
بقلم: سالي روني
ترجمة: د. صالح الرزوق
***
وقف ناثان قرب شجرة عيد الميلاد الفضية في صالة القادمين من مطار دبلن، ويداه في جيبيه. كان المدرج الجديد مضاء ونظيفا، ويحوي عدة سلالم متحركة. كنت للتو قد نظفت أسناني بالفرشاة في حمام المطار. حاولت حمل حقيبتي الدميمة على نحو مضحك. وعندما رآني ناثان سألني: ما هذا، حقيبة تبعث على الضحك؟.
قلت: تبدو بحالة طيبة.
أخذ الحقيبة من يدي. وقال: آمل أن لا يعتقد الناس أنني أحملها لأنها لي.
كان ما يزال بثياب العمل، بذة بحارة نظيفة جدا. ولا يمكن لأحد أن يعتقد أن البذة له. هذا واضح. وكنت أرتدي جوارب نسائية طويلة مثقوبة فوق أحد الركبتين، ولم أغسل شعري منذ غادرت بوسطن.
قلت: تبدو بحالة طيبة لدرجة غير معقولة. مظهرك أفضل من المرة الماضية التي رأيتك بها. توقعت أنني أتدهور. مع العمر. لكن شكلك جيد. ولا زلت شابا. كيف تتصرف، تمارس اليوغا أم ماذا؟.
قال: كنت أجري. وركنت السيارة هنا بالجوار.
في الخارج كانت الحرارة تحت الصفر، وتشكلت طبقة رقيقة من الجليد على زوايا لوح الزجاج الأمامي لسيارة ناثان. فاحت من داخل سيارته رائحة معطر الهواء، مع ماركة عطر الحلاقة التي يستعملها وهي “إيفينتس”. لم أكن أعرف اسم عطر الحلاقة ولكن عرفت شكل الزجاجة. كنت أراها أحيانا في الصيدليات وحين يكون يومي سيئا أفتح السدادة.
قلت: أشعر فيزيائيا أن شعري غير نظيف. ليس غير مغسول فقط ولكن متسخ عمليا.
أغلق ناثان الباب، ووضع المفاتيح في بادئ الحركة. اشتعلت اللوحة بألوان اسكندنافية لطيفة.
قال: ليس لديك أخبار خاصة لتخبريني بها شخصيا. أليس كذلك؟.
وهل يفعل الناس ذلك؟.
هل ليك شيء من قبيل التاتو السري أو ما شابه؟.
قلت له: لو لدي لكنت أرسلتها كمرفقات بصيغة JPEG. صدقني.
كان يقود إلى الخلف ليخرج من باحة موقف السيارات، باتجاه الزقاق المرتب المضاء الذي يفضي إلى المخرج. وضعت قدمي على المقعد الأمامي، ليمكنني حضن ركبتي ولمس صدري بهما بصعوبة.
ثم قلت له: لماذا تسأل؟. هل جد جديد؟.
نعم. نعم. لدي صديقة الآن.
أدرت وجهي لمواجهته ببطء شديد، درجة بعد درجة. كما لو أنني شخصية في فيلم رعب بطيء.
قلت: ماذا؟.
قال: في الحقيقة سنتزوج. وهي حامل.
ثم أدرت وجهي كما كان بالسابق لأحدق في الزجاج الأمامي. طاف لون المكابح الأحمر الأمامي في السيارة على الجليد مثل فعل الذاكرة.
قلت: حسنا. هذا شيء طريف. نكاتك مرحة دائما.
قال: ولكن يمكن أن يكون لي صديقة. نظريا.
سألته: عن ماذا سوف نضحك إذا معا فيما بعد؟.
نظر لي بينما الحاجز يرتفع من أجل سيارة أمامنا.
قال: هل هذا هو المعطف الذي اشتريته لك؟.
نعم. أرتديه ليذكرني أنك شخص حقيقي.
فتح ناثان نافذته، ووضع تذكرة في الآلة. من نافذة ناثان جاء هواء الليل اللذيذ والجليدي. نظر نحوي مجددا بعد أن أغلقها.
قال: أنا سعيد برؤيتك لأنني أعاني من مصاعب لو تكلمت بلهجتي الطبيعية.
