أستاذ الكراتيه العجوز، أركادي إساكوفيتش الذي بلغ الستين. لم تكن لينا من المجموعة. وكانت مجرد قريبة بعيدة لأركادي إساكوفيتش، وقادمة من موسكو بزيارة، وقد نامت على الكنبة في زاوية المطبخ. وخلال الحفلة تكومت على الكنبة كل أنواع الأطعمة بانتظار دورها لتنقل إلى الطاولة، ولم تجد لينا أي خيار سوى الانضمام إلى ضيوف أركادي إساكوفتش. جثمت على طرف كرسي عند زاوية الطاولة، ورفضت ما يقدم لها من الفودكا، دون ابتسامة، ولكن تناولت من سلطة الشوندر التي كومتها في طبقها، كما لو أنها تريد أن تختبئ وراءها. وواصلت الخالة غاليا البدينة والثملة الصراخ، مهيبة بلينا أن تتبادل مكانها مع أحد الرجال المتواجدين، لأن جلوس بنت شابة في الزاوية فأل سيء.

قالت: "هذا يعني أن أحدا لا يريد الزواج منها".

وضاق ذرع لينا في إحدى اللحظات. فنهضت وقالت إنها عازمة على الذهاب إلى المطبخ "للحصول على مزيد من المخلل". وضغطت على حرف الدال في كلمة مزيد*. وفي المطبخ شاهدها فلاديمير وهو في طريقه إلى الحمام. كانت تجلس على إفريز النافذة وظهرها له، بثوب قطني أزرق، وشعر أشقر لماع ينسدل بمستوى ذقنها، وكانت تؤرجح ساقيها الطويلتين فوق الأرض، وفي يدها برطمان المخلل. وحينما غادر الحمام رآها لا تزال جالسة هناك.

اقترب منها وسألها: "على ماذا تنظرين؟".

احمر وجهها، وقالت إنها حسيرة النظر، ولكنها اعتقدت أن هناك قطة في نافذة البناء المجاور. اقترب أكثر. كان الوقت على وشك 6 مساء، والشمس مشرقة، ولكن الفضاء المحصور بين الأبنية مظلم شأنه دائما. توجب عليه ضغط وجهه على الزجاج ليرى ما إذا كان يوجد أي شيء في الخارج. وتساءل إذا كانت تفوح منه رائحة الكحول.

أشارت وهي تثبت خصلة من شعرها الأشقر وراء أذنها: "هل ترى؟. هناك". كانت رقبتها تبدو نظيفة جدا. نعم، كانت هناك قطة، كبيرة، تجلس في نافذة الطابق السادس وتحملق فيهما مباشرة، بلامبالاة بغيضة. نظرا إلى تلك القطة لفترة طويلة، لأن كليهما لم يكن جسورا بما فيه الكفاية للالتفات والنظر بوجه الآخر. في اليوم التالي خابر أركادي إساكوفتش، وسأله إن كان بإمكانه محادثة لينا. سأله أركادي إساكوفتش: "لماذا يا فوفكا". لم يتمكن فلاديمير من الرد، بل نظف حنجرته، وكرر تنظيفها - وفي هذه المرة بمزيد من العزم. تنهد أركادي إساكوفتش وحول الهاتف إلى لينا.

قالت بصوت شديد الخفوت: "نعم؟".

"كم ستطول إقامتك هنا؟".

"ثلاث أسابيع إضافية".

أخبرها أنه يشعر أن من واجبه، باعتباره من سكان ليننغراد الأصليين، أن يقودها بجولة في المدينة. قالت إن أمها جهزت لها قائمة بأهم محطات المدينة. الهرميتاج، المتحف الروسي، قصر بطرس الأكبر، وقالت: "أنا لا أحب الفن حقا. ولكن ستجن أمي إن لم أطلع على هذه المواقع. قالت هذا شيء حتمي ما دمت هنا".

اتفقا على اللقاء عند المدخل، وصل فلاديمير قبل عشرين دقيقة، وكان يرتدي أفضل قمصانه، قميص ضيق مع قبة طويلة، مصنوع في هنغاريا، أما سرواله الضيق جدا فكان من صناعة ألمانيا الشرقية - وقد اشترى كل ذلك من صديقه كوستيك بالنقود التي جناها من عمله الصيفي في البناء. كان يتجول في الساحة، ويفكر لماذا لم يحضر معه الزهور. كان يود ذلك، ولكن هذا يعني أن تحملها معها وهما يتجولان في المتحف، ويبدو ذلك بمنتهى الغباء. ثم شاهدها تقفز نحوه قادمة من موقف الترام، وهي ترتدي نفس الثوب الأزرق. كان طرف التنورة ينتهي فوق ركبتيها، ومعها جزدان غريب المنظر يتدلى من كوعها، وأنفاسها مقطوعة، وهي تبتسم. وعلى الفور أسف لعدم شراء باقة الزهور. ما أن أصبحوا في الداخل، حتى أرغموا على ارتداء واقيات قدم قماشية، وبرر ذلك حارس المتحف ذلك بقوله: " لأن أرضنا تحفة فنية أيضا". فتشا في علبة ضخمة ليجدا واقية تناسب قدميهما. انتقت لينا خفافة تلائم لون ثوبها. كان المفروض ارتداء الواقيات فوق الحذاء. وتثبيتها بأشرطة تعقد حول الكاحل. راقب لينا وهي تتأمل واقيات القدم، وتبذل جهدها لتعرف كيف تعقد الأشرطة. كانت ساقاها مغطاتين بشعر ذهبي ناعم. وتمنى أن تطلب معونته لعقد الشريطين، ولكنها لم تفعل. كان المشي بتلك الخفافات صعبا للغاية. قالت لينا: "أشعر كأنني أصبحت بطة. ألا تشعر أنك تحولت إلى بطة؟".

قلد فلاديمير مشي البطة أمامها وهو يهتف: "قررر. قرر. قررر" بصوت يشبه صياح البط تماما. أغرقت لينا بالضحك حتى نبهها الحارس بحركة من أصبعه. كان من الأسهل أن تنزلق لا أن تمشي، ولذلك انزلقا عبر الغرف، بسرعة، وبالكاد توقفا للمشاهدة، حتى أن اللوحات اندمجت بنظرهما مثل فيلم كرتون، وخيالات وامضة: شموع، ومصابيح، ودروع فضية، وأثواب من المخمل، وصدور. غض نظره عن الصدور، ليثبت أمام لينا انضباطه وتهذيبه. وكان في المتحف بالتأكيد عدد كبير من المشاهدين، فهو مزدحم في جميع الأوقات، ولكنه لم ينتبه لأحد كأنهما وحيدان. فقدت لينا خفها على السلالم التي تفضي إلى طابق عصر النهضة، وتوجب عليه أن يعود عدة درجات ليستعيده. وفي هذه المرة سمحت له أن يربط لها الأشرطة.

