ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

Samai Atoot : Two Poems

Samai Atoot

Translated by Nizar Sartawi

***

1-  A Space of Weariness

A space of weariness…

Roots driving

their feet,

their soles,

their strings

into the flesh.

Here I am

a rope of thorns

On this earth I had

a house that vanished

when I cast it

in firewood.

**

A Soothsayer

A soothsayer –

and yet she knows us not!

She only reads us in coffee cups,

but when she lays eyes on us,

she doesn’t know who we are…!

She sets for us

a place

bereft of memory,

then leaves us dead

with no address!

......................

قصيدتان

سامية العطعوط*

***

1. فَضاءٌ مِنْ تَعَب

فضاءٌ مِنْ تَعَب

جذورٌ تضربُ

أقدامَها

نعالَها

أوتارَها

في الجَسَدْ

هذا أنا

حبلٌ مِنْ مَسَد

ولي في الأرضِ

بيتٌ تلاشى

حينَ أودعتُهُ

الحَطَب

**

2. عَرّافّة

عَرّافةٌ

وَتَجْهَلُنا!

تَقرأُنا في الفنجانِ

وإذْ تَرانا

لا تَعرفُِنا.. !

تُعّدُ لَنا

مَكاناً

بِلا ذاكِرَة

وتَتْرُكُنا قَتْلى

بِلا عنوان...!

***

...................

* أديبة أردنية

 

بقلم: شارل بودلير

ترجمة: سوران محمد

***

قريباً سنغمز أنفسنا في ظلال باردة،

وستزول كل ظهيرة صيفية خلابة.

أسمع مسبقا دويّ جذوع الأشجار الميتة في الأسفل

تتساقط على حصاة الرصف والعشب.

*

سيرجع إليّ الشتاء كله:

سخرية، كراهية، ارتجاف، رعب، مشقة وسيئة،

ومنفيّ، كالشمس، إلى سجن قطبي،

ستتحجر روحي فى كتلة من الجليد الأحمر.

*

أرتجف وأنا أستمع إلى جذوع شجرة تتحطم وتصطدم:

الأصداء خافتة كطبول الجلادين.

عقلي كحصن يستسلم ببطء

لعواصف تصدم وتضرب بلاهوادة.

*

يبدو لي، وأنا أتأرجح أمام هذه الصدمات، أن أحدهم

يثبت مسامير نعش على عجل في مكان ما.

لمن؟ -- كان الصيف بالأمس؛ والآن هو الخريف

لا تزال أصداء الرحيل تتردد في الهواء.

***

............................

نبذة عن حياة الشاعر و نتاجاته:

شارل بودلير شاعر وناقد فرنسي. ١٨٢١-١٨٦٧  بدأ كتابة قصائده النثرية عام 1857 عقب نشر ديوانه أزهار الشر، الذي أثار جدلاً واسعاً عند نشره بسبب جرأة موضوعاته وتناوله للجانب المظلم من الحياة الحديثة، مدفوعا بالرغبة في شكل شعري يمكنه استيعاب العديد من تناقضات الحياة اليومية في المدن الكبري حتي يقتنص في شباكه الوجه النسبي الهارب للجمال، وجد بودلير ضالته فيما كتبه الوزيوس بيرتيران من پالادات نثرية مستوحاة من ترجمات البالادات الاسكتلندية والألمانية الي الفرنسية. والبالاد هو النص الذي يشبه الموال القصصي في العربية وهو الشكل الذي استوحاه وردزورث وكوليريدج في ثورتهما علي جمود الكلاسيكية.

وفي عام 1861 بدأ بودلير في محاولة لتدقيق اقتراحه الجمالي وتنفيذه، فكتب هذه القصائد التي تمثل المدينة أهم ملامحها، وتعتبر معينا لا ينضب من النماذج والأحلام.

يعتبر بودلير من أبرز شعراء القرن التاسع عشر ومن رموز الحداثة في العالم. ولقد كان شعر بودلير متقدما على شعر زمنه، فلم يفهم جيدا ولم يعطى حقه الا بعد وفاته سنة ١٨٧٦عن عمر ناهز ٤٦ عاما.

وكان الشاعر شارل بودلير يري ان الحياة الباريسية غنية بالموضوعات الشعرية الرائعة، وهي القصائد التي أضيفت إلي أزهار الشر في طبعته الثانية عام 1861 تحت عنوان لوحات باريسية.

لم ينشر ديوان سأم باريس في حياة بودلير، وهو الديوان الذي لم يتحمس له غوستاف لانسون وسانت ـ بيف، هذا الديوان الذي اثر تأثيرا عارما في الأجيال اللاحقة.

Poemhunter  /   المصدر

Samai Atoot

Translated by Nizar Sartawi

***

Starfish

The starfish I caught

did not light up

our darkness

but did light up my path

to you…

***

Fog Street

Like distant lamps

in the Fog Street,

we’re mere strangers

dispersed by life...

***

Mirrors

In my dream I see her as my cave

She sees me as her mirror!

Walls rise between us

and the dream loses

its mirrors!

***

A Bow

Truth has a glowing sun

and I have a sky

that has no light,

nor a bow to bend

over my corpse

and scatter colors upon it

or teach me

how to bow

***

......................

سامية العطعوط

أربع قصائد

***

نَجمةُ البَحْر

لم تضئ نجمةُ البحرِ التي اصطدتُها،

عتمتَنا

لكنّها أنارَتْ دربي إليك..

***

شارعُ الضَباب

كَضوءِ المَصابيحِ البَعيدةِ

في شارعِ الضبابِ

أغرابٌ نحنُ

تُشتّتنا الحَياة...

***

مرايا

أراها في الحلمِ لي كهفاً

تراني لها مرآة..!

تقفزُ جُدرانٌ ما بَيننا

يفقدُ الحُلُمُ

مَراياه!!!

***

انحناءَة

للحقيقةِ شمسٌ تَتَوهّج

ولي سماءٌ

بِلا ضِياء

بلا قوسٍ يَنْحني

فوقَ جثّتي

ينثرُ الألْوانَ ...

أو يُعلّمُني

كيفَ يكونُ

الانحِناء

***

شاعرة وقاصة أردنية

بقلم: جينا بيريولت

ترجمة: د. محمد غنيم

***

أخذتني أمي معها إلى تلك الحفلة لأن عيد ميلادي الثالث عشر كان بعدها بيومٍ واحد فقط، وقالت إننا نستطيع تخيلها كحفلة لي، حفلة عيد ميلاد لا يعرفها إلا نحن الاثنتان. ابتعدتُ عن أمي والأصدقاء الذين يحتضنونها، وخرجتُ وحدي إلى الغرف التي كان فيها الغرباء. كلما رفعتُ بصري، التقيتُ بنظرة، ولم يكلمني أحد مازحًا كما يفعلون مع طفل، وعندما اقترب الرجال مني، عاملوني بنوع من المعرفة، كما لو كنتُ غارقة في التجارب التي تخيلتها فحسب.

أستطيع أن أتخيل نفسي في ذاكرتي كما لو كنت أراقب فتاة أخرى من زاوية غرفة: كيف بدت في ثوب أخضر باهت يلتصق بالثديين الصغيرين والوركين المستديرين، لم يعد قماشًا مجعدًا أو مطويًا، ولا قماشًا مستقلاً بذاته، بل كان من النوع الذي يطاوع الجسد الفتي الذي كان قد بدأ للتو يعلن عن نفسه، أو رغبته، أو إرادته. وأستطيع أن أرى كيف التفت لتُغوي بنظرتها الجانبية، شعرها الأشقر قصيرًا حتى كتفيها، بلا ضفائر، ولا مشابك شعر، ويمكنني أن أسمع جزءًا من صوتها، صوتًا يتغير كصوت صبي، لكن صوتها يتغير بدافع الترقب، ليس مرتفعًا ومترددًا كصوت الطفل.

بقيتُ أنا وأمي منفصلتين. أتذكر أنني رأيتها وسط مجموعة الضيوف في غرفة أخرى بعيدة، وأتذكر أنني رغبت في أن أكون معها، لأنها، كما في طفولتي، كانت تحميني من الأشخاص الذين يربكونني، وأتذكر أيضًا أنني كنت سعيدة بتلك المسافة بيننا. وبينما تُصدر أساورها رنينًا على معصميها، كانت تُلقي التحية على المضيفة وعلى النساء وتثني على ذكاء الرجال وحكمتهم، فتُسحر الجميع.

وصل والدي متأخرًا إلى الحفلة. كنا نتشابك الأيدي ونتجول في المكان، نتناول المقبلات ونشرب ما يُقدم لنا في أكواب كثيرة ترن، وعندما شبعنا، ليس فقط من الطعام والشراب، بل من الأصوات الصاخبة ونوبات الضحك، وجدنا غرفةً خاليةً من أي أحد. جلسنا على أريكة عتيقة، ظننتُ أنها ثمينة جدًا لدرجة لا ينبغي الجلوس عليها، أريكة مخملية زرقاء داكنة، منحنية كالهلال، لكننا جلسنا هناك، ربتنا على بطوننا، وتنهدت تنهيدات طويلة من فرط المتعة. دخلت الشابة بخجل، كما لو كانت تطلب معروفًا من أشخاص لم يروها من قبل. بدت غير مستقرة على قدميها، وخمنت أن ذلك بسبب المشروبات التي تناولتها. جلست على الطرف الآخر من الأريكة، وعلى الجانب الآخر من والدي، ثم عرفت أنها لحقت بنا.

قال لها: "هذه ماري، ابنتي"

لكن كلامه كان بمثابة تحذير لا تعريف، ولم يذكر لي اسمها.

سألها: "كيف حالكِ؟"

فقالت: "أنت تعرف كيف حالي."

عند ذلك التفت والدي إليّ قائلاً، وكان في كلامه نبرة الأمر لا الرجاء: "ماري، هل ستذهبين؟ أين أمك؟"

لكنه لم يكن شخصيةً قويةً لتأمر. كان في حلقه خشونةٌ كسعالٍ مُكبوت، وعيناه مُرتعشتان. إن فقد سلطة الأب في تلك اللحظة، فقد اكتسب سلطةً أخرى، وهي سلطة الرجل الذي اكتسب خبرةً تفوق معرفة عائلته. ما كان يعرفه عن حياته ولم تكن عائلته تعرفه بدا لي وكأنه يمنحني تجاربي الخاصة التي لا تُحكى. كان الأمر كما لو أنه منحني حريةً مطلقةً في التعامل مع العالم.

لم أستطع النهوض وتركهما. ظننتُ أنني قد أفعل، لكنني لم أستطع.

لم تنتظرني حتى أرحل. قالت له بصوت خافت، ونظرتها الجانبية على يدها وهي تمسح مخمل الأريكة:

"أريد أن أسألك إن كنتَ قد أتيتَ لرؤيتي يومًا.ابتعدتُ حتى ترى عندما تأتي أنني لم أكن أنتظرك، لكن بعد أن انتقلتُ تمنيت لو بقيتُ في نفس المكان وواصلتُ الانتظار."

لم تعد تلك الشابة الخائفة التي تخشى والدي. بل كانت امرأة فاتنة، بفخذين كبيرين تحت فستانها الحريري الوردي. وعندما أدرك والدي أنني رأيتها كما رآها في الماضي، ولا بد أنه لا يزال يراها في الحاضر، نهض وابتعد عنا.

جلستُ معها لبضع دقائق، دون أن أنطق بكلمة، كما لو كنت مع صديقة أفصحت لي عن سرّها. كانت تداعب الأريكة، وتتحرك يدها في دوائر صغيرة نحو المكان الفارغ الذي كان والدي يجلس فيه.

عندما تركتها، لم أتبع والدي. أردتُ أن أجد أمي، بدلًا من ذلك، وأن أضمّها بين ذراعي طلبًا للمغفرة. شعرتُ أنني لن أستطيع النظر في عيني أمي لفترة طويلة، ولم يكن ذلك لأنني أعلم أنها تعرضت للخيانة ولم أستطع إخبارها. فبعد اكتشافي لأبي وتلك المرأة، لم أكن قد فكّرتُ فيها.

كان الضيوف يتدفّقون جماعاتٍ نحو البيانو الكبير، حيث كان الفنان يجلس ليعزف. انضممتُ إليهم، فإذا بي أُدفَع إلى الأمام قريبًا منه، شابٌّ بشعرٍ فضيّ ناعم وابتسامةٍ تكشف عن أسنانٍ صغيرة. سمعتُ أنه ابن عمّ المضيفة، مغنيٌ ذاع صيته في النوادي الليلية والحفلات الكبيرة. كانت ربطة عنقه السوداء تتمايل وهو يتبادل أطراف الحديث مع الضيوف المتجمّعين حول البيانو.

كانت الأغنية التي غناها - بصوته المتقلب كوجهه، يرتجف في لحظة، ثم يهدأ في أخرى - تدور حول ازدياد عجز العشاق عن التعبير عن رغباتهم. كان هناك خلل ما في حياة العشاق في نهاية كل مقطع، ثم كان يدق على المفاتيح ليؤكد على مآسيهم العبثية.

كانوا جميعًا متلاصقين، ثلاثة منهم في حلقة حول البيانو، وكانوا جميعًا يضحكون على كل هزيمة للحبيبين. كانت عيونهم مغمضة بشدة من شدة الضحك، أو تسبح جانبًا، وكان أحدهم يضع سيجارته بين شفتيه ليجذب الدخان جفنيه. كانوا يُشيحون بنظرهم عن أعين الآخرين.

كانت أمي بين الحشد. رأيتها على البيانو، وجهها محصور بين وجهين آخرين. كانت تُحرك عينيها وتتطقطق بلسانها وتضحك، كغيرها ممن حولها، شعرتُ بفيض من الحب والاهتمام بها. كانت تحظى بدعمٍ كبير، ولكن مهما اجتمع الناس على ذلك البيانو وفي كل مكانٍ آخر للتقليل من شأن العشاق، كنتُ أعلم أن كل المحاولات ستنتهي بالفشل.

***

.......................

الكاتبة: وُلدت جينا بيريولت/Gina Berriault في كاليفورنيا لأبوين مهاجرين يهود من روسيا. خلال مسيرتها الأدبية الطويلة، ألّفت أربع روايات وثلاث مجموعات قصصية، ونالت جوائز مرموقة، منها زمالة جوجنهايم، وجائزة بوشكارت، والعديد من جوائز أو. هنري. وحظيت بإعجاب واسع كواحدة من أعظم كاتبات القصة القصيرة الأمريكيات، وحققت نجاحًا تجاريًا في أواخر حياتها مع مجموعة "نساء في أسرّتهنّ" التي حازت على جائزة بن/فولكنر، وجائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية، وجائزة مؤسسة ريا. ومن بين هذه المجموعة، قصة "المرأة ذات الفستان الوردي". توفيت بيريولت في منزلها عام 1999.

* نقلا عن جريدة أخبار الأدب المصرية بتاريخ 30 نوفمبر 2025.

بقلم: ناظم حكمت

ترجمة: نزار سرطاوي

***

الإنسانية العظيمة هي التي تسافر على سطح السفينة

تركب في الدرجة الثالثة في القطار

تسير مشيًا على الأقدام فوق الجسر

الإنسانية العظيمة.

*

تذهب الإنسانية العظيمة إلى العمل في الثامنة

تتزوج في العشرين

تموت في الأربعين

الإنسانية العظيمة.

*

ثمّة ما يكفي من الخبز للجميع خَلا الإنسانية العظيمة

الأمر نفسه بالنسبة للأرزّ

للسكر

للقماش

للكتب

هناك ما يكفي للجميع خلا الإنسانية العظيمة.

*

الانسانية العظيمة ليس لا ظلَّ لها فوق ترابها

لا مصباحَ في طريقها

لا زجاجَ في نافذتها

لكن الإنسانية العظيمة لديها أمل

ليست ثمّة من يقدر أن يعيش بدون أمل.

***

...........................

* يُعدّ ناظم حكمت أول شاعر تركي حديث. ولد عام 1902 في سالونيك التي كانت في ذلك الوقت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية لكنها الآن تابعة لليونان. كان والده موظفًا في وزارة الخارجية. ولعلّ جده ناظم الذي كان شاعراً هو الذي وجهه نحو الشعر. وقد صدرت مجموعة ناظم الشعرية الأولى وهو السابعة عشر من عمره.

في تلك الفترة الزمن احتل الحلفاء وطنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فغادر ناظم مسقط رأسه في إسطنبول للالتحاق بالجامعة في موسكو. وهناك تواصل مع العديد من الكتاب والفنانين، الذين كانوا من مختلف أنحاء العالم.

في عام 1924عاد إلى تركيا بعد الاستقلال. وبدأ ينشر أشعاره ومقالاته في الصحف اليسارية وغيرها من المنشورات. غير أن ميوله اليسارية جلبت عليه الكثير من المتاعب، مما اضطره إلى العودة إلى روسيا، حيث تابع الكتابة دون الخضوع للرقابة.

في عام 1928 صدر في تركيا عفو عام، وهذا ما شجع ناظم على العودة إلى بلاده. وخلال السنوات العشر التالية ، نشر تسعة كتب شعرية منها خمس مجموعات من القصائد بالإضافة إلى أربعة قصائد مطولة أصدر كلّاَ منها في كتاب منفصل.

تعاملت الدولة التركية من ناظم بالكثير من الشكّ والعداء، ولعلّ هذا ما جعل الشعب ينظر إليه باعتباره بطلاً. وكان من بين مؤلفاته عمل بارز يدور حول أسلوب الحياة الذي التي يتمتع به رجال بلاده ونساؤها من أهل المناطق الريفية كما في البلدات والمدن، وجاء الكتاب تحت عنوان مناظر طبيعية من بلدي. ويعتبر واحداً من الأعمال الأدبية الوطنية التركية العظيمة.

تعاظمت الضغوط السياسية على ناظم مرة أخرى. إذ لم يكن تطرفه موضع ترحيب في تركيا. وكثيرا ما كان يوصف بالشيوعي الرومانسي أو الثوري رومانسي. لكن وجهات نظره كانت مخالفة للأحزاب السياسية الحاكمة في وطنه، وكثيرا ما كان يتم اعتقاله بسبب ذلك، فقضى الكثير من أيام حياته في السجن أو في المنفى حتى عام 1951، حيث غادر وطنه مرة أخرى ، ولم يعد إليه أبدًا. فقد عاش من ذلك الحين وحتى وفاته في الاتحاد السوفيتي وأجزاء متفرقة من أوروبا الشرقية.

كان ناظم متحمساً للشيوعية المثالية، وكان الجمهور يستقبل قصائده الوطنية بصورة إيجابية. إلا أنه في الفترة ألأخيرة تأثر بشكل كبير بالمدرسة المستقبلية الروسية في موسكو. وراح يتخلى عن الأشكال "التقليدية" للكتابة. وقد وحاول أن "ينزع الشعرية" عن الشعر.

كان ناظم يكتب باللغة التركية ولكن الكثير من أعماله ترجمت إلى الإنجليزية وإلى العديد من اللغات. وقد تعرض لأزمة قلبية وتوفي في موسكو عام 1963.

أنطون تشيخوف

ترجمة: نزار سرطاوي

***

ذات مساءٍ لطيف كان موظّفٌ حكومي لا يَقلُّ عن المساء لطفًا يُدعى إيفان دميتريتش تشيرفياكوف يجلس في الصف الثاني من الأكشاك مُحدّقًا من خلال نظّارته الخاصّة بالمسرح يشاهد أوبرا "أجراس كورنفيل". راح يطيلٌّ النظر وهو يحسّ أنه في ذروة النعيم. ولكن فجأةً.. وفي القصص كثيرا ما تصادفِ المرءَ عبارةُ "لكن فجأة". والمؤلفون مُحِقّون: فالحياة مليئة بالمفاجآت! لكنْ فجأة تغضّنَ وجهه، واختفت عيناه، وتوقفت أنفاسه.. انتزع النظّارة عن عينيه وانحنى و.. "أتشي !!" وعطس، كما يمكنك أن تتخيّل. ليس من المستهجن أن يعطسَ أحدٌ في أي مكان. الفلاحون يعطسون وكذلك أمناء الشرطة وحتّى المستشارون السِريّون أحيانًا. الرجال جميعًا يعطسون. لم يرتبك تشيرفياكوف على الإطلاق. مسح وجهَه بمنديله، وأجال النظر حوله، مثل أي رجل مهذّب ليرى ما إذا كان قد أزعج أحدًا بسبب عطاسه. ولكن بعد ذلك استولى عليه الارتباك. فقد رأى رجلاً عجَوزًا يجلس أمامه في الصف الأول من الأكشاك يمسح رأسَه الأصلعَ وعنقَه بقفّازِه بعناية ويغمغم شيئًا بينه وبين نفسه. عرف تشيرفياكوف الرجلَ العجوز، بريزالوف، الذي كان مديرًا عامًّا يعمل في وزارة النقل.

قال تشيرفياكوف في نفسه: "لقد رششته". هو ليس رئيس قسمي، لكنّ الأمرَ يظلُّ مُحرجًا. ينبغي أن أعتذر".

تنحنحَ تشيرفياكوف وانحنى بجسمِه كلِّه إلى الأمام، وهمس في أذن المدير العام.

"المعذرة يا صاحب السعادة. لقد رشَشْتك عن غير قصد.."

"لا يهمّ، لا يهمّ."

"بحق السماء سامحني، أنا.. أنا لم أقصد ذلك."

"أوه، رجاءً اجلس! دعني أستمع!"

شعر تشيرفياكوف بالحرج، ابتسم بغباء، وراح يحملق بالمنصة. كان يحملق بها، لكنه لم يعد يُحسّ بالبهجة. بدأ القلق يساوره. وفي فترة الاستراحة صعد إلى بريزالوف وسار بجانبه وتمتم وقد تغلب على حيائه:

"لقد رششتك، يا صاحب السعادة، سامحني.. كما ترى.. لم أفعل ذلك كي.."

"أوه، هذا يكفي.. لقد نسيتُ الأمر، وأنت لا تتوقف عن الحديث عنه!" قال المدير العام وهو يحرك شفته السفلى وقد نَفِد صبره.

قال تشيرفياكوف في نفسه وهو ينظر بعين الريبة إلى المدير العام: "لقد نسيَ، لكن ثمّةَ ضوءٌ شيطانيٌ في عينه. وهو لا يريد أن يتحدث. يتعيّن عليّ أن أشرحَ له.. أني حقًّا لم أتعمّد.. أنّ هذا هو قانون الطبيعة، وإلا فإنه سيظنّ أني قصدت أن أبصق عليه. لا يظنُّ ذلك الآن، لكنه سيظّن ذلك لاحقًا!"

عند عودة تشيرفياكوف إلى البيت، أخبر زوجته عن مخالفته للأخلاق الحميدة. وقد صدمه أن زوجتَه لم تأخذ الحادثة على محمل الجدّ. أحسّت بشئٍ من الوَجَل، لكن عندما علمت أن بريزالوف في قسم مختلف، اطمأنت.

قالت: "مع ذلك، فمن الأفضل لك أن تذهبَ وتعتذر، وإلا سيظنُّ أنك لا تعرف كيف تتصرف بصورةٍ لائقة في الأماكن العامة".

"هو ذاك! لقد اعتذرت بالفعل، لكنه تعامل مع الأمر بطريقةٍ غريبة.. لم يقل كلمة منطقية واحدة. لم يكن ثمّةَ وقتٌ للتحدث حسب الأصول".

في اليوم التالي، ارتدى تشيرفياكوف بدلةً جديدة وحلق شعره وذهب إلى مكتب بريزالوف ليشرح الأمر. دخل إلى غرفة استقبال المدير العام ورأى هناك عددًا من مُقدّمي الالتماسات وكان بينهم المدير العام نفسه، وقد شرع في مقابلتهم. بعد مقابلة عددٍ من مقدمي الالتماسات، رفع المدير العام عينيه ونظر إلى تشيرفياكوف.

"بالأمس في أركاديا، إن كنت تتذكر يا صاحب السعادة،" بدأ تشيرفياكوف، "عطست و.."

"ما هذا الهراء.. إنه فوق الاحتمال!" ثم قال المدير العام مخاطبًا مقدم الالتماس التالي: "ماذا يمكنني أن أفعل لك"،

"لن يتكلم"، قال تشرفياكوف في نفسه وقد أعتراه الشحوب. "هذا يعني أنه غاضب.. لا، لا يمكن أن يظل الأمر هكذا.. سأشرح له".

عندما أنهى الجنرال حديثه مع آخِر المُراجعين واستدار متجهًا نحو مكتبه الداخلي، تقدّم تشيرفياكوف خطوةً نحوه وتمتم:

"يا صاحب السعادة! إن جاز لي أن أزعج سعادتك، فهذا ببساطة نابعٌ من شعور بالأسف!.. لم يكن عن قصد، إن تكرّمتَ وصدقتني".

بدا الضيق على وجه المدير العام ولوّح بيده.

قال وهو يغلق الباب خلفه: "ما هذا؟ أنت ببساطة تسخر مني أيها السيد".

"أين السخرية في ذلك؟" فكّر تشيرفياكوف، "ليس هناك شيء من هذا القبيل! إنه مدير، لكنه غير قادر على الفهم. إذا كان الأمر كذلك، فلن أعتذر لهذا المُدّعي بعد الآن! فليأخذه الشيطان. سأكتب إليه رسالة، لكنني لن أذهب. لا والله، لن أذهب".

هذا ما دار في خَلَد تشيرفياكوف وهو في طريقه إلى البيت. لم يكتب رسالةً للمدير، راح يفكر ويفكر ولم يستطع أن يُؤلّف تلك الرسالة. كان لا بدّ له أن يذهب في اليوم التالي ليشرح الأمر بنفسه.

تمتم عندما رفع الجنرال عينيه المستفسرتين نحوه: "لقد غامرتُ بإزعاج سعادتك بالأمس، لا لكي أسخر، كما تفضّلت بالقول. كنت أعتذر عن رشّك بالعُطاس.. لم أفكّر بالسخرية منك حتى في الحلم. وهل أجرؤ على السخرية منك. إن اعتدنا على السخرية فلن يبقى هناك احترام للناس، سيكون هناك.."

"أخرج من هنا!" صرخ المدير العام، وتحوّل لونه بغتةً إلى الأرجواني، وراح بدنه كلّه يرتعش".

"ماذا؟" سأل تشيرفياكوف بصوت خافت.

"أخرج من هنا!" كرّرَ المدير العام وهو يضرب الارض بقدمه.

بدا أنّ شيئًا ما راح ينهار في أعماق تشيرفياكوف. لم يرَ شيئًا ولم يسمع شيئًا،. سار متمايلًا نحو الباب، وخرج إلى الشارع، ومضى مترنحًّا.. وصل إلى البيت بصورةٍ آليّة، ودون أن يخلعَ بدلته، استلقى على الأريكة ومات.

***

...............

نبذة عن الكاتب

يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف، المولود في تاغانروغ في جنوب روسيا في عام 1860، أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. كتب 17 عملًا مسرحيًا وأكثر من 500 قصة قصيرة، ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة حظيت أربعٌ منها على الأقل بشهرة عالمية، وهي: "نورس البحر" (1895)، "العم فانيا" (1899)، "الشقيقات الثلاث" (1900)، "بستان الكرز" (1903). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدبالرحلات، والثاني كتاب مذكرات. 1904 توفي في أحد فنادق مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. ونُقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.

 

من الأدب الكردي

بقلم: شيركو بيكس

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - الساعة

عندما آتيك

تنجو الساعة

من يد الزمن

و تقدم نفسها ..

و عندما نجلس معا

تقبع الساعة في يد الزمن

و تؤخر نفسها !!

***

2 - المدية

في بيروت*

خطفت المدية

حلقا ..

لانه أبى أن يشاركها

حفلتها الدموية

لانه أبى

أن يكون مسنا!!

***

.......................

* إشارة إلى الحرب الأهلية اللبنانية 1975 – 1990 

شيركو بيكس: شاعر وأديب كردي بارز. يكتب بالكردية والعربية، أبصر النور سنة 1940 في السليمانية – العراق. نذر نفسه لمذبح الشعر منذ أواسط الخمسينيات من القرن الماضيز

صدرت له في عام 1968أولى مجاميعه الشعرية، وكانت بعنوان (ضياء القصائد). ثم أصدر مجموعته الشعرية الثانية المسماة (هودج البكاء) عام 1969

من أعماله:

(كاوة الحداد – مسرحية شعرية) 1971

(أنا باللهب أرتوي) 1973

(الغزالة – مسرحية شعرية) 1978

(الغبش) 1978

(أنشودتان جبليتان) 1980

(الشيخ والبحر – ترجمة لرواية أرنست ميلر همنغواي) 1982

* عن (من الشعر الكردي الحديث: باقة قصائد) للمترجم، دار نشر كريستال، أربيل – العراق 2001 .

