ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

بقلم: كاترينا أنغيليكي روك

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

الجسد هو انتصار الأحلام

حينما ينهض بلا حياء كالماء

علامات ووخزات إغفاءته،

وندوبه إشارات نائمة

وبساتين زيتونه المظلمة

والعاشقة،

باردة الملمس في اليد.

الجسد أيضا هو هزيمة الأحلام

الطويلة والفارغة

(إذا رفعت صوتك تسمع صداه)

بشعره الناعم المنهك

مكروه مع مرور الوقت

و جريح، ينوح

ويبغض حركته

ولونه الأسود الأصلي

يبهت باستمرار

وعندما يستيقظ يقفل حقيبته

بانتظار أن يفجعه الألم لساعات طويلة

في المقابر.

الجسد هو انتصار الأحلام

حينما يضع قدمه أمام

الثانية

ليكسب أرضا ما.

موضعا.

خطوة ثقيلة.

يتبعها موت.

وحينما يفوز الجسد بموضع

في ساحة المدينة

بعد الموت

مثل ذئب يعوي بخطم

محروق قائلا "أنا أريده"

"ولا يمكنني تحمله"

"وأهددكم - بالعصيان والثورة".

"فابني جائع".

الجسد يلد العدالة

والدفاع عنه.

الجسد يصنع الزهرة

ويلفظ حفرة الموت

التي تدحرج فيها، ويهرب

ويدور دون حراك حول

مصرف الماء

(فهذه دورة العالم)

وفي الأحلام يزهو الجسد بانتصاراته

أو يكتشف نفسه عاريا في الشوارع

وهو بألم مبرح،

ويفقد أسنانه

ويرتجف من الحب

ثم يشق أرضه

كأنها بطيخة حمراء

وهكذا ينتهي.

***

.....................

* ترجمها عن اليونانية كارين فان دايك

* كاترينا أنغيليكي روك  -  Katerina Anghelaki-Rooke : شاعرة يونانية معاصرة. توفيت عام 2020 عن عمر يناهز 80 عاما. من أهم أعمالها المترجمة إلى الإنكليزية: كائنات وأشياء وحدها 1986، من البنفسجي إلى الليل 1998, الترجمة إلى حب نهاية الحياة 2004، أوراق بنيلوبي المبعثرة 2009، قصائد مختارة 2019.

قصة قصيرة
بقلم: مود نيوتن
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

تستلقي أمي في سرير المستشفى، نظيفة تمامًا وغارقة في النوم. شعرها قصير وناعم، رمادي مشع يتباين مع بشرتها في ضوء هذا الصباح الغائم. لسنوات، كنت أراها—في المناسبات النادرة التي كنت أراها فيها—فقط وهي ترتدي شعرًا مستعارًا بلون العسل الأشقر. على حد علمي، كانت ترتديه في كل مكان: إلى متجر البقالة ومتاجر السلع المستعملة، لتعليم الأطفال في مدرسة الأحد، ولتوزيع الكتيبات الدينية في الحديقة، وللجلوس بصبر شديد على طاولتها، أو في الغرفة التي تحتوي على الأرائك التي لا تُستخدم إلا مرة أو مرتين في السنة للضيوف. فقط الآن أدرك كم كان هذا اللون النحاسي غير مناسب لها.
خلال الليل، اعتدت على صوت الفنتيلاتور الهامس، وأصوات أجهزة المراقبة، وعربات التمريض التي تصطدم في الممرات، لكن مع تلاشي تأثير الأدوية، بدأت هذه الضوضاء تزعج أمي. حتى رائحة المطهر الحمضية الناتجة عن تنظيف الممر بدت وكأنها تثير اضطرابها أيضًا. بين الحين والآخر، تحاول أن تصل إلى الإبرة الوريدية، أو تشدّ ثوب المستشفى إلى أعلى، أو تغوص أكثر في الوسائد الداعمة، فتندفع الممرضة إلى الداخل.
بينما تخرج أمي ببطء من الغيبوبة الطبية، يسبق القلق استيعابها للواقع. من حين لآخر، تدرس ملامح وجهي بعينيها الرماديتين الجادتين، وكأنها غير متأكدة مما إذا كانت تعرفني أم لا. مرة، عندما ضغطت على يدها، ردت بضغطة خفيفة. علامة جيدة. لكنها في معظم الوقت تغفو. كنت أمسك يدها وأتحدث إليها بهدوء، حتى لا يضطروا إلى استخدام القيود.
الجراح، رجل صغير ولطيف في مثل سني—في منتصف الخمسينيات تقريبًا—يدخل بخفة لفحص المؤشرات الحيوية لأمي، يتحسس نبضها، يسلط ضوءًا في كل من عينيها، ويضغط على يدها ليتأكد من استجابتها. والآن بعد أن استيقظت، تبقي أمي نظرها مثبتًا عليه. يسألها إن كانت تشعر بالبرد، فتومئ برأسها. إنها تومئ! يسحب بطانية من الخزانة ويمدها فوقها. "أفضل؟" يسألها، فتومئ مرة أخرى وسرعان ما تعود إلى النوم. ثم يقف إلى جانب السرير مبتسمًا، ينظر إليّ فوق نظارته الطبية.
يشرح لي أن مجرد بقائها على قيد الحياة هو معجزة. أفترض أنه يعني ذلك بالمعنى الدارج، وليس الروحي، وأحاول ألا أعبس. قبل أن يجري العملية في وقت مبكر من الأمس، أخبر زوج أمي أن الاحتمالات كانت ضئيلة بالنسبة لامرأة تبلغ من العمر أربعة وثمانين عامًا ولها تاريخ من السكتات الدماغية مثل أمي، لكن بدون الجراحة، كان مصيرها الموت. وكما اتضح، فإن أقل من واحد من كل مئة شخص يعانون من جلطة دموية متقدمة في الشريان الدماغي الرئيسي ينجون من العملية التي أجرتها. ربما أربعة من كل ألف.
يؤكد الجراح أن الهرمونات التي كانت تتناولها زادت من خطر تعرضها لحالة كهذه. يقول:
- أنا مندهش من صلابتها.
- أنا متأكدة أن مهارتك كانت العامل الأهم.
أعترف بقوة تحمل أمي الأسطورية، وأروي له بإيجاز معاناتها مع السكتات الدماغية، وكسر الورك، وسنواتها الطويلة كأم عزباء بلا مال، وحتى المرة التي رفعت فيها سقيفة متهالكة مليئة بالأدوات لإنقاذ أحد كلابها خلال عاصفة. ومع ذلك، كنا جميعًا مستعدين لموتها بالأمس بمجرد أن أوضحوا لنا الاحتمالات.
أعلم أنه عندما تفهم ما حدث لها، إذا فعلت، فستعتبر نجاتها دليلاً على نعمة الله وحمايته، وإشارة إلى أنها كانت ستموت لولا إيمانها. يقول الجراح إننا سنعرف المزيد عن تعافيها خلال الأيام والأسابيع القادمة، لكنه متفائل. إذا سارت الأمور على ما يرام، فقد يزيلون جهاز التنفس في أقرب وقت غدًا.
انهارت أمي في ساعات الفجر الأولى بالأمس، شعرت بالدوار أثناء جلوسها على المرحاض، وأغمي عليها عندما حاولت الوقوف، ولم تستعد وعيها قبل أن يتصل زوجها بسيارة الإسعاف. قال لي زوجها، عندما اتصل بي في طريقه إلى المستشفى، إن تنفسها توقف في البداية، وكذلك قلبها، لكن كلاهما عاد للعمل عندما جرّها إلى السرير، بينما كان خزان الأكسجين الخاص به ينزلق خلفه على عربته.
حجزت تذكرة سفر من نيوارك، جمعت بعض الأغراض في حقيبة، استأجرت سيارة من كوينز، وانطلقت في الوقت المحدد بين عواصف بعد الظهر. كان من المفترض أن أؤدي في حفلة خاصة الليلة الماضية، لكن لحسن الحظ، وافق المنظم على خصم حصتي من الأجر وجعل كالب—زوجي وزميلي في الفرقة—يقدم العرض بدوني. لم يكن الدخل الجيد متاحًا في السنوات القليلة الماضية، وكنت أعتمد على ذلك المبلغ، خمسة آلاف دولار، لكن لا يزال هناك بعض الرصيد المتبقي في البطاقة الائتمانية، وكالب سيتمكن من تغطية قسط الرهن العقاري من حصته، وعلى الأقل لن أكون في حالة خرق للعقد.
حتى رحلة الطيران المتأخرة من أتلانتا سارت دون مشاكل، وهذا بحد ذاته معجزة. هبطت الطائرة وسط الجبال التي عشت فيها خلال سنوات مراهقتي قبل منتصف الليل بقليل. بينما تظل القمم المحيطة دائمًا خصبة ومغمورة بالضباب، مغطاة بأشجار التنوب والراتنج والطحالب وكأنها جزء من حلم، لطالما اعتبرت مدينة آشفيل نفسها جافة إلى حد ما، متذكرة نزيف الأنف الذي عانيت منه في الشتاء خلال طفولتي. كنت قد نسيت هذه الأشهر الصيفية الماطرة.
هبطنا وسط رطوبة كثيفة كانت تتصاعد فوق المدرج بشكل مرئي. ازداد الضباب كثافة خلال الدقائق الاثنتي عشرة التي استغرقتها للنزول من الطائرة وسحب حقيبتي من الحزام الناقل.
أما في الخارج، فكان الجو حارًا ورطبًا كأنك تقف بجانب مخرج مجفف الملابس بعد أن بدأت لتوك غسلة جديدة. كان طفلي، هيكوري، مليئًا بالطاقة رغم يوم طويل من العمل البحثي في الغابات، ينتظر في السيارة القديمة من نوع بريوس ومعه شطيرة وفاكهة وثرموس من الشاي الأخضر لي. "عيون لامعة وذيل كثيف"، كانت أمي ستقول. كانت السيارة تفوح برائحة الأرض والشعر المغسول حديثًا عندما احتضنته. لا يعرف والداي أن هيكوري انتقل للعيش هنا العام الماضي ويسكن إلى الشرق من المدينة، حيث يدرس البيولوجيا الحفظية في الكلية الصغيرة للفنون الحرة في سوانا نوآ. لا يستخدمان الاسم الذي اختاره هيكوري في بداية دراسته للدراسات العليا تكريمًا للعالم الطبيعي في جبال بلو ريدج. "وكيف حال أليكسيس؟" كانت أمي تواصل السؤال. "كيف حالها؟" أحيانًا أعتقد أن هذا نتيجة للسكتات الدماغية أو المراحل المبكرة من الخرف، وربما يكون كذلك. في أوقات أخرى، من الواضح أن أمي قررت تجاهل تعليمات هيكوري وفعلت ما تريد.
عند مدخل المستشفى، تحت الضوء الأزرق للمظلة فوق المدخل، رفع هيكوري حقيبتي من صندوق السيارة، ورفع المقبض لي، ثم قبّل خدي واعتذر عن عدم صعوده معي إلى الغرفة. قال بصوت ثابت وعينين زرقاوين شاحبتين تلمعان: - لا أستطيع، ليس الليلة على الأقل. اجتاحني شعور بالارتياح يشبه، كما أتخيل، ما يشعر به الآباء عندما يتخلى طفلهم عن الأوكسيكودون أو عن حبيب مسيء. قلت له:
- جيد.
قبل ستة عشر عامًا، في غرفة عناية مركزة أخرى على بعد سبعمائة ميل من هنا، كانت هناك أيام وليالٍ شتوية لا تنتهي، قضيتها وأنا أغفو على الكراسي، أراقب نهر الشرق، أمسك بيد هيكوري الساكنة، وأتخذ قراري بقطع علاقتي بوالديّ، رغم علمي بأنهما لم يكونا سوى جزء صغير من كل ما قاد طفلي الوحيد إلى هذا اليأس القاتم. القطيعة التي بدأت حينها استمرت أكثر من ثماني سنوات، وكانت تتجدد بين الحين والآخر بعد كل زيارة أو مكالمة هاتفية، وحتى عبر الرسائل الإلكترونية، إلى أن جاءت رسالة أمي بعد إصابتها بالجلطة العام الماضي:
"هذه آخر رسالة سأرسلها. لم أعد أستطيع العمل على الإطلاق، ولا يمكنني استخدام الهاتف أيضًا—منذ الجلطة لم أعد أستطيع حتى التهجئة. أحبكم رغم كل شيء."
أمي، الإعصار البشري، سيدة الإملاء التي لا تُهزم، عاشقة اللغة، المبشرة المتحمسة والعنيدة لكل ما آمنت به، تسقط في الصمت.ورغم كل شيء، تلك الرسالة مزقتني.
***
بعد أن تركني هيكوري، أرسلت رسالة نصية إلى كالب وأخذت أراقب الضباب وهو يتدحرج فوق ساحة الانتظار لبعض الوقت قبل أن أصعد إلى الطابق العلوي. وبينما كنت استمع إلى الممرضة تُريني المكان الذي يمكنني فيه تخزين حقيبتي، استفاق زوج أمي فجأة من كرسيه القابل للطي بجانب سرير أمي. قال إنها كانت مستقرة لكنها غير مستجيبة، ثم قام ليحتضنني. بعد ذلك، قام بتبديل أنبوب الأوكسجين من الجهاز بجانب سرير أمي إلى خزانه المحمول وذهب إلى المنزل لإطعام الكلاب والراحة. جلستُ في عتمة الغرفة شبه المظلمة، وجدت نفسي بشكل مفاجئ جافة العينين معظم الوقت، لكن بفترات متقطعة من بكاء خافت مزق المناديل، وأنا أراقب أمي النائمة. لم أحاول إيقاظها. في النهاية، تمددت لأرتاح على قطعة الأثاث الصلبة الملتصقة بالجدار، تلك التي ليست أريكة تمامًا ولا سريرًا تمامًا، والتي—رغم النظام الدقيق لهذه الغرفة في العناية المركزة—تخفي على ما يبدو بقّة سرير واحدة على الأقل. أو ربما كانت البقّة في الطائرة الثانية، تندفع خارجة من وسائد مقعدي بينما كنت أحاول إعادة قراءة توقعات عظيمة، لكنني لم أفعل سوى الاستسلام للنعاس مرارًا. لكن لا مجال للخطأ بشأن اللدغة: ثلاث كدمات متناظرة على الجانب السفلي من ذراعي، تحرقني وتسبب الحكة. سأحتاج إلى أكياس قمامة الليلة لعزل ملابسي حتى أتمكن من اتباع الإجراءات التي تعلمتها خلال أيامي في بروكلين. أرسلت رسالة نصية إلى هيكوري، الذي كان يُنزل أختي غير الشقيقة، روندا، في الطابق السفلي. جاءت استجابته سريعًا: "فهمت، أوه، آسف."
وصلت روند لتوها من كونيتيكت. دخلت الغرفة وهي تدفع حقيبتها، متوازنة مع فنجاني قهوة ضخمين كانت قد أعدهما لنا هيكوري، وناولتني أحدهما. أنا وروند لا نبدو متشابهين إطلاقًا. روند طويلة ونحيفة وتتحرك بتأنٍ، ومعها صفحات من قوائم الأشياء التي يجب القيام بها وحقيبة بها ملفات، بينما أنا قصيرة، ممتلئة الصدر، ويزداد امتلائي مع تقدم العمر، أتحرك بطاقة مضطربة متوترة اكتسبتها بعد قضاء خمسة وعشرين عامًا في مدينة نيويورك. ومع ذلك، بعد أربعين عامًا من كوننا عائلة، غالبًا ما يتعرف علينا الغرباء كأخوات. ربما بسبب وجوهنا المستديرة، أو عظام خدودنا البارزة، أو أعيننا الداكنة، أو حتى طريقتنا الهادئة والمترهلة في الحديث. وربما لأننا في السنوات الأخيرة نرتدي تقريبًا اللون الأسود فقط. لا أحد يرى الأوشام الباهتة أسفل ظهورنا، لكن يبدو أن الناس يشعرون بوجودها بطريقة ما. أحاديثي مع روند صاخبة، متداخلة، تتقلب بين اعترافات عميقة، وتواطؤ متعب، ومزاح مرح، واتفاق ساخر حول أمور تتعلق بوالدينا، وهو اتفاق يجعل أطفالنا حتى اليوم يظنون أننا نتشاجر أحيانًا. لكن كما أخبرت روندا ابنتها الصغرى، أوليفيا، التي تبلغ الآن عشرين عامًا، العام الماضي خلال عطلتنا في جبال أديرونداكس: "لا، نحن نحب ذلك. هذه هي الطريقة التي نريد أن نتحدث بها مع بعضنا."
روند وأنا في نفس العمر بفارق بضعة أسابيع فقط، وقد قربتنا الظروف من بعضنا في سن الثانية عشرة عندما تزوج والدانا فجأة وانتقلنا من ميامي إلى أطراف آشفيل. اقتلعا حياتنا من جذورها ليتبعا قسيسًا يتحدث بألسنة، زعم أنه مُرسَل لجمع "جنود المسيح" في غرب كارولاينا الشمالية، قبل أن ينتهي به المطاف في السجن بتهمة التحرش بقاصر—وهو تطور كان بمثابة إثبات قاطع لشعورنا طوال تلك السنوات، بعد كل مرة وبخنا فيها لعدم تعاملنا بلطف أكبر مع القس جيري. في نهاية الصيف بعد المدرسة الثانوية، في عام 1990، حصلنا أنا وروند على توصيلة إلى مدينة نيويورك مع صديق قديم من ميامي وثلاثة آلاف دولار جمعناها من العمل في "بيتزا هت". نزلنا في شقة ابن عمي المطلة على جسر جورج واشنطن، نشعر برعد السيارات تحت ألواح الأرضية، نتناوب النوم على الأريكة والأرض، حتى بدأتُ أجني المال من تمشية الكلاب، وعثرت روندا على عمل في روضة أطفال. على مر السنين، زارت روند والدينا بشكل أكثر انتظامًا مني، وساعدتهما عندما احتاجا لذلك. لم تقطع التواصل تمامًا منذ سنتها الأخيرة في المدرسة الثانوية، عندما ضربتها أمي—أمنا نحن الاثنين بعد كل هذه السنوات—مرة أخرى أكثر من اللازم وانتقلت روند للعيش مع صديقها. ثم بدأت أمي تضربني، بعدما استنتجت على ما يبدو أنني كنت مسؤولة عن الحادثة التي دخل فيها زوج أمي إلى سريري في إحدى الليالي عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، على الرغم من أنني أخبرتها على الفور، وعندما لم تتصرف، انتقلت إلى غرفة روند بدلاً من المخاطرة بتكرار الحادثة.
بينما جلسنا أنا وروند على كرسيين قابلين للطي بدلاً من الأريكة التي كنا نشتبه بوجود حشرات سرير عليها، دخلت الأخصائية الاجتماعية، وهي امرأة قصيرة ذات شعر أحمر وطريقة حازمة وسريعة، وقدمت نفسها. كانت مرتاحة لرؤيتنا هنا دون زوج أمي. كان لديها بعض التفاصيل والمخاوف التي تريد مشاركتها استنادًا إلى ملاحظات طاقم الإسعاف وملاحظات موظفي المستشفى. قالت الأخصائية الاجتماعية:
- كانت قدما والدتكما متسختين للغاية. لاحظ المسعفون أن الكلاب كانت تفرغ نفسها على الأرض. كان من الصعب الوصول إلى السرير بسبب جميع الصناديق، وكان هناك علامات على وجود فئران.
حاولت أنا وروند أن نبدو مفاجأتين بأفضل ما لدينا من تعبيرات. قالت الأخصائية الاجتماعية:
- اضطر موظفو المستشفى إلى استحمام والدتكما أربع مرات لتنظيف قدميها. لا أعتقد أنه ينبغي أن تعود والدتك إلى المنزل بعد خروجها من المستشفى.
قلت:
- على الأرجح لا ،لكنني لا أعتقد أنها ستوافق على الذهاب إلى أي مكان آخر.
أضافت روند:
- لا أعتقد ذلك أيضًا.
قطبت الأخصائية الاجتماعية حاجبيها بتعاطف، لكن بقيت عيناها حازمتين ثم قالت وهي تشير إلى والدتنا:
- لن يكون الأمر بيدها، لن تكون قادرة على اتخاذ هذا القرار.
نظرنا أنا وروند إلى بعضنا البعض بدهشة. هل من الممكن؟ يا له من تفكير! لا يمكننا أن نتخيل أن والدتنا ستتراجع إلى حالة من عدم الكفاءة، تتراجع بلطف إلى الامتثال، وتتفق مع أي من الخطط المعقولة التي تقترحها الأخصائية الاجتماعية في أي من المنشآت المجهزة في قائمتها. أيضًا، كما أن المال قليل جدًا. لا توجد أصول سوى المنزل والأرض، وكلاهما يفقد قيمته تدريجيًا بينما يجرف المطر الطريق الترابي إلى أسفل الجبل. أما التأمين، فلن يغطي أي رعاية طويلة الأمد. لكن يبدو أن دخولها إلى منشأة إعادة تأهيل ليس مجرد خيار، بل ضرورة—حتى وفقًا لميديكير—أثناء فترة تعافيها، وذلك "لحسن الحظ!"، سيمنحنا بعض الوقت.
عندما غادرت الأخصائية الاجتماعية، شربنا قهوة هيكوري الممتازة، وعلى صوت امتصاص الحفاضة المبللة بالبول، ناقشنا الخيارات الممكنة لأمهات الآخرين كما لو كانت قد تكون ممكنة أيضًا لأمنا. في نومها، تلوّح والدتنا بذراعيها بعنف. في وقت لاحق، ستتحدث عن سحلية بشارب، وعن مؤامرات متخيلة، بما في ذلك محامية تُدعى باربرا تتآمر ضدها، وعن أنفاق سرية عملتُ أنا وزوج والدتي وأختي غير الشقيقة مع باربرا على حفرها تحت المنزل، وعن أشياء زعمت أن باربرا أخذتها بموافقتنا ولكن دون موافقتها هي.
عندما أسترجع تلك المحادثة مع الأخصائية الاجتماعية، التي كان من غير الحكمة أن نجريها في غرفة المستشفى، سأشعر بإحساس طفيف بالذنب، وكأنني كنت بالفعل متواطئة مع باربرا ضد والدتي—رغم أنني الآن لا أذكر حتى اسم الأخصائية الاجتماعية. ديبي؟ ليندا؟ ميشيل؟
وصل زوج أمي، أبيض الشعر واللحية، وكبير البطن، يشبه بابا نويل المتعب الذي يتحرك ببطء ويحمل خزان أكسجين محمول في حقيبة معلقة على كتفه. دوائر داكنة تحت عينيه؛ وكاحلاه ضخمان للغاية. بعد فيتنام، كان يدخن علبتين من سجائر "كولز" يوميًا حتى أصبحت حالته من الداء الرئوي الانسدادي المزمن سيئة جدًا. عانق روند ثم، مستنشقًا هواء إضافيًا ليعد نفسه، أخرج قطعة الأكسجين من فمه للحظة وانحنى ليقبل خد والدتي. ساعدته الممرضة في توصيل الأنبوب بالجهاز بجانب السرير. ثم جلس في كرسي قابل للطي مع تنهيدة تلتها نفس عميق من الأكسجين، وأخذ يد والدتي. "ماريان"، قال. كل بضع دقائق، حاول مرة أخرى، وعندما كرر اسمها في نهاية الساعة، فتحت عينيها، الرماديتين اللامعتين والواسعتين بسبب الحيرة. قال زوج أمي:
- كيف حال فتاتي الصغيرة الجميلة، ماريان؟
أومأت أمي برأسها. رفعت ثوب المستشفى لتكشف عن كتلة من شعر عانتها الرمادي البني. بطريقة ما، أصبح هذا المشهد أكثر إرباكًا بدلاً من أن يكون أقل إرباكًا في كل مرة رفعت فيها ثوبها اليوم. التقيت بعين روند وكان التعبير على وجهها شيئًا بين ابتسامة وتكشير، مثل التعبير الذي شعرت به على وجهي. في نفس الوقت، رفعنا حاجبينا إلى السماء، ثم أومأنا بأكتافنا. ليس الأمر كما لو أن التعري كان غير معتاد على والدتنا، التي لم تتردد يومًا في التحدث على الهاتف وهي تقضي حاجتها وباب الحمام مفتوح.
قال زوج أمي، ملاحظًا التعبير على وجهي:
- ماريان، ألا تريدين أن تغطي مهبلك؟
وسحب الثوب لأسفل.
تلتقي عيناي بعيني روندا مرة أخرى، وأتظاهر بالسعال بينما تبتسم هي محدقة في الأرض. نتحجج بالحاجة إلى جلب القهوة، رغم أن أكوابنا لا تزال نصف ممتلئة. قلت، بعد أن ابتعدنا بما يكفي في الردهة:

- لن نتمكن من مسح ذلك من ذاكرتنا ، لا، لن نتمكن أبدا.
أضحك، ثم تضحك هي، ثم أنحني ضاحكة في المدخل المؤدي إلى الطاولات ذات المظلات خارج الكافيتريا، قلت بعد أن هدأنا :
- أو أن ننسى ما سمعناه. لا أصدق أنه قال لها 'مهبلك'
السماء رمادية، لكنها لا توحي بالمطر.
تجلس روندا، مواجهةً للجبال البعيدة:
- لقد سمعت منهما ما هو أسوأ من ذلك
.وقفت خلفها ورفعت شعرها، الكثيف واللامع والطويل، الذي أصبح بنيًا داكنًا الآن بدلاً من الأشقر في سنوات مراهقتها المبكرة، ومررت أصابعي عبره.
- تعلمين أنه ليس عليك البقاء هنا عندما أرحل.
ترد بحزم:
- لكنني سأبقى..
أعرف جيدًا أن لا فائدة من الإلحاح.
قلت:
- إنها تبدو أشبه كثيرًا بهيكوري بشعرها القصير هكذا.
أخذت روند يدي:
- كنت أظن ذلك أيضًا.
عند عودتنا إلى الغرفة، نجد والدتنا نائمة وهي مقيدة، بينما تتحرك الممرضة في المكان بوجه متجهم. زوج والدتي يفرك الجيوب المنتفخة تحت عينيه، يلهث مستنشقا الأكسجين ويزفره بسرعة تفوق مرتين أو ثلاث سرعة جهاز التنفس الصناعي لوالدتي. كان يقول:
- لا أفهم لماذا عليها أن تتصرف هكذا.
يبدو أن والدتنا حاولت الاعتداء على الممرضة، وهي الآن تحت تأثير مهدئات أقوى. و زوج والدتي يلقي باللوم على الهرمونات..
أقول وأنا أنظر إليه مباشرة:
- لا، لطالما كانت تفجر نوبات الغضب هذه، وأنت تعرف ذلك.
تضيف روند:
- أنت تعرف ذلك، أبي ..
يفرك عينيه مجددًا، متنهداً بإرهاق. الأجهزة تواصل إصدار أصواتها الرتيبة، طنين وصفير متواصل. تنتشر في الغرفة رائحة مزيج من البول والمطهرات ، يقول زوج أمي:
- أنا فقط لا أفهم ذلك.
لم ترغب أمي أن أعرف أنها كانت تتناول التستوستيرون. عندما بدأت في زراعة الحبوب تحت جلدها قبل خمسة عشر شهراً، طلبت من كل من يعلم بالأمر أن لا يخبرني. ومع مرور الأشهر، بدأ أصدقاؤها يتصلون بي واحداً تلو الآخر، متأكدين من أنني أعلم. كانت روند أول من اتصل بي بعد ثلاثة أشهر، مع اعتذارها لتأخرها. فقد اكتشفت الأمر قبل أسابيع قليلة فقط. ثم اتصل زوج أمي في الأسبوع التالي، وكان يعرف منذ البداية. بعد ذلك، سمعت من صديقة قديمة لأمي من أيام الكنيسة في مراكز التسوق بجنوب فلوريدا، وهي التي استأجرت لنا غرفاً واعتنت بي في فترات بعد الظهر الطويلة بينما كانت أمي تعمل في وظيفة أمينة صندوق في البنك القريب. ثم جاء الجار الذي كان يساند والدي في صراعه المستمر مع الرجل الغني الذي اشترى الأرض الكبيرة في قمة الجبل خلال الجائحة، والذي أثناء بناء منزله الضخم، قام بتشغيل شاحنات بناء ثقيلة تركت خنادق في الطريق الترابي ودفعت معظم الحصى إلى الوادي، ثم تراجع الرجل الغني عن وعده بتعبيد الطريق وأنشأ طريقًا جديدًا أقصر للهبوط من الجبل من الجهة الأخرى. وأخيرًا، سمعت من ابن عمي الذي رأيته آخر مرة عندما كان طفلاً صغيراً في الصيف الذي غادرنا فيه المدينة، فقد علم من والدته، التي أقسمت له أن يبقي الأمر سرًا. كانت هذه المحادثات تثيرني. "هي لا تريدك أن تعرف"، قال كل من اتصل بي، بنفس النغمة المليئة بالقلق. كنت أعرف أنهم لا يريدون أن يشعروا بالمسؤولية إذا توفيت فجأة. فقد أصيبت بثلاث جلطات دماغية بالفعل، وطردت طبيبها المعالج بعد أن أبدى قلقه من أن الهرمونات قد تتسبب في إصابتها بجلطة أكبر.
إنصافًا للمتصلين، وبعد سنوات من ترك والدتي تعتمد على محاليلها الفضية ومقوياتها المشكوك فيها، وأجهزة "تنقية الهواء" التي تنبعث منها الأوزون، وعلاجها بالإيمان، أصبحتُ في بداية الجائحة مذعورة ومتسلطة، كنت أضغط على والديّ لارتداء الكمامات والبقاء في المنزل، وأوضح لهم أن جيراني يموتون وكذلك جيرانهم. كانت سيارات الإسعاف تجوب الشارع على مدار الساعة. لم أعد أعد عدد الأشخاص الذين تم إخراجهم من المبنى على نقالات مغطاة. في المقابل، سخرت أمي من كل ذلك وتناولت الإيفرمكتين. في النهاية، استسلمتُ. أما زوجها، فامتثل للأوامر الصادرة عن نظام الرعاية الصحية للمحاربين القدامى وأخذ اللقاح. أما أمي، فقد رفضت. على أية حال، أخبرت كل متصل بأن الأمر كله كان قرارها، ولن أتناقش معها بشأن ذلك.
ومع ذلك، بالنظر إلى رفضها معظم الأدوية، ونفورها من الهرمونات الجنسية في سياقات عديدة، فوجئتُ بعض الشيء بهذا القرار. ثم شعرتُ بالاشمئزاز عندما أوضحت لي روندا أن والدتنا استلهمت فكرتها من أحد "الخبراء" الذين شاهدتهم على قناة مسيحية ريفية.وعلى عكس معظم الضيوف في تلك القناة، فإن الدكتور دينيس سميثسون طبيب حاصل على شهادة طبية، رغم أن درجته جاءت من جامعة أورال روبرتس، التي أُغلقت كليتها الطبية عام 1990، قيل إن السبب كان ماليًا، لكن من المرجح أيضًا أن الجمع بين العلاج بالإيمان والعلوم الطبية لم يكن أمرًا مستدامًا.على أية حال، اشتهر سميثسون بكتابة كتب صحية موجهة للإنجيليين، إلى جانب بيعه للمكملات الغذائية. لكن وفقًا لروند، لم تحصل والدتنا على وصفة التستوستيرون منه مباشرة، بل من طبيب في هندرسونفيل، ورد اسمه في نهاية أحدث كتبه، "الصحة الإلهية والهرمونات: استعد شبابك وأشعل شرارة زواجك من جديد!"
استطعت أن أستنتج من ملامح وجه روند وبطء خطواتها أثناء شرحها لي، أنها كانت تتوقع موجة الغضب الممزوج بالسخرية التي اجتاحتني. صرختُ، متجاوزة ضجيج القطار السريع الذي كان يهتز فوق رأسي:
- ياللعجب! كيف دبّر الرب دخول دينيس سميثسون وهذا الدجال من هندرسونفيل في خطته الإلهية للهرمونات!
كنتُ أسير في الشارع برفقة كالب، نمشي الكلب وسط البرد القارس. لم نكن قد تناولنا الطعام بعد، وكانت رائحة الزلابية الساخنة تتسلل من مطعم صيني قريب، قبل أن تطغى عليها رائحة الموز المقلي بزيت الفول السوداني من مطعم دومينيكاني. لكن معرفة أن قناة الريف المسيحية قد وجدت طريقها إلى هذا المشهد المألوف أفسدت شهيتي. كان الهواء البارد يخترق معطفي، بينما مرّ رجل في الاتجاه المعاكس، ألقى نحوي نظرة فضولية خاطفة، ثم انحرف قليلًا إلى حافة الرصيف. خفضتُ صوتي وقلت ساخرة:
- إذن، نحن جميعًا مخلوقون ذكورًا وإناثًا كما في فُلك نوح، لكن الله لم يجد وسيلة ليمنحنا ما يكفي من التستوستيرون منذ البداية؟
أطلقت روند ضحكة خافتة ممزوجة بتنهيدة، ثم قالت:
- لن تقولي لها شيئًا، أليس كذلك؟
قلت وأنا أسحب قبعتي أكثر فوق أذني:
- كلا. الأمر راجع لها في النهاية.
ردّت روند:
- أوافقك الرأي ، عندما سألتها عن المخاطر، أخبرتني أن—
- أنها محصّنة بدم المسيح؟
صرخت بذلك، والأدريناليين يغلي في عروقي ويخرج من حنجرتي حتى عبرت أم مع طفلين الشارع لتجنب التلوث بذلك. أخذ كاليب، الذي اعتاد على سماع جانبي من المحادثات مثل هذه، لي العربة وسحب يدي بتعاطف.
قالت روند بنبرة هادئة:
- حسنًا، بالطبع كنت سأخبرك أنها قالت إنها تفضّل أن تموت فى انفجار على أن تعيش حياة باهتة يابسة.
قلت بحماسة غير بنوتية:
- ربما ستحصل على ما ترغب فيه.
قالت روند، بنفس الروح:
- ربما ستفعل.
لم يذكر أي منا هيكوري أو البريد الإلكتروني الذي أرسلته أمي لطفلها الحفيد الذي كان في الثامنة عشرة من عمره حينها، والذي حذرته فيها من الجحيم والنار.. أخذت العربة مرة أخرى بينما كان كاليب ينحني لأداء واجب جمع الفضلات.
- هل تبدو أكثر سعادة على الأقل؟
ترددت روندا قليلًا قبل أن تجيب: - أعتقد ذلك... بطريقة ما. أصبحت أكثر تقلبًا من المعتاد، لكن علاقتها بوالدي... شهدت تطورا بلا شك.
بينما كنتُ أنا وكالب نواصل طريقنا نحو المبنى، شعرتُ بالارتياح لأن هدير مجموعة دراجات نارية صغيرة جعل الحديث مستحيلاً للحظة. لم أكن أرغب حقاً في سماع أي شيء عن صحوة والدتنا الجنسية. قلتُ:
- أعرف أنني وحش ،لكن—
- أنتِ لستِ وحشًا.
- يمكنني كتابة أغنية عن كل هذا عندما تموت، أليس كذلك؟
قالت روند:
- آمل أن تفعلي.. أنا أراهن على ذلك."
في الحقيقة، وكما تعلم روندا بالتأكيد، كنتُ أنوي البدء في كتابتها عندما أعود إلى المنزل. ثم خطرت لي فكرة أخرى. قلتُ بينما كنا نعبر الردهة وكالب يُمسك باب الدرج:
- يا إلهي، انتظر. هذا يُفسر هوسها بذلك الفيلم.
- أعرف! ربما يمكنك دمج ذلك في الأغنية أيضا.
كانت أمي تشاهد فيلم موعد الزفاف دون توقف لعدة أشهر، وعندما كنت أتصل بها، لم يكن لديها ما تتحدث عنه سوى هذا الفيلم. تدور قصته حول امرأة تعيش في مانهاتن، تستأجر شابًا ليكون مرافقها في زفاف شقيقتها في إنجلترا، حتى تظن عائلتها أن لديها حبيبًا. ومع نهاية الأحداث، يقع المرافق والمرأة في الحب، بينما تُفضح الأخت وتُهان ويهجرها خطيبها، فيتحول ازدراء الوالدين لخطيب ابنتهما إلى إعجاب بالمرافق المستأجَر. في كل مرة ينتهي فيها الفيلم، كانت تعيد تشغيله من البداية، تشاهده منذ استيقاظها صباحًا حتى تغفو هي وزوجها في الليل. صار بطل الفيلم فارس أحلامها، وتحولت معاناة البطلة إلى معاناتها، فتعلّقت بالممثل الرئيسي، وسردت لي تفاصيل حياته، من نشأته في فيرجينيا إلى براعته في العزف على التشيلو، وصولًا إلى عمل والده أستاذًا في القانون. أما الشخصيات التي أدت أدوار الأشرار، فقد باتت بالنسبة لها مكروهة كما لو أنها ظلمتها شخصيًا في حياتها.
قالت لي، وهي تقهقه:
- القس جيري يسميه أفلامي الممنوعة.
وكل ما تمنّته في عيد ميلادها هو أن أشاهد الفيلم وأحلل لها سبب ولعها الشديد به

عندما عدت إلى المنزل، بحثت عن سميثسون وتصفحت صفحته على فيسبوك حتى عثرت على ما كنت أتوقعه تمامًا. كان المنشور يقول: "لقد خلقنا الله ذكورًا وإناثًا على صورته، لذا عندما ينجح الشيطان في إقناع الناس بأنهم قادرون على تغيير جنسهم، فإنه في الواقع يجعلهم يرتكبون عنفًا ضد الله." بدا هذا وكأنه مادة مثالية لمقطع الكورال في الأغنية التي بدأت تتشكل في رأسي بالفعل.
تخطط روند للبقاء مع والدينا لمساعدتهما عندما أرحل، ومتى ما حدث ذلك. إذا تعافت والدتي كما تعافت بعد السكتات الدماغية السابقة، فأنا أكره أن أتخيل ما ستتعرض له روند عندما تعود أمنا إلى المنزل بعد إعادة التأهيل. أحب أن أتخيل أنها ستزور هيكوري بين الحين والآخر في الخفاء. سيجلسان على الشرفة، وحدهما أو مع رفيق هيكوري، يداعبان القط، ويستمتعان بالهواء العليل في الليل، ويتناولان الجبن والفواكه التي يرتبها هيكوري بشكل جميل على طبق. ستشرب روند كوبًا من النبيذ، وربما ثانيًا، وربما ثالثًا، ثم تعود إلى منزل والدينا المتسخ والمليء بالنزاعات على جانب الجبل، حيث يبدو أن مرور يوم دون شرب هو إنجاز يعادل السير في طريق الأبلاش. ستخفي روند السكاكين، وتغلق باب غرفتنا القديمة في الليل، وتراقب جهاز المراقبة السري لتتأكد من أن والدتي لا تضرب زوج أمي أو تهدد بفصل الأوكسجين عنه. آخر مرة كانت روند هنا، رمت أمي هاتف رونا من على الدرج لأنها شعرت أن زوج أمي يمدحها أكثر من اللازم.
بلغتُ أنا وروندا الثالثة والخمسين، ومع ذلك نعمل دائمًا على نصح بعضنا البعض بشأن الحدود الصحية مع والدينا، وندافع عن الأخت الأخرى لتقلل من تحمل المسؤوليات. أنا غالبًا ما أرسل المال الذي لا أملكه بدلاً من أن أكون هناك شخصيًا. "إلقاء المال في مرحاض رفاهياتهما ليس مفيدًا لي أو لهما"، كما تقول روندا، رغم أنه جيد لوعاظهم المفضلين في التلفاز. تتحمل روندا عبء رعاية والدينا بعد دخول أحدهما المستشفى، وتسرع في المجيء عندما يطلب زوج أمي مساعدتها، رغم أن والدتي لا ترغب في وجودها هناك. إلا إذا كانت والدتي بحاجة ماسة إليها، حينها تدرك مؤقتًا أنه لا يوجد خيار لها أو لهما. حينها تكون لطيفة مع روندا، لفترة قصيرة فقط. أيام، أو ساعات، دأو قائق، أو جزء من الثانية - طول صبر أمي لا يمكن التنبؤ به كعين الإعصار.أظل أذكر روندا بأن حياتها تستحق الاستمتاع بها، وأن صديقها وأطفالها الكبار في كونيتيكت بحاجة إليها ويحبونها، وأن والدتي ليست مسؤوليتها، وأنه من المعتاد أن يقوم الوالدان بنقل أنفسهما في هذه المرحلة من الحياة، لا الأطفال، على الرغم من أننا نعلم أن والدتي لن تنتقل طواعية إلى الشمال الشرقي.
يجب اتخاذ قرارات، لكن والدتي لا تملك خطة للرعاية في نهاية حياتها غير انتظار "الاختطاف" (الانتقال السماوي)، ولا تنوي وضع خطة الآن. قالت لي: "هذه ليست مشكلتك"، وعندما أصررت، صاحت في الهاتف "ليس من شأنك" وأغلقت الخط.
نخطط أنا وروند لإخبار زوج أمي بأننا سنضطر لبيع منزلهما ونقلهما للعيش بالقرب منا. نقول لبعضنا البعض: "ستغضب أمي بغض النظر عما نفعله، فلنفعل ما نراه مناسبًا". ويضحك أحدنا ويوافق الآخر، لكن إقناع أمنا بالعيش بطريقة أسهل يبدو مستحيلًا لدرجة أن الفكرة تبدو جديدة كلما جَرَى طرحها. كأنها حلم جميل ومثير ومخيف في نفس الوقت.أفكر أحيانًا في تسليم كل شيء لبرنامج "Medicaid" والابتعاد. هذا ما أقوله لـ"روندا" على أي حال. لكن إن كان هذا صحيحًا، فلماذا أنا هنا؟ لا أندم على إنهاء القطيعة بعد السكتة الدماغية الأولى التي كادت تودي بحياة أمي، لكنني أشكك في مدى حكمة ذلك القرار.
والداي مستاءان من أغنية "قبو الاختطاف"، وهي أغنية منفردة أصدرتها قبل سبع سنوات، بعد وقت قصير من زيارتي الأولى لهما بعد أن عدنا للتواصل. لم يكونا عادةً مهتمين بموسيقاي، لكنهما علما بالأغنية قبل بضعة أشهر عندما جعلتني شبكة Christian Country Network—بكل بساطة—الشخص المكروه لهذا الأسبوع. الأغنية ليست عن والديَّ تحديدًا، لكنها أيضًا ليست بعيدة عنهما أيضا. أتذكر أنني بدأت في تأليفها خلال الرحلة الجوية إلى المنزل، كنت أصوغ القوافي حول اللحوم والفواكه المجففة في الجرار المخفية وراء جدار قبوهما الزائف، إلى جانب مخزون هائل من ورق التواليت والأدوية منتهية الصلاحية، وجالون ضخم من الكيروسين المخزن بطريقة غير صحيحة، وشريط طاقة شمسي معيب اشتري بمبلغ 999 دولارًا من مبشر تلفزيوني قضى وقتًا في السجن الفيدرالي، وأفران ميكروويف مستعملة من متاجر التوفير، زعمت أمي أنها حُوّلت إلى أقفاص فاراداي لحماية أجهزتهما الإلكترونية والبطاريات القابلة لإعادة الشحن من الانفجار النووي القادم. ما أغضب أمي بشكل خاص هو وصفي للاختطاف بأنه خطتهما للرعاية في نهاية الحياة، لكنها صبّت جام غضبها على روندا، وليس عليّ.
لقد كتبت تلك الأغنية بعد أولى زياراتي الخمس—الآن ست زيارات—منذ أن تواصلت معهم مجددًا. في كل مرة كنت أتوجه إلى آشفيل وأقود السيارة لمسافة سبعة عشر ميلًا خارج المدينة إلى منزلهم على الطريق الترابي القديم. يمكنني أن أتذكر بعض لحظات الفرح—تناولنا معًا حلوى "بيكان توريلز" من "فود ليون" قديمة ليوم واحد، ومداعبة كلابها والتذكر عن كلابنا القديمة بينما كنا جالسين على الشرفة نشاهد غروب الشمس على الجبال. لكن في كل مرة، كانت الرحلة تتحول إلى الفوضى التي يستهزئ بها النقاد على أنها كليشيه غوتي جنوبي عندما تظهر التفاصيل في موسيقاي. السيارة التي بها باب واحد فقط يعمل. الكلب الذي اضطروا لبتر قدمه بعد أن علقت في فخ الفئران. الغرز التي حصلت عليها في قسم الطوارئ بعد أن تطايرت شظية زجاجية إلى وجهي عندما فقدت أمي أعصابها ورمت العشاء على الأرض لأن زوج أمي، من وجهة نظرها، شكر روندا أكثر من اللازم. كانت روندا حرفيًا على يديها وركبتيها تنظف بول الكلاب المتجمد من الأرض في ذلك الوقت، ولكن على الرغم من ذلك أعتقد أن المشهد كان ربما مبالغًا فيه بعض الشيء لأغنية. لم أتمكن أبدًا من أن أجبر نفسي على اتباع القواعد التي تجعل من الشخص كاتب أغاني ناجح تجاريًا. عملي في تدقيق النصوص يدفع لي بشكل سيء لكنه ما يزال يغطي الفواتير بشكل أكثر موثوقية من موسيقاي.
منذ سنوات، كان جزء مني يريد أن يثني هيكوري عن كتابة الرسالة إلى والديّ لأنني كنت أخشى رد فعلهما. لكنني شجعته على ذلك لأنني أردت له أن يشعر بالراحة في إعلان نفسه بغض النظر عما سيقولانه. في وحدة العناية المركزة مع المنظر الرهيب لنهر الشتاء الرمادي المجعد، لُمت نفسي بشدة لأنني لم أُعِد طفلي جيدًا لاحتمال أن تقول أمي ما قالته. أحيانًا، لا أزال أتساءل إن كان هيكوري يدرك حقًا مدى ما يمكن لجدته أن تفعله.
كنتُ أعرف في الماضي بسبب روح الدعابة التي تحملها موسيقاي، خفتها ولمستها الرقيقة. أما الآن، فقد تغيّر الأمر كثيرًا. بعد يومين من حديثي مع روندا، شاركت في بودكاست من أثينا، جورجيا، وتناولت بضع بيرة مع المضيف، ثم بدأت في الهجوم على طريق والديّ الديني المتطرف. قلت: "التهكم يلتهمني"، ثم أضفت: "ألقِ همومك على يسوع ولن تحتاج إلى القلق أبدًا، لكن احرص أيضًا على تخزين ما يكفي من الطعام والإمدادات لكي تتمكن من البقاء على قيد الحياة في حالة انفجار نووي وتحافظ على نفسك لمدة خمس سنوات حتى يأتي وقت اختطافك، وأيضًا إليكم بعض الإمدادات التي يمكنكم شراؤها في حوض بلاستيكي كبير مقابل 79.99 دولار من موقعي الإلكتروني." ضحك المضيف وبدأ يطرح سؤالًا، لكنني تناولت رشفة أخرى من بيريتي واستأنفت الحديث. "والآن اكتشفت أن الوعاظ التلفزيونيين الذين كنت أستمع إليهم في طفولتي بدأوا يحققون أرباحًا من مكملات هرمونية وكتب تدعو للعلاج بالهرمونات، وكيف أن هذا كان جزءًا من خطة الله أيضًا، في جعل النساء أكثر أنوثة باستخدام العلاج بالهرمونات والرجال أكثر رجولة باستخدام العلاج نفسه، والخوف من الهرمونات لهذا الغرض كان عمل الشيطان، ولكن عندما يتناول الأشخاص المتحولون الهرمونات فهذا خطأ؟ والناس غير الثنائيين هم شيء شنيع، ولكن كل إنسان خلق على صورة الله، ذكرًا وأنثى معًا، والله هو كلا الأمرين، ولكن البشر لا يُسمح لهم بأن يكونوا كذلك؟" ثم قاطعت البودكاست المذيع ليأخذ استراحة. كنت أعلم أنه متعاطف مع آرائي كونه كان قد تخلى عن الإيمان بنفسه، لكن جو البودكاست كان ودودًا ومفتوحًا على الاستفهام، بدلًا من الغضب الكامن في التهكم الفارغ للسن المتوسطة. وجه مغسول بعناية بدلًا من الأحذية الثقيلة والشباك السمكية. انتهت فقرتي قبل الأوان. لا أظن أن المنتج سيكون في عجلة من أمره ليطلب مني العودة للمشاركة.
منذ ذلك الحين، أصبحت موسيقاي مليئة بالكراهية والغضب بدلًا من التعاطف والسخرية الهادئة. وقد أصبحت ممارستي للتأمل في حالة من الفوضى. أنا وكاليب تباعدنا أكثر نحو العمل الفردي كما نفعل أحيانًا. أرغب في صنع أغاني صادقة بألحان جميلة، لكنني عالقة في نغمة مريرة. ولإرباك الأمور أكثر، نصحني كل من طبيبي العام والمعالج بأن بعض التحديات العاطفية التي أمر بها قد تكون ناتجة عن هرموناتي الخاصة، أي الانتقال إلى مرحلة انقطاع الطمث. لقد ظهرت عليّ أعراض: تعرق ليلي، بطن منتفخ، تفكير مشوش، غضب غير مقيّد، مرت ثمانية أشهر منذ آخر دورة شهرية لي. لا أستطيع أن أقرر ما يجب أن أفعله. في هذه الأثناء، أصبحت كلمات أغنياتي ثقيلة وألحاني كذلك.
يحل الظلام في الخارج. عاد زوج أمي إلى المنزل، وقد أخذت روندا مكانه بجانب سرير أمي، جزاها الله خيرًا. سنغادر قريبًا. أنا جالسة على الجدار أرسل رسالة نصية إلى كاليب عن عرض الأمس، الذي يبدو أنه لم يكن سيئًا جدًا، وهاتفي يرن. أرى أن روندا أرسلت لي ولأطفالنا جميعًا صورة لوالدتي من الجانب، مع شعرها الرمادي القصير وتحديد فكها. وكانت الصورة تضم هيكوري أيضًا.
قلت:
- روندا ، ما الذي تعنيه هذه الصورة؟
أرسل هيكوري ردًا أثناء حديثي:
- واو!
أطفال روندا يحبون رسالة هيكوري، لكنهم لا يردون خلاف ذلك.
قالت روندا:
- آسفة"، "هيكوري طلب صورة من قبل. ظننت أن الجميع قد يرغب في رؤيتها."
كل ما يمكنني التفكير فيه هو هيكوري في ذلك السرير الآخر في المستشفى، رد فعل على حادثة في المدرسة، وليس رسالة أمي، لكن ربما لم يساعد ذلك.قلت:
- إنه أمر خطير.
ثم تنفست، زفرت الهواء حسب عدّ عقلي البطيء حتى عشرة.
- أو ربما ليس كذلك. أعلم أن هيكوري له الحق في أن يعيش حياته."
ترفع أمي ثوبها فأبتعد بنظري بينما تسحب روندا الثوب للأسفل.
دخلت الممرضة المسائية لتقول إنه غدًا سيتم إزالة أنبوب التنفس عن والدتنا، التي تشعر بتحسن. لذلك يجب علينا أن نذهب ونأخذ قسطًا من الراحة. أخبرناها أننا في انتظار هيكوري، الذي سيأخذنا قريبًا، وأنا أراقب هاتفي لرسالته عندما أسمعه يهمس في الرواق، وهو يردد لحن أغنية "Rapture Basement"، ربما ليجعلني أبتسم. هذا الطفل. يعلم أنني كنت أشعر بالكآبة بسبب موسيقاي. وهنا هو يلتف حول الزاوية مبتسمًا، جميل جدًا في قميصه بلا أكمام، وهو يقطع اللحن ليقبلني على خدي.
وقفت حينها، وكأنني أردت أن أعيق رؤيته للسرير ورؤية أمي له. لكن هيكوري اقترب منها ورأيت بهلع أن عيني جدته مفتوحتان على مصراعيها ومثبتة على وجهه يستحيل قراءة تعبير وجهها بسبب أنبوب التنفس.
قال هيكوري:
- مرحبًا، جدتي، كيف حالك؟
بحثت أمي في وجهه بعينيها، ثم مدت يدها نحوه، فأخذها بين يديه.
قال هيكوري:
- سمعت أنك توأمي في التستوستيرون."
هزت أمي رأسها.
قال هيكوري:
- لا يمكنك خداعي، أعرف أسرارك.
نظرت إليه أمي.
ضحك هيكوري وقال:
- إنه أمر رائع، أليس كذلك؟
ترددت أمي، ثم أومأت برأسها. لقد أومأت!
نهضت روندا، وجلس هيكوري على الكرسي القابل للطي وأخذ يد أمي بين يدي. رفعت أمي ثوبها فجأة، فمد هيكوري يده الحرة وسواه برفق.
(انتهت)
***
.....................
الكاتبة: مود نيوتن/ Maud Newton: كاتبة وناقدة ومحامية سابقة، وُلدت في دالاس، تكساس عام 1971. ونشأت في أسرة متشددة دينيًا في ميامي على يد أم إنجيلية وأب عنصري. درست في جامعة فلوريدا، حيث حصلت على شهادتها الجامعية والقانونية. وتعيش حاليًا في نيويورك.

ثلاث قصائد من الأدب الكردي

بقلم: لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - زائر

النوافذ بعيدة ..

نائية

عليه:

سوف لن تتجول

الشمس

أمام شرفاتها

و سوف لن يأتي

الله

لزيارتها .. !

***

2 - معرض الأيام

أحببتك يوم السبت

أحببتيني يوم الأحد

أما يوم الأثنين

فأقمنا فيه معرض القبلات

المشتركة

أنهيناه يوم الثلاثاء

فاسترحنا يوم الأربعاء

و في الجمعة

فكرنا معا

في إقامة معرض

آخر ..!

***

3 - رائحة

آه .. ثمة رمة

تفوح رائحتها

أخشى أن تكون

بلادي

و قد احترقت من كثرة

الخطابات

السياسية

***

........................

عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001 .