هذا شيء جيد. كنت أتخيلك طيلة الوقت وأنا على متن الطائرة.
أتشوق كي تروي لي ذلك وأسمعه منك. هل تودين أن نشتري طعامنا ونحن في الطريق إلى البيت؟.
لم أخطط للعودة إلى دبلن في عيد الميلاد، ولكن والدي فرانك كان تحت العلاج من اللوكيميا في ذلك الوقت. وقد توفيت أمي من مضاعفات الولادة ولم يعاود فرانك الزواج، ولذلك، والكلام شرعا، كان هو عائلتي الوحيدة الحقيقية. وقد وضحت في إيميلي بعنوان “عطلات سعيدة” والذي أرسلته إلى زملاء الصف المستجدين في بوسطن أنه يموت الآن.
عانى فرانك من الوصفات الطبية. في طفولته كنت مرارا ما أمكث برعاية صديقاته، وكن لا يمنحنني محبتهن، ويهملونني، ولذلك أنطوي على نفسي وأقضم مثل النيص. كنا نعيش في المنطقة الوسطى، وعندما انتقلت إلى دبلن للدراسة في الجامعة، كان فرانك يخابرني، ويكلمني عن والدتي الراحلة. وأخبرني أنها ليست “قديسة”. ثم بدأ يطلب اقتراض بعض النقود. وفي السنة الجامعية الثانية لم يتبق معي مدخرات ولم يعد بمقدوري دفع الإيجار، فبحثت عائلة الوالدة على من يمكنني أن أعيش معه ريثما أنتهي من الامتحانات.
كانت أخت ناثان الأكبر متزوجة من أحد أعمامي، ولذلك انتقلت لأعيش معه. وكنت حينها بالتاسعة عشرة. كان هو يبلغ أربعا وثلاثين سنة ولديه شقة بغرفتي نوم جميلتين، ويعيش بمفرده، والشقة مجهزة بمطبخ مطعم بالغرانيت. وفي تلك الفترة بدأ يعمل مع “برامج سوفت وير مسلكية”، وهو عمل له علاقة بمشاعر وتصرفات الزبون. وأخبرني ناثان أن واجبه يتلخص بتحريك شعور الناس بالأشياء: ليشتروا أشياء سيحين دورها لاحقا. وجاء الوقت الذي اشترت غوغل فيه الشركة. والآن يربح الجميع رواتب مجزية ويعملون في بناء تحتوي حماماته على مجففات يدوية عالية الثمن.
ارتاح ناثان لحياتي معه: ولم يطرأ شيء غريب عليه. كان نظيفا، ولا يثير المشاعر الجنسية. وكان طاهيا جيدا. ونشأ لدى كل واحد فينا اهتمام بالآخر. وكنت أقف معه كلما واجه خلافا حقيقيا في مكتبه، واشترى لي أشياء كنت أراها في نوافذ المتاجر وتعجبني. وكان المفروض أن أنتظر معه حتى نهاية الامتحانات في الصيف الماضي. ثم انتهى الأمر أن أبقى برفقته تقريبا ثلاث سنوات. عشق زملائي في الجامعة ناثان، ولم يفهموا لماذا ينفق كل هذه النقود علي. أنا تفهمت الموضوع كما أظن. ولكن لم أتمكن من توضيحه. أما أصدقاؤه على ما يبدو افترضوا وجود نوع من الترتيبات الشائنة، لذلك حينما يغادر الغرفة يتبادلون الغمزات.
قلت له: يعتقدون أنك تدفع لي لقاء شيء ما.
شجع ذلك ناثان على الضحك.
قال: ولكنني في الحقيقة لا أجني شيئا يعادل بقيمته ما أنفقه عليك من نقود. أليس كذلك؟. حتى أنك لا تغسلين ثيابك اللعينة.
في عطلة الأسبوع شاهدنا “القمتان التوأم” ودخنا الحشيش معا في غرفة معيشته، وعندما تأخر الوقت طلب طعاما لا يمكن لأي منا أن يأكله كله. في إحدى الليالي أخبرني أنه يستطيع تذكر يوم تعميدي. وقال إنهم قدموا الكيك. وكان فوقه ولد صغير من القشدة. وأخبرني أنه طفل ظريف.