بقلم: لارا واس

ترجمة: صالح الرزوق

***

اقتنعت أن جدران الشقق في نيويورك رقيقة عمدا، حتى أن الحياة، مهما كانت رديئة، تبدو مثل تجربة احتفالية. في الساعتين الأخيرتين، ارتجف الجدار المجاور لطاولة ميل بضربات ملحة، كما لو أن أحدهم يعلق صورة على الطرف الآخر، ولكن المسمار يسقط، فيحمله ويعاود الكرة. كانت هذه سوزي شريكتها في المسكن. ولم تكن تعلق صورة على مسمار، ولكنها بين يدي صديقها الجديد كايل. طبعا لا تسميه سوزي بهذا الاسم. وهي لا تقول عما تفعل إنه جنس. وتسميه ممارسة الحب. التقت سوزي مع كايل مثل أي إنسان آخر، بواسطة التطبيقات. وكان حبا من أول نظرة. وهذا ما قالت عنه. أرادت ميل أن تسأل: أي نظرة؟ مرآه الرائع والمبالغ به كما يبدو في صورة ملفه، أم النسخة البليدة والحقيقية منه؟ لكنها احتفظت بهذه الفكرة لنفسها. كانت المشكلة، أن كل شخص يقوم بعمل ما في هذه الأيام. وشريكة ميل في الغرفة تمارس الحب. أما صديقتها المقربة ديانا فتنجب الأطفال. حسنا، ليس تماما، ولكنها على هذا الطريق. في آخر عطلة أسبوعية، حينما التقتا في بار قريب خارج أسوار الجامعة وترتادانه دائما، والآن سمعت به ميل، فجرت ديانا الأخبار أمامها قائلة: إنها ستتزوج ستيف. فقد تقدم إليها في أمسية ذكرى مرور سنتين على العلاقة. وهي أيضا ذكرى مرور سنتين على ليلة اقتراب ستيف من ميل في بار الجامعة وتقديم شراب لها، لكن ميل رفضت شرابه قائلة: لا. شكرا. فهي لم تكن تشعر بالعطش، أما صديقتها ديانا فأكدت امتنانها وقبلت ضيافته.

وحين كانت تخابرها أمها كل أحد لتسأل إذا ما كانت تستعيد ذكرياتها. فترد ميل: من يريد أن يتذكر إذا كان يجني النقود؟. وتضحك كلتاهما لأنها إذا كسبت النقود، لن تشارك على شقتها مهووسة بالجنس، وواهمة ومنحرفة تجمع المحنطات بالقرب من قطار رقم واحد الذي لا يتوقف عن الهدير. وإذا تابعت أمها الموضوع، تخترع ميل شيئا، وبالعادة مزيجا من الأشياء المتخيلة، وأشياء رأتها تحدث لأشخاص من حولها، وادعت بتلك الطريقة أنها قابلت بواسطة الإنترنت رجلا يدعى كايل، واعتقدت أنه حب من أول نظرة، لتكتشف بعدها حالما قابلته شخصيا أنها غير قادرة على غض نظرها عن أنفه المحني. بالفعل لكايل أنف ضخم مع عظمة كبيرة. هذا صحيح، وتخلي سوزي عن صديقها بأنفه الضخم لميل هو أقل ما يمكن أن تفعله بعد تلك الليالي المتعبة التي تخللها تعليق الصور. وربما كانت الضجة المستمرة هي التي أهابت بميل أن تقول نعم، حينما رتبت لها ديانا موعدا مع أحد أصدقاء مدرسة ستيف القدماء، وكان قد عاد مؤخرا إلى نيويورك بعد أن عاش لبعض الوقت على الساحل الغربي. قالت ديانا: إنه شاب رائع. وعلمت ميل أن هذا يعني أنه مضجر أو بشع، ولكنها أملت أن لا يصدق ذلك. وكانت قد تعلمت من جدتها الألمانية مقولة ألمانية. وهي كالتالي "الرائعة هي الأخت الأصغر لمقرفة" أو هل كانت تقول الأخ الأصغر لمقرف؟. توفيت جدتها قبل خمس سنوات، ولذلك لم تكن ميل تتكلم الألمانية، ولذلك ليس لديها طريقة لتتأكد بها. ولكنها تفترض أن الموضوع غير مهم. وأضافت ديانا: أنه أيضا لديه سيارة. وربما من الطيب أن تغادر المدينة لبعض الوقت. ولم تعترض ميل على المسألة. لساعتين وهي تكتب لصديق ستيف - تبين أن اسمه جايك. بدآ بتبادل الرسائل قرابة الوقت الذي بدأت به سوزي وكايل ممارسة الجنس.

أولا أراد أن يعرف بماذا تفكر. أرادت أن تقول: أموت من الضجر. كل دقيقة أفقد من نفسي القليل. لكن كتبت: أغسل. جعلت الإنترنت المواعيد الغرامية بلا عواطف إلى حد مقلق. يمكنها أن تلتقي بهذا الشخص ذاته، وعلى الأقل يمكنهما لاحقا التظاهر أن اللقاء طبيعي. كما لو أنهما ليسا يائسين كبيرين ضاع عمراهما في مرحلة النضج، ولم يقع اختيار أحد عليهما، وهذا فشل ذريع - كانا آخر من يقع الاختيار عليه ليكون في فريق حصة اللياقة البدنية.

ولكن. كلا في هذه الأيام عليك أن تراسل قبل أن تغادر مخبأك. ولتتأكد أنك "منسجم". أو لتتأكد أن الآخر ليس مجرما. وكانت ميل تشك أنه لا يسعها الجزم بأحد الحالتين بعد حفنة من الرسائل. كيف يكتب المجرم رسائله النصية؟.

سألها جايك: متى يكون لديها وقت فراغ ليلتقيا.

فكرت ميل بالموضوع. متى يكون لديها فراغ من أجل لقاء؟ فتحت تطبيق الروزنامة في هاتفها. رأت أمامها صفا من مقابلات عمل، ومواعيد طبيب، ومواعيد غداء مع صديقات. وكلها مرتبة مثل طابور من عساكر صغار من القصدير.

تتابع إيقاع ارتطام الجسدين المتعانقين وهز الجدار.

ما رأيك الآن حالا؟.

وصل في الموعد المحدد. في الحقيقة قبل دقيقتين. كانت ميل تنتظر في الخارج أمام بناء شقتها منذ عشر دقائق لأنها لم ترغب أن تغامر بدعوته إلى الداخل. انتابها البرد. ولم ترد أن تضع قبعة حتى لا تشوش تصفيفة شعرها، والآن لا يمكنها أن تشعر بأذنيها. توقف بسيارة قديمة مضعضعة والصدأ يزحف على أبوابها والمرآة الجانبية مثبتة بشريط لاصق. ولم يكن من السهل أن تقرر هل لونها بني أم بنفسجي بسبب ضوء الشارع الخافت. ارتجفت ميل بعد صوت قرقعة مرتفع، ثم أدركت أن المحرك ينفخ. وفكرت أن تستدير وتعود إلى غرفتها، ولكن فكرة الإصغاء لأوبرا سوزي وكايل جعلها تتردد، ثم تأخر وقت الانسحاب.

قال جايك: لا بد أن نيل العجوز ستتذمر من هذا الشخص الذي يخرج من السيارة.

صححت ميل له بقولها: اسمي ميل. وهو اختصار ميلاني.

- آه. لا نعم. أعلم. كنت أشير للسيارة. نيل هي السيارة. تيمنا باسم نيللي الذي ورد ذكره في "بيت صغير في البراري". هل تعرفينه؟.

قالت ميل: ليس تماما. أعتقد أنه سمى سيارته تيمنا بأوبريت شعبي؟.

قال جايك وهو يدور حول المقدمة وضوء المصابيح المرتفع يغسل خياله: متذمر باستمرار. وجع في المؤخرة. هذا هو نمط شخصيته. النوع الذي نحب أن نكره. أو نكره أن نحب؟. لست متأكدا.

حينما اقترب منها، مالت ميل لأجل عناق سريع، لكن ابتعد جايك ليفتح لها الباب.

سلوك قديم الطراز. سيد مع أل التعريف (وردت في الأصل: A gentleman with a capital G ) وتقريبا كادت ميل أن تضحك.

قالت: شكرا. وصعدت إلى السيارة. ازدحمت على رف السيارة الأمامي أغلفة الطعام السريع، وجعلت طيات عميقة في جلد المقاعد الكراسي تبدو مثل وجوه هرمة. وكان للهواء عطر مطر خفيف ذكرها بارتداء ثياب مبتلة لفترة طويلة. قفز جايك إلى السيارة من الطرف الآخر. ولأول مرة أخذت ميل منه نظرة كافية. لم يكن دميما. عيناه مدفونتان قليلا في عمق المحجرين، ونمش واضح يغطي أنفه مثل السمسم. وعدا ذلك ليست له ملامح وجه لافتة قد تفاقم من كراهيتها له في أحد الأيام. كانت ديانا محقة، على الأقل فيما يتعلق بمرآه. فهو يبدو مرضيا. قال جايك حينما قرقع المحرك وهو يدور: آسف لهذه الفوضى. كان علي أن أنظفها. ولكن ما ترينه كان نتيجة التعجل العفوي.

قالت ميل: أنا بنت فطرية.

ولا تعرف لماذا ادعت ذلك. فهي بدون هذه الصفة ولو بمقدار ذرة. ثم قالت: أنت توفر لشراء سيارة جديدة؟ وأشارت إلى القطع النقدية المبعثرة تحت كاحل بوطها. على الأقل وجدت المئات منها على الأقل موزعة على مفرش الأرضية، سنتات وأرباع دولارات وعشر سنتات، وكلها من نحاس وفضة تبرق بظلال مختلفة.

- كلا. كلا. كنت أضع المعادن الزائدة في كوب. ولكنه فاض بالصدفة. فتركتها كما هي. تخيلت أنها تبدو مثل قاع بئر الأمنيات. ولذلك والآن كلما وقع بيدي قطعة نقود ألقيها في هذا البئر.

ضحكت ميل. ثم كبتت ضحكتها وقالت: آه. هل أنت جاد.

- نعم، هل تريدين أن تفكري بأمنية؟.

- أعتقد أنني هكذا بحالة طيبة.

- متأكدة؟ ماذا لو نجحت الفكرة؟.

- لن تنجح.

- لن تعرفي إن لم تحاولي.

تفحصته ميل بنظرها، لتتأكد أنها ليست برفقة أحد طلابها. كان طلابها يرددون مثل هذه الأقاويل، طيلة الوقت، وينشدون شعارات يقتبسونها من روبي كوار مثل قولها "التطور يبدأ بخطوة واحدة". وقولها "الأفضل لك أن تتخبط وتتعثر من أن تقف جامدا". و"إن لم تحاول هذا يعني أنك خسرت الرهان". أقوال مأثورة فارغة. تفاهات. وقد سمعتها ميل كلها. وكانت وراء التخلف عن دروسها بحجة الأسباب النبيلة مثل الاحتجاج على تبدل المناخ واللامساواة بين الجنسين وصناعة التاريخ. وأحيانا تشعر بالدافع لتقول لهم: التاريخ الوحيد الذي يصنعونه هو تاريخ الزحام في ساعة الذروة. في الأسبوع الماضي سألتها إحدى طالباتها، وهي بنت بوجه منتظم لدرجة مقلقة، برأي ميل لا يجوز أن تكون البنت جميلة وذكية بنفس الوقت - سألتها أمام كل الصف: ما رأيها بما يجري في غزة؟. أجابت ميل: فظيع وبدلت الموضوع. الحقيقة أنها لا تعرف ماذا يجري في غزة. ولا ماذا يجري في أوكرانيا أو سوريا أو اليمن، باستثناء أن شيئا يحصل، وهو غير محبب. أنفقت ميل يوميا ساعات وهي تقرأ الأخبار لأجل مشروع بحثها الرسمي عن ردة الفعل الدولية على وباء كوفيد 19. ولكنها لا تزال عالقة في حصاد عام 2020. ولم يسعها أن تغطي أخبار هذه الأيام أيضا.

قال جايك: وإذا؟.

- وإذا ماذا؟.

- ماذا عن تلك الأمنية؟.

وببساطة تحول جايك إلى امرأة مسنة عقدت شعرها من الخلف فوق رقبتها بشكل كعكة مشدودة، وكأن ميل ترافق أمها بعد موعد مدبر. ماذا لو لم نتسرع بهذه الأمور؟ ماذا لو تبادلنا الزيارات في عطلة الأسبوع؟ ما رأيك بالتوفير؟ ما رأيك بالمواعيد المدبرة، هل من جديد؟. ماذا عن تجميد بويضاتك - لتكوني واثقة من نفسك؟. لم تسألها أمها السؤال الأخير، ولكن ميل متأكدة أنها ستفعل، عاجلا أم آجلا.

أجابت: ليس لدي نقود معدنية. وتوقعت أن هذا سينهي الموضوع.

أجاب جايك: أنت محظوظة. لدي نقود لم ألق بها من قبل. وهي كلها لك. وفتش في جيب معطفه، ويده على المقود، وأخرج قطعا معدنية. نظرت ميل إلى النقود التي في يده. ثلاث سنتات، وقطعة من عشر سنتات، وربعان. ألقى جايك العشرة على الأرض أمام مقعدها. وقال: انظري. الأمر بسيط.

تناولت ميل سنتا. إذا كان هذا سيسكته، ما الضرر منه. كان سنتا يحمل صورة لنكولن في ذكراه، وصورة إبراهام لنكولن على الوجه الأمامي، تحت عبارة: بالله نحن نؤمن.

قال جايك: عظيم. فكري بأمنية.

ألقت ميل القطعة. وسقطت على السجاد بين كعبيها بدون صوت.

- سعيد؟

- جدا.

- تهانينا. درجة أولى لهذا الحماس.

وحان الآن دور جايك للضحك. تابعا على طول جسر جورج واشنطن. في الظلام يستحيل أن تؤكد أين ينتهي الهدسون وأين تبدأ السماء. وكانت أعمدة النور على الضفة المقابلة تبدو مثل اليعاسيب. سألت ميل أين يذهبان. قال جايك: إن كانت تريد أن تعرف، عليها أن تفكر بأمنية ثانية. قالت: إذا لا أريد أن أعرف. فقال جايك: جيد. لأنه يريد أن يتركها مفاجأة. وضع شريطا في المسجلة. لا تستطيع ميل أن تتذكر آخر مرة ركبت سيارة تتوفر فيها مسجلة أشرطة كاسيت حقيقية، ربما كان أشد ما يقلقها في الماضي أن تتأكد من وجود شريط مناسب في السيارة لطريق العودة من الجامعة إلى البيت. وتعرفت على الأغنية في الحال. هاري شابن. القطة في المهد. بدأ جايك بالغناء. عرفت ميل الكلمات لكنها لم تشاركه الغناء. ليس لأنها مغنية سيئة، ولكن لأنهما ليسا طفلين، ولا حتى صديقين، وعلى كل حال، لم تكن تغني في السيارة حين تكون برفقة ديانا أيضا. ولذلك التفتت نحو النافذة وانتظرت الأغنية حتى تنتهي. ثم باشرا بالدخول في الكلام الإجباري - بدءا بالطبع من عمليهما. ولأن جايك بدأ بالسؤال باشرت ميل أولا. أخبرته أنها تدرس السياسة لطلاب المرحلة الأولى. قال جايك: إن هذا شيء محترم، فهو لا يمكنه التدريس. ويخاف من الأماكن العامة ويشغل نفسه بالشطائر في أنفاق القطار. ولذلك تحول إلى فنان بصري. سألته ميل عن الفن الذي يمتهنه. قال في معظم الأوقات لا يعرف بالضبط. ويطلب منه أخوه دائما أن يعمل بالوساطة العقارية. فهي المكان المناسب لجني النقود. وسألته ميل إن كان أخوه أصغر أم أكبر منه بالعمر. أجاب جايك بل أكبر. قالت له ميل إنها نشأت في بيت من طفل واحد، ولكن أمها مثل أختها لأن والدها رحل وهي صغيرة جدا. فرد جايك أنه يحلم أن يكون ابنا وحيدا، ولدرجة كان يتمنى فيها وقوع حادث مؤسف لشقيقه. قالت ميل هذا شيء فظيع. ووافقها جايك. فأضافت إنها كانت تحب أن يكون برفقتها إنسان يشاركها اللعب كلما ذهبت أمها إلى العمل. هز جايك رأسه. العشب دائما أشد خضارا (الناس تفضل الحالة المعاكسة). وفكرت ميل: كلا. العشب دوما ميت.

قال فجأة: لقد وصلنا. وأوقف السيارة وأطفأ المحرك وهو يقعقع كشأنه دوما. لم تشاهد ميل شيئا. كما لو أن جايك تغلغل في نفق عميق وأطفأ كل الأنوار. قال: هيا بنا.

ترددت ميل. دار جايك حول السيارة وفتح بابها. وقال: أعدك لن أقتلك.

قالت وهي تخرج: إذا صدق وعدك.

ضربت وجهها المكشوف ريح باردة. كانا في مكان مرتفع حتما، أو قرب الماء، أو الاثنين. أخذ جايك يدها وقادها عبر الباحة نحو ممر يغطيه الحصى وكان يتعرج داخل إحدى الغابات. تسلل الدفء إلى يده، وهو يحميها من الهواء. كانت هناك في نهاية أصابعه انتفاخات صغيرة. قال إنه يتعين عليه أحيانا أن يحمل أشياء من أجل تماثيله. فأجابت إنها لا تهتم للأمر. وصلا إلى مكان مفتوح. لا يزال الضوء غائم، لكن الآن لم تكن ميل بحاجة له لترى. على مبعدة، وعبر الماء، لمعت أضواء نيويورك على المياه كأنها خيط من الجواهر المعلقة على الأفق. وعكسها الهدسون بشكل متحرك ومكسور، كما لو أن ناطحات السحاب تذوب ببطء في النهر. اتخذ ميل خطوة نحو الأمام، ثم أخرى، وقدمت نفسها على نحو غريب أمام أضواء المدينة البعيدة عنها. قال جايك وهو يجر ظهرها: احذري. وحينها فقط لاحظت أنهما يقفان على حافة منحدر.

سألت: أين نحن؟.

- تسمى الأعمدة. برد شديد. أليس كذلك؟ - دعينا نجلس هنا.

جلس جايك على صخرة ذات سطح ناعم غير مريح، كما لو أنها منحوتة لتكون مقعدا مزدوجا. وتساءلت ميل كم فتاة جاء بهن إلى هنا من قبل. مد يده في جيبه، وأمكن ميل أن ترى، أنه مرت سنوات قليلة، لكن كل شيء حصل في هذه البقعة - جايك يمد يده إلى جيبه ليخرج خاتما. لكن ميل لا تريد الخاتم. وهي متأكدة لو جرت الأمور على نحو مقبول، وإذا تابعا بانسجام، ستنتهي اللعبة، أليس كذلك؟. الهدف من هذا. الالتزام. الوعد. حتى نهاية النهاية وإلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد - حتى يضجر أحدهما (أو كلاهما) من العلاقة، وبعد شهور وشهور من النصائح الزوجية، ثم يقرران أنه من الأفضل لهما أن ينهيا الموضوع ويذهب كل منهما بطريقه.

قال جايك: هل يزعجك التدخين.

بدل الخاتم، أخرج علبة سجائر. لم ترد. فأشعل سيجارة. لم يكن يزعجها التدخين. في الحقيقة، والشكر لأفلام هوليود القديمة، تجد في ذلك أمرا مثيرا للغرائز. ما لا يمكنها أن تتعايش معه هو فكرة موت الناس قبلها. ولأنها امرأة وجايك رجل، فرص موته قبلها أعلى إحصائيا. ولتجعل الأمور أسوأ، كانت تعدو فقد اشتركت بالماراثون لعام. وقرأت في إحدى المرات أن من يعدو بانتظام يعيش بالمعدل ثلاث سنوات إضافية. وهو ما جعلها تقلع عن الجري.

سألها جايك: والآن أخبريني ماذا تمنيت؟.

- ماذا تمنيت؟.

- حين كنا في السيارة، ومعك النقود المعدنية.

كبتت ميل تنهيدة. ليس مجددا. وسألته: ألا يجلب هذا الكلام الحظ السيء؟.

قال جايك: بالتأكيد ستستثني سيدة الأمنيات صاحب سيارة بئر الأمنيات.

- طبعا.

- إذا؟ ورفع جايك حاجبيه كما لو أنها ماري بوبينز، وهي على وشك أن تخرج من حقيبة البساط السحري مفاجأة بمستوى المعجزات. كذبت ميل وقالت: قدمت أنا وزميلة لي ورقة بحث إلى أحد المؤتمرات. وتمنيت لو تقبل.

لم يكن هناك بحث، ولا أمنية، ولكن لسبب ما لم ترغب أن تخيب ظن جايك.

سألها: أي مؤتمر؟.

كذبت ميل مجددا: آه. مؤتمر بحوث. ولمزيد من المصداقية اخترعت اسم مؤتمر شاركت به في العام الماضي، وهو APSA.

قال جايك: رائع. حظا موفقا. وأخذ نفسا من سيجارته، وسجلت ميل في ذهنها ملاحظة، إذا التقت به ثانية بعد هذه الليلة، ستضطر لأن تقول في السياق إنهم، للأسف، لم يقبلوا البحث.

سألته: وماذا عنك؟.

قال جايك على سبيل الطرفة: لن أشارك في مؤتمر بالعلوم السياسية، ولا حتى على جثتي.

ابتسمت ميل. تعلم ماذا أقصد.

- أمنيتي؟

- نعم.

- لأكون صادقا معك لم أفكر بأمنية.

- ماذا؟.

- فعليا لا أومن بذلك، لا التمني ولا ما شابه.

- ولكن... أنت قلت في السيارة. لا أحد يعلم إن لم يجرب؟.

- لا نعلم إن لم نجرب. ولكن لا أحد يعلم حتى لو جرب أيضا. صحيح؟.

قالت ميل: في الحقيقة لست متأكدة أنني أفهمك.

- المسألة لا علاقة لها بالإيمان. وهي مجرد إلقاء قطعة نقود. هل لكلامي معنى.

فكرت ميل هل كان لكلامه معنى. في نفس الوقت تابع جايك قائلا: أعتقد أن هذا هو سبب رغبتي بالقدوم إلى هنا أحيانا. وتذكري أنني أكثر من واحد بين ثمانية ملايين. ويمكنني أن أبتعد في أي وقت. كما تعلمين؟.

حدقت به ميل، وحمل جايك السيجارة إلى فمه، وأخذ نفسا. تخيلت الدخان وهو يتحرك في أسفل بلعومه، ويمر من القصبات، ويستقر في الحويصلات الإسفنجية من رئتيه. سيكون تشييع جايك أسوأ يوم في حياتها. النعش، والزهور، والبنت الصغيرة التي تبكي. أو ربما البنت الأكبر، هذا يعتمد على فترة حياته. سيعزفون القطة في المهد في طريق الخروج من الكنيسة لأنها أغنيتهم. وبعد المراسم: تبدأ، من أشخاص لا يعرفون جايك جيدا، نغمة "التأسف" و"لا يسعني أن أتخيل" و"أخبريني حينما تحتاجين إلى شيء".

وقد يحصل العكس وترحل هي أولا. قد تصدمها سيارة غدا، صحيح؟ وسبق لميل أن أوشكت أن تسقط من حافة السفح. مالت وضغطت بشفتيها على شفتيه. تذوقت طعم التبغ والموت. تراجع جايك. هووهو، ماذا تفعلين؟.

قالت ميل: أنوي أن ألقي قطعة نقدية. وحاولت أن تقبله ثانية. لكنه ابتعد.

- تلقين قطعة نقود؟.

- رمزيا. ألم نأتي إلى هنا لأجل ذلك؟

- لا. أقصد نعم. إذا سارت الأمور على ما يرام.

- أليست كذلك؟

- أليس ماذا؟

- على ما يرام.

- آه. نعم. لكن كيف أعبر عن هذا؟ كنت، إم، آمل أن أتعرف عليك قليلا أولا.

- أنت تعلم أنني أحب هاري شابن وأدرس الفلسفة وأنا ابنة وحيدة.

- أنا متأكد أن هذا ليس كل ما يجب أن أعرف.

- وماذا لو أنه كل شيء؟.

- أنا متأكد أنه ليس كل شيء.

- وكذلك أعاني من تقرن في الجلد، وهو جلد ميت متراكم، ولا سيما في القدمين، وأحيانا أكذب بخصوص حياتي لأجد ما أخبر به أمي، ولا يهمني ما يجري في غزة.

- أنت مضحكة.

ابتلعت ميل بقسوة. وقالت: أعتقد يمكنك أن تعود بي إلى البيت الآن.

احتج جايك. لأنه لم ينافق مععا هذا لا يعني أنه عليهما أن يعودا.

أصرت ميل. فهي متعبة.

أطفأ جايك سيجارته على الصخرة، وارتفع الدخان بينهما. قاد السيارة معظم الطريق وهما صامتان. ميل تحدق من النافذة. وحينما عبرا من جسر جورج واشنطن، لاحت المدينة الواسعة ثانية. تخيلت أن البشر يبدون هكذا للنمل. قبيحون، وعمالقة، ويكبرون بالتدريج قبل أن يقضمهم المجهول. سأل جايك حالما ابتعدا عن الجسر: ومتى سأراك لاحقا؟.

قالت ميل: لن نلتقي. كانت تعلم كيف سينتهي الموضوع، وشاهدت كل شيء يجري، ثم شكرا، لا ضرورة للشكر.

- هيا. لم لا؟ كانت الأمسية جيدة حتى... لم أقصد استفزازك. ومتأسف إذا فعلت.

- الأمر ليس كذلك.

- ماذا هو إذا؟

- له علاقة بالسيارة.

- السيارة؟.

- نعم.

- ما خطب السيارة؟

- انظر إليها.

- ها أنا أنظر.

- يا لها من فوضى.

- وإذا؟

- أنت لا تعتني بها.

- ولكنها سيارة.

- بالضبط.

توقف أمام مسكنها في نفس البقعة التي حملها منها قبل ساعة فقط. شكرها على الأمسية. خرجت ميل، وبالصدفة ركلت إحدى قطع النقود. تقدمت في الممر إلى شقتها، ولكن ابتلع صوت خطواتها قعقعة المحرك وهو يدور من ورائها. كانت الغرفة من الداخل هادئة. على الأقل توقفت سوزي وكايل عن ممارسة الجنس أو الحب أو أي شيء من هذا القبيل. تفحصت ميل هاتفها. كانت قد فاتتها مكالمة من ديانا. ربما أرادت أن تسألها عن رأيها، حول شيء له علاقة بالعرس، مثل أي نوع الأفضل: بطاقات المناسبة من طراز كلاسيكي وتقليدي أم فني ومضحك؟. والأهم هل الأفضل من نوع DIY (صممه بنفسك) أم من نوع الطلبات المعدلة؟ وقررت ميل أن بإمكانها الانتظار حتى الصباح. معظم المشاغل بمقدورها أن تنتظر. لا تبدأ حصة تدريس ميل قبل العاشرة. ولكنها نهضت في السابعة. كانت بحاجة لأن تعجل بالجري قبل أن تواجه رواد التاريخ. حينئذ يمكنها على الأقل أن تقول لنفسها، حسنا، أنت تصنعين التاريخ، ولكن من قام بالجري هنا في هذا الصباح وتحدى متاعب خمسة أميال؟. جرت شمالا على طول الهدسون، كان جسر جورج واشنطن يتضخم مع كل خطوة. وفي الخلف، على الجانب الآخر من النهر، توجد الأعمدة. والآن هي مجزأة إلى شرائح بسبب هيكل الجسر. وحاولت أن تتذكر شكل المدينة من بعيد، لتنعش الصورة في خيالها، حبل من المجوهرات على عرض الأفق، والأضواء تذوب في الماء. كل ما تراه الآن فوضى من المعادن والإسمنت والسيارات. فكرت: مشهد النملة، وخفضت نظرتها إلى الرصيف. تباطأت، ثم توقفت وتمطت. وضعت يديها على السور، ومدت ذراعيها باستقامة وتراجعت إلى الوراء، خفضت نصفها الأعلى، حتى أصبح مستويا كالطاولة. ضغطت بكعبيها على الرصيف، وشدت ربلتي ساقيها وشعرت بالألم المعهود. ثم شاهدته، فقط على بعد بوصات من خلف قدميها: سنت، خامل، ملوث بالتراب، ولا يبهج الروح. كان أسفله نحو الأعلى، وتعرفت ميل على الخطوط الباهتة لتمثال لنكولن التذكاري. تلفتت حولها، كأنها تريد أن ترى الشخص الذي ألقاه، وسيكون أي شخص يفتقد إلى قطعة نقود ناشزة. لم تجد أحدا حولها باستثناء رجل ببذة، ويرافق كلبه. رفعت ميل قدما إلى الأعلى خلف ظهرها، وقبضت على كاحلها بيدها، ثم تمطت بجانبها الأيسر، وكررت ذلك بيمينها. فحصت المنطقة مجددا، ولم تجد أي شخص مهتما بالبحث عن نقوده. وبحذر شخص يعود إلى عادة قديمة بعد العديد من السنوات، حملت السنت، دسته في جيبها، وتابعت الجري.

***

........................

* لارا واس Lara Waas كاتبة قصة أمريكية. تترجم عن اللغة الألمانية. حصلت على مؤهلها العلمي من ميونيخ في ألمانيا. وعملت بتدريس اللغة الإنكليزية في غواتيمالا.

 

بقلم: أنطون تشيخوف

ترجمة: نزار سرطاوي

***

يَعبُر أوشوميلوف رئيسُ الشرطة السوقَ بمعطفه الجديد، وقد تأبطّ طردًا. يتبعه شرطيٌ أُحمرُ الشعر يحمل بين يديه بعضًا من الفاكهة المُصادَرَة. يَسودُ الصمت في الجوار. ليس ثمّة أحدٌ في السوق. أبوابُ ونوافذُ المحلاتِ التجارية والحاناتِ المفتوحة بدت وكأنها أفواهُ فاغرةٌ جائعة. لم يكن ثمّةَ أحدٌ في الجوار، ولا حتى متسوّل.

فجأة سمع أوشوميلوف شخصًا يصرخ. "إذًن أنت تعضُّ أيها الوحشُ اللعين! ليس مسموحًا للكلاب أن تعضّ في هذه الأيام. توقفْ! آهـ، آهـ!"