بقلم: عبد الرزاق قرنح
ترجمة: صالح الرزوق
***

أعتقد أنه شاهدني أقترب، ولكنه لسبب ما لم يهتم ولم تصدر عنه أي استجابة. وقفت بجانب باب السيارة الخلفي وانتظرت منه أن يرفع نظره. طوى جريدته وفتح الباب، وهو يتأملني لحظة بمقت بالغ. وقفت بمكاني أرتجف لأتغلب على سوء استقباله. ربما لم يكن هذا كراهية، ولكنه مجرد تحسس من القلق الناجم عن التعب الوجودي الذي لا مفر منه، أو النفور. ولكنه كان كالكراهية. مد ذقنه إلى الامام قليلا، وسألني عن اتجاهي. حينما أخبرته باسم الفندق هز رأسه، كأن هذا هو أقل مما يظن، أو كأنه توقع أن أذكر مكانا أبعد. تجرأت وجلست بقربه على المقعد الأمامي، دون أن أنكر الأفكار السلبية التي يمكن ان يستنتجها من قيافتي - وبالجلوس إلى جانبه يمكنه أن يتأكد أنني لست كريها كما اعتقد أول الأمر. ولم أجد طريقة لتجنب مساعر سخطه ونفوره. كان مقعد السيارة صلبا وقاسيا (وأخضر)، كسوته من الفينيل ولكنها متشققة بفعل التقادم. مع زوايا حادة وأطرافها مجعدة بشكل صف من الثقوب. حتى أنها وخزتني من خلال قميصي بينما السيارة تتمايل للخروج من موقف سيارات الأجرة. وعلى الرف الأمامي رأيت فجوات فارغة تتدلى منها أسلاك متداخلة، من المفترض أنها مكان الولاعة أو المذياع أو علبة القفازات. وربما لم تكن فارغة تماما، لأنه يمكن أن تلاحظ لفات من الورق محشورة في الزوايا، ورقعة قماشية حال لونها بسبب الاستعمال. وكانت جافة ومعلقة في إحدى الفجوات. وحينما أبطأنا وسط زحام وقت الغداء، نظر إلى الحقيبة التي أضعها في حضني. ثم رفع عينيه لينظر إلى وجهي. وتظاهرت أنني لم أنتبه لنظرته.
سأل بصوت حرص أن لا يكون مباشرا، ولكنه في حدود شخير لا يخلو من قلة الاحترام: “من أين أتيت؟".
وكان سؤاله على وجه العموم كأنه يتوقع أنني لا أمنحه حق هذا السؤال. أوناتوكا وابي؟. هم بالحركة مجددا، ثم مال للخلف وأراح كوعه المتأهب على نافذة السيارة. كان منطويا ومتوترا، ووجهه مضيء بتوقعات غير ذات معنى. أو هذا ما خيل لي وأنا ألتفت لأجيب على سؤاله. شيء كئيب ومقلق بخصوص حركة وجهه جعلني أتصور أنه شخص عاش حياة خطرة، وجعله ذلك يبدو قادرا على الخشونة المتعمدة في سبيل تخفيف معاناته. وشعرت بالخوف وعدم الرضا من فضولي وتمنيت لو تنتهي الرحلة بأسرع وقت. كان علي أن أنصرف منذ أول نظرة مريبة. رمق الحقيبة مجددا وعبر وجهه ظل ابتسامة، ساخرا مما اعتبر أنه اعتزاز بالذات. كانت شيئا رخيصا من البلاستيك بيد قاسية وسحاب سخيف، ولم أتوقع أن تصمد أكثر من عدة شهور. وعليه إنها لا تستأهل مثل هذا التأمل المركز. هذه المرة سأل وهو يومئ للحقيبة كأزه يشملها بكلامه:" من أين؟".
قلت: "يونيغريزا". إنكلترا. تكلمت بهدوء، وبلامبالاة، لأبين له مقدار عدم اهتمامي بالمحادثة.
نفخ بصوت خافت وقال: “طالب؟".
كان يقصد هل أنا أحد أولئك الذين غادروا ليعيشوا كما يحلو لهم في العالم، ثم عادوا بحكايات وحقيبة رخيصة فقط. هل أنا أحد أولئك الفاشلين الذين عملوا في مجال تافه ومخجل ولم يجنوا غير حكايات عن دراسة لا تنتهي، وترتيبات حكيمة لا تجني منها غير ثروة بسيطة في فترة محدودة؟. كان وجهه مرحا ومتحفزا، وهو ينتظر ليرى كيف أخترع الجواب. وعندما تابع قيادته توقعت أنه سيخبرني عن صموده للعناية بعائلته المريضة، في حين أن الجميع هرب وترك الساحة. ولم تنفعه التوقعات المشرقة لأساتذته ومعلميه حينما كان شابا. أخبرته أنني كنت معلما، فنفخ مجددا، وهذه المرة دون مداراة على الإطلاق.
هل هذا كل شيء؟.
كان زحام استراحة الغداء بسرعته المعهودة، يتدفق في الطريق بأقل مقدار من التردد الذي قد يبدر عن سائق. وعانى سائق سيارة الأجرة من هذ التيار واتكأ على بوقه، كلما تمهلت أي سيارة أمامه وسمحت للمشاة باغتنام الفرصة. تبخترت زرافة من تلاميذ المدارس الهنود اليافعين بين السيارات، وهم يثرثرون بروح مرحة، فأطلق عاصفة من بوق السيارة مع كلمات نابية. نفايات قذرة. ماذا يدعوهم للتلكؤ؟ وكان الزحام على أشده عند مركز البريد. عبرت الحشود الأرصفة، بعضهم رجال مسرعون يرتدون القمصان وربطات العنق، مشاغل - مشاغل - مشاغل، آخرون أكثر تأنيا، توقفوا بين حين وآخر، ليتأملوا ما لدى تجار الأرصفة من بضاعة رديئة.
ترنم يقول وهو ينعطف يسارا إلى المرفأ: "يونغيريزا". وهناك كان موضع فندقي. كرر: "يونغيريزا. بلد الرفاهية".
سألته بصوت لا يخلو من الدهشة وتكذيب النفس: “هل زرتها؟".
أنت؟. بعد كل ما بذلته من جهود كي تتقدم في طريقك من خلال ثقافة معتزة ومفتونة بنفسها، تحصل على كلمة عابرة تقودك إلى خرابة بائسة. بلد الرفاهية. ضغط السائق بإلحاح على البوق لينبه عربة ماء كانت أمامه كي تخلي الطريق. ظهر عليه اليأس من عربة الماء. واستمر ذلك دقيقة تقريبا، وخلالها لوح بيمناه من النافذة وكأنه يفكر بالقفز من السيارة وإلقاء حمولة العربة على الأرض. لوح عمال المرفأ بأذرعهم لسائق سيارة الأجرة باغتباط، وكانوا يبتاعون غداءهم من أكشاك على أطراف الطريق، وهم من بين زبائن بائع الماء. ناور السائق بسيارته من حول العربة، وهو يضغط على البوق بنفير طويل.
سألته: “هل لديك أقارب في إنكلترا؟". لم أتخيل أن شخصا يعتاش بهذه الروح النزقة، ويقود سيارة أجرة بالية كالتي نتنقل بها، يمكنه ادخار أموال تكفي للحياة في بلد الرفاهية ولو لليلة واحدة وفي غرفة تقدم له السرير القذر والإفطار الفاسد.
قال: “سبق لي أن عشت هناك". ثم التفت ونظر لي وضحك. غادرنا الطريق الرئيسي، وكنا نتقدم وراء مستودعات المرفأ وباحة القطار، واقتربنا جدا من الفندق. وتوجب عليه أن يركز على الطريق المرهق، بسبب ما يتخلله من مطبات وثقوب وانحدارات حول خط القطار. وبدأ يتكلم ولكن توالت كوارث الطريق، الواحدة بعد الأخرى، بسرعة، فهز رأسه، مستاء من مقاطعة حكايته. كان يبدو أن مكان الفندق ضرب من الجنون، كان الطرف الآخر من الباحة مهملا تغطيه بقايا الآلات ونفايات العمال، ولكن كان الفندق هنا قبل هذه الأرصفة وخط القطار الذي تحول إلى قضبان مهترئة، وقبل موت الطريق.
قال: “كان معي بغي. واحدة من العاهرات الأوروبيات. أخذتني إلى هناك، ثم إلى فرنسا، ووصلنا أستراليا. ذهبنا إلى كل مكان. وكانت تدفع كل الأجور. أنت تسمع هذه القصص من الآخرين، وتعتقد أنهم يكذبون، ويحلمون بعاهرات أوروبيات لديهن النقود، لكن محرومات من العاطفة. توقعت ذلك حتى أصبح لدي بغي منهن".
كنا قد وصلنا، ووقف خارج الفندق، وسيارته ترتعش بقنوط وهي بوضعية الانتظار.
قال وهو يستلم أجره: “سلم. كانت تدعوني سلم". غطت وجهه ابتسامات نابعة من ذكرياته. ثم أضاف: “ولكن اسمي سليم. وأنا دائما أقف في طابور سيارات مركز البريد. تفضل ثانية".
كنت قد وجدت هذا الفندق بالصدفة. فقد أخبرني موظف الهجرة أنه لن يمنحني إذنا بالدخول ما لم أذكر في الاستمارة عنوان إقامتي في هذا البلد. قال ذلك بما يشبه الاعتذار، لأنه بعد أن شاهد في جواز سفري مكان الولادة تكلم بإيجابية عن زنجبار، أقله لوجود أقارب له هناك. وعرض علي قائمة بالفنادق - قال: ماذا تختار. لا يجب عليك أن تأوي إلى أي منها. اكتب الاسم في الاستمارة فقط. اخترت واحدا، وحينما وجدت سيارة خارج المطار كان هذا هو الاسم الوحيد الذي أمكنني تذكره. وارتحت لانزواء المكان، والصمت المحفز المخيم على باحة القطار، وساعات العمل في العنابر والمستودعات. هذا يعني أن أحدا لن يزعجني بزيارة، كما يمكن أن تتوقع لو أن الإقامة في مكان جذاب في الجانب الآخر من البلدة حيث الكازينوهات والمسابح.
ولكن أدهشني أن يخابرني موظف الاستقبال في الأمسية التالية ليعلن عن قدوم زائر. وطبعا كان سليم. ولم يخطر لي أنه سيأتي، ولكن بما أنه أصبح هناك، بدا الأمر وكأنني كنت متيقنا طيلة الوقت أنه سيأتي. كان يرتدي قميصا حريريا أخضر تزينه صور زهور بيض وقوارب صيد زرق - وكان بنصف كم وذراع النظارة الشمسية مطوي أمام جيب قميصه. وكان بجينز مخملي عريض حول الخصر، ولكن ثبته بحزام عريض، ترك طيات حول خصره.
أصر أن يقدم لي شرابا، وقدم شرابا آخر للساقي. كان البار فارغا تقريبا، وكان الثنائي البلجيكي الذي يمتلك الفندق مشغولين بتسلية إحدى الصديقات. عداهم لا يوجد أحد. قالت الضيفة بضيق: Ces gens sont (هؤلاء البشر) مستحيلون. ورفعت صوتها للتأكيد بلا تردد. هؤلاء الناس مستحيلون. كانت هزيلة القوام، امرأة موفورة الصحة بالأربعينات من عمرها، وطازجة وتثق بنفسها. رمق سليم الأوروبيين الثلاثة لحظة، كأنه يفهم ما يقولون، ولكن من الواضح أنهم لم يكونوا مهتمين به. ثم قال: “اشترت لي هذا، صديقتي". ولمس برقة قميصه ثم قرص الجينز المخملي الأزرق. كان مبتسما، غير متهكم، ولم يمانع أن يكون الساقي معنا. قال:”لا تريدان أن تعرفا كيف وجدتني؟". وانتظر أن نومئ أنا والساقي. تابع: “حسنا سأخبركما. كانت وحدها أمام فندق تومبيلي، في الشاطئ الشمالي. هل تعرفانه؟. رأيتها تجلس تحت شجرة قرب المدخل، كأنها
بانتظار شخص ما. بالعادة هم لا يخرجون حتى يأتي عمال الفندق لينقلونا بسيارة. هل رأيتم ماذا ألبسوا البابون؟. أتوا بهم من التلال البعيدة وألبسوهم مآزر صفراء وبابيونات عنق سوداء. ثم طالبوهم بثمن الأزياء. أنا أعلم ذلك". كان الساقي يرتدي قميصا أبيض، وبابيون عنق قصيرة سوداء، ولف مريولا أصفر حول وسطه - وربما عليه أن يدفع كذلك لقاء زيه، ولكنه ضبط نفسه ولم يظهر عليه الامتعاض. تابع سليم: “على كل حال. توقعت أنها تنتظر هناك أحدا ليرافقها. ولكن فكرت يجب أن أجرب في كل الأحوال. لم تكن صبية، ولكنها ليست عجوزا. استمعت لي لحظة، هل تفهمانني، وأنا أثرثر معها كالمعتاد عن الجولة السياحية بتعرفة الحكومة، ثم وجدتها تدخل في السيارة. قدتها بجولة طيلة اليوم، حتى بلغنا ماليندي، ووايتامو، وتاكايونغو. وعرفتها بتلك الأماكن، مع إضافات كلما سنحت الفرصة، أو إذا سألتني أسئلة صعبة. في المساء، وأنا أعود بها إلى فندقها، طلبت مني التوقف بجانب الشاطئ، وهناك فعلناها. على الرمل، في العراء، مثل كلبين. وكررنا ذلك يوميا. أحملها في الصباح، وأتجول بها في الأرجاء، وأخترع لها القصص، ثم أرافقها إلى الشاطئ بعد أن يخيم الليل. وبعد عدة أيام من هذا الطقس، طلبت مني أن أسافر معها إلى يولايا. وهي من تدبر كل شيء. التذاكر، جواز السفر. دفعت لقاء كل شيء".
قلت عفويا، فقط لأعلق بكلام ما: “لا بد أنك كنت جيدا معها عند الشاطئ". لم أصدق أن أي امرأة تلتقيها بالصدفة، وترى أمامها شخص مثل سليم، لا تتوقع المخاطر. وفي كل حال لم أكن جاهزا للاستماع إلى قصة أخرى عن امرأة شرقة تشتهي قضيبا إفريقيا. ضحك الساقي بلا صوت، ونظر سليم إلينا واحدا بعد الآخر، وكان يبدو كالمجروح قليلا.
قال له: “اسمي سليم". ثم أفرغ كأسه ودفعه قليلا نحوي قال: "لا يكلف الأمر الكثير من النقود إن كنت تستبدل عملة أجنبية. هل تعلم ذلك. وعموما كان لديها الكثير".
دفعت ثمن مشروبه وجلست أصغي للمزيد من حكايته عن المرأة المستهترة. كانت قد أنهت زواجها، وحصلت على حصتها من النقود، وقررت أن تسافر. أخذتني معها إلى ليفربول، مكان ولادتها، ولكن أبويها هاجرا إلى أستراليا وكانت حينها طفلة.
هل عانى من المصاعب؟ معها؟. نفض كتفيه. فقد اهتمت بكل شيء، وساعدته على رؤية أشياء، وكانت العاهرة تريد الجنس يوميا، وأحيانا مرتين أو ثلاث مرات في اليوم. لم يكن ذلك صعبا. رافقها لعدة أسابيع. فربح صديقين يعيشان بالجوار، وكلاهما مسلم، أحدهما صومالي والآخر من موريشوس. وعلماه كيف يحصل على النقود. ثم عاش مع المرأة حياة مرفهة. كانت الحكومة الإنكليزية بالغة الغباء. وليفربول مزدحمة بالسود، أولاد حرام لا يرحمون ويتصرفون على هواهم، ومع ذلك تمنحهم الحكومة النقود. كانت الإنكليزيات تتقربن منه دائما، تربتن على شعره، وتحشرن أنفسهن به، وتقدمن له الشراب. بعد دقائق من هذا الكلام ودعته وغادرت. قلت له: علي كتابة بعض الرسائل.
عاد في الأمسية التالية، بقميص آخر ملون. أخبرت موظف الاستقبال أن يقول إنني غير موجود، ولكن ربما لم بفعل بسبب ارتباطات أخرى. وفكرت أن أنبهه بملاحظة عابرة، وأنا أعبر من أمام المكتب، ولكن كانت نوبة العمل من نصيب الشاب الآخر.
قال لي سليم: “اشتريت هذا من أستراليا". وقرص قميصه وتابع: “ذهبنا إلى هناك بعد أيام من زيارة فرنسا. اسمها بيتي. كانت تدعى بيتي. بيثاني. اسم ديني، ولكن تسمي نفسها بيتي. هل تريد أن تذهب إلى الملهى في ليلة الغد؟ لا يزال أمامك ليلة أخرى، أليس كذلك؟ هناك مكان ممتاز في الجانب الآخر من ماجينغو. ليس شيئا يشبه السخافات السياحية. غدا يجب أن نذهب إلى هناك حتما. كانت النساء الأستراليات تردن ذلك كل الوقت، غير أن رجالهن لا يتحلون بنفس الرغبة. ولذلك النساء دائما ملتهبات. مشتعلات بالنار. ولم تمانع امرأتي إن رافقتهن". وأضاف الكثير لذلك، مع تفاصيل عن التدابير التي قامت بها النساء للانفراد به، وعن الهجران اللاحق بلا خجل.
سألته في النهاية في محاولة لوضع نهاية للقصة: “وماذا أعادك إلى هذا المكان؟".
قال دون مماطلة: “عليك أن تتوقف عن اللهو في خاتمة المطاف وأن تعود إلى أهلك. أي مكان آخر سيجعل منك مهرجا".
رأيت أن تلك اللحظة مناسبة للوداع، لكن كان سليم عمليا بعقل تجاري، ورفض أن يطلق سراحي. قبض على معصمي، ولم يفلته، ريثما يطلب دورة أخرى من المشروب على نفقتي. استجاب الساقي، ووقعت على الورقة، فتراجع، بحذر، وعيناه تغضان النظر عن يد سليم التي طوقت معصمي. كنا الوحيدين في البار. وما إن أصبح الشراب أمامنا، أفلت يدي مع ضحكة، وترك دائرة باردة على الجزء العاري الذي كانت يده تقبض عليه. وقفت لأنصرف، لاحظت أنه يفكر بقول شيء ما، ثم بدل رأيه وقال: “وماذا عن كأسك؟ لا بأس، سأشربها. أراك غدا إذا. أنت لم تنس زيارة الملهى. أليس كذلك؟".
طيلة اليوم لم أفكر كيف أتصرف حينما يأتي. فقد خصصت اليوم لكتابة الملاحظات عن بعض الزيارات والمقابلات التي تراكمت خلال الأسبوع الماضي، وكان هذا أسوا ظرف للكتابة، باعتبار أن زيارة سليم متوقعة. لا يوجد ميزة و لا مشقة في كتابة الملاحظات، لا شيء يشغلك أو يلهيك، وتحتاج فقط للتركيز على أحداث أثرت بك وانقضى الأمر.
في المساء اقتنعت أنه من السخف أن أنهك نفسي للغاية. وتوصلت قدر استطاعتي لجمع ما يلزم من معلومات عن شاعر غير مشهور يسمى باندو قاسم، كان يعيش في منعطف القرن، وحاولت أن أرى ما إذا كنت جاهزا لكتابة أي شيء عنه، غير أن ملهى ليليا في النصف الآخر من ماجينغو لا يفيد هذا الموضوع. ومع أنه لا يضره، وربما يغنيه. فبحوثي لم تسفر عن أي شيء يهم عن باندو قاسم، ولعل الملهى الليلي الذي رشحه سليم قد يساعد. لم أكن جاهزا لمشاهدة هذه الأماكن، وأنا بكل تأكيد أستطيع أن أزعم أنني أعرف هذه البلدة جيدا بدهونها المتراكمة على بطنها، ولكنه لا يمكنها أن تلحق بي أي ضرر غير الإصابة بالغثيان. لم أكن آمل أن أكون في دائرة أصدقاء سليم، والذين أتوقع أنهم مثل سليم من النمط الذي يقف له الشعر، وعموما بقي لي أقل من يومين قبل العودة إلى إنكلترا. لم يمكنني تصور إصابتي بمقدار ملحوظ من الضرر في هذه الفترة البسيطة. يمكن للملاحظات أن تنتظر، ويجب علي أن أنفق أمسيات صعبة وأنا أصغي إلى أقاصيص عن انتصارات جنسية على نساء عابثات ومستهترات. أوليس هذا أفضل من طرد سليم لأجد نفسي هدفا لغضبه وخبثه؟.
وهكذا في لحظة وصوله، كنت جاهزا له. وبدأت أفكر أنه لا يتوجب عليه أن يظهر ليعاقبني على شكي بقصصه. حينما هبطت كان يجلس بمزاج متعكر في سيارته. شغل سيارته بعد دمدمة حياني بها. جعلني ذلك الترحيب الرقيق أرتجف من الأفكار الآثمة. لماذا لم أطلب منه ببساطة أن يذهب؟. نظرت أمامي، دون أن أفكر بهدفنا، مع أنه لدي فكرة أين كنا. ولا بد أن تفكيري شرد لأنني فجأة أدركت أن سليم ابتعد عن الطريق، وكان يقود على طريق غير ممهد وممر غير مضاء. وكانت الأشجار تضغط على الجوانب من حولنا. وأضواء السيارة الأفقية جعلت مشاعري أكثر استعداء، كما لو أننا في نفق تحت الأرض. كانت أمسية بهيجة تهب عليها النسمات، ولكن في هذا النفق كان الهواء مشحونا بالبخار، وتفوح منه رائحة الأرض الرطبة. التفت سليم وتأملني، ورأيته يضحك. قال:”لا يبق الكثير". وبدأ يدندن. نبح كلب في الليل وبعد دقيقة، هاجت الأشجار السود بسبب صوت مر من هناك. في اللحظة التالية، أجبر سليم سيارته على الصعود فوق كومة تراب صغيرة، ودخل في باحة يحيط بها أشجار سود عملاقة. وقفت هناك سيارة أخرى، خارج أحد البيوتات. ولا بد أن هناك ثلاث أو أربع بيوت، ولكن يستحيل أن تجزم بسبب الليل. وقف بسيارته بجانب الأخريات، ثم غادرناها. وتبين أن الملهى هو الغرفة الأمامية من بيت طيني مدعم بألواح الخشب، وينيره مصباح كيروسين ضعيف. كان قد سبقنا رجلان، نهضا للترحيب بنا، كما لو أنهما بانتظارنا. قال سليم ضاحكا: “هذا ضيفنا من يونغيريزا".
بدا لي أحد الرجلين أنه بعمر سليم، وله نفس المظهر المتجهم. وكان الثاني أقل بالعمر وأضخم بالحجم، وحينما رمقني رأيت تقطيبة عفوية على فمه. اسمه ماجد. ولكن لم أسمع اسم الرجل الأكبر أول الأمر (وتبين أنه بودا). وقبل أن نجلس حول طاولة غليظة، نادى ماجد يطلب البيرة. ظهرت من الغرفة الخلفية امرأة في أواسط العمر، دون تحديد، وكانت بثوب ضيق تالف من الاستعمال، ومبقع بلون أسود تحت إبطيها. وتغطي رأسها بمنديل من نفس المادة، ولفت حول وسطها مئزرا. وبعد لحظات من النكات الهائجة، وبعض الصخب الإجباري، ذهبت مجددا لإعداد الطعام الذي طلبه أصدقائي الطيبون. كانت هناك زجاجات بيرة فارغة على الطاولة، وستبقى هناك كدليل على جرأة الشاربين. كان كل من ماجد والرجل الآخر قد شربا نصف زجاجة. والآن يتابعان ما تبقى، وكانا يرفعان الزجاجات إلى شفاههما بينما البيرة تغطيها الرغوة. كانت زجاجات كبيرة. وبلا أي كأس. تخيلت شيئا مختلفا حينما قال سليم سنذهب إلى الملهى، ولم أتوقع بيتا معتما في غابة يجتمع فيه الرجال لتناول الشراب سرا. قال بودا مؤكدا: “سيجلبون المزيد". كان تعبيره يراوح بين القليل من الكبت والكثير من المكر الصامت الذي لمسته عند سليم. ربما بفعل الشراب. عليك أن تكون جادا، ومهووسا، فيما يتعلق بأشياء للشراب في بلدة مسلمة مثل هذه، حيث أن السرية مستحيلة وانكشاف الأمر مؤكد. ولعل ذنب ارتكاب المحرمات يولد استهانة ساخطة بالذات، أو أن تناول السموم الضارة المتوفرة في جو ثقافة ضيقة ومحدودة هو الذي يتسبب بتلك الحالة المحتقنة بالألم. أو لعل الذل والاختناق يقود رجالا من هذا النوع، لتناول المشروبات رغم كل شيء. كيف لي أن أعلم؟.
قال سليم بمزاج متعكر وصوت مبحوح:" أرى أنكم لم تكلفوا أنفسكم الذهاب لصلاة المغرب اليوم". وأشار للزجاجات الفارغة على الطاولة. ضحك الرجلان من سخريته وابتسم سليم مكرها، وتجعد وجهه المنقبض قليلا. وبدا كأنه يحترق. كان بودا قصيرا وممتلئا، وحتى أنه بدين، ولكن كان مظهر جسمه صلبا ومضغوطا. وكأن امتلاءه لا علاقة له بميوله ولكن بشيء آخر محسوب ولا علاقة له بالمتعة فقط. تأملني قبل أن يتكلم، بعبث، ليمنح نفسه انطباعا بالرجولة والقسوة قائلا: “أخبرنا بما لديك عن يونغريزا. هل حقا لديهم هناك قطارات تسافر تحت الماء؟".
صاح سليم: “اسمع لهذا المتخلف. ألم تسمع بالأنفاق؟".
قال ماجد دون أي نبرة تدل على التعاطف: “ستجعل هذا السيد الإنكليزي يعتقد أننا كلنا طائشون مثلك".
جاءت بنت بثوب ممزق ويجلله الغبار من الغرفة الداخلية، وهي تحمل زجاجتي بيرة. كانت عيناها فارغتين تماما، تنظران عبر ما تصادف بشيء من التمعن والتركيز. وضعت إحدى زجاجتي البيرة أمامي. وحين مالت إلى الأمام رأيت من شق تحت إبطها أن جسمها شاب وممتلئ. وضعت الزجاجة الأخرى أمام سليم، فربت على مؤخرتها وجعلها ذلك تعبس.
قال ماجد بفظاظة وهو يطلق عاصفتن من العواء الضاحك: “صديقنا من يولايا يريدك يا عزيزة".
التفتت بعينيها نحوي مع نظرة تنم عن اهتمام عابر. ثم وقفت تنتظر، كما لو أنها تريد أن ترى ماذا سيجري لاحقا.
قال سليم وهو يضحك لي بتهتك: “هي لك".
رأيتها تعبس مجددا.
نظرت إليها، لوجهها الصغير والمدبب وجسمها اليافع والنحيف، ولم ألمح أي أثر للرفض. هززت رأسي فنكست نظراتها. ضحك ماجد ووقف. التفتت البنت إلى الغرفة الداخلية، ويداها تجران مسبقا ثنيات إبطيها بينما ماجد يترنح في أعقابها. ابتسم بودا بدماثة وعاود توجيه أسئلته لي عن إنكلترا. أجاب سليم على معظم الأسئلة، وهو يطلب مني بين حين وآخر تأكيد كلمة أو اثنتين. أعتقد أنني سمعت صوتا ثاقبا في إحدى اللحظات، وحينها ارتعش لسان اللهب في قنديل الزيت. مرت عليه فترة تبدو طويلة، وحينما خرج كان منحنيا، ووجهه اللماع موفور الصحة. قال وهو يمد يده لبقايا زجاجته: “مشقة تسرب العطش". وأفرغها في جوفه وأعادها مع ابتسامة المنتصر وقال: "حان دور الإنكليزي كما أظن".
نادوا عزيزة فجاءت بعد لحظة، وعيناها فارغتان ومشدوهتان كالسابق، وأطراف فمها متهدلة للأسفل. طلبت لهم البيرة، وأخبرت سليم حالما أنهى شرابه أنني أريد أن أنصرف.
سأل بودا: ماذا عن الطعام الذي طلبناه؟.
قلت: عندي واجبات لا بد منها.
نهض بودا وتبع البنت بهدوء بعد أن أحضرت البيرة.
سأل ماجد بلا ابتسامة: “ما هي طبيعة عملك؟ ألا ترغب بالنساء؟ اذهب وابذل جهدك معها. أم أنك لا تهوى النساء؟. ولكنها لن تفعلها معه؟". وأشار بحنكه إلى سليم وسأله: “ماذا فعلت بها؟".
أخذ سليم جرعة كبيرة من زجاجته وقال: “لدينا حفل زفاف. ولذلك سنتركك مع ألعابك الوضيعة".
سأله ماجد: “ماذا فعلت لها أيها المنحرف". وضحك كما لو أنه يعبر عن بهجة قصوى.
وصلنا إلى العرس في الوقت المناسب، وحضرنا طقوس مرافقة العائلة والأصدقاء للعريس حتى باب بيت عروسه. ضرب الطبول طبالان شابان ونحيلان جدا ومتشابهان وبوجهين مشدودين، وكانت عيناهما تنظران إلى الداخل في غضون هذا الضجيج. زين باب البيت أوراق نخيل، وتاج من الأضواء الملونة امتد على عرض الجدار الأمامي. ومن داخل البيت انبعثت أصوات نساء تغني، ثم فجأة تحولت إلى عاصفة من الزغاريد السعيدة وذلك حينما وصل العريس إلى الباب. تململ الموكب في المكان، وهم يصيحون بعبارات تحفيز للعريس، ثم انطلق صياح مرتفع وهو يدخل. وبدأت عيون الصغار تتلفت بقلق، بحثا عن الطعام المنتظر. نخر سليم بامتعاض وقال: “العروس واحدة من قريبات زوجتي".
لم يخطر لي أن لديه زوجة. سألته وهو يقود السيارة عائدين إلى الفندق: “هل كنت متزوجا قبل أن تسافر مع بيثاني؟".
كان اسما جميلا. وأتمنى لو تسنح لي الفرصة لاستعماله.
قال: “نعم". كنا نتقدم في الطريق قليل الإضاءة الذي يقود إلى باحة القطار، ولكن حتى في ذلك الضوء رأيت الهم والخوف يغطيان وجهه. أضاف: “تزوجتها قبل فترة طويلة".
سألته: “وهل عدت بسببها؟".
قهقه. وبعد لحظة، والسيارة تزمجر فوق طريق وعر، قال: “أعطتني شيئا في النهاية. تلك البغي. حينما رافقتها نزفت. زرت الطبيب فذهبت معي. قال إنه شيء غير ضار ولكنها قالت إنه لا يمكنني أن أبقى. ولم أعرف ما هذا النزيف. لكن كلما عاشرت امرأة أنزف".
تابعنا بصمت حتى توقفت السيارة أمام الفندق.
سألته: “هل زرت طبيبا بعد عودتك إلى هنا؟".
قال: “أي طبيب؟ وهل يوجد هنا أطباء؟".
نظر أمامه. ثم استدار نحوي مع ابتسامة خجولة ولطيفة، وقال: "خذني معك في الغد. هناك يمكنني رؤية الطبيب. خذني. وسأنفذ كل ما تأمرني به".
ومال نحوي، وابتسامته تعبر عن نفسها باستسلام وهي مطبوعة على وجهه المتألم والخائف.
جاء في اليوم اللاحق مع أنني أخبرته أنني سأعتمد على نفسي حتى أصل إلى المطار. وتكلم بأسلوبه الخبيث والعابث، منتقدا كل شيء يراه. ومع ذلك ألححت أن ينساني ويغادر، لكنه أوقف سيارته واقترب مني وفي يده جريدة ملفوفة.
قال: "كم سعر حقيبة مثل تلك؟ أحضر لي مثلها في المرة القادمة. أو أرسلها لي وسأحرص على أن أعيد لك نقودك. ليس لأنك بحاجة لنقودي في بلد الرفاهية. عموما سريعا ستتوقف عن اللهو، وتعود إلى بلدك".
ثم أضاف: “على الجميع أن يفعلوا ذلك. وإلا تحولوا إلى سخرية في بلد أجنبي".
صافحته وقدمت له كل النقود المحلية التي بحوزتي. نظر إلى الرزمة الكبيرة بدهشة.
قلت له: “أتمنى أن تتحسن أحوالك".
سألني ضاحكا: “ماذا تقول؟".
دس النقود في جيبه وقال: “في المرة المقبلة ستبقى حتما". ثم انصرف ملوحا بيده دون أن ينظر إلى الخلف.
***
...................................
* الترجمة من مجلة Wasafiri. مجلد 11. عدد 23. ص. 44-48.
* عبد الرزاق قرنح Abdulrazak Gurnah روائي بريطاني من أصول يمنية. كنيته الصحيحة باللغة العربية "قرناح" وتعني رتاج الباب.

ترجمها شعرا موزونا مقفى:

جميل حسين الساعدي

https://youtu.be/5Qr9ULikxOo

***

خواطر ليلية (2)

أفكّــــرُ كلـّـــما حـــلَّ الظــلامُ

بألمانيـــا لأنّــي لا أنــــــــــا مُ

*

عيوني ليسَ تغمضُ ثمّ سالــتْ

دمــــوعٌ راحَ يُسخنها الهيـــامُ

**

سنونٌ قدْ مضتْ وأتتْ سنونٌ

ولمْ أنعــمْ برؤيـــةِ وجــهِ أمّــي

*

مضى لي اثنتا عشرَ اغترابــا ً

وشــــوقي في ازديادٍ كلَّ يــومِ

**

وتكبــرُ لهفتي ويزيدُ شوقـي

لســــاحرتي.. لسيّدتي الكبيرهْ

*

أفكّـــرُ دائماً فيهـــــا، فصنْها

إلهي .. أنتَ أدرى بالسـريرهْ

**

أحبتنـــــي الكبيـــرةُ أيّ حُــبِّ

فإنّـــــي فـــي رسائلها رأيتُ

*

يـداً رَجفتْ وقلباً في اضطرابٍ

بعمقٍ راحَ يخفقُ مُــذْ بعُدْتُ

**

بذهنـــــي دائمــاً ذكرى لأمّي

لمدّةِ اثنتـــــا عشـــرَ الطويلهْ (3)

*

فمـــــا عانقتُهـــــا منذُ افترقنا

سنــونٌ قدْ مضتْ ليستْ قليلهْ

**

لألمــــانيا بقـــاءٌ مُستمّـــــــرٌ

بلادٌ أشبهــتْ جسمــا ً سليـما

*

ببلوطٍ يميـــــسُ وزيزفـــونٍ

سألقـاها كمـــا كانتْ قـــــديما

**

وإنّـــي لستُ ذا لهفٍ وشــوقٍ

لألمــانيا وأمّــــي ليسَ فيهـا

*

بلادي سوفَ تبقـــى غيرَ أنّي

إذا أمّــي مضتْ لــن ألتقيـــها

**

فقدتُ أحبّـةً مُنـذْ اغتــــرابي

كثيـــرٌ منهُـمُ تحتَ التــــــــرابِ

*

ولو أحصيتُ منْ أحببتُ عدّاً

ستدمى الروحُ من كُثْرِ الحسابِ

**

يُزيد العـدُّ مِنْ ألمــي فما لـي

خلاصٌ مِنْ مُعاناتـــي ومخرجْ

*

إلهي ـ أيّها ـ المحمودُ ـ خفّفْ

جنائزهمْ على صدري تُدحْرَجْ

**

بضــوءٍ من نهارٍ ذي صفاءٍ

فرنســــيٍّ مِــــن الشبّــاكِ نَــوّرْ

*

وبسمةِ زوجةٍ كالصبحِ حسناً

تبــدّدَ همُّ ألمــــــانيا وأدْبَــــــــرْ

***

جميل حسين الساعدي

.............................

(1) الشاعر الألماني هاينريش هاينه (1797 ـ 1856) هو أمير الشعر الغنائي في ألمانيا، وقد اعتبره كثير من النقاد أهم شاعر في تأريخ الأدب الألماني بعد غوتة . وهو في قصيدته هذه يعبر عن حنينه إلى الوطن وإلى أمه، في الفترة التي أمضاها في فرنسا

(2) سبق ان نشرت هذه القصيدة قبل خمس سنوات، وأعيد نشرها اليوم، والدافع لذلك هو اطلاعي عن طريق الصدفة على فيديو أعده لليوتوب أحد المعجبين بالترجمة، فنشرها مصحوبةَ بإلقاء جميل للنص الألماني مع موسيقى تأملية راقية، فرايت أن أنشر الترجمة ثانية  في (المثقف) برفقة  الفيديو إكراما لصاحبه. 

 (3) اثنتا عشر: المقصود اثنتا عشرَ عاما ً

...................

Nachtgedanken (Heinrich Heine(

Denk ich an Deutschland in der Nacht,

Dann bin ich um den Schlaf gebracht,

Ich kann nicht mehr die Augen schließen,

Und meine heißen Tränen fließen.

Die Jahre kommen und vergehn!

Seit ich die Mutter nicht gesehn,

Zwölf Jahre sind schon hingegangen;

Es wächst mein Sehnen und Verlangen.

Mein Sehnen und Verlangen wächst.

Die alte Frau hat mich behext.

Ich denke immer an die alte,

Die alte Frau, die Gott erhalte!

Die alte Frau hat mich so lieb,

Und in den Briefen, die sie schrieb,

Seh ich, wie ihre Hand gezittert,

Wie tief das Mutterherz erschüttert.

Die Mutter liegt mir stets im Sinn.

Zwölf lange Jahre flossen hin,

Zwölf Jahre sind verflossen,

Seit ich sie nicht ans Herz geschlossen.

Deutschland hat ewigen Bestand,

Es ist ein kerngesundes Land!

Mit seinen Eichen, seinen Linden

Werd ich es immer wiederfinden.

Nach Deutschland lechzt ich nicht so sehr,

Wenn nicht die Mutter dorten wär;

Das Vaterland wird nie verderben,

Jedoch die alte Frau kann sterben.

Seit ich das Land verlassen hab,

So viele sanken dort ins Grab,

Die ich geliebt – wenn ich sie zähle,

So will verbluten meine Seele.

Und zählen muß ich – Mit der Zahl

Schwillt immer höher meine Qual,

Mir ist, als wälzten sich die Leichen

Auf meine Brust – Gottlob! sie weichen!

Gottlob! durch meine Fenster bricht

Französisch heitres Tageslicht;

Es kommt mein Weib, schön wie der Morgen,

Und lächelt fort die deutschen Sorgen.

 

بقلم: كازوي شينكاوا

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

نجم وقارب

تبزغ الشمس

من وراء الأفق

و تقول: صباح الخير.

هناك نجم

لم يزل حاضرا في السماء

الشرقية

و يوجد قارب واحد

في البحر أيضا،

لم يحرك ساكنا

منذ الليلة الماضية.

كان النجم والقارب

يتبادلان الحديث

طوال الليل

تكلم النجم عن الكون

الواسع،

و تكلم القارب بدوره

عن الماء المالح

الغزير...

أنا على يقين تام

بأن أيا منهما

لا يقدر على إرغام نفسه

على توديع الآخر

لأن كل منهما

لديه المزيد والمزيد

ليتكلم بخصوصه.

***

....................

 - كازوي شينكاوا: شاعرة يابانية غزيرة الأنتاج. ولدت في إيباراجي عام 1929 وتوفت في 10 آب 2024 عن عمر يناهز 95 عاما. بدأت بكتابة الشعر وهي في ال 14 من العمر. نشرت أكثر من (30) مجموعة شعرية، بدأتها ب (الكرسي النائم) في عام 1953. لها أعمال شعرية موجهة للأطفال. أسست مع ساشيكو يوشيهارا مجلة (لا مير) للشعر النسائي 1983. من كتبها أيضا (أنطولوجيا الأرض 1997). حاصلة على جائزة مورو سايساي للشعر بالاشتراك مع ساشيكو يوشيهارا 1965. ترجمت هذه القصيدة للإنكليزية (تاكاكو لينتو) الحاصلة على جائزة لجنة الصداقة اليابانية – الأمريكية 2018 و2019.

بقلم: ميلين فرنانديز بينتادو
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

- أنا شخص كبير السن، بيتر بان. لقد كبرت منذ وقت طويل.
- لقد وعدتيني أنك لن تكبري، ويندي.
- لم أستطع منع ذلك.
جيمس ماثيو باري. بيتر بان ووندي
- إذا شعرتِ أن الأمر أصبح صعبًا للغاية، فأشركي أختكِ في النزهة، ولكن فقط إذا تعقد الموقف. اتفقنا؟
أومأتُ برأسي طائعة أمام سيل التعليمات التي أطلقها ذلك "الزعيم" ذو الخمسة عشر عامًا، والذي كان لديه حلولٌ لكل المواقف التي يمكن تخيلها، كأنه مخططٌ يسير على قدمين. لكن الجزء الأصعب كان من نصيبي أنا، المنفذة: طلب الإذن من والديّ للخروج وحدي مع "ك" كان يُرعبني؛ أظن أنني كنت أفعل ذلك بوجهٍ يظهر عليه الذنب لدرجة أنه كان يُشجع على الرفض.
كنت فتاةً في سن المراهقة منعزلة جدًا. مقابل مجموعة من وسائل الراحة المادية (التي ربما كانت صيقاتي يغبطنني عليها) لم يكن من المفترض بي أن أحلم حتى بأن أكون جيمس دين أنثوية. كنت حريصةً جدًا على ألا أثير صراعاتٍ بين الأجيال، أو أرفض مرافقة والديّ في نزهاتهما، أو أتذمر من صرامتهما. وعندما كانا يمنعونني من شيءٍ ما، كنت أتظاهر بعدم اكتراثي بالأمر. لذلك، قمت بتعديل طلبي قليلًا، سعيًا للحصول على نتائج إيجابية في تلك "المهمة"
- ماما، هل تظنين أن ليلي وأنا نستطيع الذهاب مع "ك" إلى حديقة الحيوان يوم الثلاثاء؟
كانت أمي امرأة شابة وجميلة، لكنها كانت تحتاج إلى فرض أوامر سخيفة لتعزيز ثقتها بنفسها، التي كانت منخفضةً بشكلٍ غامض. كانت شخصيةً يصعب إرضاؤها، لكنها كانت مهمةً جدًا في العائلة، وكنا جميعًا ندللها قليلًا.
- منذ متى وأنتِ مهتمة بالحيوانات؟ أسوأ درجاتك دائمًا في مادة الأحياء.
كنتُ طالبة متفوقة لا أترك مجالًا للقصور. أما عطلاتي، فكانت تبدو كعطلات جانحة شابة "تحت المراقبة". دائمًا برفقة، دائمًا تحت المراقبة. كانت علاقتي العاطفية مع "ك" التي استمرت أكثر من عام تقتصر على الاستماع إلى الموسيقى وتسجيل الأشرطة في غرفة المعيشة نهارًا وفي الشرفة ليلًا. لقد أدى هذا النظام القاسي من القيود إلى تأثيرات مختلفة فينا. فقد أصبحت في عيني "ك" شخصًا مرغوبًا جدًا، وكأنني فينوس في جينز فوق قاعدة من خمسة طوابق، وكان هو بالنسبة لي كأمير لطيف ورومانسي وواثق، مملوء بالحب كما في قصص الأفلام (وبالنظر إلى حادثة إذن الخروج، سيكون كحكاية سندريلا). وهكذا كانت علاقتنا تتطور في اتجاهين تحت عينَيّ والديّ الحذرتين الصارمتين.
- يقول "ك" إنهم أحضروا دبًا آكل النمل، أظن أنه أول حيوان جديد يصل منذ قرن. نريد أن نراه.
- لا أعرف، اسألي والدكِ، أنا لست مقتنعةً تمامًا.
والدي، الذي لم يكن موجودًا في المنزل أبدًا. دائمًا على سفر، وعندما كان يعود كان يملأ المكان بالهواء النقي والفرح. مليئًا بالنكات والهدايا، ويترك أمي مسؤولةً عن الحفاظ على الانضباط الصارم، بينما كان دوره هو أن يكون متساهلًا ومتفهمًا. بالطبع، كان نادرًا ما يتدخل، لكنه هذه المرة فعلها.
- حسنًا، خذي أختك وعودا مبكرًا.
لم أصدق الأمر، كنا سنخرج بمفردنا. قضيت اليوم كله في مساعدة والديّ. غسلت الصحون، لم أرد على والدتي ولم أتشاجر مع أختي. جهزت ملابسي وذهبت إلى الفراش مبكرًا.
لم نجد الدب آكل النمل رغم الجولات العديدة التي قمنا بها. كنت أرغب أن تراني زميلاتي في المدرسة، وحدي مع ك (وأختي كانت خلفنا، مبتهجة جدًا ومعها غزل البنات) مثل باقي الأزواج الذين أعرفهم.
-هيا نذهب إلى منزلي، نأخذ قسطًا من الراحة ثم نعود. هكذا سترينه. لم تزوري منزلي الجديد من قبل.
كان منزله جميلاً، أبيض اللون ومليئاً بالنباتات، واتضح أن "ك" كان مضيفاً كريماً. انظري يا ليلي: شريط كاسيت لفرقة أبا، إذا كنت تريدين سماعه، فالمسجل موجود. تعالي لنرى القطط المولودة حديثًا، إنها في المرآب. لقد ولدت القطة أمس وساعدتها.
عندما نزلنا ورأينا القطط الصغيرة، فهمت أننا قد وصلنا إلى "ذلك الشيء". ذلك الشيء الذي تتحدث عنه جميع المراهقات بشغف وخوف. ذلك الموضوع الرئيسي في أحاديث صديقاتي في الفصل. ذلك اللغز الكبير في حياتنا: أين سيكون؟ مع من؟ كيف؟ نعم، كانت لدينا أفكار مسبقة حول تلك اللحظة. كنا مليئات بالخطط والاقتراحات، وفوق كل شيء، كنا واثقات أنه سيكون قبل الزواج. أما بالنسبة لي، فقد كنت أتخيل تلك المراسم بشروط معينة. المكان: غرفة فندق مليئة بالسجاد؛ الوقت: ليلة قمرٍ أزرق ساحر، مع موسيقى بين الإثارة والقداسة. شيء يشبه الملاك جبرائيل وهو يعزف على الساكسفون. وكنت أتخيل نفسي أطول، أنحف، أكثر أناقة، وكان عشيقي مزيجًا من فيكتور مانويل وكلينت إيستوود، وكان كل شيء بطيء الحركة، كما لو كنا نطفو. وكان هو رجلًا حكيمًا وخبيرًا، وكنت أنا خفيفة الوزن ومرنة.
تحرك لسان "ك" بصعوبة في فمي، فاصطدم بلساني. بدأت أتجنبه واكتشفت حركة دائرية نحو اليسار يمكنني أيضًا عكسها: يمين، يسار، مرتين على كل جانب، ثم بشكل غير متناسق. فهم "ك" هذا كإشارة للمتعة. ثم تذكرت الأفلام، لففت ذراعي حول عنقه ولامست شعره الناعم جدًا والمقصوص بشكل مثالي على يد حلاق والده. كان يقوم بذلك بشكل جيد جدًا، وفجأة، وأنا غارقة في حركاتي شعرت بشيء بين ساقي فارتعبت. لم أكن أعتقد أنني سأصل إلى هذا الحد، ولم تكن لدي أي رغبة في ذلك؛ كنت أشعر بالملل وأردت العودة إلى المنزل لتناول الغداء. لكن، ماذا أفعل؟ هل أصرخ كالمجنونة؟ هل أبكي كطفلة غبية؟ وحاولت أن أتصرف بأكثر الطرق نضجًا بقدر الإمكان . كان شيئًا قاسيًا وجافًا، مع ألم استمر صوته لفترة قبل أن يختفي. أعتقد أنني من شدة الخوف حبست أنفاسي، ففسر "ك" انقطاع نفسي على أنه إثارة شديدة. مرر يده على رأسي وقبل جبيني، ثم عينيّ. كان هذا أكثر ما أعجبني. رفعني ووضعني على الأرض. ثم أدركت أن أول تجربة جنسية لي كانت وأنا جالسة على رف في جراج، بين علبتين من الطلاء الأزرق المعدني للسيارات وسقاية صفراء. والآن كنت أستطيع سماع الموسيقى التي كانت أختي تشغلها في المسجل بالطابق الأعلى: الملكة الراقصة. فكرت: أغنية مليئة بالبهجة والطفولة ."
مازلت أمسك بيد "ك"، الذي بدا وكأنه لا يستطيع أن يتركني، ذهبت إلى الحمام ونظرت إلى المرآة. لا شيء. كان لدي نفس الوجه. لم تتسع أنفي أو تكبر عيناي، ولم تكن شفتاي أكثر احمرارًا. إذن، الأشياء المهمة جدًا لا تترك آثارًا. لاحظت ذلك في ذهني. بقعة صغيرة هي كل الدليل الوحيد على "ما حدث".
خرجت إلى الصالة، حيث كانت أختي تسجل الأغنية... "وعندما تحصل على الفرصة..." جلست بجانها وشعرت وكأننا على بعد سنوات ضوئية. حاولت مساعدتها وصرف تفكيري إلى شيء آخر، وكدت أنجح، حتى جاء "ك" يحمل صينية عليها كأسان من الآيس كريم والعديد من البسكويت. هل كانت بادرة اعتذار؟ بدأت في تكسير البسكويت الخاص بي ونثره فوق الآيس كريم، فهكذا أحب تناوله.
- سأقدمه لك.
وشعرت بالأسف تجاهه. كان سعيدًا، وكنت أنا سبب سعادته. لم يكن يعرف ماذا يفعل، كيف يُظهر لي حبه ويرضيني. كان يشعر بأنه حامٍ، مسؤول، وأبوي. كنت عاقلةً بما يكفي لأفهم أننا لم نصل إلى هذه النقطة فقط بسبب أفعاله، بل بسبب ذلك المزيج من الإهمال والفضول الذي يلازمني بشكلٍ مريع.
- هل نذهب؟
قالت أختي:
- لا، لقد جاؤوا للبحث عنا. تحدث "ك" مع والده وسوف يرسلون له السيارة.
أضاف "ك":
- لم ترينيني أبدًا وأنا أقود سيارة من قبل .
في نبرة صوته فهمت الرسالة: نحن شركاء. لدينا ماضٍ حميمي مشترك.
وبعد أن ركبنا السيارة، كنا أنا و"ك" في الأمام وأختي في الخلف. اسمعي هذا، إنها مفاجأة... أغنية "وهي تشتري سلّمًا إلى الجنة". لفرقة ليد زبلين.
كيف كان شعور "ك"؟ أتخيله وكأنه يعتقد أننا تزوجنا في الكاتدرائية؛ كان يمنحني قبلة خفيفة عند كل إشارة مرور، "قف"، "أفسح الطريق"، ويغني "وأنتِ تشترين سلّمًا إلى الجنة". كنتُ أتأمل الشارع، السيارات الأخرى، والناس. ماذا فعلت؟ يا إلهي، كم كان والداي حكيمين في تقييدي بهذا الشكل. كنتُ أشعر وكأنني كائنٌ مذنب ومنحرف. لا، لم أكن كذلك. كنتُ أحب "ك". كان يعجبني، كنت أبكي إذا تشاجرنا، وكنت أستمتع بليالي الشرفة والأقراص الموسيقية، ممزوجة بحكاياته عن المقالب في المدرسة وخلافاته مع أبيه. كان لطيفًا جدًا. لكن الآن، لن يعود شيء كما كان. ماذا لو تشاجرنا؟ ماذا لو أخبر أصدقاءه؟ أما أنا، فلم أكن أنوي الحديث عن الأمر حتى في أحرج اللحظات، وحتى لو فى اعتراف.
قال:
- ابقى لتناول الغداء، لقد دعتك والدتي.
- لا، شكراً.
لم يكن يأكل أبدًا في منزلنا. كنت أشعر بالخجل، لكنه جلس بجانبي على المائدة. نزّع عظام دجاجتي، قطع الموز إلى دوائر صغيرة جدًا وأزال شعري من عيني. ابتسمت له بتسامح، لكن لم أستطع أن أفعل شيئًا أكثر. رقص ك مع أختي، وألقى نكات، وكتب على أوراق أنه يحبني وألقاها من الشرفة. كنت أتمنى أن يحل المساء ويذهب إلى منزله، حتى أكون وحدي مع أفكاري ومهبلي."
أخيرًا جاء للبحث عني .
- انزلي معي للحظة.
- لماذا؟
- لأعطيكِ شيئًا.
- لا أريد.
- حسنًا، سأحضره لكِ، انتظريني.
بقيت جالسة على الدرج أفكر أن السلالم كانت بيضاء مع بقع سوداء، كلها من الجرانيت. عاد بباقة جميلة من الزهور في مزهرية: زهور السيف الوردية والبيضاء، ورود حمراء، قرنفل، وزنابق، وربطة بلون أزرق ساحر. وبطاقة. أحب الزهور، لكن هذه الزهور جعلتني أشعر بالحزن.
-وداعًا، اتصلي بي بمجرد أن تستيقظي حتى لا أوقظك.
دخلت ومعي "غنيمتي".
- وما هذه الزهور؟
- إنها من "ك".
- ولكن لماذا؟
- لا أعرف.
قال أبي :
- ربما أرسلها دب النمل .
- إنها جميلة، قبّليني ونامي جيدًا.
- شكرا لك يا أبي .
سريري الذي كان بالأمس وما زال كما هو اليوم، وسادتي، دبدوبي، وصورة "مافالدا" على الحائط. هل سيحبونني كما كانوا من قبل؟ وماذا عن "ك"؟ عندما تخف حماسة العاشق المبتدئ، كيف ستكون علاقتنا؟ فكرت في أنني، بسبب عدم حزمي وتفاخري كمراهقة، قد دمرت شيئًا كان جميلًا ولطيفًا، وكان يمكن أن يكون بطيئًا وحلوًا. لكن لم يعد الأمر كذلك. في السرير الآخر، كانت أختي تنام بسلام، بعيدة عن كل شيء، ربما تحلم بحديقة الحيوان ودب النمل الذي لم نره، والمثلجات وفرقة "أبا"، وبحبيب أختها الساحر والمتسامح. ربما كانت تتمنى أن يكون لها حبيبٌ مثله.
بكيت كثيرًا. بسبب المسافة التي كانت تفصلنا وتجلعنا مختلفين؛ بسبب كوني لست الشخص الذي يعتقده والديّ؛ بسبب كوني مزيفة ومتصنّعة مع "ك"، الذي سيتذكرني بكل مودة كـ "أول مرة" له. بكيت لأنني خرجت من صفحات إخوان جريم لكي أدخل صفحات هنري ميلر، وهو أمر لم أكن مرتاحة له، ولأنني فقدت الفرصة الوحيدة والفريدة للاستمتاع بالحدث الأهم في حياتي، الذي لم يكن مهيبًا، ولا حالماً، ولا غامضًا، ولا أثيريًا. ولم يكن حتى مؤلمًا أو عنيفًا. لا شيء. كان للأسف رماديًا وغير مريح. بكيت كثيرًا، لم أنم حتى غفوت، ولكن بكيت كثيرًا وغرقت في النوم في ساعة متأخرة.
(تمت)
***
.......................
الكاتبة: ميلين فرنانديز بينتادو/ Mylene Fernández Pintado (من مواليد بينار ديل ريو، 1963) محامية وكاتبة كوبية،مؤلفة روايات ومجموعات قصصية، حاصلة على عدة جوائز (مثل جائزة ديفيد، وجائزة إيتالو كالفينو، وجائزة النقاد)، تتميز أسلوبها بالواقعية، حيث تحاول الكشف عن نفسها وعن أجزاء من الوجود اليومي، تلك الأشياء الهائلة التي تحدث للأشخاص العاديين: "أخبار صادقة لا تُصدق" و"أحلام غير قابلة للتحقق تحدث يوميًا"...حتى الآن، نشرت روايتين —"صلوات أخرى مُستجابة" (2003) و"زاوية العالم" (2011)— وخمس مجموعات قصصية، بعضها صدر بإصدارات باللغة الإنجليزية والإيطالية. والقصة المترجمة هنا " الدب آكل النمل" هي إحدى قصصها المبكرة.

 

قصيدة مترجمة للشاعر الروسي الكبير

Александр Пушкин - «Пророк»

الكساندر بوشكين. قصيدة - "النبي"

ترجمة وإعداد الأستاذ الدكتور إسماعيل مكارم

***

Пророк

قصيدة "النبي"

إني بهذه الصَّحراءِ المُكفهرّة

بالكاد أجرّ أقدامي، وظمأ الرّوحِ يُضنيني،

هذا المَلاكُ سيرافيم، ذو الأجنحةِ السّتةِ

على المُفترق يُلاقيني.

وكما في الحلم أراهُ يُلامِسُ برقةٍ

بأنامِلِهِ الرقيقةْ ْ مُقلتيَّ:

وكما تفعل أنثى النسر المرتعبة ْ

انفتحتِ المقلتان ِالنبويتان.

ها هو المَلاكُ يُلامِسُ أذنيَّ،

ويَملأهما بالرّنينِ والضَّجيج:

فسَمِعتُ اهتزازاتِ السَّماءْ،

وحراكَ المَلائِكةِ في العلياءْ،

وفي أعماق البحار مَسيرَ الأحياء،

وفي الوديان سُكونَ الكروم.

هاهو المَلاكُ يَدنو من شفتيَّ

ويَجتثُّ لسانيَ الآثم،

والماكر والثرثارَ،

وبيمناه المُضرجَةِ بالدَّم ِ

يضعُ في ثغريَ الأصم

لسانَ ثعبان ٍ حكيم.

وبسَيفِهِ قد شجَّ صَدري

وانتزَعَ قلبيَ الخائِفَ،

وغمَدَ في جوفه

جَمرة ملتهبة.

ها أنا مُرميٌّ كالجثةِ في الصّحراءْ

وصوتُ الرَّبِّ ناداني:

" قمْ، أيها النبيُّ، وانظرْ، واسمَعْ،

وافعَلْ ما أريده منكْ،

والفحْ صُدورَ الناس بقولكْ،

حين تجوبُ الأبعادَ بَرّاً وبَحرا".

1826

***

.............................

* ما يلفت نظري اليوم هو الجدل القائم في الأوساط الأكاديمية الروسية حول شخصية الكاتب والشاعر الروسي الكبير الكساندر بوشكين.

هناك فريق من الباحثين الروس يوجد فيه من يدعون أن بوشكين لم يكن يوما معجبا بالثقافة العربية، وبالشعر العربي، ويزيدون على ذلك بأنه كانت لدى بوشكين نظرة تطرح الشك تجاه الإسلام (1).

وهناك فريق آخر ينظر إلى أعمال بوشكين نظرة مخالفة تماما لهذا الرأي. إذ أنه من المعروف أن الكساندر بوشكين خلال نشاطه في دائرة الأدب العالمي استعمل ليس اللغة الروسية فحسب، إذ كان يتقن الفرنسية والإنجليزية وقد درس لغة الكنيسة الأرثوذكسية القديمة /اللغة السلافية القديمة/، واللغة الفرنسية القديمة، واحتفظ في مكتبته على عدد من الكتب في علم اللسانيات. وليس جديدا أن نذكر بأن بوشكين ترجم مؤلفات لكبار الكتاب من الإنجليزية والفرنسية وقد قام بترجمة أعمال لمشاهير الكتاب الألمان والإسبان. من هنا نستنتج أن هذه اللغات كانت في دائرة إهتمام الشاعر الكساندر بوشكين. ولا نرى غرابة في أن يهتم الشاعر الروسي، هذا الرجل الفذ باللغة العربية. تشير الرسومات المحفوظة في متحف عموم روسيا بأن بوشكين حاول رسم بعض الأحرف العربية مع توضيح كيفية نطق هذه الأحرف. تعود هذه الرسومات إلى عامي 1836 – 1837. ويشير الباحثون إن هذه الرسومات ربما كانت تبعده عن التفكير بقضايا تمرمره، ويشير الخبراء في إرث بوشكين أنه إلى جانب كتابة الأحرف العربية، كانت لدى بوشكين محاولة كتابة بعض الكلمات العربية. هذه المعلومات نستقيها من أعمال المستشرق أو. س . سينكوفسكي...أولى أيام اكتشافه واطلاعه على الكتابات العربية والخط العربي/نعني هنا بوشكين/ حصلت في جزيرة القرم خلال جولته في أحد القصور في الجزيرة برفقة أسرة الجنرال رايفسكي. هناك شاهَدَ ورأى جمال الأحرف العربية. يشير الخبراء في إرث بوشكين أن الشاعر استطاع قراءة القرآن الكريم، المترجم إلى الروسية، وهناك إشارة إلى ذلك في رسالة الشاعر إلى ب. ا. فيازمسكي عام 1824. وردت في الرسالة عبارة ( يفغيني اونيجين و العهد المقدس – القرآن). وخلال إقامته في ضيعة ميخائيلوفسكويه وبرسالة إلى أخيه كتب الكساندر بوشكين العبارة التالية:

«Я тружусь во славу Корана и написал еще кое-что – лень прислать».

والتي تعني: "إني أعمل لأجل تمجيد القرآن. ويتابع الشاعر- وقد قمت بكتابة أمور ما، غير أن الكسل يمنعني من إرسال ذلك ". انتهى الإقتباس.

هذا يعني إن ما وجده الشاعر الكبير من أفكار في القرآن الكريم من القول الحكيم كان دافعا له لكتابة بعض قصائده التي نعرفها اليوم. تشير إحدى اللوحات الفنية في متحف عموم روسيا إلى تجوال بوشكين في أحد قصور جزيرة القرم (2). إن ما نعرفه من إرث شاعرنا الكبير مثل "محاكاة القرآن" و قصيدة " النبي"

و" محاكاة اللغة العربية" وغيرها، تشير إلى أنها دليل تأثر وإعجاب أبداه الشاعرالكبير تجاه الثقافة العربية والحضارة العربية. لابد هنا من القول أن بوشكين كان منفتحا على الثقافات الغربية والشرقية في آن واحد، مثلما قرأ مؤلفات عظيمة من الأدب الإنجليزي والغربي، واطلع على الميثولوجيا الإغريقية، وعرف حياة المجتمعات الغربية، فقد كان معجبا بالثقافات الشرقية وبالخصوص الثقافة العربية. اطلع بوشكين على ترجمة القرآن الكريم إلى الفرنسية، وبعد ذلك اطلع على ترجمة القرآن الكريم إلى الروسية، وبدون أدنى شك قد اطلع على حكايات "ألف ليلة وليلة"، وكان متأثرا

بها أثناء كتابة حكاياته المعروفة مثل "روسلان ولودميلا" و"حكاية عن القيصر سَلطان" (بفتح حرف السين) . يشير عدد من الباحثين إلى أن الشاعر بوشكين كان معجبا بإيقاع الشعر العربي أو لنقل إيقاع اللغة العربية، وهناك رسوم تظهر فيها محاولات الشاعر بوشكين القيام برسم بعض الأحرف العربية. نحن هنا في هذه المقدمة الصغيرة لا نقوم باقفال هذا الجدل بل نحاول الإضاءة على هذا الموضوع، كما ندعو الباحثين العرب إلى المشاركة في الإضاءة على هذا الموضوع مع إتباع المنهج العلمي للبحث وليس بالكلام المليء بالعواطف.

دون أدنى شك بإمكاننا القول أن بوشكين،الذي تربى في أسرة أرثوذكسية في وسط طبقة النبلاء الروس، كان رجلا مسيحي المعتقد، غير أن معرفته بأن جده إبراهيم، الذي تربى قرب القياصرة الروس، كان من أصول شرقية، هذا الأمر دون شك دفعه لكتابة تاريخ جده ذاك حين دَوّنَ قصة "عربي بطرس العظيم"، وقد بدأ بكتابة هذه القصة عام 1827 – حتى خريف 1837 غير أن هذه القصة لم تكتمل بسبب رحيل بوشكين المؤسف والمبكر عام 1837

هذا المنشأ لدى بوشكين من أصول سلافية وشرقية في آن واحد دون أدنى ِشك يجعله يحمل الحب لوطنه روسيا ولعادات قومه وبيئته ومعتقد هذه البيئة الروسية، هذا المعتقد الأرثوذكسي، وبنفس الوقت يجعله يكنّ الاحترام تجاه الشرق بما في ذلك تجاه الثقافة العربية والإرث العربي الأسلامي.

نحن نعتبر أنّ عمل الفريق، الذي يشكك باحترام بوشكين وإعجابه بالثقافة العربية أنه عمل بلا شك متأثر بتيارات فكرية معادية للإسلام، وما يقوم به بعض الباحثين اليوم في تزوير إرث الكساندر بوشكين، هذا الإرث العظيم، إنما هو بذاته تشويه للحقيقة، واعتداء على قامة كبيرة في تاريخ الأدب العالمي. وإن هذا العمل هوعمل ضعيف وفاقد لأي وثيقة تثبت هذا الإدعاء الكاذب والضعيف بالوقت ذاته.

نقدم للقارئ قصيدة من أشعار الشاعر الكساندر بوشكين ترجمت من قبلنا من النص الروسي الأصلي.

هوامش ومصادر:

1. ПУШКИН, Александр Сергеевич. Евгений Онегин. Стихотворения. Проза. – Москва: Эксмо. 2020 − 1440с.

تم أصدار هذه المجموعة الكبيرة من أعمال بوشكين تحت إشراف أندري ساأوكوف والمحرر ألمسؤول ن. روزمان.

* راجع في الكتاب المذكور نص "محاكاة القرآن"، والملاحظات التي دونها من قاموا باعداد هذا الكتاب، وسموها ملاحظات بوشكين، ودونت تحت هذه القصيدة، دون الإشارة إلى المصدر الخاص بالشاعر نفسه، أو المؤلف نفسه، وهذا ما يزيد الشك بهذه الملاحظات. نحن نعتبرها ملاحظات أدخلت على النص، بغرض تزوير إرث هذا الشاعر الكبير، وليست من داخل السياق، ولا تنتمي إلى إرث الكساندر بوشكين..

* ملاحظة: نحن أبقينا وحافظنا على حجم القصيدة وعدد السطور كما هي لدى الشاعر الكسندر بوشكين. هذا من أصول نظريات الترجمة وأخلاقيات الترجمة.

2. https://dzen.ru/y5x2 _xljggx7jta0

متحف عموم روسيا. بوشكين واللغة العربية.

قصة: داليا دي لا سيردا
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

جلست على مقعد المرحاض، تبولت على اختبار الحمل، وانتظرت أطول دقيقة في حياتي. إيجابي. أصبت بنوبة هلع، ثم شعرت بسعادة خفيفة؛ وضعت يدي على بطني بحنان. كنت دائمًا أرى مشاهد الفتيات اللواتي يجلسن على المرحاض بانتظار معرفة إن كنّ حوامل أم لا شيئًا مثيرًا للشفقة"، فكرت: هذا مثير للشفقة أيضا . لكن، بصراحة، أنا معتادة على أن أكون مثيرة للشفقة، ربما لهذا السبب أتعاطف مع شخصيات مثل جيسيكا جونز أو بيني لين في فيلم "كاد أن يكون مشهورًا" . نهضتُ، غسلتُ وجهي، ثم خرجتُ من الحمام، ورميتُ نفسي على السرير.
لديّ نوع من المقاومة تجاه تقبّل الأخبار السيئة. قد يقول البعض إنني أتهرب منها، لكن لا، الأمر فقط أنني أجد صعوبة في تصديق أن كل المصائب تحدث لي وحدي. تعرضتُ للخيانة، سُرقتُ في الشارع، ماتت حيواناتي الأليفة إمّا مسمومة أو دهسًا، لا أعرف والدي، وفقدتُ أمي قبل بضع سنوات. والآن، في الدرج الأيمن من منضدتي، يوجد اختبار حمل يحمل خطين ورديين. لذلك أجريتُ فحص دم للتأكد. وتأكت أنه إيجابي. لم أكن أعلم أن اختبارات الحمل المنزلية قد تعطي نتائج سلبية خاطئة، لكنها لا تخطئ أبدًا في الإيجابيات. لم أكن مستعدة لإنجاب طفل في هذا العالم اللعين.
أتذكر تمامًا أنه في تلك اللحظة، كانت أغنية «الفوضى» لماريا روديس تتردد عبر مكبر الصوت. إنها الأغنية التي تعكس حياتي تمامًا. أنا عالقة في دائرة لا تنتهي من القرارات الخاطئة، حيث تكون عواقبها دائمًا مأساوية:
"أعود مجددًا إلى الطريق المعتاد،
دون أن أتذكر إن كان الطريق الخطأ،
وعلى الرغم من أنني أبدو وكأنني أسيطر على الأمور،
إلا أن شيئًا ما يخبرني أنني فقدت السيطرة مرة أخرى."
ربما تعتقد أنني أبالغ، وأن الحمل غير المرغوب فيه ليس كارثة. لكنه بالنسبة لي كان كذلك. كان أسوأ كارثة في حياتي. تسونامي لعين، يجتاح بمياهه المالحة كل أحلامي وأهدافي، بل وحتى يدمر الأخطاء التي لم أرتكبها بعد.
أرسلت رسالة إلى جيراردو: "أنا حامل".
فجاءني رده مصدوماً: "لااااا! مستحيل!"، ثم أتبعها بأكثر الرموز التعبيرية سخافة.
"سنصبح أبوين! يا ديانا، كم هذا رائع!"!"
" سعادة؟ لا. لا، ولا في الأحلام."
"لا تقولي لي إنك تريدين الإجهاض؟! لاااااا، ديانا!"
لكنني أكذب... جيراردو لا وجود له. شعرت فقط برغبة في إضفاء لمسة رومانسية على القصة. الحقيقة؟ كان الحمل نتيجة ليلة سُكر. لم أكن أعرف حتى اسم الرجل، ولم يهمني أن أعرفه.لم يكن أداؤه في الفراش يؤهله لأي شيء في الحياة. نعم، كنت حاملًا من رجل ينام مع النساء بأسوأ طريقة ممكنة.
أنا من ذلك النوع من الفتيات اللاتي يُستخدمن كحجة ضد الإجهاض. تلك التي تخرج وتسلم نفسها لأول من يهمس لها بكلمات جميلة. تلك التي يُقال لها كان من الأفضل أن تستخدم وسائل منع الحمل، أو تربط قناتي فالوب، أو ببساطة أن تُغلق ساقيها. أسمح للغرباء أن يحتضنوني بقوة. أحب الحفلات، وأحب أن أسكر بشدة، وأرتكب حماقات تحت تأثير الكحول.
لم يخطر ببالي أبدًا فكرة إكمال هذا الحمل. لذلك بدأت في البحث عن خياراتي للإجهاض. كتبت في جوجل "الإجهاض"، ووجدت عدة عيادات، جميعها في مكسيكو سيتي، لكنها لم تكن في متناولي. قرأت عن وسائل كثيرة، بدا بعضها مرعبًا: إدخال البقدونس في المهبل، غسول مهبلي من الكوكاكولا مع الأسبرين والزيت الأسود، شاي المريمية، شاي الأوريجانو، شاي اليانسون النجمي ، إدخال علاقة ملابس معدنية في الرحم. من رابط إلى آخر، وجدت نفسي أشاهد مقطع فيديو يظهر فيه جنين يحاول النجاة وهو يصرخ: "إيبالي، إيبالي، ساقي الصغيرة!" شعرت بمزيج غريب من الضحك والحزن.
عثرت على قصص لنساء أجهضن، يتحدثن عن نزيف حاد، وجلطات بحجم العالم،و عمليات تنظيف رحم مؤلمة، وانفجارات نزفية، وأحشاء متعفنة تأكلها الديدان ، وقصص مليئة بالندم، والألم، والرعب . وسط هذه الشهادات، وجدت قصة فتاة تتحدث عن دواء يُدعى الميزوبروستول. بحثت عنه في جوجل. وفقًا لويكيبيديا، يُستخدم الميزوبروستول لعلاج قرحة المعدة، لكنه يسبب تقلصات في الرحم. اكتشفت نساء الأحياء الفقيرة في البرازيل أنه يسبب الإجهاض . وبعد دراسته من قبل منظمة الصحة العالمية، تمت الموافقة عليه كوسيلة آمنة لإنهاء الحمل. لم يكن لديَّ ترف الوقت للتفكير فيه، أخذت الخمسمئة بيزو المتبقية من راتبي وخرجت إلى الشارع.
على ناصية منزلي كانت هناك صيدلية، لكنهم طلبوا مني روشتة طبية. واصلت البحث حتى وصلت إلى صيدلية أخرى، لكن سعر الدواء كان مرتفعًا ولم أملك المبلغ الكافي. تنهدت بقلق، وأكملت البحث في صيدليات أخرى، خمس منها تحديدًا؛ في بعضها لم يكن الدواء يحتاج إلى روشتة لكنه كان يتجاوز إمكانياتي، وفي الأخرى كان الحصول عليه مشروطًا بالروشتة الطبية. شعرت باليأس، وانهمرت دموعي، وأصابني نوبة قلق. "ماذا سأفعل؟" تساءلت في داخلي.
مشيت طويلًا، ربما لساعة كاملة، أو هكذا شعرت. كنت أبكي طوال الوقت. وفجأة، لمحت من بعيد شخصًا يرتدي زيًّا ترويجياً ضخماً ويرقص على أنغام أغنية صاخبة. أسرعتُ في خطاي، دخلت الصيدلية وسألت عن الدواء. نظرت إليّ الصيدلانية، وهي امرأة في منتصف العمر، بنظرة شفقة وقالت :
- يتوفر لدينا يوم الاثنين بسعر أقل، ثلاثمائة وثمانين بيزو.
قلتُ متوسلة:
- هل يمكنني الحصول عليه الآن، من فضلك؟
ابتسمت وقالت :
- بالطبع، ويمكنك الحصول على علبة تحتوي على اثنتي عشرة قرصًا من الإيبوبروفين بتركيز ثمانمئة ميليجرام مقابل عشرة بيزو إضافية.
وافقتُ على الفور:
- سآخذها أيضًا .
دفعتُ المال، ثم حملت الدواء، وخرجت مسرعة.
بمجرد وصولي إلى المنزل، عدت إلى الإنترنت وأعدت قراءة المعلومات بعناية. قرأتها ثلاث مرات لأتأكد من كل شيء. كانت يداي تتعرقان، وقلبي يخفق بقوة من الرهبة. كل المصادر التي قرأتها حذّرت من القيام بهذه الخطوة وحيدة، لكنني لم يكن لدي أحد ألجأ إليه.
توفيت أمي منذ خمس سنوات بعد صراع مرير مع السرطان، الذي أضعف جسدها حتى العظام. بعد وفاتها، استخدمت تعويضها المالي لأحرق جثمانها، ثم وضعت رمادها في غرفتها وأغلقتها إلى الأبد. لم ألمس شيئًا هناك منذ رحيلها، كل شيء مازال كما كان يوم فارقت الحياة.
اضطررت إلى اللجوء إلى محامٍ لإنهاء إجراءات معاشها، لكنه لم يكتف بأتعابه المعتادة، بل أراد المقابل بطريقة أخرى، ووجدتُ نفسي مضطرة للقبول. بعد إنهاء الأوراق، صرت أعيش على المعاش الذي يُحوَّل إليّ شهريًا، عشرة آلاف بيزو، وأركز فقط على دراستي. التحقت بجامعة ذات توجه ديني صارم، ورغم أن لدي صديقات، فإن أيًّا منهن لا تؤيد الإجهاض، إلا إذا كان مقررًا في إحدى العيادات الفاخرة في الخارج، يتبعه يوم من التسوق في المراكز التجارية.
رفيقي الوحيد في هذه الحياة هو قطي، ريكاردو. تبنيته بعد وفاة أمي بيوم واحد فقط، كان صغيرًا جدًا، فكنت أسقيه الحليب الخاص عبر زجاجة رضاعة، ووضعت له صندوقًا صغيرًا وأضأت مصباحًا ليمنحه الدفء. ربما لأنني كنت الراعية لأمي طيلة مرضها، فقد أدركت حينها أن وجود كائن يعتمد عليّ، ينتظر عودتي، ويحتاجني ليبقى على قيد الحياة، هو ما يحفظني من الضياع، ويمنعني من الانحراف.
قرأتُ البروتوكول للمرة الأخيرة، ثم أشعلتُ التلفاز وسجلتُ الدخول إلى نتفليكس. بحثتُ عن فيلم مناسب للإجهاض، فاخترت فيلم "فتيات لئيمات". فتحت علبة الميسوبروستول، أخرجت أربع حبات، وضعت على كل واحدة قطرة ماء، ثم دسستها تحت لساني. أبقيتها هناك لنصف ساعة. كان طعمها مرًّا لدرجة أن مجرد بلع ريقي صار إنجازًا بطوليًا. اضطررت لابتلاع قيئي مرتين. بعدها مباشرة، بدأ جسدي يرتجف. شربت ما تبقى من الحبوب مع كوب من شاي البابونج.
أنهيت الفيلم وانتقلت إلى "شقراء قانونية. ازداد الشعوربالقشعريرة، فاندسست تحت الأغطية بينما كان قطّي "ريكاردو" مستلقياً على حجري.لم يظهر نزيف بعد، فقط شعرت ببعض المغص الخفيف المشابه لآلام الدورة الشهرية، لكن سرعان ما تقيأت وأصابني إسهال.
عندما انتهى الفيلم، بدأت بمشاهدة "ميس سيمباتيا". وضعت أربع حبات أخرى في فمي وانتظرت حتى تذوب. هذه المرة كان الأمر أسهل؛ اعتادت حواسي على الطعم، ولم أشعر بالغثيان. ابتلعت بقايا الدواء مع شاي النعناع، ثم أعددتُ لنفسي كاساديا بجبن البانيلا وشرائح لحم الديك الرومي بدأ الألم يزداد شيئًا فشيئًا، أشبه بتقلصات الدورة الشهرية ولكن أشدّ قليلًا. تناولت مسكنًا، وتمددت في سريري واضعةً منشفة دافئة فوق بطني، مترقبةً ما سيحدث لاحقًا.
شعرت بتقلص حاد داخل رحمي، ورغبة جامحة في الدفع أجبرتني على الركض إلى الحمام. جلست على المرحاض، وحين ضغطت، اندفعت موجة من الدماء والتخثرات، ملوّنةً خزف المرحاض بلونٍ أحمر قانٍ. ازداد الألم بشكل مرعب، لم يكن مجرد تقلصات حيض، بل شيء يفوقه بكثير. استمر النزيف الغزير لحوالي دقيقة، لكنها كانت أطول دقيقة في حياتي. اجتاحتني نوبة هلع ودوار، وانفجرتُ في بكاءٍ مرير. كنت مرعوبة. لم أكن مستعدة للموت، وخصوصًا ليس بهذه الطريقة، غارقةً في الدم والقذارة. لطالما تخيلتُ موتي بطريقة أكثر درامية، ربما جرعة زائدة في ليلة صاخبة، لكن ليس هنا، وليس بهذه الطريقة البائسة. سقطتُ على الأرض، عانقتُ المرحاض، انخرطتُ في بكاء مرير، خليط من الخوف، الغضب والحزن.حينها فقط، تمنيتُ لو كان هناك "جيراردو" يربت على كتفي ويطمئنني قائلاً: " كل شيء يسير على ما يرام".
بدأ الألم يخف. مددتُ يدي داخل المرحاض باحثةً عن الجنين، لكنني لم أجد شيئًا. لم يكن هناك سوى تجلطات دموية تشبه تمامًا تلك التي ترافق الدورة الشهرية، ضغطتُ على زر السيفون. خلعتُ ملابسي، وفتحتُ الماء الساخن، ودخلتُ تحت الدش، ثم جلستُ القرفصاء ودفعتُ بكل ما أوتيتُ من قوة، تمامًا ككلبة في المخاض. كل ما خرج كان دفقة دم وتجلط دموي بحجم حبة الجوافة. استلقيتُ على أرضية الحمام وبقيتُ هناك نصف ساعة دون حراك. بعدها، أكملتُ استحمامي، ثم أطعمتُ ريكارْدو.
أعددتُ لنفسي حساء ماروشان بالدجاج وأغرقته بالليمون، وفتحتُ كيسًا من رقائق "روفلز" بدلًا من الخبز، وصببتُ لنفسي كوبًا من الكوكاكولا المثلجة. فعلتُ عكس كل التعليمات التي أوصى بها دليل الإجهاض؛ لم أتناول طعامًا خفيفًا، لم أشرب محلولًا معوضًا للسوائل، ولم أتجنب المأكولات المهيجة. ربما فعلتُ ذلك عمدًا، ربما كنتُ أبحث عن نهاية سيئة—كأن ينتهي بي الأمر في المستشفى، أو في السجن، أو ربما في كليهما معًا.
شاهدتُ فيلم "كاد أن يكون مشهورًا"، وكعادتي بكيتُ بحرقة. كانت التقلصات تأتي وتذهب، والإسهال مزعج لكنه محتمل شعرتُ أن مأساتي كانت ناقصة، فقد قرأتُ عن نزيف حاد وآلام مروعة، بينما كان ما أمرّ به أشبه بدورة شهرية مصحوبة بإسهال وزكام، وليس كارثة كما تخيلت. بل الأكثر استفزازًا أن الأمور، وللمرة الأولى في حياتي، كانت تسير على ما يرام ؛ وكان هذا يغضبني.
وضعتُ آخر أربع حبات تحت لساني، وانتظرتُ، بشيء من الرضا الخفي، حتى تذوب تمامًا. لم أشعر بالغثيان أو القشعريرة، وكانت الآلام المعوية قد هدأت تقريبًا، باستثناء ارتفاع طفيف في الحرارة يمكن احتماله. فتحتُ فيلم " تقريبًا حامل "، لفتُّ سيجارة حشيش، وفتحتُ زجاجة هاينيكن. شربتُ وأخذتُ أدخّن، ثم انفجرتُ في ضحك هستيري عندما عاد الألم، فقد اجتاحتني من جديد تلك الرغبة الملحّة في الدفع. مشيتُ إلى الحمام، جلستُ على المرحاض، وضغطتُ بقوة. تدفق دمٌ بلون النبيذ الأحمر، ترافقه تخثرات بحجم قبضة اليد، تنساب من رحمي.
جلستُ على الأرض ومددتُ يدي في المرحاض. لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى وجدتُ كيسًا صغيرًا بحجم إصبعي الخنصر، داخله كتلة وردية شاحبة، أشبه بحبة فاصولياء. تنهدتُ بارتياح… وابتسمتُ. ألقيتُها في المرحاض… وضغطت على زر السيفون.
(انتهت)
***
.........................
الكاتبة: داليا دي لا سيردا (مواليد 8 مارس 1985، أغواسكاليينتس، المكسيك) هي كاتبة، وفيلسوفة، وناشطة مكسيكية. درست الفلسفة في جامعة أجواسكاليينتس المستقلة، ولم تكمل. عملت دي لا سيردا في وظائف متنوعة، حيث كانت موظفة في مركز اتصالات، وعاملة في حانة، وفي مصنع للحلوى. كما شغلت منصب محررة في قسم الأخبار الدولية، بالإضافة إلى عملها كبائعة في شركة أفون، وكمروّجة للورود السوداء في الشوارع، وبائعة ملابس مستعملة في الأسواق الشعبية. القصة الأولى من مجموعتها القصصية " عاهرات احتياطيات " التى وصلت الى القائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية للسرد المترجم للعام الحالي 2025 .

 

بقلم: آدام زاغاييفسكي

ترجمة: صالح الرزوق

***

لن تنام الليلة. النافذة تلمع.

وفوق المدينة، تتطاير الألعاب النارية وتنفجر.

لن تنام: الكثير مر وانقضى.

طوابير من الكتب تقف منتبهة فوقك.

ستفكر بما حصل وما لم يحصل. لن تنام، ليس الليلة.

وسيتمرد جفناك الملتهبان،

وستلدغك عيناك المحمرتان،

وسيتورم قلبك

بالذكريات.

لن تنام. ستنفتح الموسوعات،

والشعراء، بأبهى حلة،

سيجتمعون بباقات من أجل الشتاء، وسيتبخترون أمامك الواحد بعد الآخر.

وستنفتح الذاكرة، بهسيس مفاجئ

مثل صوت الباراشوت. ستنفتح الذاكرة،

ولن تنام،

وستتأرجح عبر الغيوم،

لتكون هدفا سهلا في بريق الألعاب النارية.

لن تنام: الكثير حصل،

والكثير كشف عن نفسه.

وأنت تعلم أن كل قطرة دم

يمكن أن تكتب إلياذتها القرمزية،

وكل كاتب في الفجر

هو مفكرة سوداء. لن تنام،

تحت لحاف سميك من السقوف،

والعليات،

فالمداخن تلفظ حفنة من الرماد.

والليالي الشاحبة تجدف نحو السماء،

ومجاذيفها من جوارب حريرية وتخشخش قليلا.

ستذهب إلى الحديقة العامة، وأيدي وأقدام الشجرة سوف تلمس كتفك برقة،

لتتأكد، ولتثبت أنك مخلص. لن تنام.

ستسرع بالجري عبر الحديقة غير المسكونة،

حيث ظل يواجه ظلالا كثيرة.

وستفكر بإنسانة لم تعد موجودة

وبإنسانة غيرها تعيش اللحظة

ولكن حياتها على الحافة تتحول

إلى الغرام. ثم الضوء، والمزيد من الضوء يتجمع في الغرفة. لن تنام، ليس الليلة.

***

.....................

الترجمة من البولونية: ريناتا غورجينسكي وبنجامين آيفري وس. ك. وليامز.