قلت: أظرف مني؟.
حسنا. نعم. أنت لست أظرف منه.
دفع ناثان نفقات سفري بالطائرة من بوسطن إلى البيت. وكل ما توجب علي أن أستفسر. في الصباح التالي بعد الحمام وقفت وشعري ينقط على السجادة في الحمام. وتفحصت مواعيد الزيارة المدونة في هاتفي. كان فرانك قد أصبح في مستشفى دبلن للعلاج الداخلي من عدوى ثانوية أصابته خلال العلاج الكيميائي. كان عليه تلقي المضادات الحيوية في السيروم. بالتدريج في الحمام، وحينما كان البخار الحار يتلاشى، تغطي جسمي طبقة رقيقة من البثور الجلدية. وعلى المرآة اتضح انعكاس صورتي وأصبح رقيقا حتى أمكنني رؤية مسامي. في أيام الأسبوع كانت ساعات الزيارة من 6 حتى 8 مساء. وبما أنه تم تشخيص حالة فرانك قبل ثماني أسابيع، أنفقت ما توفر لي من وقت بالاطلاع على معلومات في الموسوعة عن سرطان الدم الليمفاوي المزمن. ولم يبق تقريبا شيء لم أطلع عليه. تجاوزت المنشورات المطبوعة من أجل المرضى، ووصلت إلى النصوص الطبية المعمقة، واتصلت بحلقة حوار عن السرطان في الإنترنت، وقرأت pdf المقالات المحكمة. ولكن لم أتوهم أنني ابنة طيبة، أو أنني أقوم بذلك كرمى لفرانك. كنت بطبعي أنكب على المجلدات الضخمة التي تقدم المعلومات في وقت الأزمة. كما لو أنني أتأقلم مع المشاكل وأسيطر عليها بالثقافة. وبهذه الطريقة علمت كيف أنه من غير المحتمل لفرانك أن يعيش. ولم يكن مستعدا ليخبرني بذلك. رافقني ناثان بالتسوق لأجل عيد الميلاد بعد الظهيرة، قبل زيارة المستشفى. زررت معطفي ووضعت قبعة فرو كبيرة لأبدو غامضة من خلال واجهات المتاجر. كان صديقي الأخير، والذي التقيت به في جامعة بوسطن، يقول عني “الصلبة”. ولكنه أضاف: “لا أقصد ذلك بالمعنى الجنسي”. ولكنني جنسيا، كما أخبرت صديقاتي، دافئة جدا ومعطاءة. أما الصلابة فتأتي في السياق المعاكس بالضبط.
ضحكوا، ولكن على ماذا؟. كانت هذه هي نكتتي، ولذلك لم يمكنني أن أستفسر منهن.
كان لقرب ناثان الفيزيائي مني تأثير معوق. وكلما انتقلنا من متجر إلى آخر، يمر الوقت من جانبنا مثل المتزلج على الجليد. لم يسبق لي أن زرت مريضا بالسرطان من قبل. عولجت أم ناثان من سرطان الثدي في وقت ما من التسعينات. وكنت شابة وصغيرة جدا ولا يسعني أن أتذكر التفاصيل. وهي الآن معافاة، وتلعب الغولف كثيرا. وكلما قابلتها، تخبرني أنني تفاحة بعين ابنها. وتستعمل تلك المفردات بالذات. وكررت تلك العبارة، ربما لأنها بدون معنى شرير. ولعل هذا ينطبق علي لو أنني صديقة ناثان المقربة، أو ابنته. واعتقدت أنه بوسعي أن أحتل مكاني في طيف يبدأ بصديقة وينتهي بابنة. ولكن سمعت ناثان في إحدى المناسبات يعرفني بصفة ابنة خاله، وهي طريقة استبعاد أمقتها.
ذهبنا من أجل غداء في شارع سوفولك، ووضعنا الحقائب الفخمة بما فيها من مشتريات تحت الطاولة. سمح لي أن أطلب النبيذ الفوار وأغلى وجبة رئيسية لديهم.
سألته: هل ستتفجع علي حال موتي؟.
لا يمكنني سماع كلمة مما تقولين. امضغي طعامك.
امتثلت له وابتلعته. راقبني في البداية ثم صرف نظره. قلت له: هل ستكون فاجعة كبيرة إذا مت؟.