سُمِع نباحُ كلب. نظر شوميلوف ناحيةَ الصوت فرأى كلبًا أعرجَ بثلاثِ أرجل يعدو خارجًا من ساحة الأخشاب، يطارده رجلٌ يرتدي قميصًا أبيضَ بأزرار مفكوكة. كان الرجل يسير في إثْرِ الكلب. وفجأة تعثّر، لكنه عندما سقط وثبَ إلى الأمام وقبضَ على الكلبِ من ساقه الخلفية. سُمع نباحُ الكلب مرةً أخرى، وسُمِع الصراخ كذلك. أطلّت وجوهٌ يبدو عليها النعاس من نوافذ المحلات التجارية. وفي التوّ تجمع حشدٌ من الناس عند ساحة الأخشاب كما لو كانوا قد طلعوا من باطن الأرض.

قال الشرطي: "يبدو أنه شِجارٌ يا سيدي."

استدار أوشوميلوف وراح يخطو سريعًا نحو الحشد. على مقربةٍ من بوابة ساحة الأخشاب رأى الرجلَ ذا القميص الأبيض مفكوكِ الأزرار يحملُ يدَه اليمنى ويرفع أمام الحشد إصبعًا تنزف دمًا. بدا على وجهه الثَمِل تعبيرٌ كأنما كان يقول: "انتظرْ! سأجعلك تدفع ثمنَ هذا، أيها الشرّير!" عرف أوشوميلوف الرجل. إنه خريوكين، صائغ الذهب. وسطَ الحشد كان المجرمُ الذي تسبب بالمشكلة كلِّها يُقعي مرتعشًا من رأسه إلى أخمص قدميه، وقد مدّ رجليه الأماميتين – جروٌ أبيضُ بأنفٍ مُدبّب، وقد علت ظهرَه بقعةٌ صفراء، وبدت في عينيه الدامعتين تعابيرُ البؤس والهلع.

سأل أوشوميلوف وهو يشق طريقه وسط الحشد: "ما الامر؟ لِمَ أنت هنا؟ ماذا حدث لإصبعك؟ من الذي كان يصرخ؟"

قال خريوكين: "كنت أسير في طريقي يا سيدي، وادعًا كالحَمَل. لم أمسسْ أي إنسانٍ أو أي شيءٍ حين عضّ هذا الوحش الملعون إصبعي على حين غرة. استميحك عذرًا يا سيدي. أنا رجلٌ عامل. عليّ أن أقوم بعملٍ في غاية الدقّة، ولا بد لأحد أن يدفع لي، إذ أنني لن أتمكن من استعمال هذا الإصبع، ربما لمدة أسبوع! ليس في القانون يا سيدي ما يَنصّ على ضرورة تَحَمُّل الكلاب التي تعضّ. إذا سُمح لها بالعضّ فلن تكون للحياةُ التي نعيشها أية قيمة. "

همهم أوشوميلوف وهو يحرك حاجبيه إلى الأعلى وإلى الأسفل. "لمن يعود هذا الكلب؟ لن أدعَ هذه المسألة تمرُّ هكذا ببساطة! سأعَلّمُكم أيها الناس ألّا تتركوا كلابَكم سائبة! لقد حان الوقت لفعلِ شيءٍ بشأن أولئك الذين لا يلتزمون بالقوانين. سأعاقب صاحبَ الكلب. سأريه من أنا!" التفت إلى الشرطي. «يلديرين! أريدك أن تعرف صاحب الكلب وأن تُعِدَّ تقريرًا. سيُعْدَم الكلبُ دون إبطاء. لعلّه كلبٌ مجنون ٌعلى أيةِ حال. من هو صاحب الكلب؟"

قال أحدهم في الحشد: "إنه يشبه كلبَ الجنرال."

"الجنرال؟ آهـ! يلدرين، اخلع عني معطفي. الطقس حارٌ بصورةٍ رهيبة! سينزل المطر على الأغلب..." التفت إلى الصائغ ثم أردف: "هناك أمرٌ لا أفهمه يا خريوكين. كيف لهذا الكلب أن يعضَّك؟ فهو لا يقدر أن يصل إلى أصابعك. إنه كلبٌ صغيرٌ وأنت رجلٌ ضخم. لعلّك جرحت إصبعَك بمسمار، ثم خطرت ببالك فكرةُ الكلب والآن تحاول الحصول على بعض المال. أنا أعرف أمثالك أيها الغشاش الوغد!"

"لقد وكز وجهَ الكلب بسيجارة. ولهذا هاجمه الكلب وعضه يا سيدي."

"هذا افتراء! أنت لم ترني افعل ذلك، فَلِمَ تكذب؟ إن حضْرَتَهُ رجلٌ حكيمٌ يعرف من يقول الحقيقةَ ومن يكذب. إن كنتُ أكذب، فلندعِ المحكمة تقرر. القانون يقول إننا جميعًا في هذه الأيام متساوون. لديّ أخٌ في الشرطة. دعني أخبرك."

"توقفا عن الجدل."

قال الشرطي متفكّرًا: "لا، هذا ليس كلبَ الجنرال. ليس عند الجنرال كلاب مثل هذا. كلابه مختلفة."

"هل أنت واثقٌ من ذلك؟"

"نعم سيدي، كلّ الثقة."

"أنا نفسي أعرف ذلك أيضًا. الجنرال عنده كلاب من سلالة باهظة الثمن، أما هذا الكلب! فليس له شَعرٌ ولا شكل. لِمَ يقتني الناس كلابًا كهذا؟ هل تدري ما الذي سيحدث لو أن مثل هذا الكلب ظهر في بطرسبورغ أو موسكو؟ لن يعبأَ أحدٌ بالقانون وسيُخْنَق الكلب على الفور! أنت ضحيةٌ يا خريوكين، وقد عانيتَ كثيرًا. لن أدعَ هذه المسألة تمر هكذا ببساطة! لا بدّ أن أُلقِّنَ المالكَ درسًا!"

كان الشرطي يفكر بصوتٍ عالٍ: "ربما يكونُ كلبَ الجنرال على الرغم ذلك. قبل ايامٍ رأيت كلبًا مثلَه في ساحة بيت الجنرال."

قال صوتٌ من الحشد: "بالطبع إنه مِلك للجنرال."

"يلدرين، ساعدني في ارتداء معطفي. الطقس بارد. الريح تشتدّ. وأنا أرتعد من البرد. خذ الكلبَ إلى مقرّ الجنرال وتحرَّ عن الأمر هناك. قل إنني وجدته وأرسلته. وأخبرهم ألا يتركوا الكلبَ في الشارع. فهو على الأغلب كلبٌ باهظ الثمن، وإذا ما راح كلُ وغدٍ يكِزُه بسيجارة فسيحلُّ به الدمار عمّا قريب. الكلب مخلوقٌ رهيف. وأنت أيها الغبي أنزِلْ يدك! لا تريني إصبعك التافه هذا مرة أخرى. الخطأ خطأك.ها قد حضر طبّاخ الجنرال. فلْنسألْه. مرحبًا يا بروخور. تعال إلى هنا لحظة! انظر، هل هذا الكلب لك؟"

"أي كلب؟... لم يسبق أن كان لدينا كلبٌ كهذا أبدًا!"

قال أوشوميلوف: "لا داعي لإضاعة الوقت في السؤال. "إنه كلب ضالّ. ليس هناك ما يقال غير ذلك. إذا قلتُ إنه كلبٌ ضالّ، فهو كلبٌ ضال! لسوف يُعْدَم"

أردف بروخور: "إنه ليس كلبنا، بل يعود إلى شقيق الجنرال الذي وصل من موسكو قبل أيام. فسيّدي لا يحب هذا النوعَ من الكلاب، لكن شقيقه يحبها."

"إذًن وصل شقيقه؟" سأل أوشوميلوف وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة البهجة. "تصوّروا! ولم أكن أعلم بذلك! هل هو هنا في زيارةٍ أخرى"

"نعم سيدي، في زيارة."

"حسنا. لم أعرف بذلك أبدًا... إذًن تقول إنه كلبُه؟ رائع، كم أنا سعيد. خذه! يا له من كلبٍ صغير مليءٍ بالحيوية، كلبٍ صغيرٍ خفيفِ الحركة ينقضّ على إصبع هذا الرجل! ها ها ها ها. لِمَ ترتجف يا صغيري؟ رررر... رررر... هذا الرجل شرّير."

نادى بروخور على الكلب واصطحبه معه. ضحك الحشدُ على كريوكين.

قال أوشوميلوف متوعّدًا: "ستقع في يدي ذات يوم"، ولفَّ نفسه بمعطفه، وتابع سيره عبر السوق.

***

............................

يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف،  المولود في تاغانروغ في جنوب روسيا في عام 1860، أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. كتب 17 عملًا مسرحيًا وأكثر من 500 قصة قصيرة، ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة  حظيت أربعٌ منها على الأقل بشهرة عالمية، وهي: نورس البحر (1895)، العم فانيا (1899)، الشقيقات الثلاث (1900)، بستان الكرز (1903). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدب الرحلات، والثاني كتاب مذكرات. 1904 توفي في أحد فنادق مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. ونُقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.

بقلم: كاترين فيبس

ترجمة: د. محمد غنيم

***

(في الدار البيضاء خلال ثلاثينيات القرن الماضي، استقطب حي مُسوَّر يُدعى بوسبير السياح الأوروبيين بوعودٍ بمتعةٍ "غريبة". لكن خلف بواباته المزخرفة، كانت مئات النساء والفتيات المغربيات مُحتجَزات من قِبل السلطات الاستعمارية الفرنسية. قصصهن محفوظة في الرسائل اليائسة للعائلات التي حاولت تحريرهن).

***

كان المساء قد حل في إحدى أمسيات سبتمبر عام 1937 عندما أدركت عائلة فاطمة أنها مفقودة. كانت الفتاة المراهقة قد انطلقت من مزرعتهم إلى السوق في "بئر الجديد"، وهي بلدة صغيرة تبعد حوالي 30 ميلاً خارج الدار البيضاء، المغرب، في وقت مبكر من اليوم ولم تعد. تخلى والدها، محمد، عن حقوله في محاولة للعثور على ابنته، متبعًا آثارها إلى الدار البيضاء، حيث بحث في الشوارع عن أي علامة لها لأيام متتالية. لكن الفتاة لم تكن في أي مكان يمكن العثور عليه. في محاولة أخيرة ويائسة، شق طريقه إلى بوابة "بوسبير"، حي بيوت الدعارة الضخم المحاط بالأسوار والذي كان يجذب الآلاف من الباحثين عن الإثارة - ومئات من الفتيات والنساء غير المدركات - إلى أزقته المتعرجة وساحاته المغطاة كل عام.

وهناك، في بيت دعارة في 26 شارع المراكشية، وجد محمد ابنته. ألقت فاطمة بنفسها على قدمي والدها، تبكي بلا حسيب وتتوسل إليه أن يغفر لها. شرحت على عجل أنها التقت بامرأة في السوق قالت إنها تعرف والدها. المرأة، التي قدمت نفسها باسم زينة، دعت فاطمة بحرارة للمجيء والبقاء معها في الدار البيضاء لبضعة أيام، وقبلت الفتاة بسذاجة. في الواقع، كانت زينة مديرة بيت دعارة، وعندما وصلتا إلى الدار البيضاء، تم اصطحاب الفتاة بسرعة إلى بوسبير وحُبست في بيت الدعارة حيث وجدها والدها.

لكن قبل أن تتمكن فاطمة من إخبار والدها ببقية القصة، اقتحمت المديرة المكان، مدركة أن الرجل ليس زبونًا، وبدأت تهدد بالاتصال بالشرطة لحبسه بتهمة اقتحام بيت الدعارة الخاص بها. خوفًا من الشرطة الاستعمارية ومما سيحدث لبقية أسرته إذا تم اعتقاله، اضطر الأب لأربعة أطفال إلى ترك ابنته في حي بيوت الدعارة حيث كانت محاصرة جنبًا إلى جنب مع مئات النساء والفتيات الأخريات. وهناك، أصبحت فاطمة البغي رقم 4921.

ولأنه أمّيّ، وغريب، ويشعر بالعجز، بحث محمد عن كاتب عرائض (ناسخ) لكتابة رسالة يتوسل فيها لإطلاق سراح فاطمة. كتب: "أنا مجرد فلاح مسكين وأعزل،" قبل أن يتضرع لطلب حريتها من المشرفين الذين سيطروا على كل عنصر من عناصر الحياة في متاهة بوسبير الكثيفة: السلطات الاستعمارية الفرنسية.

في ظل الحكم الفرنسي، سُجنت آلاف النساء والفتيات مثل فاطمة داخل بوسبير، أكبر حي دعارة في أفريقيا، والذي بنته السلطات الاستعمارية في عام 1914 كوسيلة للسيطرة على ما يُفترض أنه نظافة وصحة العاملات في الجنس وزبائنهن من خلال فحوصات دورية للأعضاء التناسلية بحثًا عن الأمراض المنقولة جنسيًا. في الواقع، أصبح بوسبير مكانًا للرقابة الاجتماعية، حيث يمكن للشرطة التي تعمل برقابة قليلة أن ترسل أو تحتجز النساء والفتيات وتجبرهن على بيع الجنس بمجرد الاشتباه في أنهن كن يمارسن الدعارة.

خافت العديد من العائلات كثيرًا من الشرطة الاستعمارية أو العار والوصم الذي يأتي مع وجود عاهرة في العائلة لدرجة أنهم لم يحاولوا إطلاق سراح زوجاتهم وبناتهم بمجرد وصولهن إلى بوسبير. لكن آخرين، مثل محمد، حاولوا لسنوات، يكتبون رسالة تلو الأخرى يناشدون السلطات الاستعمارية للإفراج عن أحبائهم. تقدم هذه الرسائل، المحفوظة في المحفوظات الفرنسية، نظرة ثاقبة وغنية على النظام الذي جعل من بوسبير عامل جذب ضخم للأجانب، ومكانًا جحيميًا للنساء والفتيات المغربيات وعائلاتهن.

جاء اسم "بوسبير" من بروسبر فيريو (Prosper Ferrieu)، وهو قنصل فرنسي كان يمتلك قطعة أرض على حافة الدار البيضاء مع عدد قليل من بيوت الدعارة عليها في حقبة ما قبل الاستعمار. في عام 1914، بعد عامين من الحماية الفرنسية، بنى المسؤولون حيًا محاطًا بالأسوار على أرض فيرييو، مما أدى إلى توسيع كبير في مساحة حي الدعارة. (تم نقل اسم بروسبر صوتيًا إلى "بروسبير"، ثم "بوسبير"، وبقي الاسم). كان الحي جزءًا من إعادة تصميم الدار البيضاء من قبل مهندسين معماريين فرنسيين مثل هنري بروست، الذي سعى لتحديث المدينة بالشوارع الواسعة والمجاري الحديثة للمقيمين الفرنسيين، بينما قام بعزل المدينة العتيقة المغربية بأسوار. كان إنشاء بوسبير جزءًا من هذا المنطق الاستعماري: الصحة والنظام للأوروبيين، والاحتواء والمراقبة للمغاربة. كانت هناك بوابة واحدة تؤدي إلى الحي وخارجه؛ وكانت تحرس على مدار الساعة من قبل الجنود الفرنسيين.

أصبح بوسبير نقطة جذب هائلة، ليس فقط للسكان المحليين في الدار البيضاء (والجنود الفرنسيين المتمركزين هناك)، ولكن للسياح الذين جاءوا من جميع أنحاء أوروبا ليخوضوا في تخيلات استشراقية. كان ما يقرب من 1000 إلى 1500 زائر يأتون يوميًا في ثلاثينيات القرن الماضي، رجال ونساء أوروبيون، وسياح وزبائن. شجعت الإدارة الفرنسية على ذلك؛ تضمنت النشرة الرسمية التي أنتجها المكتب السياحي الفرنسي في المغرب تعليمات مفصلة حول كيفية الوصول إلى حي بيوت الدعارة. كانت هناك حتى خدمة حافلات منتظمة. بطاقات بريدية لنساء عاريات الصدر مستلقيات على سجاد ووسائد تحت الأجنحة المقوسة لبوسبير تم تداولها في جميع أنحاء العالم. كانت وفيرة لدرجة أنه حتى الآن، بعد قرابة قرن من الزمان، لا يزال بإمكانك العثور على هذه "المحظيات لعلب البريد" في أسواق السلع المستعملة في باريس وروما.

لكن معظم هؤلاء الجميلات، اللاتي أثرن خيال السياح الباحثين عن الجنس الذين ترددوا على بوسبير على مدى العقود العديدة التي كان مفتوحًا فيها، إما تم استدراجهن إلى بوسبير دون علمهن أو أجبرن على التواجد فيه من قبل السلطات الاستعمارية مع القليل من الموارد للمغادرة.

ابتداءً من عام 1912 في المغرب، وقبل ذلك في الجزائر وتونس، أشرفت الدولة الاستعمارية الفرنسية على نظام صارم ومُنظّم للعمل في الجنس. كان على كل امرأة تبيع الجنس أن تكون مدرجة في سجل الدولة وتم تصنيفها رسميًا على أنها فتاة خاضعة   في المغرب وحدها، سُجِّل ما يصل إلى 5000 امرأة بحلول عام 1952. بمجرد تسجيل المرأة في السجل، يصبح ترك العمل في الجنس شبه مستحيل.

لعل رسائل محمد إلى السلطات الفرنسية تساعدنا في رسم صورة لمدى سهولة وقوع شابة في هذا النظام. كانت مديرات بيوت الدعارة - وكثيرًا ما كن عاهرات سابقات، عالقات في النظام ولكنهن تجاوزن سن العمل في الجنس - يذهبن للبحث عن مجندات جدد في البلدات والقرى الأصغر. كن يبحثن عن الفتيات والشابات اللائي يظهرن نحيفات أو قذرات، ويتسللن إليهن في الحشود التي تتجمع حول الموسيقيين ومروضي الثعابين، حيث كن يخبرنهن أنه يمكنهن تقديم حياة أفضل مع الكثير من الطعام ومكان دافئ للنوم. في إحدى رسائل محمد، يصف كيف اقتربت زينة من ابنته وتلاعبت بسذاجتها وأميتها: "وثقت ابنتي بدعوة هذه المرأة ووافقت على السفر إلى الدار البيضاء معها، لكنها صُدمت عندما وجدت أنها دخلت حي الدعارة دون أن تدرك (لعدم معرفتها بالدار البيضاء)، وبعد ذلك قامت هذه المرأة زينة على الفور باتخاذ الخطوات اللازمة للحصول على "بطاقة" ابنتي."

كان "الوضع على البطاقة" هو المصطلح المهذب للتسجيل كعاملة في الجنس، حيث كان رجال الشرطة المحليون يعطون عاملات بيوت الدعارة مثل فاطمة بطاقات هوية يحملنها تُدوّن مكان إقامة المرأة، وتحدد القواعد التي يجب أن تتبعها (بما في ذلك عدم القدرة على مغادرة بيت الدعارة دون إذن) وتسجل فحوصاتها الصحية الأسبوعية. تضمنت هذه الفحوصات عمليات تفتيش مؤلمة وتطفلية للأعضاء التناسلية باستخدام منظار مهبلي، من المفترض أنها لمنع انتشار الأمراض بين الزبائن. في الواقع، لم تقتصر على نشر الأمراض فحسب، بل جردت النساء من الكرامة والحرية.

كما لاحظ محمد، لم يتطلب الأمر الكثير لكي تقوم مديرة بيت دعارة بتسجيل فتاة: "يبدو أن هذه الإجراءات الشكلية كانت سهلة بشكل لا يصدق، مما يعني أنه ضد إرادتي بدأت ابنتي في عيش حياة الفجور من أجل مكاسب هذه المرأة." كل ما كان على المديرات فعله هو اصطحاب الفتاة إلى بيت الدعارة، وملء الأوراق مع الشرطة المحلية "لوضعها على البطاقة"، وتوقيع النموذج كذبًا الذي ينص على أنها تنضم إلى بيت الدعارة طواعية ووضع الفتاة تحت سيطرتها بموجب القانون الفرنسي. على الرغم من أنه كان من المفترض أن يكون عمر الفتيات 17 عامًا على الأقل لدخول بوسبير، إلا أن قلة قليلة من الناس في الريف كانوا يمتلكون وثائق هوية، مما سهل على المديرات تجنيد فتيات لا تتجاوز أعمارهن 12 عامًا والكذب ببساطة بشأن أعمارهن.

في بيوت الدعارة، سيطرت المديرات على تدفق الأموال. كن يأخذن حصة من الرسوم التي يدفعها الزبائن، ولكنهن كن يتقاضين أيضًا من الفتيات تحت سقفهن أسعارًا مبالغًا فيها للإيجار والطعام والملابس. إذا لم يحققن حصصهن من زيارات الزبائن أو بيع صواني الشاي، فسيتم تغريمهن. بعد عامين تقريبًا تحت سقف زينة، تعمل بدوام كامل في بيع الجنس، قيل لفاطمة إن لديها في الواقع دينًا قدره 500 فرنك يجب دفعه قبل أن يتم إطلاق سراحها. جعلت هذه الممارسة الابتزازية من المربح للغاية للمديرات إضافة المزيد من المجندات إلى المشروع، واستمر نظام خداع الفئات الأكثر ضعفًا دون هوادة.

لكن هذه لم تكن الطريقة الوحيدة التي وصلت بها الفتيات والنساء إلى بوسبير. يمكن أيضًا أن يتم اعتقالهن وإرسالهن إلى هناك من قبل الشرطة الفرنسية ضد إرادتهن.

في نظام فرنسا المهووس بتنظيم العمل في الجنس، وقعت مهمة تحديد من يبيع الجنس - وضمان السيطرة عليها بإحكام - إلى حد كبير على عاتق الشرطة الاستعمارية. كانت الشرطة الفرنسية تقوم بدوريات مستمرة في المناطق التي يُفترض أن النساء يبعن فيها الجنس بشكل غير قانوني، أي دون أن يكن مسجلات في النظام الفرنسي. لقد أجروا مراقبة مستمرة لجنسانية النساء في الشارع، وفي دور السينما، والمطاعم، والحانات، والفنادق، ويمكنهم حتى اعتقال امرأة في منزلها إذا كانت هناك شائعات بأن لديها الكثير من الضيوف الذكور. لم يكن هناك دليل مطلوب: إذا اشتبهت الشرطة فقط في أن امرأة تبيع الجنس بشكل غير قانوني، يمكن اعتقالها. بعد ثلاثة اعتقالات، ستُجبر المرأة على التسجيل كعاهرة وإرسالها إلى بيت دعارة. وجدت دراسة لحي الدعارة في عام 1951 أن ما يزيد قليلاً عن ربع جميع العاملات في الجنس في بوسبير تم إرسالهن إلى هناك من قبل الشرطة الفرنسية. وقد أدى الافتقار إلى أوراق الهوية إلى إدخال فتيات لم تتجاوز أعمارهن 12 عامًا.

يمكن اعتقال الفتيات والنساء حتى لو كن عذراوات. في الدار البيضاء عام 1935، تم اعتقال شقيقتين، فاطمة وعزة، في فندق القصر (Hotel du Palais) للاشتباه في بيعهما الجنس. فقد اقتيدتا إلى مركز الشرطة، حيث خضعتا لفحوصات حوض قسرية. وفقًا لرئيس الشرطة، "تُعرّفت عزة على أنها عذراء، وتم إطلاق سراحها على الفور ولم يتم إدخالها في السجل." ولكن كان من الواضح أنها عذراء فقط عندما تم إدخال المنظار المهبلي في جسدها، مما أضر بغشاء البكارة لديها - وآفاق زواجها المستقبلية. ولكن على الأقل سُمح لعزة بالعودة إلى المنزل. أما أختها فاطمة "فقد تم التعرف على أنها مريضة" بأمراض منقولة جنسياً "واحتُفظ بها للعلاج" في المستوصف في بوسبير، حيث أُجبرت على أن تصبح البغي رقم 4694. عملت هناك ضد إرادتها لأكثر من عامين. كتب والدها رسائل إلى السلطات الفرنسية في الدار البيضاء، تمامًا مثل محمد، لمحاولة إطلاق سراحها.

توسل والد فاطمة إليهم لإعادة النظر في سجن فاطمة. بعد أن رُفضت محاولته الأولى، حاول الرجل اليائس مرة أخرى، موضحًا أن ابنته "اعتقلت عن طريق الخطأ". في رسالته الثانية، كتب أن لديها وظيفة بأجر جيد كخادمة، بل وأرفق رسالة من رب عملها، وهو رجل أوروبي وعد بإعادة توظيفها إذا أُطلق سراحها. في محاولة لإظهار أن ابنته محترمة، قدم تفاصيل حول كيفية طلب أحد جيرانه الزواج منها، وكتب "لقد قبلت هذا العرض السعيد". وتابع موضحاً أنه في غمرة حماسه، "ذهبت لزيارة العدول [مسؤول عام، شبيه بالموثق] مع زوجها المستقبلي وأخذوا ملاحظة." لكنه سرعان ما وجد نفسه محظوراً مرة أخرى بالبيروقراطية الفرنسية، لأنه "لكتابة وثائق الزواج، يحتاج الموثقون إلى رؤية العروس ليتمكنوا من وصف وجهها"، وهي الطريقة المستخدمة قبل أن تصبح صور الهوية شائعة. لم يكن هذا ممكنًا لأن فاطمة كانت عالقة في بوسبير.

طوال محاولاته، كان والد فاطمة ثابتًا على أن كل هذا كان خطأ، ولكن ابنته ستعود قريبًا إلى الطريق الصحيح. كانت هذه الرسالة مكتوبة على الآلة الكاتبة ومهذبة باللغة الفرنسية الرسمية. لعدم قدرته على القراءة أو الكتابة، كان سيدفع لشخص يعيش في مكان قريب لترجمتها وكتابتها له، لكنه وقّعها بنفسه ببصمة إصبع حبرية. أمضى أكثر من عامين في حملة من أجل حريتها بينما رفضت السلطات الاستعمارية الفرنسية السماح لفاطمة بمغادرة بوسبير.

لا عجب أن فاطمة حاولت الهرب مرتين خلال هذين العامين، واثقةً أكثر بطريقتها في النضال من أجل حريتها من قدرة السلطات الفرنسية على إقناعها برسائل والدها. تحتوي الأرشيفات الاستعمارية على سجلاتٍ بعد اعتقالها مرتين من قبل الشرطة الفرنسية، تشير إلى أنها أُعيدت في كلتا المرتين.

على مر العقود، تظهر السجلات أن عشرات النساء حاولن الهرب من بوسبير. نظرًا لأن النساء المسجلات ببيع الجنس لم يُسمح لهن بمغادرة بيوت الدعارة دون إذن - ليس فقط إذن مديرتهن ولكن أيضًا، في حالة بوسبير، إذن الطبيب المشرف السادي الذي أجرى الفحوصات الصحية وأجرى تجارب طبية على مرضاه - فإن أولئك الذين تم العثور عليهم خارج بيت الدعارة كانوا هدفًا للشرطة وتم إعادتهم على الفور. في بعض الأحيان كن يهربن بمفردهن، وفي أوقات أخرى في مجموعات. في عام 1950، أوقفت الشرطة الفرنسية 20 امرأة حاولن الهرب من بوسبير وأُجبرن على العودة. في حادثة أخرى، ألقت دوريات الشرطة العادية في الدار البيضاء القبض على 12 امرأة يشتبه في بيعهن الجنس؛ تبين أن سبعًا منهن كن نساء فررن للتو من بوسبير. تم اعتقال هؤلاء النساء لأنه على الرغم من أنهن تمكنّ من الخروج من حي الدعارة الذي سجنهن، إلا أنهن ما زلن بحاجة إلى اللجوء إلى بيع الجنس كخيار وحيد للعثور على المال للسفر إلى مكان آخر.

في نوفمبر 1935، حاولت امرأة تبلغ من العمر 23 عامًا تدعى عائشة الهرب من بوسبير للمرة الأولى. كانت قد اعتقلت بزعم بيع الجنس في فندق البرازيل   في الدار البيضاء واقتيدت إلى بوسبير، لكنها رفضت قبول مصيرها بهدوء. فشلت محاولتاها الأوليان، في نوفمبر وديسمبر 1935. يائسة من المغادرة، حاولت تغيير اسم عائلتها لتجنب الكشف وحتى تزوجت من رجل عمل كممرض في المستشفى لإظهار أنه يمكنها بدء حياة جديدة. لم ينجح أي من ذلك. بعد ثلاث سنوات من بيع الجنس ضد إرادتها، حاولت الهرب للمرة الثالثة في أكتوبر 1938.

في ذلك اليوم من شهر أكتوبر، طلبت إجازة لبضع ساعات لزيارة والدتها، ولكن بمجرد أن غادرت بوسبير، ذهبت عائشة مباشرة إلى دار المخزن، البلاط الملكي المغربي. كانت هذه واحدة من المناطق القليلة التي كان فيها مغاربة يتمتعون ببعض النفوذ، على الرغم من أن هؤلاء البيروقراطيين كانوا لا يزالون خاضعين للدولة الاستعمارية. توسلت إليهم للقيام بأي شيء في وسعهم للمساعدة في تحريرها من نظام العمل في الجنس الاستعماري، مقدمة شكوى مفادها أنه "على الرغم من أنني متزوجة وعلى الرغم من اعتراضات زوجي والدليل الذي قدمه، أخذني مفوض الشرطة بالقوة إلى حي الدعارة." بقرار حازم، كتبت: "أطلب من المخزن [الحكومة] التدخل لتحريري من مكان الفجور هذا."

مما يبعث على الإحباط، لا توفر المحفوظات الاستعمارية أية أدلة على ما إذا كانت هذه الشكوى ناجحة أو ما إذا كانت قد أُعيدت إلى بوسبير. لا توجد وثائق تُظهر أن عائشة حاولت الهرب للمرة الرابعة؛ ومن المأمول أن يكون هذا بسبب تحريرها من بيت الدعارة، وليس لأنها ببساطة فقدت الأمل.