تابعا الانزلاق، حتى وصلا إلى غرفة تضم معرضا زائرا من المتحف الوطني في لندن. وقفت لينا أمام إحدى اللوحات وبدأت بالضحك. كان اسم اللوحة "لوحة أرنولفيني" للرسام يان فان آيك. كانت المرأة حاملا، ويافعة، وترتدي شيئا يبدو كأنه ستائر ثقيلة مع ثنيات. وكان الرجل - ويفترض أنه زوجها - يرتدي قبعة ظليلة، ومعطفا من الفرو، وجوارب سوداء (جوارب!). اعتقد فلاديمير أن لينا تسخر من الثياب، فسخر منها أيضا. قالت: "هذا شيء غير طببعي". سألها: "ماذا؟".

قالت: "التشابه!. ألا يبدو الرجل في اللوحة مثلك تماما؟".

كان للرجل وجه طويل وحزين، ولا يشبه فلاديمير، والذي كان على وشك الاعتراض حينما قالت له لينا: "مثل هذا". ومدت يدها وأبعدت شعره عن جبينه. كانت يداها صغيرتين ولزجتين ودافئتين جدا، فحبس أنفاسه. أضافت: "هل رأيت؟. لديه أنفك وفمك!". قبض فلاديمير على يدها الأخرى، وضغطها بيده. بعد أن انتهيا من المتحف، رافقها إلى أفضل منصة لبيع المثلجات في المدينة، وحصلا على مثلجات في أطباق من الستانليس ستيل - ثلاث كرات تامة ومغمورة بالعصارة. التهمت لينا حصتها كلها، وكرة من حصته. سألته عن أحوال دراسته. فقال إنه في مقدمة طلاب كلية الحقوق. ولكنها لم تتأثر حقا. وقالت إنها تكره كليتها - وهي هندسة الاتصالات. وترى أن الفيزياء والرياضيات عذاب وقهر. أكد لها فلاديمير أنه يمقت الرياضيات كذلك، ولكنه يحب التاريخ، وبالأخص التاريخ السوفياتي، وعلى وجه الخصوص الحرب العالمية 2. قالت له إنها من جانبها أحبت علم النفس، مع أنه غير مدرج بالمنهاج، غير أنها تحب أن تقرأ عنه. وأعجبت بامتحان الشخصية. ثم سألته: "هل لديك قلم؟". مد فلاديمير يده بقلم حبر سائل جميل كتب عليه: إلى عزيزي فولوديا في عيد ميلاده السادس عشر. أخرجت من حقيبتها قطعة ورق (مجعدة ومبقعة)، وقدمتها له وطلبت منه أن يرسم حيوانا خياليا غير موجود في الطبيعة. قائلة: "تخيل شيئا فقط، أي شيء". والتفتت لتترك له مساحة حرة للإبداع. توترت أعصابه، ولم يكن متأكدا من نتيجة الامتحان، وتوقع أن أسوأ احتمال أن يظهر بنتيجة الامتحان مضجرا أو باردا. وقرر أن تكون رسوماته متمردة ومفصلة قدر الإمكان، وكبيرة أيضا، وتأكد أن يغطي كامل الورقة. قالت لينا حينما دعاها لتنظر: "أوي". ثم غطت فمها وضحكت. فقد رسم صورة تجمع ما بين شكل ماموث وذئب وحشرة زاحفة. وحش بدين يغطيه الشعر وله أسنان حادة، وأذنان كبيرتان وعينان لماعتان والعديد من الأرجل.

قال: "ما رأيك؟".

أجابت: "حسنا. يغلبك الفضول للتلصص على العالم - وأرى ذلك لأنك جعلت العينين والأذنين بأحجام كبيرة. وتبدو الصورة جنونية، وهذا يعني أنك تحب المغامرات".

نعم! فكر بصمت.

تابعت: "ويمكن أن تتحلى بالجشع قليلا. لأنك استهلكت مساحة كبيرة. وهذا يقلل من فرص الأمان. ويجعلك عرضة للأذى".

ماذا؟ فكر. كلا! لا بد من الإعلان عن قلقه، لأنها ابتسمت كأنها تعتذر ولمست يده.

وأضافت: "أقول ذلك لأن أيا من أرجله الكثيرة لا تلمس الأرض. انظر؟".

نعم، هي محقة. لماذا، لماذا، لم يرسم كل الأرجل وهي تقف على أرض واحدة؟.

وختمت كلامها: "وحسنا. لا يزال لدينا هذا الذيل الغزير".

سألها: "وبماذا يوحي لك؟".

احمر وجهها وتمتمت أنه يستحسن أن لا تقول. لم يقبّلها في ذلك اليوم، ولا اليوم اللاحق، حينما تنقلا في المتحف الروسي. ولكنه قبّلها في استراحة الأسبوع التالي، حينما قاما برحلة إلى قصر بطرس الأكبر. أصرت أم لينا على رؤية داخل القصر، ولكن كان طابور شراء التذاكر طويلا لدرجة غير مقبولة، ولم يكن أي منهما مهتما برؤية "أواني زهور ومقتنيات ليل القيصر". ولذلك اكتفيا بالتنقل على الأرض، معربين عن إعجابهما بكل ذلك الذهب والرخام وماء النافورات المتدفق والمنعش. هناك تواجدت قوافل من الناس، الصاخبين والمتعرقين والذين يشقون طريقهم ويستضيفون أبناءهم على أكتافهم، أو يسددون بكاميراتهم الضخمة والثقيلة. وسخر فلاديمير من كل هؤلاء البشر الذين لا يملكون أدنى فكرة عن عدم أهميتهم. حتى لو طردهم جميعا لن يغيروا من الحال أي شيء. ما دامت لينا معه. ورأى أن حيلة النوافير أفضل شيء في قصر بطرس الأكبر، فالرشاشات كانت مخبأة في أشياء لا تلفت النظر، وكانت تبدأ بإطلاق الماء على الناس بأوقات عشوائية، في لحظة غير متوقعة. قبض فلاديمير على يد لينا، وبدآ بالجري إلى الداخل والخارج، والقفز من فوق تيارات الماء، والعبور من بين الخطوط غير المرئية، بمحاولة للتحايل على خدعة النوافير، وهما يتصايحان ويضحكان، حتى ابتلا للنخاع، واضطرا للتراجع إلى مقعد، ليجلسا عليه، وهما يرتجفان ويلهثان. تبلل وجهها وأصبح باردا، وصار فمها لزجا. وتنفس جسمها وارتفعت حرارته بين ثنيات ثوبها الرطب. وبدأ القلب ينبض بسرعة جنونية. بعد تلك الرحلة، وجدا أن غنى ثقافة ليننغراد لا تهمهما، وفضلا اللقاء في زوايا بعيدة من حدائق المدينة، أو على السلالم المظلمة في أبنية لا على التعيين، وأحيانا كانا يستقلان الترام حتى آخر محطة، ثم يعودان بها، وهما يتبادلان القبلات طيلة الطريق. بعد أسبوعين ذهب والدا فلاديمير إلى مأواهما، فدعا فلاديمير لينا إلى البيت. كانت الشقة مرتبة، ومع ذلك نظفها مجددا. لمّع الأرض النظيفة، ثم ذهب بالترام إلى مركز المدينة، وتوقف في مخبز نورد - وهو الأفضل في المدينة - واشترى كعكته المفضلة، المكونة من طبقات، تلمع بالشوكولا، ومغطاة بالجوز. كان اسمها ليننغراد. وضعها في ثلاجة المنزل، واغتسل وحلق وجهه، وأغرق نفسه بكولونيا شيبر كوروليفسكي - فقد اشترى زجاجة من كوستيك قبل عام، ولكنه لم يستعملها لأنها مرتفعة الثمن جدا، وتوجب عليه شراء الزهور، ولكن لم يعد أمامه وقت، فهو يتوقع لينا في أي لحظة.