أكبر مأساة يمكنني التفكير بها. نعم.
لن يحزن غيره.
قال: الكثيرون سوف يحزنون. أليس لديك زملاء دراسة؟.
منحني اهتمامه الآن، ولذلك قضمت لقمة أخرى من شريحة اللحم وابتلعتها قبل أن أتابع.
قلت: أنت تتكلم عن صدمة. ولكنني أقصد فاجعة.
وماذا عن صديقك السابق الذي أمقته؟.
دينيس؟. ربما سيعجبه أن أموت.
قال ناثان: حسنا. هذا موضوع آخر.
أنا أتكلم عن فاجعة كاملة. معظم من يبلغ أربعا وعشرين عاما يتركون وراءهم الكثير من المعزين، وهذا كل ما أقوله. ولكن في حالتي لا يوجد غيرك.
يبدو أنه فكر بذلك وأنا مشغولة بشريحة اللحم.
لست مرتاحا لهذا الكلام بيننا وإلحاحك على أن أتخيل موتك.
ولكن لماذا؟.
كيف سيكون شعورك إذا مت؟.
قلت: أردت أن أعلم أنك تحبني.
حرك بعض السلطة في طبقه بأدوات طعامه. كان يستعمل أدوات طعامه مثل البالغين، ولم يرمقني بنظرة ليتأكد إذا كنت معجبة بأسلوبه. ولكنني دائما أرمقه بنظرات نفاذة.
قلت: هل تتذكر ليلة رأس السنة قبل سنتين؟.
لا.
لا بأس. أيام وقفة العيد رومنسية جدا.
ضحك لذلك. كنت ماهرة بإضحاكه حتى لو أنه لا يرغب بالضحك.
قال: تناولي طعامك يا سوكي.
سألته: هل بوسعك أن تقودني إلى المستشفى في السادسة.
نظر ناثان لي كما لو أنه يوحي أنه مستعد للأمر. كان الواحد منا يتوقع الآخر. مثل نصفين في دماغ واحد. أمام واجهة المطعم بدأ سقوط البرد، وتحت ضوء الشارع البرتقالي ظهرت رقاقات الثلج كأنها علامات ترقيم.
قال: بالتأكيد. هل تريدين مني أن أدخل معك؟.
كلا. سوف ينفر من حضورك بكل الأحوال.
لست مهتما به. ولكن لا بأس.
في السنوات الأخيرة، وهو تحت قبضة أدوية تتضمن الأفيون، كانت حالة فرانك الذهنية غير مستقرة، وتماسكه متذبذب كما يمكنك القول. وأحيانا كان يستعيد نفسه على الهاتف: فيتشكى من تذاكر مواقف السيارات، أو أنه يسمي ناثان بأسماء ساخرة مثل “السيد راتب”. كانا يتبادلان البغضاء، وكنت أتوسط بين هذه الكراهية المتبادلة بطريقة جعلتني أبدو فيها أنثى ناجحة. في أوقات غيرها، كان يحل محل فرانك رجل آخر، شخص بلا ميزة وبريء بطريقة ما، ويكرر الأشياء بلا معنى ويترك فترات صمت طويلة أحاول ملأها. ولكنني كنت أفضل الأول، لأن لديه على الأقل أخلاق مرحة. قبل تشخيص اللوكيميا، كنت أمزح وأصف فرانك ب “الأب المستبد” كلما حان وقت الموضوع في حفلات الجامعة. وينتابني الإحساس بالذنب قليلا الآن. كان غير متوقع، ولكنني لم أكن أرهب جانبه، ومحاولاته في التلاعب، مع أنها ثقيلة، لم تؤثر بي. لم أكن مكشوفة له. وعاطفيا، كنت أنظر لنفسي مثل كرة ناعمة ولكن صلدة. لم يمكنه شرائي. وكنت أنأى بنفسي. وفي أثناء المكالمات الهاتفية، زعم ناثان أن التباعد استراتيجية أتبعها للتأقلم. كان التوقيت في بوسطن، حينما خابرته، الحادية عشرة ليلا. وهذا يعني أنه الرابعة صباحا في دبلن، ولكن ناثان يرد على الاتصال دوما.