كان طلب إلغاء التسجيل عملية تستغرق سنوات ونادرًا ما كانت ناجحة. كانت امرأة تُدعى مسعودة على سجل العمل في الجنس بالرقم 118 لمدة 15 عامًا، تجني المال من إدارة فندق كان على الأرجح بيت دعارة، وهو فندق لوزيتانيا (Hotel Luisitania). أوضحت في رسالتها إلى السلطات المحلية: "لقد سجلت نفسي طواعية في سجل العمل في الجنس بالدار البيضاء قبل أكثر من 15 عامًا، لكن منذ ذلك الحين لم أضطر أبدًا للخضوع لأي زيارات صحية ولم أقم ببيع الجنس بنفسي". "منذ هذا التاريخ، بصفتي مالكة فندق، امتلكت العديد من الفنادق المفروشة المختلفة وأنا حاليًا مالكة مبنى في 24 شارع موكادور، حيث قمت بإنشاء فندق لوزيتانيا. لقد نسيت تمامًا أنني ما زلت في سجل العمل في الجنس، حتى ذكرتني الشرطة مؤخرًا. هل لي أن أطلب بكل لطف أن ترفعوا اسمي منه؟"

قيل لمسعودة إن هذا لن يكون ممكنًا إلا إذا باعت الفندق الذي أمضت سنوات في بنائه، على الرغم من أنه كان مصدر رزقها الوحيد. فعلت ذلك بعد أسبوع. وحتى بعد ذلك، لم تتمكن من جعل السلطات الاستعمارية تستمع إلى قضيتها إلا بعد توظيف محامٍ فرنسي لكتابة رسالة قوية بالنيابة عنها. أخيرًا، في الساعة 9 صباحًا من يوم 28 سبتمبر 1936، صوتت لجنة مكونة من ثلاثة رجال فرنسيين على أنه يجب إزالة اسمها من السجل. بعد 15 عامًا، لم تعد مسعودة البغي رقم 118. لكن نجاحات كهذه كانت الأقلية. تمكن عدد قليل جدًا من النساء من مغادرة سجن بوسبير الاستعماري، الذي أُغلق أخيرًا في عام 1955 بعد ضغط من الحركة الوطنية المغربية. وعندها فقط سُمح أخيرًا لـ 675 امرأة كن لا يزلن يعشن هناك بالمغادرة. يتلاشى الأثر مع تلاشي وجودهن في بوسبير، لأن المحفوظات صامتة عما حدث بعد تفكيك حي الدعارة. لا يمكننا إلا أن نخمن من حقيقة أن العمل في الجنس أصبح غير قانوني عند الاستقلال: كان من الصعب على النساء إما الاندماج مرة أخرى في مجتمعاتهن أو الاستمرار في بيع الجنس.

ماذا تبقى من بوسبير؟ سيجد زوار الحي في الدار البيضاء اليوم أنه لم يتغير بشكل مخيف. لا تزال هناك بوابة واحدة فقط تؤدي إلى هذه المنطقة من مرس السلطان في وسط الدار البيضاء، تمامًا كما كان عندما تم تصميمه في عشرينيات القرن الماضي. عند المشي في الشوارع الهادئة بشكل غريب لهذا الحي السكني، ستلاحظ شيئين. أولاً، العمارة لا تزال متطابقة تقريبًا مع البطاقات البريدية الاستعمارية التي تم إنتاجها قبل قرن من الزمان. يمكنك رؤية نفس السوق المركزي، ونفس الأقواس المستشرقة الجديدة التي صممها المهندسون المعماريون الفرنسيون، ونفس الخلفيات مثل البطاقات البريدية المصورة الشهيرة. ثانيًا، إذا نظرت إلى لافتات الشوارع على الحائط، ستلاحظ أن أسماء الشوارع قد تم طلاؤها بشكل رديء في محاولة لإخفاء الأسماء القديمة. شارع تازية، شارع المراكشية، شارع المكناسية: سُميت كل هذه الشوارع على اسم نساء من مدن مغربية مختلفة - تازة، مراكش، مكناس - عشن وعملن هناك. إنها تلمح إلى تاريخ هذا الجزء المسكون من الدار البيضاء، وتكشف عن الجهود المبذولة للتظاهر بأن هذه مجرد ذكرى بعيدة. آثار النساء لا تزال موجودة، محجوبة ولكن يسهل العثور عليها إذا كنت تعرف أين تبحث، تمامًا مثل مجموعة الرسائل الموجودة في المحفوظات الاستعمارية الفرنسية. تظل أصوات النساء أنفسهن غير قابلة للوصول؛ في الغالب، لا يمكن إعادة بناء حياتهن، على الأقل الأجزاء التي قضينها في بوسبير، إلا من خلال كيفية وصفهن من قبل آبائهن، أو أزواجهن، أو البيروقراطيين المستعمرين. وعما حدث لهن بعد تحريرهن، لا يُعرف شيء على الإطلاق.

(تمت)

***

....................

* الكاتبة: كاترين فيبس / مؤرخة متخصصة في النوع الاجتماعي، والجنسانية، والإمبراطورية

بقلم: أنيكا جايد ليفي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

أخبرني أستاذ القانون أن فارق السن بيننا كان سقراطيًا: سبعة عشر عامًا. فجوة مثالية للتلقين الأيديولوجي.

كان لديه أطفال في سن المتوسطة – مُخبَّئون في مدارس داخلية على طراز القرن العشرين – وهذا جعله يبدو خبيرًا بالحياة. مع ذلك، لم أكن أنا صغيرة. فقد بدأت ثديايَّ يتدليان، لكنني كنت لا أزال أنام مع دماي المحشوة.

كان أستاذ القانون شابًا في يومٍ ما، ربما كان ماركسيًا. أخبرني أن هناك ثلاثة أنواع فقط من القصص في العالم: قصص حرب يموت فيها الرجل من أجل الشيوعية؛ وقصص حب يموت فيها الرجل من أجل الشيوعية؛ لا أستطيع أن أتذكر ما هو النوع الثالث من القصص.

أعطاني كتاب حكايات خرافية ألمانية ووجدت بداخله صورة بولارويد قديمة: كان يبدو فيها تقريباً في مثل سني، مرتديًا نفس الملابس المتعددة الطبقات المعتدلة التي كان يرتديها دائمًا – قميصٌ بقلنسوة (هودي)، ومعطفٌ بحري، وملابس من قطيفة مخططة. في الصورة، كان في منتصف الجملة وفمه مفتوح، مبتسمًا كما لو كان على وشك قول شيء مُخالف للقواعد. أردتُ أن أركض نحو هذه النسخة منه.  فجأة فهمت سبب ثقته الكبيرة بنفسه، أن سحر شبابه بقي في ثقته، وفي طريقته البسيطة في التصرف، وأن هذا كان سبب جاذبيته الجنسية التي لا يمكن تفسيرها بخلاف ذلك. بالنسبة للرجال، يبدو أن التقدم في العمر لا يتعلق كثيرًا بالضمور بقدر ما يتعلق بالتمّييع، عملية تدريجية لتخفيف هوية أساسية ما، ليصبحوا أقل من شيء ما. كان بإمكاني أن أستشعر نبرة رجعية قديمة في صوته حتى وهو يدافع عن الرئيس المسن ويتحدث عن أهمية الديمقراطية، بنفس الطريقة التي كان بإمكاني بها دائماً أن أستشعر أنه كان جذاباً بشكل مفرط في شبابه.لكنني كنت أعلم أن هذا النهج الكاريزمي في التعامل مع الشيخوخة لم ينجح مطلقًا مع النساء.

بعد أشهر من ممارسة الجنس المتقطع والمهين، وافق على أن يأخذني لتناول العشاء. التقيت به في مطعم سيء للستيك في ميدتاون، من ذلك النوع الذي ربما كان أنيقًا قبل نصف قرن. المغزى أننا لن نصادف أي أحد. دخلت من البرد وطويت معطفي الواقي من المطر على ذراعي. كنت أرتدي أحد فساتين جدتي ذات الطابع الريفي التي كانت تطلبها بالبريد، لأن مدربة حياة أسترالية على الإنترنت قالت: "عليكِ أن تُعزّزي أنوثتكِ لتجعلي الرجل يريد أن يعتني بكِ". سلمتني المضيفة إلى النادل، وسلمني النادل إلى أستاذ القانون. سأل بعد وصول أطباقنا الرئيسية. كنت في الكأس الثالثة من النبيذ.

- هل كنت تعلمين أن جي. دي. سالينجر وجويس ماينارد لم يمارسا الجنس المهبلي قط؟

قلت:

- أعتقد أنني سمعت عن هذا.

أخبرني: "لم يكن يريد أن يفسد كمال جمالها الشبابي".

فأجبت:

- إذن كانت فقط تمص قضيبه؟

أخذت قضمة من شريحة اللحم المطاطية وبصقتها في منديل قماشي.

سأل:

ما خطبك؟

قلت له:

- لا شيء خطأ بي. يبدو لي الأمر مجرد إهدار لخصوبة فتاة مراهقة.

شعرت بأنني أزداد عمراً في وجوده، أتمّيع، عملة شبابي تنهار. دون أن أستأذن، وقفت من على الطاولة وتجولت في المطعم كطفل حتى أرشدني أحد ماإلى الحمام .

جلست في الحمامات أحدق في شاشة هاتفي المكسورة. عندما مررت بإصبعي لأسفل، أحدثت شظايا زجاجية صغيرة جروحًا صغيرة في أصابعي. فتحت إنستجرام وانتظرت تحميل الإعلانات بين الصور المتلاشية لأشخاص لم أعد أعرفهم، وهم يتناولون الطعام في مطاعم أو يحضرون حفلات زفاف أو "ينفصلون بوعي". بدا المحتوى الممول أكثر واقعية من صور معارفي القدامى، الذين بدوا كإعلانات عن أنفسهم، الذين بدوا كإعلانات لأنفسهم، ولثروات الأجيال القادمة، ولصناعة الطب النفسي الأمريكية، وللإيجابية الجنسية.

أعددت قائمة في رأسي بأشياء أردتها: أردت أن أقابل شخصًا جديدًا. أردت عصا هيتاتشي السحرية ورجلاً يربطني بالسرير ويتركني أمارس العادة السرية حتى أموت. أردت كل منتج رأيته في إعلان.

أرسل لي أستاذ القانون رسالة نصية: "لا تعودي من الحمام. لقد دخل للتو شخص من قسمي."

شعرت بطبقة رقيقة من الشفقة على الذات تغطيني كجلد ثانٍ. أصبحت هذه الأنواع من الإهانات الطقسية جزءًا من روتيني. فتحت تويتر.

عندما خرجتُ من الحمام، رأيتُ أنني كنتُ أبكي، وأن دموعي قد خففت من مكياجي، وجعلته مثل عين دخانية أنيقة.

في شقته في الجانب الغربي العلوي من مانهاتن، مارسنا الجنس بشكل آلي. كنت في حالة سكر لدرجة أنني خاطرت بتوجيه يده إلى حلقي، لكنه تركها هناك بتراخٍ. كان من جيل مختلف. لم ينشأ على النوع المناسب من المواد الإباحية. على الأرجح لم يخطر بباله أنني أرغب في الاختناق لا القتل. شعرت بالغربة والوحدة بعد ذلك، وبدا وكأنه يتوق إلى زوجته.

استيقظت وأنا في حالة ضبابية، غير قادرة على تحديد الغرفة البيضاء المعقمة. لم أفهم أبداً لماذا كان أستاذ القانون يمتلك هذه الحياة الكاملة (زوجة، وأطفال، وعشيقة، ومهنة) ومع ذلك كان بيته مثل مستشفى. كل شيء كان مخزنًا في خزائن بيضاء لامعة – حتى كتبه كانت بعيدة عن الأنظار في حاوية ما. ربما كانت هذه طريقة معاصرة للإعلان عن الثراء: أن تظهر كما لو أنك لا تملك شيئًا.

استلقيت على ظهري في سرير أستاذ القانون متظاهرة بالنوم، باقية بلا حراك، لا أشعر بأي ألم، أحاول أن أقرر ما إذا كنت سأستحم قبل أن يدنسني مرة أخرى أم بعدها. تذكرت الليلة السابقة، كيف انقلب على جانبه وأمسك بهاتفه بمجرد أن انتهى، وكيف أنه بالكاد نظر إلي. صحيح أن جسدي مثالي من الناحية الشكلية، لكنني يائسة في الجنس ومحافظة في السر. عادةً ما أستلقي بلا حركة وأدرس البقع على السقف، آمله أن يشعر الرجل بالإطراء بسبب سلبيتي.

من خلف جفني، أمكنني رؤية هيئة أستاذ القانون الباهتة، منحنيًا على كرسيه المريح يقرأ من كتاب عن هتلر. مددت يدي بهدوء نحو هاتفي. كان يحب الهدوء في الصباح. كان إصبعي ينزف من التمرير على الشاشة المكسورة. كانت هناك لطخات دم صغيرة على غطاء وسادة أستاذ القانون. تساءلت إن كان أحد سيلاحظها: زوجته، مدبرة منزله، أي أحد. مصصت إبهامي حتى نظف. تذوقت مقابض الأبواب.

بدأت في الرد على بعض الرسائل النصية ثم توقفت، مددت يدي إلى حقيبتي على الأرض، ونبشت فيها بحثًا عن وعاء مصل للبشرة مكتوب على ملصقه "إعادة الـعـمـر للـخـلـف".

قال أستاذ القانون دون أن يرفع نظره عن كتاب هتلر: "ابقِ في السرير. أحبك كثيراً عندما تكونين نائمة."

خارج المبنى الحجري البني، كان الصباح أبيض قذرًا وباردًا.

***

........................

* مقتطف من رواية "الأرض المسطحة" لأنيكا جايد ليفي. ليفي كاتبة من كولورادو. وهي محررة مؤسسة لمجلة "فوريفر" وتدرِّس في برنامج الكتابة بمعهد برات. وقد نُشِرَت أعمالها القصصية والنقدية في مجلة "إنترفيو"، و"نايلون"، و"فلاونت"، و"غراند"، وغيرها. وتعد "الأرض المسطحة" روايتها الأولى.

من الأدب الكردي

ثلاث قصائد من عبد الله بشيو

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - إن كنت

إن كنت تروم تعريتي

كما يفعل بالخنجر

عندما يسل..

إن كنت تريد لسمكات أسراري

غير الأليفة

أن تطفو

على سطح الماء

إن كنت تبغي

تمزيق صدري..

خذني لأقترب

من شجرة بلوط

خذني لأقترب

من ذروة جبل!!

***

2 - الامتزاج

كيف السبيل

إلى الامتزاج بك؟

قولي لي

إن كنت فردوسا

كي أسجد خاشعا

لكل الآلهة

قولي لي

إن كنت جحيما

لأملأ هذي الأرض

بالجناح

وأعيث فيها فسادا

كيف السبيل

إلى الامتزاج بك؟

افيديني..

إن كنت أرضا محتلة

لأصير جلدي بيرقا

وإن كنت غجرية

مثلي

فارسمي لي حدودي

واجعليني

وطنا.. لك!!

***

3 - الجندي المجهول

عندما يتوجه أحد الوفود

إلى مكان ما

يضع إكليلا من الورود

على ضريح

الجندي المجهول

**

غدا لو زار أحد الوفود بلادي

وسألني:

أين الجندي المجهول

لقلت لهم:

سادتي

على حافة كل ساقية

وعلى دكة كل مسجد

وبباب كل دار

كل كنيسة

كل غار

وعلى صخرة كل جبل

وعلى كل شجرة

من غابات

هذه البلاد

وعلى كل شبر من الأرض

وتحت كل بقعة

من سماء بلادي

بامكانكم أن تنحنوا

دون وجل

لتضعوا إكليلكم..

***

........................

- عبد الله بشيو: شاعر وأكاديمي. أبصر النور عام 1946 في (بيركوت) وهي قرية وادعة تقع شمال مدينة أربيل / العراق

- نذر حياته لمذبح الشعر منذ بداية الستينيات من القرن الماضي وما برح كذك

- حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب

- صدرت له في عام 1967 أولى مجاميعه الشعرية وكانت بعنوان (الدموع والجرح)

- ثم أصدر في عام 1968 مجموعته الثانية المسماة (الصنم المحطم)

- ثم المجموعة الثالثة (رسائل ليلية لشاعر ظاميء) في عام 1972

- ومن شعره هاتان القصيدتان عن مجموعته الشعرية التي وسمها ب (ما من ليلة لا أحلم فيها بكم) الصادرة عن مطبعة الأديب البغدادية عام 1980

- نشرت الترجمة في جريدة (خه بات) العراقية العدد (683) في 14 / 7 / 1993

- أما القصيدة الثالثة التي بعنوان (الجندي المجهول) فقد ترجمت من مجلة (ئه ندازيار – المهندس) عدد (صيف 2001) ويبدو انها مأخوذة من الغلاف الخلفي ل (ديوان عبدالله بشيو) الصادر في أربيل عام 2001

- عن (من الشعر الكردي الحديث: باقة قصائد) للمترجم، دار نشر كريستال، أربيل – العراق 2001

 

للشاعر النيجيري وُولي شويِنْكا

ترجمة: نزار سرطاوي

***

ثقيلةٌ يدُك أيها الليلُ على جفني.

لا أحمل قلبًا زئبقيًا كما السَحاب

حتى أقف في وجهك

محراثُكَ الماكر يمعن في تعذيبي.

ثمّةَ امرأة، تستلقي على هلال البحر كالصَدَفة.

رأيتَ عينَك الغيورةَ تُطفئُ وميضَ البحر،

ترقص على وقع الخفقان المتلاحق

للأمواج. ووقفتُ وقد استُنزفِتْ قُواي

مستسلمًا كالرمال، والدم والأُجاجُ

يشقّان طريقهما إلى الجذور. أيها الليل، لقد رحتُ تُمطرني

بظلالٍ مُسنَّنةً تنفذ من أوراقِ رطبة

فغرقْتُ في الدفق الدافئ لخلاياكَ المرقطة

حتى أوجعَتْني أحاسيسُ لا وجهً لها، صامتةٌ مثل لصوص الليل.

خَبِئْني الآن، وحين يجوبُ أطفالُ الليل الأرضَ

عليَّ ألا أسمع أحدًا! فهذه الخلايا الضبابية

ستحطّمني؛ إذ تاتي عاريةً، بلا دعوة، عند ميلاد الليل الأبكم.

.....................

Night

Your hand is heavy, Night, upon my brow.

I bear no heart mercuric like the clouds,

to dare.

Exacerbation from your subtle plough.

Woman as a clam, on the sea's crescent.

I saw your jealous eye quench the sea's

Fluorescence, dance on the pulse incessant

Of the waves. And I stood, drained

Submitting like the sands, blood and brine

Coursing to the roots. Night, you rained

Serrated shadows through dank leaves

Till, bathed in warm suffusion of your dappled cells

Sensations pained me, faceless, silent as night thieves.

Hide me now, when night children haunt the earth

I must hear none! These misted cells will yet

Undo me; naked, unbidden, at Night's muted birth.

***

..........................

* وُولي شوِينْكا: كاتبٌ مسرحي وشاعر وروائي من نيجيريا. حاز على جائزة نوبل عام 1986، فكان بذلك أول أديب أفريقي يحصل عليها.

كان من أشد المدافعين عن مسؤولية الفن والفنانين تجاه المجتمع، ومن هنا جاء نقده اللاذع للمجتمع والنظام السياسي. ونتيجة لبعض مواقفه النضالية إبّان الحرب الأهلية النيجيرية (1967 – 1970) المعروفة بحرب بيافرا، اعتُقل عام 1967 ومكث في السجن بدون محاكمة، إلى أن أفرج عنه بعد ما يقرب من عامين. 

درس اللغة الإنكليزية في جامعة إبادان في نيجيريا وجامعة ليدز في بريطانيا، التي تابع فيها دراسته العليا إلى أن حصل على الدكتوراه عام 1973. وإبّان إقامته في بريطانيا عمل لدى مسرح البلاط الملكي في لندن. وكان للخبرة التي اكتسبها في تلك الفترة أثرٌ كبير في مسرحياته.

يستلهم شوينكا أشعاره، كما مسرحياته، من الأساطير الشعبية لقبيلة اليورابا التي ينتمي إليها ومن حياته في بريطانيا وتجربته في السجن والمنفى. صدرت له عدة دواوين شعرية منها "إدانري وقصائد أخرى" (1967)، "قصائد من السجن" (1969)، "أرض مانديلا وقصائد أخرى" (1988) و "قصائد مختارة" (2001). كما صدرت له روايتان وخمسة كتب مُذكرات وعدد كبير من المسرحيات.

عمل شوينكا مُدرّسٍا في عدد من الجامعات منها جامعة كامبرج وجامعة ييل وجامعة إيموري.

يعيش سوينكا حاليًا في منزل منعزل في الغابة على مقربة من بلدة آبيوكوتا في نيجيريا.

من الجدير بالذكر أن الحكومة الأميركية أقدمت مؤخرًًا على إلغاء تأشيرته للدخول إلى الولايات المتحدة بعد أن وصف الرئيس الأميركي ترمب بأنه "عيدي أمين بوجهٍ أبيض".

بقلم: كان شيوا

ترجمة: صالح الرزوق

***

تسللت إشراقة أول شعاع من نور الصباح من نافذة غرفة المريض. كان السيد غو مستلقيا على السرير بعينين مغلقتين، وعاملة النظافة ترش المطهر في الغرفة، وقد وصلت باكرا اليوم على وجه التحديد، كما لو أنها لم تأتي للتنظيف ولكن لإزعاجه. كان غو يعلم أنه غير قادر على متابعة نومه، وكلما حصل ذلك، تقفز أفكاره وسط الرائحة القوية للمطهر لايسول. سبحت ورقة واحدة في الهواء فوق غابة أفكاره -  غابة كانت عارية تماما، فالفصل هو فصل الشتاء الآن. وكان غو يقلب سؤالا في ذهنه لعدة أيام: هل تحمر الورقة من جهة التصاقها بالساق ثم ينتشر اللون بالتدريج في كل المسطح الورقي، أم أن كامل الورقة ينتقل تدريجيا من الأحمر الباهت إلى الأحمر الداكن؟. لم يلاحظ غو قبل مرضه هذه الظاهرة. ربما لأن فرصة ذلك تفوته كل عام. فأمام بيته توجد هضاب ينمو عليها أشجار الإسفندان. ولكنه جاء إلى هنا بعد سقوطه صريع المرض. بعد خروج عاملة النظافة، ثنى غو ساقيه ودلك بنعومة بطنه المنتفخة. وتبادر إلى ذهنه: ربما يكون جسم الإنسان أنشط حين يصل مرضه إلى مراحله الأخيرة. على سبيل المثال حياته الفقيرة بلغت بالتأكيد هذه المرحلة. وقعت مأساة في الليلة الماضية في هذا الجناح: أسرع مريض بحالة حرجة، إلى الشرفة، وهو يزمجر، وقفز منها. وبعد ذلك حل السكون على العنبر مثل الموت، كما لو أن كل من استلقى هناك لم يجرؤ على التفوه بصوت واحد. هل جاءت المنظفة لتطهير الغرفة باكرا جدا لأن شخصا لقي حتفه؟. واعتقد أن هذا تصرف غير مناسب. فالرجل لم يقتل نفسه لأن حالته ساءت ولم يعد يحتمل ألمه. كان يعلم أنه يتحسن بالعلاج الكيميائي. وفي اليوم التالي سيتم نقله من عنبر الحالات الخطرة. من كان يخمن أنه سيفعل فعلته؟ ولكن هذا الشاب بالفعل أحسن اختيار تصرفه المبتكر. زادت ثقة غو بوضعه بعد المكوث في المستشفى لفترة طويلة. على انفراد كان يثني على المستشفى ويقول إنه "رائع". كان مريضا معتكفا، واعتاد أن يتحرك على طول الممر الذي يربط المباني البيض بعضها ببعض. وفي الواقع يمكنه أن يمشي ببطء دون معونة، ولكن ألح الأطباء أن يستعمل الكرسي المتحرك. جلس في كرسي متحرك، ودفعه رجل ضخم برفق نحو غرفة العلاج. واعتقد غو أن الغاية من هذه الترتيبات هي منعه من الهرب. واشتبه في البداية بالأمر، ولكنه اعتاد عليه لاحقا، وتأقلم معه قليلا. وتخيل، حينما أصبح في كرسي متحرك للمرة الثانية، أنه جنرال يقوم بفحص متمهل لميدان معركة مغطى بالجثث. كان يرتاح بعينين مغلقتين، حينما سمع فجأة المنظفة تقول: "عندما قفز الرجل كان يصيح باسم السيد غو". وحينما فتح عينيه، شاهد المنظفة تستدير وتغادر الغرفة. أثارت كلماتها السيد غو لسبب ما، وبغتة أصبح سمعه حادا جدا: مجددا سمع شخصين يتكلمان من الطابق الأخير. ثم هبطا وهما يتجادلان حول شيء ما. وحينما بلغا الطابق التاسع، وتابعا إلى السابع، ثم السادس، ارتفعت أصواتهما، كما لو أنهما يتخاصمان. توقفا عند الطابق السادس، وخفضا أصواتهما، وتحول الخصام إلى نقاش، كما لو أنهما قطتان تموءان برقة. كانت غرفة غو في الطابق الخامس. وتوجب على الشخصين الهبوط مقدار طابق إضافي فقط، ليكونا أمام بابه. ولكنهما لم يفعلا. ووقفا هناك وتابعا الكلام. وأصبحت لغتهما غير مفهومة تماما. وكلما سمع أكثر اعتقد أنه كلام قطط. وصعدت كلمة "الرجلان القطة" إلى ذهنه، وتخيل أنه يوجد في هذا المستشفى العديد من "الرجال القطط". وهم يختبئون في الزوايا المظلمة، وأحيانا يظهرون لاحتواء وحدتهم، كما يفعل الاثنان الآن. دق الطرف الأيمن من بطنه عدة مرات، وسمع السوائل وهي تقرقع. أغلق عينيه وشاهد الورقة الحمراء ثانية. كان طرف الورقة أثخن، وله إيحاء لحمي عبثي.  شعر غو بشيء يرتجف في رأسه. أطلق "الرجلين القطة" صوتا مرتفعا قبل أن يصبح صوته غير مسموع. فتح الباب. ووصل الإفطار. 

لم يكن غو جائعا ولم يرغب بتناول الطعام. وشجعه لي المريض المجاور له: "كل قليلا. وإذا تكرر حادث من هذا النوع الليلة، ستحتاج كي تتغلب عليه إلى بعض الطاقة". كان لي في مراحل مرضه الأخيرة. وقد فقد شعره منذ فترة بعيدة، ولم يتبق له في هذه الحياة غير شهر أو اثنين. وبعد أن فكر بالموضوع اضطر غو لأن يأخذ عدة رشفات من الحليب، وأن يغسل فمه بعد ذلك بالماء. وبعد أن خف غثيانه استلقى ثانية.  لاحظ معنويات لي العالية وهو يأكل بيضته. هذا الشخص؟ ولكن كيف حصل؟ كان يريد أن يتكلم مع لي بخصوص "الرجلين القطة"، ولكنه كان منهكا ولا يسعه الكلام. لماذا، بالأمس، نادى المحاسب جينغ باسمه وهو يقفز؟. كان الأمر أشبه بالعبث. وفي هذه اللحظة رفع إحدى يديه دون وعي منه، ثم سمع لي يقول: "يا سيد غو، لا تستعمل يدك. اتركها تسقط على وجهك. ربما هي منومة".

صدمه ذلك وقال: "ماذا؟".

أجاب: "أنا أتكلم عن الورقة الصغيرة. انظر. آها. لقد سقطت على لحافك".

بالتأكيد هناك ورقة ذابلة على لحافه، دخلت من النافذة. عندما ثناها بلطف، تحولت إلى مسحوق. والتصق المسحوق بيده، فنفضه عنها. ونظف يديه بمنديل. كانت عيناه نصف مغمضتين، فاتكأ على الوسادة، وسمع الأطباء الاستشاريين يدخلون من باب الغرفة. وبدا لدى، خلال المقابلة مع الطبيب، سعيدا بدرجة غير عادية، وأجاب على أسئلته بصوت مرتفع. وأعلن أنه "هزم المرض". لاحظ غو من شق عينيه التقطيبة المهينة على وجه الطبيب المسؤول. وفكر غو: "لي يوشك على الموت. وربما الليلة؟". وفجأة قال لي: "آخ" ففتح غو عينيه. شاهد عدة أطباء يثبتون جو على سريره. وكان يقاوم بقوة، ولكنهم ربطوه بسريره بشريط متين. وكان ينوح كل الوقت، وبدا كأن عينيه الجاحظتين ستقفزان من محجريهما. أخرج الأطباء مناديل لمسح عرقهم وتنهدوا دلالة على نهاية الأمر. ولسبب ما، لم يقربوا غو، وذهبوا إلى سريرين في  الجهة الغربية من الغرفة.  وبعد أن وجهوا لبعض الوقت الأسئلة، غادروا العنبر. وجعل تصرفهم غير العادي دماغ غو ينقبض ويصبح فارغا على التناوب. وبعد قليل تقيأ غو الدم. فسال على وجهه ثم تدفق على الوسادة. كان الدم بلون أحمر مسود. ولم يستمر بصراعه، ولم يكن بإمكانه المزيد من الصراع. وكان قادرا على تحريك فمه وعينيه وأنفه فقط. كلا. أذنيه أيضا. ولاحظ غو أن أذنيه تتحركان، وجعله ذلك يبدو ظريفا مثل حيوان لطيف.

تبادر لذهن غو أن يقول: "لنتعامل يا لي مع الأمر ببساطة".

فقال له: "كم أنت------ أحمق".