آدام زاغاييفسكي Adam Zagajewski  شاعر بولوني. من مواليد لفوف عام 1945. هاجر إلى باريس عام 1981. وعمل بالتدريس في جامعة هيوستون الأمريكية.

بقلم: براين بيلستن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

1

منظر من نافذة السفينة الفضائية لملياردير

هنالك،

بين النجوم

التي سحرته

واوقعته في أسرها،

*

اروع منظر

من بين تلك المناظر

جميعا هو

*

كوكب الأرض،

وهو يدور

حول محوره،

*

وجميع

اولئك الناس

الذين يدفعون الضرائب

***

2

الكلمات عصية

مشكلة

كتبت القصائد

في الجو الحار

ان الكلمات

تتصبب عرقا

وتلتصق ببعضها

***

.......................

براين بيلستن: شاعر وكاتب بريطاني من مواليد برمنغهام لعام 1970 واسمه الحقيقي بول ميليتشيب. تلقى تعليمه في جامعة ويلز وبدأ نشر قصائده على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما وعرف بوصفه صوتا شعريا متميزا حتى أطلق عليه لقب (أمير شعراء تويتر). ظهرت له المجموعات الشعرية الآتية (استقللتَ الحافلة الأخيرة الى الديار) 2016؛ (يا أليكسا، ماذا هنالك لنتعلمه حول الحب؟) 2021؛ (50 طريقة لتسجيل هدف) 2021؛ (أيام كهذه: دليل بديل عن العام في 366 قصيدة) 2022؛ و(واذاُ فهذا هو عيد الميلاد) 2023، كما نشر رواية بعنوان (يوميات احدهم) في عام 2019. يواظب بيلستن على نشر قصائده على مواقع التواصل على نحو شبه يومي.

بقلم: مييكو كاواكامي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

تقع شقتي في مبنى خشبي قديم، بُني منذ عدد لا يعرف من السنين، مكوّن من طابق واحد فقط، يضم وحدتين منفصلتين متجاورتين، محشورتين بين بيوت متداعية لم يعد أحد يسكنها. تخيّل ثلاث أكواخ خشبية قديمة كانت ستنهار منذ زمن لولا أنها تتساند على بعضها البعض، عندها ستفهم الصورة بالكامل.
مكان معيشتي بسيط: غرفة واحدة مفروشة بحصير التاتامي، ومطبخ صغير مزود بموقد ذو شعلة واحدة، وحمام تتسرب منه المياه. لا يوجد أي مكان للتخزين.
في الخلف، المساحة المخصصة لنشر الملابس تكاد تكون محتلة بالكامل بوحدة التكييف، ويخيل إليّ أن جدار المنزل خلفي يضيق عليّ أكثر فأكثر.
عندما انتقلت إلى هنا، كانت هناك امرأة تعيش بالفعل في الوحدة المجاورة، لكن مكتب العقارات رفض إعطائي اسمها. كانت اللوحة على بابها فارغة، مصفرّة بفعل الشمس، ولم يسبق لنا أن تبادلنا أي حديث.
كانت بدينة قليلاً، بشعر طويل متشابك وغير مهندم، ودائمًا ما ترتدي الملابس نفسها. لست في موقع يسمح لي بالحكم على أحد، لكن بصراحة، لم تكن شخصًا منظمًا أو نظيفًا. لم يكن أحد يزورها أبدًا، وكلما رأيتها، كان هناك شيء في انحناءة كتفيها يخبرني بأنها إما مستسلمة للحياة، أو مرهقة، أو يائسة، أو ربما كل ذلك معًا.
كانت تعاني من عادة غريبة. كلما أغلقت بابها بالمفتاح، لم تستطع التوقف عن هز مقبض الباب مرارًا وتكرارًا، كما لو أنها غير قادرة على تصديق أنه مغلق بالفعل.
كان الصوت عنيفًا لدرجة أنه، عندما سمعته لأول مرة، ظننت أن شخصًا مرعبا جاء ليطالبها بديون مستحقة، لكنني أدركت بعدها أنه مجرد طبع لديها. في كل مرة كانت تغادر المنزل، كادت أن تقتلع الباب من مفاصله، وكان كل ذلك الشدّ العنيف يترك تصدعات واضحة في الحائط، بين بابها وبابي. ومع ذلك، لا بد أن أعترف أنني أتفهم ما كانت تشعر به.عندما كنت أصغر سنًا، مررت بفترة كنت فيها أغسل يديّ إلى حد أن الصابونة كانت تختفي بين راحتيّ.
أحيانًا كنت ألصق أذني بالجدار الفاصل بيننا.
في بعض الأيام، كنت أسمع التلفاز يعمل بصوت منخفض، لكن لم أسمع أيًا من الأصوات المعتادة الأخرى التي قد تصدر عن شخص يعيش بجواري. كانت غرفتانا صورتين متطابقتين لبعضهما البعض (أو هكذا فهمت من مكتب العقارات)، يفصل بينهما جدار رقيق، وكنت أجد نفسي أحيانًا، أثناء غسيل الصحون مثلًا، أتساءل عمّا إذا كانت تفعل الشيء نفسه في تلك اللحظة بالذات، على الجانب الآخر من الجدار، تواجهني دون أن أراها.
في لحظات شعرت فيها بأن الحياة كانت تنهار فوق رأسي، كان يخطر لي أن أقرب شخص لي هو امرأة لا أعرف حتى اسمها. في طريقي إلى المنزل من عملي الجزئي، كنت أرفع بصري عن الطريق الرمادي الميت الممتد بلا نهاية، وأرى بابينا المتهالكين، يغمرهما وهج الشمس الغاربة وكأنهما يشتعلان بالنار، فأفكر كيف كنا مثل توأمين، نكبر معًا، وحيدين، جنبًا إلى جنب. وعندما ينهار أحد البابين تحت وطأة الزمن، كيف سيصمد الآخر؟"
كان هناك شيء في هذه المشاعر يلحّ عليّ كي أبوح به. كنت أتخيل نفسي أطرق بابها، لكنني كنت خائفًا من ألا أتمكن من التعبير عن نفسي كما ينبغي. تمنيت لو أنني أستطيع التواصل بمجرد الطرق، أن أخبرها: كيف أن الحياة لم تسر يومًا كما أردت. كيف أنني لم أتمكن أبدًا من القيام بالأشياء بشكل صحيح. كيف أنني لم أستطع إنقاذ الشخص الذي كان يعني لي كل شيء. وكيف أنني، قبل كل شيء، مثقل بكل هذه المشاعر التي تتدفق بداخلي. يا ليتني استطعت أن أوصل لها ذلك.
في الربيع، يهبط الليل قبل أن تغدو الدنيا زرقاء إلى حد لا يُحتمل. في ذلك اليوم، بعد أن تركت وظيفتي الجزئية، كنت غارقة في أفكار عن عمري، وعن الوظيفة التالية التي سأجدها، وعن المال الذي أحتاج لجمعه قبل أن أموت، وعندما وصلت إلى المنزل، رأيت المرأة واقفة عند البابين. بما أنها لم تكن تهز مقبض الباب، فقد خمنت أنها قد وصلت لتوها. كنت أعيش هناك منذ أربع سنوات في ذلك الوقت، لكن هذا كان أقرب مكان التقينا فيه، دون وجود جدار بيننا. عندها، التقطت أنفي رائحة أوحت لي بأنها لم تستحم منذ فترة. شعرت بالارتباك، فأومأت برأسي تحية. وفعلت المرأة الشيء نفسه. وفي الثانيتين اللتين التقينا فيهما، لاحظت أن الجلد حول عينيها كان داكنًا ورطبًا. متى بدأ المطر بالهطول؟ تساءلت، مشوشًا تمامًا. لكنني عندما نظرت إلى السماء. لم يكن هناك مطر. لقد كانت تبكي.
كان شعرها الدهني ملتصقًا بجبهتها المتجعدة، وكان في ملامحها المرتخية شعور دفين بالحزن والقلق، مشهد التصق بذاكرتي للأبد. تدافعت الكلمات في رأسي، لكنني لم أستطع نطق أي شيء، ولم أتمكن حتى من تشكيل جملة واحدة . شعرت بثقل رهيب في صدري، لكنني لم أستطع البقاء—كما لو أن شخصًا كان يدفعني بعيدًا. بأصابع مرتجفة، عبثت بمفاتيحي، ونجحت أخيرًا في فتح بابي، ودخلت إلى الداخل. لعدة ثوانٍ، راقبتها من خلال فتحة الباب، لكنني لم أتمكن من معرفة إن كانت لا تزال واقفة هناك أم لا.
بعد ذلك، لم تكن هناك أي فرصة للاسترخاء. ومع استمرار الليل، ضغطت بأذني على الجدار مرات ومرات. لكن لم أسمع شيئًا، لم أشعر بأي أثر من الجهة الأخرى. شربت القليل من الماء، تمددت على الفراش، شغّلت التلفاز وأطفأته مرارًا، محاولًا إلهاء نفسي عبثًا، لكن القلق كان يتصاعد داخلي، يزداد قوة، ينهشني. مرة أخرى، ألصقت أذني بالجدار. لا شيء. لماذا لم أقل لها أي شيء؟ لقد كانت تبكي. كان يمكنني على الأقل أن أقدم لها واحدة من كعكات اللحم التي اشتريتها. لكنها كانت تبكي. ثم اجتاحت رأسي فكرة سوداوية: ماذا لو كنت آخر شخص رآها؟ تذكرت أمي، آخر مرة رأيتها فيها، ووجدت أصابعي تلامس حلقي. لكن، الناس لا يختفون هكذا... يستغرق الأمر وقتًا طويلًا، طويلًا جدًا، قبل أن تختفي كل الأجزاء منهم التي حملتها داخلك. ومع ذلك، كلما تلاشت تلك الأجزاء، تمددت أجزاء أخرى منك، حتى تختفي كل الأشياء التي كنت تملكها من قبل.
أبعدت أذني عن الجدار، وقبضت يدي بقوة. كان نبضي يتسارع. ثم أخذت نفسًا عميقًا، محاولًة تهدئة نفسي، وعندها رأيت بابها يتشكل أمامي، هناك، على الجدار المتسخ بين غرفتينا. طرقت الباب، في المنتصف تمامًا، طرقت ببطء، مرتين. طَرق، طَرق... ثم توقفت للحظة، قبل أن أكررها، هذه المرة بقوة أكبر.لا إجابة. كما توقعت. نفس الشيء كما كان من قبل.
لذلك، سحبت الحصير حتى التصق بالجدار، وظللت أطرق طوال الليل. لم يكن لدي أدنى فكرة عمّا كنت أفعله. قلت لنفسي "يا لكِ من حمقاء . لعلها الآن، رحلت بعيدًا ولن تعود أبدًا. وحتى لو كانت لا تزال هناك، فغالبًا لم تعد قادرة على سماعي. "ومع ذلك، واصلت الطرق—طَرق، طَرق—أنتظر لحظة، ثم أكرره مرة أخرى. لا أدري كم استمر ذلك، لكنني في النهاية غرقت في النوم، وحلمت بأغرب الأحلام، أنماط وأشكال غامضة، وبينها وجدت نفسي أواصل الطرق. ثم انتظرت لحظة، وطرقت مجددًا.
لا بد أنني غرقت في نوم عميق في النهاية، لأن ضوء الصباح أيقظني. مددت ذراعي وطرقت مجددًا، كما لو كنت أواصل من حيث توقفت في الحلم. لكن بعد لحظة، سمعت شيئًا. كانت طَرقة واحدة فقط، قادمة من الجهة الأخرى. اعتدلت جالسة، رمشت بعينيّ، وضغطت بأذني على الجدار. كنت واثقة مما سمعته، متأكدة أنني سمعت طَرقة. لم أكن أعرف إن كانت تعني: "مهلًا، هذا مزعج جدًا"، أم "مهلًا، أنا أفهم"، أم "مهلًا، شكرًا لك"، أم "مهلًا، من فضلك توقفي"، أم ربما كان يحمل كل تلك المعاني معًا، أو ربما شيئًا آخر تمامًا. لكنني كنت على يقين تام بأنها ردّت عليّ بطَرقها الخاص. واثقة تمامًا.
زفرت كل الهواء من رئتي، وسحبت الغطاء فوق رأسي . لكنه كان الصباح. حان وقت الاستيقاظ. ثم تذكرت: لم يكن لديّ عمل. ومع ذلك لم أكن خائفة حقًا. ضغطت وجهي على الوسادة، وأغمضت عينيّ مرة أخرى.
(تمت)
***
............................
المؤلفة: مييكو كاواكامي / Mieko Kawakami وُلدت في 29 أغسطس 1976، كاتبة وشاعرة يابانية تنحدر من أوساكا. حازت أعمالها على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة في اليابان، حيث فازت بجائزة أكوتاغاوا في دورتها الـ138 عن روايتها القصيرة الثديان والمبايض .كما نالت جائزة تانيزاكي عام 2013 عن مجموعتها القصصية أحلام الحب، وغيرها ، وجائزة ناكاهارا تشويا للشعر المعاصر عام 2008 عن ديوانها على الحافة، طعنات وطعنات مرتدة .في عام 2019، نشرت رواية حكاية الصيف ، وهي نسخة موسعة من الثديان والمبايض، وحققت نجاحًا واسعًا، حيث تُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان Breasts and Eggs. تُرجمت أعمال كاواكَامي إلى عدة لغات وانتشرت على مستوى العالم.

 

بقلم: براين بيلستن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

ازعاج الحيوانات الأليفة

احتفاظي

بحرباء

كحيوان أليف

*

امر

اندم

الآن عليه.

*

في البدء

بقدر ما استطيع

ان اتذكر،

*

بدا

انه امتزج

بشكل جيد جدا،

*

لكنه تغير

كثيرا

بطرق عديدة

*

لم اره

منذ

اربعة عشر يوما.

***

براين بيلستن

.....................
براين بيلستن: شاعر وكاتب بريطاني من مواليد برمنغهام لعام 1970 واسمه الحقيقي بول ميليتشيب. تلقى تعليمه في جامعة ويلز وبدأ نشر قصائده على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما وعرف بوصفه صوتا شعريا متميزا حتى أطلق عليه لقب (أمير شعراء تويتر). ظهرت له المجموعات الشعرية الآتية: (استقللتَ الحافلة الأخيرة الى الديار) 2016؛ (يا أليكسا، ماذا هنالك لنتعلمه حول الحب؟) 2021؛ (50 طريقة لتسجيل هدف) 2021؛ (أيام كهذه: دليل بديل عن العام في 366 قصيدة) 2022؛ و(واذاُ فهذا هو عيد الميلاد) 2023، كما نشر رواية بعنوان (يوميات احدهم) في عام 2019. يواظب بيلستن على نشر قصائده على مواقع التواصل على نحو شبه يومي.

 

قصة: جوزيبي بيرتو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

بينما كان ينتظر ملء خزان الوقود في إحدى محطات الوقود التي لا تعد ولا تحصى في بداية طريق كاسيا، ونحو طريق الخروج من فلورنسا، لم يتوقف المحامي آدمي عن النظر إلى الفتاة ذات القميص الأزرق والجينز، التي كانت واقفة على حافة الطريق أمامه. كانت طويلة ورقيقة، وشعرها أشقر مبعثر وخفيف جدًا، وعند قدميها كانت هناك حقيبة ظهر كبيرة. يجب أن تكون أجنبية، ربما من بلدان الشمال الأوروبي، وواحدة من أولئك الذين يتنقلون عبر أوروبا. لكن لا بد أنها كانت خجولة، أو كسولة بشكل لا يصدق، لأنها سمحت للسيارات بالمرور دون الإشارة إليها بالتوقف. ولم تشر أيضًا إلى المحامي آدمي، لكنه، مدفوعًا بنوع من القلق المتسامح، أوقف سيارته على أية حال، وفتح الباب لدعوتها للدخول، وسأل:

- روما؟

ربما لم تكن الفتاة خجولة ولا كسولة، بل كانت حذرة فقط: نظرت إليه بعينين فاتحتين للغاية، بلون البحر في الأيام الهادئة، ودرسته بجدية كبيرة، قبل أن تقرر موافقتها. ثم جمعت نفسها على المقعد، بعيدًا عنه قدر الإمكان، وبدت أصغر حجمًا، بوجهها الصغير، الذي، في الحقيقة،بدا أيضًا غير معبر جدًا، كما هو الحال غالبًا مع نساء الشمال، وذراعيها النحيلتين اللتين صبغتهما الشمس بالحمرة.

لم يكن المحامي آدمي دون جوان، ولم يكن مُغويًا وقليل الضمير. ومع ذلك، لأنه كان متأكدًا من أنه كان كذلك في شبابه، فقد ترك مع الوعي الهادئ بأنه، في حالة الحاجة، لن يفتقر إلى السحر، ولا الخبرة اللازمة لكسب امرأة. بطبيعة الحال، لم تخطر بباله فكرة استخدام السحر والخبرة مع الفتاة التي التقطها للتو، وفي الواقع، وباستقامة كبيرة، كان يفكر في الغالب في ابنته، وكيف ستكون عندما تكبر. يبدو أن هذه الفتاة في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرها، وكانت جميلة وحساسة. في الواقع، لم يكن يمانع على الإطلاق أن تصبح ابنته، بعد عشر سنوات، مثل هذه الفتاة، جميلة وحساسة، لكنه بالتأكيد لن يسمح لها بالسفر حول العالم بمفردها، والمخاطرة بسقوطها في يد بعض الأشرار. لم يكن الأمر خاليًا من الرضا الشخصي، فيما يتعلق بفضيلته، حيث اعتقد أنه يمكن أن يكون هو نفسه شريرًا إذاصار في مواجهة هذه الفتاة الصغيرة جدًا والتي تبدو نقية للغاية، ما يعيقه الشعور بالمسؤولية الذي قد يوصف بأنه الأبوي.

كان المحامي يشعر بالرضا تجاه ضميره، لكن هذا الإحساس بنقاوته واستقامته على وجه التحديد هو الذي جعله يشعر أنه سيقدر ذلك إذا أظهرت الفتاة مزيدًا من الثقة، على سبيل المثال، من خلال الرد عليه بالابتسام عندما يلتفت إليها. ابتسم له. لكنها، بدلاً من ذلك، ظلت منغلقة عى نفسها فى مكانها. ولا يبدو أنها تميل إلى إظهار أي ثقة، لى حد أن الأمر قد يبدو مهينًا، بمعنى أنه يمكن تفسيره على أنه تعبير عن الشك والريبة في أنه، بعد كل شيء، بعد كل شيء، لم يكن يستحق ذلك.

في سان كاسيانو، في المقهى الواقع أعلى التل، توقف للحظة ليشتري كيسًا من الحلوى. في بعض الأحيان يتم استمالة الأطفال بهذه الطريقة، بأشياء صغيرة، وبالفعل ابتسمت أخيرًا عندما وضع الحلوى في يدها، لكنها عادت بعد ذلك مباشرة إلى زاويتها، فقط لأنها كانت الآن تأكل الحلوى. كان الطريق ينحدر من تلال سان كاسيانو، دورة تلو الأخرى، وعلى الأشجار كانت حشرات الزيز تغني في الهواء الذي تدفئه الشمس. وكان الوادي أمامه واسعًا، بظلال لا متناهية من اللونين الأخضر والأصفر، وبيوت زراعية متناثرة. على التلال، ولكل منها أعمدة من أشجار السرو، والمحامي، الذي بسبب حالة ذهنية عابرة شعر تقريبًا بالتأثر بمثل هذا الجمال، كان آسفًا لأن الفتاة الصغيرة التي جاءت من الشمال لم تدرك ذلك، كما بدت كذلك.سألها:

- هل تتكلمين الإانجليزية.

أجابت بهدوء كبير:

- نعم.

ذكر المحامي الوادي بشكل غامض. وقال:

- إيطاليا الجميلة.

أومأت الفتاة الصغيرة برأسها لتؤكد أنها وافقت أساسًا، ولم يكن ذلك تشجيعًا كبيرًا للمحادثة، لكن المحامي ظن أن الأمور جارية بالفعل، وأوضح لها أنه يعيش في روما، وكان لديه فتاة تبلغ من العمر أربع سنوات تدعى جيزيلا، حتى أنه بدأ يقول إنه لن يمانع على الإطلاق إذا كانت ابنته، عندما تكبر، مثلها، لكن هذا كان مفهومًا معقدًا للغاية بالنسبة للغة الإنجليزية، وسرعان ما تعثر، ثم سألها بالفرنسية إذا كانت تستطيع التحدث بالفرنسية، فأجابت نعم بالطبع. لذلك بدأ يشرح لها، باللغة الفرنسية، أنه يعيش في روما، وأن لديه ابنة تدعى جيزيلا، وأنه لن يمانع على الإطلاق، وما إلى ذلك، وما إلى ذلك، ولكن لغته الفرنسية خذلته أيضًا بهذا المفهوم الصعب، وحتى الغامض، الذي لم يستطع تفسيره وشاهدته وهو يعاني من اللغات الأجنبية، ولم يكن وجهها فاترًا الآن، بل مرحًا ومبهجًا،وأخيراً قالت له بلغة إيطالية أكثر ليونة قليلاً من وجهنا أنه يمكنه أيضًا التحدث باللغة الإيطالية، إذا كان يفضل ذلك، لأنها درست في إحدى الكليات في فلورنسا، وبالتالي كانت تعرف اللغة الإيطالية جيدًا.

كان لدى المحامي شعور، لا أساس له من الصحة على الإطلاق، أن الفتاة كانت تسخر منه، في موضوع اللغات الأجنبية، وهذا ما أزعجه، ليس كثيرًا، لكنه كان كافيًا لتشجيعه على تصور معاملتها بقدر أقل من الاعتبار. تم إلى هذا الحد. في الواقع، فقط بسبب هذه الدفعة، التي سببها له الاستياء الخفي، فعندما اقترب من بلدة بوجيبونسي، راودته الفكرة التالية: إذا كانت هذه الفتاة الصغيرة اللطيفة أكبر سنًا ببضع سنوات، الآن، بدلاً من التوجه إلى روما، سأتجه يمينًا وآخذها إلى سان جيميجنانو، وهو مكان يحبه الأجانب ويمكن أن يؤدي إلى شيء ما. بضع سنوات أكبر؟ حسنًا، لأكون صادقًا، كانت مسألة العمر بالفعل مسألة حساسة. كان يحب الفتيات عندما يكونن صغيرات، أو بالأحرى صغيرات جدًا كما يمكن أن يقول ذلك، ولكن نظرًا لمهنة القانون التي كان يمارسها، فمن المؤكد أنه لم يكن من النوع الذي يتنازل مع فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، على الرغم من أنه إذا نظر عن كثب، ربما كانت في السادسة عشرة أو حتى السابعة عشرة تقريبا. يا إلهى، ماذا لو كانت في السابعة عشرة من عمرها؟ لا تعرف أبدًا ما يتعلق بنساء الشمال: يبلغن متأخرات ويحتفظن بذوقهن العذري حتى لو فقدن عذريتهن منذ وقت طويل. لو كانت في السابعة عشرة لكان الوضع مختلفًا، بل وعكسه. لكنها لا يمكن أن تكون بهذا العمر. في السابعة عشرة من عمرها، كانت فتاة بجانب رجل، على الرغم من أنه تجاوز الأربعين قليلًا، لكنه بالتأكيد ليس غير جذاب، لا تتصرف بهذه الطريقة، بتلك الجدية المنفصلة والهادئة التي كانت تظهرها الفتاة، بينما لا تزال تتناول الحلوى. وخلص المحامي إلى أن إغراء الانعطاف يمينًا إلى سان جيمينيانو، المكان المفضل لدى العشاق، لم يكن سوى خيال غريب.لم يكن من الصواب التصرف بناءً على مثل هذه الرغبات على عكس قانون العقوبات، وبالفعل، عندما وصل بوجيبونسي، بقي بشجاعة في كاسيا، وكان الطريق، بعد مغادرة القرية، محاطًا مرة أخرى بالكروم وأشجار الزيتون، مع العديد من المنعطفات والتقلبات. أصبح المحامي الآن راضيًا، باعتباره شخصًا قام بما يُعرف عادةً بأنه عمل جيد، ولكن لسوء الحظ، لم يكن واحدًا من هؤلاء الأشخاص الذين يحققون الرضا الكامل من ممارسة الفضيلة، وفي أعماقه، ندم على فقدان سان جيميجنانو، مع هذا الجو الخالد الخاص، الذي يسمح لنا بالتحرر من التحيز في عصرنا. ولم يكن لدى المحامي أدنى شك في أن هذه كانت تحيزات وتصورات أخلاقية غبية. من كان سيتراجع في زمن بوكاتشيو، أو مثلا رجل أريتسو - الذي، كما نعلم الآن على وجه اليقين، كان عصرا برجوازيا للغاية - عن مغامرة مثل تلك التي عرضت عليه؟ وحدث حينها ما هو أسوأ بكثير، دون أن يبدي أحد استغرابه أو إزعاجه بسبب قانون العقوبات هذا.

سألت الفتاة بشكل غير متوقع:

- في أي وقت سنصل إلى روما؟

لقد كان سؤالًا عاديًا، وربما هو السؤال الأكثر طبيعية الذي يمكن طرحه في ظل هذه الظروف، ولكن تم طرح هذا السؤال مثلما كان المحامي، الذي شعر بالحنين إلى ما كان يمكن أن يفعله لو أنه ولد في أي فترة تسبق الإصلاح المضاد، يشعر بالحساسية إلى حد ما. سأل:

- لماذا؟ هل ينتظرك أحد؟

نظرت إليه الفتاة بتعبير يكاد يكون عدوانيًا ومضحكًا على وجهها الصغير وأصرت على أسئلتها:

- ماذا عنك؟ أليس لديك أحد؟

شعر المحامي بالرغبة في الضحك. أجاب:

- ابنتي.

قالت الفتاة:

- إذا كانت هناك ابنة، فمن المؤكد أن لديها أم. في إيطاليا لا يوجد طلاق.

حسا، لم اهتمت هل حصل طلاق أم لا؟ ماذا أرادت منه، هل أرادت استفزازه؟ وبقدر ما كانت تشعر بالقلق، كان من الممكن أن يكون منفصلاً بنفس القدر، سواء كان متزوجًا أو حتى أرملًا. للحظة، أراد أن يجعلها تعتقد أنه أرمل بالفعل، لكنه فضل بعد ذلك التصرف كرجل نبيل. أجاب بفخر:

- نعم، لدي زوجة أيضًا.

ثم أضاف بفخر أقل:

- للأسف.

وسارعت الفتاة إلى الرد على الكلمة الأخيرة:

- لماذا للأسف؟ كل الإيطاليين يقولون ذلك.

هذه المرة، كان المحامي منزعجا حقا. أجاب بجفاف:

- أنا لست مسؤولاً عن الإيطاليين الآخرين". "أنا فوضوي، فردي، أقول للأسف وأعني ذلك. لم أتفق مع زوجتي منذ سنوات، إذا كان بإمكاني العودة إلى الوراء...

لقد أوقف نفسه لأنه كان بائسًا جدًا. يمكن للرجل المتزوج أن يكذب بهذه الطريقة، وعادة ما يفعل ذلك، فقط عندما تكون هناك ميزة ملموسة، أي عندما تكون هناك حاجة لاستخدام الحجج العاطفية لإسقاط الاعتراضات المتبقية لامرأة على وشك السقوط. ولكن هناك، مع تلك الفتاة، المنقذة جسديًا، وخاصة كونها قاصرًا من الناحية القانونية، ما هي الميزة التي يمكن أن تكون هناك؟ لقد شعر بالحقد تجاهها، كما لو كانت مسؤولة عن هذه القضية الصغيرة من النفاق الفارغ، وهي كذلك، بطريقة ما، لأنه لم يأذن لها أحد بأن تكون طائشة أو حتى مستفزة، وكان هذا أقل ما كان يعتقدها عنها. تعليم ضعيف على الرغم من الكلية.

لكنه لم يستطع أن يبقى غاضبا، ومن ناحية أخرى، من المؤكد أن أسئلتها وتعليقاتها التي تبدو فاضحة يمكن أن تكون دليلا على الاهتمام المتزايد به. الفتيات المراهقات عرضة بشكل خاص لسحر الرجال في الأربعين من العمر، وكان يعرف ذلك من الناحية النظرية والعملية، منذ أن شاهد ابنة البواب فى مبناه وهي فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، ولكن على عكس هذه الفتاة، حتى أنها متطورة إلى حد ما، كانت تميل إلى الاحمرار في حضوره، والارتباك، وصنع ألف وجه، بمعنى آخر، كانت تظهر بطرق عديدة إعجابها السري به. بالطبع هذه الفتاة لم تكن ابنة البواب، لكن، في حد ذاتها، لم يمنعها شيء من الوقوع في حبه، وسيكون الأمر رائعًا، رغم أنه بطبيعة الحال لن يستغل ذلك بأي شكل من الأشكال، ولا حتى لمداعبة رقبتها وتقبيل فمها المغلق. كان سيحترمها على أية حال، حتى لو عرضت نفسها عليه في وقت ما على سبيل المثال بشكل عفوي، وهو احتمال كان مستبعدًا تمامًا، حيث عادت الفتاة إليها بعد هذا الاهتمام المفاجئ الطائش بحالته الاجتماعية. الزاوية، حيث كانت تتناول الحلوى مرة أخرى بجدية منفصلة وحزينة. هل يمكن أن تكون جائعة؟ كان المحامي سعيدًا بهذه الفكرة لأنها أبعدته، على الأقل إلى حد ما، عن الأوهام المذنبة والمرضية التي كانت تشغل ذهنه في الكيلومترات الأخيرة، ولأنه كان يقترب من سيينا، قرر أن يقدم لها الكابتشينو والمعجنات.

قاد سيارته إلى الساحة وأوقف سيارته بجوار المقهى مقابل قصر ديلا سيجنوريا. كانت الشمس حارقة ولم يكن هناك أشخاص إلا في الظل، باستثناء السياح الذين كانوا يسيرون في الجو الحار مع كاميراتهم وقبعاتهم المصنوعة من القش التي اشتروها للتو، معجبين بالآثار. جلسا تحت مظلة المقهى، حيث كان الجو أقل حرارة، وكان المحامي، على الرغم من تأخره عن موعده، سعيدًا بإحضارها إلى هذه الساحة الرائعة، وبدا كما لو أنه بنى كل شيء بنفسه. عندما وصل النادل، طلبت زجاجة من البيرة الألمانية. سألها: - ألن يكون سيئا بالنسبة لك؟

أجابت بهز كتفيها:

- سيء؟

ثم اعتذرت بأدب ودخلت المقهى. وقبل أن تعود، أحضر لها النادل البيرة والقهوة التي طلبها المحامي. انتظر قليلاً، لكنه قرر بعد ذلك أن يشرب قهوته قبل أن يصبح الجو بارداً جداً،ولم تعد بعد. وظن المحامي، منزعجا، أنه لن يصل إلى روما وقت الإفطار، كما وعد زوجته، وظن أنه لولا حقيبة الفتاة في السيارة، لكان قد تركها هناك، في سيينا، وكأنها تستحق ذلك.. بعد كل شيء، كان حملها مجرد عمل متهور، ولن يأتي منه أي خير، ولم يكن من المبالغة على الإطلاق القول إنه ندم على ذلك، كما يحدث دائمًا مع الأعمال الصالحة التي تتم دون أي منظور. من الربح. ولكن بعد ذلك، عندما عادت للظهور مرة أخرى، تلاشى فجأة كل ما كان يفكر فيه وفسح المجال لشيء يمكن أن يسمى أيضًا سحرًا: لقد وضعت أحمر الشفاه، ورفعت شعرها على شكل كعكة أعلى رأسها، وبقميصها الذي كان مدسوسًا في بنطال الجينز، أظهرت خصرًا رفيعًا ووركين رفيعين، علاوة على ذلك، صدرها الصغير الرقيق، سألها:

- أخبريني الحقيقة كم عمرك؟

تناولت جرعة طويلة من البيرة، ثم التفتت إليه وعيناها تلمعان بالغضب. أجابت:

- ما يقرب من عشرين.

بعد سيينا، يتجول طريق كاسيا عبر التضاريس الطباشيرية، وينحدر إلى الوديان ثم يعود إلى التلال على الجانب الآخر، على ما يبدو دون حاجة كبيرة، مثل المنعطفات الضيقة والمعقدة في كثير من الأحيان، والتي وصل إليها المحامي قبل أن يدرك ذلك، حيث قاد بعصبية تامة. النقطة المهمة هي أن المغامرة مع الفتاة، التي أصبحت فجأة ممكنة وحتى محتملة، فاجأته، ولم يكن مستعدًا لها، بل إنها أخافته بطريقة ما، لأسباب مختلفة. السؤال الأول والأهم، الذي لم يكن يخفيه عن نفسه، هو: هل كان الأمر يستحق خيانة زوجته، أم ابنته، مع فتاة صادف أن التقى بها ولم يتمكن من الحصول عليها بعد؟ عاطفة حقيقية وعميقة؟ حسنًا، لأكون صادقًا، كان عليه أن يجيب بنعم، كان الأمر يستحق ذلك، وليس كثيرًا من أجل المقارنة الأساسية بين الفتاة وزوجته، والتي ستكون غير كريمة للغاية وغير مبررة تمامًا أيضًا. ولكن بالنسبة للاعتبار الأكثر عمومية، فإنه بالنسبة لرجل في الأربعين من عمره، حتى لو كان يتمتع بسحر أكثر من المتوسط، فإنه لا يحدث كل يوم أن يكون لديه فتاة تبلغ من العمر عشرين عامًا، جميلة، طازجة، ذات ثديين بالكاد كاعبين، ولكنها بالتأكيد متحركة، وشقراء بشكل غير عادي. عندما يحدث له شيء كهذا، عادة لا يترك الرجل الأمر، وبالفعل، لم يكن المحامي ينوي السماح لها بالرحيل، ولكن في طيات سرية من ضميره لا يزال يشعر ببعض الانزعاج الغامض بشأن فكرة الزواج. الخيانة الزوجية، وفي الغالب، أرجع هذا الانزعاج إلى حقيقة أنه على الرغم من أن الغزو بدا سهلاً، إلا أنه لم يكن لديه أي فكرة من أين يبدأ. بطبيعة الحال، لم يكن الأمر خائفًا من وجود خلل فني، ولكن هذه الحقيقة هي أنه الآن، تخيل أي اتصال مع الفتاة، حتى أبسطها، جعله يشعر بالارتباك، وربما أكثر إحباطًا من ذي قبل، عندما كان يعتقد أنها كانت مجرد فتاة صغيرة. كان الأمر كما لو كان يواجه امرأة كان يعرفها عندما كانت فتاة صغيرة، وظهرت فجأة وقد كبرت، لكنها لم تتغير بما يكفي للسماح له بنسيانها عندما كانت طفلة، وفي الختام، لم يستطع التخلي عن ذلك. الخوف والاحترام تجاه البراءة الطفولية، وكان يشعر بالأسف تقريبًا لأنها كبرت، لأنه كان مليئًا بالذنب، ولكنه أيضًا مليء بالغضب بسبب الذنب الذي ظهر في أكثر اللحظات غير الملائمة. لقد كان هذا الارتباك في المشاعر هو الذي جعله يأخذ المنعطفات بشكل سيء للغاية.

سمحت له الفتاة بالقيادة كما يشاء لعدة كيلومترات، ولكن بعد ذلك، أثناء الصعود إلى راديكوفاني، أصبح الطريق خطيرًا، وسألته:

- لماذا تقود سيارتك بهذه السرعة؟ هل أنت في عجلة من أمرك للوصول إلى روما؟

سأل المحامي، حيث وجد صعوبة في مخاطبتها بشكل غير رسمي:

- لا وأنت؟

-  أنا فقط بحاجة للوصول إلى هناك قبل منتصف الليل.

- لماذا قبل منتصف الليل؟

- في الساعة الحادية عشرة وخمسين دقيقة، يغادر القطار المتجه إلى كالابريا.

- هل أنت ذاهبة إلى كالابريا؟

- نعم.

-  وحدك؟

- لا، مع رجل.

- شخص من بلدك؟

- لا، رجل من نابولي. العام الماضي سافرنا إلى صقلية. هذا العام سنذهب إلى كالابريا. ويقولون إنها أجمل.

لقد تأذى المحامي من هذه الإجابة أكثر مما كان متوقعا، ولكن، كما فهم بشكل صحيح تقريبا عند تحليل حالته العقلية، لم تكن الغيرة، على الأقل ليست الغيرة المعتادة، ولكن الندم لأنه لم يستطع وضع نفسه مكان الشاب النابولي الذي كان ذاهباً معها إلى كالابريا، لم يستطع حتى أن يضع نفسه هناك في خيالاته، لأنه كان متزوجاً بالفعل، وقد ذهب الشباب بالنسبة له، جاءت عليه الحياة باختناق خانق. ثقل المسؤولية والمشاغل، وعدم ترك مساحة للحب خارج حدود المغامرة المتسارعة والمغلقة. هذه هي الأشياء التي تشير في نهاية المطاف، على مر السنين، إلى تراجع الرجل.

وبهذا الشعور بالشفقة على الذات، توصل المحامي آدمي، الذي شعر بطريقة ما بأنه مسموح له بالقبض على كل الزهور التي لا يزال من الممكن قطفها من حديقته، إلى نتيجة مفادها أن أي تردد إضافي من جانبه سيكون في غير محله. وبعبارة أخرى، سيكون وحشًا إذا سمح لتلك الفتاة التي سقطت عليه من السماء بالهروب.

في أكوابيندينتي، على الرغم من عدم وجود حاجة لذلك، توقف للتزود بالوقود، وفي هذه الأثناء، من فندق قريب، اتصل بزوجته وأخبرها أن أحد عملائه من فلورنسا طلب منه التفاوض على شراء صندوق، لذلك فهو لن يصل لتناول الإفطار، وربما حتى لتناول طعام الغداء، لكن لا ينبغي لها أن تقلق بشأن ذلك، لأنه بالتأكيد سيعود إلى المنزل بحلول منتصف الليل.

وبعد أن أزال العقبات النفسية الرئيسية التي وقفت في طريق مغامرته، واجه المحامي آدمي ما يسميه خبراء مصارعة الثيران لحظة الحقيقة، عندما يواجه مصارع الثيران الثور وجها لوجه، ولكن حيث لا يشكك في التوازن. من قوة بينه وبين ضحيته، شعر بالهدوء الشديد، وبالفعل لم يعد يقود سيارته بشكل خطير، بل بأناقة مفعمة بالحيوية والتفاؤل. انحدر الطريق من تلال أكوابيندينتي ليدخل ما يشبه القمع في أسفله بحيرة بولسينا، وكانت الساعة حوالي الساعة الواحدة. أرهقت شمس الصيف كل شيء وكل شخص، باستثناء حشرات الزيز التي صرخت بحماس لا مثيل له على كل شجرة. الفتاة، ربما بسبب الحرارة، بقيت في زاويتها حيث الريح القادمة من النافذة أفضل وبدت غير مبالية بشكل عام. بمعنى آخر، لم تكن متشككة أو على الأقل غير مبالية بما يمكن أن يحدث لها قبل المساء. نساء الشمال، كما عرف المحامي، مثل أي شخص آخر، على هذا النحو: مسالمات، متحفظات، ربما باردات بعض الشيء، لكن في الوقت المناسب يمنحن أنفسهن ببساطة كبيرة، كما لو كان هذا هو الشيء الأكثر طبيعية في العالم، وفي الواقع لم يُقال أي شيء على الإطلاق للادعاء بأنه لم يكن الأمر كذلك.

لم يكن لدى المحامي سبب للقلق بشأن التحفظ الواضح للفتاة، بل كان يفكر بدلاً من ذلك في الصعوبات اللوجستية للأمر، والتي لا يمكن إهمالها، وأيضاً لأن الفتاة لم تبلغ الحادية والعشرين بعد، وهو ما كان بالتأكيد تعقيداً. إذا استبعدنا فندقًا لائقًا، أين يمكن أن يحدث: في الريف خلف الأدغال، في الغابة، في غرفة في بيت ضيافة مشكوك فيه، أو على الشاطئ؟ في هذه اللحظة، أصبح كل شيء ممكنًا، حتى الشاطئ. كانت روما على بعد أقل من 100 كيلومتر، فكانا سيصلان إليها حوالي الساعة الثالثة، وفي ساعة أخرى يمكنهما الوصول إلى تور سان لورينزو، حيث كان يمتلك صديق رسام كوخًا على الشاطئ، يستخدم لهذه الأغراض بالضبط. الإزعاج الوحيد هو عدم العثور على الرسام في المنزل، بسبب المفتاح، ولكن بخلاف ذلك، لم يكن الشاطئ هو الحل الأكثر أمانًا فحسب، بل كان أيضًا الأفضل من حيث القيمة على الإطلاق، وستبدو الفتاة التي ترتدي ملابس السباحة مذهلة بلا شك بجسدها الشاب الطويل والثابت والرزين. سألها فجأة:

- هل لديك ملابس للسباحة؟

انتشلت الفتاة مرة أخرى من لهوها، وابتسمت الفتاة على السؤال.

- بالطبع لدي واحدة. في كالابريا أريد الذهاب إلى الشاطئ كثيرًا. لقد ذهبت دائمًا إلى الشاطئ في صقلية أيضًا.

منزعجًا بعض الشيء من هذا التلميح غير المقصود إلى الماضي والمستقبل الذي ليس له أي دور فيه على الإطلاق، أجاب المحامي بقوة:

- سآخذك أيضًا إلى البحر.

ولأنها كانت تنظر إليه متفاجئة ومتسائلة بشكل غامض، أوضح لها:

- سنصل إلى روما أولاً، ثم نذهب إلى الشاطئ. هل تمانعين؟

ابتسمت ببساطتها المعتادة:

- سيكون الأمر رائعًا.

الآن تخيل المحامي المغامرة بكل روعتها، ولم يكن من الصعب، وهو ينظر إلى الفتاة، أن يتخيل كيف ستبدو بملابس السباحة، أو حتى بدونها، أيضًا بسبب الريح التي كانت تهب من خلال النافذة، كانت تضغط على قميصها العلوي وتبرز ثدييها، اللذين بدا أنهما بحجم مقبول، يلهمان الحنان والمشاعر الأخرى. ولأنه لا يوجد شيء أفضل من الخيال في الحب لأنه يسبب نفاد الصبر للوصول إلى النتيجة المرجوة، أو على الأقل الحصول على تقدم معقول، بدأ المحامي يبحث في الطريق عن مكان مناسب للتوقف فيه.

عندما توقفت السيارة في مكان مفتوح حيث يمكنك أن ترى، بين أشجار البلوط، قطعة بحيرة خلابة، بدلا من أن تنظر الفتاة إلى المنظر، خفضت رأسها كما لو كانت واعية بما سيحدث، وتركته يلف ذراعيه حولها وضمها إليه وتقبيل رقبتها المكشوفة بسبب شعرها المرفوع، ولم تقاوم حتى بعد ذلك، عندما رفع وجهها وبدأ في تقبيل فمها، لكنها لم تكشف أيضًا عن أي شكل من أشكال المشاركة، مما جعله غير راضٍ تمامًا في نهاية القبلة الطويلة، بل وحتى مستاءًا. من جانبها، لم يبدو أنها في مزاج أفضل، بل قامت على الفور بخفض رأسها للأسفل، دون أن تفعل أو تقول أي شيء.

سألها:

- ألم تكونى ترغبين في ذلك؟

وسألت:

- لماذا فعلت ذلك، ألأنك تحبني؟

بدا السؤال، حتى مع الأخذ في الاعتبار قلة خبرة الفتاة المحتملة، بلا شك غير مناسب، وفي الواقع، يعلم الجميع أنه ليس من الضروري بالنسبة للقبلة أن يكون لديك مشاعر ملزمة وقوية مثل الحب. الآن، المحامي لم يرد أن يعتقد أنه قبلها لمجرد المتعة أو لمحاولة الفوز بها، في الواقع، في هذه اللحظة، لا يمكن لأحد، ولا حتى هو، أن يدعي أنه لم يكن يحبها بالفعل، على الأقل قليلاً، لكن الحديث عن الحب قبل أن يبدأ كان أمرًا محفوفًا بالمخاطر بعض الشيء. على أية حال، إذا كان استمرار المغامرة يعتمد على كذبة صغيرة، فإن المحامي كان على أتم استعداد لقولها. قال بأكبر قدر ممكن من الصدق: "أنا أحبك".

اعترضت الفتاة دون أن ترفع رأسها:

- كل الإيطاليين يقولون ذلك.

كان المحامي، الذي شعر بالإهانة في محاولته أن يكون صادقًا، على وشك الرد بشكل سيئ عندما لاحظ سقوط بضع قطرات على بنطاله، والتي لا يمكن أن تكون سوى دموع، نظرًا للموقف والظروف الأخرى. سألها قليلا بغباء:

- هل تبكين؟ لماذا علينا أن نبكي؟

أجابت وهي تشهق:

- أنت مثل الآخرين. ولكن هذا ليس ما يجعلني أبكي. أبكي لأنني مثل الآخرين، الأجانب الذين يأتون إلى إيطاليا لممارسة الحب مع الإيطاليين.

بدأ بالبكاء بقوة أكبر. وأضافت:

- أنا لست مثل الآخرين.

سحبها على كتفه لتبكي، ومسد على شعرها بلطف، ثم قال:

- لا يجب أن تبكي، فكلانا مختلفان.

لكن مهما حاول، لم يستطع التفكير في سبب هذا البكاء. ولكن الآن، وليس فقط من باب الشعور بالفخر الراضي، بدأ يشعر أنه والفتاة مختلفان بالفعل عن الآخرين، لقد شعر أن هناك شيئًا لا يمكن وصفه يزحف في روحه، وأنه إذا لم يكن الحب، كان الأمر مشابهًا بالتأكيد، لكن هذا أدى إلى تعقيد الأمر كثيرًا، لأنه لم يستطع أن ينسى أن لديه زوجة في المنزل، ولأنه كان يعلم أن الطريق العاطفي ليس أقصر طريق لتحقيق نتائج معينة، وهنا يوجد بالتأكيد لا وقت لتضيعه. ربما تكون بضعة أكواب من النبيذ من أورفيتو أو مونتيفياسكوني كافية لإعادة المغامرة إلى مسارها الطبيعى المعتاد. سأل الفتاة التي كانت لا تزال تبكي:

- أأنت جائعة؟

فأجابت بنعم بسهولة كالطفل.

- لنذهب إذا. سنتوقف عند المطعم الأول.

فأجابت:

- لا، أفضل الذهاب إلى روما.

وبعد أكثر من ساعة بقليل، كانا جالسين، قريبين جدًا من بعضهما البعض، تحت عريشة أحد المطاعم التي تقع على طول كاسيا، على مشارف روما، وتمكن المحامي من معرفة مدى صحة توقعه. أن القليل من النبيذ سيكون كافياً لطرد أي حزن. شعر أنه في أفضل حالة جسدية وعقلية، وأما الفتاة فقد تغيرت تماما. كانت تلوي، بعدم كفاءة مضحكة، الفيتوتشيني مع الصلصة حول الشوكة، وكانت تضحك، تضحك باستمرار، وتسأله: «هل تحبني؟ قل لي أنك تحبني”، لكن دون أن تتوقع أي جدية في إجابته، كما في إحدى الألعاب.

وأقسم أنه يحبها، وسكب لها الشراب مرة أخرى، وتوسلت إليه ألا يجعلها تشرب أكثر من اللازم، لأنها كانت تحبه، وبالتالي لم تكن تريد أن تسكر، وضغطت على نفسها بشدة. كان جسدها الصغير الدافئ والجاف، وتبادلا القبلات، يمكنهما فعل ذلك لأنه لم يكن هناك زبون آخر في تلك الساعة تحت العريشة، ولم يعيرهما النادل أي اهتمام، مخدرًا بالحرارة الأمل في بقشيش جيد. كانت تسأل:

- ماذا سنفعل بعد ذلك؟

- سآخذك إلى الشاطئ، إلى مكان يسمى تور سان لورينزو. هناك كوخ هناك...

قاطعته بشكل جميل، لأنها شربت كثيرًا بالفعل:

- قلبان وكوخ

وأوضح:

- إنه كوخ في الهواء الطلق. ولكن في الداخل مرتب بشكل جيد للغاية. هناك دش ومطبخ صغير مع ثلاجة، وهناك سرير كبير مع بطانية مطبعة بالزهور...

- سرير كبير.

كررت ذلك بخبث مثير للقلق، فشعر بالاضطراب، وعادا إلى التقبيل. وبعد ذلك، سألت، وفمها مبتل، مذهولة من القبلة:

- والمفتاح، هل لديك المفتاح؟

- لا، ولكن سأتصل بصديقي...

- ألم تتصل به بالفعل؟

- نعم، لكنه كان نائمًا. يستيقظ في الساعة الرابعة والنصف. في الرابعة والنصف سأتصل به مرة أخرى.

كررت:

- في الساعة الرابعة والنصف.

وقد أصبحت فجأة حزينة وكأن الانتظار يثقل كاهلها، أو لسبب آخر لا يُعرف.

- أي ساعة؟

-  أربعة تقريبًا.

كانت تقول:" الرابعة تقريبًا"، ويزداد حزنها، إلى أن بدأت تضحك مرة أخرى بشكل غير متوقع وتسأل:

- هل تحبني ؟ هل تحبني؟ قل لى إنك تحبنى.

وهو، على الرغم من أنه فهم أن كل هذا لم يكن سوى لعبة سخية، أجاب أنه أحبها، يا إلهي كم أحبها، وبينما كان يقول هذا لم يعد يستطيع أن يفهم ما إذا كان قد تجاوز الحدود بالفعل فى هذه اللعبة، لأنه في الواقع كان كما لو كان يحبها حقًا، كل شيء عنها سحره، شبابها، جمالها، نضارتها، وفوق كل شيء قدرتها الرائعة على الجمع بين أكثر الأشياء تباينًا، الدجاجة الشيطانية والقبلات والدموع والفرحة، والوقاحة التي نظرت إليه بها عندما تحدثا عما سيفعلانه في كوخ الشاطئ، والبراءة الطفولية التي عادت إلى الظهور فيها أن انشغلت بشيء خاص بها أو مشاهدة قطة تأتي للبحث عن الطعام، أو اللعب بفتات الخبز على مفرش المائدة. سألت:

- أي ساعة؟

- الرابعة والربع.

عادت لتسأل عن الوقت ست أو سبع مرات أخرى، قبل أن تصبح الرابعة والنصف، وضحكت أقل فأقل، كما لو أن فرحتها بدأت تختنق تدريجياً بسبب نفاد صبرها للوصول إلى شاطئ البحر، ولكن بعد ذلك، عندما حان الوقت وأخيراً صار الرابعة والنصف، لم تكن تريده أن يذهب ويتصل بعد الآن. وقالت:

- انتظر قليلا. أكثر قليلا.

- لكن إذا انتظرت، فقد يخرج، وحينها لن نجد المفتاح.

كررت بحزن مؤلم:

- من فضلك، أكثر قليلا.

ومن الممكن أيضا أنها كانت في لحظة حب حادة لدرجة أنها تفضل أن تنحرف بقية المغامرة عن مسارها حتى لا تنفصل عنه في ذلك الوقت. لحظة شديدة، وبلا شك كان شعورًا جميلًا ومؤثرًا، هذا، لكن المحامي لم ينس أن بقية المغامرة هي الأكثر أهمية، ومن ناحية أخرى كانت هي التي أثارته معها أسئلة مستمرة حول ما سيفعلونه في الكوخ، لذلك لم يكن من الواضح لماذا يريد الآن إبقائه عرضة لخطر فقدان الأفضل، وباختصار، على الرغم من أنه استمر في الاعتقاد بأن هذه هي الفتاة الأكثر استثنائية ورائعة التي حدث له ذلك من قبل، ولعل ذلك إلى حد ما بسبب التغيرات غير المتوقعة في لهجتها ومزاجها، وقد بدأ أيضًا يتساءل عما إذا لم يكن من الأفضل لو كان التقى بفتاة. فتاة أقل تعقيدا.

في الرابعة والخامسة والأربعين، على الرغم من أنها استمرت في التوسل إليه أن ينتظر لفترة أطول قليلاً، إلا أنه لم يعد يستمع إليها وذهب إلى المطعم، حيث يوجد الهاتف.

كان صديقه الرسام لا يزال نائمًا، لكنه طلب من مدبرة منزله أن توقظه، وهو ما فعلته، وبعد أن استيقظ الرسام في منتصف فترة ما بعد الظهر الرطبة، اتصل بالهاتف في مزاج سيئ ومنزعج. بدأ بالمطالبة بمعرفة من هي الفتاة بالضبط. ولم يتمكن المحامي إلا من إخباره أن اسمها إنجي وأنها سويدية، وليس من ستوكهولم، ولكن من لوليا، وهي بلدة قريبة من القطب الشمالي، على ما يبدو. ثم سأله الرسام أين وجدها، وأراد منه أيضًا أن يصفها، ووصفها المحامي، رغم انزعاجه من إضاعة الوقت، وهو يشعر بالرضا عن الذات بشكل مبرر، لأنها في نهاية المطاف، جعلته يبدو جيدًا. أخبر صديقه أنها لم تبلغ العشرين من عمرها بعد، وكانت رائعة، نحيفة ولكن ليس كثيرًا، شقراء بشكل لا يصدق، ونعم، ساقاها كانتا مثاليتين أيضًا، وثدييها كانا كذلك، لكن ذلك كان يناسبها تمامًا، لم يكن من الممكن أن يكون لديها أي ثديين مختلفين. بعد أن تم رسمها بشكل جيد للغاية، مع وفرة التفاصيل اللازمة، قفز الرسام قائلاً إنه يريد أيضًا أن يأتي إلى تور سان لورينزو، وكان على المحامي أن يعمل بجد ليجعله يفهم أن الأمر ليس كذلك، نعم لقد كانت فتاة محترمة، يُعتقد أنها فتاة جامعية، وإذا لم يتم استخدام أقصى درجات الحذر، فسيكون هناك خطر فى إفساد كل شيء، وبقدر ما كان يكره العودة إلى الماضي. يجب ألا ينسى الرسام أنه قدم له الكثير من الخدمات، حتى أنه دافع عنه عدة مرات في المحكمة دون أن يطلب منه أي شيء في المقابل،وإذا لم يعطه المفتاح الآن فهو ليس صديقًا، وأجاب الآخر بأنه هو نفسه لا يتصرف كصديق، لأن الأصدقاء الحقيقيين يتشاركون في كل شيء، وخاصة الفتيات، لكنه في النهاية سمح لنفسه بذلك. ثم رضى أخير بإعطائه المفتاح، لكنه أراد منه أن يُظهر له على الأقل هذه السويدية الرائعة عندما يأتي للحصول على المفتاح.

خرج المحامي ولم يجد الفتاة فى مكانها، ربما ذهبت إلى المرحاض لضبط مكياج وجهها بعد الأكل، وفي هذه الأثناء طلب الفاتورة، وأثناء الانتظار جلس، ومن الطبيعي أن يظل يتخيل الفتاة في البحر والكوخ وما ستكون أفضل مغامرة في حياته، لكن الفتاة لم تعد.، هل من الممكن أنها شعرت بتوعك في الحمام، لأنها شربت كثيرًا حقًا، وسيكون ذلك بمثابة عائق حقًا. سأل النادل الذي عاد بالفاتورة.

- هل رأيت الشابة التي كانت معي؟

وبهدوء قد يكون وقحًا في هذه اللحظة، أشار نحو الشارع. قال:

- لقد ذهبت.

شعر المحامي بأول ألم في قلبه.

- ذهبت؟ وأين؟ ولماذا قبل كل شيء؟

وبما أن النادل لن يتمكن من الإجابة على هذه الأسئلة المضطربة، تحرك المحامي بحيوية مندفعة نحو الشارع، أو نحو السيارة التي كانت متوقفة في الفناء، ولم يكن متأكدًا حتى من نفسه، لكن النادل أمسك بذراعه باحترام:

- الفاتورة يا سيدي.

عنده حق وزيادة.ولكن بسبب هذا الطلب التافه على وجه التحديد، شعر المحامي بالألم الثاني الذي لا يقل خطورة في قلبه، لأنه لم يجد محفظته في الجيب الخلفي لبنطاله، حيث كان يحتفظ بها عادة، ولا في أي جيب آخر.. من بدلته. الآن، على الأقل ظاهريًا،تحولت المغامرة الرائعة والفريدة من نوعها، التي طال انتظارها وخطط لها لفترة طويلة، إلى سرقة ونشل، وهو شيء مؤلم ومثير للسخرية في نفس الوقت، ولكن بما أنه لم يتمكن للحظات من فهم الجانب السخيف منه، شعر المحامي بالغضب المقدس.

أثناء القيادة بتهور على طول الجزء الأخير والصعب من طريق كاسيا فيكيا، في اتجاه بونتي ميلفيو، عند مدخل روما، سيطرت الرغبة في خنق الفتاة على المحامي أدامي، وليس فقط بسبب أن المحفظة تحتوي على سبعين ألف ليرة أو أكثر ولكن لأنها حقيقة كانت على درجة من الفظاعة غير المسبوقة. كان هذا الدافع الباهظ طبيعيًا جدًا، إن لم يكن مشروعًا، لكنه هو نفسه فهم أنه من أجل وضعه موضع التنفيذ، كان من الضروري أولاً الإمساك بالفتاة. الآن، كان هناك احتمالان: إما أنها أوقفت سيارة عابرة كانت تقلها إلى مكان ما في المدينة، الله أعلم أو أنها استقلت الحافلة رقم 201، التي كانت تسير على طول كاسيا فيكيا، وتنتهي عند جسر ميلفيو. إذا كان المحامي آدمي يركض بهذه الطريقة بسرعة فائقة على طول طريق خطير بلا شك ومدرج ضمن علامات الحد الأقصى للسرعة، فلم يكن ذلك للتنفيس عن الإثارة الغامرة لروحه، بل بالأحرى لمحاولة الوصول إلى واحدة من تلك الحافلات وتجاوزها. ونجح في ذلك، وتوقف عند المحطة، مستعداً للانقضاض على الفتاة لحظة ظهورها. لكنها لم تنزل من تلك الحافلة أو الحافلة التالية، وزاد غضب المحامي، بدلا من أن يهدأ، وكذلك تصميمه العنيد على العثور عليها مرة أخرى، مهما كان ذلك غير معقول. كان يبحث عنها في جميع أنحاء روما، وعلى أي حال، في الساعة العاشرة حتى منتصف الليل، سيلحق بها في القطار المتجه إلى كالابريا، على الرغم من أن قصة كالابريا، عند التفكير في الأمر، يمكن أن تكون أيضًا واحدة من الأكاذيب العديدة التي روتها الفتاة. وفي الواقع، كان من العبث تقريبًا أن تقوم جانحة من هذا النوع، والتي كانت مهارة السرقة مهنة حقيقية بالنسبة لها، بتزويده بالمعلومات الصحيحة التي تساعده في القبض عليها. لا، لم يكن بإمكانه البحث عنها إلا في روما، ولهذا الهدف الواضح، قام المحامي بتشغيل السيارة مرة أخرى وقادها إلى المدينة التي يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، الساخنة مثل الفرن في نهاية يوم صيفي.

لم يكن الافتراض، وفقًا لاستدلال المحامي، سهلاً، ولكنه لم يكن أيضًا صعبًا إلى حد السخافة كما قد يبدو للآخرين أقل خبرة منه، وفي الواقع يمكن أن تقتصر عمليات التفتيش، وفقًا للمنطق السليم، على تلك العشرات أو نحو ذلك. أكثر بقليل من المواقف التي يفضلها الأجانب في روما. على افتراض أن تلك المجرمة أجنبية، فكر المحامي بمرارة، وفي الواقع يمكن أن يكون الأمر كذلك، حتى لو كانت من ميلانو أو البندقية، لكن لا، إيطاليا لا تنتج مثل هذا الشعر الأشقر ولا مثل هذه العيون الفاتحة، وفي النهاية لقد كان بالتأكيد أول مواطن إيطالي يتعرض للنشل في وطنه على يد سويدية. وكان من الضروري، أيضاً من وجهة نظر الهيبة الوطنية، القبض عليها.

انطلاقًا من خطة واضحة، استكشف المحامي أولاً منطقة قلعة سانت أنجيلو وكاتدرائية القديس بطرس، ثم تسلق جبل جيانيكولو، ثم نزل إلى الكولوسيوم والمنتديات الإمبراطورية ثم تسلق تلة أخرى هي كامبيدوجليو. في كل مكان كان يتوقف لينظر بنظرة جامحة إلى فتاة ترتدي الجينز، نحيفة وشقراء، بمظهر زائف للفتاة الطيبة. نزل من كامبيدوجليو إلى ساحة فينيسيا، وبعد ذلك، بعد أن أصبح محبطًا تدريجيًا، قاد سيارته عبر العديد من الطرق والساحات في المركز، التي أصبحت الآن مليئة بالسيارات والأشخاص الذين خرجوا للاستمتاع بالأمسية الباردة نسبيًا. كما مر بالسيارة بالقرب من البريد المركزي، والذي، على الرغم من أنه لم يكن معلما سياحيا جميلاً، إلا أنه أحد الأماكن التي يزورها الأجانب كثيرًا. ثم عاد بعد ذلك إلى مسار سياحي مزدحم، حيث زار ساحة إسبانيا وساحة ديل بوبولو، حتى غروب الشمس تقريبًا، خطر بباله أن اللص الصغير يمكن أن يكون على شرفة Pincio، حيث يمكن للمرء الاستمتاع برؤية غروب الشمس الشهير، وحيث يمكن للنشال دائمًا العثور على القليل من العمل.

في بينشو بدا وكأن هناك معرضًا، لدرجة أن المنطقة كانت مزدحمة بالناس، وخاصة الفتيات الصغيرات، لكن لم تكن أي منهن ترتدي الجينز الأزرق، وفوق كل شيء لم تكن أنيقات وشقراوات ولها وجه جميل مليء بالبراءة الطفولية، حلوة جدًا في الذاكرة لدرجة أن المحامي، على الرغم من نفسه، سمح للحنين الشديد إليها، مهما كانت روحها مظلمة، ولم يتساءل إلا لماذا سمح الله بمثل هذا المزيج الخطير بين جمال الشكل والفساد الأخلاقي، والتذكير لقد برأها إلى الله بطريقة معينة، على الأقل جزءًا من خطاياها، وفي الواقع بدا له أنها الآن، لو أصبحت في متناول يده، لما كان سيخنقها أو يجرها إلى أقرب مركز الشرطة، لكنه كان سيكتفي بفهم سبب انحرافها، وبمجرد أن يفهم ذلك، سيطلق سراحها، ربما حتى مع الستين ألف ليرة أو أكثر. لقد أصبح كل شيء مريرًا بالنسبة له، في ذلك المساء الذي كان ينزل بلطف، وليس بسببها فقط، لأنها في نهاية المطاف كانت مجرد رمز للعديد من الأشياء الخاطئة في العالم، وهذا ليس صحيحًا تمامًا. بالتأكيد لماذا هم مخطئون.

بعد أن سيطرت عليه هذه الفكرة المقفرة عن الحياة والكون بأكمله، عاد المحامي إلى سيارته، وسار بلا هدف لبعض الوقت عبر أزقة فيلا بورغيزي، وشعر بالروائح النفاذة لأشجار الليمون مثل الصفراء الميتافيزيقية، ورأى حتى الأطفال يلعبون. مع الكلاب على العشب كبشر متحللين، وأخيرًا، خاصة من أجل الهروب من خيبة الأمل التي يبدو أن الطبيعة قد منحتها له، قاد سيارته إلى بورتا بينسيانا ودخل فيا فينيتو، التي كانت في ذلك الوقت مشرقة بالأضواء واللافتات، مزدحمة بالسيارات ومليئة بالناس الذين يسيرون كما لو كانوا في موكب على الرصيفين المزدحمين بطاولات المقاهي. وهناك، وسط الحشد، بين أكشاك بيع الصحف، رآها، بعد أن توقف عن التفكير فيها ككائن طبيعي، أو بالأحرى، لاحظ رأسًا أشقر، ومن اضطراب المشاعر المتضاربة التي اشتعلت. فجأة، شعر على الفور بالتأكد من أنها هي. وبدون تفكير مرتين، قفز من السيارة، واندفع وسط الحشد، وتقدم كالمجنون حتى، قبل أن يصل إليها، أدرك أن رأسها الأشقر ليس رأسها، فالشعر الأشقر لا يشبه رأسها ولو من بعيد، لكنه في هذه الأثناء تسبب بالفعل في الكثير من المتاعب حيث كان نصف شارع فيا فينيتو يطلق أبواقه وكان شرطي غاضب يصفير له صفير مثل صفير الإله عولس في وجه العاصفة للسائق المتهور الذي ترك سيارته في منتصف الطريق خلال ساعة الذروة.

امتثل المحامي للأمر بنقل سيارته إلى طريق جانبي وهناك، مدركًا بشدة لخطر دخوله السجن بسبب الاعتداء اللفظي على شرطي، استعد لبدء جدال مع الشرطي، ليس لأنه كان يعتقد ذلك. لقد كان على حق ولو قليلاً، ولكن لأن هذه الحادثة، التي حدثت في أعلى نقطة في يوم مشؤوم بشكل خاص، تجاوزت حقًا المقدار اليومي من الحظ السيئ الذي يمكن للرجل أن يتحمله بشكل معقول. لذلك، عندما بدأ الشرطي بالسؤال عما إذا كان مجنونًا بأي حال من الأحوال، انفجر وصرخ قائلاً: إنه، وهو موظف محترم، لم يكن يسمح لأحد بأن يشكك في توازنه العقلي، وكان على الشرطي أن يتعلم احترام المواطنين الذين يدفعون الضرائب، بل والقيام بواجبه إذا أراد ذلك، ولكن دون الكثير من الضجة، لأنه لم يكن لديه وقت يضيعه.. عندها شرع الشرطي، بابتسامة التفوق التي لا يملكها إلا الأقوياء، في إضاعة أكبر قدر ممكن من الوقت، وبدأ بدعوته إلى إبراز وثائقه: وثيقة تسجيل المركبة ورخصة القيادة.

لقد فهم المحامي، الذي كان يتمتع بحس قانوني جاهز إلى حد ما في مهنته، أنه أوقع نفسه في فوضى كبيرة، لأنه تذكر فجأة أن رخصة القيادة كانت في المحفظة ولم تعد المحفظة معه. كما أنه لا يستطيع أن يقول إنها سُرقت منه بين الساعة الثالثة والرابعة بعد الظهر، لأنه، بصرف النظر عن الإزعاج الذي كان يمكن أن يصيبه من زوجته إذا علمت بتفاصيل معينة عن القضية، فإن واجبه المحدد كان سيتمثل في للإبلاغ عن السرقة في أسرع وقت ممكن وبشكل عفوي.

توصل المحامي، بعد تحليل عقلي سريع جدًا للموقف، إلى نتيجة مفادها أنه من أجل الخروج من الموقف بأفضل طريقة ممكنة، من الأفضل أن يتخذ إجراءً. بلفتة واثقة، أحضر يده اليمنى إلى الجيب الخلفي لبنطاله ليخرج محفظته، وعلى الفور رسم وجهًا غاضبًا، ولكن في الغالب مرتبكًا، كما لو أنه فوجئ بعدم العثور عليها. ثم، بقدرة احترافية، غيّر تعبيره قليلًا، مضيفًا لمسة من النظرة التائهة، وفي هذه الأثناء يقول لنفسه، ولكن بصوت عالٍ بما يكفي حتى يسمعه الشرطي:

- غريب، لا أجد محفظتي... قليلًا". كانت معي منذ فترة قصيرة... أنا حقًا لا أفهم... أتمنى ألا أفقدها، فقد كانت رخصتي بالداخل....

سخر الشرطي منتصرًا، وربما كان يعتقد أنه لا يتعامل مع محامٍ بل مع لص سيارات. قال دون أن يحاول حتى إخفاء السخرية في صوته:

- حاول أن تبحث عنها بشكل أفضل. ربما تجدها."

بعد ذلك، غادر المحامي السيارة، وهو يشعر وكأنه مهرج، وأسوأ من الدودة، وخلع ستراته، مظهرًا أنه كان يأمل أن تظهر المحفظة بأعجوبة من مكان ما، ولأن الشرطي لا يزال غير راضٍ، بدأ يبحث أيضا داخل السيارة. بين المقعد ومسند الظهر، ثم حتى تحت المقعد، وهناك، ولم تكن مخفية تمامًا، وجد المحفظة التي يبدو أنها سقطت منه بعد دفع ثمن الوقود في أكوابيندينتي، وكان بداخلها كل شيء، الرخصة وأكثر من سبعين ألف ليرة.

مختبئًا خلف أحد الأعمدة التي تدعم سقف الرصيف 7 في محطة تيرميني في روما، رأى المحامي الفتاة النحيلة والشقراء تصل عند منتصف الليل تقريبا، يتبعها حمال يحمل حقيبة ظهرها الكبيرة. استقلت القطار المتجه إلى ريجيو كالابريا، ونظرت من النافذة على الفور تقريبًا، وبقيت هناك لمدة خمس دقائق كاملة حتى غادر القطار. بدت حزينة وربما قلقة بعض الشيء، وكأنها تنتظر، ولكن دون أمل كبير، أن يأتي شخص ما ليودعها.

انتظر المحامي خلف العمود حتى غادر القطار، ثم خرج من المحطة، وركب السيارة وانطلق نحو بيته، أي نحو زوجته وابنته ومصيره، وكان يشعر أيضًا ببعض الكآبة، ولكن مع ذلك القدر المناسب من الكآبة التي لا يستطيع كل إنسان أن يرفض حملها. الآن عرف أن الفتاة كانت رائعة حقًا، كما كان يظنها، وإذا هربت بهذه الطريقة الغريبة فذلك لأنه بالنسبة لها، بالنسبة لها أيضًا، تلك المغامرة التي بدأت تقريبًا مثل مزحة، قد تجاوزت الحدود المسموح بها للمغامرة ولم يكن من الصواب إكمالها، ويجب أن تظل واحدة من الأشياء التي لا تحدث، وبالتالي تظل مثالية بطريقة ما حدث لا يمكن أن يكون.