قلت له: هل أبتعد عنك؟.
قال: كلا. لا أعتقد أنني أضغط عليك كثيرا.
آه. لا أعلم. هيا أخبرني هل أنت في السرير؟.
الآن؟. بالتأكيد. أين أنت؟.
كنت أيضا في السرير. وليست هذه أول مرة أتصل به من السرير، وضعت يدي بين ساقي، وتظاهر ناثان أنه لم ينتبه. قلت له: يعجبني صوتك. وبعد عدة ثوان من الصمت المطبق، أجاب: نعم. أعلم أنه يعجبك.
طيلة حياتنا المشتركة معا، لم يكن لديه صديقة، ولكنه يأتي أحيانا إلى البيت متأخرا، ويمكنني سماع صوته من وراء جدار غرفة نومي وهو يعاشر الامرأة الأخرى. ولو تصادف وقابلت المرأة في الصباح التالي، أتأملها خفية لأقرر إذا ما كان هناك أي تشابه فيزيائي بيننا.
بهذه الطريقة وجدت أن الجميع بمعنى من المعاني متشابهون. لم أشعر بالغيرة. وفي الحقيقة كنت متحمسة لهذه المواقف بالنيابة عنه. ولكن لست متأكدة تماما إذا كان يسعده ذلك كثيرا.
لعدة أسابيع متتالية الآن كنت أنا وناثان نتبادل الإيميلات عن تفاصيل رحلتي الجوية، وخططنا لعيد الميلاد، وإن كنت أتصل بفرانك. أرسلت تفاصيل قراءاتي، واقتبست من مقالات أكاديمية أو من مواقع مؤسسات السرطان. وذكرت المواقع أنه في اللوكيميا الوعائية تنضج الخلايا جزئيا ولكن ليس كليا. وتبدو هذه الخلايا طبيعية ولكنها ليست كذلك.
حينما وصلنا إلى أمام المستشفى في تلك الليلة، ذهب ناثان إلى موقف السيارات، فقلت: أنت انصرف. سأعود مشيا إلى البيت. نظر نحوي ويداه على المقود بالوضع المتأهب، كما لو أنه في امتحان القيادة، وأنا أفحصه. قلت له: اذهب. المشي ينفعني. أعاني من إرهاق الطيران.
نقر بأصابعه على المقود. وقال: حسنا. اتصلي بي إذا عاود المطر بالهطول. اتفقنا؟.
غادرت السيارة، وابتعد بها دون أن يلوح لي. شعرت بحب جارف ومستنفذ له، حتى أصبح من المستحيل أن أراه كما هو بوضوح. إذا ابتعد عن اتجاه نظري لأكثر من ثوان قليلة، لا يمكنني أن أتذكر شكل وجهه. قرأت أن صغار الحيوانات ترتبط بأشياء غير معقولة أحيانا، مثل الصقور حين تسقط بغرام مربيها، أو الباندا حين تتعلق بحارس حديقة الحيوانات، أشياء من هذا النوع. في إحدى المناسبات أرسلت إلى ناثان قائمة بمقالات عن هذه الظاهرة. أجابني: ربما تعين علي أن لا أحضر حفل تعميدك.
قبل عامين من الآن، حينما كنت بعمر سنتين، رافقته إلى حفلة عيد أول العام وعدنا إلى البيت بسيارة أجرة وكنا ثملين جدا. وحينها كنت أعيش معه، وأعمل على إنهاء درجتي الجامعية. وراء باب شقته، قبلتي ونحن نستند على جدار يحمل خطاف المعطف. انتابتني الحمى وشعرت بالغباء مثل إنسانة عطشانة وفجأة انسكب ماء غزير في فمها. ثم همس في أذني: ليس علينا أن نفعل هذا حقا. كان في الثامنة والثلاثين. وهكذا قضي الأمر. وذهب إلى السرير. لم نتبادل القبلات ثانية. حتى أنه نفى ذلك حينما تكلمت عن الموضوع بطرافة، وكانت هذه أول مرة لا يلتزم معي بالأصول والدماثة. قلت له بعد أسابيع: هل أخطأت بشيء معك؟. ولم تكمل ما بدأنا في تلك المرة. كان وجهي يحترق، وشعرت بالأمر. قطب وجهه. ولكنه لم يرغب بإيذائي. فقال: كلا. وانتهى الأمر. وهكذا.