لزم غو الصمت. انتفض جانب بطنه الأيمن ثانية، فربت عليه.  ثم انتفض أكثر. التهبت موجات من الحرارة في داخله، وشعر بالحمى . قارن شركاؤه في الجناح الغربي من الغرفة - امرأة ورجل - حجوزات المقابر. ارتجف غو حيال موقفهما المتأني والمتحمس وشعر بالبرد. ثم شعر جزئيا بالحر وجزئيا بالبرد فلمس تلك الأجزاء وقال بنعومة: "هذا لا يشبه ما كان جسدي عليه". وعزم في سره أن يتسلل بعد قليل ويبحث عن "الرجلين القطة". بالعادة لا يجرؤ على مغادرة الجناح، لأن لي، حالما يغادر، يضغط على زر التنبيه وتسرع إليه الممرضات. نهض غو خفية، وشق طريقه بمحاذاة الجدار، وغادر الغرفة. عند الباب نظر إلى الخلف، ورأى لي يحدق به. وفجأة انتبه أن هذا مضحك، وتقريبا انفجر بالضحك. في هذا التوقيت، كان الممر خاليا، فتسلل إلى السلالم وبهدوء صعد عليها. وحينما كان يصعد، قبض على بطنه المنتفخة بكلتا يديه وتصور أنه كنغر. وعندما بلغ الطابق السادس، سمع "لغة القطط". ولكن أين "الرجلان القطة"؟. لم يجد أحدا في ممر الطابق السادس باستثناء ممرضتين كانتا بجولة لتوزيع الأدوية. بعد دقيقة استراحة، تابع غو الصعود. في الطابق السادس، كان صبي يدفع عربته لتوفير الماء.  وقف عند طرف الممر وجلس على السلالم ليدخن سيجارة. تساءل غو كيف يمكنه التدخين قرب العنابر. ربت هذا الشخص على الأرض المجاورة له ودعاه إلى الجلوس، وتدخين سيجارة برفقته. فاجأه ذلك لكنه قبل سيجارته وولاعته. كانت السيجارة قوية. لم يشاهد غو هذا النوع من قبل. ولربما لفها بنفسه. ثم لاحظ أن كيس السجائر من البلاستيك. 

قال غو بإعجاب: "أنت تعرف كيف تلف سجائرك".

أجاب ببساطة: "يا صاحبي.... نحن لدينا الأدوات الصحيحة".

شكر غو العامل بعد الانتهاء من السيجارة، ونهض وهو ينوي أن يتابع الصعود على السلالم، وحينها سمع العامل المجاور له يموء. كان صوتا خشنا جدا. ولكن حينما نظر إليه، كان يبدو كأن شيئا لم يحدث. لو أنه لم يكن مصدر الصوت، فمن يكون؟ بدل غو رأيه، كان يريد أن يرى هل سيفعل هذا الشخص شيئا آخر.  انتظر بعض الوقت، ولكن العامل لم يفعل شيئا. وضع عقب سيجارته في جيبه، ونهض، وعاد إلى عربة الماء. دفع العربة باتجاه العنبر. بدون وعي وضع غو يده في جيبه، وأخرج عقب السيجارة، ونظر إليها، ولكنه لم يشاهد شيئا غير معتاد. التفت بحركة معاكسة وسحق العقب. فشاهد حشرة ذات قشرة تزحف بين خيوط التبغ. تفحم نصف جسمها الأسفل، ولكن لم يظهر أنها مزمعة على الموت. شعر غو بالغثيان وألقى العقب على الأرض، وبدون أن ينظر إلى الخلف، تسلق حتى بلغ الطابق الثامن، فوجده مزدحما وكل شيء بحالة فوضى. ربما ساءت حالة أحدهم، لأنه رأى عربة أدوات طبية تندفع نحو العنبر. استراح غو لحظة، وتابع إلى الطابق التاسع - وهو الطابق الأخير.

وحينما وصل تقريبا إلى الطابق التاسع، رفع نظره، فأصابته دهشة بالغة، وأوشك أن يقع على السلالم. فقد وقف هناك شخص بحلة سوداء ويضع قناع أوبرا مخيفا، وكأنه كان بانتظار غو.

قال بصوت مرتفع وجهوري كأنه ناقوس كنيسة: "مرحبا يا سيد غو".

جلس غو على الأرض، يتنفس بصعوبة ودون قدرة على الكلام. فجأة شعر بالتعب وأوجعته بطنه. كان يبدو أنه لا يوجد مرضى في الطابق التاسع. وكان الممر خاويا. وتساءل غو في أي غرفة يوجد "رجلا القطة". وهل هذا المقنع "رجل قطة" أيضا؟.

قال المقنع بصوت مرتفع: "كنت تلميذك. أنا جو - الذي قفز في النهر المتجمد وأنقذ شخصا. هل نسيت؟".

"أنت جو؟ اخلع قناعك لأتمكن من رؤيتك. ها أنت موجود ولم تختف".

تخلى عن قناعه، وشاهد غو وجه رجل غريب عنه وشاحب وبأواسط العمر. كيف أمكنه أن يكون جو الذي قفز في النهر المتجمد لينقذ شخصا، ثم اختفى؟ ذاك كان صبيا طيب القلب. ولكن يوجد خطأ في عيني هذا الرجل المتوسط العمر. كان يغطيهما سائل - وربما هو ماء أبيض. ولكن لا بأس: فاضت عاطفة غو لأنه قابل طالبا كان محببا لديه في الماضي.

"كنت أبحث عنك طيلة هذه السنوات، ومنذ فترة قريبة صادفت شخصا يعرف أين أنت. وقال إنك تختبئ هنا. هذا المكان معزول تماما".

قبض جو على ذراع غو وقاده إلى غرفة لتبادل الكلام. ذهبا إلى عنبر وجلسا على سريرين. كان معتما وأغطية النوافذ مغلقة. سعل غو بسبب الغبار الذي ثار من السرير. وتساءل متعجبا كم مضى على هذه الغرفة دون أن يأوي إليها أحد. جلس جو على السرير المقابل. حينما نظر غو إليه ليأخذ فكرة عنه، بدا هذا الرجل المتوسط بالعمر وكأنه تحول إلى ظل كاذب. وراقبه جو يكابد وهو يستلقي، ويرفع اللحاف المغبر، ويغطي به نفسه. سعل غو مجددا.

قال: "أنا محظوظ جدا لأنني في نفس الغرفة مع معلم أحببته واحترمته. من فضلك اجلس على السرير وضع يدك على جبيني، حسنا؟. كنت أحلم بهذا منذ فترة طويلة".

وحينما وضع غو يمينه على جبين جو، ارتجف جسمه كأن تيارا كهربائيا مر فيه. كان من الواضح أن هذا الشخص هو جو حقا!. في ذلك اليوم طارد هو وجو ورقة حمراء حتى بلغا ذروة السفح، وكانا يتكلمان طيلة الطريق. وظهرت مدرستهما من أعلى السفح على شكل ندوب مسودة على الأشجار. وفي ذلك اليوم كشف غو لجو عن مرضه الخطير والذي لا يحب ذكر اسمه. 

حينما طرق أحدهم عدة مرات على الباب أراد غو أن ينهض ويفتح، ولكن منعه جو.

قال غو: "من عساه يكون؟".

"تجاهله. إنهم أولئك الأطباء. هم يدقون عدة مرات ليتأكدوا أن المكان هنا فارغ ثم ينصرفون".

وتأكد غو أنه سمع صوت خطوات عدة أشخاص تهبط على الدرج. لذلك وجه سؤاله إلى جو: "ألا يصعب عليك الاستلقاء هنا وسط كل هذا الغبار؟".

"المكان رائع هنا يا سيد غو. هل تتكرم وتضع يدك على جبيني ثانية؟ آه، شكرا جزيلا. المكان هنا هادئ تماما وثلاثة ديكة تعدو فوقنا".

شحذ غو ذهنه ليسترجع ماذا كانا يتكلمان حينها وتذكر ذلك في النهاية. وأفصح جو أيضا عن مرضه المسكوت عنه. وأخبره عن وجود ثقب في صدره منذ ولادته، وعن قلبه البارز من خلال ذلك الثقب. كان بإمكانه رؤية قلبه وهو يخفق. من الطبيعي أنه غطى الثقب بالشاش ثم ثبته بمكانه. وأفضى لغو أنه لا يشعر بأن هذا العيب الخلقي عجز معوق، وأضاف ببراءة "انظر، ألا أتصرف على خير ما يرام؟". ولاحقا قفز في النهر المتجمد ولم يظهر. فهل جاء إلى المستشفى وهو عازم على ذلك؟ وهل السبب الحقيقي أن حياته تقترب من نهايتها؟.

"حينما كنت أعيش بجوار غابة الإسفندان أين كنت أنت؟".

"أنا؟ أنا كنت في الغابة".

اقترح جو على غو أن يستلقي، أيضا، وفعل غو ذلك. وعندما غطى نفسه باللحاف المغبر، نبت في قلبه خيط من البهجة. وسمع صوتا يأتي من غرفته في الطابق الخامس: كانت زمرة أطباء وممرضات يبحثون عن شيء ما هناك. آه، هل يبحثون عن لي؟. قالوا إن لي، الذي كان مربوطا على سريره، اختفى. وليس هذا فقط، ولكنه قام بخدعة. فقد قيد خنزيرا على السرير. يا له من شيطان حقيقي. ولم يسمع لي حوار الأطباء فحسب، ولكن أيضا مواءهم المألوف وهو يأتي من ممر الطابق الخامس. واعتقد غو أن المواء يصدر عن "الرجال القطط". وأن "الرجال القطط" معه ليلا ونهارا. هل يمكن أن لي "رجل قطة؟ أم أن أولئك "الرجال القطة" أطلقوا سراح لي؟. نظر غو حوله في العنبر الواسع وأدهشه الفراغ والخواء. حينما كان في الأسفل اعتقد أن الطابق الأخير مشغول جدا، وحتى من الممكن أن "رجال القطة" أولئك يختبئون هنا. في ذلك اليوم، جلس في الكرسي المتحرك، ودفعه مسعف نحو السطح في الطابق التاسع. في ذلك الوقت اعتقد أنه يحتضر. دفع الرجل الضخم الكرسي المتحرك حول محيط السطح، وطلب منه أن ينظر إلى الأسفل. نظر عدة مرات: شاهد حوله موجات موحلة. ثم سمع كل أنواع الصراخ يأتي من كل مكان في البناء، كما لو أن نهاية العالم حانت. وفيما بعد وهو يزمجر ويشتم هبط به الرجل الضخم إلى الأسفل ودفعه نحو عنبره. وحينها بقي في تلك الغرفة خمسة آخرون من المرضى. وحالما دخل، وقف الجميع باحترام ونظروا إليه بعيون ملؤها الحسد. وقال أحدهم - شاب يدعى بي مينغ - "هذا يشبه ربح ورقة اليانصيب". وكان يسبح كل يومه وسط شكايات الآخرين.

قال جو: "هل رأيت قناعي يا سيد غو؟. لا بد أنني تركته على الدرج. بدونه لا يمكنني مقابلة أحد ما عداك".

غرق غو بالتفكير الطويل، ولم يفهم لماذا يتوجب على جو أن يلبس قناعا يقابل به الناس. وكان يتوق ليسأله ماذا وجد  في فترة اختفائه، ولكنه لم يتمكن من فتح الموضوع. واعتقد أنه لا يصح توجيه السؤال لطالبه قائلا: "بعد موتك، أين ذهبت؟ وما هي الأمور غير العادية التي مررت بها؟". لم يتمكن من أن يفعل ذلك. ودلك بنعومة بطنه المليئة بالسوائل، واتجهت أفكاره إلى بدايات مرضه. وشعر كأن حملا ثقيلا انزاح عن ذهنه. وبروح عالية انتقل إلى سفوح غابة الإسفندان التي أنفق فيها أياما رائعة. في الخريف، ثمل بالأوراق الحمر واستغرق بها. ولم يسبق له أن شعر بذلك الإحساس الغامر كما حصل. في فترات روحه العالية كان يشاهد النسور. الخريف فصل طويل. قال لنفسه: "الخريف طويل جدا - مثل الحياة الأبدية". أحيانا يأتي الأصدقاء القدامى لرؤيته، ولكنهم ليسوا من يريد رؤيتهم. وحينها لم يتمكن من معرفة من كان يريد أن يرى. والآن فقط، وهو يستلقي هنا، أدرك ذلك.  طيلة الوقت أراد أن يرى هذا الطالب الذي اختفى. وهو يفكر بالأمر، صدر عن سوائل بطنه صوت مريح، وانتشر في جسمه إحساس بالامتنان. سمعهم غو وهم يطلقون سراح الخنزير الألماني الذي قيده لي بالسرير. وحالما تحرر الخنزير، هرب من العنبر. تبادل النظر الأشخاص المتشحون بأثواب بيض فضفاضة بامتعاض. وقال أحدهم برقة: "لن يتبادر هذا لذهني أبدا". فكر غو: ربما تبادر هذا إلى ذهنهم قبل زمن مضى. لا شيء يمكنه أن يهزم شخصا مثل لي بسهولة. وحتى الذي قفز من النافذة في الليلة السابقة انتهى بطريقة طبيعية كما قال لي. كان جو يشخر بارتياح في السرير المجاور. وفكر غو: كيف يصالح نفسه ولا تقلقه الضجة في المبنى. وأراد غو أن يعرف إلى أي مدى بلغ تطور مرض جو. وعزم أن يسأله حين يستيقظ. لكن غو شاهد جو يقفز في النهر المتجمد، ولم يتمكن من سؤاله كيف عاد بعد غمر قلبه العاري في الماء الجليدي. وأراد فقط أن يسأله عن وضعه الراهن. كان وجهه دائما أبيض كالجير، ولا يزال. من مظهره لا يستحيل أن تخمن سوء أوضاعه. وشعر أن شكله تبدل، غير أنه لا يزال لطيفا كالسابق. ربما لأنه يرى قلبه يعرف بالتأكيد ماذا يفعل - على  سبيل المثال، القفز في الماء المتجمد.

قال غو للهواء: "لنذهب يا جو ولنشاهد الأوراق الحمر في العام المقبل. اتفقنا؟".

جاء مواء من الغرفة: كان لي يتكلم مع أحدهم. طبعا كان لي "رجلا قطة". وعلى ما يبدو وقف في الخارج ثلاثة أشخاص. لماذا لم يدخلوا؟. اتجهت المعاطف البيض الفضفاضة من الطابق الخامس إلى الأعلى، ولكن لم يهتم لا لي ولا الأخرون بالأطباء. وسمعهم غو يقولون إن الأطباء "زبالة".

وبعد أن صعد الأطباء، لم يتقابلوا مع لي والآخرين. وسمعهم غو يخططون لشيء ما - شيء يألفه غو جيدا، شيء شارك به ولكن نسيه تماما. ماذا كان؟. شعر غو أنه غير قادر على التعبير عنه باللغة. وحينما دخلت هذه المجموعة من الأشخاص إلى العنبر المقابل، أغلقوا الباب، وخلال ذلك، علقت ساق الخنزير الألماني. صاح الخنزير. فالتفت أحدهم، وأطلق سراح الخنزير الصغير المتطفل، وسمحوا له بالدخول.

بحث غو تحت وسادته عن مصباح يدوي، ربما تركه هناك مريض سابق. وتحت تأثير فورة من الحماس انتقل فورا إلى سرير جو وبيده المصباح. ولكن شاهده يغط بنوم عميق، فرفع اللحاف وأضاء صدره بالمصباح. كان جذع جو عاريا، فرأى غو على الفور قلبه ينبض. ولسبب ما كان قلبه أبيض بلون الحليب، وينبض ببطء مقارنة ببقية البشر. نظر عبر الثقب، ولاحظ أن قلبه النابض يبدل مكانه. واحتار من ذلك.  فتح جو عينيه وقال معتذرا: "هكذا بالضبط هو حال قلبي".

"هل سمعت يا جو بالاجتماع السري في العنبر المقابل؟ هل تعلم ماذا يناقشون؟".

قبض جو على المصباح وأنار به الباب. التفت غو أيضا بنظرته نحو ذلك الاتجاه. طبيب وقف هناك. ولكنه ليس من أطباء الجولة التفقدية. فغو لم يشاهده أبدا. سد الطبيب طريق أشعة المصباح بيساره وقال: "جيد أنك هناك. نحن نحضر لحالة طوارئ في أي دقيقة". ثم انصرف، وأغلق الباب وراءه. ضحك جو برقة وعلق بقولهإن هذا المستشفى "مثير للانتباه تماما". ارتدى سترته وقناع الأوبرا. سأله غو أين عثر على هذا القناع، وقال إنه فعليا لم يفقده: ولكن نسي أنه كان معلقا بخصره طيلة الوقت.  بعد أن ارتدى ثيابه، أخبر جو أنه يريد أن يذهب من الصالة "ليشارك في الاجتماع". رافقه غو وقلبه يدق. كان يشعر أن الحقيقة ستنجلي. وبدأت يداه بالارتعاش. وحينما ظهر جو في الغرفة مرتديا قناع الأوبرا، مالت رؤوس الجميع باتجاهه. فتحت أغطية النوافذ، وعمت الإضاءة، ولاحظ غو غياب غو والأطباء. كانوا جميعا أقرب أصدقائه وأقاربه، ولكن لم يتمكن من مناداة أحد باسمه. سحب أحدهم كرسيا بعجلات إلى الخارج، واعتقد غو أنه من أجله. ولكن لم يتوقع أن جو سيسبقه إليه. جلس جو في الكرسي المتحرك وظهر مخمورا وسعيدا.  حسده غو بسبب الكرسي، لأنه معتاد عليه. دفع رجلان كبيران جو، وتوقع غو أنهما عازمان على مبارحة الغرفة، ولذلك أسرع  نحوهم. لكنهم لم يغادروا. واكتفوا بدفع الكرسي في أرجاء العنبر الفارغ. قبض جو على شيء معلق في الهواء. وبدا أنه مستغرق، والناس من حوله يحيونه ويشجعونه. ثم نظر غو من النافذة. رأى المشهد الرائع للأوراق الحمر المتأرجحة في الريح. جلس بدهشة على الأرض. كيف يمكن للأوراق أن تكون محمرة في الشتاء؟ في ضوء الشمس كانت الأوراق كألسنة اللهب.

والآن - كان غو في نهاية الطابور - والجميع يتبع الكرسي الذي يدور في الغرفة. كانت أصوات الخطوات مثل زحف في استعراض علني. أصغى غو بانتباه ولكن ضاعت خطوات الجميع في موجات التفكير. تابع غو المشي دون أن ينظر من النافذة مجددا، لأن ظلا احتل هذه الدائرة. وغاص الجميع في هذا الظل الكثيف والداكن. وأخيرا قطف جو شيئا من الهواء. وأزال قناعه وشم الشيء.

بدا أنه يبكي ويقول: "يا سيد غو. يا سيد غو. وجدته".

سأله غو: "ولكن ما هو يا بني؟".

"هو الشيء الذي قفزت في النهر المتجمد من أجله".

وفجأة أصبحت خطوات الجميع غير منضبطة  في الظل القاتم الأسود. ولم يتمكن غو من أخذ نظرة جيدة من هذه الوجوه، ولا أمكنه رؤية المشهد خارج النافذة. ولكن كان بمقدوره أن يسمع جو يناديه وأن يسمع دوران الكرسي المتحرك وهي تتخطاه. اختفى الرجلان الضخمان، وبدأت الكرسي تتحرك أوتوماتيكيا. استولت عليه هبة ريح داكنة في الغرفة، وفصلته عن الدائرة. لا زال غو وهو في الممر يسمع جو يصيح: "يا سيد غو. وجدته".

عندما هبط جو السلالم، رن كل المبنى بجميع أشكال المواء. كان المواء متوحشا في كل مكان - في العنابر، المكاتب، وفي الحمامات. كان غو يعلم أنها ليست القطط ولكن "الرجال القطط" المختبئين في هذا المبنى. وربما استفزهم وصول جو. فقد مكث هنا لفترة طويلة، ولكنهم لم يتوحشوا بهذا الشكل من قبل. لا بد أن جو هو الشخصية الفارقة. ولو لم يأت ربما قلق "الرجال القطط" قليلا وحسب، ولما ظهرت الأوراق الحمر خارج النافذة في الشتاء. أسرع نحو الأسفل إلى الطابق الخامس، حيث أصابته رائحة اللايسول بالنعاس. وفكر بالرجل الذي طار إلى الأسفل من نافذة العنبر بالأمس، ربما كانت الكلمات التي صاح بها متماثلة مع الكلمات التي صاح بها جو - "سيد غو. سيد غو. لقد وجدته....".

 ***

...........................

* ترجمها عن الصينية كارين غيرنات وجين زيبينغ

كان شيوا Can Xua: كاتبة صينية طليعية تعيش في بكين. اسمها الحقيقي دينغ شيهوا. من أهم أعمالها النهر الأم، الجبهة، الحركة العمودية، وغيرها...

 

بقلم: كيت شوبان

ترجمة: نزار سرطاوي

***

راح صديقي المهندس المعماري، الذي يمكن أن نعتبره رحّالة، يعرض علينا تُحَفًا متنوعة كان قد جمعها أثناء زيارته للشرق. قال وهو يلتقط علبةً صغيرةً ويُقلّبها بيده: " هذه لكِ. أنتِ مُدَخّنة؛ خذيها معك إلى البيت. أهدانيها في القاهرة رجلٌ من الفقراء المتصوفة خُيّل إليه أنني أسديتُ إليه معروفًا".

كانت العلبة مغطاةً بورقٍ أصفرَ صقيلٍ مُلصقٍ بإتقان بحيث تبدو كأنها قطعةٌ واحدة. لم تكن تحمل أيَّ ملصقٍ أو ختمٍ – لا شيءَ يَشي بما في داخلها.

سألتُه وأنا أتناول العلبةَ وأقلّبها بغباءٍ كمن يُقلّب رسالةً مختومةً ويحاول أن يُخمّن محتواها قبل فتحها: "كيف عرفتَ أنها سجائر؟"

أجاب المهندس المعماري: "لا أعرف إلا ما قاله لي، لكنّ من السهل التأكد من صِدْقه". ناولني قطّاعة ورقٍ حادة فتحتُ بها الغطاء بحرصٍ بالغ.

كانت في العلبة ستُّ سجائر، من الجليّ أنها مصنوعة يدويًّا. الأغلفة من ورقٍ أصفرَ باهت، التبغ من اللون نفسه تقريبًا. كان أجودَ من التبغ التركي أو المصري العادي؛ خيوطُه بارزةٌ من كلا الطرفين.

سألني المهندس المعماري وهو يعرض إشعال عودَ ثقاب: "أتودّين أن تجرّبي واحدةً الآن سيدتي؟"

 أجبتُ: "ليس الآن ولا هنا، لكن بعد تناول القهوة، إن أذنْتَ لي أن أدخلَ إلى غرفة التدخين. بعضُ النساءُ هنا لا يُطِقنَ رائحة السجائر".

تقع غرفة التدخين في نهاية ممرٍّ قصيرٍ منحنٍ. أثاثها كله شرقيٌّ خالص. لها نافذة عريضة واطئة تُفْضِي إلى شُرفةٍ تطلّ على الحديقة. من الأريكة التي استلقيتُ عليها، لم يكن باديًا للعيان سوى أعالي الأشجار المتراقصة. أوراق القيقب تلمع تحت شمس الظهيرة. إلى جانب الأريكة، ثمّةَ منضدةٌ صغيرةٌ منخفضةٌ تحتوي على كل ما يحتاجه المُدَخّن. شعرت براحةٍ تامة، وهنّأت نفسي أنني فررت لبعض الوقت من ثرثرة النساء التي لا تتوقف، والتي كان صوتها يصل إليّ خافتًا.

تناولتُ سيجارةً وأشعلتها، ووضعت العلبة على المنضدة، بينما راحت الساعة الصغيرة الموضوعةُ هناك تدقُّ دقاتٍ فضيةً معلنةً الخامسة.

أخذت نفسًا عميقًا من السيجارة المصرية. تصاعد الدخان الرمادي المُخضرّ في عمود صغير منتفخٍ راح يمتد ويتسع حتى بدا كأنه يملأ الغرفة. تراءت لي أوراق القيقب باهتةً، كما لو أنّ وميضَ ضوء القمر يحجبها. تسلل تيارٌ خفيّ مزعج إلى جسدي كله وصعد إلى رأسي كأنه بخارُ نبيذٍ مثير للاضطراب. أخذت نفسًا عميقًا آخرَ من السيجارة.

"آه! لقد ألهبتِ الرمال وجنتي! استلقيت هنا طوال اليوم ووجهي في الرمال. هذه الليلةَ، عندما تحترق النجوم السرمدية، سأجرَ نفسي إلى النهر."

أبدًا لن يعود.

حتى تلك اللحظة، كنت أتبعه بقدمين طائرتين، بقدمين متعثّرتين، زاحفةً على يديّ وركبتيّ، وذراعاي ممدودتان، وها أنا ذي قد وقعتُ في الرمال.

الرمال ألهبت وجنتي؛ بل ألهبت جسدي كلَّه، والشمسُ تسحقني بعسفها الحارق. ثمّةَ ظلٌّ تحت عِذْقِ النخيل ذاك.

سأبقى هنا في الرمال حتى تأتيَ الساعةُ ويحلّ الليل.

 ضحكتُ من العرّافين وسخرتُ من النجوم حين قالت إنّني بعد نشوةِ الحياة سوف أفتح ذراعيّ وأستدعي الموت، وسوف تغمرني المياه.

أه! لقد ألهبتِ الرمالُ وجنتي! وما من دموعٍ لديّ لتُطفئ النار. النهر باردٌ والليل ليس ببعيد.

أشحت بوجهي عن الآلهة وقلت: "لا يوجد إلّا إلهٌ واحد؛ باردجا هو إلهي". كان ذلك حين تزيّنتُ بالزنابق ونسجتُ إكليلاً من الزهور، واحتضنته بقوةٍ في القيود الرقيقة الحلوة.

أبدًا لن يعود. استدار من على ظهر بعيره وهو يمضى مبتعدًا. استدار ونظر إليّ وأنا أجلس هنا، وضحك، وبانت أسنانه البيضاء اللامعة.

في كل مرةٍ كان يُقَبّلني ويمضي، كان دائمًا يعود. كلما اشتعل غضبًا، ورحل عني مردّدًا كلماتٍ جارحة، كان دائمًا يعود. لكنه اليوم لم يُقَبْلني ولم يكن غاضبًا. كلُّ ما قاله:

"آه! لقد مللت من القيود والقبلات ومنكِ. سأرحل ولن تَرَيْني مرةً أخرى. سأمضي إلى المدينة العظيمة حيث يتجمع الرجال كالنحل. سأمضي إلى ما وراءَ ذلك، حيث ترتفع الأحجار العملاقة نحو السماء نُصبًا تذكاريًا للعصور التي لم تولد بعد. آه! لقد مللت. لن تَرَيْني بعد الآن."

وانطلق على ظهر بعيره. ابتسم وبانت أسنانه البيضاء القاسية وهو يستدير لينظرَ إليّ وأنا أقبع ها هنا.

آه من الساعات وهي تزحف على مَهَل! يبدو لي أنني مكثت هنا أيامًا في الرمال، أتغذى على القنوط. القنوط مريرٌ، ويشدُّ العزيمة. أسمعُ أجنحة طائرٍ ترفرف فوق رأسي، تحلّق في دوائرَ على ارتفاعٍ خفيض.

غربتِ الشمس.

تسلّلَتِ الرمال بين شفتيَّ وأسناني وتحت لساني الجاف.

إن رفعتُ رأسي، فقد أرى نجمة المساء.

آه من ألم ذراعيّ وساقيّ! جسدي موجوعٌ ومُصابٌ بكدماتٍ كأنه مُحطّم. لِمَ لا أقوى على النهوض والجري كما فعلتُ في الصباح؟ لِمَ أجُرُّ نفسي هكذا مثل أفعى جريحة، أتلوّى وأتثنّى؟

النهر قريب من هنا. أسمعه – أراه – يا للرمال! يا للبريق! كم هو بارد! شديد البرودة!

الماء! الماء! في عينيّ، في أذنيّ، في حلقي! يخنقني! النجدة! ألن تهبَّ الآلهة لنجدتي؟

آه ما أعذب نشوةَ الراحة! ثمّة موسيقى في المعبد. وفاكهةٌ هنا لمن يريد أن يتذوقها. جاء باردجا بالموسيقى – القمر يُشرق والنسيم عليل – إكليلٌ من الزهور – هيا بنا ندخل حديقةَ الملك ونشاهد الزنبقةِ الزرقاءِ يا باردجا.

بدت أوراق القيقب كما لو أن بريقًا فضيًا قد لفَّها. لم يعد الدخان الرمادي المُخضرّ يملأ الغرفة. بالكاد استطعتُ أن أفتح جفنيّ. بدا أن ثِقل القرون يخنق روحي التي كانت تجاهد أن تفلِت، أن تُحرر نفسها وتتنفس.

لقد عرفتُ مذاق اليأس الإنساني من أعماقه.  

الساعة الصغيرة فوق المنضدة تشير إلى الخامسة والربع. السجائر ما تزال في العلبة الصفراء. لم يتبقَ سوى عقب السيجارة التي دخنتُها. ألقيتُهُ في منفضة السجائر.

وفيما أنا أنظر إلى السجائر في أغلفتها الشاحبة، تساءلتُ إن كانت ثمّة رؤىً أخرى قد تحملها إلي؛ ما الذي قد لا أجده في أدخنتها الغامضة؟ ربما رؤيةُ سلامٍ عُلويّ؛ حلمُ آمالٍ قد تحققت؛ مذاقُ نشوةٍ لم تلجْ عقلي لأدرك ماهيتها.

أخذتُ السجائر وسحقتُها بين يديّ. خطوت نحو النافذة وفتحتُ راحَتيّ. التقط النسيمُ العليلُ الخيوطََ الذهبية وحملها وهي تتلوى وتتراقص بعيدًا بين أوراق القيقب.