***

.....................

المؤلف: جوزيبي بيرتو (1978-1914) روائي وناقد سينمائي وكاتب مسرحي إيطالي. تخرج من جامعة بادوا. في عام 1939، حصل على الميداليات الفضية والبرونزية من الحكومة الإيطالية للإصابات التي لحقت به أثناء القتال في شرق أفريقيا. توفي عام 1978.

 

روي سبايفي:

(السفر مع نجم سينمائي)

قصة: ميراندا جولي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

جلستُ مرتين في الطائرة بجوار شخص مشهور. الأول كان جيسون كيد من فريق نيوجيرسي نتس. سألته لماذا لا يسافر في الدرجة الأولى، فقال إن السبب هو أن ابن عمه يعمل في شركة يونايتد.

" أليس ذلك سببًا إضافيًا للحصول على مقعد فى الدرجة الأولى؟"

قال وهو يمدّ ساقيه في الممر:

"لا بأس، الأمر بسيط."

تركت الأمر يمضي، فماذا أعرف أنا عن خفايا حياة المشاهير في عالم الرياضة؟ لم نتحدث لبقية الرحلة.

لا يمكنني ذكر اسم الشخص الشهير الثاني، لكن يمكنني أن أخبرك بأنه نجم وسيم من هوليوود ومتزوج من نجمة سينمائية. أيضًا، يحتوي اسمه الأول على الحرف "V". هذا كل شيء—لا أستطيع قول المزيد. فكّر في عالم الجاسوسية. حسنًا، انتهى الأمر—حقًا، هذا كل شيء. سأدعوه "روي سبايفي"، وهو تقريبًا جناس استبدالي لاسمه الحقيقي.

لو كنتُ شخصًا أكثر ثقةً بنفسه، لما تطوّعتُ للتخلي عن مقعدي في رحلة مزدحمة، ولما حظيتُ بترقية إلى الدرجة الأولى، ولما جلستُ إلى جواره. كان هذا مكافأتي على كوني سهلة الإرضاء.

نام في الساعة الأولى، وكان من المدهش أن أرى وجهًا بهذه الشهرة يبدو هشا وفارغًا. كان مقعده عند النافذة ومقعدي عند الممر، وشعرتُ وكأنني أحرُسه، أحميه من الأضواء الساطعة ومن المصوّرين. نم، أيها الجاسوس الصغير، نم.

هو ليس صغيرًا في الواقع، لكننا جميعًا أطفال حين ننام. لهذا السبب، أسمح للرجال برؤيتي نائمة في وقت مبكر من العلاقة. يدركون عندها أنه رغم أن طولي خمسة أقدام وإحدى عشرة بوصة، فإنني هشّة وأحتاج إلى من يعتني بي. الرجل الذي يرى ضعف العملاق يدرك أنه رجل بحق. وسرعان ما تصبح النساء الصغيرات في نظره أشبه بالكيانات الخفيفة—وهكذا، فجأة، يصير لديه ولَعٌ بالطويلات من النساء.

تحرك روي سبايفي في مقعده، مستيقظًا. أغلقت عينيَّ بسرعة، ثم فتحتهما ببطء، وكأنني كنت نائمة أيضًا. لكنّه لم يفتح عينيه بالكامل بعد. أغلقتُ عينيّ مجددًا ثم فتحتهما فورًا، ببطء، ففتح هو عينيه أيضًا، ببطء، والتقت نظراتنا، وكأننا قد استيقظنا من نومٍ واحد، من حلم امتد طوال حياتنا.

أنا، امرأة طويلة لكن بلا تميّز يُذكر؛ وهو جاسوس بارز، لكن ليس حقًا، مجرد ممثل، لكن ليس حقًا، مجرد رجل، وربما حتى مجرد فتى. هذه إحدى الطرائق التي تؤثر بها قامتي على الرجال، الطريقة الأكثر شيوعًا: أن أصبح أمّهم.

تحدثنا بلا انقطاع طوال الساعتين التاليتين، نخوض في الحديث الذي يدور حول كل شيء تحديدًا. أخبرني بتفاصيل حميمة عن زوجته، السيدة الجميلة "م"، ومن كان ليظن أنها كانت مضطربة إلى هذا الحد؟

-  "أوه، نعم، كل ما يُنشر في الصحف الصفراء صحيح."

-  "حقًا؟"

-  "نعم، خاصة ما يتعلق باضطرابها الغذائي."

-  "وماذا عن الخيانات؟"

-  "لا، ليس الخيانات، بالطبع لا. لا يمكنك تصديق الصحف الصفراء."

-  "الصحف الصفراء؟"

- "نحن نسميها 'بلويد'، أو 'تابز'."

عندما قُدمت وجبات الطعام، شعرنا وكأننا نتناول الإفطار معًا في السرير، وعندما نهضتُ للذهاب إلى الحمام، مازحني قائلاً:

"أنتِ تتركينني!"

فأجبته مبتسمة:

"سأعود!"

وأنا أسير في الممر، كانت أعين العديد من الركاب تلاحقني، ولا سيما النساء. انتشر الخبر بسرعة في هذه القرية الطائرة الصغيرة. ربما كان هناك بعض كُتّاب الصحف الصفراء على متن الرحلة، وبالتأكيد بعض قرّائها. هل كنا نتحدث بصوت عالٍ؟ بدا لي أننا كنا نهمس.

نظرتُ إلى المرآة بينما كنت أتبول، متسائلة إن كنتُ أقبح شخص تحدث إليه يومًا. خلعتُ بلوزتي وحاولتُ غسل إبطيّ، وهو أمر يكاد يكون مستحيلًا في حمام صغير كهذا. رششتُ حفنات من الماء باتجاه إبطيَّ لكنها سقطت على تنورتي، المصنوعة من قماش يصبح داكنًا جدًا عند البلل. وجدتُ نفسي في مأزق حقيقي.

تصرّفتُ بسرعة، خلعتُ التنورة ونقعتها بالكامل في الحوض، ثم عصرتها وارتديتها من جديد. مررتُ يديّ عليها لتسويتها. ها قد أصبحت بلون واحد، أغمق قليلًا. سرتُ عائدة عبر الممر، حريصةً على ألا ألمس أحدًا بتنورتي الداكنة.

عندما رآني روي سبيفي، صاح قائلاً:

- لقد عدت!

ضحكتُ، فقال:

- ماذا حدث لتنورتك؟

جلستُ وشرحتُ له الأمر كله، بدءًا من الإبطين. استمع بصمت حتى أنهيت حديثي.

- إذن، هل تمكنتِ من غسل إبطيكِ في النهاية؟

- لا.

-  هل تفوح منهما رائحة كريهة؟

- أعتقد ذلك.

- يمكنني أن أشمّهما وأخبركِ.

- لا.

- لا بأس، هذا جزء من عالم الاستعراض.

-  حقًا؟

-  نعم. تعالي.

انحنى نحوي وضغط أنفه على بلوزتي.

- ثمة رائحة كريهة.

- أوه. حسنًا، لقد حاولت غسلها.

لكنه كان قد وقف الآن، متجاوزًا مقعدي باتجاه الممر، يبحث في الصندوق العلوي. ثم عاد إلى مقعده بحركة درامية، ممسكًا بزجاجة ذات مضخة.

- فبريز.

-  آه، سمعتُ عنه.

- يجف في ثوانٍ، ويأخذ الرائحة معه. ارفعي ذراعيكِ.

رفعتُ ذراعي، فرشّ بتركيز شديد ثلاث بخّات تحت كل كم.

- من الأفضل أن تبقي ذراعيكِ مرفوعتين حتى يجف.

مددتُ ذراعيّ. إحداهما امتدت إلى الممر، والأخرى عبرت أمام صدره، ويدي تضغط على النافذة. فجأة، بدا واضحًا كم كنتُ طويلة. لا يمكن إلا لامرأة طويلة جدًا أن تمتلك مثل هذا الامتداد. حدّق في ذراعي الممتدة أمام صدره للحظة، ثم زمجر وعضّها. ثم ضحك. ضحكتُ أنا أيضًا، لكنني لم أكن أفهم ماذا يعني هذا العَضّ على ذراعي.

- ما ذلك؟

- هذا يعني أنني معجب بك!

- حسنًا.

- هل تريدين أن تعضّيني؟

- لا.

- ألستِ معجبة بي؟

- بلى، معجبة بك.

- هل بسبب أنني مشهور؟

- لا.

- كوني مشهورًا لا يعني أنني لا أحتاج ما يحتاجه الجميع. ها، عضيّني في أي مكان تريدين. عضي كتفي.

أزاح سترته إلى الخلف، ثم فكّ الأزرار الأربعة الأولى من قميصه وسحبه جانبًا، كاشفًا عن كتفٍ عريضٍ مسفوع. انحنيت نحوه بسرعة، وعضضته برفق، ثم التقطت كتالوج سكاي مول وبدأت في قراءته. بعد دقيقة، أعاد إغلاق أزراره ببطء، ثم التقط نسخته من سكاي مول. قرأنا على هذا النحو لمدة نصف ساعة كاملة.

خلال هذا الوقت، حرصت على ألا أفكر في حياتي. كانت حياتي بعيدة في الأسفل، داخل بناية سكنية من الجص بلون وردي مائل إلى البرتقالي. شعرت وكأنني قد لا أعود إليها أبدًا. ظلّ مذاق ملوحة كتفه على طرف لساني. ربما لن أقف مجددًا في منتصف غرفة المعيشة، مترددة، لا أعرف ما الذي ينبغي عليّ فعله. كنت أقف أحيانًا لساعات، عاجزة عن جمع ما يكفي من العزم لأتناول طعامًا، أو أخرج، أو أنظف، أو أنام. بدا من غير المعقول أن تواجه امرأة، تذوقت وذاقها رجل شهير، مثل هذه الحيرة.

قرأت عن مكانس كهربائية تلتقط الحشرات من الهواء، وتأملت رفوفًا تدفئ المناشف تلقائيًا، وألقيت نظرة على صخور مزيفة تُخفى داخلها المفاتيح. بدأنا في الهبوط. أعدنا المقاعد إلى وضعها المستقيم وأغلقنا الطاولات أمامنا. التفت إليّ روي سبايفي فجأة وقال:

- مرحبًا.

قلت:

- مرحبًا، استمتعتُ كثيرًا معكِ.

- وأنا كذلك.

- سأكتب لكِ رقمًا، وأريدكِ أن تحفظيه جيدًا، كأنه روحك.

- حسنًا

-  إن وقع هذا الرقم في الأيدي الخطأ، سأضطر إلى تغييره، وذلك سيكون أمرًا مزعجًا للغاية.

- حسنا.

كتب الرقم على صفحة مستلة من كتالوج سكاي مول، ثم دسّها في كفّي.

- هذا هو الرقم الشخصي لمربية أطفالي. لا يتصل بها أحد على هذا الخط سوى صديقها وابنها. لهذا، ستجيب دائمًا. ستتمكنين من الوصول إليّ في أي وقت، وهي ستعرف أين أكون. "

نظرت إلى الرقم.

إنه ناقص رقمًا.

- أعلم. أريدكِ أن تحفظي الرقم الأخير فقط، لا تكتبيه، بل احفظيه عن ظهر قلب.

- حسنًا.

- إنه أربعة.

أدرنا وجهينا إلى مقدمة الطائرة، وأمسك روي سبايفي يدي برفق. كنت لا أزال أمسك بالورقة التي تحمل الرقم، فقبض عليها معي. شعرتُ بالدفء والبساطة. لم يكن بإمكان أي شيء سيئ أن يحدث لي بينما كنت أمسك يده، وعندما يتركها، سيكون لدي الرقم الذي ينتهي بأربعة. كنت أريد رقمًا كهذا طوال حياتي.

هبطت الطائرة برشاقة، كما لو كانت خطًا مرسومًا بخفة. ساعدني في إنزال حقيبتي من المقصورة العلوية؛ بدت لي الحقيبة مألوفة بشكل مُزعج.

- سيكون رجالي بانتظاري هناك، لذا لن أتمكن من توديعك كما ينبغي.

- أعلم. لا بأس.

- لا، ليس حقًا. هذا سخيف

- لكنني أفهم.

- حسنًا، هذا ما سأفعله. قبل أن أغادر المطار بلحظة، سأتوجه إليك وأقول: 'هل تعملين هنا؟

- لا بأس، أنا حقًا أفهم.

- لا، هذا مهم بالنسبة لي. سأقول: ’هل تعملين هنا؟‘ وأنتِ ستقولين جملتك.

- ما هي جملتي؟

- تقولين: ’لا.‘"

- حسنًا.

- وسأفهم ما تعنينه. سنفهم المعنى الخفي.

- حسنًا.

تبادلنا النظرات بطريقة تقول إن لا شيء يهم بقدر ما يهم وجودنا معًا. سألت نفسي إن كنت سأقتل والديّ لإنقاذ حياته، وهو سؤال ظللت أطرحه على نفسي منذ أن كنت في الخامسة عشرة. كان الجواب دائمًا نعم. لكن مع مرور الوقت، تلاشى جميع أولئك الفتيان، وبقي والداي. أصبحت أقل استعدادًا للتضحية بهما من أجل أي شخص؛ بل صرت أقلق على صحتهما. لكن في هذه الحالة، كان عليّ أن أجيب بنعم. نعم، سأفعل.

سرنا عبر النفق الفاصل بين الطائرة والحياة الحقيقية، ثم، دون أن يلقي حتى نظرة في اتجاهي، انساب بعيدًا عني.

حاولت ألا أبحث عنه في منطقة استلام الأمتعة. سيجدني قبل أن يرحل. دخلتُ الحمام. التقطتُ حقيبتي. شربتُ من نافورة المياه. شاهدتُ الأطفال يضربون بعضهم البعض. أخيرًا، سمحتُ لنظري أن يجول بين الجميع. لم يكن أي منهم هو، حتى آخر واحد بينهم. لكن الجميع عرفوا اسمه. الموهوبون في الرسم كانوا قادرين على رسمه من الذاكرة، والبقية بلا شك يمكنهم وصفه—لو اضطروا—لشخص كفيف، مثلًا. المكفوفون هم الوحيدون الذين لا يعرفون كيف يبدو شكله. لكن حتى المكفوفين كانوا يعرفون اسم زوجته، وبعضهم ربما كان يعرف اسم البوتيك الذي اشترت منه زوجته قميصًا بلون اللافندر وسروالًا قصيرًا متناسقًا معه. روي سبايفي كان في كل مكان ولا مكان في آنٍ واحد.

شعرتُ بيد تلامس كتفي.

- عذرًا، هل تعملين هنا؟

كان هو. لكنه لم يكن هو، لأن عينيه كانتا بلا صوت؛ كانتا صامتتين. كان يمثل. قلتُ جملتي:

- لا.

عندها، ظهرت بجانبي موظفة مطار شابة وجميلة، وقالت بحماس:

- أنا أعمل هنا، ويمكنني مساعدتك.

توقف لجزء من الثانية ثم قال:

- رائع.

انتظرتُ لأرى ما سيفعله بعد ذلك، لكن الموظفة حدّقت بي بامتعاض، وكأنني أتطفل، ثم رفعت عينيها نحوه، وكأنها تحميه من أمثالي.

أردتُ أن أصرخ: "كان هذا شِفرة! كان له معنى خفي!" لكنني كنتُ أعرف كيف سيبدو الأمر، لذا رحلت.

في تلك الليلة، وجدتُ نفسي واقفة في منتصف أرضية غرفة المعيشة. كنتُ قد أعددتُ العشاء وأكلته، ثم خطرت لي فكرة تنظيف المنزل. لكنني توقفتُ في منتصف الطريق إلى المكنسة، مدفوعةً بنزوة، العبث بالفراغ في وسط الغرفة.

أردتُ أن أختبر إن كنتُ قادرة على البدء من جديد. لكنني كنتُ أعرف الإجابة، بالطبع. كلما واصلتُ الوقوف هناك، زادت احتمالية أن أبقى عالقة في مكاني. كان الأمر معقدًا ومتضاعفًا بشكل متسارع. كنتُ أبدو وكأنني لا أفعل شيئًا، لكنني في الواقع كنتُ منشغلة كعالم فيزياء أو سياسي. كنتُ أضع استراتيجيات لخطوتي التالية. وحقيقة أن خطوتي القادمة كانت دائمًا ألا أخطو أي خطوة لم تجعل الأمر أسهل.

تخلّيتُ عن فكرة التنظيف، واكتفيتُ بالأمل في أن أتمكن من الذهاب إلى الفراش في ساعة معقولة. فكرتُ في روي سبايفي وهو في السرير مع الآنسة "م". ثم تذكرتُ الرقم. أخرجته من جيبي. كان قد كتبه على صورة ستائر وردية. كانت مصنوعة من قماش صُمم في الأصل لمكوك الفضاء؛ يتغير كثافتها وفقا لتقلبات الضوء والحرارة.

حركتُ شفتيّ بجميع الأرقام ثم نطقتُ الرقم الناقص بصوت مسموع: "أربعة." شعرتُ أن الأمر ينطوي على مجازفة، شيء غير مشروع. صرختُ: "أربعة!" ثم تحركتُ بسهولة نحو غرفة النوم.

ارتديتُ قميص النوم، غسلتُ أسناني، وذهبتُ للنوم.

على مدار حياتي، استخدمتُ ذلك الرقم مراتٍ عديدة. ليس رقم الهاتف، بل الأربعة فقط. عندما التقيتُ بزوجي لأول مرة، كنتُ أُتمتم بـ"أربعة" أثناء الجماع، لأنه كان مؤلمًا جدًا. ثم اكتشفتُ عملية جراحية صغيرة يمكنني الخضوع لها لتوسيع نفسي.

تمتمتُ بـ"أربعة" عندما توفي والدي بسرطان الرئة. وعندما تورطت ابنتي في مشكلة في مكسيكو سيتي، لا أحد يعلم ما كانت تفعله هناك، قلتُ "أربعة" في داخلي بينما كنتُ أملي عليها رقم بطاقتي الائتمانية عبر الهاتف. كان ذلك مربكًا—أن أفكر في رقم وأقول رقما آخر.

يمزح زوجي دائمًا بشأن رقمي المحظوظ، لكنني لم أخبره قط عن روي. لا ينبغي التقليل من قدرة الرجل على الشعور بالتهديد. لستِ بحاجة إلى أن تكوني آيةً في الجمال لكي يتعارك الرجال بسببك.

في حفلة لمّ شمل مدرستي الثانوية، أشرتُ إلى أستاذ كنتُ مغرمةً به ذات يوم، وبحلول نهاية الليلة كان الأستاذ وزوجي يتعاركان في موقف سيارات الفندق. زوجي قال إن الأمر كان يتعلق بمسائل عرقية، لكنني كنتُ أعرف. هناك أشياء، الصمت بشأنها أبلغ من أي تفسير.

في هذا الصباح، نظّفتُ علبة مجوهراتي، فوجدتُ قطعة ورق صغيرة عليها صورة ستائر وردية. كنتُ أظن أنني فقدتها منذ زمن، لكنها كانت هناك، مطوية أسفل ظفر جافٍّ وعددٍ من الأساور الثقيلة وغير المستعملة. لم أهمس "أربعة" منذ سنوات. فكرة الحظ بدت مرهقة الآن، كما يبدو عيد الميلاد حين لا يكون المرء في مزاج للاحتفال.

وقفتُ بجانب النافذة وتأملتُ خطّ يد روي سبايفي في الضوء. لقد كبر في السن الآن—مثلنا جميعًا—لكنّه لا يزال يعمل. لديه برنامجه التلفزيوني الخاص. لم يعد جاسوسًا؛ بل صار يؤدي دور والدٍ لاثني عشر طفلًا مشاغبًا. في تلك اللحظة، أدركت أنني لم أفهم الأمر على الإطلاق. لقد أرادني أن أتصل به.

نظرتُ عبر النافذة، فوجدتُ زوجي ينظّف السيارة بالمكنسة الكهربائية في الممر. جلستُ على السرير، الرقم على ركبتي والهاتف بين يدي. أدخلتُ كل الأرقام، بما في ذلك ذلك الرقم المخفي الذي رافقني طوال حياتي البالغة. لم يعد في الخدمة. بالطبع لم يكن موجودا. كان سخيفًا مني أن أتصور أنه لا يزال خط مربيته الخاص.

كبر أطفال روي سبايفي، كبروا منذ زمن. ربما تعمل المربية لدى شخص آخر الآن، أو ربما نجحت في حياتها—أنهت دراستها في التمريض أو إدارة الأعمال. أحسنت صنعا. نظرتُ إلى الرقم في حجري، وشعرتُ بموجة عارمة من الفقدان. لقد تأخرتُ كثيرًا. انتظرتُ طويلًا جدًا.

أنصتُ إلى زوجي وهو يضرب دواسات السيارة على الرصيف. التصق قطّنا العجوز بي، ضغط بجسده على ساقيّ، يطلب الطعام. لكنني لم أستطع النهوض. مرّت دقائق، قاربت الساعة. بدأ الليل يرخي سدوله. كان زوجي في الطابق السفلي يُحضّر شرابه، وكنتُ على وشك النهوض. فى الخارج تُغرِّد الصراصير في الفناء، وكنتُ على وشك النهوض.

(تمت)

***

..........................

الكاتبة: ميرندا جولي / Miranda July فنانة أمريكية متعددة المواهب. فهي كاتبة، وكاتبة مسرحية، وكاتبة سيناريو، ومخرجة، وممثلة، وفنانة أداء، وموسيقية، وفنانة فيديو. في عام 2007، فازت مجموعتها القصصية لا أحد ينتمي إلى هنا أكثر منك بجائزة فرانك أوكونور الدولية للقصة القصيرة، وهي جائزة مرموقة تُمنح في أيرلندا. أما فيلمها أنا وأنت وكل من نعرفه، الذي كتبته وأخرجته ولعبت دور البطولة فيه، فقد فاز بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 2005، بالإضافة إلى جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان صندانس السينمائي.

وُلدت جولي في بار، فيرمونت، في 15 فبراير 1974، لوالدين كانا كاتبين وأستاذين جامعيين آنذاك. نشأت في بيركلي، كاليفورنيا، حيث بدأت بكتابة المسرحيات وعرضها في نادٍ محلي. التحقت بالجامعة في كاليفورنيا لكنها تركتها في عامها الدراسي الثاني وانتقلت إلى بورتلاند لبدء الظهور على المسرح بنفسها. هناك، في سن الثانية والعشرين، بدأت مشروعًا أطلقت عليه اسم جوني فور جاكي—وهو مشروع فيديو بطريقة "رسالة السلسلة" يهدف إلى تمكين وتعزيز أعمال صانعات الأفلام. نُشرت قصصها في مجلات النيويوركر وباريس ريفيو وهاربرز ماجازين وغيرها، وتمت قراءتها عبر محطات إذاعية في جميع أنحاء أمريكا. نُشر أول رواية لها، أول رجل سيئ، في عام 2015.

بقلم: سكوت ماينار

ترجمة: صالح الرزوق

***

أن تقرأ بورغيس يشبه إسدال شاشة رقيقة

أمام عين الكاميرا أو

تنحيتها

وأنت على الشرفة و

الشمس ملتهبة

فوق طاولة مفصلة من الحديد

وعلى يديك المتشققتين.

هذا السطوع

لم أتوقعه،

ولم تشاهده في حياتك

لأن عينيك

تموتان ببطء

والليل يزحف

مثل سيارة صامتة

ليخرج من نهار كنت

تعتقد أنه مثالي

حتى ثبت سوى ذلك. حقا،

إنه مثل النمر في ضوء النهار،

أو

تاريخ غني بالألوان

وأعدنا تدوينه.

وهذا لا يمكن ولا يجب أن يكون واقعيا.

قال، تقريبا، أشعر ماديا

بوزن

الكتب، وهدوء

النظام المهيمن، والوقت

الساحر الذي نجففه،

لنحافظ عليه. كتاب

يحتضن كتابا آخر. إنها تتيبس و

تتخثر

على محتوياتها، هي ليست جافة

ولكنها مصنوعة من هواء

مفعم بعذوبة

الماغنوليا

وورود البرتقال

فبعض الكلمات تتحول

إلى تاريخ و

وبدايات.

صمدت أجنحة ديدالوس،

لكن أجنحة ابنه ذابت

فوق بحر مؤقت –

ومع ذلك

لها طعم الملح و

الاستهلاك اليومي

الفائض

حتى نهاية الخليقة.

أنت

المخترع الموهوب

الذي هرب

من الحصار.

وألفيرا دي

ألفير

العلامة التي

اهتم بها الموت نفسه،

تقترب ببطء، وبــ

هدوء

تام مثل مخلب نسحبه

عن الأوراق الجافة

في الساحة الجميلة.

***

...........................

سكوت ماينار Scott Minar  شاعر وأكاديمي أمريكي. أستاذ متقاعد في جامعة أوهايو. الترجمة بالاتفاق معه.

الأدب الكردي:

بقلم: مسعود بريشان

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أنت رفيق الجبال

والجداول والوديان

حر أنت،

تمقت القفص الضيق

بينما كل الناس

يرومون حبسك

داخل القفص

أيها القبج

عندما تحبس،

كف عن إرسال صوتك

مغنيا

وعندما تطلق نحو الذرى

وسفوح الجبال،

صدح للعالم

محتفلا

وانشد أغنية

العتق.

***

..........................

- القبج: الحجل، الشنار، كه وباللغة الكردية. طائر من التدرجيات.

- (مسعود بريشان): شاعر وصحفي كردي. من مواليد أربيل – العراق 1958. يكتب منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي. صدرت له مجموعة شعرية بعنوان (هه نكاو كه ويت ناكات) عام 1978. عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001.

مسرحية قصيرة

تأليف: ناتاليا جينزبورج

ترجمة: د.محمد عبد الحليم غنيم

***

(امرأة تجلس على السرير. تلتقط سماعة الهاتف)

مرحبًا؟ البدالة؟ أريد إجراء مكالمة بعيدة إلى ميلانو. 80-18-96. وطلبت بيضة نيئة. أحضروا لي الشاي، لكن لم يحضروا البيضة. كان الشاي مثل الماء. نعم، أيها المشغل. لا، انسَ الأمر. لا، زوجي لن يشرب الشاي. سيتناول كافيه أو قهوة بالحليب لاحقًا. إذن، هل يمكنك توصيلي بميلانو؟ نعم، نفس الرقم. يا إلهي، الآن لا أستطيع العثور عليه. 80-18-96. لا، ليست مكالمة مباشرة. لا، لقد أخبرتك بالفعل. لا أريد الاتصال المباشر.

(تذهب إلى المرآة وتبدأ بوضع مساحيق التجميل. في الغرفة المجاورة، هناك شخص يصفر بلحن فى صوت خافت.)

ماسيمو؟ أنا أتصل بميلانو. توقف عن التصفير! بشرتي جافة وصفراء—مقززة. لا عجب. يا لها من ليلة! كان الفراش مليئًا بالنتوءات. وشعرت بالبرد. الأغطية في هذا الفندق مثل خيوط العنكبوت. وأريدك أن تعلم أن أنفي يؤلمني. إنه متورم ولا يتوقف عن النزيف. ماسيمو، هذه القطنة لا تزال مليئة بالدم. أشعر بالغثيان عندما أرى دمي. دماء الآخرين لا تزعجني. لكن دمي أنا... إذا تجرأت على صفعي مرة أخرى، سأرحل ولن تراني مجددًا أبدًا. فكي يؤلمني، وأنفي أيضًا. يا إلهي، اخرج من ذلك الحمام القذر. ما الفائدة على أية حال؟ عندما تخرج من الحمام، تبدو أكثر قذارة مما كنت عليه قبل أن تدخل. أمر غريب. أبدو نظيفة حتى لو لم أستحم.

هذه الباروكة المسكينة انتهت. تبدو كخرقة منذ أن رميتها. لا يزال عليها الطين. يا للخسارة. كانت هدية منك. الشيء الوحيد الذي أهديتني إياه في ست سنوات من الزواج. لأنك بخيل. أنت بخيل معي. لكن مع نفسك، أنت كريم جدًا. اشتريت لنفسك تلك السترة. الآن—بينما نحن مفلسان. وهي حتى لا تبدو جيدة عليك. أنت قصير جدًا لترتدي المخمل بلون التوت.

يا لهذا الفندق البائس! طلبت بيضة نيئة. أين هي؟

(يرن الهاتف).

أخيرًا. لا بد أنها أمي.

مرحبًا، أمي؟

مرحبًا، أمي. لقد كنت أحاول الاتصال بك منذ ساعة.

لا، لا أتصل مباشرة لأن ماسيمو لا يريدني أن أفعل ذلك. إنه بخيل. لكن ليس كذلك عندما يتعلق الأمر بملابسه. لقد اشترى لنفسه سترة مخملية بلون التوت—شيء فظيع. إنه قصير جدًا—يجب أن تري شكله فيها. لم تريه منذ وقت طويل. لقد ترك شعره يطول. لم تريه بشعر طويل. لديه شارب ذهبي طويل وشعر يصل إلى كتفيه. نعم، هذا صحيح. ربما لم أتحدث إليك منذ فترة، لكنني كتبت لك.

ألم أكتب لك أنه ترك شعره يطول؟ غريب.

خمني من أين أتصل؟ من مونتيساورو. بلدة صغيرة على قمة تل. الثلوج تتساقط هنا. نحن في فندق كولودورو. لا، إنه ليس فندقًا جيدًا. بالكاد. طلبت بيضة، ولم أحصل عليها. اضطررت إلى ارتداء سترة فوق قميص نومي، فالبرد قارس هنا.

ماذا نفعل هنا؟ سؤال جيد. لا أعرف ماذا نفعل هنا. الأطفال؟ لا. الأطفال في روما مع مدبرة المنزل. لا، إنهم يقضون وقتًا رائعًا معها. إنها مرحة. دائمة الغناء. جديرة بالثقة. إنها رائعة. لا تفعل شيئًا، لكنها رائعة.

محظوظة؟ أنا؟ محظوظة بماذا؟ مدبرة المنزل؟ نعم، ربما أنا محظوظة بوجود مدبرة منزل، لكن في كل شيء آخر، أنا بائسة.

نعم، صحيح. الحمد لله أننا لم نحضر الأطفال معنا. نعم، لأن الثلج يتساقط. كنا في طريقنا إلى تودي، وتعطلت سيارة الدوفين على الطريق السريع. أصدرت ضجيجًا رهيبًا ثم توقفت تمامًا. كان الثلج يتساقط. لم نكن نعرف ماذا نفعل. لذلك أخذنا حقيبتينا واللوحات من السيارة وبدأنا في المشي. لا بد أننا مشينا نصف ساعة. وأخيرًا وصلنا إلى هاتف الطوارئ. كانت قدماي مبللتين تمامًا. لا، لم أكن أرتدي حذاءً شتوائيًا. لماذا؟ لأنني لم أحضر أحذية شتوية، فعندما غادرنا روما كان الطقس جميلًا. كنت أرتدي سترتي المصنوعة من جلد الغزال وتنورتي السوداء الطويلة. لا، لم أكن أرتدي جوارب. من هناك، اتصلنا بميكانيكي، وجاء لسحب السيارة. يعتقد أن البطارية بحاجة إلى التغيير. واقترح علينا هذا الفندق.

عندما وصلنا، تناولنا بعض كرات اللحم البائتة على العشاء، ثم ألقينا بأنفسنا في السرير. كانت قدماي مثل الجليد. كان ماسيمو غاضبًا. كان ينتف شعره. حمل سريره إلى الحمام. يقول إنه ينام بشكل أفضل عندما يكون وحده.

أمي. اتصلت بك لسبب معين. نحن بحاجة إلى المال. غادرنا روما بمبلغ قليل جدًا. كيف كان بإمكاننا أن نعرف أن البطارية ستتوقف عن العمل؟ لذا أرسلي لي حوالة مالية بقيمة 200,000 ليرة. نعم، أنا آسفة. آمل أن أتمكن من إعادتها يومًا ما. ثمانون ألفًا للبطارية، والباقي—حسنًا، نحن بحاجة إليه. غادرنا روما يوم السبت، لذا لم نتمكن من الذهاب إلى البنك. على أية حال، ماذا لدينا في البنك؟ لا شيء. لا شيء تقريبًا. كنا نظن أننا سنصل إلى تودي في الليلة نفسها وسنتمكن من تدبر أمرنا بطريقة ما. لدينا أصدقاء في تودي. تأكدي من تحويل المال لي. لا ترسليه بالبريد.

نحن هنا في هذا الفندق وماسيمو متوتر. ينتف شعره، ولديه الكثير من الشعر. الكثير من الشعر الطويل. لقد صفعني للتو ونزف أنفي. لا يزال أنفي محشوًا بالقطن. قميص نومي مغطى بالدم. لا، أمي، هذا صحيح. لا أختلق أي شيء. أنا؟ ماذا فعلت؟ لا شيء. فقط أخبرته أنني لا أجد لوحاته جميلة جدًا. كلها متشابهة. دائمًا تلك المروج الصغيرة المزهرة مع عين ضخمة مثبتة في الأعلى. سأقول لك الحقيقة، لقد سئمت من تلك العين.أراها في أحلامي ليلًا. مفتوحة على أقصى اتساعها، بأهداب طويلة مقلوبة. إنها ضخمة. صفراء. تبدو مثل بيضة مقلية.

أمي. اسمعي. اكتبي هذا. ارتدي نظارتك، لأنك إن لم تفعلي، فسيكون خطك غير مقروء، ولن تفهمي ما كتبتيه. فندق كولودورو. ليس بولودورو. كولودورو. مونتيساورو. مقاطعة تودي. ماذا تعنين بأنها ليست مقاطعة؟ بالطبع هي مقاطعة. لا تنسي أن الثلج يتساقط هنا. نعم، أعلم أنني أخبرتك بذلك بالفعل. لكن إلى أن نحصل على المال، لا يمكننا مغادرة هذا المكان. ليس لدينا الكثير من المال. ما لدينا لا يكفي حتى لدفع إيجار الغرفة. أين ذهب حسنا السليم؟ حسنًا، عندما نصل إلى تودي، سنبقى مع صديقتنا روزاريا. إنها أخصائية اجتماعية. من المفترض أن تعرّفنا على رجل مسن—محامٍ يشتري اللوحات. نحمل له ست لوحات. نفس العين القديمة. لا، لا يمكننا الاتصال بروزاريا من هنا وطلب قرض منها. يقول ماسيمو إن ذلك غير لائق. على أية حال، روزاريا مفلسة.

أحضر ماسيمو كتابًا معه، لكنني لا أملك شيئًا للقراءة. فقط عدد قديم من مجلة أنابيلا وجدته في الغرفة. لا يوجد راديو. لم أجلب واحدًا. إنه مستلقٍ في حوض الاستحمام مع كتابه. اسمه علم نفس اللاوعي، أظن أنه لفرويدعلى ما أعتقد. لديه عادة القراءة في حوض الاستحمام. يبقى لساعات وساعات في الماء، وعندما يخرج يبدو أكثر قذارة وإهمالًا مما كان عليه عند دخوله. أوه، ها هي بيضتي! لا، لا تغلقي الخط. انتظري. سأكل وأنا أتحدث. طلبت كيزان خبز. أحضروا لي لفافة صلبة كالصخر. ماذا؟ هل البيضة طازجة؟ تبدو طازجة. أمي، حياتي تنهار، وأنتِ تقلقين بشأن ما إذا كانت البيضة طازجة أم لا؟

ماما، لا أظن أنني وماسيمو يمكننا العيش معًا بعد الآن. لا أعرف. لم أعد أطيقه. وهو أيضًا لا يطيقني. نحن نتشاجر باستمرار. لا، ماما، نحن لا نمر فقط بفترة صعبة، الأمر أسوأ من ذلك. حتى قبل مغادرتنا روما تشاجرنا شجارًا عنيفًا. كنا نجلس على طاولة المطبخ، وقلت له إنني لا أشعر برغبة في الذهاب معه إلى تودي. فردّ عليّ بالإنجليزية قائلًا إنه إن لم أذهب معه فسوف يطردني من المنزل. كان يتحدث بالإنجليزية بسبب الأطفال. فقلت له—بالإنجليزية أيضًا—أنه لا يستطيع طردي لأن المنزل لي. لقد اشتريناه بالمال الذي تركه لي أبي. المنزل مسجل باسم الأطفال، لكنني أملك حق الانتفاع به.

كان يأكل ثمرة كاكي. أخذها وسحقها على الأرض. فأخذت ملعقة وبدأت بتنظيف الفوضى. الطفلتان؟ لم تخافا، بل كانتا تستمتعان بالمشهد. وبينما كنت راكعة على الأرض أنظف، انتزع الباروكة من رأسي وقذف بها خارج النافذة. طارت في الهواء وسقطت في بركة ماء على سطح الجار في الطابق السفلي. اضطررت إلى إرسال الخادمة إلى منزل الصيدلي، وهناك ساعدها الصيدلي (بعصا ممسحة) في انتشال الباروكة من البركة – مبللة ومغطاة بالطين. ثم طلبت من الخادمة أن تلبس الفتيات وتأخذهن إلى فيلا بورجيزي.

عندما بقيتُ وحدي مع ماسيمو، فجأة شعرتُ بالغضب وبدأت بركل لوحاته المصفوفة على الأرض عند المدخل. بدأ بالصراخ كالمجنون، فحبستُ نفسي في غرفتي وبدأتُ بتمشيط الباروكة. وبعد قليل، توسّل إليّ كي أفتح الباب. كان على وشك البكاء. قال إنه آسف جدًا وتوسل إليّ أن أذهب معه إلى تودي لأنه يشعر بالثقة بوجودي. لا أعرف كيف يمكنه أن يقول إنني أمنحه الثقة وأنا أخبره باستمرار أنني لا أحب أعماله حقًا، وأن تلك العين سخيفة. على أية حال، وافقت على الذهاب، لكن كان ينبغي أن أبقى في المنزل، لأنه ما إن دخلنا السيارة حتى بدأنا الشجار من جديد.

ماما. نعم، أعلم. إنه ليس شخصًا سيئًا. إنه طيب—طيب جدًا. إنه خشن بعض الشيء، لكنه طيب—طيب جدًا. أعلم ذلك. لكنني لم أعد أطيقه. نعم، إنه ناجح. إلى حد ما. نعم، يحظى بالاحترام. بالطبع. إنه بصحة جيدة. وأنا أيضًا بصحة جيدة. والأطفال بصحة جيدة. لكن، ماما، ما علاقة الصحة بهذا؟ نعم، أعلم. لدينا ابنتان رائعتان. وبالطبع، سنفعل أي شيء من أجلهما. لكنني لم أعد أطيقه. نعم، أعلم أنني أنجبت طفلتين منه، لكن الآن لم أعد أطيقه.

ماما، يجب أن أخبرك بالحقيقة. لديّ شخص آخر. ماذا؟ نعم، ماسيمو يعلم. أخبرته بذلك مرارًا وتكرارًا. لا، لا، لا تبدأي في الهلع، وإلا لن أخبرك بأي شيء آخر. لديّ شخص آخر. اسمه فرانشيسكو. ماذا؟ "عشيق"؟ هذه ليست الكلمة المناسبة تمامًا. لم يلمسني أبدًا. حسنًا—بالكاد. إنه مشغول جدًا جدًا طوال الوقت. إنه ناشر لمجلة أسبوعية. إنه سياسي. نعم، مشهور. غني؟ أي غنى؟ إنه مفلس تمامًا. عليه إعالة جميع أطفاله. لا، إنه ليس شابًا وسيمًا. ليس وسيمًا جدًا، وبالتأكيد ليس شابًا. عمره تسعة وأربعون عامًا. نعم، ماما. ليس وسيمًا جدًا، لأنه أصلع قليلًا، ولديه أيضًا أنف ضخم. نعم، ضخم.

ماذا أرى فيه؟ تريدين أن تعرفي ماذا أرى فيه؟ لا أعرف.

لا، لستُ مدمّرة بيوت. زوجته لا تكترث على الإطلاق. هما منفصلان تقريبًا. هو يسكن في الطابق العلوي. لديه شقة ضخمة في شارع جِيزو. زوجته وأطفاله يسكنون في الطابق السفلي. لكن الأطفال دائمًا يصعدون إليه. ضجيج لا يُصدق في تلك الشقة—أجراس أبواب، آلات كاتبة، هواتف، أطفال. أطفال في كل مكان! دائمًا أتعثر بأحدهم. وزوجته تصعد دائمًا حاملة له البقالة لأن لديهما مطبخين منفصلين. زوجته؟ نعم، تعاملني بلطف. إنها امرأة جميلة، ممتلئة قليلًا.

هما مهووسان بالطبخ، كلاهما. رغم انشغاله الدائم، إلا أنه لا يكون مشغولًا أبدًا عن مراقبة صلصة السباجيتي وهي تغلي على الموقد. هما كاثوليكيان جدًا. يساريان، لكن كاثوليكيان. في النهاية، كان لا بد أن أقع مع هذين الكاثوليكيين.

المشكلة أنني أخشى أن أكون حاملًا. لا، ليس من ماسيمو. من فرانشيسكو. نعم، بالكاد لمسني، لكن في المرة الوحيدة التي لمسني فيها أصبحتُ حاملًا. كان يوم أحد. أغلقنا الباب بالسلسلة. لا، ليس في منزلنا، في منزله. في شارع جِيزو. كان الأطفال يرنّون جرس الباب، يرنّونه بلا توقف، ولم نجب. كان الأمر لا يُحتمل. أخفض صوتي لأن ماسيمو لا يعلم بهذا. لا، لا يعلم أنني حامل. لا، لم أخبره. حتى فرانشيسكو لم أخبره بعد. سأخبره عندما أعود إلى روما.

لا أريد الإجهاض. لا يمكن أن أفكر في ذلك. أريد هذا الطفل. نعم، ماما، سيكون له أنف ضخم. لا يهمني إطلاقًا كيف سيكون أنفه. أريد أن أعيش مع فرانشيسكو. لا، لست مجنونة. أنا واقعة في الحب. المشكلة أنه لا يريد ذلك. لا يجد لي وقتًا. لا يجد لي مكانًا. لا، الشقة ضخمة. إن عشتُ معه، فهناك متّسع لي وللأطفال. فيها غرف كثيرة. لكنه لا يجد لي مكانًا في حياته. حياته مزدحمة أكثر من اللازم، ممتلئة أكثر من اللازم. لا أعرف ماذا أفعل. أنا يائسة.

سيذهب. تقولين لي إنه سيهجرنى. لكنني أريد أن أعيش معه مهما كان الثمن. لقد حسمت أمري. للأسف، هو لا يوافق. لكنني سأقنعه. نعم. هو أيضًا مغرم بي جدًا، لكنه مرتبك. غير متأكد إن كان هذا هو الحب الحقيقي. ثم يقول إنه بين أطفالي وأطفاله، يمكننا أن نؤسس روضة أطفال. أرأيتِ؟ ماذا تريدين أن تفعلي؟ أن تأتي وتتكلمي مع من؟ مع ماسيمو؟ لن تحلي أي شيء بالتحدث مع ماسيمو. لا. لا، لا تتحركي. ابقي حيث أنتِ. ابقي حيث أنتِ وأرسلي لي الحوالة المالية. عبر التحويل. إلى اللقاء، ماما. سأغلق الخط الآن. أنتِ منزعجة؟ لا. لا تنزعجي. سترين، كل شيء سيُحل. كيف؟ لا أعرف. لا، لست مجنونة. من الأفضل أن أغلق الآن لأننا أنفقنا مبلغا كبيرا على هذه المكالمة. لا تنسي الحوالة المالية. فندق كولودورو. كولودورو. نعم، شكرًا ماما.

(تغلق السماعة، تعود إلى المرآة، وتواصل وضع المكياج.)

ماسيمو! أريدك أن تعرف أن أمي سترسل المال غدًا. ماما المسكينة. كانت مضطربة قليلًا. مصدومة. مصدومة ومضطربة. أخبرتها بكل شيء. أخبرتها حتى بشيء لا تعرفه. أنني حامل. لقد مارسنا الحب بضع مرات فقط، لكنني حامل. هل تسمعني؟ يجب أن تسمعني لأنك توقفت عن التصفير. لا يزال الثلج يتساقط. ماذا سنفعل اليوم؟ الله وحده يعلم. محبوسان في هذه الغرفة. لو كان معي الكلمات المتقاطعة فقط.

ماسيمو! هناك بركة ماء على الأرض. ماذا يحدث؟ لوحاتك تبتل بالكامل. سأجففها بعناية بالقطن. ترى؟ أنا أعتني بلوحاتك رغم أنني لا أحبها. لكنك - أنت تسيء إلى أشيائي. تدمرها. باروكتي المسكينة! لقد أفسدتها. إنها بائسة. أنت من اشتريتها لي. هل تتذكر؟ بثمن إحدى لوحاتك. كانت من أوائل اللوحات التي بعتها. كانت مجرد مرج بسيط. لكن "العين" كانت هناك بالفعل - جاثمة على زهرة مثل حشرة صغيرة. كان ذلك قبل أربع سنوات. كنا سعداء حينها. أحيانًا أفتقد تلك الأيام بشدة. كنت أحبك وقتها. لم يكن لديك ذلك الشارب الطويل بعد. ولا كل ذلك الشعر الطويل الفوضوي. كان شعرك قصيرًا مثل فرشاة الأسنان.

تعلم، لا أعتقد أن ذلك الرجل سيشتري أيًا من أعمالك. روزاريا تحلم. كان مجيئنا إلى هنا مضيعة كاملة للوقت. أشعر بالبرد الشديد.

اخرج من ذلك الحمام وإلا سأطلق عليك النار. أنا حامل. هل تفهم؟ حامل بطفل فرانشيسكو. ولا أريد الإجهاض. سأعيش مع فرانشيسكو وسآخذ الفتيات معي. على أية حال، أنت لا تهتم كثيرًا بالأطفال. يمكنك البقاء هناك في شارع تشيركي. سأترك لك المنزل. لا يمكنني أن أمنحك إياه لأنه ملك للأطفال. ستدفع لي إيجارًا. سبعين ألف ليرة في الشهر. لا، بل ثمانين. سأبقى في شارع جِيزو.

يا إلهي، أنفي ينزف مجددًا. اخرج من ذلك الحمام! ساعدني! أحضر لي منشفة! سترتي كلها مغطاة بالبقع. لا أملك سترة أخرى. لدي هذه فقط.

(تطرق الباب بقوة. تدفع الباب فينفتح.)

إنه ليس هنا. يا إلهي، ليس هنا. أين ذهب؟ ملابسه غير موجودة. لا بد أنه خرج عبر باب الشرفة. لا يمكن أن يكون قد رحل هكذا. لا يمكن أن يتخلى عني في هذه البلدة السخيفة.

(تلتقط سماعة الهاتف.)

مرحبًا، هل يمكنني التحدث مع موظفة الاستقبال؟ هل رأيت زوجي بالمصادفة؟ أوه، حقًا؟ إنه في قاعة الطعام؟ يفعل ماذا؟ يحتسي القهوة بالحليب؟ قولي له أن يعود فورًا إلى الأعلى. قولي له إنني لا أشعر أنني بخير. قولي له أن يتوقف عن الأكل حالًا ويصعد إلى هنا لأنني أفقد عقلي. أنا مريضة. أشعر بالبرد. لقد سئمت ولا أعرف ماذا أفعل، وإذا لم يصعد فورًا، فسآخذ زوجًا من المقصات وأمزق لوحاته الغبية إربًا!

(النهاية)

***

..........................

المؤلفة: ناتاليا جينزبورج (Natalia Ginzburg) كانت كاتبة إيطالية شهيرة وواحدة من أبرز الأصوات الأدبية في إيطاليا في القرن العشرين. وُلدت في 14 يوليو 1916 في باليرمو، وتوفيت في 7 أكتوبر 1991 في روما. بدأت حياتها الأدبية في الثلاثينيات، وكتبت الروايات والمقالات والمسرحيات، وكانت أعمالها تتميز بأسلوب بسيط لكنه عميق، يعكس الحياة اليومية والتوترات العائلية والاجتماعية والسياسية.

 

من الأدب الفيتنامي

بقلم: لي ثانه تونغ

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

كان يحرس الحدود لوحده

ببراثنه الغليظة،

مقرفصا في منتصف

الطريق.

دون أن يكترث للثلج

والجليد.

إنه لا يطلب الطعام الجيد،

ويفعلها دون مقابل.

إنه يحدق مليا

في وجوه الزوار،

وعلى نحو مباشر،

دون أن يهتم بالثرثرات

الصادرة عن ألسنتهم.

يخدم سيده بقناعة

راسخة،

إنه ثابت في مكانه

بكل ثقله

ولا يتزحزح

البتة.

***

........................

- (لي  ثانه  تونغ) أو (لي ثانه تونغ) (1442 - 1497): شاعر و إمبراطور فيتنامي من أسرة ( لو)، و كان تسلسله الخامس. حكم خلال الفترة (1460 – 1497). أحدث إصلاحات قانونية مهمة، وأصدر قانون وطني جديد للبلاد (هونج دوك) و سمي ب (حمورابي فيتنام). أسس إدارة مركزية على الطريقة الصينية. مترجمة عن الإنكليزية.

The Poetry of Vietnam  I  corneliatrent  - Worldpress. com. https: // corneliatrent. wordpress. com

قصة: سالى رونى

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في الطريق إلى عيادة الأسنان يتحدثان عن العودة إلى المنزل في عيد الميلاد. نحن فى شهر نوفمبر وماريان ستقوم بخلع ضرس العقل. يأخذها كونيل إلى العيادة لأنه صديقها الوحيد الذي لديه سيارة وأيضًا الشخص الوحيد الذي تخبره عن مشاكلها الطبية غير السارة، مثل الأسنان المنطمرة. في بعض الأحيان يأخذها إلى عيادة الطبيب عندما تحتاج إلى مضادات حيوية لعلاج التهابات المسالك البولية، وهو ما يحدث كثيرا. كلاهما كانا في الثالثة والعشرين من العمر.

توقف كونيل بالقرب من العيادة وأطفأ الراديو تلقائيًا. لقد أخذ إذنا من العمل في الصباح ليأخذ ماريان إلى الموعد، وهو ما لم يخبرها به. يفعل ذلك أحيانا بسبب الشعور بالذنب. وقبل ذلك بأسبوع، مارست ماريان الجنس غير الكامل معه في شقته ثم اشتكت من أن فكها يؤلمها فوبخها متسائلا: هل عليك أن تشتكي من كل شيء طوال الوقت؟ ثم تشاجرا. كانا كلاهما في حالة سكر قليلاً.

تتذكر ماريان الحادثة بشكل مختلف. تتذكر أنها أخذت عضو كونيل لبعض الوقت على أريكته ثم توقفت لأن فمها بدأ يؤلمها. كان لطيفًا جدًا معها، ثم مارسا الحب على الأريكة بدلًا من ذلك. وفيما بعد، عندما بدأت تتحدث عن فمها مرة أخرى، قال كونيل: أنت تشتكين أكثر بكثير من الأشخاص الآخرين. كانا مستلقيين جنبًا إلى جنب على الأريكة في ذلك الوقت. قالت ماريان، تقصد صديقاتك الأخريات. وقال كونيل لا، كان يقصد الناس، كما هو الحال لدى الجميع. وقال إنه لا يعفر أحدا من أي نوع اشتكى مثل ماريان.

قالت ماريان:

- أنت لا تحب سماع شكوى الناس لأنك غير قادر على التعاطف.

- لقد أخبرتك بالفعل أنني آسف في المرة الأولى التي اشتكيت فيها

- أنت تحب المرأة التي لا تشتكي لأنك لا تريد أن ترى المرأة كإنسانة كاملة.

قال:

- في كل مرة أنتقدك فيها، يتحول الأمر إلى شيء يتعلق بكرهي للنساء.

بدأت ماريان بالجلوس بعد ذلك. جمعت شعرها في لفافة وبحثت عن مشبك لتضعه من خلاله.

قالت:

- أجد الأمر مشبوهًا. أنك دائمًا تدخل في علاقات مع أشخاص لا تتحدث معهم فعليًا.

قال:

- أنت منزعجة وأنت تتخلصين مني الآن ،أنا لست غبيًا تماما.

لمست شعرها بيديها لتشعر أنه في مكانه ثم استلقت بجانبه. كانت أريكة سيئة، ملونة بزهور بنية اللون.

قالت:

- بالنسبة لى. تراني إنساناً كاملاً. لهذا السبب أنت لا تنجذب إلي.

- نعم أنا كذلك.

- جنسيا، ولكن ليس عاطفيا.

ثم شاهدته وهو ينظر إلى السقف. وكان وجهاهما قريبين جدا من بعضها البعض.

قال:

- أعتقد أنه إذا كان الأمر رومانسيًا فلن أرغب في أن يكون لديك أصدقاء آخرون.

- على الرغم من أنك في الواقع لا تفعل ذلك.

- أنا لا أحب ذوقك في الأصدقاء، هذا مختلف.

قالت:

- هل تريد أن تعرف ماذا حدث لدانيال؟قلت له حلمت بالزواج فقال لي؟ وقلت لا لصديقي كونيل. لم يكن بقية الجدال يدور حولك ولكن كيف أقول أشياء عن قصد لإزعاجه لأنني أستمتع بجعله يشعر بالسوء تجاه نفسه.

- أوه.

عادت ماريان إلى المنزل بعد ذلك، متسائلة عما إذا كانت قد اشتكت أكثر من اللازم. وعندما عادت إلى شقتها كان رأسها كله يؤلمها. أخذت زجاجة من الجين من داخل باب الثلاجة وسكبت القليل منها في فمها على سبيل التجربة. أثناء شطفها للكحول البارد حول لثتها، أصابها ألم شديد داخل فكها وجعل عينيها تدمعان. أعادت مضمضة الجن إلى حوض مطبخها وبدأت في البكاء.

ذهبت إلى عيادة الأسنان بمفردها في صباح اليوم التالي. وفي طريقها إلى هناك، خططت لأشياء مثيرة يمكن أن تخبر بها طبيب الأسنان عن الألم الذي تعاني منه في فكها. تخيلت نفسها تقول إن الأمر ليس بهذا السوء في معظم الأوقات، لكن ممارسة الجنس الفموي أمر غير وارد. وبدلاً من ذلك، ألقى طبيب الأسنان نظرة سريعة على فمها ووصف لها مجموعة من المضادات الحيوية لعلاج ما أسماه عدوى "سيئة حقًا". قال طبيب الأسنان: "لست مندهشًا من أنك تتألمين". هذا السن يقطع خدك كالزبدة كتب شيئا على المفكرة ثم نظر إليها. وقال إنه بمجرد ظهور العدوى، سنعمل على استئصالها لك، فلا توجد مشكلة. لن تعرفى نفسك. تستمتع ماريان بمتعة شخصية كبيرة في التحقق من صحة آلامها من قبل المتخصصين.

وهما الآن الشخصان الوحيدان في غرفة الانتظار في الطابق العلوي لعيادة الأسنان. المقاعد ذات لون أخضر نعناعي شاحب. تتصفح ماريان أحد أعداد مجلة ناشيونال جيوغرافيك وتستكشف فمها بطرف لسانها. ينظر كونيل إلى غلاف المجلة، وهو صورة لقرد بعيون ضخمة. في تلك الليلة من الأسبوع الماضي، اتصلت به ماريان أولاً لتخبره أنها انفصلت عن دانيال. كان كونيل في الحمام عندما رن الهاتف وأجاب زميله في الغرفة باري. عندما عاد كونيل، قال باري ببراءة: ما اسم تلك الفتاة الغنية التي ذهبت معها إلى المدرسة؟ كما تعلم، تلك التى تحب أن يمارس الجنس معها. معتقدًا أن السؤال كان صادقًا، أجاب كونيل: ماريان، لماذا؟ ثم ألقى له باري الهاتف. قال إنها تريد التحدث معك. عندما رفع كونيل الهاتف كان بإمكانه سماع ضحكتها بالفعل.

في غرفة الانتظار، يفكر كونيل في لورين، صديقته منذ ما يقرب من عشرة أشهر. والتى انتقلت إلى مانشستر في سبتمبر/أيلول، وقبل أسبوعين نامت مع شخص آخر عندما كانت في حالة سكر. عندما أخبرته بذلك، أدى عدم شعوره بأي شيء إلى إثارة أعصابه وتساءل عما إذا كان يهتم بها على الإطلاق. لعدة أيام شعر بالاكتئاب والتعب بشكل غامض، ثم نام مع ماريان، التي اتهمته بعدم رؤية النساء على أنهن "كائنات بشرية كاملة". لقد أدرك بعد ذلك أنه في الواقع لم ينظر إلى لورين على أنها "إنسان كامل"، بل باعتبارها شخصية ثانوية في حياته الخاصة. ولهذا السبب، فإن ما فعلته خارج المسرح لم يكن يهمه. بعد أن غادرت ماريان تلك الليلة، فتح علامة تبويب جديدة في متصفحه وكتب: لماذا لا أشعر بالأشياء.

في صباح اليوم التالي، اتصل بلورين عبر سكايب وأخبرها أنه يعتقد أنه يجب عليهما الانفصال. واتفقت معه، دون التزام. قالت: لقد استمتعنا، لكن مسألة المسافات الطويلة لن تنجح أبدًا. كان هذا المسار المرسوم لعلاقتهما لا يشبه كثيرًا أي شيء فكر فيه أو شعر به لدرجة أنه أومأ برأسه وقال: نعم، بالضبط. لم يخبر ماريان بعد بمحادثة سكايب هذه. لقد مرت بالدراما بأكملها مع ظهور أسنانها ولا يريد أن يبدو الأمر وكأنه اتخذ قرارًا كبيرًا نتيجة للنوم معها. تقول في كل مرة يتحدثان فيها: "مثل الزبدة". أنا في عذاب. لقد فات كونيل بالفعل المعنى الأصلي لمثل الزبدة ويقرر الآن أن الوقت قد فات للسؤال.

يقول:

- ما هو هذا الشيء الزبدة الذي تواصل الحديث عنه؟

- خدي مثل الزبدة.

يقول:

- ما بك؟

تذكرت أن طبيب الأسنان قال إن السن يقطع خدك مثل الزبدة.

يحدق بها كونيل من فوق الحافة الصفراء لصحيفة ناشيونال جيوغرافيك التي تحملها. يقول:

- اللعنة، هل هذا يقطع خدك جسديًا؟

- هل لم تكن تستمع لي؟ لقد كنت أتحدث عن ذلك لمدة أسبوع تقريبا.

- أعتقد أنني يجب أن أتجاهلك في بعض الأحيان. نظرت مرة أخرى إلى المجلة، وتبدو مسلية.وتقول:

- إنها مهارة حياتية.

- كما تعلمين، لقد انفصلت عن لورين. لا أعرف إذا كنت سمعت ذلك.

للحظة تتظاهر بالقراءة. يمكنه أن يرى أنها تقرر ما يجب فعله أو قوله. تصبح أعمال عقل ماريان واضحة له في ومضات قصيرة مثل هذه قبل أن تختفي مرة أخرى.

تقول:

- أنت لم تذكر.

- نعم في الواقع.

يسعل، رغم أنه لا يحتاج إلى ذلك. هذه نقطة ضعف وهو يعلم أن ماريان تشعر بها مثل الدم في الماء. تقول:

- متى نزل كل هذا؟

- منذ اسبوع تقريبا.

- آها.

إنها لا تؤدي "آها" تمثيلا. تغلق المجلة وتضعها مرة أخرى على الطاولة الزجاجية الصغيرة في حركة واحدة ضعيفة. كونيل يبتلع. لماذا يبلع؟ في المدرسة كانت ماريان قبيحة والجميع يكرهونها. إنه يحب أن يفكر في هذا الأمر بطريقة سادية عندما يشعر أنها تتفوق عليه في المحادثة. في السنة الأخيرة من المدرسة، أخذ عذريتها ثم طلب منها ألا تخبر الناس، على الرغم من أنه لم يعد يشعر بالرضا عن ذلك بعد الآن. لقد استلقت هناك قائلة: لماذا أريد أن أخبر أحداً؟ يجد هذا رمزا لشيء ما.

تشعر ماريان بالإهانة لأن كونيل لم يخبرها عن لورين حتى الآن. إنها تخفي هذه المشاعر من خلال تركيز اهتمام ازدراء بطيء على محيطها المباشر. تتساءل عما إذا كان كونيل لم يخبرها لأنه يجدها يائسة. ماريان البالغة من العمر ثلاثة وعشرين عامًا تتعرض أحيانًا لنفس المخاوف الكئيبة التي ميزت حياتها المراهقة. طوال المدرسة كانت تحتقر الآخرين، ولكن في الوقت نفسه سيطر عليها الخوف من ازدراء الآخرين. كان كونيل أول شخص أحبها حقًا، وحتى هو لم يكن يتحدث معها أمام أصدقائه. لقد فعلت أشياء مهينة للحفاظ على عاطفته وتظاهرت بأنها لم تجدها مهينة. بقيت هادئة في خلفية مكالماته الهاتفية.

يقول:

- نعم، اعتقدت أنك سمعت، لقد كانت واحدة من عمليات انفصال سكايب.استرخاء نسبيًا مع استمرار الانفصال. لورين فتاة مريحة.

ربما هذا صحيح. ينظر من النافذة ويحاول التثاؤب. إنه يكره نفسه. ليس لديه أي فكرة عما تفكر فيه ماريان. يفكر بشكل قسري ومن باب الحقد الذاتي في حقيقة أنه طوال الوقت الذي كان فيه هو ولورين معًا، لم يجعلها تأتي إلا عن طريق الصدفة. مع ماريان كان يجد الأمر دائمًا سهلاً بشكل رائع وبغباء. بالطبع هو يعلم أن هذا لا يعني شيئًا.

تقول ماريان:

- حسنًا، لا تقلق. أعلم أننا عازبان الآن، لكنني لن أطلب منك أن تكون صديقي.

- والغريب أنني لم أقلق بشأن ذلك.

يفتح الباب ثم تخرج ممرضة تقول: ماريان؟ نحن مستعدون لك. تنظر ماريان إلى كونيل وينظر إليها مرة أخرى. للحظات تكرهه لكن الحقد يتبدد دائمًا. إنه لا يقصد أن يلمس هذه الحاجة الرهيبة بداخلها. مع دانيال، شعرت بالحرية والقوة، لأنها لم تأخذه على محمل الجد أبدًا. رغبته في إيذاءها أكدت فقط مدى اعتماده عليها. لكن كونيل لا يحتاج إلى شيء وتشعر معه بالعجز. تلمس وجهها بيدها وتتبع الممرضة إلى الجراحة.

عندما يُغلق الباب، ينهض كونيل ويمشي نحو النافذة. إنه ينظر إلى الشارع، إلى قمم رؤوس الناس. إنه يوم صافٍ، بارد وأزرق مثل قطعة ثلج. إنه يحاول ألا يفكر في ماريان وهي تتألم. إنه يعلم أنهم سيخدرون الجزء الضروري من فمها، لكن هذا يثير غضبه أيضًا. ماريان لا تعرب عن خوفها من المعاناة الجسدية. لقد شهد كونيل أشياء سيئة تحدث لها. ومع ذلك، فقد آلمه عندما قالت إنها لا تريد أن تكون صديقته، ويرجع ذلك مبدئيا إلى مدى كون ذلك الأمر غير مبرر. لم يكن يريد أن يسألها على أية حال. يبدأ بمضغ ظفره حتى يشعر بأنه طري وملتوي في فمه.

في البداية كان سعيدًا لأنها انفصلت أخيرًا عن دانيال. لقد كان أحد مصممي الجرافيك النحيفين الذين كانوا يرتدون نظارات ذات إطار سميك ويتحدثون كثيرًا عن الجنس. جلس كونيل بجانبه في الحانة في عيد ميلاد ماريان وبدلاً من المحادثة شاهدا مباراة بورنموث وتشيلسي على الشاشة الكبيرة. سأل دانيال: هل يهم حقًا من يفوز ومن يخسر؟ قال كونيل: حسنًا نوعًا ما. سيعود بورنموث إلى منطقة الهبوط إذا خسروا هذه المنطقة. قال دانيال: "كنت أقصد على المستوى الفلسفي". لقد كانت تلك محادثة حقيقية حدثت بينهما. وكان دانيال يضحك ويقول: الرجولة شيء هش. لم يذكر كونيل بعض الأشياء التي كان يعرفها عن ميول دانيال. أنت الذي تحب أن تربطها وتضربها بالحزام، لم يقل. أراهن أن هذا يجعلك تشعر وكأنك رجل كبير.

داخل الجراحة أعطوا ماريان مخدرًا. يقوم طبيب الأسنان بإدخال أداة حادة في لثة ماريان ليرى ما إذا كانت تشعر بها، أم لا. ثم يبدأ في إزالة السن. في البداية يمكنها سماع الطحن. ينعكس مصباح أبيض متوهج في عينيها من المرآة فوقها، وطعم اللاتكس الموجود في قفازات طبيب الأسنان له طعم سادي مازوخي. هناك شيء يصدر طنينًا، وسائل رقيق غريب يملأ فم ماريان. لا طعم له مثل الدم. ثم تشعر بشيء ينزلق على لسانها، شيء أملس وثقيل، وفجأة تجلس منتصبة وطبيب الأسنان يقول: ابصقيه! إنها تبصق شيئًا في يد طبيب الأسنان. إنه جزء أصفر صغير من جسدها. الآن يمكنها تذوق الدم وشيء آخر. رأسها يؤلمها. يلمع السن كالكريم في كف طبيب الأسنان. امرأة جيدة، يقول طبيب الأسنان. السن له سعف مثل شقائق النعمان. ماريان ترتجف.

يخشى كونيل أن يكون شخصًا فارغًا عاطفيًا. يحاول أن ينظر إلى صحيفة ناشيونال جيوغرافيك على الطاولة، لكنه يفتقر إلى التركيز ويفكر بشكل متكرر في ألم ماريان. ماريان تورط نفسها في أشياء سيئة لها. هذا رأي لدى كونيل ويشعر بالذنب تجاهه. إنه يعلم أنها تجتذب اللوم على أشياء ليست خطأها لمجرد شخصيتها القاسية. لقد استفاد الناس من ماريان، ولكن ربما سمحت باستمرار ذلك عندما لم يكن الأمر ضروريًا. أخبرته ببعض الأشياء التي جعلها دانيال تفعلها. وأظهرت له الأشياء. قالت: أعلم أنه نوع من العبث. أنا لا أستمتع به. وضحكت، وكان يكره منها أن تضحك.

يقوم طبيب الأسنان بتعبئة فم ماريان بالشاش ويجعلها تعض. تشعر بالدوار، كما لو أن سن طفل مريض ولدته. تتذكر أن كونيل كان في غرفة الانتظار وتشعر بالامتنان الشديد الذي يغرقها في العرق. يفرك الشاش لسانها المخدر وتبدأ عيناها بالوخز بالدموع. لقد انتهى الآن الجزء الطبي من الإجراء. يغرفونها من الكرسي وكأنها قطعة من الصحيفة.

ينفتح باب غرفة العمليات ويستدير كونيل لينظر من النافذة. ماريان تشير بغباء إلى فمها. لقد أعطوها السن في برطمان وهي تهزه. وجهها ملتوي ومشوه مثل خيمة مفرغة. يشعر بمشاعر معينة. في المدرسة كان يحلم بإبداء ملاحظات فكرية أو بارعة أمام ماريان. إنه خيال لا يزال ينخرط فيه بشكل قسري خلال لحظات التوتر. ضحكتها الخيالية تهدئ أعصابه.

يقول:

- هل انتهيت من كل شيء إذن؟ أومأت برأسها، وهي تحاول أن تبتلع. فمها خطأ، وهو في الجسم الخطأ. يضيف:

- لقد كان الأمر سريعًا. كيف تشعرين؟

تهز كتفيها. تشعر بالرعدة التي تجعلها تبكي وتحاول قمع هذا القبح الخاص. لقد فات الأوان. تبكي. تفرك عينيها وأنفها وخدها الأيمن بشكل أخرق. تهز كتفيها مرة أخرى. على الأقل تبكى بصمت.

لم ير كونيل ماريان تبكي إلا مرة واحدة من قبل، عندما كانا مراهقين. كان لدى والدتها صديقها آنذاك، يدعى ستيفن. كان يأتي إلى غرفة ماريان ليلاً أحيانًا "للتحدث". ذهبت إلى منزل كونيل في إحدى الليالي بعد وقوع الحادث وبكت وقالت: أحيانًا أعتقد أنني أستحق أشياء سيئة لأنني شخص سيء. لم يسمع قط أحداً يتحدث بهذه الطريقة. لقد شعر بالمرض، ومنذ تلك اللحظة كان المرض موجودًا دائمًا، حتى لو لم يشعر به. لقد كان الأمر أبعد منه في ذلك الوقت.

يقول:

- هيا نركب السيارة.

في السيارة كانت صغيرة وحيدة. تحمل في إحدى يديها البرطمان الذى يحتوي على السن، وفي اليد الأخرى لفافة صغيرة من الشاش لفمها. وضعت كلا العنصرين بعناية في حضنها، ثم ترتفع فوق مقعدها لتنظر في المرآة.

يقول:

- لا أفعل ذلك بالضرورة.

تتوقف وتضع يدها على المرآة.تقول:

- هل أبدو بهذا السوء؟

صوتها مكتوم وسميك.

قال:

- بالنسبة لي، أنت لست سيئة لكنك تبدين هشًا الآن ولا أريدك أن تشعرى بالخوف.