أول سؤال وجهه إليها حالما فتح لها الباب: "هل ترغبين بقطعة من الكيك؟".

هزت لينا رأسها. كانت بعيدة وهادئة وعيناها مذعورتان. كانت ترتدي بلوزة بكمين قصيرين، ولكنها داكنة تحت مكان الذراعين، وعلى وجهها باقة مربكة من الابتسامات النسائية. رافقها بجولة في الشقة اامؤلفة من غرفتين.

قال: "هذه غرفتي. وهذه طاولتي. وتلك كتبي. هل تحبين التاريخ؟".

قالت لينا: "ليس تماما". واقتربت من الرفوف وصاحت: "آه. أنا مغرمة بهذا". وأشارت إلى صورة فلاديمير وهو بعمر اثني عشر عاما، والمحاطة بإطار. لمستها دون قصد وتبعتها ابتسامة خجولة. احمر وجهه وقال إن أمه وضعتها هناك. تكلما عن والديهما قليلا، وقالت لينا إذا كان عليها وصف والديها بكلمة واحدة، عليها أن تقول " ساخطان". يتصرفان كأنهما تعرضا للحرمان من شيء هام في حياتهما. قال فلاديمير إنه يرجح أنه "التقدم بالعمر".

سألته وهي تشير لصورة مؤطرة لرجل وسيم جدا بثياب نازية: "أوي. وما هذا؟".

"هذا أليكسندر بيلوف من 'الدرع والسيف'. ضابط مخابرات روسي بثياب نازية".

سألته: "الدرع والسيف؟".

"لا أصدق أنك لا تعرفينه. فهو فيلمي المفضل".

تنهدت كأنها تعتذر.

قال: "وهذا ما جرى في الفيلم. بيلوف ضابط سوفييتي تعلم اللغة الألمانية قبل الحرب، ليتمكن من التغلغل في القوات الألمانية. وهو ذكي فعلا. وتدبر أمره لبناء مهنة ناجحة هناك خلال عام أو اثنين. ثم أرسله النازيون للعمل في معسكر الإبادة أوشفيتز، على ما أذكر. واستلم إدارة مدرسة الجواسيس".

"وهل توجد هناك مدرسة للتجسس؟".

"في الفيلم. توصل الألمان إلى فكرة تدريب مساجين روس للتجسس من أجل ألمانيا. أولا كسروا معنوياتهم، ليوافقوا على خدمة ألمانيا. ثم علموا الرجال كيف يستعملون اللاسلكي ويرسمون رسوما فنية، وعلموا النساء كيف تستعملن اللاسلكي وتعملن بالبغاء". وقد احمر وجهه ونظف حنجرته وهو يقول: "لتعملن بغايا". ثم تابع: "وحينما يكمل تجهيزهم، يرسلونهم إلى روسيا - ينقلونهم بالطائرات ويهبطون بالمظلات. ويفترض أن يمضوا وقتا هناك، لجمع المعلومات المطلوبة وإرسالها إلى ألمانيا". لاحظ فلاديمير بريقا خفيفا في عيني لينا. لم يكن من السهل جذب انتباهها، فبذل جهده قائلا: "وحينما كلفوا بيلوف بالمدرسة، عكس كل العملية. كما ترين، كان يكشف للأذكياء والأكفاء أنه في الحقيقة ضابط مخابرات روسي، وبالتكاتف جميعا يمكنهم تقديم خدمة عظيمة لبلدهم الأم. وهكذا أفسدوا الخطة وأرسلوا معلومات مغلوطة إلى ألمانيا".

قالت لينا: "أو - هووه".

"لكن تخيلي كم كانت حياته قاسية!. بلا اتصال مع عائلته، ويتظاهر أنه شخص آخر في كل لحظة من حياته، ويعيش مع الأعداء، ويمثل أنه يكسب أصدقاء من معسكر الخنازير الأشرار".

قالت لينا: "نعم هذا شيء مستحيل. ويجب أن تكون نبيها جدا، وصبورا أيضا، لتفعل ذلك".

"هذا ما أريد أن أكون عليه".

"أن تصبح جاسوسا؟".

"لا. بل ضابط مخابرات".

سألته: "حقا؟".

"كم أحببت أغنية مقدمة ذلك الفيلم - يجب أنك تعرفينها".

هزت رأسها.

نظف حنجرته، وأنشد بدايتها: 'ما هي البذرة للبلد الأم...".

قالت: "آه. نعم. طبعا. أعرف تلك الأغنية. وكم أحبها. ولكن لم أعرف أنها من الفيلم".

وغنتها بصوت متذبذب، وتوالت كلماتها:

ما هي البذرة

للوطن الأم؟.

صورة في دفتر الإملاء.

والأصدقاء الذين عرفتهم

في طفولتهم،

بيوتهم على مبعدة نصف شارع...

أمسك وجهها بيديه، وطبع قبلة على فمها، ثم حملها إلى الكنبة، وأمضيا حوالي ساعتين على تلك الكنبة (كرات من لهب أزرق تحرق كالجحيم)، قبل أن تسترخي ليدس أصبعين في سروالها.