رفع صديقي المهندس المعماري الستارةَ ودخل حاملًا لي فنجانًا آخر من القهوة.

هتف مشفقًا: "كَمْ أنتِ شاحبة!هل تشعرين أنّكِ لست على ما يرام؟"

"أجبت: "ساء حالي بعض الشيء بسبب حلم".

***

.......................

(كيت شوبان -1850 – 1904) كاتبة نسوية أميركية تنتمي إلى أصول إيرلندية من جهة والدها وفرنسية من جهة والدتها. ولدت في سانت لويس بولاية ميسوري وعاشت لفترة غير قصيرة في مدينة نيو أورليانز بولاية لويزيانا، التي شكلت خلفية لمعظم أعمالها. كتبت الرواية والقصة القصيرة. فقد صدرت لها روايتان، أولاهما بعنوان مذنبة (1890) والثانية بعنوان اليقظة (1899)، وهي العمل الأهم الذي عُرِفت به. وبالإضافة الى ذلك كتبت ما يزيد على 100 قصة قصيرة، منها "العاصفة" (1869)، "طفل ديزيريه" (1893). "قصة ساعة" (1894)، "فيدورا" (1897)، الجوارب الحريرية" (1897) و "سيجارة مصرية" (1900).

عُنِيتْ شوبان بالثقافة الفرنسية وكذلك بالنسوية، وذلك بتشجيع من جدتها الكبرى. فكانت مصدر إلهام في كتابة أعمالها الأدبية في فترة لاحقة من حياتها. فقد تَرجمت بعض أعمال غي دي موباسان، وانعكس تأثيره في تناولها لموضوعات كالجنس والاكتئاب والتقاليد الاجتماعية. كذلك تأثرت بالروائي فلوبير، وقد قارن النقاد بين روايتها اليقظة وروايته الشهيرة مدام بوفاري. أما الروائي إميل زولا فكان صداه واضحًا في طرحها للمسائل الاجتماعية والنفسية.

لم تسلم شوبان من النُقّاد، وذلك بسبب تناولها للقضايا المثيرة للجدل، كالزواج والنسوية والانتحار، خصوصًا في روايتها اليقظة. إذ أن إحدى شخصياتها النسائية لديها حبيبان، مثل السيدة بوفاري بطلة فلوبير. وهذا ما اعتبره النقاد سلوكًا منافيًا للأخلاق. لكنْ بعد وفاتها، رأى الباحثون في رواية اليقظة عملاً إبداعياً لافتًا. كما أشاروا إلى أن أعمالها تركت أثرًا عميقًا في النقد الأدبي النسوي وفي صورة المرأة في الأدب بصورة عامة.

 

The Suitcase

Faisal Saleem Tellawi *

Translated by Nizar Sartawi

***

When I recall her, visions awaken within my mind

so bitter, so grim, like the visage of destiny

They scare me, strike my skull with pickaxes of peril 

so frightful, they pour visions in my memory

of all those who went away 

and no news was ever heard from them

I see them jostling, blocking the passageway

*

The suitcase

when I pack her up

lapses into silence

and sinks in the corner

her eyes blazing with fiery sparks

Each time I sneak a glance at her

she stares, fixing her eyes on me

and in my horror,

a whirl of dizziness sweeps through me,

a tide of paleness engulfs me,

my vision is blurred, despite the dominance of the moon

their glow is quenched

yielding its place for lesser sparks 

*

Whenever I ventured further along travel paths,

swallowed by darkness, besieged by peril, 

doves mourned 

scared by the stripping of trees

with their nakedness exposing disgrace

revealing what lurked behind the mask

Then all of a sudden, as if it were a rainstorm

poetry pours upon me

like the moment of destiny

on the wing of a cloud

I feel it fluttering, teeming down,

gushing out of my ribs

dropping like my tears

squeezed by my fingers

one rhyme after another dribbling like drops of rain

*

Whenever travel hurls me adrift 

I feel that every journey would be my last, 

that Sinbad has been betrayed

by both the paddles and the sail,

and has been spat out by a wave

that flung his broken body upon far-off shores,

he’d turn around waving a farewell:

O Hagar, has your dwelling soothed you

after I was gone? Have people leaned toward you?

and has your world been filled with fruit?

*

Tomorrow if, against my will,

my absence stretches on and on

if I disappear in the mist’s embrace

and no word of me comes your way 

and you remember me,

yet cannot find any sign of me

but see a cloud crying in grief,

Say: He’s been spellbound by travel  

....................

حقيبة السفر

شعر: فيصل سليم التلاوي

***

في خاطري من ذِكرها صُوَرْ

مَريرةٌ، عابسةٌ، كسحنةِ القَدَر

تُفزعني، تنقرُ في جمجمتي مَعاولُ الخَطر

تنثال في ذاكرتي – من روعها – رُؤىً

لكل من قد سافروا

وما أتى من صَوبهم خَبر

أراهمُ تدافعوا، وزحموا المَمَرْ

*

حقيبة السفر

دوماً إذا حَزمتُها

وغَرقت في صَمتها

وقبَعَت في ركنها

كأنما عيونها تَقدحُ بالشرر

وكلما اختلستُ لمحةً تجاهها

ألفيتها تَرمُقني، تمعنُ في النظر

داهمني من فزعي دُوار

ولفَني اصفرار

وعشيت عينايَ، رغم سَطوةِ القمر

وانطفأ البريق فيهما

مُخليّا مكانه لأوهنِ الشرر

*

وكلما أوغلتُ في مسارب السفر

وغيّبتني ظلمةٌ، وحاطني خطر

وانتَحَبت حمائمٌ

أفزعها ما كان من تَجرُدِ الشجرْ

وعُريهِ، يفضحُ كلَّ سَوأةٍ

يكشف كلَّ ما القناعُ قد سَتر

ساعتها كأنهُ المطر

يهمي عليّ الشعرُ دون موعدٍ

كلحظة القدر

على جناح غيمةٍ

أحسُهُ قد رفّ وانهمر

منبثقاً من أضلعي

منحدرًا كأدمعي

تعصرهُ أصابعي

قافيةً قافيةً ترشحُ مثل قطرة المطر

*

دوماً إذا طَوّح بي سفر

أحسُ كلَّ سفرةٍ بأنها نهايةُ المطافْ

وأن سندباد قد أسلمه الشراع والمجداف

ولفظتهُ موجةٌ

ونثرت حطامهُ على شوارد الضفاف

فأنثني ملوحًا مودعاً

هاجرُ، هل طاب لك المقرّْ

بَعدي، وهل هَوى إليك زُمًرٌ من البشر؟

وغَدقَت دُنياكِ بالثمر

*

غدًا إذا أطلتُ – رغمَ أنفيَ – الغياب

ولفني ضباب

وما أتاك طارقٌ مني ولا خبر

قولي إذا ذكرتني وما وجدتِ لي أثر

وانتحبت سحابةٌ تَسِحُّ بالمطر

قولي : لقد غيّبهُ السفر .

***

شاعر وقاص وروائي أردني

 

ثلاث قصائد

للشاعرة الأسترالية كيرلي سوندرز*

ترجمة: نزار سرطاوي

***

جمالٌ زائل

زهرةٌ واحدة

على شجرةِ كرز،

لا بد أنها تُحسُّ بالوحدة

*

إذ تسهرُ

طوالَ الليلِ

*

وتتساءلَ إن كانت

لديك

ثمّة واحدةٌ أخرى

*

تواجهُ البردَ والريحَ،

في انتظار لمسةِ حنان،

*

وقد اكتسى خداها بالحمرة

كما الخوخ.

*

تندبُ حظّ البتلاتِ

الرقيقة المألوفة،

التي لم تَلتقِ بها قطُّ

وما زالت

تفتقدها

*

عجيبٌ أن تعرفَ

أن يومَكِ

سيأتي عما قريب

*

ورغم ذلك

تُزهر.

***

– زهرةٌ برية

قطفتُ لك هذه

كي أُذكِّرَكِ

أنّ لكفاحكِ

مكانًا.

*

هذه،

التي هي أغلى الزهورِ

*

لا تطلُعُ إلا من الغبارِ

والتراب.

***

– العاقبة

حين يحترق عالمي

من حولي

*

آخذ الرماد البارد

وأسحقه

*

بين أصابعي وإبهامي

*

وأدحرجه في راحةِ يدي المقلوبة –

يدي التي ترتعش

وهي تتحرك جيئةً وذهابًا

*

باحثةً عن معتقدات جوفاء

هبطت أفكارًا

وتجسدت فِعالًا

قادتني إلى هذا الجحيم

*

أفرغ نفسي، فأرى بُقَعًا من الغبارِ الأسود

تلتصق بجلدي

لتكون بمثابةِ تذكير لي

بالتدمير الخلاق

*

أنحني

فوق الأنقاض الرمادية

على الأرضَ

*

وأعلم أن

الشمس

والماء

والزمن

*

جميعًا تحمل الوعد بالتغيير

*

أسأل البراعم الجديدة

أن تتفتح.

.................

Three Poems by Kirli Saunders

Fleeting beauty

***

Single blossom

upon cherry tree,

how lonely it must be

*

to lie awake

through the night

*

wondering

if there is another

for you.

*

Bracing cold and wind,

awaiting tender touch,

*

and the blush

of cheeks like plums.

*

To lament the fragile,

familiar petals,

never met

and ever

missed.

*

To know

that your day

will soon come

*

and to bloom

anyway.

***

Wildflower

I picked these

to remind you

*

that there is a place

for your struggles.

*

These,

the most precious of flowers

*

grow only from dust

and dirt.

***

Aftermath

When my world

burns down around me

*

I take the cold ash

and crush it

*

between my fingers and thumb

*

I roll it in my upturned palm-

a shaking hand whisking

back and forth

*

for the empty beliefs

that landed as thoughts

and manifested action

which led to this inferno

*

I empty, seeing black dust stains

stick to skin

as a reminder

of creative destruction

*

I bend

to the ashen rubble

on the earth

*

and know that only

sun

and water

and time

*

will promise change

*

I call the new shoots

to unfurl.

 ***

.....................................

* كيرلي سوندرز: شاعرة وكاتبة وفنانة ومغنية استرالية متعددة المواهب. وهي تنتمي إلى شعب غواني، وهم من سكان أستراليا الأصليين. وقد حصلت على العديد من الجوائز، ومن بينها ميدالية استراليا (2002). صدر لها العديد من الكتب والدواوين الشعرية.

بقلم: أنطون تشيخوف

ترجمة: نزار سرطاوي

***

شابان لم يمضِ على زواجهما زمنٌ طويل يسيران جيئةً وذهابًا على منصّة محطة ريفية صغيرة. ذراعُه تلتفُّ حول خصرِها، ورأسُها يكاد يستلقي على كتفه. كانا كلاهما في أوج السعادة.

أطلّ القمر متلصّصًا من بين السحب الجارية وتجهّم، إذ كان على ما يبدو يحسدُهما على سعادتهما ويتحسّرُ على عذريته المُمِلّة وغير الضرورية على الإطلاق. الهواء الساكن لا يزال مُثقلًا برائحة البنفسج والكرز البري. وفي مكانٍ بعيدٍ وراءَ سكةِ الحديد، راح طائرُ صُفردٍ ينادي.

"يا للجمال يا ساشا، يا للجمال!" تمتمت الزوجة الشابة. "كل شيءٍ يبدو كما لو كان حلمًا. انظر، كم تبدو تلك الخميلةُ الضئيلة حلوةً وجذابة! وكم هي جميلةٌ أعمدةُ التلغراف المتينة الصامتة تلك! إنها تضفي مسحةً خاصةً من الجمال على المناظرِ الطبيعية، ما يوحي بوجود الإنسانية والحضارة على مقربة من هنا.. ألا ترى مقدار المتعة حين تحمل الريحُ صوتَ القطار وهو يندفع مسرعًا؟"

"نعم.. لكن كم يداك الصغيرتان ساخنتان.. هذا لأنكِ تشعرين بالحماس، يا فاريا... ماذا لديكِ للعشاء الليلة؟"

"دجاجٌ وسلطة... دجاجةٌ تكفي لشخصين.. ثم هناك السلمون والسردين اللّذان أرسلوهما إلينا من المدينة"

خبّأ القمر وجهه خلفَ سحابةٍ كما لو كان قد استنشق قليلًا من السعوط. فالسعادة البشرية ذكّرَته بوحدته، بأريكته المنعزلةِ وراء التلالِ والوديان.

قالت فاريا: "ها قد جاء القطار. يا للروعة"

أطلّت عيونٌ ناريةٌ ثلاثُة من بعيد. خرج مديرُ المحطة إلى المِنصّة. راحت أضواءُ الإشارةِ تومضُ هنا وهناك على خط السِكّة.

قال ساشا متثائبًا: "لِنستقبلِ القطار ثم نعود إلى البيت. كم هو رائعٌ هذا الوقتُ الذي نمضيه معًا يا فاريا! لا يكاد المرءُ يصدّق أنه حقيقي!"

تسللّ الوحشُ الداكن بلا ضجيج إلى جانب المنصة وتوقف تمامًا. لمحا الوجوهَ النائمةَ والقبعاتِ والأكتافَ عند النوافذ بأضوائها الخافتة.

سمعا من إحدى العربات صوتًا: "انظروا انظروا! ها قد جاء ساشا وفاريا لاستقبالنا! ها هما!.. فاريا!.. فاريا.... انظري!"

وثبتْ فتاتان صغيرتان من القطار وتعلقتا بعنقِ فاريا، وتبعتهما سيدةٌ قوية في منتصف العمر، ورجلٌ طويلٌ هزيلٌ ذو شاربٍ رمادي؛ وجاء خلفهم تلميذان محمّلان بالحقائب وبعد التلميذين المربيةُ وبعد المربيةِ الجدّة.

شدّ الرجل ذو الشارب على يد ساشا قائلًا: "ها نحن، ها نحن، يا ولدي العزيز! أتوقع أن تكونا قد سئمتما من انتظارنا! لعلك عاتبٌ على عمك العجوز لعدم الزيارة طوال هذا الوقت! كوليا، كوستيا، نينا، فيفا.. يا أطفال! قَبِّلوا ابن عمِّكم ساشا! نحن جميعًا هنا، قبيلتنا بقضّها وقضيضها، لثلاثة أو أربعة أيام لا أكثر.. أتمنى ألا يكون عددنا كبيرًا بالنسبة لكم؟ أرجو ألا نسبِّبَ لكم أي ضيق!"

أصيب الزوجان الشّابان بالهلعِ لرؤيةِ عمهما وعائلته. وبينما كان عمّه يتحدث ويقبّلُهما، تخيّل ساشا منظرَ كوخهم الصغير: هو وفاريا يتخلّيان عن غرفهم الثلاثة الصغيرةِ والوسائدِ والفراش كلّه لضيوفهما، وهم يلتهمون السَلمون والسردين والدجاج كله في لحظةٍ واحدة، وأبناء العمومة يقطفون الأزهار في حديقتهم الصغيرة، ويسكبون الحبر، ويملأون الكوخ بالضوضاء والفوضى، وعمتهُ تتحدث بلا توقف عن أمراضها وعن أنّ أباها كان البارون فون فينتش..

نظر ساشا إلى زوجته الشابّة نظرةً فيها شيءٌ من الحقد هامسًا: "لقد جاءوا لرؤيتكِ أنتِ!.. عليهم اللعنة!"

أجابت فاريا، وقد شحب وجهها من الغضب: "لا بل لرؤيتكَ أنت، إنهم أقرباؤكَ لا أقربائي!"

ثم التفتت إلى زوّارها وقالت بابتسامة ترحيب: "أهلًا بكم في الكوخ!"

أطلّ القمر مرة أخرى. بدا كأنه يبتسم، كما لو كان سعيدًا لأنه بلا أقارب. أشاح ساشا برأسه ليخفي وجهَه الغاضب اليائس، وجَهَد في إضفاءِ مسحة ترحيب وديّة على صوته وهو يقول:

"هذا لطفٌ منكم! مرحبًا بكم في الكوخ!"

***

.........................

يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. ولد في تاغانروغ في جنوب روسيا على بحر آزوف في 17 يناير 1860، لأسرة فقيرة، وكان ترتيبه الثالث بين ستة أطفال. كان والده صاحب محل بقالة، أما جده فكان من الأقنان. لكنه اشترى حريته في عام 1841.

التحق تشيخوف بالمدرسة الثانوية في تاغانروغ وفي عام 1879 التحق بكلية الطب في جامعة موسكو. وكان عليه أن يكسب المال ليتابع دراسته ويعيل أسرته. وقد استطاع أن يحقق دخلًا متواضعًا بكتابة القصص والطرائف في المجلات والصحف. وفيما بعدُ التقى بالكاتب ديمتري جريجوتوفيتش، الذي تنبّه إلى موهبته في الكتابة، فوقف إلى جانبه وساعده على تحسين جودة قصصه. ومن هنا بدأ نجم تشيخوف يسطع.

بعد تخرجه في عام 1984، وممارسته لمهنة الطب، بدأت أولى أعراض الإصابة بمرض السل تظهر عليه. لكنه تابع الكتابة، وفي عام 1886 تولت إحدى دور النشر طباعةَ كتابٍ له بعنوان قصص موتلي. وقد حقق الكتاب شهرة واسعة، ومنذ ذلك الحين ازداد تركيزه على الكتابة على حساب ممارسته مهنةَ الطب.

في عام 1988 ذهب تشيخوف إلى أوكرانيا، حيث مات شقيقه نيكولاي، وقد استوحى من تلك الزيارة روايته القصيرة "قصة كئيبة" (1989)، التي يتحدث فيها رجل عجوز عن حياته وهو في سكرات الموت، حيث يعتبرها عديمة القيمة. ثم سافر تشيخوف إلى يالطا في جزيرة القرم. وهناك التقى الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي.

في عام 1890 قام تشيخوف برحلة إلى سجن جزيرة سخالين الواقعة في الشرق الأقصى إلى الشمال من اليابان. وبعد عودته إلى روسيا، كرّس نفسَه لأعمال الإغاثة خلال مجاعة عام 1892. ولم يلبث أن اشترى عقارًا في ميليخوفو وانتقل إليه ليعيش هناك مع أسرته، حيث استقرت أوضاعه الماليه.

كوّن تشيخوف صداقاتٍ مع الكثير من النساء الجميلات والموهوبات، لكنه لم يتقدم لخطبةِ أيٍّ منهن، إلى أن التقى الممثلةَ أولغا كنيبر، ووقع كلاهما في حب الآخر، واقترن بها في أيار/ مايو، 1901. لكنها بقيت في موسكو تعمل في التمثيل، بينما أقام هو في يالطا للنقاهة. وفي عام 1904 ساءت صحته كثيرًا وسافر إلى مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. وفي 2 تموز/يوليو 1904 توفي في أحد فنادق بادِنْ وايلر. وتمّ نقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.

كتب تشيخوف أكثر من 500 قصة قصيرة ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة و17 عملًا مسرحيًا، حظيت أربعٌ منها على الأقل بشهرة عالمية، وهي: نورس البحر (1895)، العم فانيا (1899)، الشقيقات الثلاث (1900)، بستان الكرز (1903). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدب الرحلات، والثاني كتاب مذكرات.

بقلم: ريغوبرتو غونزاليز

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

القفص

في عالم من الخسارة

الإقرار بالفضل هو ما

اتطلبه للإبقاء

على صيد ثمين

في متناول يدي.

لا أحد يزدري

الراعي

لتجميعه قطيعه.

لا أحد يتهم

الحارس

باحتجاز

من هو في مسؤوليته.

انا مثل قراب المسدس،

او الغمد، كله عمل

ولا عنف. لا تقلق

حين ابتلعك

برمتك.

تلك القروح في احشائي

ما هي الا نوافذ،

الثقب المثقوب

في حنجرتي ما هو الا

ثقب مفتاح. لا تخجل.

ناولني

حشرجة قلبك المتوجع

وسوف اهزك في المهد،

طيرا بجناح مكسور.

دعني احبك.

سوف اربط عظامك الهشة

مع بعضها.

سوف افك منقارك

كي تستطيع الغناء.

انه عالم رحيل دائم

ولكن

بإمكانك المكوث دوما.

***

.................

ريغوبرتو غونزاليز: شاعر أميركي من السكان الأصليين (قبيلة شيكانو المكسيكية) ولد في بيكرسفيلد بولاية كاليفورنيا عام 1970 وتنقل بين المكسيك والولايات المتحدة حيث تلقى تعليمه في عدد من جامعاتها وأصبح أستاذا في جامعة رتغرز بنيويورك. نشر المجموعات الشعرية الآتية: "غالبا ما يذهب الابريق الى الما حتى ينكسر" 1999؛ "لاجئون آخرون وغرباء آخرون" 2006؛ "براعم سود" 2011؛ "جنة غير مأهولة" 2013؛ "كتاب الخراب" 2019؛ و"الفتى الذي كان ليلا" 2023. عن قصيدته هذه يقول الشاعر ما يأتي: "هذه أقرب صورة استطعت ان اصفها عن الواقع المأساوي للأطفال المفصولين عن اسرهم والمودعين في اقفاص. جربت طرقا أخرى حول الموضوع، لكن دائما يظهر زيفها، خصوصا تلك النسخ التي حاولت كتابتها من زاوية نظر الطفل. أدركت ان هؤلاء الأطفال لهم أصواتهم الخاصة بهم. لكننا لا نصغي. لذا كتبت قصيدة الشخصية (persona) تحاول فيها شخصية وغد التعتيم على الصورة المشوهة لحبس الصغار من خلال لغة مغوية تضيء بالبنزين."

لم ترغب تريزا بالرحيل. كان لديها ما يقلقها، فهي تشرد كثيرا. وفضلت أن تستسلم لألمها، وأن تعتاد على جراحها القسرية. ولذلك حينما أيقظتها بياتريس، جارتها المسنة، بعد منتصف الليل بقليل، لأجل الاحتفال بعيد الفصح وتقاسم بيضة مسلوقة حمراء بلون الدم، كانت بنفس الوقت منزعجة ومحتارة. وقالت لنفسها: أي نوع من البشر يطرق باب جيرانه في منتصف الليل لتقاسم بيضة؟.

ولكن أخبرتها بياتريس أن ابنها يريد أن يكون دليلها في رحلة تتعرف بها على تبليسي القديمة، وعلى تاريخ وثقافة المدينة التي ولد وترعرع فيها. وافقت تيريزا دون أن يخامرها الشعور بالراحة. وحذرت جارتها بقولها: "للأسف أنا متوجهة غدا إلى أمريكا. ولذلك علينا أن ننهي الجولة بوقت مبكر".

شدت بياتريس على يد تيريزا قبل أن تفترق عنها في تلك الليلة، وغمزت بمكر، وأصرت أن تأخذ بيضة أخرى قائلة: "لن أكون موجودة معك في ذلك اليوم". وأضافت وهي تتهيأ للمغادرة: "ولكنك ستستمتعين مع إيريكلي*".

قبعت تيريزا، طيلة ذلك الشهر، في شقتها تفكر. وغالبا حول رجل لم تقابله، ولكنها تعرفه أكثر من روحها. فهما يشتركان بحب الأشياء النادرة، ومنها النقش العربي، والكتابة الفارسية. وعلاوة على ذلك يتقاسمان الخبرة بالخطب الغريبة التي تبشر وتنشر الأفكار. استعان التجار السغديون من آسيا الوسطى، في وقت مبكر، بمخطوطات عربية، مدونة بخط اليد المصمم خصيصا لهذه الغاية. وكتب هؤلاء التجار، الذين لا يعرف أحد كيف يقرأ خطهم، بحبر الكوبالت الأزرق، واستعملوا خطوطا مقوسة غير منقطة، كما لو أنهم يقولون إن ماضيهم لا يمكن أن تتغلب عليه فتوحات الإسلام الجديد. وأن المحاولات الرسمية لقراءة هذه الكتابات باعتماد لغات ليست إيرانية، مثل اليعقوبية والغورية، قد أفلست. ومع أن أحدا على قيد الحياة لم يمكنه أن يفك لغز لغتهم، نجحت تيريزا، بالتعاون مع عالم فيلولوجيا، بتفسير أحد أصعب المخطوطات. ولكن بقي العديد من المخطوطات بدون تفسير. وبسبب هذه المخطوطات الغامضة، والتي لا يفهمها غيرهما، وخلال العمل المشترك والبطيء والعاطفي، وقعت بالحب. أو على وجه أدق دفعها لتقع بحبه. غير أنه لم يذكر لها أنه يبادلها الحب. وكان هناك احتمال بحبه لها. ويستحيل أن لا ترى مثل هذا الاحتمال. كيف يمكنهما الافتتان بالمخطوطات بدون حب مشترك؟. كلما أكملت العمل على ورقة معه، كانت تشعر بالنشوة العضوية والسرية. ولم يكن يقاسمهما هذه الخبرة العلمية أي إنسان آخر. ومنذ بداية صحبتهما، وحتى قبل الاسترسال بالكلام، لاحظت أنه مقدر عليها أن تسقط بحب هذا اللغوي، ولذلك لم تكن مستعدة للصدمة حينما فاجأتها. كانت علاقتهما عائمة وقلقة - وقد تطورت خلال شهور من تبادل الإيميلات، أو شهور من العواطف الإلكترونية الحميمة التي تخللها عتاب صامت. وكان موضوع الرسائل أسئلة عن لغة لا يعرفها ولا يفهمها أحد، حتى لو ذاعت معانيها. وخلالها استمتعا بأشعار حافظ وسعدي، ووقد ورد ذكر الاثنين في مخطوطات التجار السغديين. أحيانا كان التجار يضمنون كتاباتهم مقتطفات منتقاة من المؤلفات الفارسية الكلاسيكية الأصيلة. وفي بقية الأوقات، يترجمون القصائد إلى لهجاتهم، ليضاعفوا من الألسن الكثيرة المودعة في المخطوطات القديمة. ولم يكن يفهم أحد هذه اللغات مثله. ولهذا السبب أغرمت به. وتقريبا طيلة شهر، وعلى مدار اليوم، تابعت تيريزا تبادل الرسائل مع الفيلولوجي. وانصب اهتمامهما على تكوين أرشيف ليكون قاعدة معلومات. ولتوفير وقت الجيل التالي من الباحثين. وقويت العلاقة بينهما كلما أمكنهما فك قليل من الألغاز. وكانت تيريزا والفيلولوجي يتبادلان المخطوطات إلكترونيا، مع أمور أخرى، وركزت تيريزا على مواد مسحتها في زيارة علمية سابقة إلى بامريس على الطرف الطاجيكي من الحدود (فقد كانت أفغانستان بحالة حرب في عام 2008). وقارنا الاختلافات. وتبادلا الرأي حول القراءة المرجحة، وعن سبب الاختلاف بين النصوص والمخطوطات والخطوط والتصورات. ودشنا عصرا جديدا، وسافرا عبر الأزمنة بقدر ما يمكن للفيلولوجي أن يسافر في الزمن، وللمخطوطات أن تعبر من بين الجبال قبل اكتشاف الإنترنت. وهكذا عاشت تيريزا والفيلولوجي بين النصوص الإسلامية، والتي تحولت إلى موضوع علاقة بينهما، وإلى ركيزة لحبهما. ثم بعد أربع شهور من الصداقة ألقى قنبلة. فقد كتب لها رسالة أقصر من المعتاد ورد فيها: أن زوجته "وضعت طفلها للتو". ومرت الأسابيع دون أن ترد. وكان أسوأ ما في المسألة أنه على ما يبدو لم يكن يعلم ماذا يعني لها. حتى أنها لا تعرف أنه متزوج. فقد خصت نفسها به، وبالرسائل الإلكترونية، ولم يتبادر لذهنها أن تفكر بعلاقاته مع غيرها من النساء.

وبدأت رسالته التالية بقوله: "ألن تباركي لي بالمولود؟".

لم يمكنها تهنئته. طفل؟ لم تكن تعلم أن لديه زوجة. أم أنها لم تكن تريد أن تعلم؟ في الحقيقة هي لم تسأله أبدا. القنبلة التي فجرها الفيلولوجي أثبتت لها واحدة من قناعاتها الثابتة: بالتأكيد يفصل الرجال اللامعون عواطفهم الذهنية عن جوعهم الجسماني. النساء ترغبن برجال أذكياء وحذرين عاطفيا. لكن يختار الرجال تفكيرا آخر. وبنظرهم لا يوجد فرق بين النساء. وهن مشغولات بالمهنة مقابل العائلة. أو العاطفة مقابل العقل. مادونا مقابل العاهرة. والرجال يهتمون باستمناء أناهم، وليس بالمساواة العقلية. وكلما كانوا أذكى كلما تدنى مستواهم. لم ترد تيريزا على تلك الرسالة. بالتأكيد لم يكن بحاجة لتهنئتها. ولكنها ردت بمقال علمي عن تدني مستوى المرأة في البلاط الساماني. نعم، توجد استثناءات رمزية، الملكات، وخلفيات شهرزاد (وبالعادة لا تلقى الاعتبار)، والعاهرات، والمحظيات، والقيان. كانت العاهرات والقيان تؤثرن بالحكام بطرق سرية. ولكن أقوى ما في مقالتها أنه من السهل إثباتها. حتى النساء القادرات يمكنهن استعمال سلطتهن في الخفاء. النساء السامانيات لسن مثقفات مشهورات ولا تقبضن على العالم بين راحاتهن. وكانت أجسادهن مجرد سلم لرجال يبحثن عن حكم العالم. والآن ها هي علاقتها الغرامية غير المفهومة مع الفيلولوجي تنتهي قبل أن تبدأ. وقد وعدت تيريزا نفسها أن تغتنم وقتها في تبليسي. وفكرت أن تبدأ ببرنامج بحث جديد، وأن تنسى مخطوطات التجار السغديين، وأن تضعها في منطقة خلفية مظلمة من دماغها، وفي مكان لن تعود إليه قبل مرور عشرين عاما. ولكن ثبت لها أن النسيان أصعب مما راهنت عليه. وكان الأسهل لها أن تعتاد بالتدريج على الألم، وأن تتعايش معه بشكل دائم. وعوضا عن أن تذهب إلى الأرشيف كما خططت حال وصولها إلى تبليسي، كي تفك واحدا من المخطوطات التي عملت عليها بالتعاون مع الفيلولوجي، الذي ألقى قنبلته، وجدت نفسها في الفراش، ويوما بإثر آخر تخيلت نفسها تقرأ مخطوطات مع الفيلولوجي في السرير، وجسماهما متلاصقان وهما يقلبان الصفحات، ويمران على صفحة مخطوطة أكلتها الديدان، ويحومان فوق شعار نسخ جف حبره، ويحاولان فهم خط التاجر السغيدي، قبل ترجمته ونشره في العالم.