في البداية ظن أن ماريان تسعل، ولكنه أدرك بعد ذلك أنه يجعلها تضحك تقول:

- لذلك أبدو سيئًة. لماذا لم تحدثني عن لورين؟

يعجن عجلة القيادة تحت يديه. تراقبه. وهى تمسح بكمها سيلا من الدموع من عينها اليسرى، فى تكتم شديد.

يقول:

- هذا الخطاب الصغير الذي ألقيتيه لي حول رؤية المرأة كإنسان أزعجني نوعًا ما في الواقع.

- ماذا، ولهذا السبب انفصلت عنها؟

هذا السؤال، إلى جانب حقيقة أن ماريان تبكي بشكل واضح، يثيره بطريقة معقدة. يفكر بشكل لا إرادي في جسدها العاري. بالنسبة له، إنه يعتبرها صورة للضعف وليس شيئًا جنسيًا، لكنها تبدو وكأنه كلاهما.يعلم أنها تبكي ببساطة من الألم الجسدي المتبقي، وهو الأمر الذي لا يستمتع به. لكن رغبتها في أن يتم الاعتناء بها تمسه. المدهش أنه يوجد تحت مظهرها الخارجي البارد شيء آخر.

لاحظت أنه لا يجيب على سؤالها على الفور. إنه يراقب حركة المرور كما لو كان يفكر في شيء آخر. إنها تأمل أن يبدو فضولها المتهور رافضًا. هذه إحدى الاستراتيجيات الديناميكية العديدة التي تستخدمها لإخفاء ما تشعر به تجاه كونيل. ما تشعر به لا يمكن التعبير عنه بسهولة على أية حال. يحب الناس كل مختلف الأشياء: أصدقاءهم، وآباءهم. وسوء الفهم أمر لا مفر منه.

يقول:

- مازلت تبكين، أليس كذلك؟

فتقول:

- إن الشعور يعود الآن. هذا كل شئ.

(تمت)

***

........................

المؤلفة: سالي روني / Sally Rooney روائية وكاتبة إيرلندية مشهورة لها أربع روايات ، صدر آخرها العام الماضي بعنوان: Intermezzo وتعني فاصل موسيقى أو استراحة ولدت سالى روني في 20 فبراير 1991 في كاسلبار، مقاطعة مايو، أيرلندا) هي كاتبة وُصفت بأنها "أول روائية عظيمة من جيل الألفية" بعد نشرها عدة روايات لاقت استحسانًا كبيرًا وتتناول قضايا مثل عدم المساواة الطبقية، والحميمية، والفن، والسياسة في القرن الحادي والعشرين. ظهرت كتاباتها في مجلة نيويوركر، ونيويورك تايمز، ومجلة لندن ريفيو أوف بوكس، وأماكن أخرى. تعيش في أيرلندا.

- قصيدة للشاعر الامريكي ازرا باوند

ترجمة: سالم الياس مدالو

***

فتاة

الشجرة دخلت يدي

ونسغها

ارتقى ذراعي

وقد نمت نمت

نزولا الى صدري

واغصانها

نمت خارجة

كما الاذرع

من جسدي

شجرة انت

طحلب انت

وازاهير

بنفسج

فوقها الريح

وطفلة طويلة

القامة وكل ذلك

يبدو غباء غباء

وفكرة

حمقاء

للعالم

***

.........................

agirl

by ezra pound

***

the trees has entered my hands

The sap has ascended my arms,

The tree has grown in my breast -

Downward,

The branches grow out of me, like arms.

*

Tree you are,

Moss you are,

You are violets with wind above them.

A child - so high - you are,

And all this is folly to the world

***

..............................

ولد الشاعر ازرا باوند في ايداهو في الولايات المتحدة الامريكية عام - 1885 وتوفي في الاول من نوفمبر عام 1972 في مدينة البندقية في إيطاليا.. كان ازرا شاعرا وناقدا مميزا وناشطا في اعمال الفنون وقد عمل اكثر من اي شاعر اخر بتعزيز الحركة الحديثة في الادب الانكليزي والامريكي.

 

بقلم: سامانتا شويبلين

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

تضيء ثلاثة صواعق رعدية الليل وأتمكن من رؤية بعض الأسطح المتسخة والجدران الفاصلة بين المباني. لم تمطر بعد.. تُفتح نوافذ شرفة المنزل المقابل، وتخرج سيدة ترتدي بيجاما لجمع الغسيل. كل هذا أراه وأنا جالسة على مائدة الطعام أمام زوجي، بعد صمت طويل. يده تلتف حول كوب الشاي البارد، وعيناه الحمراوان لا تزالان تراقباني بإصرار. ينتظر أن أكون أنا من يقول ما يجب قوله. ولأنني أشعر أنه يعرف ما يجب أن أقوله، لم أعد أستطيع أن أقوله. بطانيتُه مرمية على قدمي الكرسي، وعلى الطاولة الصغيرة كوبان فارغان، وآنية رماد بها أعقاب سجائر ومناديل مستعملة. يجب أن أقوله، أقول لنفسي، لأنه جزء من العقاب الذي جاء دوري فيه. أضبط المنشفة التي تلف شعري المبلل، وأعدل رباط روب الحمام. يجب أن أقوله، أكرر لنفسي، لكنها أمر مستحيل. ثم يحدث شيء ما، شيء معقد في العضلات يصعب شرحه. يحدث خطوة بخطوة دون أن أتمكن من فهمه تمامًا: ببساطة أدفع الكرسي إلى الوراء وأقوم. أخطو خطوتين جانبًا وأبتعد. يجب أن أقول شيئًا، أفكر، بينما يخطو جسدي خطوتين أخريين وأتكىء على الخزانة التي تحتوي على الأطباق، تتلمس يداي الخشب، ممسكة بنفسي. أرى باب الخروج، وكما أنني أعرف أنه ما زال يراقبني، أحاول تجنب النظر إليه. أتنفس، أركز. أخطو خطوة جانبية مبتعدة قليلاً. هو لا يقول شيئًا، وأتجرأ على أخذ خطوة أخرى. نعالي قريبة، ومن دون أن أترك الخزانة، أمد قدميّ، أدفعهما نحوي وأرتديهما. الحركات بطيئة، متأنية. أترك يديّ، وأخطو خطوة أبعد، إلى السجادة، أتنفس وأتنفس، وفي ثلاث خطوات طويلة فقط أعبر غرفة المعيشة، أخرج من المنزل وأغلق الباب. يُسمع تنفسي المتسارع في ممر المبنى، في الظلام. أبقى لحظة أضع أذني على الباب، محاولة الاستماع لأصوات من الداخل، كرسيه وهو ينهض أو خطواته نحوي، لكن كل شيء في صمت مطبق. ليس لدي مفاتيح، أقول لنفسي، ولست متأكدة إن كان هذا يقلقني. أنا عارية تحت الروب. أنا مدركة للمشكلة، لكل المشكلة، لكن بطريقة ما حالتي هذه، هذه الحالة غير المتوقعة من اليقظة، تحررني من أي نوع من الأحكام. تومض أضواء الأنابيب ثم يصبح الممر أخضر قليلاً. أذهب إلى المصعد، أطلبه، ويصل على الفور. تنفتح الأبواب ويظهر رجل دون أن يرفع يده عن الأزرار. يدعوني للدخول بحركة ودية. عندما تغلق الأبواب، أشعر برائحة قوية من الخزامى، كما لو أنهم للتو قاموا بالتنظيف، والضوء، الآن دافئ جدًا وقريب من رؤوسنا، يريحني ويطمئنني:

- هل تعرفين كم الساعة، آنسة؟

يربكني صوته العميق ويصعب عليَّ تحديد ما إذا كان ما قاله سؤالًا أم تأنيبًا. هو رجل قصير جدًا، يصل إلى كتفي، لكنه أكبر مني سنًا. يبدو أنه أحد المسؤولين عن المبنى أو موظف متعاقد لإصلاح شيء معين، رغم أنني أعرف المسؤولين الاثنين في المبنى وهذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الرجل. بالكاد لديه شعر. يرتدي سترة قديمة مفتوحة، وتحتها قميص نظيف ومكوي، مما يعطيه مظهرًا رقيقًا أو مهنيًا. يهز رأسه، ربما لنفسه.  يقول:

–   زوجتي ستقتلني

لا أسأل، ليس لدي اهتمام بمعرفة التفاصيل. أشعر بالراحة في صحبته وأنا أنزل، لكنني لا أرغب في الاستماع. ذراعاي معلقتان على جانبي، مرتخيتان وثقيلتان، وأدرك أنني مسترخية، وأن الخروج من الشقة يفيدني. يقول الرجل:

- لا أريد حتى أن أخبرها  .

ويهز رأسه مرة أخرى.

–   أشكرك .

أقول ، وأنا أبتسم لكي لا يأخذها بشكل خاطئ.

-    لا تخبرها.

نودع بعضنا البعض بإيماءة من الرأس في الردهة.  يقول:

- أتمنى لك حظًا موفقًا جدًا.

-  شكرًا.

يبتعد الرجل نحو الموقف وأخرج من الباب الرئيسي. الجو ليلاً، رغم أنني لا أستطيع تحديد الوقت بالضبط. أمشي حتى الزاوية لأرى مدى الحركة في شارع كوريينتس، يبدو أن كل شيء نائم. بجانب الإشارة الضوئية أخلع المنشفة عن رأسي، التي أعلقها على ذراعي، وأعدل شعري قليلاً إلى الوراء. كانت الأيام هذا الأسبوع رطبة وحارة، لكن الآن تأتي نسمة لطيفة من تشاكاريتا، باردة ومعطرة، وأمشي في اتجاهها. أفكر في أختي، في ما تفعله أختي، وأرغب في أن أخبر أحدًا بذلك. الناس مهتمون جدًا بما تفعله أختي، وأحب بين الحين والآخر أن أخبرهم بأشياء تهمهم. ثم يحدث شيء ما، بطريقة ما كنت أنتظره. ربما لأنني قبل ثانية من سماع البوق فكرت فيه، في الرجل في المصعد، ولذلك لا يزعجني قرب سيارته، ابتسامته، وأفكر أنه قد أتمكن من إخباره عن أختي.

–   هل أستطيع أن أوصلك إلى مكان ما؟

أقول:

-  نعم، يمكنني لكن الليلة جميلة جدًا لدرجة أننا لا نحتاج إلى الركوب في سيارة.

يومئ برأسه، وتبدو ملاحظتي وكأنها غيرت خططه بطريقة ما. يوقف السيارة وأقترب.

- أنا ذاهب إلى بيتي لأن زوجتي ستقتلني، ويجب أن أكون هناك لكي يحدث ذلك.

أومئ برأسي.

يقول: إنه مزاح  .

أقول وأبتسم:

- أكيد، بالطبع

يبتسم هو أيضًا وتعجبني ابتسامته.

–   لكننا يمكننا فتح النوافذ، جميع النوافذ، ونسير بالسيارة ببطء شديد.

–   هل تعتقد أننا سنزعج أحدًا إذا سرنا ببطء؟

ينظر إلى الشارع أمامه وخلفه، هناك بعض الشعر على مؤخرة عنقه، شبه زغب أحمر.

–   لا، إذا لم يكن هناك أحد في الشارع. يمكننا فعل ذلك بدون مشكلة.

أقول:

- حسنًا.

أدير ظهري وأجلس في المقعد المجاور. يفتح النوافذ ويرفع زجاج السقف. السيارة قديمة لكنها مريحة وتفوح منها رائحة الخزامى.

– لماذا ستقتلك زوجتك؟ لأنني عادةً ما أسأل عن شيء يتعلق بالآخرين قبل أن أخبرهم عن أختي.

يضع السيارة في السرعة الأولى، ولحظة يركز في دواسة القابض والسرعة، يحرك السيارة ببطء حتى يجد السرعة المناسبة، ينظر إليّ وأنا أومئ برأسي بالموافقة.

-  اليوم ذكرى زواجنا، وكان من المفترض أن أذهب لآخذها الساعة الثامنة لنذهب لتناول العشاء، لكن حدثت مشكلة في سقف المبنى. هل سمعت عن ذلك؟

شعرت بالهواء يداعب ذراعي وعاتقي، لا باردًا ولا حارًا، وكان ذلك مثاليًا. فكرت في نفسي: "هذا بالضبط ما كنت أحتاجه".

-  هل أنت المسؤول الجديد عن المبنى؟

- إذا كان المقصود بـ"جديد"... فأنا هنا منذ ستة أشهر، آنسة.

-  وأنت مختص بالصيانة أيضًا؟

-  أنا مختص بالإخلاء، في الواقع.

كنا نسير ملاصقين للرصيف، تقريبا نتبع امرأة تمشي بسرعة وبيدها حقيبة تسوق فارغة، كانت تراقبنا من طرف عينها.

–  مختص بالإخلاء؟

- نعم، أصلح مخارج السيارات.

-  هل أنت متأكد أن هذا ما يفعله المختص بالإخلاء؟

-  أستطيع أن أؤكد لك ذلك.

كانت المرأة على الرصيف تنظر إلينا بتململ، فمشت ببطء كي نضطر إلى المرور من جانبها.

- المشكلة أن الوقت أصبح متأخرًا جدًا لذهابنا للعشاء، ومن المؤكد أنها انتظرتني لساعات. الوقت متأخر لدرجة أن المطاعم ربما تكون قد أغلقت.

-  هل اتصلت بها لتخبرها عن التأخير؟

هز رأسه دون أن ينطق، مدركًا خطأه.

–  ألا تريد أن تتصل بها؟

- لا، لا أظن أنه سيكون فكرة جيدة.

–  حسنًا، إذًا، ليس هناك الكثير مما يمكن فعله. لا يمكنك اتخاذ قرار حتى تصل وتراها بنفسك .

-  هذا ما أفكر فيه أيضًا.

نظرنا للأمام، كان الليل هادئًا ولم يكن لدي أي شعور بالنعاس.

–   أنا ذاهبة إلى منزل أختي.

–  كنت أظن أن أختك تعيش في نفس المبنى.

–  تعمل في المبنى، ورشة عملها في الطابقين العلويين من شقتي، لكنها تعيش في مكان آخر. هل تعرفها؟ هل تعرف ما الذي تفعله أختي؟

–    عذرًا، هل تمانعين إذا توقفت للحظة؟ أشعر برغبة شديدة في التدخين.

أوقف السيارة أمام الكشك، أطفأ المحرك ونزل. فكرت في نفسي: "كل شيء يسير على ما يرام حتى الآن. أشعر بشعور رائع الآن. يبدو أن هناك شيئًا خاصًا في هذا كله، شيء ما يفر مني. ماذا يكون؟ يجب أن أعرف كي أتمكن من الحفاظ عليه وإعادته متى ما أردت .

- آنسة!

أشار لي المختص بالإخلاء من الكشك لأقترب. تركت المنشفة على المقعد الخلفي ونزلت. قال المختص بالإخلاء مشيرًا إلى الرجل في الكشك.

-  ليس لدينا فكة، لا أنا ولا هو.

انتظرتهما. بحثت في جيوب ردائي عن فكة. سأل الرجل من الكشك.

- هل أنت بخير؟

كنت لا أزال مركزة في البحث داخل جيبي، فاستغرق مني وقتًا لفهم أن السؤال موجه إلي. قال مشيرًا إلي في دهشة:

–   شعرك مبلل... هكذا ، كأنك خرجت للتو من الدوش.

نظر أيضًا إلى رداءي ولكنه لم يتحدث عنه.

– فقط قولى أنك بخير، وسنكمل موضوع الفكة.

أجبت:

–   نعم أنا بخير ، لكنني لا أملك فكة أيضًا.

أومأ الرجل برأسه مرة واحدة، لكن كان يبدو عليه الشك، ثم انحنى خلف المنضدة. سمعناه يتحدث مع نفسه، يقول إنه في مكان ما بين الصناديق، دائمًا ما يحتفظ ببعض العملات المعدنية الزائدة. نظر المختص بالإخلاء إلى شعري، جبهته متجعدة، وللحظة خشيت أن ينكسر شيء في هذا الشعور بالراحة. عاد الرجل من الكشك وقال:

-  تعرفين ، هناك مجفف شعر في الخلف. إذا أردت...

نظرت إلى المختص بالإخلاء، أنتظر ردة فعله. لا أريد أن أجفف شعري، لكنني أيضًا لا أريد أن أرفض طلبا لأحد. قال المختص بالإخلاء مشيرًا إلى السيارة:

- نحن في الطريق لذلك  كما ترى ؟ نحن نقود والنوافذ مفتوحة، في السرعة الأولى، والجو حار جدًا. بعد قليل سيكون الشعر جافًا تمامًا.

نظر الرجل إلى السيارة. كان يحمل بعض العملات المعدنية، يضغط عليها ثم يتركها، ثم نظر إلينا وسلمها للمختص بالإخلاء.

- شكرًا

قلتها عندما خرجنا.

لا يبدو أن الرجل الموجود في الكشك مقتنع بموقفي، وعلى الرغم من أنه يمشي بعيدًا نحو الثلاجات، إلا أنه لا يزال يستدير عدة مرات لينظر إلينا. في الخارج، يقدم لي المختص بالإخلاء سيجارة، لكني أقول له إنني لم أعد أدخن وأتكئ على السيارة استعدادًا للانتظار. يشعل سيجارة ويدخن، يزفر الهواء إلى الأعلى، كما تفعل أختي. أعتقد أنها علامة جيدة، وبمجرد أن نعود إلى المسار الصحيح، سنعوض ما فقدناه في الكشك.

أقول فجأة:

- دعنا نشتري شيئًا لزوجتك. شيء تحبه ويمكنك من خلاله إثبات أن تأخيرك لم يكن عن سوء نية.

- سوء نية؟

-  زهور، أو شيء حلو. أنظر، هناك محطة بنزين في الزاوية الأخرى. هل نسير؟

يومئ برأسه ويقفل السيارة. تظل النوافذ مفتوحة، كما اتفقنا عندما بدأنا المسير. هذا جيد جدًا، أقول لنفسي. ونتحرك نحو الزاوية. الخطوات الأولى فوضوية. يمشي بالقرب من الرصيف، دون إيقاع، وأحياناً يعقد قدميه، متفاجئاً من حماقته. أقول لنفسي إنه لا يستطيع أن يجد طريقه، عليك أن تتحلين بالصبر. أتوقف عن النظر حتى لا أزعجه. أنظر إلى السماء، إلى إشارة المرور، وأستدير لأرى كم ابتعدنا عن السيارة.. أقترب قليلاً محاولاً استعادة مسافة التواصل. أمشي بشكل أبطأ قليلاً، لأرى ما إذا كان ذلك يساعد، لكن في النهاية يدفعه ذلك إلى الاندفاع إلى الأمام، حتى يتوقف. منزعجًا، يلتفت إلي وينتظرني. عندما نعود معًا نتوافق معا فى بضع خطوات، ولكن سرعان ما نفقد المزامنة مرة أخرى. ثم أتوقف.

قلت:

- هذا لا يجدي نفعًا .

يخطو بضع خطوات أخرى، ويحيط بي في حيرة، وينظر إلى أقدامنا.يقول:

-هيا نعود . لا يزال بإمكاننا الاستمرار في السيارة.

يمر مترو الأنفاق أسفلنا، تهتز الرصيف، وتصعد موجة من الهواء الساخن عبر الفتحات المعدنية في الأرض. أهز رأسي نفيًا. على بعد بضعة أمتار، يطلّ بائع الكشك وينظر إلينا. لم يعد هذا هو الطريق الصحيح، أفكر، كان كل شيء يسير على ما يرام. يضحك، لكن بحزن. ينكمش جسدي، أشعر بتصلب في يدي وفي مؤخرة عنقي.

قلت:

–  هذا ليس مجرد لعبة.

سأل:

– ماذا تعنين؟

أجبت:

– هذا أمر بالغ الجدية.

توقف في مكانه، وبهتت ابتسامته. قال:

- عذرًا، لكني لم أعد متأكدًا من أنني أفهم ما يجري..

فكرت: لقد انقطع الخيط بيننا، تاه بعيدًا. لكنه ظل يحدّق بي، ولمع في عينيه بريق خاطف، لحظة واحدة فقط، بدت فيها نظرته وكأنه قد فهم.

-    هل تريدين أن تخبريني عن أختك؟

-    هززت رأسي نفيًا.

-    هل تودين أن أوصلك إلى شقتك؟–

أجبت:

– ثماني شوارع فقط، من الأفضل أن أعود وحدي. اتصل بزوجتك، ربما هذه المرة ستشعر برغبة في الاتصال بها..

قطفت ثلاث زهرات خارجة من وراء قضبان أحد المباني، وناولتها له.

قلت:

– خذ، قدمها لها فور وصولك.

أمسكها دون أن يحيد بنظره عني.

قلت، مسترجعة كلماته في المصعد:

– أتمنى لك حظًا وفيرًا.

ثم ابتعدت.

مررت بجانب السيارة وأخرجت منشفي من النافذة الخلفية. عبرت إلى الرصيف المقابل، ثم عدت. انتظرت عند إشارة المرور، وأنا أحمل المنشفة على ذراعي كما لو كنت نادلًا. نظرت إلى قدمي، إلى الشبشب، أركز على الإيقاع، آخذ نفسًا عميقًا وأخرجه بانضباط، منتبهة إلى صوته وشدته. هذه هي طريقتي في المشي، فكرت. هذا هو المبنى الذي أسكن فيه. هذا هو مفتاح الباب الرئيسي. هذا هو زر المصعد الذي سيأخذني إلى طابقي. تنغلق الأبواب. وعندما تفتح، تومض أضواء الممر مجددًا. أمام شقتي، لففت شعري بالمنشفة مرة أخرى. الباب بدون قفل. فتحته ببطء، وكل شيء، كل شيء في غرفة المعيشة والمطبخ، لا يزال بشكل مخيف على حاله. كانت البطانية مرمية عند أسفل الأريكة، أعقاب السجائر والأكواب فوق الطاولة الصغيرة. الأثاث كله في مكانه، يحفظ ويؤكد كل الأشياء التي يمكنني تذكرها. وهو لا يزال هناك، جالسًا إلى الطاولة، منتظرًا. يرفع رأسه من فوق ذراعيه المتشابكتين وينظر إليّ. ويراقبني. خرجت للحظة، فكرت. أعلم أن دوري كان في الكلام، لكن إذا سأل، هذا كل ما سأقوله.

***

....................

الكاتبة: سامانتا شويبيلين/  وُلدت في بوينس آيرس عام 1978. كتابها الأول، النواة من الاضطراب (2002)، حصل على جوائز من الصندوق الوطني للفنون والمسابقة الوطنية هارولدو كونتي. في عام 2008، حصلت على جائزة Casa de las Américas عن كتابها طيور في الفم (2009)، الذي ترجم إلى ثلاثة عشرة لغة ونُشر في أكثر من عشرين دولة. حصلت على النسخة الأخيرة من جائزة خوان رولفو الفرنسية، وفي عام 2014 نشرت روايتها الأولى مسافة الإنقاذ. حصلت على منح لإقامات كتابية في المكسيك وإيطاليا والصين وألمانيا، وتعيش حالياً في برلين حيث تكتب وتدير ورش عمل كتابة أدبية باللغة الإسبانية.

 

بقلم: إدنا أوبراين

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

أصبحوا في الداخل. أم وأب وابنة. سهرت ديليا لتسمع صوت دخولهم، ولكنها يجب أن تكون صاحية الآن في كل حال، فالنوم يهرب منها كلما تقدمت السنون. وأحيانا تسقط بالنوم دون أن تدري، وتستيقظ في تلك الساعة الكئيبة قبل الفجر، وتذهب إلى النافذة، وترى كلبها يأتي من تحت الحافة، وهو يتعايش مع أول صوت غير مسموع تقريبا ينبعث من المنزل، ويرفع نظراته إليها بشيء من العرفان، متوسلا لها كي تهبط، وتفتح الباب الخلفي، وتقدم له طبقه المعتاد، وهو الشاي الممزوجة بالحليب.

أحيانا تتناول حبة، ولكنها تكره أن تكون تحت رحمة العقاقير، وتمقت أيضا أن يأتي يوم ولا تستطيع الحصول عليها. في أوقات سهرها تصلي أو تحاول أن تصلي، ولكن الصلاة مثل النوم، أصبحت ضعيفة ومهزوزة، وذلك في الوقت الذي تحتاج فيه إلى التقرب من خالقها. تخرج الصلوات من شفتيها فقط، ولكن ليس من أعماقها. فقد أضاعت تلك العلاقة القلبية والعاطفية التي ربطتها من قبل مع الله.

ولذلك في الليل، تتجول بذهنها في البيت، وتفكر بتحسينات لا بد منها مع الوقت - ورق جدران جديد في الغرفة المضيئة، فلونها الوردي تشوبه البقع ولا سيما حول النوافذ، وتلوثه الرطوبة الدائمة. ثم في الغرفة الفارغة التي تخزن فيها التفاح، تعرض ورق الجدران للتقشير. ومر على ذلك سنوات دون أن يلحظ النزلاء أن صور الكستناء والعصافير الطنانة مقلوبة. وربما عليها استبدال هذا الورق أيضا، لتصويب ما فعله أولئك الحمقى على سبيل الخطأ.  كانت ديليا امرأة تحب أن تكون دائما في الجانب الصحيح. شيء عجيب. في يوم تعليق ورق الجدران استشارت قارئ حظ في المدينة عن موضوع محدد وأخبرها أنها ستعود إلى البيت وتجد تلك الطيور والكستناءات مقلوبة وبالفعل لاحظت ذلك وامتعضت منه. في أمكنة أخرى من البيت كانت تتحلى بجرأة أكبر فيما يتعلق بتصورها للتحسينات - وفكرت ربما هي بحاجة لشريط من المفارش على الأرض وراء الباب في الممر، لتحمي الرخام من أحذية ويلينغتون ومن المداسات الثقيلة. التنظيف يضر بها، ولا سيما ظهرها. ثم هناك إضافات بسيطة، مثل مناشف جديدة، وفوط شاي، ومناشف صحون. مناشف الصحون الحالية تفوح برائحة الحليب، ولم ينفعها الغلي ولا النقع. وهي لا تزال تحتفظ بالرائحة النفاذة والقوية.

كانت أقوى حاسة لدى ديليا هي الشم، وحينما وصل النزلاء في ذلك الصباح، شمت رائحة عطر البنت والمرأة، وكانتا متماثلتين، ولكن لم يتطابق فيهما أي شيء آخر. كانت سامانثا، الابنة، واثقة من نفسها كالديك، وشعرها بلون سكاكر القهوة، وتضيق عينيها كأنها تفكر بمشكلة حسابية، مع أن تفكيرها محصور بما يلي: "انظروا لي ودللوني". وكان شعرها الطويل سلاحها البتار، وقد انسدل على الطاولة وراءها وهي تتأمل ورق الجدران، أو صورة لصبايا تحاولن تحريك عقارب ساعة ليقترب الوقت من توقيت الإطعام. وكررت عدة مرات أن والديها تناولا لقمة من الكعك المثلج واللذيذ. ومع أن التسعيرة تتضمن كلفة السرير والإفطار فقط، كانت ديليا تحب أن تقدم لنزلائها الشاي حال وصولهم وأي نوع من أنواع الكعك المتوفر في العلبة المعدنية. وكانت تنورة سمانثا قصيرة، وتلفت الانتباه لفخذيها، وكانا مثل عمودي نوغة صلبين داخل جوارب شفافة بلون القشدة. وكانت ترتدي حذاء مزررا فوق مشط القدم. أما الأم فقد كانت ممتلئة وتتلمس ابنتها كلما قفزت في فورة من فوراتها. وكان الأب يدخن الغليون. وهو رجل وسيم، وطويل، ومنعزل. ويبدو كأنه أستاذ شيء ما. بعد الشاي والكعك تساءلوا إن يتوجب عليهم تحضير سلة للنزهة مع بعض الشطائر والبيض المسلوق، فقد أزمعوا على رحلة بالقارب. ولكنها أوضحت لهم أنه عليهم اتخاذ التدابير من أجل العشاء، لأنها عمليا تقدم السرير والإفطار.

حينما عادوا بعد منتصف الليل، وتسلقوا السلالم سمعتهم يقولون عدة مرات: "صه. صمتا". واستعملوا الحمام بالدور. ويمكنها أن تخبر من صوت خطواتهم أنهم يبذلون قصارى جهدهم ليلزموا جانب الهدوء، واستمر ذلك حتى تحطم شيء، وتناثر. وتوقعت أنه كوب الخزف الأبيض. وكم كانت تحبه. فهو بلون القشدة ويتخلله ظل أخضر وصور نبات الغار والنفل. أرادت أن تنهض وتؤنبهم، ولكن منعها دافع داخلي. كما أنه لم يكن لديها مئزر منزلي. هل هم بمآزرهم؟. ربما المرأة لديها مئزر، ولكن الرجل بقميصه الداخلي. ستفتقد للكوب وستبكيه. فأشياؤها هي المخلصة لها، وذلك بعد ضياع وتبعثر كل ما عداها. وهي تدرك، نعم، تدرك، أن حب الأبناء يخف وينحسر مع الوقت، على شاكلة بذة غسلت وأعيد غسلها، حتى لم يبق من لونها الأصلي غير ذكرى بعيدة. وستصبح ابنتهم، سمانثا، على هذا المنوال قريبا، وستبتعد حالما تكسب اهتمامات جديدة، وأصدقاء مقربين وغير ذلك.

احتل الأبوان الغرفة الزرقاء، وكانت غرفة زفافها مع زوجها، وفيها ولدت أبناءها، ومع تقدم السنين، كانت تنام فيها قليلا، ولا تزور زوجها إلا إذا اضطرت لذلك، ثم تعمد لغسل وتنظيف نفسها. خمسة أولاد يكفي لأي امرأة. أربعة تشتتوا، وواحد مات، وكنة حولت ابنها، ابنها الوحيد، ليكون ملكها الشخصي. ولكنها لا تريد أن تقسو عليهم، وأن لا تلقي أحكاما جازمة. البنات تتذكرن حينما تردن ذلك. وترسلن الهدايا، وبالأخص الصغرى، وفي المرة التالية، إذا سئلت ماذا ترغب لعيد ميلادها، تقول عباءة، لتتمكن من رؤية النزلاء في اللحظة الحرجة. 

وكانت تستقبل الناس في الصيف فقط، جزئيا لأنه توقيت حضور السياح، بالإضافة إلى أن تكاليف تدفئة البيت في الشتاء باهظة، فالوقود مرتفع الثمن. كما أنها لا تستقبل النزيل لأكثر من ليلتين أو ثلاث، خشية من التمادي وأن يتصرفوا وكأن البيت ملكهم، فيفتحون الخزانات والأدراج، ويكتشفون ذكريات ماضيها، كالمناديل المطرزة بكلام مأثور، وثوب رقص ومعطف بلون الخزامى، ومروحة سوداء بمقبض من العاج. وهناك أسباب أخرى أكثر تكتما. فقد كانت تخاف أن ترتبط بهم وأن تطلب منهم البقاء معها لفترة أطول، للإستئناس برفقتهم. وبما تكسبه من النزلاء في الصيف أنفقت على تحسين البيت وأرضه، أما رفاهيتها الوحيدة فقد كانت علبة معدنية كبيرة، تحتوي على بسكويت التوت والكاستر، فهي مغرمة بهما. نعم، كان الزوجان في سرير الزوجية، سرير واسع برأس من خشب السنديان الذي يقعقع، وبغطاء وردي اللون، وسبق لها أن جهزته في أيام الخطوبة، وقد حاكت فيه كل أحلامها. تخيلتهما، رجل مهني، وامرأة ممتلئة، يستلقيان الواحد بجانب الآخر، وكيس الغطاء المربع يعلو وينخفض مع أنفاسهما. وتذكرت كيف تتمسك به حين كان زوجها يمارس معها الحب بتهور ودون عاطفة. مع تقدم الوقت أصبح ألطف معها، الزوج الذي تمنته من بين الجميع، والذي لم يلمس الكحول بعد أن بلغ الخامسة والخمسين، والذي كانت تتقرب منه بتقديم الشاي في كل ساعة من ساعات النهار والليل. ربما لم تكن سمانثا جاهزة للنوم، ولكنها تشذب حاجبيها أو تمشط شعرها الطويل المنسدل، تمشطه ببطء ولعلها تفحص نفسها بمرآة الخزانة، وتمتدح قامتها الممتلئة والناعمة والصلبة، الملتفة بعباءة نومها. بعد أن ذهبوا إلى العشاء، تأملت الغرف. لم تفتح الحقائب، وهذه أخلاق شرف، ولكنها توقفت عند بعض المقتنيات - عقد لؤلؤ المرأة، ومكياجها، وشبكة شعرها البنية الداكنة المرمية بجانب غلايين زوجها، وهي غلايين من خشب بألوان متعددة، وكيس تبغ مفروم مطوي. أما نقودهم الإنكليزية فقد كانت مكومة بكومتين أنيقتين صغيرتين، نقوده ونقودها، كما رأت ديليا.  وعلى طاولة زينة البنت، وجدت فقط فرشاة، وسدادات قطنية، وزجاجة من زيوت الأطفال. أما البيجاما الزهرية الليلية فقد كانت ملقاة على وسادتها وبدت حية، كما لو أن في داخلها دمية.

لم يواتيها النوم.

نهضت، وهي تنوي أن تذهب وتلقي نظرة على الكوب الرقيق، ولكن منعها شيء ما حالما بلغت الباب. خجلت من أن يسمعوا صوت حركاتها، وكأن البيت هو بيتهم. وتكون لديها تحفظ غريب تجاههم، فقد كانوا ودودين جدا فيما بينهم، ويخلفون حولهم صدى يريحها، نعم، وهذه هبة كانت تأنس لها. ذرعت غرفتها بالخطوات. ولم يكن بمقدورها الخروج إلى البهو لتمشي، كعادتها، شووضعت يدها على تمثال العذراء المصنوع من الجص البارد، للتبارك بها. ثم بالضبط بعد نصف ساعة من اعتزالهم في غرفتهم، حصل ذلك. سمعت صرير باب، ثم صوت فتح باب غرفة البنت ببطء، وتوقعت أنها تلبي حاجتها إلى الحمام ولكن لاحقا سمعت صوتها وهي تتوجه إلى غرفة والديها على رؤوس أصابعها. ثم صوت نقرة، تبعها سلسلة نقرات، خفيفة وعابثة، وليس نقرة مريض أو صغير متوعك، ولا نقرة صغير خائف من عتمة الليل، أو مضطرب من نواح غراب على المدخنة، ليس أي شيء من ذلك، ثم بغضون ثوان معدودات، توترت ديليا. أصبح جسمها كله عرضة للنفور. سمعت صوت البنت تدخل غرفتهما، فغادرت السرير، ووضعت يدها على قبضة الباب، وفتحته بحذر شديد، وهي تسير على خشب الأرض حافية القدمين، وتوجهت نحوهم، دون أن تعلم ما يتعين عليها أن تفعله. كان كل البيت يصيخ السمع. كانوا لا يتكلمون، ولكن شيئا مقيتا كان يتنفس هناك، همسات وثرثرة وضحكات. لم يمكنها أن ترى، ولكن يبدو أن عينيها تخترقان لوح الباب كما لو أنه شفاف، وتخيلتهم، أيديهم، أفواههم، أطرافهم، متشابكة والواحد منها يفتش عن الآخر. لم يجرؤ أحدهم على إشعال النور. وربما كانت البنت عارية ومسترخية، ليتمكنا من العبث بها، الرجل يجرها بطريقته، والمرأة بطريقتها، وقبل مرور وقت طويل أدركت أن الموقف يقترب من شر النشوة. وكانت تريد أن تدخل وتقبض عليهم - الرجل، سيد حريمه، وهو يستلقي على البنت والتي لم تكن ابنته، والمرأة تساعده، لأن تلك هي أفضل طريقة للتمسك بزوجها. هذه ليست ابنتهما. وربما هي بغي تذهب مع من يقدم لها توصيلة، أو ربما نشروا إعلانا، وتقبلت جريدتهما المحلية كلمات الإعلان دون حياء. جريدة في وسط إنكلترا، المكان الذي أتوا منه، أو الذي ادعوا أنهم جاؤوا منه. كان في تلك الغرفة عصا، ملقاة بجانب وعاء الفحم، وتركته هناك منذ آخر إقامة فيها قبل ثلاثين عاما. أرادت أن تحمله، وتكسره على أجسادهم العارية والعابثة. ولكن لا يمكنها أن تعرف المانع. فقد قررت أنه عليها أن تدخل ولكنها تخاذلت.  ثم سمعت أصوات التعجب. وكانت أصوات الثلاثة مختلفة جدا - صوت المرأة مرتفع ومستمتع، والفتاة يائس، وكأنها تبكي تقريبا، والرجل، مثل أحمق في الغابة مع حبيبته. أسرعن إلى غرفتها وجلست على طرف سريرها، وهي ترتعش. تحسست علبة مستديرة صغيرة كانت في درج بقرب السرير، وبحثت عن حبات منومة لونها فيروزي، يشبه ماء البحر في بطاقة بريدية أرسلتها لها أصغر بناتها من الريفيرا. وبسبب التقتير قسمتها نصفين، كانت تقسم الحبات لنصفين دائما. كان طعم المسحوق مرا على لسانها، وساما، ولم يكن لديها كوب ماء تغسل مرارته من فمها. جاء النوم ومعه كتلة من الأحلام. ورأت نفسها مع مجموعة من النساء الجاهزات للتصوير بكاميرا رجلين، منافسات حقيقيات متجمعات، والكوع يشبك الكوع ولكن دون أن يحجبنها. وطلب منهن التخلص من ثيابهن من أجل صورة حقيقية، لكنها لم تمتثل، ولم تكن مستعدة للتنفيذ. وبعناد رفضت التخلي عن قميصها، وكان من كتان غير مبيض وخشن. أما المرأة المجاورة لها، وتعرفت فيها على إيللي، الخياطة المحلية، فقد تعرت، وتجولت في الأرجاء مثل غانية. ثم تبدل الحلم. كانت وحدها في كنيسة واسعة وملكية ولكن مقدسة. وفيها تعرى جميع المقدسين، جوزيف وجودي وأنتوني وتيريزا الوردة الصغيرة، وتخلوا عن أثوابهم الكهنوتية، وإن لم يكن ذلك كهنوتيا تماما، أنشد القس بلغة مكشوفة، كما لو أنه في حديقة لشرب الجعة. ثم بدأ صبي مذبح صغير بثوب كاردينالي أحمر يلهو في الأرجاء وسمح لنفسه بشرب النبيذ من الكأس المقدسة. وتابعت الاعتقاد أنها لا تحلم، ولكنها كانت كذلك. وحينما أفاقت فجأة تذكرت فورا النزلاء، وضجيجهم، والشرور المرتكبة. وكيف عليها أن تقلي شرائح بايكون وبيضا، ونقانق، من أجل إفطار متواضع. ارتدت ثيابها، وعبثت بجواربها، فقد تعذر عليها ارتداؤها كما يجب، وردت شعرها إلى الخلف كثيرا بأمشاط صغيرة. كان فطورهم على الطاولة جاهزا حينما استيقظوا - المقلي، وإبريق شاي، وركوة ماء ساخن، وركوة قهوة سريعة التحضير. وأضافت أيضا طبقا صغيرا من برتقال الماندارين. وبقي أن يباشروا الطعام. وبوجود النزلاء غالبا - تفضل الانتظار في غرفة للإفطار وهي تفكر بالأماكن النائية - شعاب المرجان، أو المناخات المتعاكسة في أرجاء متفرقة من أستراليا، أو الجبل المسطح في كيب تاون، حيث يبدو أن التكاثف يكون طبقة من السحب تشبه غطاء الطاولة وتخيم على القمة المسطحة. ولكنها لا تتكلم مع حلقة النزلاء، ولا تمد رأسها من الباب لتسأل إن كانوا يرغبون بالمزيد من الخبز المحمص أو القهوة.

وهم يغادرون كانت تعتقد أنها انتقمت لنفسها. ها هم هنا، حلقة عائلية غير ضارة. معهم حقائبهم، حقيبة الزوجة من خيوط سود، والبنت مع حمالات زرق على الظهر، والزوج بحزام جلدي بني اللون. وكما قالت هي تتقاضى منهم أجر غرفة واحدة فقط، لأنه، كما تعتقد، لم يشغلوا غير حجرة واحدة. ولاحظت انهم فهموا كلامها، ولكن اختاروا بحماقة أن لا يفعلوا ذلك. ومد الزوج يده بورقة خمس جنيهات، ورقة صغيرة، مع قطع نقدية فضية لتغطية تكاليف الغرفتين. وأصرت أن يستعيد بعض نقوده، لكنه رفض، وكذلك زوجته. وأصبح الموقف محرجا. أظهر الزوج امتعاضه وأبرز أسنانه العلوية وانتقدت الزوجة قلة عدد المناشف في الحمام، وكذلك بالنسبة لسلسلة مياه الحمام القديمة غير المناسبة، والتي تعود إلى أيام سفينة نوح. وقطبت الابنة وجهها وهي تمتص قطعا هلالية الشكل من برتقال الماندارين. وفي النهاية ألقى الزوج ثلاثة جنيهات ورقية ثم قطع المعدن في جيب مريولها، وقررت أن لا تبالغ، فألقت النقود على طول الممشى المغطى بحجارة رقيقة. والتمعت القطع المعدنية في ضوء شمس الصباح الساطعة. أصبحوا في الجانب الآخر من البوابة، أودع الأبوان الأمتعة في صندوق السيارة، وعادت البنت مسرعة لتلتقط النقود، ثم مدت لسانها بحركة تدل على الجرأة والتحدي.

وراقبتهم حتى اختفت السيارة عن مرمى البصر. ثم ارتمت على العشب وبدأت تبكي. بكت من أعماق كينونتها البائسة. لماذا أبكي؟. سألت نفسها بصوت مسموع: "لماذا أنا أبكي؟". هي لم تتعالى عليهم ولم تخذلهم في تلك الليلة. الأمر له علاقة بذاتها. كان قلبها مسدودا منذ زمن بعيد، ونسيت الأشياء الصغيرة، والمتع القليلة، فالحياة أخذ وعطاء. حتى أنها نسيت خطاياها.

كان العشب طريا وليس جافا جدا، وقد أصبح غزيرا بفضل المطر وساعات الصحو المشمسة.

***

...........................

* إدنا اوبراين Edna O'Brien روائية إيرلندية. من أهم أعمالها "إيرلندا الأم"، "أرض كافرة"، "البنت الوحيدة" "بايرون عاشقا"، "ضوء المساء" وغيرها . والقصة مترجمة من مجموعة قصص بعنوان "مقدسون وخطاة".

قصة: ساياكا موراتا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

خرج زوجي من غرفة النوم، أيقظه صوت صفير مع انتهاء دورة الغسالة.

- صباح.. آسف لقد أفرطت في النوم. هل أتولى المهمة؟

كانت مهمة غسيل الملابس في عطلة نهاية الأسبوع هي وظيفته، ولكن بما أنه كان عليه أن يعمل لوقت متأخر في البنك ويعود إلى المنزل في آخر قطار، فقد قررت أن أقوم بذلك في ذلك اليوم. قلت:

- لا تقلق بشأن ذلك. أوه، لقد غسلت قميصك الأخضر. آمل ألا تمانع.

- مُطْلَقاً. شكرًا.

بينما كنت أعلق الغسيل على الشرفة، استخدم الحمام وارتدى ملابسه. ثم وضع الخبز في محمصة الخبز، ومسح الطاولة، وجلس لتناول الإفطار.

الحياة مع زوجي تشبه العيش مع بومة نظيفة وذكية للغاية. من الجيد أن يكون لديك حيوان مرتب في جميع أنحاء المنزل. لقد تزوجنا منذ ثلاث سنوات ولم يتغير ذلك. أخبرتني إحدى صديقاتي التي تزوجت عن حب في نفس الوقت تقريبًا أنها اكتسبت كراهية عميقة لزوجها، لكن هذا ليس هو الحال معي على الإطلاق. يتمتع زوجي بآداب المائدة المنظمة، ولا يُترك المرحاض والحمام أبدًا وهناك أثر من سوائل الجسم وإفرازاته. أتساءل أحيانًا عما إذا كان ينبغي لنا أن نكلفه بمهمة التنظيف عندما نقوم بتقسيم الأعمال المنزلية.

وبعد أن انتهيت من الغسيل، ذكرت له ذلك فضحك.

- إذن أنت تقولين أنني مثل مكنسة الرومبا؟

في الواقع، لم يكن ذلك بعيدًا عن الواقع.

قال:

- من ناحية أخرى، أنت يا ميزوكي أشبه بالأرنب أو السنجاب. هادئ، حساس للضوضاء، ولا تقفزين عليّ أو تفقدين أعصابك أبدًا.

- ألا تفقد السناجب أعصابها أبدًا؟

- أنا لا أعتقد ذلك. أنت وأنا، كلانا حيوانات نظيفة ولا نعترض طريق بعضنا البعض. وهو أمر جيد، أليس كذلك؟

لا أظن ذلك. أنت وأنا، نحن حيوانات نظيفة ولا نتعارض مع بعضنا البعض. وهذا شيء جيد، أليس كذلك؟

بالفعل. بالطبع هناك بعض الأشياء التي تزعجني فيه، مثل وضعه للفة ورق التواليت الجديدة قبل أن تنفد القديمة، أو ترتيب الأطباق المتسخة حسب الشكل بدلاً من مقدار الدهون عليها، كما أحبها أنا. لكن هذه الأشياء لا تزعجني، وربما يعود ذلك إلى المسافة الحكيمة بيننا.

التقينا عبر موقع للتعارف. أثناء تصفحي للإعلانات المختلفة من الرجال الذين يصفون "الزواج المثالي" - "أريد أن أربي أسرة محبة" أو "أريد أن أنجب الكثير من الأطفال" - صادفت إعلانًا يقول: "أبحث عن زواج نظيف." عندما نظرت إلى ملف هذا الرجل، كان هذا ما كتبه: "أبحث عن روتين يومي ودي مع شخص أرتاح معه، مثل الأخ والأخت، دون أن أكون عبدًا للجنس."

كنت فضولية. تبادلنا الرسائل، وفي النهاية قررنا اللقاء. كانت نظارته ذات الإطار الفضي تجعله يبدو متوترًا، وتساءلت إذا كان "الزواج النظيف" يعني في الحقيقة "الهوس بالنظافة". لكن عندما بدأنا الحديث، اكتشفت أن "النظافة" كانت على مستوى آخر تمامًا.

قال:

أريد أن تكون حياتي العائلية مكانًا هادئًا، مثل قضاء الوقت مع زميلة في الغرفة تتفق معها جيدًا أو مع أختك الصغرى المفضلة أثناء غياب الوالدين.

قلت:

- أفهم. أستطيع أن أتعاطف مع ذلك.

قال:

- الحقيقة هي أنني أشعر بعدم الارتياح تجاه فكرة الأسرة كامتداد للارتباط الرومانسي. الأسرة يجب أن لا يكون لها علاقة بمشاعر الحب بين الرجل والمرأة - يجب أن تكون مجرد شراكة بسيطة.

قلت:

- أوافق. لقد عشت مع عدة رجال، لكن دائمًا ما يكون هناك لحظة تتفكك فيها العلاقة. نحن من المفترض أن نكون عائلة، لكنهم يتوقعون مني أن أكون امرأة وصديقة متفهمة في نفس الوقت، وهذا تناقض، أليس كذلك؟ من المفترض أن أكون زوجة وصديقة وأم... أفضل كثيرًا أن أعيش كأخ وأخت .

قال:

- هذا بالضبط ما أعنيه. لكن لا أحد يفهم - حتى ذلك الموقع. لديهم هذه الأسئلة عن دخل الرجل وما تحب المرأة أن تطبخ... لكن هذا ليس ما تعنيه الأسرة بالنسبة لي. أريد شريكًا، وليس كل تلك الأشياء المتعلقة بالرجل والمرأة."

لقد أصبح غاضبًا للغاية من تلك الانفجارات التي خرجت منه، فاستخرج منديلًا مخططًا باللون الأزرق ليمسح جبينه. ثم ابتلع كوبًا من الماء وتنهّد. قال:

- أنا سعيد لأنك تفهمين شعوري. لكن قد يكون هذا مثاليًا قليلاً...

- على الإطلاق. لن نعرف أبدًا إلا إذا جربنا

ابتلع ريقه، وهو يدفع نظارته إلى الأعلى.

- ماذا؟

نظرت إليه مباشرة في عينيه وقلت:

- ماذا عن ذلك؟ هل ستدخل في زواج خالي من الجنس معي؟

- ألم يحن الوقت لنذهب إلى العيادة؟

سأل زوجي وهو يرفع عينيه عن الجريدة التي كان يقرأها بينما يأكل توستًا.

- آه، العيادة..

- أنتِ في الثالثة والثلاثين، ميزوكي. لقد حان الوقت لتخصيب بويضة .

- هذا صحيح .

أومأت برأسي وأنا أحدق في شريحة الليمون التي كانت تطفو في كوب الشاي. لقد كنت أفكر في نفس الشيء تقريبًا.

-الآن بعد أن استقر الوضع في العمل، أعتقد أن الوقت مناسب .

-هل أرتب لكِ موعدًا للأسبوع المقبل؟

- انتظر لحظة. مازلت أتناول الحبوب. حتى لو توقفت عن تناولها غدًا، سيحتاج جسمي لبعض الوقت للتحضير للتبويض.

قال وقد بدا عليه إحساس غير مألوف بالخجل.

- أفهم، نعم، أعتقد أن الأسبوع المقبل سيكون مبكرًا . لكن بعد ذلك، أعتقد أنهم لا يقومون بالتخصيب في الزيارة الأولى. من المحتمل أن تحتاجين إلى بعض الفحوصات أيضًا، فما رأيك في موعد بعد أن تحصلي على دورة شهرية؟

- حسنًا !

عادةً ما كنت أواجه نزيفًا انسحابيًا بعد يومين من توقف تناول الحبوب. كان أخف بكثير من الدورة العادية، وكان ينتهي في غضون يومين أو ثلاثة. شرحت ذلك لزوجي، وقررنا تحديد موعد يوم سبت بعد أسبوعين.

كان الزواج الذي يفتقر إلى الجنس أكثر راحة مما كنت أتخيل. كنت أتقاضى راتبًا قدره 4 ملايين ين، وكان زوجي يتقاضى 5 ملايين. كنا نودع 150,000 ين في حساب المنزل كل شهر، والبقية كانت تحتفظ بها كل منا في حساباته البنكية الخاصة. كان هذا المبلغ الذي يعادل 300,000 ين يغطي مصاريف حياتنا اليومية، بينما كان الباقي يذهب إلى التوفير. قررنا ألا نمتلك منزلًا أو أي ممتلكات مشتركة.

نظرًا لأننا نساهم بالتساوي في الشؤون المالية، قررنا أيضًا تقسيم العمل المنزلي. وعلى عكس المال، لا يمكن تقسيم الأعمال المنزلية بالتساوي تمامًا، ولكن بما أن زوجي كان جيدًا في الطبخ، كان يتولى ذلك بينما كنت أنا مسؤولة عن الغسيل والتنظيف. في معظم أيام الأسبوع، كنا نعمل حتى وقت متأخر، لذلك كان كل منا يتولى وجباته المسائية الخاصة. هذا يعني أنني كنت أتحمل العبء الأكبر، ولتعويض ذلك اتفقنا على أن يتولى هو الغسيل في عطلات نهاية الأسبوع.

كان هذا بسيطًا. لكن الأمور الجنسية كانت أكثر تعقيدًا.

كان زوجي يريد حظر جميع الأنشطة الجنسية في منزلنا. وكان هذا مقبولًا بالنسبة لي. قال:

- من وجهة نظري، الجنس هو فعل تمارسه بمفردك في غرفتك الخاصة، أو تتعامل معه في الخارج. في بعض المنازل يعود الشريكان من العمل مرهقين ويمارسان الجنس معًا، لكنني أكره هذا تمامًا.

قلت:

- أنا أيضًا، الجنس جيد في المراحل الأولى من علاقة الحب، لكن مع مرور الوقت وعندما يعيش الشريكان معًا، يصبح الأمر مروعًا عندما يلمسك شريكك أثناء نومك، أو عندما يقتحمك فجأة أثناء استرخائك. أريد أن أكون قادرة على التحكم في رغباتي الجنسية وقتما أشاء، وأن أبقي المفتاح مغلقًا في المنزل.

- هذا بالضبط ما أفكر فيه. أنا مرتاح لمعرفة أنني لست الوحيد الذي يُعتبر غير طبيعي .

ومنذ البداية كان زواجنا خاليًا تمامًا من الجنس، لكن بطريقه غير مريحة كنا نريد الأطفال.

قبل زواجنا، بحثنا في الإنترنت واكتشفنا عيادة متخصصة في احتياجات الأقليات الجنسية: مثل المثليين الذين يريدون أطفالًا، أوالأفراد الذين يفتقرون إلى الرغبة الجنسية ولكنهم يسعون للإنجاب، أوالأشخاص الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف التخصيب الصناعي أو العثور على طبيب يتعاطف مع وضعهم.

قالت المرأة عبر الهاتف:

- إذا قررتما أنكما تريدان الأطفال، يرجى الحضور إلينا. سنكون سعداء للعمل معكم.

- لكننا زوجان لا يملكان رغبة جنسية.

- لا مشكلة. نعامل العديد من هؤلاء الأشخاص هنا. لدينا أزواج يأتون إلينا من جميع أنواع الظروف والتفضيلات غير المعتادة. خدمتنا تقدم الجنس كعلاج طبي لأولئك الذين مثلهم .

لم نكن نعرف ما المقصود بـ "الجنس كعلاج طبي"، لكننا شعرنا بالاطمئنان أن هناك خيارات مفتوحة أمامنا.

بعد أن انتهى زوجي من تناوله للتوست، بدأ في لعب لعبة فيديو. تابعت تقدمه بينما كنت أدير رقم العيادة لترتيب موعد للاستشارة. كانت العيادة في مبنى أبيض أنيق في منطقة أوياما الراقية.

كان المكان يفيض بالثراء. كانت غرفة الانتظار مفروشة بكراسي فاخرة من البيج الفاتح، مع موسيقى هادئة في الخلفية. بالإضافة إلينا، كانت هناك امرأة جالسة بمفردها، وبعد قليل حصلت على بعض الأدوية من موظفة الاستقبال وغادرت.

- السيد والسيدة تاكاهاشي، تفضلا بالدخول.

أعلن موظف الاستقبال، فدخلنا لنلتقي بطبيبة ذات شعر قصير.

- لقد حجزتما موعدًا مع المنجب النظيف، أليس كذلك؟

- عذرًا؟

- المنجب النظيف. كما يوحي الاسم، هو وسيلة لتسهيل التكاثر بأكثر الطرق نقاءً. هدف الجنس كعلاج طبي ليس توفير المتعة.

- فهمت.

ألقت الطبيب نظرة على استبياننا الطبي وأومأت عدة مرات. "نعم، نعم. أفهم. 'تكرار العلاقة الجنسية منذ الزواج: صفر.' 'السبب في الاهتمام بالمنجب النظيف: "نريد طفلًا ".

- إذًا هذا هو الهدف من زيارتكم اليوم، أليس كذلك؟"

قال زوجي:

- حسنًا، لم نقرر بعد... أعني، نحن لا نعرف ما هو المنجب النظيف، أو ما يتضمنه، لذا نود منك شرحه لنا، من فضلك.

أومأت الطبيبة برأسها وهي تبدل وضع ساقيها:

- حسنًا، إذا نظرتما إلى صفحتنا الرئيسية، ستجدان أن التفاصيل مغطاة هناك بشكل جيد، لكن سأشرحها لكم مرة أخرى.

- في الوقت الحاضر، يعاني عدد متزايد من الناس من مشاكل نفسية تمنعهم من ممارسة الجنس مع شركائهم. الشخص الذي يتناسب مع ميولك الجنسية ليس دائمًا أفضل شريك لتكوين أسرة، وغالبًا ما يكون العكس هو الصحيح. ليس الجميع يشعرون بالإثارة الجنسية تجاه الشخص الذي تكون الظروف المعتادة مناسبة معهم لتكوين أسرة. أولًا، التفكير التقليدي القائل بأن الزوجين يجب أن يمارسا الجنس من أجل الحمل أصبح أمرا عفا عليه الزمن. هذا غير متماش مع العصر. الجنس من أجل المتعة والجنس من أجل الحمل هما قضيتان مختلفتان تمامًا، ومن غير المنطقي أن نخلط بينهما. إنه لا يتماشى مع طريقة حياة الناس في هذه الأيام.

ثم أعطت كل منا منشورًا بعنوان "المنجب النظيف وصورة الأسرة الجديدة".

وأضافت:

- لقد أصبحت الميول الجنسية أكثر تنوعًا. هل يمكن لرجل يشعر بالانجذاب نحو الفتيات الصغيرات أن يشعر بالإثارة مع زوجته البالغة من العمر خمس وثلاثين عامًا؟ هل يمكن لامرأة لا تشعر بالإثارة إلا تجاه الرجال ثنائيي الأبعاد ممارسة الجنس مع رجل ثلاثي الأبعاد حي دون ألم؟ في هذه الأيام، شريكك ليس بالضرورة موضوعًا جنسيًا – وهذه تقدم رائع. هذا يعني أنه يمكنك اختيار تكوين أسرة بطرق عقلانية، بالتفكير بعقلك، وليس بغرائزك. الأزواج الذين يأتون إلينا يمكنهم الاستفادة من خبرائنا وترك جيناتهم الممتازة للأجيال القادمة من خلال المنجب النظيف، مُسهّل التكاثر النقي لدينا..."

بينما استمرت الطبيبة في حديثها، قلبت المنشور بين يدي. كان يحتوي على العديد من العبارات مثل "الأزواج لزمن جديد" و"تجربة أنيقة وغير جنسية مع تقنيتنا المتطورة".

قالت الطبيبة:

- وفقًا للاستبيان هنا، قررتما الحفاظ على العلاقة الجنسية والزواج منفصلين حتى قبل عقد القران. هذا رائع. هذا بالضبط ما نعنيه بزواج متطور.

أجبت بتواضع:

- أوه، ليس مميزًا جدًا.

شعرت بعدم الارتياح تجاه نساء مثلها، وفكرت في نفسي، ثم ألقيت نظرة على زوجي. بدا عليه الملل وكان يركز على القلم الجاف الذي كانت تديره الطبيبة بين أصابعها.

قالت الطبيبة مبتسمة:

- علاج المنجب النظيف المتطور لدينا هو الأنسب لأمثالكم. لكنه غير مغطى بالتأمين الوطني، والرسوم هي 9500 ين لكل علاج. الآن، سنطلب منكِ تتبع درجة حرارة جسمك الأساسية، وسنقوم بالعلاج أثناء الإباضة. إذا فشلتِ في الحمل بعد عدة محاولات، نوصي بإجراء استشارة لعلاج العقم. ما زلتما في سن صغير، وأنا متأكدة أنه إذا واصلتما استخدام المنجب النظيف، يمكنكما توقع الحمل دون الحاجة لعلاج العقم. لكن إذا أردتما، يمكنكما إجراء اختبار خصوبة قبل البدء."

قال زوجي وهو يهمس:

-هذا غالي جدًا!

ابتسمت الطبيبة له وقالت:

- نحن نستخدم علاجًا متطورًا جدًا، يا سيد تاكاهاشي. حتى في اليابان، قلة من المستشفيات تقدم هذا العلاج، ومن الصعب علينا مواكبة الطلب. فقط أمس أخبرني زوجان جاءا من توتوري كم كانا معجبين به. متى ترغبان في تحديد موعدكما الأول؟ يمكنكما تجربته الآن إذا أردتما – في هذه الحالة، يمكنكما اختيار الموسيقى التي ترغبان في سماعها أثناء العلاج. الممارسة المعتادة هي تحديد موعد عندما تشير درجة حرارتكما إلى الإباضة، لكن الحمل ممكن أيضًا في أيام أخرى...

قاطعتها قائلة:

- نحن هنا فقط للاستشارة اليوم.

ثم نظرت إلى زوجي وأضفت:

- سأتحدث معه

أومأت الطبيبة برأسها مبتسمة وقالت:

- بالطبع، خذا وقتكما في مناقشة الأمر. لكن يجب أن تأخذا في اعتباركما أن علاج المنجب النظيف شائع للغاية وقد لا تجدان موعدًا في يوم الإباضة. الأمور هادئة نسبيًا الآن، لذلك أنصحكما باتخاذ قراركما في أقرب وقت ممكن.

أجبت:

- فهمت. سنتحدث معا ونعاود الاتصال.

نهض زوجي من مكانه، وعلامات الامتعاض بادية على وجهه. تبعته بسرعة إلى خارج غرفة الاستشارة.

لم نكن على دراية بمنطقة آوياما، لذلك بعد مغادرتنا العيادة مشينا باتجاه أوموتيساندو ودخلنا أول مقهى صادفناه.

سألت زوجي بينما كان يحتسي قهوته بالحليب:

- ماذا تريد أن نفعل؟

أجاب وهو يعبس:

- هناك شيء مريب في الموضوع، أليس كذلك؟ علاج المنجب النظيف... لا يمكن أن يكون التلقيح الصناعي، وهذا يعني أننا سنقوم به بأنفسنا؟

تنهدت وأجبت وأنا أمسد فنجاني بإصبعي:

- أظن ذلك. إذًا، ماذا سنفعل؟

سألني مستغربًا:

- ماذا تقصدين؟

أجبت بصوت منخفض:

- طفلنا... هل نفعله بأنفسنا؟ نحن الاثنان، في المنزل؟

وبمجرد أن انتهيت من كلامي، شعرت بموجة من القرف تغمرني. دون أن أرفع رأسي، استندت إلى الوراء في مقعدي لأضع مسافة أكبر بيننا.

قال وهو يتردد:

- أنا... أم... لا أ...

على ما يبدو، شعر زوجي بنفس الشعور، وعندما نظرت إلى الأسفل، لاحظت أنه سحب قدميه بسرعة تحت الطاولة بعيدًا عن الأنظار.

مطمئنة لهذا التفاعل المشترك، رفعت نظري ورأيته يعبس.

قال بعد لحظة من الصمت:

- التلقيح الصناعي سيكون أصعب، لكن ربما يجب أن نجربه. الأزواج عديمو الجنس يستخدمونه، لذلك لا بد أن هناك أطباء متفهمين. وإذا كنا نتحدث عن 9500 ين على أية حال، يجب أن نفكر في هذا الخيار.

- أعتقد ذلك.

شعر بالارتياح، وأخيرًا رفع عينيه عن قهوته ونظر من النافذة. كانت هناك امرأة تسير مع كلبها، وموظفون مرهقون يتفقدون ساعاتهم، وشباب منشغلون بهواتفهم المحمولة. تساءلت بلا مبالاة: كم منهم، يا ترى، كان نتيجة حيوانات منوية قُذفت أثناء علاقة جنسية بين أشخاص يحبون بعضهم البعض؟ هل تم الحمل بشكل عفوي، دون أي تفكير في أيام الإباضة؟ أم من خلال التلقيح الصناعي؟ أو ربما حتى نتيجة اغتصاب؟ بغض النظر عن ظروف الحمل، فقد وصلت الحيوانات المنوية إلى البويضة، ونمت البويضة المخصبة لتتخذ شكل إنسان.

نظرت مجددًا تحت الطاولة. لم تكن قدما زوجي ظاهرتين بعد.

كنت في غرفة السيدات في العمل، أفرّش أسناني بعد الغداء، عندما رنّ هاتفي المحمول.

كانت المكالمة من رقم غريب لا أعرفه. ترددت للحظة، ثم أجبت:

- هل أنتِ ميزوكي تاكاهاشي؟

كان ذلك صوت امرأة.

قالت:

- أنا صديقة نوبوهيرو.

فأجبتُ بسذاجة:

- آه، أنتِ عشيقته، أليس كذلك؟

أبعدتُ أنا وزوجي الجنس عن زواجنا، لكن ذلك لم يمنعنا من الشعور بالرغبة الجنسية. منحنا أنفسنا الحرية للاستمتاع بالجنس خارج العلاقة الزوجية. كنا أشبه بأخ وأخت مراهقين، لكل منا شركاء جنسيون سريون، بينما نتظاهر بأننا لا نفهم حتى معنى الكلمة. ربما رأى الآخرون في علاقاتنا خيانة، لكنها بالنسبة لنا بدت أمرًا طبيعيًا تمامًا. حتى قبل شهرين، كنتُ أملك عشيقًا، شخصًا تعرفت عليه عبر فيسبوك، لكن علاقتنا أصابها الملل فانفصلنا.

استغلَّ زوجي فكرة إنجاب طفل لإنهاء علاقته مع تلك المرأة. في البداية، ظننتُ أنه يتعامل مع الأمر بجدية مفرطة، خاصة وأنني مجرد صاحبة البويضة التي ستُخصب، بينما كان بإمكانه نشر بذوره كما يشاء. لكن عندما سمعتُ المرأة تصرخ في الهاتف بهستيرية، أدركتُ أنه ربما كان يستخدمني كذريعة للابتعاد عنها.

صرخت المرأة قائلة:

- هل ستقاضيني؟ افعلي ذلك! ستكونين أنت موضع السخرية، وليس أنا.

- لا، لن أقاضيكِ. ولن أتركه أيضًا. اسمعي، ألا يمكنكِ التحدث معه مباشرة؟ لا شأن لي بعلاقتكما.

كلما تحدثتُ بنبرة لا مبالية، زادت من غضبها. صرخت:

- أنتِ لا تمارسين الجنس معه، صحيح؟ أي نوع من النساء أنتِ؟ أنا من أشبعه جنسيا، ونحن نحب بعضنا البعض.

قلتُ بهدوء:

- بالطبع تحبان بعضكما البعض، فأنتِ عشيقته. نحن عائلة، لذلك لا نمارس الجنس. انظري، انتهت استراحة الغداء، لا أستطيع التحدث الآن.

ردّت بغضب:

- هذا لأنكِ لا تستطيعين منحه نوع الجنس الذي يريده. هو لا يستطيع الانتصاب معكِ!

أجبتُ ببرود:

- بالضبط. لهذا نحن عائلة.

ثم أغلقت الهاتف وحظرتُ رقمها.

عندما خرج زوجي من الحمام، وجدني جالسة على الأريكة والهاتف في يدي. سأل:

- ميزوكي، ما الأمر؟ أنتِ دائمًا تراقبين هاتفك مؤخرًا.

رددتُ:

- ممم، أتلقى الكثير من الرسائل غير المرغوب فيها. ربما عليّ تغيير بريدي الإلكتروني.

قال بابتسامة:

- يمكنك ضبط الإعدادات لتجنب ذلك. أنتِ حقًا لا حول لك ولا قوة فيما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا.

كانت الرسائل الإلكترونية تأتي من عشيقته. يبدو أنها وجدت عنوان بريدي الإلكتروني في هاتفه وبدأت بإرسال رسائل يومية. في البداية فكرتُ في حظر بريدها الإلكتروني أيضًا، لكنني وجدت نفسي منجذبة بشكل غريب.

كانت ترسل صورًا لهما أثناء ممارستهما الجنس. شعرتُ وكأنني دخلتُ بالخطأ على أخي الصغير وهو يمارس العادة السرية. الصور كانت محرجة جدًا ومباشرة. بدا أن زوجي لديه شغف بـ"لعب الأدوار العمرية" – يتصرف كطفل رضيع، يرضع من صدرها أو يتم تغيير حفاضه. وكانت الإثارة واضحة جدًا حتى أن انتصابه بدا جليًا تحت الحفاض. كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها شيئًا بهذا الوضوح من قضيبه.

أرفقت الصور برسائل مثل "أنا وحدي أستطيع أن أكون أمه"، أو "هو يلامس فتحة شرجي ويتوسل لي أن أفعل الشيء نفسه له"، أو "أنتِ خاسرة تمامًا كزوجة" – وكل ذلك جعلني أفكر بأنها ربما فقدت عقلها بسبب الشهوة والحب.

كانت صور زوجي وهو على يديه وركبتيه، وفي فمه مصاصة ويرتدي مريلة للترويل، مثيرة للفضول. لكنني كنت ممتنة بشدة لأنني لست شريكته الجنسية.

قلت بتردد:

- أمم...

كان زوجي يجفف شعره بمنشفة بينما يشاهد التلفاز، لكنه التفت إليّ وسأل:

- أمم ماذا؟

- كنت أفكر في الأمر. هل نحاول؟

- نحاول ماذا؟

- تلك العيادة. في النهاية، التلقيح الصناعي سيكون على الأرجح أكثر تكلفة، ولن يكون من السهل العثور على طبيب يفهم وضعنا. مع العيادة، على الأقل، لن نضطر للقلق بشأن ذلك، ولن ندفع تكلفة الفحوصات الطبية أيضًا. بالإضافة إلى أن العملية تبدو قريبة من الجنس الطبيعي، مما سيكون أقل عبئًا على جسدي.

قال بتردد:

- حقًا؟ حسنًا، لا أعرف شيئًا عن العبء الجسدي على المرأة، لذا سأصدقك في هذا.

بدا عليه بعض الانزعاج، لكنه لم يكن كارهًا للطبيبة إلى درجة رفض اقتراحي بشكل قاطع.

تابعت:

- في الواقع، منذ الاستشارة، بدأت أراقب درجة حرارتي. هل نحجز موعدًا ليوم الإباضة القادم؟ فقط لنرى كيف ستسير الأمور.

أجاب وهو يهز رأسه بانشغال:

- حسنًا. إذا تمكنت من الحصول على إجازة في ذلك اليوم، فلنذهب.

ثم عاد بتركيزه إلى التلفاز، حيث كانت المشاهد تعرض بلداً أجنبياً بعيداً مع عزف كمان في الخلفية.