وهنا همست: "أنا عذراء".

سألها: "هل تريدين مني أن أتوقف".

"كلا فقط أعتقد أنه يجب أن نضع منشفة تحتي. في حال سال الدم".

أسرع إلى الحمام ليأتي بمنشفة، وانتقى واحدة لا تستعملها أمه. ولدى عودته، كانت عارية، مستلقية على جانبها، بمواجهة الجدار. مد المنشفة تحت مؤخرتها. ثم خلع ثيابه، ووضع الواقي الذكري، واستلقى بجانبها. ، وقال وفمه وراء ظهرها: "سأكون لطيفا".

همست: "من فضلك. لا ضرورة لذلك. تقول صديقاتي إن ألمه أقل إذا كان الشاب عنيفا وسريعا".

ثم استلقت على ظهرها، وفتحت ساقيها، واستسلمت له كي يؤلمها. وحينما فعل ذلك، صرخت متوجعة، وتساءل هل عليه أن يتوقف أم يتابع. ولكنه انتهى قبل أن يقرر. تدحرج وقبلها على خدها. وكانت هناك ابتسامة رضا على وجهها. ثم قالت: "أنا الآن امرأة. هكذا. لا أصدق ما حصل".

قال: "نعم. وأنا أول رجل بحياتك".

"نعم. أنت أول رجل".

ذهبت لتغتسل، وتنظف بالماء المنشفة المدماة. وتبعها ليغتسل.

قالت: "دعنا نتناول تلك الكعكة الآن. هل بوسعنا الحصول عليها في غرفتك؟".

أومأ، مع أن أمه لا تسمح له بالأكل في غرفته، ارتدى سرواله، وذهب إلى المطبخ.

صاحت وراءه: "هل لديك حليب؟".

اقتطع شريحتين كبيرتين، وضعهما على طبقين نظيفين، وسكب الحليب في كأسين جاهزين، ووضع كل شيء على صينية، وحمله إلى غرفته. توقع أنها ارتدت ثيابها خلال غيابه في المطبخ، ولكنه وجدها جالسة على كنبة النوم، الساق على الساق، وهي بتمام عريها.

قالت: "كعكة جميلة".

وتناولت طبقا مع شريحة مكومة من كعكة لينينغراد. أضافت بفمها المليء: "ولذيذة أيضا". سقط ثدياها الصغيران على بطنها، وأصبحت طيات صغيرة كالأكورديون، وكان شعر إبطيها طويلا ومبتلا، وخميلتها الغزيرة قريبة جدا من طبق الكيك. ورأى فلاديمير أن هذا ليس مهذبا وغير صحي، ولكنها بدت سعيدة جدا وكانت تستمتع كثيرا وبوضوح، ولذلك لم يكن بوسعه إلا مسامحتها. وحينما طلبت المزيد، قال إنه لا يمانع المزيد، وغمز لها، فابتسمت وهزت رأسها، وقالت إنها بحاجة أولا للتعافي من ألم أول مرة.

خيم الظلام، واقترح أن يذهبا إلى غرفة والديه لمشاهدة التلفزيون. ارتدت ثيابها - حمالة الصدر، السروال، البلوزة، والتنورة المجعدة. أتى بالمزيد من الكيك، ووضعه على الطاولة، وأقعى أمام التلفزيون، ليتمكن من ضبط الزر الذي يقلب القنوات، مع أنه لا توجد قنوات عديدة. وابتهل لربه أن يجد شيئا يستحق المشاهدة، وثبت له أنهما محظوظان - فقد عاد بث سلسلته المفضلة، سبع عشرة لحظة من الربيع، وكان موعدها وشيكا!.

صاحت لينا: "سبع عشرة لحظة".

"نعم".

حمل طبقه وقبع بجوارها.

كانا يأكلان أثناء التقديم وحالما بدأ أول مشهد وضعت طبقها جانبا.

همست: "هذا المشهد المفصل عندي".

في ذلك المشهد، ظهر ماكس أوت فون شتايرلتز، ضابط إس إس (ولكنه في الحقيقة هو مكسيم آسايف، جاسوس سوفييتي)، وكان يسير في غابة مهجورة. في لحظة من اللحظات رفع رأسه وراقب سربا من اللقالق التي تطير ببطء في السماء. وكان يبدو أنه خشن، وحزين، ومتعب فعلا لأنه يمثل دور عسكري نازي. وفي الخلفية عزفت أغنية حزينة، شجاعة وعاطفية، ودامعة ومتوحشة.

سألته لينا: "هل تعلم بماذا يفكر الآن؟".

"ماذا؟".

"يحسد اللقالق. فهي حرة، وهو عالق هناك مع النازيين. ويتمنى لو أنه لقلق ليطير بعيدا معها. غير أن هذا غير ممكن".

ورأى دموعا في عينيها.

وفكر فلاديمير: هل يعقل أنني أحببتها؟.

بعد سنوات، حينما أعلن فلاديمير بوتين، رئيس روسيا، أنه سيقود سربا من اللقالق، ويطير أمامها في زلاجة نارية، سأله الناس من ألهمه ذلك. وكان يعطي عدة أجوبة، ولكن ما من جواب صحيح.

لاحظ المقربون من فلاديمير أن شيئا يحدث له. أولا، سألته أمه كيف انتهت منشفة الضيوف إلى الحمام على الحامل المعدني. ثم سأله صديقه ماريك إن كان يقابل تلك البنت التي التقاها في الحفلة. أكد له فلاديمير ذلك.

سأله ماريك: "لماذا؟ حتى أنها ليست جميلة، وقوامها يشبه الكنغر". ثم حان دور أركادي إيساكوفيتش. قال له: "كلا يا فوفكا. كلا. ثق بي. لا يجوز أن تندمج مع تلك العائلة. يمكنك أن تتسلى قليلا. وهذه نهاية الحكاية. لديك مستقبل باهر أمامك. لا تسمح لها أن تضللك".

كان يعلم أن أركادي إيساكوفيتش محق. فهي يهودية. وهذا شيء غير مستحب. ومع أن الجو مختلف الآن، لكن لا يزال اليهودي أو الزوجة اليهودية شيء غير مطمئن. فكر: حسنا. ستذهب إلى موسكو خلال عدة أيام. وهذا ما هما بحاجة له. التباعد لبعض الوقت. بعض الوقت لتبرد العلاقة. في آخر أمسية لهما معا، كانا يمشيان في شوارع المدينة المعتمة. كانت ليلة باردة. ولينا ترتجف، وتلتصق به، وتمنى لو كان يرتدي سترته ليخلعها ويضعها على كتفيها. وكان الوقت قد حان ليأخذها إلى بيت أركادي إيساكوفيتش. وتوجب عليهما الركوب بالترام، ولكن لم يشاهدا أي مركبة. فجلسا على مقعد في الغرفة الزجاجية. وهناك وجدا إعلانا معلقا وراءهما عن فيلم تشويق جديد. ومن الإعلان انصبت عليهما نظرات ثلاثة ضباط مخابرات سوفييت يرتدون قبعات قماشية. أمسك فلاديمير يد لينا، وجلسا صامتين لبعض الوقت. ثم نظرت إليه وقالت: "فوفا". وذلك بصوت محمل بعاطفة جعلته يختنق.