لم ترغب تيريزا بمشاهدة تبليسي القديمة. ووافقت على مرافقة إيراكلي فقط لأنها تعلم أن هذا يفيدها، ويمنحها فرصة للتهرب من الرجل الذي لن تتعرف عليه بلحمه ودمه، ومن علاقتهما الافتراضية والملتهبة بالعواطف، ومن اللغات التي وضعا لها الأساس معا، لغات، لا تزال بعد شهور من صمته، تنشب مخالبها في أعماق روحها. لم يكن لدى إيراكلي سيارة. ولسبب ما، كانت تتوقع أن يقودها إلى قمة ناريكالا، وهو حصن في تبليسي القديمة. ولا بد أنها أساءت فهم اقتراح بياتريس. فقد سارا في زقاق روستافيلي، وتجاوزا المقاهي ومنصات بيع المثلجات، ثم الهلتون، وعبرا الممرات من تحت سقف أحمر لأكبر مسرح في تبليسي، والذي يحمل اسم الشاعر القروسطي، روستافيلي. ولاحظا أنه تم ترميمه مؤخرا، وجدرانه المقلمة بلون خبز الزنجبيل تلمع تحت الشمس. كانت أسواق تبليسي الرئيسية تضج ببائعي الكتب والتجار. وأخيرا وصلا إلى مقر العمدة بجدرانه المطلية بلون أحمر. كان يوما حارا بالنسبة لمنتصف أيار. وندمت تيريزا لأنها لم تحمل معها عبوة ماء. اعتذر إيراكلي بأنه لا يتكلم الإنكليزية. أصرت تيريزا: أنه ليس هناك ما يستحق الاعتذار. فالإنكليزية لغة لا ترغب أن تتكلم بها. وهي اللغة التي وجد حبها للفيلولوجي جذورا عميقة، دون الأخذ بعين الاعتبار الألسن العديدة التي يشتركان بها. لكن كانت الروسية إحدى اللغات القليلة التي لا يتقاسمان معرفتها. ولذلك رأت أنها تصلح لتكون وسيلة لبدء حياة جديدة. اللغة الثانية التي لا يتقاسمانها هي الجورجية. والتنقل بين الروسية والجورجية مع إيراكلي، دليلها المتطوع لتعريفها بتماثيل تبليسي القديمة، أصبح طريقة للعزاء، وألهاها عن الشعور بأنها مهجورة. خرجا من زقاق روستافيلي. رافق إيراكلي تيريزا في المعابر القروسطية والممرات المعتمة طيلة الطريق من ساحة الحرية إلى ناريكالا، التي تجثم على قمة هضبة تشرف على المدينة. وشرح لها كيف كانت تناور، في القرون الماضية، عربات الأغنياء وزحافات الفقراء في المنافذ وخلال المعابر. ثم بدل القياصرة هذه الشوارع أولا، وتبعهم السوفييت، وحولوا الفنادق الضخمة إلى شقق للسكن، ووسعوا الممرات الضيقة، وأضافوا مضخات. ولكن بقي الكثير كما هو منذ عهد القياصرة أو حتى ما قبله. لم تهتم بالكنائس كثيرا، ولكن أدهشتها المياه الكبريتية في أبانوتوباني (في منطقة باث). فهي تعود بتاريخها إلى القرن السابع، وتعزى للملك هرقل، وقد أعيد تنظيمها في القرن السادس عشر على يد تجار تبليسي الفرس والأرمن والأذر، والذين حاولوا تحسين سمعتهم بإثبات حبهم لمدينتهم المختارة. وحاليا هذه الحمامات واحدة من أعظم المعالم الهندسية الفارسية المدهشة في مدينة تبليسي. على الطرف المقابل من الشارع كنيسة ميتيخي القديمة، والتي ضحى بقربها الشهيد إيبو من تبليسي بحياته في القرن الثامن لأنه رفض اعتناق الإسلام. وكان إيبو هو القديس العربي الوحيد في البانثيون الجورجي. على يمين الحمامات الكبريتية، تحوم ما يشبه المآذن فوق الحمام الأزرق. وهي مدهشة أكثر من المساجد التي تزين المخطوطات المصورة الرائعة التي عمل عليها الفيلولوجي وتيريزا معا. الرخام الأزرق والذهبي يغطي جدران الحمام الأزرق الذي يعود تاريخه لعصر ساده السلام بين مختلف الأديان، واللغات، والأعراق: ضمنا المسلمون والمسيحيون والأرمن والجورجيون والأذريون. لكن انتهت تلك الفترة منذ زمن بعيد، حتى لو أن هذه الآثار قادرة على تحريك مشاعر نوستالجية تحن للأزمنة المنصرمة. في تلك الأيام الخالية، حينما كانت تبليسي لا تزال مفترق طرق للحضارات الشرقية، كان المستحمون يهتمون فقط بدعك أجسامهم بالصابون، وأن ينظفوا أنفسهم من الأوشاب المتراكمة على جلودهم، ليتمكنوا من العودة إلى الشارع، وليبيعوا ويتاجروا ببضاعاتهم مع تجار آخرين من تبليسي القديمة. ولكن الآن وبالمقابل لم يتمكن إراكلي، دليلها المتطوع، أن يمنع نفسه من تقديم ملاحظات يتهكم بها على تدفق الأفارقة والإيرانيين الحالي في تبليسي. وكما يبدو يشكل هؤلاء الأجانب خطرا على سلامة وبقاء الشعب الجورجي. لكل بلد عيوبه، قالت تريزا لنفسها، ولكن كيف تنتعش مفارقات العنصرية هنا، من بين جميع الأماكن، في تبليسي القديمة، مع أنها كانت تعتبر لفترة طويلة نموذجا مثاليا للتسامح، على الأقل بنظر إراكلي نفسه.

تبعت تيريزا إيراكلي عن مقربة، وتسلقت السلالم إلى ناريكالا. كان الحصن القديم بشكل أنقاض، والكتابات تملأ الجدران بعدة لغات، مثل ماضي تبليسي تماما. بنى حصن ناريكالا الجورجيون، وسموه على سبيل التفاؤل شوريستسيخي (الحصن الذي لا يقهر)، ولكن سريعا ما استولى عليه الأمويون، ثم المغول، وهم من أطلق عليه اسم نارينكالا (الحصن الصغير)، وفي هذا التصغير رسالة تعبر عن قوة إمبراطوريتهم. وحينما خرج المغول من جورجيا في القرن الثالث عشر، أزيلت النون بين حرفي ناري وكالا. وهكذا أصبح الاسم: ناريكالا، وهي كلمة من بين العديد من الكلمات التي جاءت إلى اللغة الجورجية من الشرق، ولا يعرف معناها الأصلي غير حفنة قليلة من الجورجيين المعاصرين. هلكت تيريزا بعد أن صعدت نصف السلالم. ولكنها تسترت على تعبها باستنشاق الهواء. واشتاقت للعودة إلى البيت. وألح عليها الألم الناجم عن ما اكتشفته عن الفيلولوجي وموقفه الصامت منها. كيف يمكنها أن تنظر إلى مخطوط آخر من بين مخطوطات السغديين؟. كيف يمكنها متابعة عملها، بعد رحيل الفيلولوجي عن حياتها، وبعد أن أصبحت تبعيته لامرأة أخرى وولادة طفله خبرا عاما؟. الآن لا تستطيع أن تسمي عاطفتهما الافتراضية باسم آخر؟. وهي منهمكة بالتفكير في المخطوط الذي حلت لغزه مع الفيلولوجي، وجدت رخامة مغطاة بالذهب تشبه الألواح المغطاة في واجهة الحمام الأزرق. تأملها إراكلي بصمت وهي تنحني لتلتقطه. ونصحها بقوله: "احتفظي بها. قد تجلب لك الحظ".

ابتسمت تيريزا. نقرت على الرخامة بأصابعها، وقلبتها على طرفها. وامتثلت لنصيحة إراكلي، فوضعت اللوح في حقيبتها. تجولا في شارع ليسليج في طريق العودة إلى البيت. في تلك الساعة من بواكير المساء، كان ليسليج يعج بالوافدين وبأبناء جورجيا الذين اعتادوا على الرحلات والسفر، فامتزجت اللغة الإنكليزية المكسورة باللسان الجورجي الثاقب، وتخللت ذلك حروف صامتة لا يستطيع نطقها غير المواطنين. وأمكن سماع همهمة روسية تأتي من عدد من المارة. دعا إراكلي تيريزا للتوقف في مطعم يسمى سوكو (الفطر). كان سوكو تحت الأرض ومعزولا عن الزحام. والجو داخله هادئ وتقريبا مهجور، باستثناء طالب جامعة أجنبي يجلس بمفرده قرب الجدار، منحنيا على كومبيوتر محمول. وشاهدت جورجيتين بأواسط العمر تتبادلان الشكاية من خيانة زوجيهما. ومثل أي مضيف جورجي مثالي أصر إراكلي أن يدفع عن تيريزا ثمن كل صنوف الخاشابوري التي وفرها المطعم: أجارولي (مع بيضة)، أميرولي (مغمورة بالجبنة)، أوسوري (مع البطاطا)، وأشما (بطبقات مثل الكيك)، ويفانوري (لمحبي اللحوم). وطلب أيضا لوبيو (الفاصولياء الحمراء)، بيخالي (أعشاب جورجية)، وبادريجاني (الباذنجان مع حبات الرمان)، وأطباقا متعددة من الخبز المخبوز حديثا في فرن تحت الأرض، وجبنة. اقترح أيضا النبيذ، ولكنها فضلت الليمون مع الطرخون، وهو شراب جورجي خاص. كان إراكلي محبا للكلام. ولكنه لم يكن مهتما إذا ما كان المستمع له يتابع كلامه، وهذا لحسن حظ تيريزا. كان صوته كافيا. بينما ذهب ذهن تيريزا إلى مكان آخر - أو بالأحرى إلى شخص آخر. وحينما انتبهت له، لتترجم أحيانا لغته الروسية والجورجية في رأسها إلى لغة إنكليزية، علمت أشياء كثيرة. عدد إراكلي كل الكتب التي قرأها في طفولته، ومفارقات حياته في الاتحاد السوفياتي، حيث كان كل شيء جامدا لحين بلوغه نهايته، وحيث كان الأدب مراقبا وممنوعا ومكبوتا، وله لغة مفروضة بالإكراه. ثم انتقل الكلام إلى الشعر. وذكر إراكلي أنه معجب بكل إنسان يمكنه كتابة قصيدة. وقال: "من دون شعرائنا لن يكون لجورجيا قيمة".

كما لو أن تيريزا تنتظر الإشارة، أنشدت القصائد الستة من العصر الروسي الفضي والتي تحفظها عن ظهر قلب، ابتداء من ماندلشتام وأخماتوفا، وحتى باسترناك. أومأ إراكلي باهتمام، وشعرت تيريزا أن حبها للكلمة المكتوبة يلقى التقدير. وحينها سألت نفسها: هل انتبه الفيلولوجي إلى حبها للشعر؟. لقد حلا ألغاز مخطوط، وصنعا معا لغة. ولكنه تخلى عنها بسهولة، كأنه يفرقع أصابعه، أو يلطم ذبابة. جعلها رفضه السهل تشعر كما لو أنها حشرة. هل كانت أم طفله تعرف شيئا عن المخطوطات التي عملا عليها، ناهيك عن المخطوطات التي حلا ألغازها؟.

قال إراكلي بعد صمت قصير "جميل". وأضاف: "بالنسبة لي أنا عاشق للنثر". ثم ذكر روايتين من التجاه الواقعي الاشتراكي، قرأهما في طفولته، وهما الدون الهادئ، وكيف سقينا الفولاذ. قرأ النصين في المدرسة. وكانا عن تقريظ التجربة السوفييتية بدون أي انتقاد. ولا سيما المشاعية (سياسة سوفييتية تفرض على الملاك أن يتخلوا عن بيوتهم)، وأن تأوي شقق البلدية عدة عائلات معا، ويتشاركوا فيها على المطبخ والحمامات. ولكنه حينما حمل الروايتين معه إلى بيته، ليقرأهما بضوء الشمعة بينما بقية العالم يغط في النوم، اكتشف المعنى المستتر في كل نص. ورغم نوايا السرد الصادقة والحض على الالتزام بخط الحزب، انتبه كل كاتب واقعي اشتراكي للرعب المزمن من المشاعية وحياة الجماعة. وأصبح من المستحيل أن يتوصل إراكلي من مجمل الروايات السوفييتية للرسائل التي تعلم في المدرسة كيف يؤمن بها. وختم إراكلي كلامه أن المفارقة ليست في إنتاج العديد من هذه النصوص في الاتحاد السوفياتي، ولكن في نظام التعليم السوفياتي الذي استغل العديد من تلك الكتب الرصينة والشجاعة لتكون مادة إيديولوجية تتعالى عليها حتى تلك النصوص ذاتها. كان المطر يطرق على السطح حينما غادر إيراكلي وتيريزا المطعم. مرا بعدة أبنية قبل أن يتوقفا تحت مدخل حجري لكنيسة فرنسية كاثوليكية. وحسب اللوحة المثبتة على يمين المدخل أنشئت الكنيسة عام 1802، في بواكير سنوات الحكم الروسي، قبل أن يتسنى للنظام الكولونيالي إقامة المباني للاحتفال بمذهبهم. والآن بعد مرور قرنين، لا تزال بحالة ممتازة وهذا يعني أن أحدا ما دفع لقاء العناية بها وترميمها. قالت تيريزا لنفسها: نظام جورجيا المعفي من إذن الدخول يجني الثمار. كان إراكلي محبا للكلام. ويمكنه أن يتكلم بلا توقف سواء كان الموضوع في السياسة، أو الاقتصاد، أو المستقبل. ما دام موضوع الحوار الأساسي عن جورجيا. ولم تمانع تيريزا ذلاقته. بالعكس كانت ممتنة لذلك: فقد منحها عذرا لتلزم الصمت. فكرت في سرها: كنت أتمنى لو أنك الفيلولوجي. ولكنه كما تبين لها الآن هو زوج وأب، ولن تواصل معه حل شفرة مخطوطات التاجر السغدي، ولذلك اختصرته في خيالها ليكون رمزا لنفسه، ولغزا بأسلوب حياته مع النصوص، وأن يكون هو نصا بذاته. كان الفيلولوجي نصا، نصا أثارها، وآذاها أكثر من أي إنسان آخر يممنه إلحاق الأذى. ومع أنه ذلق اللسان ومكشوف، كانت تعوزه الروح الإنسانية. لم يكن يرغب بها لا بشكل نص ولا كإنسانة كما كانت ترغب به. ومع أنه طيف لم تقابله، أرادت أن تكون معه أكثر من أي شخص آخر على وجه الأرض. ولم تجد بديلا يعوض غيابه. كررت تيريزا في سرها: كم أريد أن تكون أنت الفيلولوجي الذي أحببته، بينما كان إراكلي يتابع الارتجال عن تاريخ جورجيا.

بينما كانت تيريزا منهمكة بالتفكير في الفيلولوجي، أدركت أن شريكها الجديد يحمل اسم الملك الجورجي قبل الأخير إيراكلي II الذي سلم، في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر، بلده للروس، تحت ضغط هائل. وواجه خيارا مستحيلا، أن يشاهد محبوبته تبليسي تنهب مع بقية جورجيا على يد الحاكم القاجاري أغا محمد خان أو يحكمها الروس، ومال الملك إيراكلي للخيار الأخير. وخلال عقود تالية، كتب عدد لا يحصى من شعراء جورجيا عن هذا القرار القاتل قصائد غاضبة. ومات نيكولوز باراتاشفيلي الشاعر الرومنسي بعد فترة وجيزة من نظم أهم قصيدة مشهورة له عن مصير جورجيا المأساوي. وهي بعنوان مصير جورجيا Bedi kartlisa . بعد أن وضع إراكلي جورجيا تحت الحماية الروسية عام 1795، نهب الغزاة القاجاريون البلد وسوي بالأرض، كما كان يخشى. مع أنه كان يأمل تجنب هذه النتيجة بضم جورجيا لروسيا. فقد وعدت الدولة الكولونيالية بعقود من المعونات إذا غزاها القاجاريون، لكن حينما وقع الغزو، لم يحضر الجيش الروسي. وأدرك إراكلي من هذه التجربة المريرة أنه تخلى عن سيادة بلده بالمجان. وكانت خيانة الروس عظة في تاريخ جورجيا، وهي عظة حية حتى الوقت الراهن، وهكذا سمّمَت العلاقات بين البلدين. خفف المطر سرعتهما. وكان حفيف تنورة تيريزا منقوعا بالماء ولكنها لم تلاحظ ذلك. تابع إيراكلي حكايته عن الماضي. واستدعى بذهنه كل شيء تعلمه في المدرسة الابتدائية، وهما يقفان أمام البوابات الحديدية قبالة الكنيسة. مرت بهما نساء، وكانت تنوراتهن السوداء المصنوعة من الكاليك مبتلة بالماء. والدلاء التي حملنها مغطاة بقماش مبلول. وقطرات الماء تنقط من رؤوسهن على الأرض. رجع إراكلي بذاكرته إلى الوراء، وتجاوز الصفويين والمغول واقترب من العصر الجورجي القروسطي. وقال لها: " كان هذا العصر الذهبي لجورجيا". وتلكأ حينما بلغ عصر المعمار دافيد، والملكة تامارا. وأخيرا وصل إيراكلي إلى الحدود الفاصلة بين التاريخ والأسطورة، وبدأ بأسطورة ميديا. توقفت نبرة سرد التاريخ الموضوعي وأصبحت أقرب لشخصه. وحسب النسخة الجورجية للأسطورة، كانت ميديا من كولخيس الواقعة في غرب جورجيا. قال: "العديد من البنات الجورجيات حملن اسم المرأة الغامضة التي قتلت أبناءها".

سألت تيريزا: "وهل يعتقد الناس أن قتلها لأبنائها عمل مشرف؟".

"هي حية في ذاكرتهم لأنها رفضت أن يعيش أبناؤها في ظل عار فعلة أبيهم الذي خان أمهم وتزوج من غيرها".

حافظت تيريزا على صمتها. لم توافق على الحسابات الأخلاقية التي بلورت قرار ميديا، ولم توافق أن تقتل أم أبناءها كي لا تقبل مهانة الخيانة الزوجية. وتساءلت: ألا يكون العالم أفضل إذا نام كل إنسان مع من يريد؟. ما الهدف من كل هذا الخزي؟. وعلى ما يبدو أن إراكلي شعر بتلبكها من إجابته. فأضاف: "حين تفكرين بالموضوع، وتنظرين له على أساس إنساني لن تري أنها امرأة عظيمة".

وافقت تيريزا بقولها: "كلا. الموضوع ليس في أنها طيبة أو شريرة. فمعاناتها مشتركة بين كل النساء".

احتار إراكلي. بأقل من دقيقة انتقلت تيريزا من الحنق على سلوك ميديا إلى التماهي معها. ولم يعد يعلم ما هي الإجابة الصحيحة. كان يريد فقط أن يعطيها جوابا يسعدها. سألها وهو خائف من استفزازها بسؤال لا يعرف ماذا يقول غيره: "أنت إذا تؤيدين ميديا؟".

ابتسمت تيريزا قائلة: "أنا أتعاطف مع كل النساء اللواتي تعانين من الغيرة".

ارتبك إراكلي وضغط على ذهنه ليجد جوابا يسرها. بعد صمت طويل، استسلم، وقرر ببساطة أن يعبر عن رأيه. قال: "أعتقد أن على ميديا أن تضحي طوعا بحبها مقابل سعادة أبنائها".

تحمست تيريزا للنقاش. وأرادت أن تعارضه فقط للدخول في حوار. أي شيء ينسيها فجيعتها بالفيلولوجي. قالت: "من السهل أن تعتقد أن المرأة جاهزة لأي شيء كي تنتقم".

تابع إراكلي التحديق. تساءل: ماذا يدفعها للكلام بهذه الطريقة؟. تبع ذلك صمت طويل. وخلاله كان المطر يطرق بقوة على المظلات المعدنية فوق رأسيهما. وسال الماء على الرصيف. ورش ولد صغير الماء من بركة ماء مطر حتى نادت أمه باسمه، وجرته من يده.

ثم قالت تيريزا لتنهي الصمت: "إراكلي. هل وقعت بالحب؟".

أغمض إراكلي عينيه وابتسم ابتسامة باهتة. وقال: "نعم. مرة قبل وقت طويل وقعت بحب فتاة. ذلك عام 1991، قبل تفكك الاتحاد السوفياتي مباشرة. هبطنا إلى القاع، وفقدنا نقودنا كلها. لم يعد للنقود الرسمية قيمة. وفقد معظم أصدقائي أعمالهم. وآخرون لم يحصلوا على رواتبهم. فالشركات التي يعملون فيها أفلست. والعديد من المعارف ماتوا من الجوع، وآخرون أصيبوا بأمراض القلب. وشعروا أنهم بدون مستقبل، ولم يبق شيء ليعيشوا في سبيله. وخلال تلك السنوات الصعبة، حصلت الفتاة التي أحببتها على الفرصة للسفر إلى أمريكا. دعاها أبناء عمها من نيويورك لتعيش معهم. فغادرت ولم ترجع. ولم أشاهدها ثانية".

سألت تيريزا: "هل كانت تحبك؟".

"لماذا تسألين؟".

كانت تيريزا لا تزال تفكر بالفيلولوجي. وقارنت خيبة أمل إراكلي بالحب مع كارثتها الشخصية الراهنة. بالتأكيد لم يحببها الفيلولوجي. هل اهتم بها أصلا؟. هل هجرها مثل محبوبة إراكلي، وتحت ظروف مماثلة؟.

 قالت تيريزا: "لا أعلم. فقط سألت نفسي؟".

تابع إراكلي دون أن يجيب على سؤالها: "اتخذت قراري بعد سفرها إلى أمريكا. وقطعت وعدا على نفسي أن أهب

 حياتي لأمي ومساعدتها. كانت بحاجة ماسة لي أكثر من أي امرأة سواها. ومنذ أن سافرت قاتلت أنا وأمي لتجاوز محنة سقوط الاتحاد السوفياتي. في السنوات الأخيرة القليلة تمكنا من تأسيس حياة مريحة مثل الحياة في الفترة السوفييتية. في تلك السنوات احتاجت الوالدة للعمل، ولكنها كانت أولا بحاجة لرعايتي لها. في إحدى المرات وقعت وكسرت ساقها. وأودعت المستشفى لمدة أسبوع، وكنت الشخص الوحيد الذي يزورها. والآن لا تحتاج لي كثيرا. ولكن العادة لا تزول بسهولة. فقد تخليت عن أشكال السعادة الأخرى التي حلمت بها قبل سقوط الاتحاد السوفياتي".

نظرت تيريزا إلى إراكلي. شعرت أنها تراه لأول مرة. كانت لدغة هجران الفيلولوجي لها لا تزال مغروسة في ذاكرتها وتحتل بقية جسمها، ولذلك تخيلت أن لسانها ينطق بكلام إراكلي. قالت بهدوء: "كلانا يئسنا من شريكنا. هل تعلم لماذا ينخفض معدل الولادة جدا بين المثقفين؟. لأنه كلما زادت علوم الإنسان، قل إيمانه بالمستقبل. وأن تنجب الأولاد يعني أن تؤمن حكما بالمستقبل".

بادلها إراكلي النظر، بدون أن يقرر كيف يرد. توقف المطر، ولكنهما تمهلا أمام البوابة، مستغرقين بتأملاتهما. وكان إراكلي البادئ بقطع الصمت. في النهاية قال: "لا تسيئي بي الظن بسبب تشابه الاسم. لم يكن على الملك إراكلي أن يسلم بلده لروسيا. لم يكن من حقه أن يضحي بحياة الآخرين ليحمي نفسه. كان واجبه يحتم عليه أن يموت من أجل وطنه".

قالت تيريزا: "ربما لم يكن يعي ماذا يفعل. وفي هذه الحالة هو مثل كثيرين".

فكر إراكلي. ثم قال: "ربما أنت على حق. ولكنه تسبب بضرر جسيم".

"ليس من العدل أن نحكم على قرارات الناس ما داموا لا يعرفون النتيجة".

لم يرد إراكلي. ثم قال: "من الأفضل أن نعود إلى البيت". ومد يده إلى يدها. كان ذهن تيريزا مشغولا بالفيلولوجي، فوضعت يده في يده بتعاطف فاجأها، كأنه انفجار بركان يعتقد الجميع أنه ساكن.

وقالت وهما في الطريق إلى البيت: "بعد أن ضحيت بكل شيء يا إراكلي. هل أنت نادم؟".

لم يجب. والآن أصبحت تيريزا هي المتكلمة، ولزم إراكلي جانب الصمت.

سارا في الشوارع مسكونين بإرث السوفييت. لافشيليز كوخا. بيسيكيس كوخا. غريبودوفيس كوخا. ييسينينيس كوخا. كل شارع منها يحمل اسما لتكريم أحد الشعراء الذين أنفقوا مرحلة هامة من حياتهم في هذه المدينة، ووضعوا أهم أعمالهم: لاشفيلي، بيسيكي، غيبودوف، ويزنين. العديد من الشعراء مروا في هذه الشوارع قبل اعتقالهم بوقت قصير ونقلوا إلى الغولاغ، أو ما هو أسوأ، وعذبوا وقتلوا. العديد من الشعراء خاطروا بحياتهم، وعائلاتهم، وسعادتهم في سبيل الفن، وليكتبوا القصائد التي يقتنعون بها، ولينطقوا بالحقيقة. كان مصيرهم مقدرا. مرا بلوحة تحمل اسم باولو لاشفيلي، الذي انتحر عام 1937 وهو يتوقع الاعتقال والإعدام، ثم لوحة صديقه المقرب تيسيان تابيدزي، الذي أعدم في نفس العام، بعد إدانته بالتجسس لصالح الولايات المتحدة الأمريكية. وقبل قتله بقليل، أجاب تيسيان بحنكة على طلب المحققين بالكشف عن أسماء شركائه، فقال إنه تعاون مع بيسيكي. ولم يخبر المحققين أن بيسيكي شاعر جورجي من القرن السابع عشر، وآخر صوت فارسي عظيم من عالم يتخلى عن مكانه لعالم آخر بوجه وبيئة ثقافية غربية. نقب المحققون في تبليسي عن الجاسوس الذي سماه الشاعر المتهم، ولكن لم يتمكن أحد من إخبارهم أين يعيش بيسيكي هذا. مات كلا الشاعرين لاشفيلي وتابيدزيه في السنوات التي كتبا فيها أفضل ما لديهم.

سألت تيريزا: "إذا أخطأت ميديا حين ضحت بأبنائها، وأخطأ إراكلي بالتخلي عن بلده، متى يكون الوقت مناسبا للاهتمام بنفسك؟".

أجاب إراكلي: "الوقت المناسب للاهتمام بنفسك حين لا تضر أحدا، وحينما يمكن إلغاء عواقب ما فعلت في اليوم اللاحق". تساءلت تيريزا في سرها، إن كان من الممكن أن تلتحم جسديا بالفيلولوجي مع الالتزام بمعايير إراكلي. وصلا إلى الباحة المشتركة في الشقة التي أقامت فيها تيربزا طيلة الشهر الماضي. كانت أمام بناء في شارع غريبيدوف قرب كونسرفتوار موسيقا تبليسي، وغير بعيد عن الشقة التي عاش فيها تيسيان قبل اعتقاله. وتحول الكونسرفتوار، من مكان إقامة واسع بنته الإدارة الكولونيالية بعد ضم جورجيا لروسيا عام 1801، إلى شقق شعبية تؤوي عشرين عائلة. ويبدو أن لبنائها نفس التاريخ. وبعد مرور عقد ونصف العقد على انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية خطة الإسكان التي وضعها السوفييت، انخفض عدد العائلات المقيمة هناك إلى عشر عائلات. أما بقية سكان البناء فقد ماتوا أو هاجروا إلى أمريكا. دعا إراكلي تيريزا إلى مسكنه في الشقة الشعبية، وكانت على الجانب المقابل لشقتها. كانت بياتريس مسافرة إلى الريف مع ابنة خالتها، ولذلك كانت الشقة جاهزة لهذه الأمسية النادرة، وفارغة من أي إنسان آخر. جلسا معا وهما يشربان الشاي ويتجاذبان أطراف الكلام لعدة دقائق. لم يستغرق الأمر طويلا قبل أن تنتهي المحادثة إلى تقارب من نوع آخر. تسللت يده إلى ركبتها وذكرتها بالطريقة التي قبض بها على ذراعها وهما يشقان طريقهما عبر شوارع تبليسي المنقوعة بالمطر. وخلال تهاود الصوت في المحادثة انحنى قليلا وطبع قبلة على وجنتها. فلم تنفر. وسألته: "هل هذا مسموح؟ ألن تغضب والدتك إذا علمت بالأمر؟".