لحسن الحظ، كان يوم الإباضة التالي يوم سبت. توجهنا إلى العيادة معًا.

قلت وأنا أنحني للممرضة التي خرجت لاستقبالنا:

- نود الخضوع للعلاج.

وتبعني زوجي بسرعة وهو ينحني أيضًا.

قالت الممرضة وهي تسلّمنا رداءً أبيض لكل منا:

- يرجى خلع ملابسكما وارتداء هذا. أزيلا جميع الملابس الداخلية. يمكنكما وضع الأشياء الثمينة في الخزانة. عندما تكونان مستعدين، أخبرانا.

دخلنا إلى حجرات منفصلة، وسحبنا الستائر وبدأنا بتغيير ملابسنا. كان الرداء النسائي بأكمام طويلة وتنورة طويلة، يغطي الكثير مما توقعت. في الواقع، اعتقدت أن الرداء سيعيق الحركة، لكنني لم أعلق بشيء.

سمعت الممرضة تقول:

- حسنًا، سيد تاكاهاشي، من فضلك تعال معي.

عندما فتحت الستارة، رأيت زوجي يرتدي رداءً مشابهًا لردائي. بدا غير مرتاح بالتنورة، ومن الواضح أنه كان يجد صعوبة في الاسترخاء، إذ كان يحمي أجزاءه الخاصة بيديه ونحن نتبع الممرضة إلى الغرفة.

كانت الغرفة بلا نوافذ وبيضاء تمامًا، تضم كرسيين كبيرين أبيضين يشبهان كراسي أطباء الأسنان، لكنهما أكبر، ومتقابلان. وقف بجانبهما ممرضتان ترتديان أقنعة جراحية. انتشرت في الهواء رائحة زيت اللافندر، بينما كانت الموسيقى الكلاسيكية تعزف في الخلفية.

قالت الممرضة:

- يرجى الاستلقاء على هذا الكرسي.

قادت الممرضات زوجي إلى الكرسي الأبعد، وكان ظهر الكرسي مائلًا إلى درجة أفقية تقريبًا، مما جعله يبدو وكأنه مستلقٍ على سرير.

قالت ممرضة أخرى:

- السيدة تاكاهاشي، من هنا، من فضلك.

جلست على الكرسي الأبيض المقابل لزوجي، كما أُشير لي. كان ناعمًا وأعلى قليلًا من كرسيه.

قالت الممرضة:

- ضعي ساقيكِ هنا.

كما طُلب مني، وضعت ساقي على المسندين على جانبي الكرسي، مما أجبرهما على التباعد كما لوكنت في فحص نسائي. وبفضل الرداء الطويل، لم أشعر بأي إحراج. أضافت الممرضة:

- الآن، سيقوم السيد تاكاهاشي بإنتاج السائل المنوي.

في مرحلة ما، ارتدت الممرضة التي أحضرتنا إلى الغرفة قناعًا جراحيًا أيضًا. وارتدت الممرضات الثلاث قفازات جراحية رقيقة كما لو أنهن على وشك البدء بعملية جراحية، ثم بدأن بتحريك أيديهن تحت الرداء الطويل لزوجي. بدا أنهن يلمسن عضوه بتناسق مع الموسيقى.

قالت إحداهن:

- هل هذا جيد، سيد تاكاهاشي؟ افعل ما بوسعك.

كان زوجي قد خلع نظارته وأغمض عينيه بإحكام بينما استسلم للممرضات، وجهه شاحب تمامًا. وبعد فترة، أعلنت إحدى الممرضات بجدية:

- لقد دخلت الحياة إلى جسد زوجك.

لم أستوعب ما تعنيه تمامًا إلا حين اقتربت مني الممرضة وقالت:

- والآن، سيدتي تاكاهاشي، سنقوم بتطبيق هذا.

وضعت الممرضة يدها المرتدية للقفاز تحت رداءي وصعدت بها بين ساقيّ الممدودتين، ثم وضعت نوعًا من الهلام ذي رائحة عشبية حول مهبلي. ارتجفت قليلاً من البرودة، لكنه لم يكن مختلفًا عن فحص نسائي ولم يكن مزعجًا.

قالت الممرضة:

- الآن سنستعد لربط تيار الحياة بالبويضة.

ثم أخرجت أنبوبًا فضيًا متصلًا بما بدا كأنه سلك كهربائي في أحد طرفيه.

عند نظرة سريعة، بدا أن الأنبوب يحتوي على مادة شبيهة بالهلام، فافترضت أنه يشبه جهازًا للاستخدام الذاتي. بحركات متقنة أشبه بعملية طبية، رفعت الممرضة رداء زوجي وأدخلت عضوه في الجهاز.

قالت:

- سيد تاكاهاشي، رجاءً أخبرنا عندما يبدأ تيار الحياة بالخروج. ارفع يدك! هل فهمت؟

أومأ زوجي بصمت، كان يمسك بحافة رداءه بإحكام ووجهه يزداد شحوبًا. قالت الممرضة موضحة:

- سيد تاكاهاشي، تيار حياتك يتم تسهيله باستخدام موجات كهرومغناطيسية. هل فهمت؟

مع ذلك، مما استطعت رؤيته من حركات يدها، بدا أنها هي من تقوم بالتسهيل، بتحريك الأنبوب الفضي على عضوه صعودًا وهبوطًا. ومع ذلك، بدا الجهاز مصممًا بعناية، وعند نظرة أقرب، لاحظت وجود نقش يحمل عبارة " المنجب النظيف " محفورة عليه. كانت الأسلاك المتصلة به تتمايل أثناء عمل الممرضة، التي كانت مستغرقة تمامًا في مهمتها.

تناثرت بعض المادة الهلامية الباردة في الجهاز ووقعت على ساقي.

قالت الممرضة:

- إنه أحدث نموذج، سيد تاكاهاشي. أعلم أنه بارد قليلاً، لكن أرجو أن تتحمل. نحن على وشك الانتهاء!

كان زوجي يتصبب عرقًا ويطلق بين الحين والآخر تأوهات وكأن الحيوانات المنوية تُستخرج منه بالقوة.

- سيد تاكاهاشي، ابذل قصارى جهدك!

- سيحدث الآن! تيار الحياة يتصاعد!

- سيدة تاكاهاشي، اقتربي قليلًا، رجاءً. أمسكي يده، نعم، هكذا.

بتردد، انحنيت إلى الأمام وأمسكت بيده التي مدها لي بضعف.

صرخت الممرضة وهي تستخدم الجهاز لتحفيز عضو زوجي:

- دفعة أخيرة صغيرة، سيد تاكاهاشي!"

- لقد اقتربت يا عزيزي!

أضفت صوتي إلى الهتافات، وعندها رفع يده اليسرى بتردد.

- تيار الحياة يتم قذفه!

صاحت الممرضة، وفجأة انخفض مسند ظهري بعنف وبدأ الكرسي في التحرك.

لم أعد أرى سوى السقف، ولم أتمكن من فهم ما يجري. كان كل شيء يحدث بسرعة فائقة. شعرت وكأنني معزولة عن الواقع، كأنني داخل مشهد من فيديو. أدركت أن الكرسي كان يدفعني نحو زوجي، بينما ظلت ساقاي متباعدتين. وعندما توقف الكرسي، تم إدخال شيء إلى مهبلي، وكأنه يتم توصيل شيء ما. شعرت بشكل غامض أن عضو زوجي قد دخلني، لا يزال باردًا من الهلام، لكن الإحساس كان أقرب إلى جهاز ينقل سائله المنوي.

- تمت عملية القذف!

هكذا قالت الممرضة، وانتشر دفء خفيف في أسفل بطني. بدا أن زوجي تمكن أخيرًا من القذف.

- أحسنت يا سيد تاكاهاشي!

- تهانينا، سيدة تاكاهاشي .

بدأت الممرضات يمسحن جسدينا بمنشفة دافئة ورطبة بينما كنا مستلقيين ونحدق في السقف.

قالت إحدى الممرضات وهي تقدم لي فوطة صحية:

- استخدمي هذه.

ارتديت ملابسي الداخلية ووضعت الفوطة في مكانها. كانت الممرضات الأخريات يهنئن زوجي ويمسحن العرق عن جبينه. بدا الأمر وكأنه قد أنجب طفلًا، بينما أنا قبلت نسله.

- للحفاظ على العملية، تأكدي من ارتداء فوطة صحية وتجنبي غسل المناطق الحساسة. إذا كان لا بد من التنظيف، فانتظري حتى تعودي إلى المنزل للاستحمام سريعًا. هذا كل شيء لليوم، سيدة تاكاهاشي.

هززت رأسي موافقة، بينما شعرت أن الأمر كان أقل إثارة مما توقعت. بدا أن الأمر كان أشد وطأة على زوجي، الذي كان يلهث ويبدو منهكًا بعد أن أُجبر على القذف دون أي إثارة حقيقية.

قال زوجي بغضب ونحن في طريق العودة إلى المنزل.

- تسعة آلاف وخمسمائة ين مقابل هذا! يا له من استغلال!

كتمت ضحكة خفيفة وقلت:

- لقد كان الأمر سيئًا حقًا، أليس كذلك؟ لكنني لم أضطر لفعل أي شيء جنسي... هل كان الأمر مقبولًا بالنسبة لك؟

رد، متأججًا:

- لم أشعر طوال حياتي بهذا القدر من الانتهاك! لقد عرضوا عليّ الفياغرا كان يجب أن أقبل.

واستطرد بنبرة متوترة:

- لم أستطع التمييز بين دخولك أو دخول تلك الآلة الغريبة، ولا أزال لا أعرف ما إذا كنت قد قذفت في الآلة أم فيك.

قلت بابتسامة خفيفة:

- لكن هذا جيد، أليس كذلك؟ بهذه الطريقة، حافظنا على زواجنا بلا علاقة جنسية."

- حسنًا، نعم، لكن...

توقفنا عند حديقة صغيرة.

قلت:

- هل تمانع إن ذهبت إلى الحمام؟ أريد أن أغير الفوطة الصحية.

- آه، بالطبع.

قالها وهو يهز رأسه، وألقى عليّ نظرة غريبة، وكأنه غير مرتاح لفكرة أن سائله المنوي يتسرب مني.

دخلت إلى الحمام العام في الحديقة، وأنزلت ملابسي الداخلية لأجد أن السائل المنوي لزوجي يغطي الفوطة الصحية. كان الأمر أشبه بحدوث دورة شهرية بيضاء. استبدلتها بأخرى نظيفة، وخرجت مجددًا. كان جالسًا على مقعد ينتظرني.

- آمل ألا أكون قد تأخرت.

- لا، لا. هل كل شيء على ما يرام؟"

جلست بجانبه وقلت:

- أنا بخير. أشعر ببعض التعب فقط. هل يمكننا أن نستريح قليلًا قبل العودة إلى المنزل؟

جلسنا لبعض الوقت نتأمل الحديقة التي كانت مليئة بالأطفال.

- حسنًا، ربما لم تكن تجربة سيئة إلى هذا الحد.

- ماذا؟ كنت غاضبة قبل لحظات فقط.

قال بهدوء وهو يراقب فتاة صغيرة تلعب في حفرة الرمل:

- نعم، حسنًا، من الجيد أنني لم أقم بأي شكل من أشكال الاتصال الجنسي معك. لأننا لم ندخل الجنس في علاقتنا. سألته:

- إذا تمكنا من إنجاب طفل، أيهما تفضل، ولد أم بنت؟

- بنت، على ما أعتقد سيكون الولد على ما يرام أيضًا، لكن يمكنني أن أتخيل أنني شغوف حقًا بالفتاة.

- نعم .

كانت عيناه نصف مغمضتين وهو يراقب الفتاة في حفرة الرمل تنهض وتركض بعيدًا.

صاحت الفتاة: «ماما!»، ووقفت أم شابة مبتسمة.

شاهد الأم وهي تربت على رأس ابنتها بمودة، وابتسمت الفتاة الصغيرة واحتضنت والدتها. وبينما كان ينظر إليهما، تشكلت حبات العرق على جبينه وظهرت نظرة من الذعر الخالص على وجهه.

- ماذا بك؟

لم يرد. وفجأة وضع يده على فمه وجلس في وضع القرفصاء وهو يتقيأ. لم يأكل شيئًا منذ الصباح، وكان يفرز فقط سائل المعدة. نظرت إليه وهو ينحني، محاولًا مقاومة الغثيان. خطر لي أن هذا يشبه أعراض الغثيان الصباحي.

- ماما، ماماااا!

تردد صدى صوت الفتاة الصغيرة البريء في جميع أنحاء الحديقة.

عاد الغثيان إلى زوجي، وبدأ ظهره يرتجف. مددت يدي لتهدئته. وفي تلك اللحظة بالذات، شعرت بسائله المنوي يتدفق من مهبلي.

(تمت)

***

...................

المؤلفة: ساياكا موراتا/Sayaka Murata  كاتبة يابانية. ولدت موراتا في إنزاي بمحافظة تشيبا باليابان عام 1979. عندما كانت طفلة، كانت تقرأ في كثير من الأحيان روايات الخيال العلمي والغموض المستعارة من أخيها وأمها، واشترت لها والدتها معالج النصوص بعد أن حاولت كتابة رواية بخط اليد. في الصف الرابع الابتدائي. بعد أن أكملت موراتا دراستها المتوسطة في إنزاي، انتقلت عائلتها إلى طوكيو، حيث تخرجت من مدرسة كاشيوا الثانوية (الملحقة بجامعة نيشوغاكوشا) والتحقت بجامعة تاماجاوا. فازت ساياكا موراتا بجائزة جونزو للكتاب الجدد، وجائزة ميشيما يوكيو، وجائزة نوما للوجه الأدبي الجديد، وجائزة أكوتاجاوا.

من الشعر الإريتيري المكتوب بالتيغرينية:

شعر: ريسوم هايلي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

قوس قزح، قوس قزح

أين كنت؟

أمي بحاجة إلى وشاح،

يليق ببشرتها،

سيل من الألوان،

لتسترعي انتباهها.

ثوب من النور،

عبر الفلك

مشرقا مثل وجهها

منبجسا من الشمس.

سبعة الوان مختلفة،

لتظهر به المتميزة لدي.

لون واحد لا يكفي

ولا واحد منها دون الآخر

بل كلها مجتمعة معا

ينبغي ان تكون جديرة بأمي.

قوس قزح، قوس قزح

أين أنت؟

أمي بحاجة الى وشاح

يلائم بشرتها.

***

........................

- هو الدكتور ريسوم هايلي (دكتوراه في علم البيئة الإعلامية من جامعة نيويورك): شاعر وأكاديمي أريتيري معروف عالميا (1946 – 2003). عاش (20) عاما في المنفى ابان حرب استقلال بلاده عن اثيوبيا التي استمرت (30) عاما، وعاد إلى وطنه بعد الاستقلال في عام 1994. ينتمي إلى مجموعة ال (13) التي كتبت (بيان برلين) بخصوص الديموقراطية في أريتيريا، وكان البيان موجها إلى الرئيس الاريتيري آسياس افورتي ابرهام الذي تولى منصب الرئاسة منذ عام 1993 ولم يزل. نشر ما يزيد على (2000) قصيدة، وباللغة التيغرينية، وليس بلغات استعمارية (مثل الفرنسية والإنكليزية)، كما فعل الكثير من الشعراء الأفارقة من الدول التي رزحت تحت نير الاستعمار الغربي. وهي لغة سامية أفرو - آسيوية، واسعة الأنتشار في أريتريا وإثيوبيا. زاول (ريسوم هيلي) العمل الأكاديمي واشتغل في عدة منظمات دولية. ترجم له صديقه الدكتور (تشارلز كانتالوبو) الى الإنكليزية (لدينا صوت 2000) و(نحن اخترعنا العجلة 2002)، وهو أستاذ متميز في اللغة الإنكليزية والأدب المقارن والدراسات الأفريقية في جامعة ولاية بنسلفانيا. والقصيدة هذه مترجمة عن الإنكليزية ، وهي من ترجمات (كانتالوبو) عن التيغرينية. ترجم له إلى العربية الشاعر والكاتب المغربي (نجيب مبارك) ضمن (همس الأسلاف: انطولوجيا الشعر الأفريقي المعاصر) الذي صدر عن (دار خطوط وظلال) في عمان – الأردن.

African Anthem – Reesom Haile – Modern Poetry in Translation.

https: //modernpoetryintranslation.com

  

قصة: جوادالوبي نيتيل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قبل أسبوعين تقريباً، انتقل جيران جدد إلى الشقة المجاورة. إنها امرأة مع ولد صغير يبدو غير راضٍ عن الحياة، على أقل تقدير. لم أره بعد، لكن يمكنني أن أخبرك بذلك من خلال الاستماع إليه فقط. يعود من المدرسة حوالي الساعة الثانية بعد الظهر، حينما ينتشر رائحة الطعام التي تخرج من منزله وتنتشر في ممرات السكن والسلالم. الجميع يعرف عندما وصل من الطريقة التي يضغط بها على الجرس بعجلة. وبمجرد أن يغلق باب شقته، يرتفع مستوى الصوت بشكل كبير عندما يبدأ بالصراخ للشكوى من الطعام. بالنظر إلى الرائحة، لا يمكن أن يكون الطعام في منزله صحيًا أو لذيذًا، لكن رد فعل الصبي بلا شك مبالغ فيه. يوجه الشتائم والألفاظ النابية، وهو أمر مثير للقلق بعض الشيء في طفل في سنه. كما أنه يصفق الأبواب ويرمي أشياء مختلفة على الجدران. عادةً ما تستمر هذه الانفجارات لفترة طويلة. منذ أن انتقلوا، سمعت ثلاث منها، وفي أي من تلك المرات لم أتمكن من الاستماع حتى النهاية، لذلك لا أستطيع أن أخبرك كيف تنتهي. إنه يصرخ بصوت مرتفع وبأسلوب يائس لدرجة أنني اضطررت لمغادرة المنزل بسرعة. يجب أن أعترف، أنني لم أتعامل جيدًا مع الأطفال في حياتي. إذا اقتربوا مني، أتجنبهم، وإذا كان من الضروري التفاعل معهم، ليس لدي أدنى فكرة عن كيفية القيام بذلك. أعتبر نفسي من أولئك الذين، عندما يسمعون طفلاً يبكي في طائرة أو في غرفة انتظار الطبيب، يتوترون تمامًا، ويجنون إذا استمر الصوت أكثر من عشر دقائق. ومع ذلك، ليس الأطفال مزعجين بالنسبة لي بشكل عام. ربما أجد ذلك ممتعًا عندما أراهم يلعبون في الحديقة أو يتصارعون حول لعبة في صندوق الرمل. هم أمثلة حية على كيفية تصرفنا كإنسان إذا لم تكن هناك قواعد للآداب واللباقة. على مدى سنوات حاولت إقناع صديقاتي بأن الإنجاب كان خطأ ميؤوسًا منه. أخبرتهن أن الأطفال، بغض النظر عن مدى كونهم حلوين ومحبين في أفضل لحظاتهم، سيكونون دائمًا قيودًا على حريتهن، عبئًا اقتصاديًا، ناهيك عن التكاليف الجسدية والعاطفية التي يجلبونها: تسعة أشهر من الحمل، ثم ستة أشهر أو أكثر من الرضاعة، ليالٍ متواصلة بلا نوم خلال الطفولة، ثم القلق المستمر طوال سنوات المراهقة. "ما هو أكثر من ذلك، المجتمع مصمم بحيث نكون نحن، وليس الرجال، من يتحمل المسؤولية عن رعاية الأطفال، وهذا يعني غالبًا التخلي عن حياتك المهنية، وهواياتك الفردية، وجانبك الجنسي وأحيانًا علاقتك بشريكك أيضًا"، كنت أقول لهن بحماسة. "هل يستحق الأمر ذلك حقًا؟"

2

في تلك الفترة من حياتي، كان السفر أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة لي. الوصول إلى دول بعيدة كنت أعرف عنها قليلًا، عبورها برا، سيرًا على الأقدام أو في حافلات مهتزة، واكتشاف ثقافتها ومأكولاتها كان من بين المتع التي لم يخطر ببالي أبدًا التخلي عنها. درست جزءًا من دراستي في الخارج. على الرغم من ظروفي الصعبة في تلك الفترة، إلا أنني أعتبر تلك الفترة الآن من أسعد مراحل حياتي. قليل من الخمر وعدد قليل من الأصدقاء كانا كافيين لتحويل أي مساء إلى احتفال. كنا شبابًا، وعلى عكس الآن، لم يكن السهر يؤثر على أجسامنا. العيش في فرنسا، حتى مع ضيق ذات اليد، منحني الفرصة لاستكشاف قارات أخرى. حين كنت في باريس، قضيت ساعات طويلة في القراءة في المكتبات، والذهاب إلى المسرح، والتجول في الحانات والنوادي الليلية. لا شيء من هذا يتماشى مع الأمومة. النساء اللواتي لديهن أطفال لا يمكنهن العيش بهذه الطريقة. على الأقل ليس في السنوات الأولى من تربية الطفل. لكي يتمكنّ من قضاء بعد ظهر في السينما أو العشاء في منزل آخر، عليهن التخطيط مسبقًا، والحصول على جليسة أطفال، أو إقناع أزواجهن بالاعتناء بالأطفال من أجلهن. لهذا السبب، عندما تبدأ الأمور في أن تصبح جادة مع رجل، كنت أشرح له أنه لا يمكنه أن يصبح أبًا معي. إذا جادل أو ظهرت أي علامة من الحزن أو الاعتراض على وجهه، كنت على الفور أستشهد بازدياد عدد سكان الأرض، وهو سبب مقنع بما يكفي لئلا يعتبرني قاسية أو، والأسوأ من ذلك، أنانية، كما يُطلق علينا نحن الذين قررنا الهروب من الدور الذي خُصص تاريخيًا لجنسنا.

على عكس جيل والدتي، الذي كان من غير الطبيعي فيه عدم الإنجاب، اختارت العديد من النساء في جيلنا الامتناع عن ذلك. يمكن تقسيم صديقاتي، على سبيل المثال، إلى مجموعتين متساويتين في الحجم: أولئك اللاتي اعتبرن التخلي عن حريتهن والتضحية بأنفسهن من أجل بقاء النوع أمرًا واجبًا، وأولئك اللاتي كن مستعدات لقبول العار الذي يفرضه عليهن المجتمع والعائلة طالما تمكنّ من الحفاظ على استقلالهن. كل واحدة منهن كانت تبرر موقفها بحجج جوهرية. وبطبيعة الحال، كنت أتفق بشكل أفضل مع المجموعة الثانية التي كانت تضم ألينا.

التقينا في العشرينات من العمر، خلال تلك الفترة التي لا تزال تعتبر أفضل سن للإنجاب في العديد من المجتمعات، على الرغم من أننا كنا نشعر بنفس النفور مما اعتدنا أن نسميه، بالنظر إلى بعضنا البعض بوعي، "الأغلال البشرية". كنت أدرس للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب، ولم يكن منحة الطلاب ولا وضعي المستقل يوفر لي أي نوع من الأمن المالي. أما ألينّا، فكانت تعمل في وظيفة مرهقة لكنها جيدة الأجر في مركز للفنون، وكانت تبذل كل ما في وسعها لتدريب نفسها في نفس الوقت في مجال إدارة الفنون والثقافة. وعلى الرغم من أن دخلها كان ضعف دخلي، كانت ترسل جزءًا كبيرًا منه إلى أسرتها: فقد كان والدها مريضًا منذ سنوات، ويعيش بمفرده في قرية في فيراكروز، بينما كانت والدتها تحاول التعافي من جلطة دماغية حديثة. كانت ألينّا قد وصلت إلى مرحلة حياتية مبكرة، حيث أصبح والدانا في حاجة ماسة إلى رعايتنا. فكيف كان يمكنها الاعتناء بطفل وسط كل تلك المسؤوليات؟

في تلك الفترة من حياتي، كنت من عشاق فنون التنجيم بكل أشكالها، وخاصة قراءة الكف والتاروت. أذكر أنه في يوم من الأيام، بعد حفلة طويلة خلفت وراءها كأسين مكسورين ومقبرة من الزجاجات الفارغة على الشرفة، كنت أنا وألينّا وحدنا في شقتي. جلسنا نستمع إلى خطوات آخر ضيف يغادر تتردد في شارع "رو فيي دو تمبل"، الذي كان خاليًا تمامًا في تلك الساعة المبكرة. سألته إن كان يسمح لي بقراءة أوراق التاروت لها. وافقت، من باب المجاملة فقط، لأنها كانت دائمًا امرأة عملية وكانت تجد فكرة تلقي رسائل من قوى غير مرئية أمرًا سخيفًا تمامًا. لابد أن التاروت بدا لها مجرد لعبة عابرة، مثل غيرها من الألعاب. كانت الطريقة التي اخترتها في تلك الليلة طموحة للغاية، وكانت تشمل بقية حياتها. قطعت ألينّا الأوراق عدة مرات، ثم وضعتها على الطاولة، في الأماكن التي أريتها إياها. وعندما وضعت كل الأوراق في مكانها، بدأت في قلبها ببطء، جزئيًا بسبب كم كنت ثملاً، وجزئيًا لإعطاء اللحظة لمسة مسرحية. في تلك الأثناء، بدأت القصة تظهر تدريجيًا، كما تظهر صورة عند غمرها في نترات الفضة. في وسط التوزيع كانت توجد "الإمبراطورة"، و"ستة السيوف"، و"الموت"، و"الرجل المعلق". "الموت" - السر الثالث عشر، والذي لا يحمل حتى اسمًا في العديد من مجموعات التاروت - هو بطاقة لا تعني دائمًا وفاة فعلية، لكنها تجلب معها تغييرًا عميقًا وجذريًا. كل شيء يشير إلى مأساة من شأنها أن تقلب مسار وجودها، وربما تقطعه بضربة واحدة. اضطررت إلى إخفاء انزعاجي. لا بد أن ألينا لاحظت تعبيري المضطرب لأنها سألت بصوت قلق، عما كنت أقرأه. قلت بسرعة مع ابتسامة مرحة:

"هنا تقول الأوراق أنكِ ستصبحين أمًا وأن حياتكِ ستصبح محصورة بالكامل"

هزت ألينّا رأسها بعنف وضحكت، على الأرجح ظنت أنني كنت أمزح معها. إلا أن عينيها السوداوين الكبيرتين كانت تحدقان بي بتساؤل، وفي عمقهما لاحظت بريقًا من القلق. استمررنا في الشرب وبعد بضع ساعات، عندما انتهينا من آخر زجاجة نبيذ، ودعت صديقتي عند باب مبنى الشقق. صعدت السلالم عائدة إلى شقتي وذهبت إلى السرير، وأنا أشعر بالخوف مما رأيته.

وبعد بضعة أشهر قررت ألينا العودة إلى المكسيك حيث وجدت عملاً جيداً في معرض فني. أما أنا فقد بقيت في فرنسا لمدة عام آخر، ثم بعد أن أنهيت درجة الماجستير، انطلقت في رحلة حول جنوب آسيا. تجولت عبر الوديان وعبر المسارات الجبلية. وزرت المعابد ومواقع الحج البوذية. وقد انجذبت بشكل خاص إلى الراهبات بعاداتهن البنية ورؤوسهن المحلوقة، النساء اللاتي قررن التخلي عن الحياة الأسرية من أجل تكريس أنفسهن للدراسة والتأمل. كنت أجلس على بعد خطوات منهن بصمت، أستمع إلى ترانيمهن التي تختلف تمامًا عن الترنيمات الغليظة لللامات، أو أسمعهن يتلون السوترا التي تتحدث عن التحرر ونهاية المعاناة. كانت المسافة بمثابة اختبار حقيقي للصداقة؛ فهي إما أن تدمرها، كما يفعل الصقيع بمحصول وفير، أو تصقلها. ولكن هذا لم يحدث بيني وبين ألينّا. واصلنا تبادل الرسائل والمكالمات، نُخبر بعضنا عن أبرز الأحداث في حياتنا – ظهور أوريليو في حياتها، تدهور صحة والدها، اختياري لموضوع رسالتي – وهكذا، ترسخ الود الذي كان يجمعنا بشكل أعمق.

3

من السهل، عندما نكون صغاراً، أن نتمسك بالمبادئ المثالية وأن نعيش وفقاً لها. ولكن الأمر الأكثر تعقيداً هو التصرف بشكل ثابت على مر الزمن، وعلى الرغم من التحديات التي تضعها الحياة في طريقنا. بعد أن بلغت الثالثة والثلاثين بقليل، بدأت ألحظ شيئًا جديدًا: حضور الأطفال ـ بل وحتى جاذبيتهم. كنت أعيش منذ عامين مع فنان من أستورياس يُدعى خوان، يقضي ساعات طويلة في شقتنا، منهمكًا في عمله، ليملأ أجواء المكان برائحة زيوت ألوانه النفاذة. على عكس شخصيتي، كان خوان يعرف جيدًا كيف يتعامل مع الأطفال ويستمتع بوجودهم. إذا صادف طفلًا في الحديقة أو عند أصدقاء لنا، كان يترك ما يفعله ويذهب للحديث معهم.

لا أدري إن كان تأثيره أم تأثير جسدي هو الذي أحدث هذا التحول، لكن أثناء وجودنا معًا بدأت أترك حذري جانبًا. رغم أنني لم أسعَ إلى الاقتراب منهم، أصبح الأطفال يثيرون فضولي إلى حد ما. كنت أستمتع برؤيتهم يحملون حقائبهم الصغيرة على ظهورهم وهم يغادرون بوابات المدارس أو يسيرون في الشوارع متجهين نحو المترو. كنت أنظر إليهم كما ينظر الجائع إلى ثمرة ناضجة. دون أن أعي، بدأت ألاحظ أيضًا النساء الحوامل. كنّ يظهرن لي في كل مكان، وكأن أعدادهن قد تضاعفت فجأة. وعندما أصادف إحداهن في حفلة أو أثناء الانتظار في طابور السينما، لم يكن غريبًا أن أبدأ حديثًا معها، بفضل الفضول الذي ألهب داخلي. كنت بحاجة إلى فهمهن: هل اخترن هذا المصير عن قناعة، أم أنهن خضعن ببساطة لمطالب اجتماعية أو عائلية؟ كم كان لأمهاتهن أو شركائهن أو صديقاتهن من دور في اتخاذ هذا القرار؟

في صباح أحد أيام السبت الشتوية، بينما كنا نسترخي في الفراش، طرحت أنا وخوان موضوع الإنجاب. أخبرني أنه يريد حقًا أن ينجب طفلًا، وأنه ينتظر فقط أن أعطيه الضوء الأخضر. كان رجلًا لطيفًا للغاية، ولا شك أنه سيكون كذلك كأب أيضًا. في مخيلتي ظهرت صور لنا ونحن نعتني بطفل معًا، نتحقق من درجة حرارة الماء لحمامه أو ندفع عربة صغيرة في الشوارع. كانت حياة الأسرة هذه في متناول يدي، قريبة جدًا. لم يكن الأمر يتطلب سوى ترك الواقي على الطاولة بجانب السرير، ربما لمرة واحدة فقط، لأعبر العتبة إلى عالم الأمومة. تمامًا كما قد يستسلم شخص لم يفكر يومًا في الانتحار لإغراء السقوط من قمة ناطحة سحاب، شعرت بجاذبية الحمل. أزاح خوان خصلة شعر عن وجهي وبدأ يقبّلني بعمق. شعرت بجسده مستعدًا تمامًا لتحقيق نداء الطبيعة فورًا. استسلمت – مسحورة-  لهذه القوة التي لا تقاوم لبضع دقائق. ثم – أخيرًا – استيقظت غريزة البقاء لدي، والتي كانت خاملة حتى تلك اللحظة، فقفزت من السرير. على الرغم من الثلج الذي كان يتساقط في الخارج، ركضت إلى الشرفة وأشعلت سيجارة. قلت ل نفسي أن ساعتي البيولوجية قد تغلبت على عقلي. وإذا لم أجد استراتيجية فعّالة بما يكفي للمقاومة، فإن الحياة التي بذلت جهدًا كبيرًا لبنائها ستكون في خطر جسيم.

لقد التزمت الصمت لبقية عطلة نهاية الأسبوع. وفي يوم الاثنين، ذهبت إلى عيادة طبيبي النسائي دون موعد وطلبت منه إجراء عملية ربط قناتي فالوب. بعد أن طرح عليّ سلسلة من الأسئلة ليقيس مدى يقيني بقراري، نظر الطبيب إلى جدول مواعيده. أجريت العملية في نفس الأسبوع، مقتنعة أنني اتخذت أفضل قرار في حياتي. قام الجراح بعمله بمهارة، لكن أثناء تعافيي في المستشفى، أصبت بعدوى بسبب إحدى تلك البكتيريا الخارقة التي يصعب القضاء عليها. عدت إلى المنزل وأنا أعاني من الحمى، وقضيت عدة أيام على هذه الحالة دون أن أخبر أحدًا بما فعلت، حتى خوان نفسه.

بعد ذلك، عندما تعافيت تمامًا وحصلت على تصريح من الطبيب، اتصلت بألينا، متأكدة أنها الوحيدة التي ستفهمني.

منذ ذلك الحين، بدأت علاقتي مع خوان تتدهور تدريجيًا. كنا في الماضي نستمتع بصمتنا معًا: أقرأ بينما يعمل على لوحاته في مرسمه، أو نشاهد أفلامًا قديمة، أو نسير عبر المقبرة القريبة من منزلنا. أما الآن، فقد أصبحنا نشعر بأننا نهدر وقتنا. تسرب الصبر من حياتنا شيئًا فشيئًا، وبدأنا ندفع بعضنا نحو حافة الإحباط. لم تكن نهاية طويلة أو مؤلمة بشكل خاص، بل مجرد إدراك بسيط أننا نسير في اتجاهين مختلفين. كنت أنا من اتخذت قرار المغادرة، فجمعت ثلاث حقائب وأودعتها في قبو صديقة، ثم حجزت أرخص رحلة طيران وجدتها إلى كاتماندو، حيث قضيت شهرًا أتجول بين الأديرة المختلفة. وأثناء وجودي هناك، أرسل لي خوان عدة رسائل إلكترونية قرأتها في مقهى إنترنت بسيط ومغبر في فاربينج. كانت رسائله بمثابة محاولة لتوضيح الأمور التي باتت جلية. قرأتها بدافع الاحترام للوقت الذي قضيناه معًا، متوقعة محتواها. لكن في إحدى الرسائل اللاحقة، أخبرني أنه في علاقة جديدة مع نحّاتة كندية التقاها في ندوة، وأنهما ينتظران طفلًا. كتب لي: "أعرفكِ يا لورا، وأعلم أنك لا  ترغبي في  سماع هذا الخبر من شخص آخر، لذلك فضّلت أن أخبرك بنفسي." أحزنني الخبر، لكنه في الوقت نفسه ساعدني على قطع الروابط مع الماضي. شعرت بأن الوقت قد حان لإجراء تغيير جذري في حياتي. قررت مغادرة باريس والعودة إلى المكسيك لإنهاء كتابة أطروحتي هناك.

4

عدت إلى المكسيك في أوائل فبراير، عندما تملأ أشجار الجاكاراندا شوارع المدينة بأزهارها البنفسجية، ويكتسب كل شيء مظهرًا ريفيًا، حلميًا قليلاً. دعوت ألينا لتناول العشاء معي في مطعم ياباني في حيها تحبه. كانت هذه أول مرة نلتقي فيها منذ عودتي. كان قد مر وقت قليل على عيد ميلادها، وللاحتفال، طلبنا جميع أنواع الأطباق اللذيذة: السلمون المملح، السبانخ مع بذور السمسم، لفائف الهليون واللحم البقري، طبقين من الأودون واثنين من زجاجات الساكي. كانت نسمة دافئة تدخل عبر النوافذ. تحدثنا عن انفصالي عن خوان، وأبوته الوشيكة، وقراري بالعودة إلى الوطن. ثم سألت عن صحتي. طمأنتها قائلة إن العدوى لم تستمر سوى فترة قصيرة، وأن العملية كانت الوقاية المثالية، الأفضل التي يمكن أن تتخذها النساء في مثل سننا، اللاتي كنا دومًا مقتنعات أننا لن ننجب أطفالًا، وهو تطعيم حقيقي ضد ضغط المجتمع.

شربنا نخبًا على هذا، وأيقظ الكحول بداخلي سعادة لم أشعر بها منذ شهور عديدة.

قلت لها وأنا أسكب لنفسي المزيد من الساكي:

"ينبغي لك أن تفعلي الشيء نفسه. إنه شعور رائع، بصراحة!"

استمعت صديقتي دون أن تعلق. ضحكت معي كما ضحكت، ثم، بعد نخبنا، قررت أن تخبرني بما كانت تفكر فيه حقًا. قالت لي بحذر شديد، وكأنها تخشى، أنها تحترم قراري، لكنها لم تعد تشاركني وجهة نظري. هي الآن ترغب في أن تصبح حاملًا. أخبرتني أنها وشريكها قد توقفا عن اتخاذ الاحتياطات منذ أكثر من عام، وحتى الآن دون أي نتائج.

"ربما نحن غير متوافقين" قالت بتردد، معبرة عن إحباطها من خلال نبرة صوتها. "أجرينا جميع الفحوصات ولا تظهر أي منها أن أيًا منا عقيم. لذا سنبدأ العلاج هذا الأسبوع."

أخبرتني أنها مستعدة للذهاب إلى أبعد الحدود في هذا الأمر، بما في ذلك التلقيح الصناعي وتبرع بالبويضات.

لم تُفاجئني هذه الأخبار فحسب، بل جعلتني أتوقف عن الكلام لبقية المساء. لم أُظهر سعادتي أو اهتمامي بالتفاصيل. في صداقات مثل صداقتنا، لا مكان للنفاق. بينما كانت ألينا تُغرق نفسها في حديث مختلط أمام طبق المعكرونة وهي تصف تقنيات التلقيح الاصطناعي الجديدة، كان أذناي يغلقان ببطء مثل نبتتين حساسيتين للضوء. تسللت إليّ مشاعر الحنين إلى الماضي قبل أن يحدث. صور شبابنا معًا كانت تطفو في ذهني، لا تزال واضحة، لكنها أصبحت الآن ملوثة بهذا المستقبل القريب. تركت المطعم وأنا أشعر بالكآبة. إذا نجح العلاج، فستصبح ألينا واحدة من جميع النساء اللواتي كنّ صديقاتي، واللواتي، بعد إنجاب الأطفال، لا يجتمعن إلا للذهاب إلى الحدائق أو السينمات التي تعرض أفلامًا للمغفلين، وهي مجموعة كنت أرفض تمامًا أن أنتمي إليها. ولكن حتى إذا ثبت أن العلاج كان غير مجدٍ، فلا عودة إلى الوراء. من الآن فصاعدًا، سيكون هناك انقسام غير مرئي بيننا: هي كانت تؤيد الأمومة كمصير مرغوب للنساء، بينما أنا خضعت لعملية جراحية لتجنبها.

كما شرحت ألينا أنها كانت تذهب إلى معالج نفسي. كانت ترى هذه المرأة منذ عودتها من فرنسا. كانت تُدعى روزا، وهي في الستينات من عمرها، وقد سمعت عنها من قبل بتقدير كبير من محللين نفسيين آخرين، ويبدو أن لها دورًا كبيرًا في قرار صديقتي بإنجاب الأطفال.

"لسنوات، كما ترى، كنتُ أخشى تكرار نفس الأخطاء التي ارتكبتها أمي معي ومع أختي. كان عليّ أن أتغلب على هذا الخوف حتى أتمكن من جمع شجاعتي لأرى أنني في الحقيقة أريد أن يكون لدي عائلة. أريد أن أعيش تلك التجربة، لورا. أنا أحلم بها. أنا آسفة إذا كان هذا مخيبًا لآمالك."

***

.............................

*هذا مقتطف من رواية Still Born المترجمة عن الأسبانية، قامت بترجمتها الكاتبة والمترجمة الانجليزية: روزاليند هارفي/ Rosalind Harvey و قد وصلت هذه الرواية القائمة لجائزة البوكر للروايات المترجمة لعام 2023 .

المؤلفة: جوادالوبي نيتيل/Guadalupe Nette: وصفت صحيفة نيويورك تايمز أول أعمال غوادالوبي نيتيل باللغة الإنجليزية، التواريخ الطبيعية، بأنها "خمسة قصص لا تشوبها شائبة". نيتيل، التي كانت من بين كتّاب بوجوتا 39، حصلت على العديد من الجوائز المرموقة، بما في ذلك جائزة غيلبرتو أوين للأدب الوطني، وجائزة أنطونين آرتو، وجائزة رييرا ديل دويرو للقصة القصيرة، وأحدثها جائزة رواية هيرالد لعام 2014. وقد تُرجمت كتبها إلى عشرين عشر لغة، كما تُرجمت مؤخرًا روايتها الجسد الذي وُلدت فيه إلى الإنجليزية. تعيش جوادالوبي نيتيل وتعمل في مكسيكو سيتي.

 

عن القصص التي نرويها لملء الفراغات في حياتنا

بقلم: ليّا كاربانتر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

وفقا لليّا كاربانتر، "هناك قصة ثالثة، تلك التي تُروى بصيغة المخاطب. هذه هي القصة التي ترويها لنفسك."

***

توفيت خالتي الصغرى في حريق عندما كانت في العشرينات من عمرها. كيف بدأ ذلك الحريق وكيف انتهى، أين كان اللوم، ولاحقاً، لماذا كان الناس بحاجة إلى اللوم وضرورة أن يكون في مكان ما يمكن الإشارة إليه وحتى لمسه—لم يتم توضيح تلك الأمور لي، وربما لم تُوضَّح على الإطلاق.

لم يخبرني أحد عن رجال الإطفاء، رغم أنه كان لا بد من وجودهم. ولم يخبرني أحد عن الجنازة أو التأبينات أو كيف كان شعور جدتي، على سبيل المثال، أن تفقد ابنة لها بتلك الطريقة. لم يكن لدى أحد حكايات عن كيفية التعامل مع الفقد، إذا ما كان البيت قد أعيد بناؤه أو بيع أو تُرك مهجوراً، ماذا كانت حياة عمتي مثلًا، أو طباعها. كان الحريق يفتقر إلى قصة.

نحن نحب فكرة الحقيقة ولكن ليس بقدر ما نحب الشعور براحة البال الحقيقية.

كما تشكل في ذهني الصغير، كان "الحريق" ليس مجرد تسلسل خطي من التفاصيل، بل كان أكثر أشبه بلوحة تجريدية مليئة بصور متفرقة، وغالبًا ما تكون ملحة. نقص الحقائق في هذا الحدث أصبح، بالنسبة لي كطفلة، لغزًا، خرافة، وشعورًا غامضًا. هذا الشعور، المزيج من الخوف والحزن والفضول، أثر على الطريقة التي تعاملت بها مع الخسارات التي مررت بها في حياتي لاحقًا، وأظهر لي أن الاستنتاجات الجاهزة هي الاستثناء وليست القاعدة. الوضوح، في كثير من الأحيان، ليس سوى سراب. ربما لم يكن أحد يبحث عن الوضوح في هذا الحريق. ربما لم يكن أحد بحاجة إلى قصة. عندما نواجه أكثر تجاربنا تعقيدًا، نحن نميل إلى تفضيل الشفاء على البحث عن الأدلة. نحب فكرة الحقيقة ولكن ليس بقدر ما نحب الشعور براحة البال الحقيقية.

عندما كنت طفلة، كنت أحتفظ بـ "حقيبة الحريق" بجانب سريري تحتوي على كل الأشياء التي أحتاجها في حال جاء حريق آخر ليأخذني. الحريق، التهديد الطويل المزمن الذي لا يمكن إخماده أبداً. الحريق، الذي كان في آن واحد تجريديًا، خياليًا وتهديديًا مثل التنين، قد يصل في أي وقت يشاء. كان الحريق عابرًا وعنيفًا بنفس القدر، ديمقراطيًا بلا رحمة في شهيته للتدمير. يمكنني أن أتذكر وأسترجع ذلك الشعور بسهولة رغم أنني حاولت، وفشلت، في تذكر ما كان في تلك الحقيبة. ما الذي قد يكون مهمًا جدًا في ذلك الوقت لدرجة أنني لا أستطيع تذكره؟

هل كان هناك مجموعة من الأوراق، أو لعبة، أو نسخة من "الملك آرثر وفرسان الطاولة المستديرة"؟ عمتي كانت، حسب كل الحسابات، جميلة. كانت أيضًا تدخن. أظهر تشريح جثتها وجود تليف في الكبد، مما قد تستنتج منه أنها كانت تشرب كثيرًا. ومع ذلك، هل تشكل هذه الحقائق دلائل، أو بداية لما قد يصبح قصة؟ بالنسبة لأمي، أصبحت الحقائق ذكريات، محاطة بطبقات من الحب والمغفرة، استراتيجيات أفضل على المدى الطويل من الندم. أمي، طوال طفولتي، لم تنم فوق الطابق الثالث في أي منزل أو فندق، وكانت تسافر كثيرًا. لم يكن هناك أي تساؤل أو تفسير عن هذه العادة، رغم أن الجميع فهمها. في الحياة، لا تظهر إلى عاصفة ثلجية وأنت ترتدي بيكيني. إلا إذا كانت عاصفتك الثلجية الأولى.

بعد سنوات، ومع ضياع أو نسيان حقيبتي الخاصة بالحريق، ذهبت إلى الكلية إلى نفس المكان الذي كان فيه أفضل صديق لي من الطفولة طالبًا بالفعل. كان قد انتقل للعيش خارج الحرم الجامعي في منزل مع مجموعة من الرياضيين-العلماء الوسيمين، الذين بدا أن لديهم مفاتيح واضحة للمستقبل. كانوا أكبر مني بسنة واحدة فقط، لكنهم كانوا يبدون ناضجين للغاية. كانوا في سن يمكنهم من العيش في منزل يسمونه "منزلنا"، رغم أنني لم أكن لأحسب قيمة الرهن العقاري. كانوا يبدون واثقين من أنفسهم، اجتماعيين، ومطمئنين.

ثم في إحدى الليالي، بينما كانوا خارج المنزل، احترق المنزل الذي كانوا يعيشون فيه حتى دُمر بالكامل. عادوا إلى المنزل في منتصف الليل، بعد حفلة وهم يرتدون ملابسهم الرسمية، ليشاهدوا كل شيء يملكونه يُدمَّر. صورة سخيفة لا تُنسى، تكاد تكون مفرطة في وضوحها. كان لذلك الحريق قصة، ودرس، ومجموعة من الأبطال، وما تخيلته حينها كمسارات عاطفية لهم. تخيلت أن الحريق قد غيرهم بطريقة أساسية. لم يكن حريقي، ومع ذلك أردت أن أستخلص منه عبرة.

قام الكاتب الإنجليزي إ.م. فورستر بالتفريق ببلاغة بين "القصة" و"الحبكة". فقد قال: "مات الملك، ثم ماتت الملكة، هذه قصة"، وأضاف: "مات الملك، ثم ماتت الملكة بسبب الحزن، هذه حبكة". الحبكة توفر تفسيرًا، وأجوبة. هي شيء يمكننا متابعته. أما القصة، فهي أقرب إلى الأسطورة، ولذلك تعد القصص العنصر المحفز لعقلنا الباطن، ولا تقترب من المنطق إلا في بعض الأحيان، ربما عن طريق الصدفة. حتى الآن في حياتي االناضجة لم أقم قط في الطابق العلوي من الطابق الثالث. قد تقول إن هذا جزء من حبكة حياتي، رغم أنه لا يكشف شيئًا عن قصتي.

لكن الفقدان ليس قذيفة مدفعية. إنه يتحدى قوانين الفيزياء. إنه شعور في انتظار، وغالبًا بشكل غير صبور، للبصيرة. البصيرة، والمنظور. والقصة.

لقد تم تمييز بداية العام بحريق آخر في لوس أنجلوس. أرسل لي صديق مقال "سانتا آنا" للكاتبة جوان ديديون، الذي كتبته في عام 1968، وفيه قالت: "العيش مع سانتا آنا يعني قبول، سواء بوعي أو بدون وعي، نظرة عميقة وآلية لسلوك الإنسان". نظرة آلية عميقة لسلوك الإنسان. قرأت ذلك واعتقدت أن "آلية" تعني روبوتية، منطقية، حرفية. ثم بحثت عن المعنى واكتشفت أنه يشير إلى شيء مختلف تمامًا وأكثر تعقيدًا. "آلية" تعني أننا نفهم بعض الظواهر فقط من خلال فهم الأسباب والخصائص والعوامل الأساسية التي تكمن وراءها.

حسنًا، ولكن ماذا لو لم نتمكن من فهم الأسباب والخصائص والميزات؟ ماذا سيملأ الفراغ؟ الخيال، الرعب. سيجارة تُركت محترقة عن غير قصد. فتيان يرتدون بدلات رسمية يقفون في صف. تقدم ديديون، في نفس المقال، صورًا تشير إلى مناخ الخوف من الرياح، وهو في الواقع خوف من الحرائق. جيران يتجولون في منازلهم حاملين مناجل. سانتا آنا هي عنيفة وغير قابلة للتنبؤ، وفقًا لديديون. مثل النار. يمكن أن تقدم سانتا آنا قصة أو حبكة، حسب حاجتنا وتجربتنا.

لن أتجرأ أبدًا على معرفة كيف يكون الشعور بفقدان كل شيء، على الرغم من أن والدتي قد تفعل ذلك، إذا أرادت. تذكرني اختيارات والدتي أن النظرة الميكانيكية بعيدة عن كونها الخيار الوحيد عند مواجهة الكوارث الطبيعية أو الفقدان الشخصي الكارثي. النظرة الميكانيكية يمكن أن تظهر أن شكل قذيفة مدفعية أُطلقت نحو هدف ما هو أمر مضمون، مقعر مثالي، خارج عن يديك. ومع ذلك، فإن الفقدان ليس قذيفة مدفعية. إنه يتحدى الفيزياء. إنه شعور في انتظار، وغالبًا بشكل غير صبور، للبصيرة. البصيرة، والمنظور. والقصة.

يعتقد بعض الناس أن هناك قصتين فقط وأننا نستمر في روايتهما بطرق جديدة. القصة الأولى، يأتي غريب إلى المدينة. القصة الثانية، يأخذ البطل رحلة. أعتقد أن هناك قصة ثالثة، وهي القصة التي تُروى على لسان الشخص الثاني (ضمير المخاطب). هذه هي القصة التي ترويها لنفسك. هذه هي القصة التي تخسر فيها كل شيء كنت تعتقد أنه مهم وعليك أن تبدأ من جديد. هذه هي القصة التي تكسر قلبك ثم، يومًا ما، تفتحه مرة أخرى. لا تعرف نهاية القصة عندما تبدأ، ولهذا السبب تواصل السير فيها.  إنها أهم قصة سترويها في حياتك، حتى وإن لم تضعها أبدًا في كلمات.

***

.....................

ليا كاربنتر / Lea Carpenter روائية ومحاضرة في القانون في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا. وتعيش في نيويورك.

 

من الأدب الكردي

بقلم: لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1) المقبرة

المقبرة.. مدينة

مل سكانها كل مواثيق

الحرب

والسلام!

***

(2) الخوف

في الحرب

يتستر الخوف

خوفا من الرصاص!

***

(3) التماثيل

لا تطلقوا النار

في الشوارع

كي لا تصيب

تماثيل الشهداء،

فتستشهد!

***

....................

* عن (في مرفأ الشعر) للمترجم، أربيل – العراق 2001.

 

قصة: إينيس أريدوندو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت تجلس على كرسي في ظل شجرة الأماتي تراقب رومان وخوليو وهما يلعبان كرة الطائرة على مسافة قصيرة. بدأ الطقس يصبح حارًا جدًا وساد جو هادئ في جميع أنحاء الحديقة.

- يكفي، يا شباب، وإلا فإن الصودا ستسخن.

توقفا عن اللعب بتفاهم صامت، فأمسك جوليو بالكرة في الهواء ووضعها تحت ذراعه. اقترب صوت الحصى الذي تحت أقدامهم بينما كنت أملأ الأكواب. ها هم الآن أمامي، وكان من الجميل رؤيتهما؛ رومان ذو الشعر الأشقر، وجوليو ذو البشرة السمراء.

- بينما كنتما تلعبان، كنت أفكر في كيفية قضاء وقتي منذ أن كان رومان في الرابعة من عمره... لم أشعر بمرور الوقت، أليس غريبًا؟"

- ليس هناك ما هو غريب، بما أنكِ كنتِ معي" – قال رومان ضاحكًا، ثم قبّلني.

- "بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أن تلك السنوات لم تمر فعلاً. لا يمكن أن تكوني بهذا الشباب."

ضحكنا معًا في نفس اللحظة. خفض الشاب عينيه، وكانت وجهه محمرًا، وبدأ يضغط على جانب أنفه بإصبعه المعوج، كما كان يفعل دائمًا.

- اترك أنفك في حاله."

- لا أفعل ذلك من باب الرغبة، فأنا أعاني من انحراف الحاجز الأنفي.

-  أعرف ذلك، لكنك ستؤذي نفسك."

كان رومان يتحدث بلهجة يشوبها الإحباط، وكأن جوليو هو من يزعجه. كرر جوليو نفس الحركة مرة أو مرتين، وكان رأسه منخفضًا، ثم توجه نحو المنزل دون أن ينطق بكلمة.

في وقت العشاء، كانا قد استحما وأصبحا يبدوان منتعشين وسعداء.

- ماذا فعلتما؟"

- استرحنا ثم حضّرنا واجب الرياضيات التفاضلية. كان علي أن أشرح النقطة أ إلى النقطة ب لهذا الحيوان حتى يفهمها.

تناولا الطعام بشهيتهما المعتادة. وعندما شربا الحليب، تظاهر رومان بالجدية وقال لي:

- أحتاج إلى التحدث معكِ بجدية."

احمر وجه خوليو وقام واقفًا دون أن ينظر إلينا.

- أنا ذاهب الآن.

- لا شيء من هذا الكلام عن أنك ستذهب. الآن عليك أن تبقى هنا وتثبت موقفك.

ثم استدار إليّ وقال لي:

- الموضوع يتعلق به، لهذا هو يريد الهروب. لقد أخبروه من البيت أنه لم يعد يمكنهم إرسال المال له، ويريد أن يترك دراسته ليعمل. يقول إننا بالكاد في السنة الأولى...

كانت مفاصل يدي خوليو صفراء من شدة ما كان يضغط على ظهر الكرسي. بدا وكأنه يبذل جهدًا كبيرًا ليكتم مشاعره؛ حتى إنه رفع رأسه كما لو كان سيقول شيئًا، لكنه تركه يسقط مرة أخرى دون أن ينطق بكلمة.

– أردت أن أسألك إذا كان يمكنه العيش هنا، معنا. يوجد مكان كافٍ و..

– بالطبع؛ هذا هو الأمر الطبيعي. اذهبا الآن لالتقاط أغراضه: خذ السيارة لإحضارها.

لم يفتح خوليو فمه، استمر في نفس وضعه السابق، وأعطاني نظرة لم تكن تحمل أي شكر، بل كانت أقرب إلى اللوم. أمسك رومان بذراعه وسحبه بقوة. ترك خوليو الكرسي وتبعه بلا مقاومة، كجسد بلا حياة.

– رتبي السرير إلى أن نعود.

صرخ رومان في الوقت الذي دفع فيه خوليو للخارج.

فتحت النوافذ بالكامل في غرفة رومان. كان الهواء رطبًا، وفي الشرق كانت هناك ومضات برق تضيء السماء الملبدة بالغيوم؛ وكان الرعد البعيد يجعل صوت صراصير الليل أكثر رقة. أزلت من على الرف الدمية المصنوعة من القماش التي كان رومان ينام معانقًا لها طوال تلك السنوات، ووضعتها في الجزء العلوي من الخزانة. كانت الأسرة المزدوجة، والطاولة الجانبية، والمسطرة، وخرائط العالم، والقوانين، كلها في مكانها. كان فقط يجب شراء خزانة لخوليو. وضعت المنبه على الرف حيث كانت الدمية، وجلست على حافة النافذة.

–  إذا لن يراها أحد.

–  أعلم، لكن....

–  لكن ماذا؟

–  حسنًا. لنذهب.

لم يخطر لي قط أن أنزل للسباحة في النهر، رغم أن حديقتي الخاصة كانت تقع بجانب النهر. قضينا الصباح داخل الماء، وبقينا غارقين حتى خصورنا. أكلنا البطيخ وتفلنا البذور في التيار. لم نترك الماء يجف تمامًا على أجسامنا. كنا رطبين طوال الوقت، وبهذا الشكل أصبح الهواء الحار شبه ممتع. في منتصف النهار، صعدت إلى المنزل وأنا أرتدي لباس السباحة وعدت مع الساندويتشات والبسكويت وعلبة كبيرة من الشاي المثلج. بالقرب من الماء وتحت ظلال المانجو، استلقينا للنوم في القيلولة.

فتحت عينيّ عندما كان المساء قد بدأ يسقط. فوجئت بنظرة خوليو التي كانت مليئة باللوم غير المحدد. كان رومان لا يزال نائمًا. قلت بصوت خافت.

– ماذا بك؟

- ماذا؟

شعرت قليلًا بالحرج.

- لا شيء.

جلس خوليو بجانبي، وقال دون أن يرفع عينيه:

– أريد أن أغادر المنزل.

شعرت بالحيرة، لم أعرف لماذا، ولم أتمكن من الرد سوى بعبارة تقليدية.

– ألا تشعر بالراحة معنا؟

- ليس الأمر كذلك، بل...

تحرك رومان، وهمس خوليو بسرعة:

– من فضلك، لا تخبريه عن هذا.

– أمي، لا تكوني هكذا، لماذا تودين أن نلح عليك طوال الوقت؟ مشطي شعرك وتعالي معنا.

– قد لا يكون الفيلم جيدًا، لكن دائمًا ما يجد المرء شيئًا يلهيه.

- لا، كما أخبرتكم، ليس لدي رغبة في ذلك.

- ماذا ستفعلين وحدك في هذا المنزل الكبير طوال فترة بعد الظهر؟

- أرغب في البقاء وحدي.

– اتركها، يا خوليو، حينما تكون هكذا لا أحد يستطيع تحملها. كنت أتوقع أن يمضي كل هذا الوقت دون أن يظهر لها أحد تلك النوبات. لكنها الآن لا شيء، يقولون إنه عندما توفي والدي...

عندما خرجا كان لا يزال يروي القصة القديمة. كان الحر يتسلل إلى الجسد من كل مسام، كانت الرطوبة بخارًا محرقًا يلف ويقيد، يدمج ويعزل في ذات الوقت كل شيء على الأرض، أرض لا يمكن المشي عليها حافيا. حتى البلاط بين الحمام وغرفتي كان دافئًا. وصلت إلى غرفتي وألقيت المنشفة؛ أمام المرآة فككت شعري وتركته ينزلق بحرية على كتفي الرطبتين من ظهري المبلل. ابتسمت في الصورة. ثم استلقيت على بطني على الأسمنت البارد وألصقت جسدي به: الصدغ، الخد، الصدر، البطن، الفخذين. مددت جسدي مع تنهيدة وبقيت نصف نائمة، أسمع في الخلفية صوت طنين الحشرات في الحديقة.

في وقت لاحق، نهضت، ارتديت رداء قصيرًا، ومن دون أن أرتدي حذاء أو أربط شعري، ذهبت إلى المطبخ، فتحت الثلاجة وأخرجت ثلاث حبات مانجو كبيرة وصلبة. جلست لأتناولها على الدرج في أقصى المنزل، مواجهةً للحديقة. أخذت واحدة وقلتها بأسناني، ثم قضمتها بكل فمي، حتى العظم؛ مزقت قطعة كبيرة، بالكاد كانت تتسع في فمي، وشعرت باللب يتفتت والعصير ينزل عبر حلقي، على زوايا فمي، على ذقني، ثم بين أصابعي وعلى طول الساعدين. بتململ قشرت الثانية. ومع مزيد من الهدوء، وشعور بالرضا، بدأت في أكل الثالثة.

أثار صوت الشنكل انتباهي فرفعت رأسي. كانت هي "تويا" تقترب. بقيت وأنا ممسكة بالمقبض بين يدي، عاجزة، ساكنة، وبدأ العصير الذي على جلدي يجف بسرعة ويصبح غير مريح، ويتحول إلى شيء مزعج.

- عدت لأنني نسيت المال.

نظرت إليّ طويلاً بعينيها اللامعتين مبتسمة:

لم أرَك تأكلين هكذا من قبل، أليس لذيذا؟

- نعم، إنها لذيذة.

وضحكت وأنا أرفع رأسي أكثر وأترك آخر القطرات الثقيلة تنساب قليلاً على عنقي أضفت:

- لذيذة جداً.

ودون أن أعرف السبب، بدأت أضحك بصوت عالٍ، بصدق. ضحكت "تويا" أيضاً ودخلت إلى المطبخ. وعندما مرّت بجواري مرة أخرى قالت لي ببساطة:

– إلى اللقاء غداً.

ورأيتها تبتعد، طق.. طق ، مع صوت نقر صندلها وإيقاع واثق من حركات وركيها.

استلقيت على الدرج ونظرت من بين الأغصان إلى السماء وهي تتغير ببطء حتى أقبل الليل.

***

في أحد أيام السبت ذهبنا نحن الثلاثة إلى البحر. اخترت شاطئًا مهجورًا لأنني كنت أخجل من أن يراني الناس أذهب في نزهة مع الشبان كما لو كنا في نفس السن. في الطريق غنّينا حتى أرهقنا حناجرنا، وعندما انتهى الممر إلى الشاطئ ورأينا البحر يلمع في الأفق، بقينا نحن الثلاثة صامتين..

في وسط أشجار النخيل تركنا الأغراض، ثم اختار كل منا كثيبًا رمليا لخلع ملابسه.

كان دوي البحر يتساقط كالرعد في الهواء المثقل بالشمس. وأنا أدهن جسدي بالزيت اقتربت من الخط الرطب الذي يتركه المد على الرمل. جلست على القشرة الجافة، التي لا تلمسها الأمواج.

من بعيد، سمعت صرخات الفتيان؛ التفت لرؤيتهما: لم يكونا بعيدين عني أكثر من بضع أمتار، لكن البحر والشمس يعطيان للمسافات معنى آخر.

ركضا نحو المكان الذي كنت فيه وكأنهما سيصدمانني، ولكن قبل أن يفعلا، أوقف رومان نفسه بأقدامه الممتدة إلى الأمام، رافعًا كمية كبيرة من الرمل، وسقط على ظهره، بينما اندفع خوليو إلى جانبي على بطنه، بكل القوة والثقة التي كان سيضعها في قفزة إلى مسبح. توقفا في مكانهما، مغلقين أعينهما؛ كان جنبا كل منهما ينبضان، لامعين بالعرق. رغم البحر، كان بإمكاني سماع أنفاسهما الثقيلة. بينما كنت أراقبهما، بدأت أنفض عني الرمل الذي غطياني به. رفع رومان رأسه.

– ما هذه الغباء، يا رجل، كدت أن تقع عليها!

لم يتحرك خوليو.

– وأنت؟ انظر كيف تركت الرمل عليها.

كان لا يزال مغلقا عينيه، أو هكذا بدا الأمر؛ ربما كان يراقبني دائمًا بهذه الطريقة، دون أن أدرك ذلك.

- سنقوم بتعليمك بعض تمارين الخماسي الحديث، حسنًا؟

قام رومان ومر بجانب خوليو، ووضع قدمه على ضلوعه وقفز فوقه. رأيت تلك القدم الضخمة والخشنة على الجسد النحيف. ركضا، تقاتلا، كانت الأطراف الرشيقة تتشابك في خيوط عصبية مليئة بالنعومة والرشاقة. ثم ركع خوليو، وانحنى على نفسه ليشكل حاجزًا قويًا، بينما ابتعد رومان.. صرخ رومان قبل أن يبدأ الركض نحونا أنا وخوليو.

- الآن سترين قفزة النمر!

رأيته ينقبض ثم ينقض في الهواء المتردد، يداه ممتدتان للأمام ووجهه مختبئ بين ذراعيه. تمدد جسده على أقصى اتساعه وظل معلقًا في قفزته التي كانت أشبه بطيران.. مغطى بضوء الشمس، وظلّه الناعم على الرمل. كان جسده كالنهر، يتدفق بالقرب مني، لكنني لم أتمكن من لمسه. لم أكن أفهم سبب وجود خوليو أسفل منه، لأن لم يكن هنالك حاجة لإنقاذ شيء، لم يكن تمرينًا: الطيران، التمدد في لحظة الامتلاء كما في السرير ذاته، أن تكون في جو من الاكتمال، هذا كان كل شيء. لا أدري متى، لكن عندما سقط رومان أخيرًا على الرمل، نهضت دون أن أقول شيئًا، اتجهت نحو البحر، دخلت فيه خطوة خطوة، فى ثبات ضد المد.

كان الماء باردًا جدًا لدرجة أنه جعلني أرتعش في البداية؛ مررت من خلال الأمواج العاتية وألقيت نفسي مرة أخرى على بطني، بقوة. ثم بدأت أسبح. كان البحر يواكب انحناء ذراعي، ويستجيب لإيقاع حركاتي، ويتنفس. استلقيت على ظهري والشمس تحرق وجهي بينما كان البحر البارد يحملني بين الأرض والسماء. كانت الأجواء تتحرك ببطء في الظهيرة؛ كان هناك عظمة كبيرة تسحق أي فكرة؛ بعيدًا، كان هنالك صراخ طائر وهدير الأمواج.

خرجت من الماء مشوشة. أحببت ألا أرى أحدًا.. وجدت نعليّ، ارتديتهما ومشيت على الشاطئ الذي كان يحرق كما لو كان جمرًا. مرة أخرى، جسدي، مشيتي الثقيلة التي تترك أثراً. تحت أشجار النخيل، التقطت المنشفة وبدأت في تجفيف نفسي. عندما أصبحت حافية القدمين، جعلني الاتصال بالرمل البارد في الظل أشعر بإحساس مشوش؛ نظرت مجددًا إلى البحر؛ لكن رغم ذلك، ظل غضب صغير، يكاد يكون بريقًا من القلق، يزعجني.

كنت مستلقية على بطني منذ فترة طويلة، نصف نائمة، عندما شعرت بصوته الخشن يلامس أذني. لم يلمسني، فقط قال:

- لم أكن مع امرأة من قبل.

ظللت دون أن أتحرك. كنت أسمع الرياح وهي تمر على الرمل، وكأنها تصقله.

عندما بدأنا نجمع أغراضنا للعودة، قال رومان:

– إنه مجنون، قضى بعد الظهر مستلقيًا، يترك الأمواج تغسله. لم يتحرك حتى عندما قلت له أن يأتي لتناول الطعام. خفت لأنه كان يبدو مثل غريق.

بعد العشاء خرجا في نزهة، لزيارة ما، أو لمراقبة الفتيات وهن يتمشين أو التحدث معهن والضحك دون أن يعرفا السبب. وحيدة، خرجت من المنزل. مشيت ببطء عبر الأرض المجاورة، حريصة على أن أخطو بحذر على الصخور والنباتات الجديدة الهشة. كان صوت الضفادع يتصاعد من النهر، متقطعًا وطويلاً، مئات، ربما آلاف منها. السماء كانت منخفضة كالسقف، صافية وواضحة شعرت بالارتياح عندما رأيت أن لمعان النجوم يتناغم تمامًا مع نقيق الضفادع.

واصلت السير حتى وجدت منعطفًا حيث كانت الأشجار تسمح لي برؤية النهر في الأسفل، أبيض. في ظلمة الحديقة الغريبة شعرت وكأنني في ملاذ، وأنا أراقب تدفق النهر. تحت قدمي طبقة كثيفة من الأوراق، وأسفل منها الأرض الرطبة، التي تفوح منها رائحة التخمير الصحية التي رغم قربها الشديد من العفن، تحمل حياة. استندت إلى شجرة، أنظر إلى مجرى النهر الذي كان مثل النهار. دون تفكير، تجولت يدي على خط الشجرة النحيف، الممتلئ والدقيق، وعلى دفء لحاء الشجرة الخشنة.. الضفادع، وصوت الجنادب المتواصل، والنهر ويداي اللتان تتلمسان الشجرة. كلها طرق تتقاطع فيها دماء الآخرين ودمائي، والمشتركة هنا، في هذه اللحظة، على هذا الشاطئ المظلم.

كانت الخطوات على الأوراق المتساقطة، والهمسات، والضحكات المكتومة، كلها طبيعية، لكنني شعرت بالدهشة وابتعدت مسرعة. كان ذلك غير مجد، فقد تعثرت وسقطت على وجهي مع الظلين الأسودين اللذين كانا يلتصقان بجدار واهتزاز جسديهما برفق في عناق متشنج. فجأة توقفا عن الكلام والضحك، ودخلا في الصمت.

لم أتمكن من منع نفسي من إحداث ضجيج، وعندما كنت أهرب خجلاً وسرعة، سمعت بوضوح صوت تويا اللزج وهي تقول:

- لا تقلق، إنها السيدة.

كانت خدايَّ يحترقان، وواصل ذلك الصوت ملاحقتي في أحلامي تلك الليلة، وسط أحلام غريبة وثقيلة.

كانت الأيام تتشابه مع بعضها البعض؛ كانت من الخارج متشابهة، لكن كان بالإمكان الشعور باننا نغوص خطوة خطوة في الصيف..

في تلك الليلة كان الهواء أكثر ثقلًا وبشكل مختلف تمامًا عن كل ما عرفت حتى ذلك الحين. الآن، في الذاكرة، أعود لاستنشاقه بعمق.