فاجأ نفسه وقال: "دعينا نتزوج يا لينا".

فتحت فمها لتقول شيئا، ولكنه لم يسمح لها.

وقال: "اسمعي. اسمعيني فقط. سأنضم إلى الــ كي جي بي في الخريف، فقد تم اختياري. وهذا شرف عظيم. ولا تقلقي. لا بهمني أنك يهودية، لأن الزمان مختلف الآن. ولا أعتقد أنهم سيطردونني لأنني متزوج من يهودية. يجب أن أخضع لبعض التدريبات، وبعد ذلك، أمامنا احتمالات لامتناهية. وهو عمل جيد فعلا. سنشتري سيارة. ووعدوني بشقة أحصل عليها في بضع سنوات. سيكون لنا شقتنا. وستحصلين على الثياب المستوردة. وحصة أطعمة خاصة. السلامي، والكافيار. وربما أكلف بمهام خارجية. ما رأيك بألمانيا؟".

فتحت فمها مجددا، ولكنه لم يسمح لها بالكلام. كان لتعابيرها شيء ينم عن اليأس، شيء مؤلم، شيء غير مقبول. لم تكن تريد أن تقول نعم. هذا واضح. وتولد لديه إحساس أنه إذا سمح لها بالكلام، سينتهي كل شيء. ولذلك تابع الكلام. "سنعيش في بيتي لبعض الوقت. ثم سيمنحونني شقة. كما وعدوا. بعد سنتين فقط. وسيارة. وعدوا بسيارة كذلك".

كان يكرر كلامه. وتعين عليه أن يصمت. قالت: "لا يمكنني يا فوفا".

قال: "لا تقرري الآن. من فضلك. لا تقرري الآن. عودي غدا إلى موسكو. كلمي والديك. كم سنة بقي لك في جامعتك؟ بل يمكنك أن تنتقلي إلى جامعة هنا".

"لا يا فوفا. لا يمكنني. لأننا سنغادر. والداي وأنا. سنذهب إلى إسرائيل".

وبدأت بالبكاء.

سألها: "متى؟".

قالت من خلال دموعها ونواحها: "قريبا. كل الإجراءات جاهزة. وأرسلاني إلى ليننغراد لأن الجو في البيت هائج. الوالد والوالدة يتجادلان كل الوقت ويتصايحان ويصرخان بوجهي".

"لماذا يريدان السفر؟".

"لا أعرف كيف أشرح لك. والداي يقولان إنهما يضيعان حياتهما هنا. وهما يننظران هذا منذ سنوات. مرا بالجحيم للحصول على إذن المغادرة".

فكر: لعينان يخونان الوطن الأم.

تابعت: "حتى أنني لا أريد مرافقتهما".

"ابقي إذا".

"لا يمكن. لا يمكن أن أفعل بهما ذلك. أنا كل ما لديهما".

استدار وضغط بسلاميات أصابعه على جبينه. شعر كأنها تلكمه. تماما في بطنه. حصل له ذلك في حصة الكاراتيه. ولكن اللكمة كانت أسوأ الآن، أسوأ كثيرا.

"متى كنت ستبلغينني؟".

قالت: "اليوم. الليلة. من فضلك افهمني يا فوفا". ومدت يدها لتربت على وجهه، ولكنه ابتعد عنها. كانت لديها خطة طيلة الوقت، وهي تعلم أنها ستفترق عنه. كان عليه أن يسألها. سؤالا هاما. تعثرت أنفاسه.

قال: "لماذا؟. لماذا تفعلينها؟ لماذا أقمت علاقة معي إذا؟".

تحول بكاؤها إلى نحيب، وبدأت تكلمه وهي تشهق.

"لا أعلم. أعجبتني. ولم أتوقع أن يكون الموضوع جديا".

"لماذا... لم فعلت ذلك... لماذا فعلت ذلك..". (أراد أن يقول لماذا سمحت لي أن أنكحك" ولكن وجد نفسه غير قادر على ذكر كلمة "أنكحك" علانية. فقال: "لماذا تركت هذا يحدث، إن لم تتوقعي أن المسألة جدية؟".

ابتعدت عنه. لم يكن معها منديل، فمسحت أنفها بكم بلوزتها. كان هناك شيء بشع، شيء بغيض، بغيض ومؤلم. ورغب أن يضربها وبنفس الوقت أن يبكي معها. نهض من المقعد وحدق بها. قال: "لم تحبي أن تسافري إلى إسرائيل وأنت عذراء. أليس كذلك؟ أردت أن أقوم بالواجب، ليجدك الشباب اليهود جاهزة؟".

نظرت إليه مشدوهة، ونهضت. كانت طويلة إلى حد جنوني، ووجها كان منفوخا وبشعا بشكل غير منطقي. سد طريقها. قالت له: "أفسح الطريق".

لم يتحرك.

دفعته جانبا وبدأت بالجري.

كان الممثلون ينظرون إليه من الإعلان، ويسخرون منه من تحت قبعاتهم القماشية. فكر: جواسيس قذرون. وضرب الوجه الغبي الذي توسط البقية.