كان للمستشفى باب دوار، وتفوح منه روائح المطهرات. ولونت المصابيح السجادة بلون رمادي، وكان الناس يثرثرون ويبتسمون، كما لو أنهم في صالون مسرح أو جامعة وليس بناء للمرضى والمحتضرين.
قلت لنفسي: يحاولون أن يكونوا شجعانا. ثم أضفت: وربما بعد قليل ستكون هذه هي الحياة. تبعت الإشارات إلى الطابق العلوي وسألت الممرضات عن غرفة فرانك دوهيرتي. قالت الممرضة الشقراء: لا بد أنك ابنته. سوكي. أليس كذلك؟. اسمي أماندا. بوسعك أن تتبعيني.
أمام غرفة فرانك، ساعدتني أماندا بارتداء مريول بلاستيكي حول وسطي، وربطت كمامة طبية ورقية خلف أذني. وقالت إن هذا لمصلحة فرانك وليس من أجلي. فجهاز مناعته أصبح ضعيفا ولكنني لست كذلك. طهرت يدي برشة كحول بارد ومرطب. ثم فتحت أماندا الباب. قالت له: ابنتك هنا. رأيت رجلا صغيرا يجلس على السرير بقدم مضمدة. كان بدون شعر وجمجمته مستديرة مثل كرة مسبح زهرية اللون. وكان فمه متورما. قلت: آه. حسنا. كيف الحال.
في البداية لم أعلم إذا تعرف علي، ولكن حينما ذكرت اسمي كرره عدة مرات. جلست. سألته هل جاء إخوته وأخواته لزيارته. لم يكن يبدو أنه يتذكر. وحرك إبهامه إلى الأمام والخلف قسرا، أولا باتجاه، ثم باتجاه آخر. وعلى ما يبدو أخذ ذلك اهتماما كبيرا منه، ولم أتأكد إن كان يصغى لي. قلت: بوسطن ممتازة. باردة جدا في هذا الوقت من السنة. آل شارلز كانوا متجمدين عندما غادرت. وشعرت كأنني أقدم عرضا إذاعيا عن الرحلات وذلك لجمهور غير مهتم. حرك إبهاميه إلى الخلف والأمام. ثم إلى الأمام والخلف. قلت: فرانك؟. دمدم بشيء، وفكرت: حسنا. حتى القطط تعرف أسماءها.
قلت: كيف تشعر؟.
لم يرد على السؤال. هناك جهاز تلفزيون مثبت على الجدار بمكان مرتفع.
قلت: هل تشاهد التلفزيون في النهار لأوقات طويلة.
وتوقعت أن لا يرد، ولكنه من حيث لا أدري قال: الأخبار.
قلت له: تتابع الأخبار؟.
لم يتأثر.
قال فرانك: أنت مثل أمك.
حدقت به. وشعرت أنني أبرد أو ربما أسخن. شيء غير مفيد طرأ على حرارتي.
ما المعنى؟.
قال فرانك: لديك فكرة أي نوع من الناس أنت. أليس كذلك؟. كل شيء عندك تحت السيطرة. زبونة جيدة. حسنا. سنرى مدى تماسكك وبرودك حين تتركين وحدك. إممم؟. ستكونين هادئة جدا على الأرجح.
كان يبدو أن فرانك يخاطب بكلامه الإبرة المغروسة في عروق جسمه الخارجية من ذراعه الأيسر. وكان يتابع بلامبالاة مميتة وهو يتكلم. وانتبهت لارتعاش صوتي مثل مشاركة سيئة في كورال.
قلت: ولماذا يجب أن أبقى وحدي.
قال: لأنه سينصرف وسيتزوج.
من الواضح أن فرانك لم يتعرف علي. وأدركت ذلك، فتراخيت قليلا، ومسحت طرفي عيني بالقناع الورقي. كنت تقريبا أبكي. ربما كنا غريبين نتكلم عما إذا كانت ستثلج أم لا؟.
قلت: ربما سأتزوجه.
ضحك فرانك على ذلك. تمثيلية بدون سياق واضح، ولكنه أمتعني بكل حال. كنت أحب أن أجني من كلامي ضحك الآخرين.