لم يكن لدي القوة للخروج في نزهة، ولا حتى لارتداء قميص النوم؛ بقيت عارية على السرير، أنظر من النافذة إلى نقطة ثابتة في السماء، ربما نجم بين الأغصان. لم أكن أتذمر، فقط كنت ملقاة هناك، تمامًا كحيوان مريض يتخلى عن الطبيعة. لم أفكر، وكان من الممكن أن أقول تقريبًا أنني لم أشعر بشيء. الحقيقة الوحيدة كانت أن جسدي كان ثقيلًا بطريقة رهيبة؛ لا، ما كان يحدث هو ببساطة أنني لم أستطع التحرك، رغم أنني لا أعرف السبب. ومع ذلك، كان ذلك هو كل شيء: بقيت بلا حراك لساعات، دون أى تفكير، تمامًا كما لو كنت أطفو في البحر تحت ذلك السماء الصافية. لكنني لم أخف. لم يصلني شيء؛ الأصوات، الظلال، الشائعات، كل شيء كان بعيدًا، والشيء الوحيد الذي ظل موجودًا هو وزني على الأرض أو على الماء؛ كان هذا هو ما كان يركز كل شيء في تلك الليلة.

أعتقد أنني بالكاد كنت أتنفس، على الأقل لا أتذكر ذلك؛ لم يكن لدي حاجة لذلك أيضًا. لا يمكن وصف التواجد بهذا الشكل لأنه لا يكاد يحدث، ولا يمكن قياسه بالزمن لأنه ينتمي إلى عمق آخر.

أتذكر أنني سمعت عندما دخل الفتيان، أغلقا الباب بمفتاح، وهمسا وتوجها إلى غرفتهما. سمعت خطواتهما بوضوح، لكنني لم أتحرك حتى حينها. كان ذلك نوعًا من الفخ الحلو، ذلك الثقل الغريب..

عندما سُمِعَ الصوت الخفيف، توترت كل حواسي، تجمدت كما لو أن ذلك كان ما كنت أنتظره طوال هذا الوقت الذي لا نهاية له. لمسة ورجفة، الاهتزاز الذي تتركه كلمة في الهواء، دون أن ينطق أحد بكلمة، فنهضت فجأة. في الخارج، في الردهة، كان شخص ما يتنفس، لم يكن من الممكن سماعه، لكنه كان هناك، وصدره المتسارع كان يرتفع وينخفض بنفس الإيقاع الذي كان ينخفض به صدري: هذا جعلنا متساويين، قَصّر أية مسافة. وأنا واقفة بجانب السرير رفعت ذراعيّ المتلهفتين وأغلقت عينيّ. الآن كنت أعرف من كان في الجهة الأخرى من الباب. لم أتحرك لفتح الباب؛ عندما وضعت يدي على المقبض، لم أكن قد خطوت خطوة واحدة. ولم أتحرك نحوه أيضًا، ببساطة التقينا، من الجهة الأخرى للباب. في الظلام كان من المستحيل رؤيته، لكن لم يكن هناك حاجة لذلك، كنت أشعر ببشرته قريبة جدًا من بشرتي. بقينا وجهاً لوجه، كأعميين يحاولان أن يتأملا في عيني بعضهما البعض. ثم وضع يديه على ظهري وارتعش. ببطء جذبني نحوه ولفني في قلقه الكبير المكبوت. بدأ يقبلني، أولاً بالكاد، كما لو كان مشغولاً، ثم أصبحت قبله واحدة. احتضنته بكل قوتي، وعندها شعرتُ ضد ذراعيّ وفي يديّ بُرقات جانبيه، ارتجاف ظهره. في وسط تلك القبلة الوحيدة في وحدتي، ذلك الدوار الناعم، بدأت أصابعي تلمس جسده كما لو كان شجرة، وكان ذلك الجسد الشاب يبدو لي نهرًا يتدفق بنفس السرية تحت الشمس الذهبية وفي عتمة الليل. ونطقت بالاسم المقدس.

***

غادر خوليو منزلنا سريعًا، ومن المؤكد أنه كان يكرهني، على الأقل هذا ما أتمنى. الإهانة التي شعر بها نتيجة قبوله في مكان شخص آخر، والرعب الذي أحس به عندما اكتشف من هو ذلك الشخص الآخر بداخلي، جعلاه يرفضني بعنف عند سماعه للاسم، ويضربني بقبضتيه في الظلام بينما كنت أسمع شهقاته. لكن في الأيام التي تلت ذلك، رفض أن يلتقي بعينيّ، وبدت ملامح الانكسار واضحة عليه لدرجة أنه كان يخجل من ذاته. في اليوم الذي سبق رحيله، تحدثت معه لأول مرة على انفراد بعد تلك الليلة التي شهدت القبلة، وشرحت له كل شيء بأقصى وضوح استطعت. أخبرته بأنني كنت جاهلة تمامًا بما حدث لي، لكنني لا أعتقد أن جهلي يعفيني من المسؤولية.

- – كانت علاقتنا كذبة، لأنه حتى لو كانت قد حدثت، لكنا انفصلنا. ومع ذلك، في وسط المعاناة والفراغ، أشعر بفرح كبير: يسرني أن أكون أنا المخطئة، وأن تكون أنت أيضًا كذلك. يسرني أن تدفع ثمن براءة ابني، رغم أن ذلك غير عادل.

بعد ذلك، أرسلت رومان للدراسة في المكسيك وبقيت وحدي.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: إينيس أريدوندو/ Inés Arredondo (المكسيك: إينس كاميلو أريدوندو (20 مارس 1928 – 2 نوفمبر 1989) كانت كاتبة مكسيكية. في عام 1947، التحقت بقسم الفلسفة في الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك. في عام 1958، تزوجت من الكاتب توماس سيغوفيا. فازت بجائزة خافيير فياوروثيا في عام 1979 عن روايتها "ريو سوبيترانو". ولدت إينيس كاميلو أريدوندو في كوليكان، سيناوا، لعائلة من الطبقة المتوسطة التي أصبحت فقيرة فيما بعد؛ كان والدها، ماريو كاميلو فيغا، طبيبًا ليبراليًا، وكانت أريدوندو أكبر أبناء العائلة، التي تضم تسعة أطفال. قضت جزءًا كبيرًا من طفولتها في مزرعة السكر إلدورادو حيث كان يعمل جدها من جهة والدتها، فرانسيسكو أريدوندو. بين عامي 1936 و 1944 درست في كلية مونتفرانت في كوليكان، وهي مدرسة تديرها راهبات إسبانيات. من 1945 إلى 1946 درست في كلية أكويلس سيردان في غوادالاخارا.

في عام 1947 التحقت بالجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك في مكسيكو سيتي لدراسة الفلسفة. ومع ذلك، تعرضت لأزمة روحية نتيجة قراءة فريدريش نيتشه وسورين كيركيجارد، بسبب البيئة المشككة والإلحادية التي كانت تحيط بها. أصبحت ميالة إلى الانتحار، ونصحها طبيبها بتغيير مجال دراستها. لذا، في عام 1948 بدأت دراسة الأدب الإسباني. أنهت دراستها في عام 1950 مع أطروحة عن "الأفكار والمشاعر السياسية والاجتماعية في المسرح المكسيكي 1900–1950". بين عامي 1950 و 1952 درست الدراما، وفي عام 1953 درست دورة في علوم المكتبات. خلال دراستها، تعرفت على العديد من الأشخاص الذين تم نفيهم خلال الحرب الأهلية الإسبانية. كان الجمهوريون بالنسبة لها معارضين قويين للتيارات الوطنية السائدة في المكسيك في ذلك الوقت. خلال هذه الفترة، اكتشفت أيضًا الوجودية الفرنسية، والسريالية، وجيل 27، وأدب خوان رولفو و خوان خوسيه أريولا. عاشت مع زملائها في الدراسة، مثل روزاريو كاستيلانوس، وخايمي سابينيس، وروبن بونيفاز نونو، وكان معلميها يشملون خوليو توري، و فرانسيسكو مونتيردي، و كارلوس بيلشير. في عام 1958، تزوجت من الكاتب توماس سيغوفيا، الذي كانت تشارك معه العديد من الاهتمامات. بعد ولادة ابنتهما الأولى، إينيس، توفي ابنهما الثاني، خوسيه، عند ولادته، مما أدى إلى أزمة روحية جديدة.

بين عامي 1952 و 1955 عملت في المكتبة الوطنية؛ ثم شغلت منصب إميليو كارباليدو في كلية الفنون الجميلة للمسرح. ساهمت في إعداد "معجم الأدب اللاتيني الأمريكي" الذي نشرته اليونسكو، ومن 1959 إلى 1961 قامت بتحرير "معجم التاريخ والمعلومات السيرة المكسيكية". كما كتبت لبرامج الإذاعة والتلفزيون وعملت كمترجمة. أدى عملها في الترجمة إلى فكرة أول عمل أصلي لها، "إل ممبريو" (التي نشرت عام 1957 في مجلة الجامعة). ومن تلك اللحظة، لم تتوقف عن الكتابة.

أنجبت طفلين آخرين، آنا و فرانسيسكو سيجوفيا، وعملت مع زوجها في "مجلة الأدب المكسيكي"، رغم أن اسمها لم يظهر في المجلة حتى انفصلت عنه. قالت إيلينا بونياتوفسكا إنها كانت نوعًا من الملهمة، وكانت المرأة الوحيدة في جيلها، وأن هوبرتو باتيس و خوان جارسيا بونس كانا من "معجبيها" (بونياتوفسكا 1994: 2). تم نشر العديد من قصصها في المجلة. في عام 1961 حصلت على منحة دراسية من مركز الكتاب المكسيكيين، وفي عام 1962 حصلت على منحة أخرى من مؤسسة فيرفيلد في نيويورك.

على الرغم من مشاكلها الزوجية، قررت هي وزوجها البدء من جديد والانتقال إلى مونتيفيديو (أوروجواي)، حيث عملت في رابطة التجارة الحرة لأمريكا اللاتينية (LAFTA). ومع ذلك، في عام 1962 انفصلا، وعادت إينيس إلى المكسيك. أصبح طلاقهما رسميًا في عام 1965. كأم مطلقة، تولت إينيس العديد من المناصب لدعم أطفالها:

 

بقلم: مارك هاليداي

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

سلات ذات شـِباك

في جنوب فيلادلفيا سلات كرة السلة

في الملاعب والساحات العامة لم يكن فيها شباك،

لا توجد على الحلقات—كانت قد سرقت

او سقطت عنها بسبب قيام المراهقين القافزين عليها بتمزيقها.

حين كان ابني صبيا كان الفرق مهما

لأنه كان يحب كرة السلة، يحب فريق السيكسرز،

يحب رمي الكرات على السلة فيتكون شعور بالرضا الجميل

حين تخترق رمية جيدة الشبكة— كان يقول: "سويش"—"لا شيء عدا الشبكة"—

لذا حين اتجول في المدينة كنت الاحظ دائما

اين توجد سلات عليها شباك

كي نتمكن انا ونيك ان نرمي الكرة فيها.

*

كان الفرق مهما. ينبغي للحياة ان تكون طريقة معينة

ولكن غالبا لا تصبح الطريقة الصحيحة متوفرة---

تختفي الشباك—على المرء ان يكون متيقظا

ليجد ساحات لعب تصدر فيها رمية مثالية فعلا صوت "سويش".

للحياة خيباتها ولكنك لا تريد ابنك ان يشعر ان الحياة

دائما او غالبا ما تكون مخيبة

او ان فريق السيكسرز في التلفاز يختلف كليا عن حياته الحقيقية على نحو عديم المعنى—

*

لأنه بحاجة الى ان يؤمن

بأن الحياة تسمح بلحظات سمو—سويش—

*

لذلك فحتى في الوقت الحالي حين اوشك نيك ان يبلغ الأربعين

اينما اجد شباكا جيدة ومحكمة على الحلقات

اسجل ملاحظة ذهنية لنصف ثانية:

يمكن ان نلعب انا ونيك هنا.

الفرق مهم.

***

.......................

* مارك هاليداي: شاعر وناقد واستاذ ادب اميركي من مواليد عام 1949. تلقى تعليمه في جامعتي براون وبرانديز وعمل بالتدريس في عدة جامعات. من عناوين مجموعاته الشعرية: "نجم صغير" 1987؛ "احتفظ بهذا الى الأبد" 2008؛ و"الخاسرون يواصلون الحلم" 2018.

 

بقلم: جوزي ساراماجو

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

لم يسأل الناس عن عمري؟

ما أهمية ذلك.

لي السنّ التي أريد وأحسّ!

السنّ التي أقدر فيها أن أصرخ دون خشية بما أفكّر فيه،

والتي أستطيع فيها أن أفعل ما أرغب،

دون خوف من الفشل أو من المجهول.

لي تجارب سنين عشتها

وقّوة التيقّن في رغباتي.

لا يهمّ كم من السنين أحصي!

أرفض الانشغال بها.

يقول بعضهم بانّي شيخ،

وآخرون بأني في عنفوان حياتي.

ولكن، ليس العمر رقما ولا ما يعتقده الآخرون،

بل هو ما يشعر به قلبي

وما يأمر به عقلي،

لي من السنين ما يكفي

لأفصح عن أفكاري،

لتحقيق رغباتي،

لتقويم طريقي والاستمتاع بانتصاراتي.

لا يمكن أن يقال لي:

مازلت شابّا، لن تصل إلى ما تريد..."

أو أيضا،

"أنت كبير السنّ، بات الأمر مستحيلا..."

لي السنّ التي أتأمل فيها الأشياء بهدوء،

لكن ما نحتفظ فيها باندفاع نحو الكِبر.

السنّ التي تبدأ فيها الأحلام ترتسم بطرف الأصابع،

وحيث الأوهام تتحوّل إلى أمل.

لي السنّ التي يمكن أن يكون فيها الحبّ شعله مجنونة،

راغبة أن تفنى في لهيب العاطفة الشديدة،

أو ميناء سلام،

مثل غروب شمس على الشاطئ.

لم يسألون عن سنّي؟

ليس لي من حاجة قطّ لأحصيه.

أحلامي تحقّقت، وانتصاراتي اكتملت،

والدموع التي سكبتها على أوهامي المحطّمة

أهمّ بكثير من مجرّد عدد.

لا يهمّ أن يكون لي خمسون أو ستون عاما أو أكثر؟

ما يهمّ هو السنّ التي أحس به.

لي من السنين ما يلزم حتى أحيا حرّا دون خوف،

حتى أتقدّم في طريقي باطمئنان

إذ أحمل في نفسي ما حصّلت من تجارب

وقوّة رغباتي.

لم يسأل الناس عن عمري؟

من ذا الذي قد يهمّه؟

لي من السنّ ما يكفي حتى لا أخشى شيئا.

حتى أفعل في النهاية ما أريد وما أشعر به.

لا تهمّ السنين التي مرّت أو تلك التي ستأتي،

بما أنّي تعلّمت بمرور الوقت،

أنّ أحب الأساسيّ

وأن لا أحتفظ إلاّ بالأفضل.

***

جوزي ساراماجو - كاتب برتغالي

............

José de Sousa Saramago est un écrivain et journaliste portugais né le 16 novembre 1922 à Azinhaga (Portugal) et mort le 18 juin 2010 à Lanzarote.

....................

Poème sur la Vieillesse

José Saramago

Que me demande-t-on mon âge ?

Qu’importe cela !

J’ai l’âge que je veux et que je ressens !

L’âge où je peux crier sans crainte ce que je pense,

où je peux faire ce que je désire,

sans peur de l’échec ou de l’inconnu.

J’ai l’expérience des années vécues

et la force de la conviction dans mes désirs.

Qu’importe combien d’années je compte !

Je refuse de m’en soucier.

Certains disent que je suis vieux,

d’autres que je suis dans l’apogée de ma vie.

Mais l’âge n’est ni un chiffre, ni ce que les autres croient,

c’est ce que mon cœur ressent

et ce que ma raison commande.

J’ai les années nécessaires

pour proclamer mes pensées,

pour réaliser mes envies,

pour reconnaître mes erreurs passées,

corriger ma route et savourer mes victoires.

On ne peut plus me dire :

"Tu es trop jeune, tu n’y arriveras pas…"

ou encore,

"Tu es trop vieux, c’est désormais impossible…"

J’ai l’âge où l’on contemple les choses avec calme,

mais où l’on conserve l’élan de grandir encore.

L’âge où les rêves commencent à se dessiner du bout des doigts,

où les illusions se transforment en espoir.

J’ai l’âge où l’amour

peut être une flamme folle,

désireuse de se consumer dans l’incendie d’une passion intense,

ou bien un havre de paix,

comme un coucher de soleil sur une plage.

Que me demande-t-on mon âge ?

Je n’ai nul besoin de le chiffrer.

Mes rêves réalisés, mes triomphes conquis,

et les larmes versées sur mes illusions brisées

valent bien plus qu’un simple nombre.

Qu’importe si j’ai cinquante, soixante ans ou davantage ?

Ce qui compte, c’est l’âge que je ressens.

J’ai les années qu’il faut pour vivre libre et sans peur,

pour avancer sur mon chemin avec sérénité,

car je porte en moi l’expérience acquise

et la force de mes désirs.

Que me demande-t-on mon âge ?

À qui cela peut-il bien importer ?

J’ai les années nécessaires pour ne plus redouter,

et pour enfin faire ce que je veux et ce que je ressens.

Qu’importe les années écoulées ou celles qui viendront,

puisque, avec le temps,

j’ai appris à aimer l’essentiel

et à ne garder que le meilleur.

Le monde littéraire

بقلم: أندريس مونتيرو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

اجتاحني فجأة شعور بالانفصال عن الواقع لا أستطيع وصفه. لقد حدث ذلك، ويجب أن أقول، بينما كنت في الحمام بعد الغداء. سمعت فرنانديز يدخل الحمام وهو يصفر لحنًا مبهجًا، ثم سمعته يغلق الباب، وصوت سحاب سرواله وهو ينزل، والسائل يرتد على المِرَحاض، ثم سمعته يرفع السحاب، وواصل فرنانديز في الصفير بينما يغسل يديه ويمسحهما، ثم فتح الباب وأغلقه مرة أخرى.

في تلك اللحظة بالتحديد، عندما اختفى صفير فرنانديز من مسمعي، شعرت بالضياع وأدركت أن كل شيء لا يمكن إصلاحه. نظرت إلى سروالي، الذي سقط متجعدا فوق حذائي، وإلى فخذي البيضاوين، التي كانت عليهما دائرتان حمراوان حيث كانت مرفقاي ترتاحان. نظرت إلى ربطة عنقي، التي ألقيتها على أحد كتفي لتجنب اتساخها. بدا كل شيء مزيفا أو على خطأ: المكتب، والتقارير، والغداء، والزميلة الجديدة، والحمام، والزران الأخيران من قميصي مفتوحان، وفرنانديز وصفيره المبهج.

هذا ليس له أي أهمية بالنسبة للأحداث التي سأرويها الآن. ومع ذلك، فإنه يفسر لماذا عرضت نفسي للذهاب لاستقبال شريك أجنبي من المطار، وهي مهمة متكررة كنا نرفضها جميعًا بأعذار واهية. كان يجب أن نكون في المطار في الساعة السادسة مساءً. كان الرئيس يوفر السيارة ويدفع أجرة التاكسي للعودة بعد أن نوصِل الشريك إلى الفندق وإعادة السيارة إلى منزله. عندما عرضت نفسي، تلقيت ابتسامة من رئيسي أيضًا.

لكن بمجرد أن دخلت الطريق السريع، أخذت أول مخرج نحو الجنوب وواصلت السير حتى اشتعلت إشارة الوقود، وذلك حوالي منتصف الليل. لم أرد على مكالمات رئيسي في أي لحظة. رأيت محطة بنزين على الطريق، ولكنني مررت بها دون توقف، مدفوعًا بشيء قد يكون الجنون أو، الأكثر احتمالًا، اليقين المؤلم بأن حياتي قد وصلت إلى قاعها منذ سنوات ولم يعد لدي ما أخسره، ولا حتى ما أكسبه. تلاشت محطة البنزين ورائي. دون تفكير، تركت الطريق واتجهت إلى طريق معبد نحو الساحل، الذي تحول بسرعة إلى طريق ترابي، ثم أصبح مجرد درب ضيق، حيث توقفت السيارة أخيرًا.

شعرت بالرضا، لكن مرت ثوانٍ قليلة قبل أن أدرك مدى غبائي.

خرجت من السيارة رغم المطر. هل كانت هناك محطة بنزين في تلك المناطق الملعونة؟ المشي عائدًا إلى المحطة الموجودة على الطريق قد يستغرق ساعتين، إن لم تأخذني الكلاب أولًا. في غياب أي خطة، مشيت في الاتجاه المعاكس، نحو الساحل، دون أن أقلق بشأن غلق السيارة. كما أنني لم أتعب نفسي بإبعادها لتوفير الطريق لسيارة أخرى ضائعة وغير محتملة.

لم يكن يُسمع شيء سوى المطر وأصوات خطواتي، وأحيانًا غناء طائر لم يعثر على عشه. كنت أشعر بحاجة ملحة لأن أكون في مكان آخر، لأن يكون لي ماضٍ وآفاق مختلفة، أن أكون شخصًا آخر، كائنًا مختلفًا. فوق كل شيء، لم أكن أرغب في الاستمرار في البلل.

في لحظة توقفت واعتقدت أنني سمعت خطوات. بقيت في حالة تأهب لثانية. بدا لي أنني رأيت ظلاً يتجه نحوي، لكن كان من المستحيل معرفة ذلك يقينًا في وسط الظلام والعاصفة. تذكرت قصص الشيطان التي كانت ترويها جدتي من جهة آل إليزالدي. كانت قد عاشت في شبابها في مزرعة في الجنوب، أعتقد أن اسمها كان "لاس نالكاس"، وكانت تمضي الأمسيات الطويلة تراقب المطر، سئمت من كونها ابنة صاحب الأرض. بعد سنوات، باعت حصتها التي ورثتها إلى أحد إخوتها وانتقلت إلى العاصمة، لكن المطر رافقها حتى وفاتها. كان والدي، صهرها، يقول همسًا إن "الصليب الجنوبي" كان محفورًا في روحها. عند التفكير في تلك القصص التي سمعتها وأنا طفل، اجتاحني قشعريرة، لكنني هدأت بفكرة أنه إذا ظهر لي الشيطان على الأقل يمكنني أن أبيع له روحي. كانت جدتي أيضًا تقول إن الليل يحمل الكثير من الأصوات وأنه من الأفضل التعود عليها. طردت الذكريات كما يطرد الإنسان ذبابة، لأنه بالطبع لم يكن هناك أحد ، ناهيك عن الشيطان. استأنفت السير.

بعد أن مشيت نحو ساعة تقريبًا في ذلك الطريق المظلم المليء بالحجارة والطين، ظهرت أولى المنازل. أردت أن أنظر إلى الساعة في هاتفي المحمول، لكنني لاحظت أنني قد نسيته في السيارة. كانت الأمطار تتساقط بشكل كبير، لكن لا يبدو أنني سأتمكن من العثور على مكان للإقامة بين تلك المنازل المتناثرة، التي بدت وكأنها قد وضعت عن طريق الصدفة في صحراء خضراء مظلمة، صحراء من الطين. تجولت في القرية كما يتجول الكلب. في النهاية، فتحت ذراعي، ضربت فخذي وبدأت السير عائدًا، بفكرة واحدة فقط: أن أنام في السيارة وأترك المشاكل حتى تهدأ العاصفة.

ثم اكتشفت منزلًا طويلًا تنبعث من نوافذه بعض الأضواء الخافتة، منزلًا مهدمًا قليلاً لكنه قائم على أرض واسعة، منعزل. توجهت نحوه. كنت أشعر بالضعف بسبب الجوع والبرد، وأردت أن أتخيل عائلة من الجنوب تنتهي من العشاء وتدعو لي لإنهاء ما تبقى من الطعام. فكرت حتى في امرأة جميلة، ربما تكون الابنة، التي ستعرض عليّ سريرها تلك الليلة. تخيلت مدفأة مشتعلة، واحتمال تجفيف ملابسي. لكن كلما اقتربت، كان عليّ أن أستبدل خيالاتي، إذ كانت تُسمع أصوات من داخل المنزل وعزف قيتار. ربما كان هناك احتفال، أو عيد ميلاد. كان هناك بوابة بدائية مربوطة بسلك على عمود خشبي؛ نوع من السياج للحيوانات. بدا من غير المحتمل أن يكون هناك احتفال في يوم ثلاثاء، خاصة مع هذا البرد وفي وقت متأخر من الليل. تقدمت بحذر، خشيت أن يخرج الكلاب. وعندما وصلت إلى المنزل، طرقت الباب ثلاث مرات. فتحت لي فورًا امرأة في منتصف العمر، وكان لديها هالات سوداء تحت عينيها. بدت شاحبة من الألم أو التعب أو ربما من كليهما. كنت سأعتذر عن الوقت المتأخر وأشرح سبب وجودي، لكن لم يكن ذلك ضروريًا: فقد عانقتني بقوة وبصدق، ورغم المفاجأة، شعرت أنه يجب عليّ أن أبادلها العناق. شكرتني على هذا الجواب. فوق كتفها، لاحظت أن هناك المزيد من الناس داخل المنزل، كان عددهم اثني عشر شخصًا كما تمكنت من التأكد بسرعة. كانت الإضاءة خافتة، مخفية بستة شموع، ثلاث على كل جانب من صندوق خشبي مستطيل الشكل: تابوت.

قالت المرأة مرحبة، ودعتني للدخول:

- كنا نظن أنك لم تلاحظ.

دخلت المنزل منتظرًا اللحظة المناسبة لتوضيح سبب قدومي وسؤالهم عن أقرب محطة بنزين. لكن، بمجرد دخولي، نهض الجميع لتحيتي واحدًا تلو الآخر، كما لو كنت شخصًا مهمًا أو كما لو أن جميع الغرباء يُعتبرون أشخاصًا مهمين في ذلك المكان المنعزل. كان معظمهم يبكي. ولا شك أن عيوني المرهقة من السفر والتعب قد بدت متناسبة مع الموقف.

قالت المرأة التي فتحت لي الباب:

- تفضل بالجلوس، من فضلك. هل أنت جائع؟

أومأت برأسي. فكرت أنه يمكنني شرح سبب وجودي بعد تناول شيء. غادرت المرأة غرفة المعيشة الصغيرة وذهبت إلى ما ظننت أنه المطبخ. كما كنت أتخيل، كانت المدفأة مشتعلة وكان الجو دافئًا بشكل مريح.

قال لي رجل بدا لي أنه زوج المرأة:

- أعطني معطفك وحذاءك، الجو بارد جدًا.

سلمته معطفي وحذائي وأنا أحاول الابتسام. وضع الرجل الأشياء بجانب النار ثم أعطاني زوجًا من الجوارب الصوفية. قال:

- ارتدِ هاتين إن أردت، وإلا ستشعر بالخدر.

لبستهما في الحال. كانت الإحساس مريحًا. جلست على كرسي، وكأني واحدا منهم، وكان ذلك يبدو مقلقًا لهم لأن العازف على الجيتار لم يعرف إذا كان يجب أن يواصل العزف أم يصمت تمامًا. لم يكن ذلك يهمني بالطبع، وفجأة شعرت بتعب شديد حتى فكرت أنه ربما يمكنني النوم هناك في تلك اللحظة. في النهاية، قرر العازف الاستمرار في العزف. كانت اللحن حزينة. وكان الآخرون يرافقونه بأعينهم، يحدقون في التابوت. تغلب الفضول على النعاس، فنهضت لأقترب من الصندوق. كان مغلقًا.

قال لي رجل شاب ذو شارب، وفتح الغطاء العلوي للصندوق الخشبي:

- سأفتح لك الآن. كنا ننتظر وصول الفتاة التي كانت ستعدّل وجهها قليلاً، لكن يبدو أنها ستأتي غدًا.

كانت هناك شابة جميلة في العشرينات من عمرها. كانت عيناها مغلقتين وفمها مفتوح قليلاً. بدا لي أنها كانت بحاجة إلى مكياج، ربما بعض القطن في فمها كما رأيت في بعض الحالات. كان شعرها طويلًا ومستقيمًا، ويبدو أنه تم تمشيطه مؤخرًا. كانت بشرتها بيضاء. شعرت أنها ستكون باردة. قال الرجل ذو الشارب:

- لا نعرف في أي وقت حدث ذلك. لقد وجدناها هذا المساء.

قلت لنفسي " يا إلهي! شابة في هذا العمر! ثم سألت:

- هل كانت مريضة؟

نظر إليّ الرجل ذو الشارب. وعندما تحدث، كانت كلماته بالكاد مسموعة.

- ألم تعلم؟ كان قتلًا.

- مستحيل.

همست، لكنني فكرت بعد ذلك: نعم، ربما يكون الأمر كذلك؛ فما الذي أعرفه عن هذا كله؟

- نعم. كان قتلًا جبانًا. اثنا عشر طعنة، وكأن ذلك كان ضروريًا.

قال آخر كلماته وهو ينظر إليّ بنظرة ثابتة، وكأنه أراد قول شيء آخر لكن الظروف حالت دون ذلك. أومأت برأسي وعُدت إلى مقعدي. أكمل العزف على الجيتار والغناء البطيء المتعب حتى أرهقني تمامًا. أعتقد أنني بدأت في الحلم. عثر أحدهم على قدمي مما اضطرني لفتح عيني. لم أرد أن أبدو وقحًا، فتوجهت نحو المطبخ حيث كانت المرأة التي فتحت لي الباب. كنت أفكر في تجاهل الطعام وكل شيء آخر؛ الجو هنا لم يكن مناسبًا لطلب المبيت. كان يكفيني أن يدلوني على مكان يمكنني فيه الحصول على وقود.

كانت المرأة وحدها، تحدق في القدر الذي كان على موقد الحطب وكأن عيونها هي ما يجعل القدر يغلي. تعرفت علي في الظلام. قالت:

—الأكل صار جاهزًا تقريبًا.

—لا داعي للقلق...

بدأت أقول، لكن المرأة انفجرت بالبكاء المكبوت واندفعت إلى ذراعي. لم أستطع إلا أن أمسك بها.

بحثت في ذهني عن جملة من العبارات التي تقال في مثل هذه المواقف، لكن لم أستطع أن أجد شيئًا. لم أكن أستطيع التأثر بهذا الدراما العائلية الغريبة. قررت أنني سأغادر هنا فورًا.

- يجب أن تعرف من فعل ذلك.

قالت المرأة ذلك ، وهي ما زالت مستندة إلى صدري:

لم أكن متأكدًا إذا كنت قد فهمتها بشكل جيد. أضافت:

- اقسم لي أنك ستكتشف الأمر.

- سيدتي ، أعتقد أن هناك سوء فهم.

- بالطبع هناك سوء فهم! لماذا يقتلون إيلينا؟ لديك الوسائل لمعرفة ذلك. يجب أن يعرف أحد ما.

لم يكن الوقت مناسبًا لشرح موقفي بعد. ليس أمام أم تبكي على موت ابنتها. بدا لي أن السؤال عن الوقود سيكون وقحًا. كل ما استطعت قوله:

- أنا لا أعرف شيئًا، سيدتي...أنا آسف جدًا لما حدث لإيلينا.

سألت الأم وكأنها لم تسمعني:

- لماذا لم تأتِ من قبل؟

- لقد وصلت للتو، سيدتي.

- بالطبع، نعم، نعلم أنك رجل مشغول. لم أوجه لك اللوم. لكن لا أستطيع أن أوقف تفكيري: لو كنت مع إيلينا، لكان بإمكانك الدفاع عنها.

- أظن، سيدتي، أنك تخلطين بيني وبين شخص آخر.

قالت المرأة وهي تمسح وجهها بمئزر المطبخ:

- قد يكون ذلك. كنا نعرف والدك جيدًا، وخاصةً زوجي. لم أرك منذ كنت صغيرًا. ومع ذلك، أشكرك لأنك وصلت اليوم. وجودك هنا شرف لنا. تفضل، خذ بعض الطعام.

وضعت طبقًا من العدس المغلي على الطاولة ودعتني للجلوس. نسيت كل شيء: الارتباك، السيارة، الوقود، وضرورة مغادرة المكان. أكلت على عجل، فأحرقت لسانى. طلبت المزيد بلا خجل.

- كنت أظن أنك معتاد على نوع آخر من الطعام.

قالت ذلك ، دون أن تتوقف عن مراقبتي وأنا ألتهم العدس.

-  على الإطلاق. هذا لذيذ جدًا. وأعترف أنني كنت جائعًا جدًا. آسف لأنني ظهرت هنا وسط العزاء، فقد تهت عن الطريق.

- كيف وصلت إلى هنا؟

-  مشيًا على الأقدام، لهذا كنت مبتلًا.

- وأين حصانك؟

كانت فمي مليئًا بالعدس، فرفعت حاجبيّ لأشير إلى أنني لا أعرف عن أي شيء تتحدث.

أضافت:

- إذن، ما قاله جويل صحيح. أنهم رأوا حصانك في هذه المنطقة.

- حصاني؟

أومأت برأسها ببطء. قبل أن أتمكن من سؤالها عن البنزين، غادرت المطبخ وتركتني بمفردي. أكملت طعامي بهدوء ودون استعجال. ثم وضعت الصحون فوق كومة من الأواني المتسخة وعُدت إلى الغرفة الرئيسية. توجهت مباشرة نحو النار، ثم تحسست معطفى وحذائي. لم يكونا جافين تمامًا، لكنني تمكنت من ارتدائهما. هذا ما فعلته. بدا وكأن لا أحد يولي لي اهتمامًا، رغم أنني لاحظت أنهم في الواقع لم يرفعوا أعينهم عني. نهضت من مكاني وألقيت نظرة أخيرة على إلينّا. بدا لي أنها أكثر جمالًا الآن، وأدركت أن لها صدرًا كبيرًا. لمت نفسي على الاهتمام بتفاصيل كهذه أمام جثة، لكنني لم أستطع منع نفسي من تخيلها حية، تمشي عبر الحقول الجنوبية، كما لو كنت أعرفها.

كنت أشعر بشيء غريب. في النهاية، ارتديت معطفي، فقد أصبح جافًا تقريبًا.

-  هل تخرج للتدخين؟

كان هو الشاب ذو الشارب. كنت سأجيب بالنفي وأقول إني سأغادر، لكن فجأة شعرت برغبة شديدة في التدخين.

خرجنا معًا. كان المطر قد توقف، لكن البرد كان يخنق الأنفاس. لطالما كنت أفضل التدخين في البرد. عرض عليّ سيجارة من ماركة كنت أظن أنها اختفت.قال الشاب مبتسمًا.

- لا أعتقد أنها جيدة مثل تلك التي تدخنها أنت.

- في الواقع، لم أدخن منذ سنوات.

نظر إليّ الشاب بدهشة ثم ضحك.

- يقال الكثير عنك. لا أصدق أنني ألتقي بك الآن. استطعت أن أتعامل مع والدك في وقت ما.

- أنا لست الشخص الذي تعتقدونه، يا صديقي.

حاولت أن أوضح ذلك لكن لا أحد يستمع لي.

- ربما، القصص تنمو وتكبر وفي النهاية لا نعرف الحقيقة أبدًا. عذرًا، لم أقدم نفسي. أنا جويل فيريرا، في خدمتكم.

ثم مد يده إليّ وهو يقولا:

- أنا صديق للعائلة. نشأت مع إلينّا تقريبًا.

- تشرفت بلقائكم.

أشعلنا السجائر. فوجئت بعدم اختناقي، كما يحدث عادة بعد فترة طويلة من التوقف عن التدخين. كانت تلك اللحظة مريحة للغاية.

قال فيريرا، مشيرًا برأسه داخل المنزل:

- إنها مصيبة.

- هل قالت الشرطة شيئًا؟

ضحك فيريرا بمرارة، وكأنني قلت نكتة سيئة.

قال:

- ما يتم استبعاده هو الانتحار. السيد عليّو لديه أكثر من سلاح في المنزل، وإلينّا لم تكن لتفعل ذلك بنفسها باستخدام سكين، كما لو كانت حيوانًا.

صدمتني صورة إلينّا وهي تدفن السكين في جسدها.

- بالإضافة إلى ذلك، من يقتل نفسه قبل أن يتزوج؟ لا أحد.

قلت، محاولًا قول شيء:

- إلا إذا لم تكن ترغب في الزواج

نظر فيريرا إليّ بنظرة ثابتة.

- لماذا تقول ذلك؟

لا أرى سببًا آخر يجعل شخصًا على وشك الزواج ينتحر. ألم تكن تعلم إذا ما كانوا يضغطون عليها؟

- يجب أن يكون هذا من المفترض أن تعرفه أنت، سيدي.

- لماذا أنا؟

- ألا يجب أن يعرف ذلك العريس؟

لقد أدركت أن المحادثة كانت تتسلل إلى ما هو أبعد مما أستطيع التعامل معه. وكان هناك أيضًا شيء غامض في الطريقة التي نظر بها فيريرا إلي، وعندما جمعت الأسماء معًا أدركت أنه هو الذي قال إنه رأى حصاني في تلك الحقول. أنا لست مراقبًا جيدًا، لكنني فهمت على الفور أن هذا الشاب كان يحب إيلينا تمامًا وأنه يكره هذا الرجل الذي خلط بيني وبينه. وقفت إلى جانب ذلك الكائن الخيالي، وأخبرني شيء داخلي أنه يجب عليّ أيضًا أن أكره فيريرا، أو على الأقل ألا أثق به.

فقلت ذلك، فقط لتحطيمه. فقط لأنني أردت ذلك:

- أنت كنت تحبها.

أصيب فيريرا بالصدمة فعلاً. رمى السيجارة بعيدًا دون أن يهتم بإطفائها. قبل أن يدخل المنزل، وقال وهو يمسك قبعته بإحكام:

- كنا مثل الإخوة، سيدي.

بقيت في الخارج، وحيدًا. كانت الليلة تبدأ بالصفاء، وإذا مشيت بسرعة جيدة فلن أشعر كثيرًا بالبرد. رميت السيجارة نصف المدخنة بعيدًا، كما رأيت فيريرا يفعل، ومن دون أن ألتفت إلى البيت، نزلت الدرجين الخشبيين واتجهت نحو البوابة التي عبرتها قبل ساعة. لكن عندما رفعت سلك السياج، لاحظت أن محفظتي ومفاتيح السيارة مفقودة من جيبي: بلا شك سقطتا عندما وضع الرجل المعطف ليجف. عدت مسرعًا إلى المنزل وطرقت الباب. قال السيد عليرو عندما رآني:

- كنا نظن أنك قد ذهبت. لن ترغب في العودة في هذه الساعة، لقد أعددنا لك غرفة.

لم أزعج نفسي بشرح أنني سأرحل. عبرت الغرفة مباشرة نحو المدفأة، متعثرًا أكثر من مرة، وحاولت أن أبحث عن المفاتيح بأقدامي في الظلام.

قال لي دون عليرو من الباب الذي كان أمام المطبخ والذي كان يؤدي إلى ممر:

- من هنا يا سيد.

ترددت لثانية واحدة، ولكن في النهاية تغلب علي الفضول أو التعب وتبعته، متمسكًا بالجدران حتى لا أتعثر. تقدمنا بضعة أمتار. ثم أغلق دون عليريو الباب بعد أن عبرناه وهدأ ضجيج الصراخ تقريبًا تمامًا. وأخيرا أظهر لي الغرفة.

- هذه هي، غرفة إيلينا وأماندا. يمكنك أن تستلقي الآن إذا أردت. سأترك لك الشمعة.

نظرت إليه دون أن أفهم. وضع الرجل يده على كتفي.

- "النَّيْجرا" لم ترد أن تحذرني، لكنني متأكد أنها كانت تعلم. أنا محطم، يا بني

كنت على وشك أن أسأل من هي "النَّيْجرا" ، ما الذي يحدث بحق الجحيم في هذا البيت المجنون، لكن الرجل غادر قبل أن أتمكن من طرح سؤالي، وأغلق الباب برفق. كنت أنوي أن أفتح الباب وأصرخ خلفه من أجل مفاتيحي ومحفظتي، لكن التعب اللامتناهي أجبرني على الجلوس أولاً على أحد السريرين في الغرفة. كانت المرتبة صلبة، لكن وجود عدد لا يُصدق من البطانيات كان ينذر بنوم عميق وجميل. خلعْت معطفي واستلقيت، وأنا لا أزال مرتديًا ملابسي، فقط لكي أغلق عيني لثانية، حيث لم أكن قادرًا على التفكير بوضوح.

شعرت وكأن ثوانٍ قليلة قد مرت عندما فُتح الباب فجأة، وربما لم يكن قد مضى وقت طويل حقًا، لكن قد أكون نمت لفترة جيدة أيضًا. أشك في ذلك، لأنني لاحظت مدى البرودة عندما فتحت عيني.

جلست ورأيت امرأة تشبه إيلينا تمامًا في الباب، تحمل شمعة كان ضوءها يشوه وجهها. وعندما رأتني، بدا أنها كانت أكثر خوفًا مني.

- أنت هنا!

تلعثمت:

- أعتذر، سيدتي. عرض عليّ الدون عليريو هذه الغرفة. سأغادر الآن.

- لا تقلق، يمكنك النوم في سريري. سنتحدث غدًا.

توجهت للرحيل، لكنها بدت وكأنها أدركت شيئًا وقالت:

- لم تَخاطبني بـ 'سيدتي' من قبل.

- ماذا؟

سألَت، مخفضة صوتها:

- لماذا هذه الرسمية؟ لا أحد يمكنه سماعنا هنا.

بقيت صامتًا، منتظرًا.

- لم أَرَ حصانك في الخارج. كيف وصلت إلى هنا؟

- على الأقدام.

- إذن ما يُقال صحيح. لقد رأوا حصانك ضائعًا، دون فارسه. ألن ترى؟

"أرى ماذا؟

نظرت نحو الممر، ثم أغلقت الباب.همست:

- أمي تشك في شيء. لا أعتقد أنه يجب أن تبقى هنا.

- ليس لدي مكان أذهب إليه. لقد تركت....

- عليك أن تختبئ.

- سأرحل في الصباح، سيدتي، إذا كان الأمر مناسبًا لك.

- لماذا تتحدث إليّ هكذا؟ هل بدأت تغير رأيك؟

- عن ماذا؟

اقتربت مني، مترددة.

- إذا كنت قد خدعتني، سأخبر بكل شيء وسيقتلك جول.

-لماذا يقتلني؟

- جول ليس غبيًا. هو يعرف كل شيء. حالما يثبت ذلك، سيقتلك.

- لن يقتلني أحد.

- أتمنى ذلك.

ثم اقتربت وطبعت قبلة على شفتي.

همست وهي ترفع يدي إلى قلبها، على صدرها الأيسر.

- هل تشعر؟

شعرت بحركة ملحة في منطقة خصري.أضافت:

- هل تشعر بنبضه؟

متحمسًا، أردت أن أواصل تقبيلها، لكنها ابتعدت.

- ليس الآن. عليك أن تذهب. كيف استطعت أن تضيع الحصان؟

- لم يكن لدي حصان.

- لا تكن سخيفًا، فقد رآك الجميع وأنت تركب فاوستو في وقت ما. سمعت أن فيرمين خرج للبحث عنه. ربما من الأفضل أن تبقى هنا. لكن نم في ملابسك، لأنهم إذا وجدوه، سيأتون لأخذك. سأراك عندما ينتهي كل شيء. وإذا تركت رسالة واحدة دون رد، سأفتح فمي وأدمرك.

قبلت شفتي مرة أخرى ثم غادرت. أردت أن ألاحقها وأجعلها تقضي تلك الليلة الباردة معي، لكنني شعرت بتغير مفاجئ في رأيي. كان هناك مزلاج على الباب، فقررت أن أغلقه دون أن أعرف بالضبط ما الذي كنت أخشاه.

نمت بعمق، بينما كنت أستمع إلى صوت الجيتار والأغاني الحزينة التي كانت تُسمع من بعيد، كأنها جزء من حلم.

استيقظت بعد ساعات قليلة على طرق خفيف على النافذة. كان الفجر قد بدأ ، وأخذ ضوء الصباح يدخل الغرفة شيئًا فشيئًا. وكان البرد قارسًا.

نظرت من خلال النافذة، وكان هناك رجل ذو لحية وقبعة من القش، يلوح لي بشكل عاجل. عرفت على الفور أنه فيرمين. نهضت وأشرت له أنني سأفتح المزلاج وأخرج من خلال الممر، لكن الطرق على الزجاج أصبح أكثر إلحاحًا. نظرت إليه، وكان يشير بيديه بشكل عاجل ألا أخرج من هذا الطريق. اقتربت من النافذة وفتحتها.

- ليس من هنا، يا سيدي! لن يتركوك تخرج.

- لماذا لا؟

- كيف كنت تفكر في النوم هنا؟ إنه فخ. فيريرا لن يتركك تذهب. إنه مسلح، وهذا الذي مع الجيتار أيضًا مسلح. حالما يحصلون على دليل، سيقتلونك.

- كيف أخرج إذن؟

- عبر النافذة بالطبع، لا يوجد طريقة أخرى. لقد جهزت فاوستو. لقد كان من الصعب جدًا أن أجدَه.

- إلى أين أنا ذاهب؟

- ارجع إلى الفندق على عجل.

- لا أعرف كيف أذهب إلى هناك."

- لكن فاوستو يعرف. وأنا خلفك مباشرة.

تسلقت النافذة بأفضل ما أستطيع، وشعرت فجأة بالذعر. شعرت أنني أُصدر الكثير من الضوضاء، لكن لم يخرج أحد من المنزل. كنا في الحديقة الخلفية.

- اصعد، فاوستو جاهز لك.

تسلقت على ظهر فاوستو وأمسكت باللجام. نظر فيرمين حوله.

قلت بهدوء:

لقد تركت معطفي في الغرفة.

- لقد انتهى الأمر الآن، لا يمكنك العودة لأخذه."

ثم نظر إلى قميصي وعبس.

- لا تزال هناك دماء على كمك، يا سيدي.

مذعورًا، أدركت أنه على حق. كان الدم الداكن يلطخ ذراعي. لففت كمّي بسرعة وأعطيت فاوستو ركلة قوية على خاصرته. ركب فيرمين حصانه وتبعني. اعتقدت أنني سمعت أصواتًا قادمة من المنزل، ربما بندقية تُحمّل.

أخطأت الطلقات الأولى هدفنا بمسافة كبيرة، وقد ضاعت بالفعل في الظلام، في صحراء خضراء، تلك الصحراء الطينية، ونحن نركض نحو مكان حيث لا يمكن أن تصلنا الشمس التي كانت تشرق ببطء وراءنا. على ظهر فاوستو، مع الرياح القارسة التي تلسع وجهي، شعرت برغبة لا تقاوم في التدخين.

(تمت)

***

....................

المؤلف: أندريس مونتيرو /Andrés Montero كاتب وحكواتي مقيم في سانتياجو، تشيلي. له تسعة كتب، إلى جانب رواية جديدة ستنشر في وقت لاحق من هذا العام. تم نشر كتبه في تشيلي والأرجنتين والمكسيك وإسبانيا وإيطاليا والدنمارك. بالإضافة إلى الكتابة، فهو داعم نشط للتقاليد الشفوية في سرد القصص في تشيلي، حيث كان أحد المؤسسين لشركة " La Matrioska" التي تضم حكواتيين محترفين، وهو مدير ومدير Casa Contada، مدرسة الأدب والحكي الشفوي.

 

بقلم: سارة برودي

ترجمة: صالح الرزوق

***

 تكتب ستايسي الآن رسائل إلى الله. أوو - ه. يسميها سام النبية الصغيرة. يقول لها: يا نبيتي الصغيرة. هذا لأنها تتكلم مع الله. شيء مضحك. هل أنتم معي؟. يوميا بعد المدرسة تصعد السلالم وتستلقي تحت سريرها - نعم تحته مع مصباح يدوي - وتكتب هذه الرسائل. أول الأمر قلت لنفسي: حسنا، إنها هادئة، وهي تكتب، وبحق بطرس، من يهتم بموضوع كتاباتها؟. ولكنها شدت أعصابي. ماذا لدى بنت بعمر ثماني سنوات من أمور لتفضي بها إلى الرب ولا يمكنها أن تخبر بها أمها؟. أتذكر يوم مولدها. أحضروها لي، وكل ما فكرت به كم كان مظهرها قبيحا، كأنها سمكة قنفذ الماء، بكل تلك الأطراف المرتجفة الصغيرة -  وأتذكر أنني قلت لنفسي: يا رب من فضلك لا تتركها قبيحة. كانت سام تود حلاقة شعرها لأنه متشابك وتفقده ويسقط في كل مكان  ولكنه شعر جميل، وغزير جدا، ولكن الرجل لا يحب ذلك. أقصد أنه يحبه حين يراه، ولكنه لا يربط بين الأمور.  والرجال لا يفهمون أن الجمال مرهق، وهو صعب. ولذلك أرادت حلاقة شعرها. رفضت. والآن تكتب الرسائل للرب.

في إحدى المرات رافقتها إلى مرفأ سانتا مونيكا. كانت بالسادسة أو الخامسة من عمرها. لا يمكن أن أتذكر. تابعنا بالسيارة حتى سانتا مونيكا. كان يوما مشرقا وساطعا، وكانت هي الملاك في هذا الزحام، جلست في السيارة بظهر مستقيم ويداها في حضنها، مثل بوذا صغير. ابتسمت. ثم وصلنا، وحالما غادرنا السيارة، بدأت بالعويل. قلت لها: انظري يا عزيزتي. انظري إلى دواليب الهواء، ألا تودين الركوب في دولاب الهواء؟.

نظر الناس نحونا.  أقسم. لحظة خرجنا من السيارة. تناولت يدها، وحاولت أن أدفعها لتمشي، ولكنها لم تتحرك وسقطت على ركبتيها. وبدأت بالنحيب. ملامح وجهها - كانت تبدو حزينة، الحزن العميق. كأنها تشعر بالأذى من شيء طالت معاناتها منه. ماذا تعرف بنت بعمر ست سنوات عن الحزن؟. وها هي تكاتب الله الآن. لم يمكنني حملها، كانت تركل، ولم تسمح لي حتى بالركوع إلى جانبها، أوقفتها قائلا: توقفي يا ستايسي، من فضلك توقفي. ما المشكلة يا ستايسي؟. ألا تودين إخبار أمك بالمشكلة؟ الناس ينظرون إلينا.

ضربت الرصيف بقبضتيها. وثوبها - اشتريت لها هذه الثياب الزرقاء الباهتة للطقس المشمس - غير أنها تلفت. ثم، وبلا إنذار، توقفت. وقفت ونظرت لي وقالت: حسنا لنذهب إلى دواليب الهواء.

حسنا في تلك اللحظة، لم أكن بالمزاج المناسب. المفروض أن تتعاملي مع  مواقف من هذا النوع - صحيح؟. أعني عليك تقديم النصائح المفيدة - صحيح؟. قلت: أيتها الشابة، لقد ضيعت فرصتك؟.

قالت: ماذا؟.

لم تكن تعرف هذا التعبير. طبعا لا تعرفه. كانت في السادسة أو الخامسة. وقررت: طيب، لن نعود إلى البيت الآن، ولكننا لن نذهب للعبور من الجسر أيضا. وفكرت أن أقودها إلى الشاطئ  وكانت هذه مصالحة عادلة. 

أحب الشاطئ. وأحب الطريقة التي يجب أن تطرفي بها عينيك. وأحب صوت المحيط فهو يشبه خرير المذياع. ليس لدينا مناشف ولا ثياب سباحة، لذلك عريتها وبقيت بثيابها الداخلية، وحملت كتابي من السيارة - وهو "إلى المنارة"، ولكن لا أعلم كيف تذكرته، وجلست على الرمل، أراقبها، وأنا اقرأ بعين واحدة. هل تعلمين كيف يكون الحال وأنت تؤدين عدة أعمال بوقت واحد، وفي النهاية لا تؤدين أي عمل منها؟. هكذا كان الحال. الضجيج الأبيض للمحيط والرمل الحار الملتصق بساقي. وطعم الملح. وتلويحة أشجار النخيل. وصلت في الكتاب إلى نقطة مد بها السيد رامزي يده نحو السيدة رامزي، ولكنها كانت قد رحلت. كنت أبذل نصف اهتمامي فقط، كما قلت، وكنت منزعجة من نفسي لأنه من المفروض أن تشعري بالقشعريرة في تلك النقطة في الكتاب.  السيدة رامزي. الآن لدينا هناك أم. عموما، بدأت بفقرة، وحاولت تفهمها، وجاءت ستايسي وقدمت لي دولارا من الرمل. قالت: إليك يا ماما. وجدت هذا من أجلك. تلك النظرة مجددا، وذلك الحزن نفسه. أنا أتخيل ذلك. لا بد أنني أتخيل هذا. دائما أردت أن أكون أما. ليس لأنني محرومة من الطموحات - كنت أود أن أصبح عالمة أحياء بحرية أيضا، لدي رغبة عارمة - ولكن أردت دائما أن أكون أما. دفتر خربشاتي. من غيري يهتم بدفتر خربشاتي؟. لدي كتب بوغو مصورة قديمة في مكان ما في المرآب - اشتريتها بدولار لكل عدد حينما كنت بعمرها - وكنت سأمنحها لشخص ما. انظري، يجب أن أخبرك بشيء. أنا أقرأ الرسائل - أقصد التي ترسلينها إلى الله. أعلم أن هذا خطأ، ولكنها قدمتها لي لإرسالها بالبريد -  ليس لدي فكرة إلى من تعتقد أنني سأرسلها - وكنت أحتفظ بها في درج مرآة الزينة. في أحد الأيام، حينما كانت في المدرسة، جلست وقرأتها كلها. أنت تعلمين ما هي؟. هي قائمة أشياء ترغبين بها. كأنها تخلط بين الرب وسانتا كلوز. عزيزي الله، من فضلك امنحني زلاجة "رازير". أشياء من هذا النوع. أحبها. طبعا أحبها. ولكن أحيانا لا أعلم ماذا أفعل. تعتقدين أنك ستعيشين بطريقة ما، ولكن لاحقا تنجبين طفلة وكل ما تفعله هو أن تبتعد عنك. وهذا كل ما يفعله الأبناء.

***

.......................

* سارة برودي Sara Brody كاتبة أمريكية. تعمل بائعة للكتب في منطقة خليج سان فرانسيسكو. القصة منشورة في أدريوت The adroit.

 

بقلم: تشيس تويتشل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

سرب من الأسماك الرمادية الميتة يطفو

أمام عيني - يطفو.

لا ردود تأتي عندما أنادي.

هل هذا ما ستكون عليه الشيخوخة؟

لا، هذه هي الشيخوخة الآن.

أحب أن آخذ رشفات صغيرة من الرعب،

لقيمات من اللحم المسموم،

كل مذاقٍ تمهيدٌ للمذاق المقبل.

أستعد للألم القادم،

ليس هذا الألم.

تلك هي الكذبة التي أخدع بها نفسي.

***

.................

الشاعرة : تشيس تويتشل/  Chase Twichell: (وُلدت في 20 أغسطس 1950) هي شاعرة أمريكية، أستاذة، ناشرة،  ومؤلفة لعدة مجموعات شعرية. بعد سنوات من التدريس، أسست دار Ausable Press للنشر، التي تختص في نشر الشعر المعاصر. تقضي وقتها بين ساراتوجا سبرينجز في ولاية نيويورك ومنطقة الأديروندكس.

بقلم: شاستا جرانت

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

على متن حافلة في الصين، أخبرني رجل ذات مرة أن ابني ليس ابني حقًا. ابني أسود وأنا بيضاء. لم نمر دون أن يلاحظنا أحد في الصين، حيث عشنا لمدة عامين. كان الناس يلتقطون صورًا لنا دون أن يطلبوا إذنًا، كانوا يضعون أيديهم على شعر ابني المجعد. لم يكن يحب أن يلمسه الغرباء.

كنت أتعلم اللغة الصينية من جارتي في الطابق العلوي، وعلى الرغم من أنني كنت سيئة فيها، إلا أنني تمكنت من تعلم بعض العبارات ونقلتها إلى ابني الذي كان يبلغ من العمر ثلاث سنوات. علمته أن يقول "بو ياو" عندما يلمس شخص ما شعره. كان هذا الرجل على الحافلة مع مجموعة من الطلاب يرتدون بدلات رياضية بيضاء موحدة؛ وكان هو مدربهم.

كنت أنا وابني في طريقنا إلى المنزل من متجر البقالة، وكانت أكياس التسوق عند قدمي. سألني، بإنجليزية معقولة، إذا كان الولد الجالس في حجري هو ابني. قلت نعم، هو كذلك. ثم قلتها مرة أخرى بالصينية: "تاشي وودي هايزي".

سألني الرجل إن كنت من جنوب إفريقيا. أخبرته أنني أمريكية. ترجم ذلك للأطفال الذين كانوا يرتدون البذلات الرياضية. امتلأت وجوههم بالسعادة وهم يهتفون: "أمريكا!" سألني إن كان زوجي من جنوب إفريقيا. قلت إنه أمريكي مثلي. سألني إن كان زوجي أسود، فأومأت برأسي نفيًا.

قطب الرجل حاجبيه. نظر إلي وإلى ابني مرة أخرى. قلد بحركة يديه بطنًا حاملًا وسألني مرة أخرى إذا كان الصبي هو ابني. أخبرته أن ابني متبنى. أخبرته أن ابني من إفريقيا. أخبرته أن ابني يتيم، على الرغم من أن هذه ليست كلمة نستخدمها في عائلتنا. أردت أن أتوقف عن الحديث معه. أردت أن أبتعد عنه وعن أسئلته المتطفلة.

لماذا لم يستطع أن يرى أنني وابني ننتمي لبعضنا؟

في أول يوم لنا معًا، عندما أصبحنا أسرة مكونة من ثلاثة أفراد، لم يكن ابني يقبل أن أضعه على الأرض. كان عمره أربعة عشر شهرًا وحملته طوال ذلك اليوم، خلال وقت الغداء والعشاء، أثناء القيلولة، وفي نزهاتنا على طول الطريق الترابي حيث أقامنا في دار ضيافة لمدة أسبوع، في انتظار موعدنا في السفارة. لم نكن نعرف إذا كان يستطيع المشي بعد. فكرت في الأطفال في بالي، الذين لا تلامس أقدامهم الأرض خلال الأشهر الستة الأولى. لكن لم يكن لدينا سوى يوم واحد فقط. في اليوم الثاني لنا معًا، كان يخطو بخطوات غير ثابتة بين الأعشاب، ووقفته واسعة وساقاه على شكل قوس. كان بالفعل ينفصل، يعلن استقلاله كما يفعل الأطفال الصغار.

عندما فهم هذا الرجل أخيرًا كيف أصبحت عائلتي عائلة، أومأ برأسه في إشارة إلى الفهم. قال:

- لا أظن أنه ابنك

قلت بإصرار:

- هو كذلك! هو ابني.

قلد حركات تنطيط كرة سلة ثم رمى الكرة الخيالية نحو السلة الخيالية. قال شيئًا بالصينية للأولاد. فصرخوا: "كوبي براينت". أشار الرجل إلى ابني وسأل إذا كان يعرف كوبي براينت .

في وقت لاحق، لماذا كلفت نفسي عناء التحدث مع هذا الرجل . لا أعرف لماذا؛ ربما كنت أعتقد أنه إذا تحدثت بما فيه الكفاية، قد يفهم ويصدق أن ابني هو ابني حقًا. كنت أحتاج إلى اعترافه بذلك. بعد أن تمت الموافقة على أوراقنا من قبل السفارة الأمريكية في إثيوبيا، عدنا إلى وطننا. دخل ابني أمريكا بجواز سفر إثيوبي، والذي تم استبداله لاحقًا بجواز أمريكي. في أمريكا، يعرف الناس قصتنا دون الحاجة للشرح. لكن في الصين، كان الناس يحدقون، يحاولون فهم علاقتنا. نحن معًا. يي تشي

ابني الآن في الصف الأول، وقد أصبحنا نقضى أيامنا بعيدًا عن بعضنا البعض. لم نعد نركب الحافلة معًا في منتصف اليوم. أصبح لديه صداقات وأحاديث، وأيام كاملة، لا أعرف عنها شيئًا. بعد المدرسة، نمشي معًا عائدين إلى شقتنا، وأسالُه عن يومه فيجيب عادةً "جيد" وقليلًا من الكلام غير ذلك. أحيانًا، إذا ابتعد عني قليلاً أو تخلف عني أثناء سيرنا على الرصيف، أخشى ألا يعرف الناس أنه ابني، وأنني أمه. إذا كانت هناك مسافة كبيرة بيننا، أخشى ألا يعرف الناس أننا ننتمي لبعضنا.

في ذلك اليوم على الحافلة في الصين، كانت هناك محطتان يمكننا النزول فيهما للعودة إلى المنزل. الأولى كانت تأخذنا في نزهة حول بحيرة اصطناعية؛ أما الثانية فكانت أقرب إلى شقتنا. عندما توقفت الحافلة عند المحطة الأولى، دفعت نفسي بين المدرب والأطفال الذين كانوا يرتدون بذلات رياضية بيضاء متطابقة. لم أعد أرغب في الإجابة على أي من أسئلته. على الرصيف، انحنيت لأتطلع إلى ابني. أخبرته أن ما قاله ذلك الرجل لم يكن صحيحًا. كررت ما قلته لذلك الرجل. أنت ابني. ابتسم لي، مظهرًا أسنانه الصغيرة الناصعة. حملت أكياس التسوق بيد واحدة ويد ابني الناعمة بيدي الأخرى. وعند منتصف الطريق حول البحيرة، حاول أن يبتعد عني. ترددت، أرغب في إبقائه قريبًا، ثم تركت يده وشاهدته يركض.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: شاستا جرانت/ Shasta Grant كاتبة ومحررة أمريكية  حاصلة على ماجستير في الفنون الجميلة من كلية سارة لورانس. نشأت في نيو هامبشاير وتقسم وقتها حاليًا بين سنغافورة وإنديانابوليس. انتقلت إلى آسيا في عام 2010 وتحب العيش هناك.

 

مدرسة القديس ألفونسو الثانوية وجامعة المبتدئين للذكور بقلم: أرافيند أديغا

ترجمة: صالح الرزوق

***

وراء الحديقة بمسافة قصيرة يقف برج قوطي رمادي هائل الحجم، وقد رسم عليه المعطف العسكري وشعار 'يشع ويحرق'. هذه هي مدرسة القديس ألفونسو الثانوية وجامعة المبتدئين للذكور. وقد تأسست عام 1858، وهي واحدة من أعرق المؤسسات التعليمية في ولاية كارناتاكا. والمدرسة التي يديرها الجزويت في كيتور معروفة ومشهورة، والعديد من أعضاء إدارتها درسوا في معهد التكنولوجيا الهندي وكلية الهندسة في ولاية كارناتاكا، وغيرها من الجامعات العريقة في الهند وخارجها. مرت عدة ثوان، وربما دقيقة كاملة، بعد انفجار وقع هناك، لكن لم يحرك لازرادو، أستاذ الكيمياء، ساكنا. جلس وراء طاولته، وذراعاه متباعدتان، وفمه مفتوح. وكان الدخان يهب من المقعد في مؤخرة الغرفة، وغبار أصفر يشبه حبات الطلع يملأ الغرفة، ورائحة الألعاب النارية الخانقة معلقة في الجو. غادر الطلبة غرفة الصف. ولكنهم راقبوا ذلك من وراء منفذ الأمان.

وجاء معلم الحساب جوماتي داس من الباب المجاور، وبرفقته معظم طلاب صفه. ثم جاء الأستاذ نورونها، وهو أستاذ التاريخ الإنكليزي والقديم، ومعه سربه أصحاب العيون الفضولية. وشق المدير الأب ألميدا، طريقه عبر الزحام ودخل غرفة الصف النتنة، وراحته تسد أنفه وفمه. ثم خفض يده وصاح: "ما معنى هذا الضجيج والفوضى؟".

بقي لازارادو وحده في الغرفة، وقف عند طاولته مثل بطل صغير لا يريد مغادرة المرفأ الذي يحترق. وأجاب بنغمة ثابتة: "قنبلة في الصف يا أبتي. في آخر مقعد من الصف. انفجرت أثناء المحاضرة. بعد دقيقة من بداية الشرح".

طرف الأب ألميدا بعينيه أمام الدخان الكثيف ثم التفت إلى الطلاب وقال: " للأسف انحدر شباب هذا البلد إلى الجحيم وأساؤوا لسمعة آبائهم وأجدادهم". وغطى وجهه بذراعه، ثم تقدم بحذر نحو المقعد، والذي انقلب على قفاه بسبب الانفجار، وصاح: "لا يزال الدخان يتسرب من القنبلة. أغلق الباب واطلب الشرطة".

ثم لمس كتف لازارادو وقال: "هل سمعتني؟ يجب أن نغلق الأبواب و...".

أصبح وجه لازارادو أحمر من الخجل، وارتعش من الحرارة، والتفت فجأة وصاح بالمدير والمعلمين والطلاب: "يا لكم من ملاعين. ملاعين".

بغضون دقائق فرغت كل كلية المبتدئين. اجتمع الصبيان في الحديقة، أو في ممر العلوم وجناح التاريخ الطبيعي، حيث يتدلى من السقف هيكل قرش عظمي لفظه البحر على الشاطئ وكان مثل أعجوبة علمية. احتفظ خمسة صبيان بمسافة عن بقية التلاميذ، ووقفوا تحت ظل شجرة بانيان ضخمة. وكان يمكن تمييزهم من سراويل ارتدوها، لهما ثنيات، بينما شارة الماركة التجارية مثبتة على الجيوب الخلفية أو على الجوانب، وكذلك كان لهم شكل قضيبي. وهم شابير علي، والذي يمتلك والده متجر إيجار الفيديو الوحيد في البلدة، وتوأم باخت وهما عفران ورضوان، أبناء تاجر السوق السوداء، وشانكارا بي كيني وكان والده جراح عمليات تجميل في الخليج، وبينتو ابن عائلة مزرعة البن.

واحد منهم زرع القنبلة. كل واحد من هذه الجماعة تعرض للتجميد من الدراسة بسبب سوء سلوكه، وأعاد سنته السابقة بسبب علاماته السيئة، بالإضافة إلى تهديده بالطرد بسبب التدني والانحطاط. ولو زرع أحدهم قنبلة سيكون واحدا من هذه الجماعة. وكانوا يتوقعون ذلك بأنفسهم. فقد سأل شابير علي زميله بنتو:"هل فعلتها؟". نفى بحركة من رأسه. نظر علي إلى الآخرين، وكرر السؤال بصمت. حتى قال في خاتمة المطاف: "وأنا لم أفعلها أيضا".

قال بنتو: "ربما هذا صنيع الرب". ضحك الجميع. وكانوا يعلمون أن كل من في المدرسة يشتبه بهم. قال التوأم باخت إنهما سيذهبان إلى باندر لتناول وجبة برياني بلحم الحملان، ولمراقبة الأمواج، أما شابير علي فقد أراد أن يذهب إلى متجر الفيديو الذي يملكه والده، أو يشاهد فيلما من أفلام التعري في البيت، واحتار بنتو هل يرافقه أم لا. وبقي واحد منهم في المدرسة لأنه لم يكن بمقدوره أن يغادر. فهو معجب بما حصل، الدخان والاضطراب. واحتفظ بقبضته مضمومة تحسبا. اختلط بالزحام، وأصغى للدمدمة وكأنها ملعقة من العسل. عاد بعض الأولاد إلى المبنى، ووقفوا على الشرفة في الطابق الثالث من الكلية وهم ينادون من كان تحت في الساحة، وأضاف ذلك للضجة السائدة، وأصبحت الكلية كأنها خلية نحل اعتديت عليها بالضرب بقضيب طويل. كان يعلم أن هذا هو جوه - كان الطلاب يتكلمون عنه، والأساتذة يلعنونه. وأصبح إله هذا الصباح.

لعدة سنوات كان المعهد يعاقبه - بقسوة: ضربه الأساتذة بالعصي، وعلقه المدراء عن الدوام وهددوا بطرده (وكان متأكدا بالسر، أنهم يسخرون منه لأنه هويكا، من نسل منخفض). والآن يمكنه أن ينتقم من المعهد. احتفظ بقبضته مضمومة. سمع بعض الأولاد يقولون: "هل تعتقدون أنه إرهابي... مثل الكشميريين، أو البنجابيين؟".

أراد أن يصيح قائلا: كلا أيها المجانين. هذا أنا. شانكارا. النسل الوضيع. وراقب الأستاذ لازاردو، كان شعره مضطربا، يحيط به طلابه المفضلون، "الأولاد الطيبون". وكان يبحث بينهم عن الدعم والتأييد.

وشعر، ويا للغرابة، بدافع ملح أن يقترب من لازاردو ويلمس كتفه، كأنه يقول: "يا رجل أنا أشعر بالفجيعة. وأفهم مدى الإهانة التي أصابتك. وأتعاطف مع غضبك". وهكذا أنهى المشكلة الطويلة بينه وبين أستاذ الكيمياء. وشعر بالرغبة أن يكون واحدا من الطلبة الذين يثق بهم لازاردو في مثل هذه اللحظات، أحد "أولاده الطيبين". ولكن لم تتمكن منه هذه الرغبة. أهم شيء كان التخفيف من غلوائه. وراقب معاناة لازاردو وابتسم. استدار نحو يساره. سمع من يقول: "جاء الشرطة".

أسرع إلى الباحة الخلفية في الكلية، وفتح البوابة، وهبط على السلالم الحجرية الطويلة، نحو مدرسة الصبيان. بعد فتح الممر عبر الملعب، نادرا ما كان أي شخص يسلك هذا الطريق. كان اسم الطريق المحكمة القديمة. ولكن تغير موضع المحكمة، ورحل المحامون، وأغلق الشارع لعدة سنوات- بعد انتحار تاجر زائر في هذا المكان. وكان شانكارا يمر بهذا الطريق منذ صباه، وهو المفضل لديه في المدينة. ومع أنه بمقدوره مناداة سائقه إلى الكلية، كانت لدى الرجل تعليمات لانتظاره عند أسفل السلالم.