في التاسعة والنصف صباحا ازدحمت محطة قطارات موسكو في ليننغراد بأشخاص واقفين، ويمشون، ويركضون. أغبياء، عديمو المشاعر مع حقائب كبيرة وأولاد يعولون. الجو حار تفوح منه روائح العرق والبول والثياب غير النظيفة. كان موعد انطلاق قطار لينا في العاشرة والنصف صباحا (سأل فلاديمير أركادي إساكوفيتش أن يتأكد من بطاقتها). وصل فلاديمير باكرا، لأنه لا يعرف ماذا يفعل حال وصوله. كان يعلم أنه يريد مشاهدة لينا مرة أخرى، ولكنه لم يكن متأكدا أنه يريد أن تراه. نظر إلى بناء المحطة الأصفر، وتذكر حقيقة مدهشة تعلمها في المدرسة. أن مقر محطة موسكو في ليننغراد ومحطة ليننغراد في موسكو متماثلان تماما. الابنية متماثلة في مدينتين مختلفتين. يا لها من فكرة حمقاء!. آلمته يده. فقد كسر الزجاج حينما ضرب الإعلان وتسبب له بجروح عميقة واستغرق النزيف وقتا محسوسا قبل أن يتوقف. سألته أمه وهي تطهر جرحه: "هل تورطت بمعركة مجددا؟ هل كانت من أجل بنت؟". كان كشك المثلجات مفتوحا. ذهب فلاديمير واشترى لنفسه فطيرة الإسكيمو. كانت حلوة وباردة. آلمته أسنانه. ولكنه التهمها بسرعة. ألقى الورقة والعود في علبة النفايات ونظر إلى الساعة. كانت العاشرة - حان الوقت ليذهب إلى المنصة. مر برجلين جورجيين يبيعان الزهور. طلب التوليب الأحمر. حاولا خداعه بعشرين كوبيكا، ولكنه انتبه في الوقت المناسب. كان قطار موسكو واقفا، يجلل لونه الأخضر الغبار، وتفوح منه روائح زيت الآلات. ذهب إلى وسط الرصيف، واختبأ وراء عمود ضخم. توقف هناك عشرين دقيقة أو حوالي ذلك، وهو يستند على الرخام البارد. راقب العابرين مثل جاسوس. ونظر إلى يده المربوطة وفكر: جاسوس جريح. ولاحظ أن التوليب يذبل، ولا بد أنه غير طازج - في النهاية غشه الجورجيان. شعر بالعطش وأراد أن يتبول. ثم شاهد لينا وهي تشق طريقها على الرصيف، مرتدية نفس الثوب الأزرق الذي ارتدته حينما تقابلا. وكانت تنوء تحت حمل حقيبة جلدية كبيرة. أوشك أن يسرع إليها غريزيا ويساعدها بحملها، ولكنه تقهقر إلى الخلف. اقتربت من باب عربتها، وضعت الحقيبة أرضا، وقدمت التذكرة إلى المفتش. بينما فحص المفتش التذكرة، أخذت لينا نظرة مما حولها، كأنها تبحث عنه. وبدا أنها كانت تنظر نحوه. تراجع خطوة إضافية. ثم تذكر أنها حسيرة النظر، ولا يمكنها رؤيته. دق قلبه بسرعة كبيرة وعصرت يده الزهور حتى عجنتها بالعرق. أعاد المفتش التذكرة إلى لينا، فحملت حقيبتها على السلالم، وصعدت بنفسها. كان مقعدها في عربة 4. عد فلاديمير النوافذ ليحدد مكانها، كانت الستائر مغلقة. وانتظر أن تفتحها لينا، وتنظر من النافذة، ولكن استمرت مغلقة. هدر القطار وتقدم. وزحفت عربة لينا مبتعدة عنه. ثم ظهرت لينا عند الباب مثل معجزة، وهي تمسك المقبض، بساق طويلة على السلالم، والثانية مختبئة وراءها. ومدت رقبتها لترى الرصيف بشكل أفضل. أسرع القطار. وأراد أن يجري نحوها، أن يعدو وراء القطار، وأن يناديها، ولكنه بقي واقفا هناك كأنه متجمد، وهو يعصر التوليب. وبعد اختفاء القطار، ألقى التوليب على أرض الرصيف وعاد إلى المحطة.

ما هي بذرة الوطن الأم؟.

صورة في دفتر الإملاء.

الأصدقاء الذين تعرفهم في طفولتهم،

البيوت على مبعدة نصف شارع...

أو، ربما كانت بذرة الوطن الأم

الترنيمة التي تنشدها أمك،

الذكريات أقوى من الحياة

ولا يمكن سلبها منك.

***

............................

*وردت كما يلي She rolled her r’s. وحرف الراء هنا يشير إلى آخر حرف من كلمة more، بمعنى المزيد. ويقابلها باللغة العربية حرف الدال.

* القصة منشورة في غرانتا عدد 137.

لارا فابنيار Lara Vapnyar: كاتبة روسية من مواليد موسكو. تعيش حاليا في الولايات المتحدة. صدر لها: هناك يهود في بيتي 2006 ، بروكولي وحكايات إضافية عن الطعام والحب 2008، رائحة الصنوبر 2014، ما زلت هنا 2016، وغيرها...

 

قصة: إيمبولو مبوي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قال أبي:

- عندما أموت، لا تعيدني إلى الوطن. ادفنيني هنا. جلست على سريري وفركت عينيّ، وأنا أنظر بسرعة إلى هاتفي

همست:

- بابا. ماذا يحدث هنا؟ إنها الساعة الثانية صباحا.

قال:

- أريدك أن تعرفى هذا الآن. لا أستطيع النوم. مهما فعلت، لا تأخذي جثماني إلى الكاميرون.

نظرت في ظلام غرفة نومي، ثمة ضوء سيارة إسعاف عابرة ينيرها لفترة وجيزة. وصلت إلى المصباح لكنني أبعدت يدي، وقررت أن الظلام سيكون أفضل لمحادثة مثل هذه.

سألت:

- ماذا قال لك الطبيب عند فحصك بالأمس؟ هل توقفت عن تناول دواء ضغط الدم مرة أخرى؟

- لا. لا شيء من هذا القبيل. أنا بخير. يقول الطريقة التي أسير عليها قد تجعلنى أعيش لأرى اليوم الذي يذهب فيه الناس إلى المريخ لتناول العشاء هناك.

لم أضحك ولم يضحك هو أيضًا، على الرغم من أنه من الواضح أنه جعل النكتة لنفسه.

- بابا، يجب أن أكون في العمل الساعة فى السادسة صباحًا، لذا أرجوك قل لي الآن لماذا تتصل بي في منتصف الليل لإعطائي هذه الوصايا الغريبة.

لم يرد على الفور.

- هل ستتكلم الآن، أم تريدني أن أقود السيارة إلى بروكلين غدًا

تنهد.

- أنا فقط

واصلت الانتظار.

- أريد أن أبقى هنا معك ومع أختك. لم يبق لي شيء في الكاميرون.

- لم يبق لي شيء. لم يتبق شيء لأي منا في الكاميرون يا أبي. فقط قبر أمي. وقبور الجد والجدة. هل تخبرني أنك لا تريد أن تدفن بجانبهم؟

- من فضلك لا تحاولى أن تحرجينى. لست فى حاجة إلى ذلك.