سيفقد الأمل. وفي النهاية سيجد إنسانة شابة.
أصغر مني؟.
حسنا. أنت تفهمين أليس كذلك؟.
ضحكت. منح فرانك أنبوب السيروم ابتسامة ودودة.
قال: ولكنك بنت مستقيمة مهما قالوا.
بهذه الهدنة الغامضة انتهى حوارنا. حاولت أن أكلمه أكثر، ولكن بدا أنه غير قادر على التواصل، أو أنه ضجر جدا. مكثت ساعة، مع أن وقت الزيارة ساعتان. وحين قلت إنني مغادرة، لم يلاحظ كلامي على ما يبدو غادرت الغرفة. وأغلقت الباب بحرص. وأخيرا تملصت من قناعي الورقي ومن المريول البلاستيكي. ضغطت على زر منفذ السائل المطهر حتى ابتلت يداي. كان باردا. ولدغني. دعكتهما حتى جفتا. وغادرت المستشفى. كانت تمطر في الخارج. ولكن لم أتصل بناثان. ومشيت كما لو أنني قررت ذلك، وغطيت بقبعتي المصنوعة من الفرو رأسي حتى أذني ووضعت يدي في جيبي. وأنا أقترب من تارا ستريت رأيت حشدا صغيرا يحيط بالجسر من جانبي الطريق. الوجوه وردية في الظلام وبعضهم يحمل المظلات. وفوقهم صالة ليبرتي ممدودة بشكل قوس يشبه الأطباق الصناعية. كانت تمطر بضباب رطب وغريب، وجاء قارب إنقاذ على طول النهر بأنوار مشتعلة. في البداية كان الزحام يبدو كأنه كتلة واحدة غامضة، وتساءلت هل يجري عرض باحتفال ما، ثم رأيت ما ينظر إليه الجميع: شيء يطفو على النهر. ولاحظت جوانبه والقماش التي يتسرب منه. وكان له حجم كائن بشري. ولم يعد للحشد إيحاء بتجمع أو احتفال. اقترب الزورق بشعلته البرتقالية التي تدور بصمت. ولم أقرر المغادرة. وتوقعت أنني لا أرغب برؤية جسم إنسان ميت، وهو يحمل من نهر ليفتي بقارب إنقاذ. ولكن انتظرت. وقفت بجوار زوج اثنين آسيويين، امرأة حسنة المظهر بمعطف أسود أنيق ورجل يتكلم بالهاتف. ظهرا لي زوجا رائعا، شخصين انجذبا إلى هذه الدراما ولكن ليس بسبب المتعة الرخيصة، وإنما بسبب التعاطف. وتحسن شعوري حيال وجودي هناك حينما انتبهت لهما.
وضع رجل من قارب الإنقاذ قضيبا بخطاف في الماء، بحثا عن أطراف الشيء. ثم بدأ يجره. خيم علينا الصمت: وحتى أن الرجل صمت عن مكالمته بالهاتف. وظهرت قطعة القماش بصمت مطبق، وخرجت مع الخطاف فارغة. ودبت الفوضى لدقيقة: هل تم تعرية الجسم من ثيابه؟. ثم أصبحت الصورة واضحة. القماش هو الشيء ذاته. وكان كيس نوم يطفو على وجه النهر. عاد الرجل إلى مكالمته بالهاتف. والمرأة ذات المعطف بدأت بتوجيه إشارة له عن شيء ما كأنك تقول: تذكر أن تسأل عن الوقت. وبعدئذ أصبح كل شيء طبيعيا وبسرعة.
ابتعد قارب الإنقاذ، وانتظرت وكوعاي على الجسر. وجهاز دورتي الدموية يعمل بشكل اعتيادي، وخلاياي تكبر وتموت بمعدل طبيعي. لا شيء في جسمي يحاول أن يقتلني. وطبعا كان الموت شيئا طبيعيا محتملا. وبمرحلة ما تيقنت من ذلك. ومع ذلك وقفت بانتظار رؤية الجثمان في النهر. متجاهلة الأحياء الذين تحلقوا حولي، كما لو أن الموت معجزة تتجاوز معجزة الحياة. كنت معتادة على البرد. وكان الجو أبرد مما يسمح بالتفكير بالأشياء القادمة. وحتى وقت عودتي إلى الشقة تخلل المطر معطفي، وفي الردهة رأيت قبعتي بالمرآة كأنها فأرماء قذر وقد يستيقظ بأي لحظة. تخليت عنها مع المعطف. قال ناثان من الداخل: سوكي.