كانت أشجار البنيان مصطفة على طول الطريق. وكان شانكارا، حتى لو تمشى في الظل، يعرق كثيرا. (وهو دائما هكذا، سريع التعرق، وكأن حرارة تتفشى وتتراكم في داخله). معظم الأولاد تضع أمهاتهم في جيبهم المناديل، ولكن لم يسبق لشانكارا أن حمل منديلا، وليجفف نفسه كان يتبع طريقة بربرية: يمزق قطعة كبيرة من ورقة شجرة مجاورة، ويكشط بها ذراعيه وساقيه مرارا وتكرارا. حتى يحمر جلده ويصبح مكشوفا. والآن يشعر أنه جاف. غادر الطريق وهو عند منتصف السفح، ومر من بين أشجار طويلة، وتقدم إلى فسحة كانت مختفية تماما باستثناء من يعرفها. وفي داخل هذه الباحة تمثال للمسيح، مصنوع من البرونز الأسود. كان شانكارا يعرف هذا التمثال منذ سنوات حين اكتشفه وهو صبي وكان يلعب لعبة الاستغماية. كان هناك شيء خاطئ بالتمثال. بجلده الأسود، والتعبير المقلوب على شفتيه، وعينيه البراقتين، يبدو أشبه بأيقونة للشيطان وليس كمخلص. وحتى الكلمات المنقوشة على قاعدته - 'أنا المبعوث وأنا الحياة' - تبدو كأنها استفزاز للرب. لاحظ أنه لا يزال هناك بعض السماد حول قدمي التمثال - بقايا المسحوق الذي استعمله نفسه لتفجير القنبلة. جرف بسرعة المسحوق بأوراق نبات جاف. ثم استند على قاعدة تمثال المسيح: وقال: "سخيفون". وقهقه ضاحكا. وحالما فعل ذلك، شعر كأنه يختصر انتصاره في تلك الضحكة الوحيدة.

جلس عند قدمي المسيح الأسود، وغادره التوتر والحماس ببطء. كان دائما يرتاح قرب صور المسيح. ومرت أوقات فكر خلالها باعتناق المسيحية. بين المسيحيين لا يوجد فرق يعتمد على العرق. وكل إنسان يحاكم بما صنعته يداه في حياته. ولكن بعد طريقة القسس الجزويتيين في معاملته - ضربه في صباح يوم الإثنين خلال التجمع في الباحة وأمام كل المدرسة - أقسم أنه لن يكون مسيحيا أبدا. ولا يوجد مؤسسة أفضل من مدرسة كاثوليكية للذكور لتنفير الهندوس من التحول إلى الدين المسيحي. لوح بيده مودعا المسيح، وتأكد أنه لا يوجد سماد حول قاعدة التمثال. تابع الهبوط على سفوح الهضبة. وكان سائقه، وهو رجل صغير الحجم ببذة ذات لون خاكي وممزقة، بانتظاره، في منتصف الطريق.

صاح: "ماذا تفعل هنا؟ طلبت منك أن تنتظرني في أسفل الهضبة. وأن لا تصعد للسفوح".

انحنى السائق وراحتاه مطويتان. وقال: "سيدي لا تغضب مني... سمعت... أن قنبلة.. وطلبت مني أمك أن أتأكد أنك..".

كم تنتشر الأخبار بسرعة. هذا شيء أقوى منه. فهي تحتل حياة هذه البلدة.

قال للسائق وهو يتابع إلى الأسفل: "القنبلة - آه. ليست خطيرة". هل كانت غلطة- تساءل - هل عليه أن يبالغ عوضا عن التهوين منها. لم تكن صدفة مقنعة. فقد أرسلت أمه السائق ليتفقده، كما لو أنه طفل صغير - وهو، الذي فجر القنبلة. وصر بأسنانه. فتح السائق له باب سيارة أمباسادور، ولكن بدل أن يدخل في السيارة، بدأ بالصراخ: "أيها اللعين. يا ابن الصلعاء".

التقط أنفاسه ثم قال: "أيها اللعين. أيها اللعين". وضحك بهستيرية، ودخل في السيارة، بينما السائق يحملق به. في طريقه إلى البيت، فكر كيف يمكن لأي سيد آخر أن يتوقع الولاء من سائقه. ولكن شانكارا لا يتوقع منه شيئا. كان يشك أن سائقه من البراهمانيين. وقفا عند ضوء أحمر. سمع سيدتين في سيارة أمباسادور مجاورة تتكلمان عن انفجار القنبلة - "يقولون أن الشرطة أغلقت كل المدرسة والكلية الآن. ولا أحد يمكنه المغادرة حتى يجدوا الإرهابي".

وتبادر لذهنه، أنه وجد مهربا محظوظا، ولو أنه مكث قليلا، سيسقط في فخ الشرطة. حينما وصل إلى مسكنه، هرع من الباب الخلفي وخبط الدرجات وهو يصعد إلى غرفته. وفكر في لحظة من اللحظات أن يرسل بيانا إلى الهيرالد دون. يقول فيه: "لازاردو رجل أحمق والقنبلة التي انفجرت في صفه تؤكد ذلك لكل العالم". ولم يفهم لماذا تركها ملقاة على منضدته. ولذلك مزقها فورا. ثم فكر بإمكانية تجميع القطع الممزقة حتى تبدو الرسالة سليمة، أو إمكانية ابتلاعها، وفي النهاية قرر ابتلاع بعض العبارات الهامة - رادو، قن، ب، صف". وأشعل النار بالبقية، باستعمال ولاعة كانت في جيبه. وفكر إنه بالإضافة إلى قرفه من ابتلاع ورق سيرقد في معدته، لم تكن الرسالة مناسبة للطباعة، لأن غضبه في النهاية لم يكن يفي بجوهره لازاردو حقه. كان أعمق. ولو طلبت منه الشرطة تصريحا، سيقول ما يلي: "فجرت قنبلة لأضع حدا ل 5000 سنة من نظام عرقي قديم لا يزال يعمل في بلدنا. فجرت قنبلة لأبين أنه لا يجوز الحكم على أي إنسان على أساس صدفة حصلت يوم مولده، وهذا هو حالي".

حسنت هذه العبارات المرموقة من مشاعره. وتأكد أنه سيعامل في السجن على نحو مختلف، كأنه شهيد من الشهداء. وستنظم هيئة هويكا للتطوير الذاتي مسيرات من أجله، ولن تجرؤ الشرطة على لمسه. وربما بعد إطلاق سراحه، ستحييه حشود كبيرة - وسيكون له مستقبل سياسي.

والآن عليه أن يرسل رسالة من مجهول إلى الصحف مهما كلف الأمر. أخذ ورقة نظيفة وبدأ يكتب، رغم أن معدته كانت مضطربة بسبب الورق الذي ابتلعه. وها هو قد انتهى. أعاد قراءتها.

"بيان الهويكا المتهمة. لماذا انفجرت القنبلة اليوم". ثم أعاد النظر بها. كان من المعروف أنه هويكا. الجميع يعرف ذلك. تكهنوا بذلك، وكانت تكهناتهم مثل اتهام لا وجه له يأتي من الأبواب السوداء لغرف الصف كما جرى اليوم. كل الموجودين في المدرسة، وفي كافة أنحاء البلدة، يعلمون أن غنيا مثل شانكارا كيني، هو ابن امرأة من الهويكا. وإذا أرسل تلك الرسالة، سيعلمون أنه الشخص الذي زرع القنبلة. قفز. كان هذا صوت بائع الخضار، الذي جاء بعربته حتى جدار البيت الخلفي: 'بندورة. بندورة. بندورة حمراء يانعة، هيا اشتر بندورة حمراء ناضجة'.

رغب أن يذهب إلى الباندر، وأن يحجز في فندق رخيص، ويدعي اسما غير اسمه. ولن يعثر عليه أحد هناك. تجول في أرجاء غرفته، ثم أغلق الباب بقوة، وارتمى في سريره، وجر الغطاء فوقه. وتحت عتمة الغطاء كان لا يزال يسمع صياح البائع المتجول: 'بندورة، بندورة حمراء ناضجة. أسرع قبل أن تتعفن'.

*

في الصباح، كانت أمه تشاهد فيلما هنديا قديما بالأبيض والأسود استأجرته من متجر فيديو والد شابير. هكذا تمضي كل صباح في هذه الأيام. فهي مدمنة على الميلودراما. قالت وهي تلتفت بمجرد أن سمعت صوت مجيئه: "سمعت يا شانكارا بحدوث بعض الفوضى في المدرسة". تجاهلها وجلس عند الطاولة. لم يستطع أن يتذكر آخر مرة كلم أمه بجملة تامة. قالت أمه وهي تضع الخبز المحمص أمامه على الطاولة: "عمتك أورميلا يا شانكارا قادمة إلينا. من فضلك لا تبتعد عن البيت اليوم".

قضم من الخبز المحمص، ولم يرد على أمه. وجد أنها تحب الهيمنة، وتسبب التحسس ومتنمرة. ولكنه يعلم أنها تتألم لأن ابنها نصف براهماني. وترى نفسها أدنى منه، فدمها بالكامل من الهويكا.

قالت: "شانكارا. من فضلك أخبرني: هل ستكون موجودا؟ وهل ستعاملني بطريقة حسنة اليوم فقط؟".

ألقى قطعة الخبز في الطبق، ووقف على قدميه، وتوجه إلى السلالم.

صاحت: "شا - نكا - را. ارجع".

كان يلعنها ولكنه شعر بمخاوفها. كانت لا تريد مواجهة المرأة البراهمانية بمفردها. فروحها تسعى أن تكون مقبولة ومحترمة. فهي والدة ابن مذكر، وريث - وإن لم يكن في البيت، ليس لديها ما تعرضه. إنها مجرد هويكا تطفلت على بيت براهمانيين. وفكر: أنه خطؤها لأنها تشعر بالبؤس بحضورهم. وقد أخبرها مرارا وتكرارا: يا أمي. تجاهلي أقاربنا البراهمانيين. ولا تذلي نفسك باستمرار أمامهم. وإن كانوا لا يريدوننا بالمقابل يجب أن لا نريدهم. ولكنه لم يمكنها القيام بذلك. لا تزال تود أن تكون مقبولة. وتذكرة قبولها هي شانكارا. ليس لأنه مقبول كلية وتماما بين البراهمانيين. فهم ينظرون إليه كنتاج لمغامرة عشوائية من طرف أبيه، ويربطونه (وهو متأكد) بنطاق شامل من الفساد. فهو مزيج من الجنس بلا زواج وانتهاك للعرق الأسود وماذا تتوقع من ذاك؟. هذا الشيطان الصغير والظريف: شانكارا.

بعض الأقارب البراهمانيبن مثل العمة أورميلا تزورهم منذ سنوات ولكنها لا تحل التربيت على وجناته، أو إرسال قبلات طائرة إليه، أو القيام بتصرفات بعيدة تؤديها العمات لأبناء أخوتهن. وكان يشعر وهو حولها أنها مضطرة لتحمله. اللعنة، لم لا يحب أن يكون محمولا.

طلب من السائق أن يقوده إلى شارع أمبريلا، وحدق من النافذة لا على التعيين بينما السيارة تعبر من متاجر المفروشات ومنصات عصير قصب السكر. غادر السيارة أمام عرض وايت ستاليون (فيم ناطق بعنوان الجياد البيض). وقال: "لا تنتظرني. سأخابرك بعد أن أنتهي من الفيلم".

تسلق السلالم، وشاهد صاحب المتجر بالجوار يلوح له بحرارة. وهو أحد الأقارب من طرف أمه. رجل يومض له بابتسامات عريضة. ثم بدأ يشير له كي يأتي إلى متجره ويجالسه. كان شانكارا دائما يحصل على معاملة خاصة بين أقاربه الهويكا. فهو نصف براهماني، ولذلك يعتبر أعلى كثيرا بمعايير عرقية. أو لأنه غني جدا، وعليه هو أرقى منهم بكثير بمعايير الطبقات. وهو يشتم بصمت تابع الصعود على السلالم. ألا يفهم هؤلاء الهويكا الأغبياء؟. لم يكن يكره اي سيء اكثر من توددهم اليه، بسبب نصفه البراهماني. ولو أنهم يمقتونه، وإذا أجبروه على الزحف إلى متاجرهم للتعبير عن خطيئة نصف براهماني، لما جاء إليهم ليلتقيهم يوميا. وهناك سبب آخر يدعوه للامتناع عن زيارة هذا القريب بالذات. فقد سمع إشاعة أن كيني جراح العمليات التجميلية يحتفظ بخليلة في هذا القطاع من البلدة - بنت هويكا أخرى. وهو يشتبه أن قريبه يعرف هذه المرأة، وأنه يفكر باستمرار: هذا الصاحب شانكارا - شانكارا البائس والساذج - يعرف القليل عن كنوز أبيه. لكن شانكارا يعرف كل شيء عن زلات والده - هذا الأب، الذي لم يشاهده منذ ست سنوات. وحتى أنه لم يكتب له أو يخابره بالهاتف، ولكنه يواصل إرسال رزم السكاكر والشوكولا الأجنبية. ولكن بطريقة ما، كان يشعر أن والده هذا يعرف ما هي الحياة. خليلة من الهويكا قرب السينما وامرأة هويكا جميلة أخرى بصفة زوجة. وهو الآن يعيش حياة مرحة ومترفة في الخليج. يجمل الأنوف والشفاه للنساء العربيات الثريات. بالتأكيد لديه هناك خليلة أخرى. رجال من نوعية والده لا ينتمون لأي نسل أو دين أو عرق. ويعيشون أنانياتهم الشخصية. وهم الرجال الحقيقيون المتبقون في عالمنا هذا.

كان شباك التذاكر مغلقا. "العرض القادم في 8.30 مساء". هبط السلالم بسرعة، وتجنب أي احتكاك بالنظر مع قريبه. تجاوز سلمتين إضافيتين بتعجل، وتوجه إلى "متجر التجار المثاليين للمثلجات" وطلب خليط الحليب مع جوز الهند. شربه بسرعة، وحالما بلغ السكر دماغه مال للخلف، وضحك، وقال لنفسه: "تافه". لقد انتهى. أهان لازارادو لأنه أهانه أولا. وصاح: "خليط حليب وجوز هند آخر. مع مثلجات مضاعفة".

كان شانكارا على الدوام واحدا من التفاحات الفاسدة في المدرسة. منذ بلغ ثماني أو تسع سنوات، كان يتورط بالمشاكل. ولكن أسوأ مشاكله كانت مع عوق لسان معلم الكيمياء هذا. في أحد الصباحات ضبطه لازاردو يدخن سيجارة أمام منصة عصير القصب خارج الكلية. صاح السيد لازاردو: "التدخين قبل العشرينات يمنع تطورك الطبيعي ككائن بشري. لو أن والدك هنا وليس في الخليج سيفعل ما سأفعل بالضبط الآن".

أجبر شانكارا طيلة ما تبقى من يومه على الركوع أمام صف الكيمياء. وركع وعيناه على الأرض، وفكر، مرارا وتكرارا، هو يفعل هذا لأنني هويكا. لو أنني مسيحي أو بانت لن يهينني هكذا.

في تلك الليلة، استلقى في السرير، وجاءته الفكرة: ما دام قد أضرني، سألحق به الضرر بالمثل. وتبادر ذلك لذهنه، بوضوح ساطع، مثل شعاع من ضوء الشمس، مثل خلاصة لكل عمره. وتحولت الفورة البسيطة إلى قلق، وكان يتقلب في سريره من جنب إلى آخر، قائلا: مصطفى، مصطفى. عليه أن يقابل مصطفى الآن. وهو صانع القنابل.

سمع الاسم منذ عدة أساببع مضت، في بيت شابير علي. في تلك الليلة كانوا جميعا - عصابة الأولاد الخمسة الأشرار - وللتو قد شاهدوا فيلم تعر آخر في بيت شابير علي. دخلت المرأة من الخلف. ودس الرجل الضخم الأسود عضوه فبها عدة مرات. لم يكن شانكارا يعرف أن هذا ممكن بهذه الطريقة. ولا بنتو، فقد تابع تنهداته من المتعة. راقب شابير علي دهشة أصدقاءه دون أن يندمج معهم. فقد شاهد هذا الفيديو العديد من المرات ولم يعد يحرك شهوته. كان يتعايش مع الشرور والأخطاء ولذلك لم تكن مثيرة له - لا مشاهد القتل ولا الاغتصاب ولا حتى جماع الحيوانات. الاحتكاك الدائم مع الشر حوله تقريبا إلى طور من أطوار البراءة. بعد الفيديو، استلقى الأولاد على سرير شابير علي، وهددوا بالعبث هناك، ولكن مضيفهم حذرهم من التفكير بذلك. وعرض عليهم شابير علي واقيا ذكريا ليسعدهم، ودسوا أصابعهم في داخله بالدور.

"ما فائدته يا شابير؟".

"من أجل صديقتي"

"اخرس يا منحرف"

"أنت المنحرف".

تكلم البقية عن الجنس. وكان شانكارا يصغي ويتأمل السقف، ويتظاهر أنه منفرد بنفسه. كان يشعر أنه دائما خارج هذه النقاشات لأن البقية يعلمون أنه ولد طاهر لم يفعلها. وهناك بنت في الكلية وتتكلم مع الذكور. وكلمها شابير علي، وادعى أشياء أعمق. وحاول شانكارا أن يتظاهر أنه كلم النساء أيضا. وربما خدع عاهرة في شارع المحكمة القديمة. ولكنه متأكد أن الآخرين يرون ما في داخله. بدأ علي يمرر الأشياء عليهم. تبع الواقي الذكري حديد تمرين العضلات وكان يحتفظ به تحت سريره. ونسخ من مجلة المشاغب، والفتى اللعوب بلاي بوي، ومجلة نادي كرة السلة الوطنية الرسمية.

قال: "احزروا ما هذا". كان شيئا صغيرا وأسود، ومثبت به مؤقت.

قال حينما لم يحزر أحد: "إنه صاعق".

سأله شانكارا وهو يقف على السرير ويقرب الشيء من الضوء: "وماذا يفعل؟"

قال: "إنه يفجر يا أبله. تستعمله بالقنابل". وانطلقت الضحكات.

قال شابير: "صناعة القنابل أسهل شيء على وجه الأرض. خذ كيسا من الأسمدة، وأضف هذا الصاعق، وهذا كل شيء".

سأل أحدهم ولكن ليس شانكارا: "من أين حصلت عليه؟".

قال شابير علي تقريبا بالسر: "مصطفى أعطاه لي".

مصطفى. مصطفى. تمسك شانكارا بالاسم وبإحكام.

سأل أحد التوأمين: "وأين يعيش؟"

"شابير خابرنا للتو. وقال لقد فعلناها أيها الرجال. ولكن لم أفعلها أنا. ولا رضوان أيضا. شابير يكذب". ثم أدرك كل شيء. شابير خان الجميع واتهمهم جميعا - على أمل أن ينتزع اعترافا. تداخلت الطمأنينة مع الغضب. وقع بالفخ تقريبا. والآن يشعر بالغضب لأنه يمكن للشرطة أن تكتشف أنه خابر 100 وبذلك يضعون أيديهم على هاتفه. فكر أنه بحاجة لخطة. خطة. نعم. لقد وجدها. إذا سألوه سيقول إنه اتصل بشابير علي ليخبره بالجريمة. وسيقول: "شابير مسلم. وعليه أن يفعل ذلك ليعاقب الهند بسبب كشمير".

في الصباح التالي، ذهب لازارادو إلى مكتب المدبر، وجلس بجانب الأب ألميدا، والذي كان في مكتبه. وتأمل الاثنان المشبوهين الخمسة.

قال لازارادو: "لدي قرينة علمية. بصمة بقيت على بقايا القنبلة". شعر بعدم تصديق المتهمين.

لذلك أضاف: "بصمات الأصابع بقيت حتى على أرغفة الخبز في مدافن الفراعنة. وهي لا تفنى. وسنجد اللعين الذي فعلها، الجميع متأكد من ذلك". وأشار بأصبعه. وقال: "وأنت يا بنتو. أيها الولد المسيحي. ألا تشعر بالخجل".

قال بنتو: "لم أفعلها أنا يا سيدي".

تساءل شانكارا: هل عليه أن يعلن براءته ليكون بمأمن؟.

نظر اإلهم لازارادو بعين نفاذة، بانتظار أن يكشف المذنب عن نفسه. مرت الدقائق. وأدرك شانكارا: أنه لا يمتلك بصمات أصابع. وليس لديه جهاز كاشف للكذب. وهو يائس. وتمت إهانته. والسخرية منه، وأصبح نكتة في الكلية، وهو يفكر بالانتقام.

صاح لازارادو: "أيها الحمقى". وكررها بصوت مرتجف: "هل تعيرونني؟ هل تعيرونني لأنني لا أستطيع أن ألفظ حرف 'إب'". ولم يضبط الأولاد أنفسهم إلا بصعوبة. وشاهد شانكارا أنه حتى المدير قد أدار وجهه نحو الأرض، ويحاول كتم ضحكته. ولازارادو يعلم ذلك: ويمكن أن تراها على وجهه. وفكر شانكارا: هذا الرجل كان نكتة طيلة حياته، بسبب عوق الكلام. ولهذا السبب هو مجال للسخرية في غرفة الصف. والآن خربت هذه القنبلة كل سيرته المهنية. ولن يتمكن من استعادة ماضي حياته باعتزاز، مثل بقية المعلمين مع أنهم مزيفون. ولن يتمكن في حفل وداعه أن يقول: "مع أنني كنت صارما، كان طلابي يحبونني". ودائما هناك من يهمس من وراء ظهره - نعم، أحبوك كثيرا وفجروا قنبلة في غرفة صفك.

في تلك اللحظة، فكر شانكارا، أتمنى لو تركت هذا الرجل وشأنه. وأتمنى لو أنني لم أذله رغم إهانة الآخرين لي ولأمي.

قال: "أنا فعلتها يا سيدي".

التفت كل الحاضرين في الغرفة نحو شانكارا.

قال: "فعلتها. والآن توقف عن إزعاج الآخرين وعاقبني".

ضرب لازارادو المنضدة بيده وقال: "أيها الزاني بأمه. هل هذه نكتة؟".

" لا يا سيدي".

صاح لازارادو: "طبعا هي نكتة. أنت تسخر مني. وتسخر مني في العلن".

" لا يا سيدي-".

قال لازارادو: "اخرس. اخرس". ورفع أصبعا وحركه في أرجاء الغرفة بعصبية وهو يصيح: "أشرار. ملاعين. اخرجوا".

خرج شانكارا والأربعة الأبرياء برفقته. كان بمقدوره أن يلاحظ أنهم لم يصدقوا اعترافه. وهم اعتقدو أيضا أنه يسخر من المعلم بوجهه.

قال شابير علي: "تجاوزت حدودك هناك. يارجل فعلا أنت لا تحترم أي شيء في هذا العالم".

انتظر شانكارا خارج الكلية وهو يدخن. كان بانتظار لازارادو. وحينما فتح باب غرفة الموظفين وخرج أستاذ الكيمياء، ألقى شانكارا السيجارة على الأرض وداس عليها بحذائه. وراقب أستاذه قليلا. وتمنى لو هناك طريقة ليقترب منه ويقول له أنا آسف.

***

.........................

* أرافيند أديغا Aravind Adiga كاتب أمريكي من أصول هندية.

بقلم: آريا أبر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لم يكن النادي يُسمى "البنكر" حقًا، لكن هذا هو ما سأطلق عليه، لأننا عشناه هكذا: ملجأ من حرب حياتنا اليومية، مبنى حيث كانت تاريخ هذه المدينة وهذا البلد يتآكل تحت أقدامنا، حيث يمكن لأجسادنا أن تجول بحرية وتحلم. مكان مثل "البنكر" جذب مزيجًا متنوعًا من الشخصيات، وأعجبتني جميعهم. لكن ما أحببته أكثر كان الرجال الصلع الغريبون الذين لم يكن بإمكانك تصنيف انتماءاتهم السياسية أو أرصدة حساباتهم المصرفية أو تفضيلاتهم الجنسية. كانوا من ديترويت أو فرايبورغ أو دبلن؛ كانوا يتحدثون عن ريلكه ويشتركون معك في آخر قطرات الأمفيتامينات عند شروق الشمس. كانت عيونهم كبيرة ومليئة بالأسرار وملتهبة قليلاً مع نهاية الليل. كانوا أول من يصل وآخر من يغادر. كانوا دائمًا هنا، أولئك الذين يستخدمون الغرف المظلمة فعلاً. كنت تستطيع أن تميزهم من وجوههم المتجعدة، فهم محترفون في هذا المجال، في حياة مزدوجة تعيش في قلب المدينة المظلم، لأنهم ببساطة لم يهتموا بما يظنه الآخرون. لم يكن لديهم جمهور، ولا عرض: لا، هذه كانت حياتهم. ومع ذلك، كان هناك نوع من الرقة في تهورهم. لقد كانوا يحيون الحفلات منذ قبل ولادتي، منذ قبل أن يسقط الجدار. والأهم من ذلك، أنهم لم يحكموا عليك أبدًا، مهما كان نوع الأحمق الذي قد تكون قد أظهرت نفسك به.

لم يكن أي من أصدقائي هناك. ليس أنني كنت أملك الكثير منهم—لقد تركت فيليكس، صديقي الأول، بمجرد أن عدت من المدرسة، لأنني من الناحية التقنية لم يكن مسموحا بأن يكون لي صديق، وقد كان سيئًا في الفراش. وانتقلت ملاني إلى لندن لدراسة تصميم الأقمشة. الأشخاص الوحيدون الذين تبقوا هم آنا ورومي، اللتان درست معهما في المدرسة وانتقلتا إلى برلين من أجل الجامعة. في الآونة الأخيرة، كانتا تنصحانني بالتروي، لكنهما لم تفهما الشعور المتسارع في صدري، هذا القلب الذي يشبه سيارة سباق لا أستطيع إيقافه. وعدت آنا بأنها ستأتي إلى البانكر، لكن رسالتها النصية توقعت أن تصل بعد ساعة. لذا قمت بشم جرعة في الحمام مع هذه الفتاة الشقراء المبيضة، التي لن أراها مجددًا، ثم صعدت إلى الطابق العلوي إلى حلبة الرقص الأخرى، حيث كانت موسيقى الهاوس تنساب بسلاسة مع الإيقاعات الإلكترونية والعينات الصوتية العميقة. وقفت عند البار، آملاً أن لا تكشف وحدتي عن عدم أمنيتي. كنت ألعب بشعري، محاولًة أن أبدو متعجرفة وغير قابلة للوصول.

لقد لاحظت رائحته قبل أن أراه: الفلفل الوردي والدخان. كان يقف هناك، مارلو وودز، بطول ستة أقدام وثلاث بوصات، مرتديًا سترة جلدية متهالكة. كنت عادةً أحب من رجالي : الأشقر والصارم أو الداكن كالقطران، لكن مارلو لم يكن أيًا منهما، كان في مكان ما في المنتصف تمامًا، بفك مربع وذقن به غمازات، وأنف إمبراطور. شعر دهني يتساقط في موجات شبه أنثوية إلى ذقنه. حاولت أن أتمالك نفسي عندما وضع يده على كتفي، رغم أنني كنت على وشك الشعور بالغثيان من الافتتان. كان يمضغ العلكة، ولاحظت وشمًا صغيرًا لعنكبوت ينبض على جانب رقبته. وقف وظهره إلى الساقي، ومرفقيه متكئين على المنضدة. نظر إلي من الجانب بابتسامة ماكرة.

"مرحباً. أنا مارلو."

كان الجميع يعرف من هو: الكاتب الأمريكي الذي كان دائماً يحمل المخدرات. كان قد نشر كتاباً في أوائل العشرينات من عمره، وترجم إلى عدة لغات. كنت قد رأيت صورة له في تقرير بمجلة عن فناني برلين. رغم أنني لم أتذكر التفاصيل، إلا أنني لم أنس وجهه في تلك الصورة اللامعة. كان مفعماً بالرياح وجاداً، ويدخن سيجارة بين شفتيه. كانت الصورة وحدها قد سحرتني بطريقة غريبة؛ كانت عينيه الزرقاوتين تخترقان الصفحة بذكاء. كنت قد رأيته من قبل، في أحد النوادي على ضفاف الماء، حيث كانت الشمس تحول حلبة الرقص إلى شريط من الضوء وكان الصوت أكثر بهجة مما هو هنا. بالطبع، لم يلاحظني. كان أميراً يتحرك في الغرف وكأنها ملكه، محاطاً بمجموعة كبيرة من الأصدقاء، من بينهم صديقته الشقراء، التي على ما أذكر كانت دائماً ترتدي قميصاً من "سونك يوث".

"أنا نيلا."

صافحته، وكانت يده باردة ورطبة، وهو تصرف بدا لي رسميًا بشكل مفاجئ.

" بالمناسبة، فقدت هذه."

مدّ يده لي، وفي  وميض الأضواء ، لاحظت ولاعة صغيرة رمادية.

"ليست لي."

" نعم، ربما سقطت من جيبك."

هززت رأسي، وضحك، وكانت ابتسامته كاشفة عن اسنان متباعدة وغمزات .

"حسنًا، أعتقد أنه يجب أن تحتفظي بها."

كانت أنفاسه دافئة على عنقي، وأدخل الولاعة في حقيبتي، شعرت بوخز صغير في قلبي.

" حسنًا،" قلت، غير قادرة على النظر إليه.

"هل لديك مخدرات؟

"هل يمكنني أن أشتري لك مشروبًا أولًا؟"

بعد عشرين دقيقة، دفعني بقوة داخل حجرة الحمام، وكل شيء مغطى بالقذارة والعرق. أطفأ سيجارته على الجدار بجانب وجهي، وكدت أميز رائحة الكبريت الخفيفة لشعر محترق.

قال : "معذرة، المكان ضيق جداً هنا".

وسط فوضى الملصقات والبطاقات، درست بقية ملامحه: ياقة قميصه الأخضر على شكل حرف V، والسلسلة الذهبية التي تحمل عملة تعكس الضوء. إذاً هذا هو، الرجل الجذاب من المجلة. مبتسمًا، نفخ في وجهي، وبدأت أحسب إلى أي مدى أنا مستعدة للذهاب مقابل جرعة، ولكن بعد أن أخرج علبة صغيرة من جيب سرواله، سألني فقط من أين أنا.

"برلين"، قلتها، وكانت الحقيقة. لكنه فعل الشيء الرهيب الذي كنت دائمًا أخشاه أن يفعله الناس – سأل مرة أخرى، سأل من أين أنا حقًا. ولأن رأسي كان كتلة مشوشة من السيروتونين، وفكي يتصرف كحصان دوار، أو ربما لأنني كنت خائفة حتى هنا، قلت: "والداي من اليونان"، وكانت كذبة، لكنها بدت كتفسير معقول لوجهي الداكن الملامح وأنفي المعقوف وخصلات شعري الجامحة. أحيانًا كنت أكذب وأقول إنني من كولومبيا؛ أحيانًا أخرى من إسبانيا أو إسرائيل. لم أكن أرغب في الحديث عما جلب والديّ من كابول، أو أن أخبره أنه ربما التقى عمي وهو يقود سيارة أجرة، جالسًا في المقعد الخلفي، يشعر بالأسى لذلك الرجل الأسمر المحطم أمامه بسبب كل ما اضطر لتركه خلفه. ولم أرد أن أقول إنني لم يكن مسموحًا لي حتى أن أكون هنا، وإن وجودي هنا كان سرًا قبيحًا وكبيرًا. الحقيقة لم يكن لي مكان هنا. وفي نهاية المطاف، كان من الأسهل في تسعة من أصل عشرة مواقف أن أكذب بدلاً من أن أشاهد الشفقة تشوه وجه أحد ما. لم أرد أن أكون موضع شفقة. بدا مهتمًا.

"اليونان"

قالها مرة أخرى، ثم مضيفا:

"مثير للاهتمام."

كان المسحوق رطبًا وقويًا، وعندما استنشقت الجرعة أحسست بحرقة حادة فتحت جيوب أنفي المسدودة، ونسيت الوخزة الخافتة التي خلفتها الكذبة.

"أفعل هذا فقط لأغراض البحث"

قلت ذلك وأنا أشهق بخفة، فضحك. كان إضحاك الرجال أمرًا في غاية السهولة، أسهل شيء يمكنني القيام به.أضفت :

" أكتب عنه ورقة بحثية للجامعة."

قال بصوت هادئ تتخلله  رخوة لطيفة:

"أنا أمريكي. سأصدق أي شيء"

"أعرف."

"إذن، يجب أن أبتكر حقائق أخرى عن نفسي لأفاجئك."

قلت : "لماذا لغتك الألمانية جيدة هكذا؟"

"لأنني... كان لديّ صديقة. ووفوق ذلك درستها في المدرسة الثانوية."

"حقًا؟

احتفظت باللغة الألمانية التي تعلمتها في المدرسة الثانوية؟"

تجاهلت عمدًا الجزء المتعلق بالصديقة.

"وأمي كانت ألمانية، من الناحية الرسمية."

" من الناحية الرسمية."

حاولت أن أحسب في رأسي أن هذا الرجل لديه أم ألمانية — من أين كانت عائلتها، وأي نوع من الألمانية كانت تتحدث؟

"دوري الآن. لماذا لغتك الإنجليزية جيدة هكذا؟"

"مدرسة ثنائية اللغة، " قلت، وتركته يصدق ما يشاء. كنت أعرف ماذا قد يظنني: شخص جاء من عائلة غنية. عندما أعدت له مخدره، بقيت يدي على يده لحظة أطول مما ينبغي. تبادلنا النظر، مشحونين بالإيقاع الفوضوي للهواء. أخذت النظارات الشمسية الحمراء المربعة من على رأسه ووضعتها على وجهي؛ كانت العدسات ملطخة ببقع غائمة. لمس التجويف بين عظام ترقوتي، فأغمضت عيني، مستسلمة لدفء اللحظة ولإيقاع موسيقى التكنو الخافتة القادمة من قاعة الرقص، تتخللها مقاطع من الإسبانية والألمانية في الأكشاك المجاورة.

قال:

"أنت جميلة جدًا"

بدأت أضحك وألقيت رأسي للخلف، لأنني لم أكن جميلة أبدًا. كان وجهي يبدو قويًا وملكيًا بسبب عظام وجنتي المرتفعة وعيني اللوزيتين، وربما كنت صغيرًة. لكنني كنت أعرف ما هو الجمال. لقد كنت أتمتع بصفات مختلفة، تلك التي أرادت أمي أن تنزعها مني وبصق عليها والدي. تلك الصفات التي يحبها الرجال. كان الجمال فضيلة مأساوية كثيراً ما يُساء استخدامها لأننا نخدع بها، لكنني كنت أتمتع بشيء أكثر قتامة، شيء أكثر قبحاً. مثل جوع متوتر للحياة، مثل صوت يقول لي إنني سأفعل أي شيء.

قال:

"في أمريكا نشكر المجاملات"

ثم انتزع النظارة الشمسية من وجهي.

ابتسمت قائلة  :

"شكراً لك، سيدي".

***

.....................

* المقتطف التالي مقتبس من رواية "Good Girl" لأريا آبر. وُلدت آبر وترعرعت في ألمانيا وتعيش الآن في الولايات المتحدة. فازت مجموعتها الشعرية "Hard Damage" بجائزة "Prairie Schooner Book Prize" وجائزة "Whiting Award". كانت زميلة في برنامج "Wallace Stegner" في جامعة ستانفورد وطالبة دراسات عُليا في جامعة كاليفورنيا الجنوبية، وظهرت كتاباتها في The New Yorker و New Republic و The Yale Review و Granta وغيرها من المنشورات. نشأت آبر وهي تتحدث الفارسية والألمانية، وتكتب باللغة الإنجليزية، وهي لغتها الثالثة.

الكاتبة : آريا آبر/  Aria Aber (مواليد 1991) هي شاعرة وكاتبة أمريكية  من أصل أفغاني ، نشأت آبر في ألمانيا، حيث ولدت لأبوين لاجئين أفغان.  وتقيم الآن في لوس أنجلوس، كاليفورنيا. تشغل آبر حاليًا منصب أستاذة مساعدة في الكتابة الإبداعية بجامعة فيرمونت، وتقيم بين فيرمونت وبروكلين. لها كتابان: الأول ديوان شعر "أضرار جسيمة " عام 2019 ، والثاني روايتها التي صدرت هذا الشهر يناير 2025 تحت عنوان " فتاة طيبة / Good Girl" والتي ترجمنا هذا المقتطف .

بقلم: مارغريت آتوود

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

اللحظة

اللحظة التي تقف فيها،

بعد عدة سنين من العمل الشاق والرحلة الطويلة

في وسط غرفتك،

منزلك، النصف فدان، الميل المربع، الجزيرة، البلد،

عارفا اخيرا كيف وصلت الى هناك،

وتقول: انا امتلك ذلك،

*

هي اللحظة ذاتها التي فيها ترخي الأشجار

وثاق اذرعها الرقيقة من حولك،

وتسترجع الطيور لغتها،

وتتصدع الحافات الصخرية وتنهار،

وينحسر الهواء عنك مثل موجة

ولا تستطيع التنفس.

*

كلا— يقولون هامسين—. انك لا تمتلك شيئا.

كنت زائرا، مرة بعد مرة

متسلقا التل، غارسا الـعَلَم، مصرحا.

نحن لم ننتمِ اليك.

انك لم تجدنا قط.

كان الأمر دائما عكس ذلك.

***

.........................

مارغريت آتوود: شاعرة وروائية وناقدة كندية غزيرة الانتاج ومتعددة الاهتمامات من مواليد أوتاوا عام 1939 . نشرت العديد من المجموعات الشعرية والقصصية والروايات نال معظمها جوائز مهمة، من بينها جائزة آرثر سي كلارك لعام 1987 عن روايتها (حكاية الخادمة) وجائزة البوكر لعام 2000 عن روايتها (السفاك الأعمى) ومؤخرا جائزة كافكا العالمية لعام 2017. تحظى أعمالها بحفاوة نقدية وشعبية على حد سواء، وترجمت إلى عشرات اللغات. من عناوين مجموعاتها الشعرية: "لعبة الدائرة" 1964؛ "خطب الدكتور فرانكنشتاين" 1966؛ "سياسة القوة"1971 ؛ "قصائد ذوات رأسين"1978؛ "قصائد الأفعى" 1983؛ "صباح في المنزل المحترق" 1995؛ "الباب" 2007؛ و"الزورق الورقي" 2023.

 

بقلم: أرافيند أديغا

ترجمة: صالح الرزوق

***

بعد غداء مكون من القريدس بالكاري والأرز تتناوله في باندير، ربما يود الإنسان زيارة هضبة المنارة ومحيطها. شيد البرتغاليون هذه المنارة الشهيرة، وجددها البريطانيون، ولكنها ليست قيد الاستخدام. يجلس حارس عجوز ببذلة زرقاء في أسفل المنارة. إذا كان الزوار بثياب الفقراء، أو إذا خاطبوه بلغة تولو أو كانادا، يقول لهم: "ألا ترون أنها مغلقة؟". وإذا كان الزوار بهندام جيد أو يتكلمون بالإنكليزية، يقول لهم: "أهلا وسهلا". ويرافقهم إلى المنارة ويتقدمهم على السلالم الحلزونية حتى القمة، وهناك يتوفر لك مشهد رائع ترى منه بحر العرب. في السنوات الحالية افتتحت الشركة غرفة للمطالعة في المنارة. وشملت المحتويات مقالات الأب باسيل  دي عيسى، و  تاريخ كيتور المختصر لإس جي. أخذت حديقة ديشبريمي هيماشاندرا راو المحيطة بالمنارة اسمها من المناضل في سبيل الحرية الذي علق شعار المؤتمر  بألوانه الثلاثة على المنارة أثناء الحكم البريطاني.

وهناك كنا نرى المشهد التالي، على الأقل، مرتين في العام. سجين يقفز إلى الأمام، والقيد حول معصميه، نحو محطة شرطة هضبة المنارة، برأس مرفوع، ونظرة تغطي وجهه وتدل على ضجر مزمن. بينما يتبعه شرطيان، بعناء ليلحقا به، وهما يقبضان على سلسلة مربوطة بالقيد. والغريب في الموضوع أن الرجل المقيد يبدو كأنه يجر وراءه الشرطيين، مثل شخص خرج مع قردين في نزهة.

في السنوات التسعة السابقة، اعتقل الرجل المعروف باسم زيروكس راماكريشنا إحدى وعشرين مرة، على رصيف غرانيتي أمام متنزه ديشبريمي هاماشاندرا راو لأنه يبيع لطلاب جامعة سانت ألفونسو، وبأسعار مخفضة، كتبا مصورة أو مطبوعة بشكل غير قانوني. كان شرطي يأتي في الصباح، حينما يكون رامامريشنا جالسا مع كتبه الموزعة فوق ملاءة سرير زرقاء اللون، ثم يضع خيزرانته على الكتب ويقول: هيا بنا يا زيروكس.

يلتفت بائع الكتب لابنته ريتو، البالغة إحدى وعشرين عاما من العمر،  والتي تعاونه بمبيع للكتب، ويقول: "اذهبي إلى البيت يا عزيزتي، والزمي الهدوء" ثم يمد يديه للقيود.

في السجن تفك قيود زيروكس ويودع في الزنزانة. ويجهد رؤوس رجال الشرطة، وهو يمسك القضبان، بحكايات مسلية. وربما يروي لهم حكاية مضحكة عن بنت جامعية شاهدها في ذلك الصباح ترتدي الجينز الأمريكي، أو كلمة قذرة جديدة بالتولو سمعها في الحافلة وهو في طريقه إلى قرية سوق الملح، أو ربما، إن كانوا بمزاج طيب يسمح بوقت أطول للترفيه، يقص عليهم، كما فعل عدة مرات من قبل، حكاية أبيه وهو يكافح طيلة حياته ليكسب لقمة عيشه - كان يحمل النفايات من بيوت السادة الأغنياء، وهي المهنة التقليدية لمن هم من نوعه. وطيلة يومه يتسكع الرجل المسن حول الجدار الخلفي لبيت السيد، بانتظار أن يشم رائحة البراز البشري. وحالما تبلغه تلك الرائحة، يأتي إلى البيت، وينتظر بركبتين مثنيتين، مثل حارس الكريكيت الذي ينتظر الكرة (وكان زيروكس يثني ركبتيه لتمثيل ذلك). وحالما يسمع "صوت إغلاق" الصندوق، يحمل المبولة من حفرة في الجدار، ويفرغها في خميلة الورود، وينظف المبولة بمريول ويعيدها قبل أن يأتي الشخص التالي لاستعمال دورة المياه. وذلك هو العمل الذي امتهنه طيلة حياته. هل تصدقون ذلك.

ثم يضحك السجانون.

كانوا يأتون لزيروكس بسامبوسك ملفوف بالورق، ويقدمون معه الشاي. فقد كانوا يعتبرونه رجلا مستقيما. ويطلقون سراحه في منتصف اليوم، فينحني لهم ويقول: "شكرا". وكان ميغيل دي سوزا، محامي الناشرين وتجار الكتب في شارع أمبريلا، يتصل بالمخفر ويصيح: "هل أطلقتم سراحه مجددا؟ ألا يعني قانون البلاد لكم أي شيء؟". وكان راميش مدير المخفر يبعد البوق عن أذنه ويتابع قراءة الصحيفة، بحثا عن أسعار سوق البورصة في بومباي. وهذه كل أماني راميش في حياته: أن يقرأ ملخص سوق البورصة.

حوالي أواخر المساء عاود زيروكس عادته. رتب نسخا مصورة أو نسخا مطبوعة بأسلوب رخيص مثل كارل ماركس وكفاحي وبعض الكتب المطبوعة وأفلاما وألبومات وغير ذلك على القماش الأزرق المفروش على الرصيف في هضبة المنارة، وجلست ريتو الصغيرة بظهر منتصب، بأنفها الطويل والسليم وشاربها الخفيف. وهي تراقب الزبائن الذين انتقوا بعض الكتب وكانوا يقلبون فيها.

قالت لزبون لم يعجبه الكتاب: "أعد الكتاب إلى مكانه. أعده بالضبط للمكان الذي أخذته منه".

زعق زبون لزيروكس:" أريد المحاسبة لامتحان القبول؟".

وصاح آخر: "محاضرات متقدمة في الحمل".

"متعة الجنس؟".

"كفاحي؟".

"لي لاكوكا؟".

وسأل شاب وهو يقلب في كتاب: "ما هو أفضل عرض تقدمه؟".

"خمس وسبعون روبية".

"ياه، أنت تغتصبني. هذا كثير جدا".

استدار الشاب وانصرف، ثم التفت وعاد وقال: "ما هو آخر سعر رخيص لديك. لا يوجد عندي وقت أضيعه معك".

"اثنان وسبعون روبية. إما أن تقبل به أو أن تنصرف. لدي زبائن آخرون".

كانت الكتب تصور أو أحيانا تطبع في مطبعة قديمة في قرية سوق الملح. ويحب زيروكس أن يكون بجوار الآلات. كان يربت على الآلة، وكان يعشق الآلة، ولا سيما حينما تومض كالبرق وهي تعمل، ويحب دورانها وهمهمتها. لم يكن يقرأ اللغة الإنكليزية، ولكنه يعلم أن للكلمات الإنكليزية ذات سلطة، وأن للكتب الإنكليزية جاذبية. وكان ينظر إلى صورة هتلر على غلاف كفاحي، ويشعر بسلطته وقوته. وينظر لوجه خليل جبران، ويراه شاعريا وغامضا، ويشعر بغموضه وشعريته. ويراقب وجه لاكوكا، المسترخي ويداه خلف رأسه، فيقاسمه استرخاءه. ولذلك قال لمدير المخفر راميش في إحدى المرات: "لا أريد أن أسبب لك أو للناشرين المشاكل، يا سيدي. أنا محب للكتب فقط: وأحب أن أطبعها، وأن أحملها وأبيعها. كان والدي يعمل بالبراز ليعيش يا سيدي. ولكنه لم يكن يقرأ أو يكتب. وسيتباهى بي كثيرا لو تمكن من رؤيتي وأنا أعيش من بيع الكتب".

وقع زيروكس مرة واحدة بمتاعب حقيقية مع الشرطة. وذلك حينما اتصل أحد الأشخاص بالمخفر وقال إن زيروكس يبيع نسخا من آيات شيطانية لسلمان رشدي منتهكا قانون الجمهورية الهندية. وحينما أحضر إلى المخفر في هذه الحالة وهو بالأصفاد لم يمنح التسهيلات المعتادة، ولم يقدم له كأس الشاي. وصفعه راميش.

ثم قال له: "ألا تعلم أن الكتاب ممنوع، يا ابن الصلعاء؟ هل تريد أن تحرض المسلمين على العنف؟ وتتسبب لي ولكل الشرطة هنا بالنقل إلى قرية سوق الملح؟".

توسل زيروكس بقوله: "اغفر لي. لم أكن أعلم أنه كتاب ممنوع حقا... أنا فقط ابن رجل ينظف البراز يا سيدي. وينتظر طيلة اليوم ليسمع صوت المبولة. أنا أعرف مكاني يا سيدي. ولا أحلم أن أتحداك. كانت غلطة يا سيدي. اغفر لي يا سيدي".

سمع المحامي دي سوزا بائع الكتب، وهو رجل صغير الحجم بشعر زيتي وشارب أنيق، بما جرى، وجاء إلى المخفر. نظر إلى الكتاب الممنوع - كان مجلدا ضخما بغلاف رقيق ويحمل صورة ملاك على الغلاف الأمامي - وهز رأسه كأنه لا يصدق.  وقال: " ابن البائس اللعين ذاك، يعتقد أنه سيصور الآيات الشيطانية. يا لها من وقاحة".

جلس على طاولة مدير المخفر وصاح: "أخبرتك أن هذا سيحصل إن لم تعاقبه. أنت المسؤول عن كل ذلك". نظر راميش إلى زيروكس نظرة ملتهبة، وكان يستلقي على السرير بصبر، كما طلبوا منه.

قال: "لا أعتقد أن أحدا شاهده يبيعه. وستجري الأمور على أتم ما يرام".

وطلب راميش ليخفف من غلواء المحامي من شرطي أن يأتي بزجاجة روم الكاهن العجوز. وتبادل كلاهما الكلام قليلا.

قرأ راميش فقرات من الكتاب وقال: "لا أرى دواعي هذا القلق في الواقع".

قال دي سوزا وهو يحرك رأسه: "المسلمون عنيفون. عنيفون".

وصلت زجاجة الكاهن العجوز. شرباها في نصف ساعة وذهب الشرطي ليأتي بغيرها. وكان زيروكس في زنزانته هادئا، ينظر إلى السقف، تابع الشرطي والمحامي الشرب. سرد دي سوزا لراميش متاعبه، وأخبر مدير المخفر المحامي بمتاعبه. أحدهما أراد أن يكون طيارا يحلق بين الغيوم، ويطارد المضيفات. والآخر - لم تكن لديه رغبات سوى العمل في سوق البورصة. وهذا كل شيء.

في منتصف الليل سأل راميش المحامي: "هل تريد أن أخبرك بسر؟".

وقاد المحامي خلسة إلى السجن وأبلغه بسر. بالاأنه بالإمكان خلع أحد قضبان الزنزانة. وخلعه الشرطي، وحرره، وأعاده إلى موضعه. وقال: "احذر. لا يحصل هذا كثيرا في هذا المخفر. ولكن هذا ما يجري حينما يحين الأوان".

ضحك المحامي. حرر القضيب وألقاه على كتفه، وقال: "ألا أبدو الآن مثل هانومان ؟".

قال الشرطي: "نعم. مثل التلفزيون تماما".

طلب المحامي فتح باب الزنزانة، وفتحت له. شاهد الاثنان السجين مستلقيا على فراشه، ذراع تغطي وجهه لتحميه من وخزات النور القادم من زجاجة ضوء عارية فوقه. وظهر جلد عار فضي تحت قميصه البوليستر الرخيص. وشعر أسود غزير مسترسل، وبدا لناظريه كأنه ينمو من حضنه. وبالكاد يمكن رؤيته.

قال: "هذا اللعين ابن المنبوذ. انظر كيف يشخر".

"كان والده ينظف البراز- وكان أصدقاؤه يعتقدون أنه سيرمي هذا البراز عليهم".

"يبيع آيات شيطانية. ويبيعها أمامي، كيف يجرؤ؟".

"هؤلاء الناس يعتقدون أنهم يمتلكون الهند. أليس كذلك؟. يريدون الحصول على أي عمل ممكن، وعلى كل الشهادات الجامعية. وكل ال...".

جر راميش سروال الرجل الذي يشخر. رفع القضيب عاليا، وعندها قال المحامي: "افعلها مثل هانومان حين يظهر في التلفزيون". استيقظ زيروكس وهو يصرخ. قدم راميش القضيب لدي سوزا. وتناوب الشرطي والمحامي. ضرب القضيب على ساقي زيروكس، عند مفصل الركبة، كما يفعل المهرج في التلفزيون، ثم ضرب القضيب على ساقي راميش عند أسفل الركبة بالضبط، كما يفعل المهرج إله القرد في التلفزيون، ثم ضرب بالقضيب ساقي زيروكس فوق الركبة بالضبط، ثم وهما يضحكان ويتبادلان التهنئة، ترنح الاثنان إلى الخارج، وهما يناديان على أي شخص ليقفل المخفر وراءهما.

وطيلة الليل وعلى فترات كلما استيقظ زيروكس كان يتابع صراخه.

في الصباح عاد راميش، وأخبره شرطي بما حصل لزيروكس. فقال:" اللعنة. لم يكن ذلك حلما". وأمر رجال الشرطة بمرافقة الرجل السجين إلى مستشفى هافلوك هنري العام، وطلب نسخة من جريدة الصباح، ليتمكن من الاطلاع على أسعار سوق البورصة.

في الأسبوع التالي وصل زيروكس وسط صخب وضجيج فقد كان على عكازتين، ودخل المخفر، وابنته تتبعه.

قال: "يمكنك أن تكسر ساقي، ولكن لا يمكنني التوقف عن بيع الكتب. هذا قدري يا سيدي".

قطب راميش وجهه ولكنه تحاشى عيني الرجل.

قال زيروكس وهو يرفع إحدى عكازتيه:" سأصعد إلى أعلى الهضبة يا سيدي. وسأبيع الكتب".

اجتمع راميش وبقية رجال الشرطة حول زيروكس وابنته وتوسلوا إليه. ولكن أراد زيروكس أن يخابروا دي سوزا، وفعلوا ذلك. جاء المحامي مع شعره المستعار، وبرفقة مساعديه، وكلاهما بالرداء الأسود والشعر المستعار. وحينما سمع لماذا استدعاه الشرطي انفجر بالضحك.

قال لراميش:" هذا الشاب يعاندك فقط. ولا يمكنه صعود الهضبة وساقه هكذا".

وأشار دي سوزا بأصبعه إلى منتصف قامة زيروكس وهو يقول: "وأنت إذا حاولت بيعه احذر - لن أكسر ساقيك فقط في المرة القادمة".

ضحك شرطي.

نظر زيروكس إلى راميش مبتسما بطريقته التهكمية. وانحنى وطوى راحتيه وقال: "اتفقنا".

جلس دي سوزا ليشرب روم الكاهن العجوز مع الشرطة - وجهزوا لعبة ورق أخرى. قال راميش إنه فقد بعض النقود في الأسبوع الماضي في السوق. وامتص المحامي أحد أسنانه وهز رأسه، وقال إنه في مدينة كبيرة مثل بومباي لا يوجد غير الغشاش والكذاب والبلطجي.

استدار زيروكس بمعونة عكازيه، وغادر المخفر. وتبعته ابنته. وتوجها إلى المنارة. واستغرق الصعود ساعتين ونصف الساعة، وتوقفا ست مرات ليشرب زيروكس الشاي، أو كوبا من عصير القصب. ثم مدت ابنته الملاءة الزرقاء أمام حديقة ديشبريمي هيماشاندرا راو، انحنى زيروكس وجلس على الملاءة، ومد ساقيه ببطء، ووضع بجانبه كتابا كبيرا بغلاف رقيق. وجلست ابنته أيضا لتراقب الكتب، وظهرها مستقيم ومنتصب. وكان الكتاب الممنوع في كل جمهورية الهند، هو الشيء الوحيد الذي نوى زيروكس أن يبيعه: كتاب الآيات الشيطانية لسلمان رشدي.

***

........................

أرافيند أديغا Aravind  Adiga  كاتب أمريكي من أصول هندية. حاز على البوكر البريطانية عن روايته "النمر الأبيض". وهذه القصة فصل من روايته "ما بين اغتيالين". ويقصد اغتيال المهاتما غاندي وأنديرا.

بقلم: أمبارو دافيلا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لن أنسى اليوم الذي جاء فيه ليعيش معنا. جلبه زوجي عند عودته من رحلة.

كنا قد مررنا حينها بحوالي ثلاث سنوات من الزواج، وكان لدينا طفلان، ولم أكن سعيدة. كنت بالنسبة لزوجي أشبه بالأثاث، الذي يعتاد الإنسان على رؤيته في مكان معين، ولكن لا يثير أي انطباع. كنا نعيش في قرية صغيرة، معزولة وبعيدة عن المدينة. كانت قرية شبه ميتة أو على وشك الاختفاء.

لم أستطع كبح صرخة من الرعب عندما رأيته للمرة الأولى. كان مظلمًا، شؤمًا. بعيون كبيرة مصفرّة، شبه دائرية وبدون رمش، كانت تبدو وكأنها تخترق الأشياء والناس.

تحولت حياتي التعيسة إلى جحيم. في نفس الليلة التي وصل فيها، تضرعت إلى زوجي ألا يحكم عليَّ بعذاب رفقته. لم أستطع تحمله؛ كان يثير فيَّ عدم الثقة والرعب. "إنه غير ضار على الإطلاق"، قال زوجي وهو ينظر إليَّ باستخفاف واضح. "ستعتادين على صحبته، وإذا لم تتمكني من ذلك..." لم يكن هناك أي وسيلة لإقناعه بأن يأخذه بعيدًا. فبقي في منزلنا.

لم أكن الوحيدة التي تعاني من وجوده. الجميع في البيت — أولادي، المرأة التي تساعدني في الأعمال المنزلية، وابنها الصغير — كنا نشعر بالرعب منه. فقط زوجي كان يستمتع بوجوده هناك.

منذ اليوم الأول، خصص زوجي له غرفة في الزاوية. كانت غرفة كبيرة، لكنها رطبة ومظلمة. وبسبب هذه العيوب، لم أكن أستخدمها أبدًا. ومع ذلك، بدا وكأنه سعيد بالغرفة. وبما أنها كانت مظلمة إلى حد ما، كانت تناسب احتياجاته. كان ينام حتى حلول الظلام ولم أعلم أبدًا في أي ساعة كان يخلد إلى النوم.

فقدت القليل من السلام الذي كنت أتمتع به في المنزل الكبير. خلال النهار، كان كل شيء يسير وكأنه طبيعي ظاهريًا. كنت أستيقظ دائمًا في وقت مبكر جدًا، ألبس الأطفال الذين كانوا قد استيقظوا بالفعل، أقدم لهم الإفطار وأشغلهم بينما كانت غوادالوبي ترتب المنزل وتخرج لشراء المستلزمات.

كان المنزل كبيرًا جدًا، مع حديقة في المنتصف والغرف موزعة حولها. بين الغرف والحديقة كانت هناك ممرات تحمي الغرف من شدة الأمطار والرياح التي كانت شائعة. كان ترتيب منزل بهذا الحجم والعناية بالحديقة، التي كانت شغلًا يوميًا لي في الصباح، مهمة شاقة. لكنني كنت أحب حديقتي. كانت الممرات مغطاة بالكروم التي كانت تزهر طوال معظم العام. أتذكر كم كنت أحب، في فترة بعد الظهر، أن أجلس في أحد تلك الممرات وأخيط ملابس الأطفال، بين عطر الياسمين والبوجنفيل.

في الحديقة كنت أزرع الأقحوان، والبنسات، والبنفسج الألبي، والبيغونيا، والهيليوتروبا. بينما كنت أسقي النباتات، كان الأطفال يقضون وقتهم في البحث عن الديدان بين الأوراق. أحيانًا كانوا يقضون ساعات، صامتين ومنتبهين جدًا، يحاولون التقاط قطرات الماء التي كانت تتساقط من الخرطوم القديم. لم أكن أستطيع أن أتوقف عن النظر بين الحين والآخر نحو غرفة الزاوية. على الرغم من أنه كان ينام طوال اليوم، لم أستطع أن أثق به.

كان هناك العديد من المرات التي كنت فيها أعد الطعام وأرى فجأة ظله ينعكس على موقد الحطب. كنت أشعر به خلفي... كنت أرمي ما في يدي على الأرض وأركض خارج المطبخ، أصرخ مثل المجنونة. ثم كان يعود إلى غرفته وكأن شيئًا لم يحدث.

أعتقد أنه كان يجهل تمامًا وجود جوادالوبي، فلم يكن يقترب منها أو يلاحقها. لكن الوضع كان مختلفًا مع الأطفال ومعي. كان يكرههم، وكان يراقبني دائمًا.

كلما خرج من غرفته، كان يبدأ أسوأ كابوس يمكن أن يعيشه إنسان. كان يقف في جناح صغير أمام باب غرفتي، ولا أجرؤ على الخروج بعدها أبدًا. في بعض الأحيان، وعندما كنت أظن أنه لا يزال نائمًا، كنت أذهب إلى المطبخ لتحضير عشاء الأطفال. وفجأة، أكتشفه في زاوية مظلمة من الردهة، مختبئًا تحت الكروم المتشابكة.

" ها هو، يا جوادالوبي!"

هكذا كنت أصرخ في يأس.

لم نكن أبدًا نذكر اسمه، لأنه كان يبدو أن ذكره يعيد ذلك الكائن المرعب إلى الوجود. كنا دائمًا نقول: "ها هو، خرج، هو نائم، هو، هو، هو..."

كان يتناول وجبتين فقط، واحدة عندما يستيقظ عند الغروب، وأخرى ربما في الفجر قبل أن يخلد إلى النوم. كانت غوادالوبي هي من تحمل له الصينية، وأستطيع أن أؤكد أنها كانت تلقيها في الغرفة بسرعة، لأن تلك المرأة المسكينة كانت تشاركنا نفس الرعب، بل ربما كان خوفها أعمق. كان طعامه لا يتجاوز اللحم، لم يكن يلمس غيره.

عندما كان الأطفال ينامون، كانت جوادالوبي تأتي إلي بالغداء إلى الغرفة. لم أستطع تركهم وحدهم، وأنا أعلم أنه قد استيقظ أو أنه على وشك الاستيقاظ. بعد أن تنتهي من مهامها، كانت جوادالوبي تذهب مع صغيرها للنوم، بينما كنت أبقى وحدي، أتأمل في نوم أطفالي. بما أن باب غرفتي كان يبقى مفتوحًا دائمًا، لم أجرؤ على النوم، خوفًا من أنه في أي لحظة قد يدخل ويهاجمنا. ولم يكن ممكنًا غلق الباب؛ لأن زوجي كان يعود دائمًا متأخرًا، وإذا لم يجده مفتوحًا، كان سيعتقد... وكان يعود في وقت متأخر جدًا. قال مرة إنه كان مشغولًا جدًا في عمله. وأعتقد أن هناك أشياء أخرى كانت تشغله أيضًا...

في إحدى الليالي، بقيت مستيقظة حتى قرب الساعة الثانية صباحًا، أسمعه في الخارج... وعندما استيقظت، وجدته بجانب سريري، يحدق فيَّ بنظراته الثاقبة والعميقة... قفزت من السرير وألقيت عليه مصباح البنزين الذي كنت أتركه مشتعلاً طوال الليل. لم يكن هناك كهرباء في تلك القرية، ولم أكن لأتحمل البقاء في الظلام، وأنا أعلم أنني في أي لحظة قد... نجا من الضربة وخرج من الغرفة. تحطم المصباح على الأرضية الطينية، واشتعل البنزين بسرعة. لولا تدخل جوادالوبي التي هرعت استجابة لصراخي، لكان  قد احترق البيت كله.

لم يكن لدى زوجي وقت للاستماع إلي، ولم يكن يعنيه ما يحدث في المنزل. كنا نتبادل الحديث فقط عن الأمور الضرورية. منذ وقت طويل، نفد الود بيننا واندثرت الكلمات.

أشعر بالغثيان كلما تذكرت تلك اللحظة... كانت غوادالوبي قد خرجت للتسوق وتركت الطفل الصغير مارتين نائمًا في صندوق صغير اعتادت أن تضجعه فيه خلال النهار. ذهبت للاطمئنان عليه عدة مرات، وكان ينام بهدوء. كان الوقت يقترب من الظهيرة. كنت أسرّح شعر أطفالي حين سمعت بكاء الطفل مختلطًا بأصوات غريبة وصراخ مروّع. هرعت إلى الغرفة لأجده يضرب الطفل الصغير بوحشية وقسوة.

لا أستطيع أن أشرح كيف نجحت في انتزاع الطفل من بين يديه وكيف أمسكت عصا كانت قريبة مني وهاجمته بكل الغضب المكبوت في داخلي منذ فترة طويلة. لا أعلم إن كنت قد تسببت له بأذى كبير، فقد انهرت فاقدة الوعي. عندما عادت غوادالوبي من السوق، وجدتني مغشيًا عليّ وطفلها مغطى بالكدمات والجروح النازفة. كان الألم والغضب الذي شعرت بهما لا يوصفان.

لحسن الحظ، نجا الطفل واستعاد عافيته سريعًا.

خشيت أن تهجرني غوادالوبي وتتركني وحيدة في ذلك الجحيم. لكن وفاءها وشجاعتها كانا أقوى من كل خوف، فقد كانت امرأة نبيلة، تحمل في قلبها مودة عميقة لي ولأطفالي. غير أن ما حدث ذلك اليوم أشعل في قلبها نيران كراهية لا تهدأ، تطلب الانتقام العاجل.

عندما رويت لزوجي ما جرى، وطلبت منه أن يأخذه بعيدًا، مؤكدة أنه قد يقتل أطفالنا كما كاد أن يفعل مع مارتين. لكنه واجهني ببرود قاتل:

— لقد أصبحتِ أكثر هستيرية كل يوم، إنه لأمر مؤلم ومخزٍ أن أراكِ في هذه الحالة. لقد قلت لكِ مرارًا وتكرارًا إنه كائن غير مؤذٍ.

في تلك اللحظة، فكرت في الهرب، بعيدًا عن البيت، عن زوجي... وعن ذلك الوحش. لكنني كنت مكبّلة بالفقر والعزلة. لم يكن هناك مال، ولا وسيلة للهروب. بلا أصدقاء ولا أقارب ألجأ إليهم، شعرت وكأنني طفلة يتيمة ألقيت في بحر مظلم بلا ضفاف.

أما أطفالي، فقد تسلل الرعب إلى أعماقهم. لم يعودوا يجرؤون على اللعب في الحديقة، وأصبحوا يلتصقون بي كظلي. وعندما كانت جوادالوبي تخرج إلى السوق، كنت أغلق الباب علينا بإحكام، محصنة نفسي وأطفالي داخل الغرفة.

ذات يوم، قلت لغوادالوبي بصوت متهدج:

- لا يمكن أن تستمر هذه الحال.

نظرت إليّ بحزم وقالت:

- علينا أن نفعل شيئًا، وبسرعة.

سألتها بيأس:

- ولكن ماذا يمكننا أن نفعل ونحن وحدنا؟

ابتسمت ابتسامة مليئة بالغموض وقالت:

- نعم، نحن وحدنا... ولكن معنا كراهية تغلي.

رأيت في عينيها بريقًا غريبًا، مزيجًا من الغضب والعزم. شعرت بالخوف يزحف داخلي... لكن، للمرة الأولى، شعرت أيضًا ببصيص أمل ينبض في الظلام.

لقد جاءت الفرصة حينما كنا في أشد الحاجة إليها، وعندما لم نتوقعها على الإطلاق . غادر زوجي إلى المدينة لقضاء بعض الأعمال. أخبرني أن الأمر سيستغرق حوالي عشرين يومًا للعودة.

لا أعلم إذا كان قد علم أن زوجي قد رحل، لكن في ذلك اليوم استيقظ قبل الموعد المعتاد ووقف أمام غرفتي. نامت جوادالوبي وطفلها في غرفتي، وأخيرًا تمكنت من إغلاق الباب.

قضيت جوادالوبي معظم الليل ونحن نضع الخطط. كان الأطفال نائمين في هدوء. بين الحين والآخر كنا نسمع خطواته تقترب من الباب ثم يضربه بغضب...

في اليوم التالي، قدمنا الإفطار للأطفال الثلاثة، ولتكون الأمور أكثر هدوءًا ولكي لا يفسدوا خطتنا، حبسناهم في غرفتي. كان لدينا الكثير من الأمور التي يجب إنجازها وكان هناك عجلة كبيرة لإنجازها، لدرجة أننا لم نتمكن من تضييع الوقت حتى في تناول الطعام.

قطعت جوادالوبي العديد من الألواح الكبيرة والمتينة، بينما كنت أبحث عن المطرقة والمسامير. وعندما تمَّ تجهيز كل شيء، توجهنا بصمت نحو الغرفة في الزاوية. كانت أبوابها نصف مفتوحة. ونحن نحبس أنفاسنا، خفضنا الأقفال، ثم أغلقنا الباب بالمفتاح وبدأنا في تثبيت الألواح حتى أُغلق تمامًا. أثناء عملنا، كانت قطرات العرق الثقيلة تنساب على جباهنا. لم يُسمع أي صوت منه في ذلك الحين، كان يبدو وكأنه غارق في نوم عميق. وعندما انتهينا من كل شيء، عانقنا بعضنا البعض، نحن و جوادالوبي، والدموع تملأ أعيننا.

كانت الأيام التالية مرعبة. عاش العديد من الأيام بلا هواء، بلا ضوء، بلا طعام... في البداية كان يضرب الباب، ويرتطم به، ويصرخ بشكل يائس، ويخدش... لم نستطع أنا وجوادالوبي أن نأكل أو ننام، كانت الصرخات مروعة... في بعض الأحيان كنا نعتقد أن زوجي سيعود قبل أن يموت. إذا وجده هكذا...! كانت مقاومته كبيرة، أعتقد أنه عاش ما يقارب الأسبوعين... في يوم ما، لم يُسمع أي صوت. ولا حتى أنين... ومع ذلك، انتظرنا يومين آخرين قبل أن نفتح الغرفة. عندما عاد زوجي، استقبلناه بخبر موته المفاجئ والمربك.

***

......................

(تمت)

* الكاتبة: أمبارو دافِيلا/  وُلدت في عام 1928 في زاناتيكيتا، المكسيك. كانت روائية وشاعرة وكاتبة، ولها إسهام كبير في بلدها، حيث كانت رائدة في إنتاج القصص التي تمزج بين الخيال والغرابة. تبرز هذه الخصيصة نفسها أهمية الكاتبة في المجال الأدبي، خصوصًا من خلال تقديمها لأسلوب فريد يدفع القارئ للتنقل بين الواقع والخيال. من بين الجوائز التي حصلت عليها، جائزة خافيير فيلاروتيا في عام 1977 عن مجموعتها القصصية أشجار متحجرة التى أشهر أعمالها إلى جانب مجموعة الزمن المكسور (1959).  وأما قصة الضيف فتعد واحدة من أشهر أعمالها أيضا، توفيت الكاتبة في 18 أبريل 2020 عن عمر يناهز 92 عامًا.

الصفحة 1 من 6

في نصوص اليوم