- أنا لا أحاول إحراجك! عندما ماتت أمي كنا نسافر لمدة ثلاثة أيام ونقود على هذا الطريق الرهيب الوعر حتى نتمكن من دفنها في المدينة التي ولدت فيها. وسأفعل نفس الشيء من أجلك، لأنه إذا كان هناك شيء كررته علي مرارًا وتكرارًا، فهو أن الرجل يجب أن يُدفن في بلدته، وسط أهله.

- أذهب إلى قبر أمك كل ليلة. أجلس هناك وأقول ليلة سعيدة قبل أن أغلق عيني. أفعلها كل ليلة.

ثم شخر ولم يقل أي شيء لبضع ثوان.

التزمت الصمت أيضًا، تخيلته جالسًا بمفرده في سريره، والأنوار مطفأة، وهو يتحدث إلى الهواء، على أمل أن تتطاير كلماته بطريقة ما فوق المسطحات المائية وعلى التلال والسهول والوديان وتصل إلى قبر أمي. لم يذهب أحد منا إلى هناك منذ دفنها قبل عشر سنوات. لم يقم أي منا بزيارة الكاميرون منذ ذلك الحين.

- أعدك يا أبي، سأعيدك إلى الوطن وأدفنك بجوار أمك. إذا كنت تخبرني بكل هذا لأنك لا تريدني أن أعاني الكثير من المتاعب عند دفنك.

- أنا أخبرك لأن هذا ما أريده. أريد أن أدفن هنا في بروكلين.

- هل تخبرني أنك تريد أن تدفن بجانب الغرباء، وهناك مكان مُعد لك بين زوجتك وأمك؟

قال بهدوء:

- نعم، أنا أخبرك أنك وأختك هما كل ما تبقى لدي، ومن الآن وحتى يوم زواجك وإنجابك الأطفال، وحتى بعد ذلك، لا أريدك أن تكون بدوني. والدتك بعيدة هناك في القرية، لا أريد أن أتركك وحدك هنا في بلد رجل آخر.

(تمت)

***

.........................

المؤلفة: إيمبولو مبوي /Imbolo Mbue: ولدت الكاتبة الأمريكية إمبولو ميبى عام 1982 فى مدينة ليمبى بجمهورية الكاميرون ثم انتقلت إلى أمريكا وهى فى سن السابعة عشرة من عمرها واستقرت هناك حيث حصلت على البكارليوس من جامعة روتجرز والماجستير من جامعة كولومبيا، وقد حصلت على الجنسية الأمريكية عام 2014 لتصبح الكاتبة الأمريكية من أصل إفريقى، وتقيم الآن فى مدينة نيويورك، فى وسط مدينة مانهاتن وتعمل فى جامعة كولومبيا. ظهر أول عمل أدبى لها عام 2014 و هو قصة قصيرة بعنوان (إيميك) ثم كانت روايتها الأولى التى جلبت لها المال والشهرة معا (حصلت الرواية على جائزة قيمتها مليون دولار) ها هم الحالمون عام 2016. والقصة التى نترجمها اليوم ألقتها الكاتبة عام 2017 م بمناسبة تكريمها عقب نشر روايتها المذكورة ونشرت القصة بعد ذلك فى مجلة الادب الكاميرونى بكوا. وفيما رابط القصة:

https://bakwamagazine.com/featu.../a-reversal-by-imbolo-mbue

 

بقلم: الشاعرة اليونانية كاترينا آكليكي / ΚΑΤΕΡΙΝΑ  ΑΓΓΕΛΑΚΗ

ترجمة: جمعة عبد الله

***

الشبق الأخير

كل قطرة منك يجف فيها الحب

بريقه ينطفئ

كالضوء المنخور

مثل العربة بلا قدمين

الامواج

البحر الابدي

حياة / موت

الحياة تفقد ديمومتها

مثل العظام التي تتكسر

مثل قصب الصيف

الغواية تتبدد في الظلام

مثل المصابيح التي تفقد أنوارها

جسدك

ممتنع / محظور

أنا انكمش

مثل التجاعيد الظاهرة

كأني أفقد وجودي

الايام تتضاعف في حملها

كخدوش الرمال الخشنة

الجراح تكبر

التدمير

أنا أرفض التدمير

لكنه وقع

مثل الجرة التي تتكسر

ويخرج منها الداخل / الخارج

الجسد يتكور / يتكلس

كالحجر

في الغرفة افقد السيطرة على الأشياء

تخرج عن ارادتي

مثل الرمان حينما ينفلق

وتتبعثر حباته

اتضور جوعاً

من مضاعفة الحرمان

أطير / خفافيش مرعوبة

الشباب

أجنحته تسقط في العتمة

***

......................

* الشاعرة اليونانية كاترينا اكليكي Κατερινα Αγγελακη / 1939 - 2020 ) شاعرة معروفة بشكل واسع في الاوساط الثقافية والأدبية، على صعيد المحلي والعالمي، وحصلت على جوائز ادبية كثيرة في تجربتها الشعرية  على صعيد المحلي والعالمي.

ترجمهما عن الألمانية والبرتغالية جميل حسين الساعدي

من الشعر الألمانــي

مقابر الأمـــــــــراء

كريستيان فريدريك دانيال (1)