رتبت شعري بشكل لائق. قال: كيف تم الأمر؟. دخلت. كان على الكنبة، وفي يده اليمنى ريموت التلفزيون.
قال: أنت مبتلة جدا. لماذا لم تتصلي بي؟.
لم أرد.
أضاف ناثان: هل من أمر سيء؟.
هززت رأسي. كان وجهي باردا، يلتهب بالبرد، وأحمر كإشارة مرور. ذهبت إلى غرفتي، وتخلصت من ثيابي المبتلة، وعلقتها. كانت ثقيلة، وتتمسك بشكل جسمي في ثنياتها. سرحت شعري وارتديت ردائي الفضفاض المطرز وشعرت بالنظافة والتماسك. فكرت: هذا ما تصنعه الكائنات البشرية بحياتها. أخذت نفسا عميقا للتماسك ثم غادرت إلى غرفة المعيشة. كان ناثان يشاهد التلفزيون، ولكنه ضغط على زر كاتم الصوت حينما رجعت. جلست على الكنبة بجانبه وأغلقت عيني وحينها مد يده ليلمس شعري. اعتدنا على مشاهدة التلفزيون هكذا، وهو يلمس شعري بهذه الطريقة تماما. دون انتباه. وكان شروده مريحا لي. بطريقة ما أردت أن أعيش فيه، كأنه مكان بحد ذاته، حيث لا يشعر أنني دخلت. وفكرت أن أقول: لا أريد العودة إلى بوسطن. وأريد أن أعيش معك هنا. ولكن قلت: شغل الصوت إذا كنت تشاهده، فأنا لا أمانع.
ضغط على الزر مجددا، وعاد الصوت، موسيقا صاخبة تلدغ السمع، وصوت أنثى تشهق. فكرت: جريمة وحينما فتحت عيني رأيت مشهدا جنسيا. وكانت على يديها وركبتيها والشخصية المذكرة وراءها.
قلت: أحبه هكذا. من الخلف. أقصد. بهذه الطريقة يمكنني أن أتخيل أنه أنت.
سعل ناثان، وأبعد يده عن شعري. ثم قال بعد ثانية: عموما أنا أغلق عيني. انتهى المشهد الجنسي. وأصبحا في صالة محكمة. سال لعاب فمي. وقلت له: هل يمكننا أن نتناكح؟. ولكن بجدية.
نعم. كنت أعلم أنك ستقولين ذلك.
هذا سيحسن شعوري كثيرا.
قال ناثان: يا للمسيح.
ثم مال للصمت. وكنا متأهبين لمتابعة حوارنا. لكنني بردت. ويمكنني الإحساس بذلك. لمس ناثان كاحلي، وبدأت أهتم بدون تركيز بحبكة الدراما التلفزيونية.
قال ناثان: هذه ليست فكرة حسنة.
لماذا؟. أنت تحبني أليس كذلك؟.
على نحو شرير.
قلت له: ولكنه طلب منة صغيرة واحدة.
كلا. دفع نفقات عودتك بالطيارة كان منة صغيرة. ولن نتجادل حول هذا. فهي ليست فكرة جيدة.
في السرير في تلك الليلة سألته: متى سوف نعلم إن كان هذا فكرة سيئة أم لا؟. ثم هل علينا أن نعلم؟. كل شيء يبدو حاليا على ما يرام.
قال: كلا. الوقت مبكر جدا. وأعتقد أنه حينما تعودين إلى بوسطن سيكون لدينا وجهة نظر أخرى.
لن أعود إلى بوسطن. لكن لم أقلها. هذه الحوارات قد تبدو طبيعية. ولكنها ليست كذلك.
***
......................
سالي روني Sally Rooney روائية معاصرة من إيرلندا. أحدث أعمالها رواية صدرت عام 2024 بعنوان “الاستراحة بين الفصلين”.