***

هنـــا قــدْ حلَّ أهــلُ الكبريـــــاءِ

مِن الأمــراءِ في هــذا العــــراءِ

*

نعوشــاً ضمّــها قبــرٌ وكانــــوا

هــمُ الأصنــام في دنيا الريـــاءِ

*

شُعـــاعاً مُفزعــأً ألقـى عليــــهِ

نهــــارٌ شاحبٌ واهــي الضياءِ

**

فها هُمْ هامــــدونَ هنــا رقــودٌ

زبانيــــةُ الأنـــامِ كما الحديـــدُ

*

فمـــا يبكــي لفقدهــمُ مُحـــــبٌّ

ولا يرثيهـــمُ حُزنــاً مُــــــريدُ

*

فُرادى في قبورٍ مـــن صخورٍ

وذلٍّ فـــاقَ مــا ذاقَ العبيـــــدُ

**

وجدرانٍ كجــدرانِ السجـــونِ

تطوّقهـــمْ وذا حكــمُ المنـــونِ

*

عتــــاةٌ لـمْ يحسّوا أو يخافــوا

وعيدَ الدينِ ينذرُ فــي يقيــــنِ

*

لقدْ حسبـوا كرامَ النــاسِ بُهْماً

تُســــخّرُ للمصالحِ كًــلَّ حِيـنِ

**

جماجمُ قد عجزنَ عنِ الجوابِ

ذوتْ نظراتُهــا تحتَ التــرابِ

*

هنــا انظفأتْ وكانتْ في تعالٍ

تلّوحُ بالوعيــــدِ وبالعقـــــابِ

*

لِمنْ هوَ دونها وتشيعُ رعبـــاً

بإيماءاتهــا مِنْ كـلِّ بـــــــابِ

*

فإيماءاتُها للنــاسِ تعنـــــــــي

حياةً أو مماتــــاً فـي عـــذابِ

**

وثمّـةَ في الترابِ يدٌ لواها ألْـ

تعفّــــنُ فانحنتْ نحــوَ العظامِ

*

وكمْ مِنْ قبلُ قدْ آذتْ حكيمـــاً

إلى العرشِ اشتكى ظلمَ الطغامِ

*

ببضعةِ أحرفٍ خُطّـتْ رمتــهُ

بأغلالٍ غـــــلاظٍ فــي الظلامِ

**

وصدرٌ قد تحوّلَ ساقَ ميْـتٍ

وكــانَ يلفّـــهُ ثوبٌ مُـذهّـــبْ

*

عليهِ نجمــــةٌ قــدْ زيّنتـــــــهُ

ونيشـانٌ علـى دنــس ٍمُركّبْ

*

كأنّهمـــا إذا لاحــــا لعيـــــنٍ

من اللمعـانِ أشبهَ بالمُـذنّبْ (1)

***

..........................

(1) كريستيان فريدريك دانيال شوبرت شاعر وعازف ومؤلف موسيقي وصحفي ألماني، ولد في. 24.03.1739 في أوبرسونتهايم وتوفي في 10.10.1791 في شتوتغارت عن عمر يناهز الثانية والخمسين، ويعتبر احد الاسماء المهمة في الحركة الادبية المسمّاة ب( العاصفة والإندفاع)، التي بدا كل من غوتة وشيللر نشاطه الأدبي فيها، وأهم ما تدعو إليه هذه الحركة هو العودة إلى الطبيعة بدلا من الحضارة، والأصالة بدلا من التقليد، والدين بدلا من السخرية والعاطفة بدلا من العادات الرسمية . لم ينشر الشاعر في حياته سوى ثلاث قصائد وهذه واحدة منها، وقد أحدثت وقتها دويّا في الأوساط الثقافية والأدبيه، لما تضمّنته من نقدٍ لاذع للأمراء الذين يحكمون ألمانيا، وكان الشاعر شيللر يحملها معه أينما ذهب مكتوبة على قصاصات ورقية وقد ألهمته هذه القصيدة مضافا إليها أفكار عصر التنوير كتابة مسرحيته الشعرية الشهيرة (اللصوص)، التي جسّدت الرفض المطلق للسلطة المطلقة، والنزوع تحو الحرية ألإنسانية من الإضطهاد والظلم الإجتماعي.

وأحبّ أن أنوّه إلى أنّ القصيدة طويلة وقد وقع أختياري على هذه المقاطع التي أراها معبرة عن روح القصيدة ككل.

(1) المذنّب: هو جسم جليدي، حين يدخل في مجال جاذبية الشمس، تزداد حرارتهُ ممّا يسبب انصهار القطع الجليدية، فيصبح ذيلاً برّاقاً يزداد كلّما طولهُ اقتربَ من الشمس.

..................................

النص الألماني

Fürstengruft

Christian Friedrich Daniel Schubart

**

Da liegen sie, die stolzen Fürstentrümmer,

Ehmals die Götzen ihrer Welt!

Da liegen sie, vom fürchterlichen Schimmer

Des blassen Tags erhellt!

Sie liegen nun, den eisern schlaf zu schlafen,

Die Menschengeißeln, unbetraurt!

Im Felsengrab, verächtlicher als Sklaven,

In kerker eingemauert.

Sie, die im ehrnen busen niemals fühlten

Die schrecken der Religion

Und gottgeschaffene, beßre menschen hielten

Für Vieh, bestimmt zur Fron;

Da liegen Schädel mit verloschnen Blicken,

Die ehmals hoch herabgedrot,

der Menschheit Schrecken!- Denn an ihrem nicken

Hing Leben oder Tod.

Nun ist die Hand herabgefault zum Knochen,

Die oft mit kaltem Federzug

Den Weisen, der am Thron zu laut gesprochen,

In harte Fesseln schlug.

Zum Totenbein ist nun die Brust geworden,

Einst eingehüllt in Goldgewand,

Daran ein Stern und ein entweihter Orden

Wie zween Kometen stand.

.......................

من الشعر البرتغالي

قواعد لمن يريدون أن يعيشوا بســــــــلام *

Dom João Manuel

***

اسمعْ وانظرْ واصمتْ

كيما تعيش بدون قلق

عليك أن تغلقَ بابك

وتمتدح َجارك

لا تفعلْ كلَّ ما تستطيع

ولا تتحدثْ بكلّ ما تعرفـــه

ولا تحكمْ على كلّ ما تراه

وإياكَ أن تصدّق كلّ ما تسمعه

إذا كنت تريد أن تعيش في سلام

فعليك أن تراعي ستة أشياء:

عندما تتحدث ، كنْ حذراً

مع من تتحدث وأين ومتى

لا تثقْ أبدا ، بل كنْ صادقا مع نفسك

لا تحاولْ الإساءة إلى أيّ شخص

ولا تمكثْ طويلا في السوق

لا تضحكْ على من يمرّ بجانبك

فكلّ الذي ترتديه هو لك

لا تسبّ فاعلي السوء

لا تجلسْ على جحش

لا تتباهَ بزوجتك

ولا تكنْ محتالا ً ايضا

لا تجادلْ بدون سبب

فيوما ما سيبيّض شعرك

وفكاك يبقيان سليمين

***

...........................

النص البرتغالي

Regras para quem quiser viver em paz

Ouve, vê e cala,

e viverás vida folgada.

Tua porta cerrarás,

Teu vizinho louvarás,

quanto podes não farás,

quanto sabes nã dirás,

quanto vês não julgarás,

quanto ouves ná crerás,

se queres viver em paz.

Seis coisas sempre vê,

Quando falares te mando:

De que falas, onde e quê,

e a quem, como e quando.

Nunca fies nem perfies,

Nem a outro injuries,

Não estejas muito na praça,

Nem te rias de quem passa,

Seja teu tudo o que vestes;

a ribaldos nã doestes,

não cavalgarás em potro,

nem tua mulher gabes a outro;

nã cures de ser picão,

nem travar contra razão.

Assim lograrás tuas cãs

Com tuas queixadas sãs.

***

Dom joão Manuel

.......................

* يعود تأريخ كتابة هذه القصيدة الى القرن السادس عشر وتنسب الى كاتب وشاعر ودبلوماسي برتغالي Dom João Manuel

في نصوص اليوم