ابتسم إراكلي قائلا: "سيسعدها ذلك. كانت تقول لي دائما إن كل رجل يحتاج إلى امرأة".

ثم تذكرت تيريزا غمزة بياتريس في ليلة عيد الفصح وهي تلقي باتجاه يدها البيضة الثانية. تساءلت: هل كانت تحاول ترتيب الأمور، ليكون إراكلي بجانبها كما هو الحال الآن، يده في يدي، وشفتاه على صدري؟. حينما التحم جسداهما، كان شعور تيريزا متوقعا كما بدا لها، ولكن على نحو لم تكن تنتظره. من يعتقد أن ممارسة الحب سهل جدا، ويخلو من القلق والتوقعات، ومستقل تماما عن الاحتمال الثاني، ويستغرق بالوقت الحاضر؟. باعتبار أنها لم تقابل الفيلولوجي، كانت بدون أي فكرة دقيقة عن شكله ومظهره. ولذلك كان من السهل أن تتخيل جسمه وكأنه جسم إراكلي النحيل، وهما يستلقيان في السرير معا، ويتنفسان بعمق بعد إنهاك وتوهج الجنس. وتأكدت أن إراكلي رجل طيب، ثرثار قليلا ولكنه ذكي جدا. وقارئ أدب ذكي وحساس. ومع أنه يتكلم كثيرا يحسن الإصغاء. ولكن ليست لديه عبقرية الفيلولوجي في قراءة المخطوطات القديمة، غير أنه يعرف كل الكلاسيكيات السوفييتية: تيسيان ولاشفيلي وحتى الكتاب الروس مثل مندلشتام. وإذا كان لا يلقي الشعر، مع ذلك يصغي له ويفهمه، وهو شيء مهم. ونجح بمقاومة ضغط النفاق الذي يلازم التقدم بالعمر في ظل الأنظمة القمعية. وعلى ما يبدو أنه حافظ على استقامته طيلة الوقت ولم يفقد ميوله وتذوقه للحقيقة. ووقف بوجه الدوغمائية السوفييتية ولم يتورط بكليشيهات التحول الثوري الذي انتشر بعد نهاية الاتحاد السوفياتي. والأهم على الإطلاق أنه يعرف كيف يحب المرأة. وإخلاصه لأمه علامة تؤكد ذلك. كان إراكلي، على خلاف الملك الذي حمل اسمه، لا يخون عائلته ليحمي نفسه. وأنهى علاقاته مع النساء كي لا تكون على حساب مساعدة أمه. وبسبب هذا الكرم المذكور آنفا كانت تيريزا مستعدة للوقوع في حبه لو أنها بظرف مختلف. ولكن الظروف تحكم. ولم يكن مسموحا لها التفكير بما سيأتي بعد اللحظة الراهنة. قبلت تيريزا كل زاوية من جسمه، وكل شق، وطرف، وثقب. كان الشعر يغطي ساقيه كشبكة العنكبوت، ويعكس الأعمدة القرمزية لعروقه الموجودة تحت جلده. أسرت الخطوط خيالها. فلعقتها بلسانها، حتى بلغت أصابع قدميه، فقبلتها برقة. وتساءلت: هل للفيلولوجي شعر أسود، ناعم تحت لمساتها، مثله؟. وعندما لمس إراكلي شفتيها لأول مرة، تخيلت تيريزا أنها تقبل جسم الفيلولوجي، وأن الفيلولوجي يقبلها بالمثل. وكلما زادت حرارة التقبيل، وزادت قوة لمسات يدي إراكلي لها، اختفى الفيلولوجي من وعيها. أصبحت متحدة بجسمها، حتى، فجأة بعد دقائق من ممارسة الحب، أصبح جسمها متحدا بجسم إراكلي. ولخمس دقائق وجيزة، أصبحت تيريزا جزءا متمما لإراكلي ومنفردة به وحدها. اختفى الفيلولوجي. أصبح في كوكب آخر. بسلام. وكان بعيدا مع زوجته ومولوده الجديد. ثم سقطا بالنوم، الأيدي متشابكة، وكل منهما على طرف من السرير.

استيقظت تيريزا باكرا في الصباح التالي. كان موعد رحلة العودة إلى أمريكا قد أزف في ذلك اليوم. ستعود إلى حقول الذرة في آيوا، وتبتعد عن السوفييت وغصات الاتحاد السوفييتي الذي حكم تبليسي. لديها وقت لتحزم أمتعتها. كان إراكلي مستغرقا بالنوم، ولم تود أن توقظه، ولا أن يفكر بنتائج ما قدمه جسد الواحد للآخر. فقد ساعدها على أن تنسى، مؤقتا، الفيلولوجي ومخطوطات التاجر السغيدي. قبلت أصابع قدميه للتعبير عن الامتنان، بنعومة كي لا تقاطع نومه.

كانت تيريزا جاهزة للعودة إلى المخطوطات التي لم تفك ألغازها، حتى لو هذا يعني العودة منفردة. وستنشر نتائج مراسلاتها النهائية، وتشكر الفيلولوجي حيثما يتوجب ذلك، على أن تحترم خروجه السلمي من حياتها. وهذه المنشورات ستضع حجر الأساس لسمعتها ومستقبلها في الفيلولوجيا السغيدية. وبعد ذلك سيكون لها مهنة، مع أنها ليست متأكدة أنها مهتمة بمهنة. وستمتن للفيلولوجي لأنه ساعدها على انطلاقتها العملية، وستتذكر من قلبها الكلمات التي تبادلاها، حتى لو أنها، من حين لآخر، تتمنى لو انتهت الأمور بشكل مختلف، وأنه كان لتقاربهما الافتراضي جانب واقعي. وتذكرت بيت شعر من قصيدة و. ب. ييتس "حينما تكونين مسنة" وطبقتها على نفسها، على حبها الأبدي والتراجيدي الذي لم يهدأ:

أنت تنحنين بجانب

القضبان المتوهجة،

وتهمهمين، بحزن رقيق، كيف هرب

الحب

وسار على الجبال

المرتفعة

وأخفى وجهه بين كواكب

النجوم.

كان إراكلي الآن يشخر، بنومه العميق. قبلته تيريزا للمرة الثانية، على جبينه. وتسللت على رؤوس أصابعها نحو الباب. تابع شخيره. وعندما وصلت المطبخ، فتحت جزدانها وأخرجت الرخامة الذهبية التي سقطت من البرج الذي كان في واجهة حمام تبليسي الأزرق، والتي نصحها إراكلي أن تحتفظ بها لتكون فألا حسنا. الرخامة، كما لاحظت، هشة جدا، ويسهل كسرها. ضربت طرفها على حد كونتور المطبخ، فتحطمت من منتصفها، وقسمت الزهرة الزرقاء والتي لها شكل القلب إلى قسمين. وضعت نصفا في جزدانها، وتركت الثاني وسط الطاولة، وفي مكان فارغ لتتأكد أن إراكلي سيراه. وداعا جورجيا. فكرت بسرها وهي واقفة على العتبة. وداعا جورجيا الأساطير القديمة والحلم السحري. وداعا يا مخطوطات التاجر السغيدي، والتي سأعود إليها فقط بشكل شظايا من ذاتي السابقة، يا بقايا الحضارة الميتة، التي استغرقت بها مع رجل لم يحببني. ثم برشاقة فتحت الباب قليلا وتسللت على رؤوس أصابعها منه. وكان إراكلي يتابع شخيره.

 ***

.....................................

*الترجمة الجورجية لاسم هرقل الإغريقي.

* عنوان القصة: When You Are Old. لريبيكا روث غولد Rebecca Ruth Gould أستاذة الحضارة الإسلامية والأدب المقارن في جامعة لندن، كلية الاستشراق والدراسات الإفريقية. كما أنها عضو في جمعية أصدقاء فلسطين. الترجمة من كتابها Strangers والذي سيصدر في أمريكا في نهاية هذا العام.

 

إسراء نحو فردوسها

للشاعر: يحيى السماوي

ترجمة: رياض عبد الواحد

***

The Night Journey to Her Paradise

Text by: Yahya Al-Samawi

Translated by: Riyad Abdulwahid

***

 1)

On the path toward the city of love and certainty,

I encountered an old man

As young as a day,

Or as old as two eternities,

Perhaps the radiance of two suns,

Or the very apple of paradise.

A luminous robe draped his frame.

I asked him,

Which path leads to God,

To everlasting joy,

To the heights of the heavens?

He replied,

It lies within you, yet your heedless eye cannot perceive it.

You behold the devil of doubts,

yet miss the angel.

Beware

Fleeting joys may guide you

to ruin.

 2)

Along the road to the inviolable palm tree,

trees appeared in many forms:

sharp as spears,

restless as the wind,

bearing wounds of time,

gleaming like emerald and silk.

Why did God choose her as the bridge to paradise?

My oasis clung to her waters with love,

The bed leaned upon the stone of her sleep,

My poems clung to the murmur of her cooing.

I seek refuge in her love,

and without her, where would the seeker turn?

 3)

I tried to depict the magnificent palm tree of God,

yet the lines eluded understanding.

What binds them together,

written in light upon the paper of air?

 *

Palm tree

Pure love, water,

tree of the kingdom,

new language,

cup, lantern,

Wine that brings fruits closer to the plates,

restoring warmth to the loaf,

offering the stranger a home and distant cities.

It revived the ashes of my voice,

the silence filling my throat,

and the poem began to pulse.

She is the birth and the birthing,

the newborn itself.

She is the testimony on the day I rise

from the remnants of her tender embrace.

She is the martyr.

 ....................

إسراء نحو فردوسها

للشاعر: يحيى السماوي

(1)

فـي الـدربِ نـحـو مـديـنـةِ الـعـشـقِ الـيـقـيـن ِ

رأيـتُ شــيـخـا ً عـمـرُهُ يـومـان ِ ..

أو شــهـران ِ ..

أو سـنـتـان ِ ..

أو دهـران ِ ..

أو شـمـسـان ِ ..

أو تـفـاحـة ُ الـفـردوس ..!

يـلـبـسُ بُـردة ً ضـوئـيّـة ً ..

فـســألـتـُـهُ:

أيُّ الـدروبِ الـسـهـلُ نـحو اللهِ

والـفـرح ِ الـمـؤبّـدِ

والسـمـاواتِ الـسِّـمـاكْ ؟ "**"

*

فـأجـابـنـي:

هـيَ فـيـكَ لـكـنْ عـيـنُ طـيـشِـكَ لا تـرى ..

فـرأيـتَ شــيـطـان َ الـظـنـون ِ

ولـم تـحـدِّقْ بـالـمـلاكْ!

*

فـحـذار ِ ..

بـعـضُ بـيـادر ِ الـفـرح ِ الـمـؤقـَّـتِ قـد تـقـودُ

إلـى الـهـلاكْ!

***

(2)

فـي الـدربِ نـحـو الـنـخـلـةِ الـمـعـصـومـةِ الأعـذاق ِ

صـادفـنـي مـن الـشــجـر ِ الـكـثـيـرْ:

*

بـعـضٌ لـهُ شـكـلُ الـرِّمـاح ِ ..

وبـعـضـهُ طـبـعُ الـريـاح ِ ..

وبـعـضـهُ لـونُ الـجـراح ِ ..

وبـعـضـهُ ألـقُ الـزبـرجـدِ والـحـريـرْ

*

فـلِـمَ اصـطـفـاهـا اللهُ مِـعـراجـا ً إلـى فـردوسِـهِ ؟

واحـاتـيَ اعـتـصَـمـتْ بـحـبـل ِ مـيـاهِـهـا ..

وبـحـبـل ِ حـجـرةِ نـومِـهـا اعـتـصـمَ الـسـريـرْ

*

وقـصـائـدي اعـتـصـمـتْ بـحـبـلِ هـديـلـهـا ..

فـأنـا الـمُـجـيـرُ بـعـشـقِـهـا ..

وبـغـيـرهـا فـالـمُـســتـجـيـرْ

***

(3)

حـاولـتُ أرسـمُ نـخـلـةَ اللهِ الـجـلـيـلـة َ

فـانـتـهـيـتُ إلـى سـطـور ٍ لـسـتُ أفـهـمُ

مـا الـعـلاقـة ُ بـيـنـهـا ..

مـكـتـوبـةٍ بـالـضـوءِ فـي ورق ِ الـهـواءِ ..

الـنـخـلـة ُ:

الـعـشـقُ الـحـنـيـفُ / الـمـاءُ /

سِـدرةُ واحـةِ الـمـلـكـوتِ ..

والـلـغـة ُ الـجـديـدة ْ

*

والـكـأسُ والـقـنـديـلُ ..

والـخـمـرُ الـذي

يُـدنِـي الـقـطـوفَ مـن الـصـحـون ِ ..

تـُعـيـدُ لـلـتـنـُّـور ِ عـافـيـة َ الـرغـيـفِ ..

ولـلـغـريـبِ الأهـلَ والـمُـدنَ الـبـعـيـدة ْ!

*

أحـيـتْ رمـادَ الـصـوتِ فـي

تـابـوتِ حـنـجـرتـي

وأنـبَـضَـتِ الـقـصـيـدة ْ

*

فـهـيَ الـولادة ُ .. والـوَلـودة ُ ..

والـولـيـدة ْ

*

وهـي الـشـهـادة ُ يـوم أُبْـعَــثُ

مـن رمـيـم ِ سـريـرهـا ..

وهـيَ الـشـهـيـدة ْ!

***

قصيدتان

بقلم. إيمان عبد الهادي

ترجمة: نزار سرطاوي

 ***

Two Poems

Eman Abdelhadi

Translated by Nizar Sartawi

***

An Aperture

No one knows now how often I have died.

I have acquired the tongue of never revealing

but through words!

I have sought haven

in the fantasy of dreaming,

interpreting a vision:

I saw as though the poem

was devouring my own head

and sipping the liquor of my bones

I lived in abodes with a boundless sea

As if the rhymes – despite their imperfection –

had hoarded empty shells for my perfection...!

***

Home

We have been walking

along a long long road

I’ve already stepped past my mid-thirties.

*

But we have not reached home as yet

- There is a home, you say

- Is there a home? The question lingered on my lips

But my voice trailed beyond the desertland.

*

- Take me back home – if there be one –

Take me… take me back home!

or back to the words

.....................

قصيدتان

د. إيمان عبدالهادي*

***

كُوَّة

ليس

من أحدٍ يعرفُ اليومَ كم مِتُّ

عُلّمت منطقَ ألَّا أبوحَ سوى: بالكلامِ!

احتميتُ بوهمِ المنامِ

بتأويلِ رؤيا:

رأيتُ كأنَّ القصيدةَ تأكلُ رأسي

وتشرَبُ خَمرَ عظامي

سكنتُ منازلَ لا حدَّ للبحرِ فيها

كأنّ القوافي – على نقصِها –

حشدتْ صَدَفَاً فارِغاً لتمامي...!

**

البيت

مشينا طريقاً طويلاً

تجاوزتُ (نصفَ الثلاثين) في خطواتي

*

ولم نصِلِ البيتَ بعدُ

- هنالِكَ بيتٌ ! ... تقولُ

-  هنالِكَ بيتٌ؟ أردتُ سؤالَكَ

لكنَّ صوتي تراجعَ خلفَ الفلاةِ

*

- أعِدني إلى البيتِ – إن كانَ ثمّةَ بيتٌ –

أعِدني... إلى البيتِ !

أو فلتُعِدني إلى الكلماتِ

***

* شاعرة أردنية

 

قصة: بانو مشتاق

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

ما إن دفعت مهرون الباب شبه المغلق، بالكاد وضعت قدمها داخلة المنزل ، حتى توقف والدها، الممدّد على السرير الحديدي في غرفة الاستقبال، وأخوها الأكبر، الذي كان يناقشه بصوت منخفض، عن الحديث ونظرا إليها. وفجأة اندفعت نحوها ابنة أخيها، رابعة، من الداخل وهي تهتف: «جاءت فوفو مهرون! جاءت فوفو مهرون!» في تلك اللحظة خرج أمان، أخوها الثاني ووالد رابعة، من غرفته، ورغوة صابون الحلاقة تغطي ذقنه، والفرشاة لا تزال بيده، ووقف في غرفة الاستقبال ينظر إليها كما لو أنه لا يصدق عينيه. أما أثيجة، أختها الكبرى، التي كانت تُعلّم الأولاد القرآن بصوت غنائي، فقد خرجت إلى غرفة الاستقبال تحدّق بها، غير منتبهة إلى الـ سيراغو، طرف الساري المنسدل عن رأسها. ووالدتها، التي كانت تمسك بحبات المسبحة في يديها النحيلتين، وقفت مذهولة، وكأنما تسأل: «أحقًا ما أراه؟ أهذا حقيقي؟» أما شقيقتاها الأصغر، ريحانة وصبيحة، فكانتا تطلان من خلف باب غرفة الاستقبال، غير مباليتين بأن الأرغفة التي كانتا تخبزانها في المطبخ بدأت تحترق على الـ طاوة. ولحسن الحظ، لم يكن أخوها الأصغر، عاطف، في المنزل.

تجمّد البيت كله فى لحظة. بدا لها غريبًا. الأم التي حملتها في بطنها تسعة أشهر وربّتها لم تقل: «ها قد جئتِ، تعالي يا عزيزتي»، والأب الذي كان يفرح بالطفلة التي كانت تقفز على صدره العريض لم يرسم على وجهه حتى ابتسامة ترحيب بسيطة؛ لا أخوها الأكبر، الذي كان يفخر بها ويسمّيها «ملاكي، حور عيني»، ولا أمان، الذي أصرّ على أن تدخل الجامعة، رحّبا بها. زوجات إخوتها كنّ يحدّقن بها كما لو كانت من كوكب آخر.

انقبض قلب مهرون. ولم يخرج الجميع من ذهولهم إلا حين أطلقت الطفلة ذات التسعة أشهر التي كانت بين ذراعيها صرخة حادة. سألها أخوها الأكبر:

«أين عناية؟»

نكست رأسها كما لو كانت قد اقترفت جريمة، وأجابت:

- ليس في المدينة.

- فمع من جئتِ إذًا؟

- جئتُ وحدي.

- وحدكِ؟

ارتفعت الأصوات من حولها كجوقة صادمة، فيما ظلت واقفة على العتبة.

قال أخوها الأكبر:

- فاروق، أدخلها.

وما إن صدر الأمر، حتى مشت مهرون بخطى ثقيلة ومضطربة. بدا لها المكان كقاعة محكمة. بدأت طفلتها في البكاء، فجلست على طرف سرير والدها دون أن تنزع البرقع، ورفعت النقاب، وأرضعتها. لم تكن قد غسلت وجهها. كانت معدتها تحترق من الجوع بينما الطفلة ترضع. لم تكن قد أكلت منذ الليلة الماضية. لم يُسمح لأي امرأة في ذلك اللقاء سوى والدتها.

-  مِهر، هل أخبرتِ أحدًا في البيت قبل أن تأتي؟

- لا.

- لماذا؟ لماذا لم تُخبري أحدًا قبل أن تغادري؟ يبدو أنكِ عقدتِ العزم على أن تجلبي لنا العار.

- ومن كنتُ سأُخبر؟ من هناك أصلًا؟ لقد مرّ أسبوع منذ أن عاد آخر مرة إلى البيت — ولم يخبرني حتى إلى أين ذهب. كتبتُ إليكم جميعًا، لكنكم لم تردّوا، ولم تهتموا إن كنتُ حية أو ميتة.

- كتبتِ أن زوجكِ ذهب مع إحدى الممرضات. وتتوقعين منا أن نصدق ذلك؟

- إذا كنتم لا تصدقونني، كان عليكم المجيء والتحقق بنفسكم. هناك من رآهما معًا.

- وماذا سنفعل بعد أن نراه؟ لنفرض أننا أمسكنا به وسألناه، فأجاب بنعم، هذا صحيح - ماذا سنستطيع فعله حينها؟ أنقدّم شكوى للمسجد؟ سيقول: لقد أخطأت، وسأجعلها مسلمة وأتزوجها. عندها ستكون زوجة شرعية لكِ. ولنفرض أننا وبخناه أكثر، ماذا سنفعل إذا قال: لا أريد هذه المرأة مهرون، سأطلقها؟

بحلول هذا الوقت، كانت مهرون تبكي بلا توقف. نقلت رضيعها إلى ثديها الآخر وهي تواصل إرضاعه، وسحبت طرف ساريها من تحت برقعها ومسحت عينيها وأنفها. ساد صمت للحظة.

- إذن أنتم جميعًا غير قادرين على فعل أي شيء، أليس كذلك؟"

لم يتحدث أحد. واصلت:

- سجدت عند أقدامكم، وقلت أني لا أريد الزواج. هل استمعتم لي؟ قلتُ سأرتدي البرقع وأذهب إلى الجامعة. توسلتُ إليكم ألا تجبروني على ترك الدراسة. لم يصغِ أحدٌ منكم. كثير من زميلاتي في الصف لم يتزوجن بعد، بينما أنا أصبحت عجوزًا. لدي عبء خمسة أطفال. أبوهما يتجول في الخارج، وأنا لا أملك حياة. عندما يفعل الرجل شيئًا حرامًا كهذا، أليس بينكم من يستطيع سؤاله لماذا يفعل هذا؟

- كفى يا مهر، كفى. أغلقت أمها عينيها وهزت رأسها.

-  نعم أمي، لقد اكتفيتُ أيضًا. في البداية بدأ الناس يهمسون، ثم أولئك الذين رأوهما معًا في السينما ويدخلان الفنادق جاءوا وأخبروني مباشرة. ثم أصبح جريئًا بزيادة ليبدأ بزيارة منزلها. وبعد أن وبخه الجميع، ذهب إلى بنجالورو، وأنفق آلاف الروبيات، ونقلها. والآن يعيش معها منذ ثمانية أيام. إلى متى يمكنني تحمل هذا؟ كيف سأعيش؟

-  تحلي بالصبر يا بنيتي. عليكِ أن تحاولي إعادته إلى الطريق الصحيح بالحب.

- أمي، أما أملك قلبًا؟ أما لدي مشاعر؟ لا أستطيع احترامه كزوج بعدما فعل هذا . يمتلئ جسدي بالقرف عندما أراه. حبه أصبح فكرة بعيدة جدًا. الأمر لا يتعلق به وهو يطلقني  سأحصل على الطلاق منه. لن أعود إلى ذلك المنزل."

- مهر، ماذا تقولين؟ هذا كثير. هو رجل، وداس على بعض الوحل، لكنه سيغسله حيث يوجد الماء ثم يعود إلى الداخل. لا توجد وصمة ستلتصق به.

قبل أن تتمكن من الرد، قطع أمان حديثها:

- انظروا كيف تتصرف أمامنا. لا بد أنها تحدثت بهذه الطريقة أمامه أيضًا. ولهذا لا بد أنه غضب وتركها

ثم خفف نبرته:

- إذا تعلمت بنات هذا البيت مثل هذه الأشياء، سيكون ذلك رائعًا، أليس كذلك؟

تحول حزن مهرون بسرعة إلى غضب ثم خيبة أمل.

- تجادل بشكل جيد يا أخي. ربما يحفظك الله. صحيح: أنا الشخص السيء. لقد عرفت طبيعتي السيئة. لم أخرج دون برقع. هو أمرني بالتخلص منه، وارتداء الساري تحت سرتي والتمايل وأنا أمسك بيده. لكنكم غطيتوني ببرقع وربيتوني حتى أني لا أسمح لطرف ساري أن ينزلق عن رأسي، أليس كذلك؟ أشعر بالعار إذا خلعته الآن. ملأتموني بخوف الله. لم أوافق على فعل ما طلبه مني، لذا ذهب مع من يرقص على إيقاعه. والآن أنتم جميعًا خائفون من أن أصبح عبئًا عليكم إذا تركني - لهذا تقولون لي أن أتحمل. لكن هذا لم يعد ممكنًا الآن. بدلًا من الاحتراق في ذلك الجحيم الحي، سآخذ أطفالي وأعمل كحمالة في مكان ما. لن أكون عبئًا عليكم - ليس عبئًا على الإطلاق.

اعترضت أمها.

- هل الثمرة عبء على المتسلقة يا مهر؟ لا تقولي هراءً."

قال أخوها الأكبر بجدية:

- أمي، خذيها إلى الداخل وأعطيها شيئًا لتأكله. سنغادر إلى شيكماغالور في عشر دقائق. إذا كانت هناك حافلة، سنأخذها. وإلا سنستأجر تاكسي. لا يمكننا الرقص على إيقاعها أيضًا.

- لن أشرب قطرة ماء في منزلكم. ولن أذهب إلى شيكماغالور. إذا أخذتموني هناك بالقوة، أعدكمكم أني سأحرق نفسي.

- هذا كثير جدًا يا مهر. من يريد الموت لا يتجول ويتحدث عنه. لكن إذا كنتِ تهتمين بشرف هذه العائلة، لكنتِ فعلتِ ذلك بدلًا من المجيء إلى هنا. المنزل الذي تذهبين إليه بملابس الزفاف يجب أن يكون المنزل الذي تخرجين منه بملابس الحداد. هذه هي حياة المرأة المحترمة. لديكِ ابنة تدرس في المدرسة الثانوية؛ لديكِ أختان صغيرتان في سن الزواج. خطوة واحدة خاطئة وستعيقين مستقبلهن. تقولين أننا يجب أن نستمع إلى كلماتك الطفولية، ونذهب ونتشاجر مع زوجك، لكن لدينا أيضًا زوجات وأطفال. لذا اذهبي إلى الداخل وكلي شيئًا.

التفت إلى أخيه للحظة، ثم عاد ليواجهها:

- أمان، أسرع واستأجر تاكسي. وأنتِ يا مهر، إذا سألكِ أطفالكِ أو الجيران، قولي لهم أنكِ أخذتِ الرضيع إلى المستشفى، أو شيء من هذا القبيل. في أي وقت غادرتِ إلى هنا؟

لم تنطق بكلمة.

قال أمان:

- الساعة الآن التاسعة والنصف. لقد وصلت عند التاسعة تمامًا. الرحلة تستغرق ثلاث ساعات. لا بد أنها غادرت في السادسة صباحًا. إذا خرجنا حالًا، يمكننا الوصول هناك في الثانية عشرة والنصف.

لم تتحرك مهرون من مكانها. كانت أمها وشقيقتاها الصغيرتان تتناوبان في الرجاء والتوسل إليها كي تأكل، لكنها لم تدخل فمها لا لقمة طعام ولا قطرة ماء. وعندما جاءت سيارة الأجرة، لم تتحدث إلى أحد. خرجت وهي تحتضن طفلتها بقوة إلى صدرها، وإخوتها الكبار إلى جانبها، دون أن تودّع أحدًا. فقط حين نزلت الدرجات الأخيرة، التفتت لتنظر إلى البيت الذي وُلدت فيه وترعرعت. امتلأت عيناها بالدموع. كان والدها يمسك صدره ويسعل. ووالدتها تبكي، تتلفّت بين ابنتها وزوجها، تحاول أن تجعله يستلقي، تروّحه، ترشّ الماء عليه، وتردّد لنفسها: "يا رب، إن كان لي أي ثواب، أي فضل، أي حسنة في حياتي، فلتُصلح لي حال ابنتي."

فتح أمان باب السيارة، مشيرًا بعينيه إلى مهر كي تركب، وهو يتمتم متذمرًا. كانت، أحيانًا، تتفاخر بإخوتها الكبار. حين كانت تغضب من زوجها عنایت، كانت تقول له: «إخوتي واقفون كالأسود، وإذا استمريت في تصرفاتك هذه، سيقطعونك يومًا إربًا ويرمونك، فاهم؟» لكن هذا الفخر تلاشى تمامًا. كانت كلمات إخوتها ترنّ في أذنيها:

- لو كان عندك ذرة عقل لحفظ كرامتنا، لكنت أحرقتِ نفسك ومتِّ. لم يكن يجب أن تأتي إلى هنا.

لم تلتفت إلى بيتها وهي تصعد السيارة — لا إلى أمها التي كانت ستراها تطل من نافذة، ولا إلى شقيقاتها اللواتي يتلصصن من خلف الستارة، ولا إلى زوجات إخوتها اللواتي كنّ مشغولات في أعمالهنّ المنزلية على الأرجح. لكن دموعها انهمرت بغزارة من تحت نقابها. جلست تعضّ على شفتيها وتبتلع شهقات صغيرة.

كانت السيارة تسير بسرعة. لم يتكلم أحد. أمان كان جالسًا في المقعد الأمامي بجوار السائق من الحارة. وهل يمكن مناقشة أسرار العائلة أمامه؟

استمرّت الرحلة في صمت. لقد كانت مهرون مجرد نرد في لعبة عنایت من الحب والشهوة طوال ستة عشر عامًا. وبعد ستة عشر عامًا، أهان أنوثتها. قال لها بازدراء:

- تتمدّدين كأنكِ جثة. أي سعادة وجدتها معكِ؟

ثم أضاف:

- ماذا ينقصك؟ قدّمت لكِ كل شيء — من الملبس إلى المأكل. من يمنعني الآن؟ أنا مع امرأة تسعدني.

لم تلحظ الأشجار ولا المشاهد ولا الطريق. ولمّا توقّفت السيارة فجأة، ونظرت إلى الخارج بلامبالاة، رأت المنزل الذي قيل لها إنه بيتها. جاءت فتاة صغيرة، وجهها ذابل، تركض من الباب الأمامي وهي تهتف:

- أمي! أخيرًا عدتِ. كنتُ قلقة جدًا!

أخذت الطفلة من بين يدي أمها، وضمتها إلى صدرها وركضت إلى الداخل.

دخلت مهرون البيت بخطى بطيئة. كان البيت خاليًا. بقية الأولاد كانوا في المدرسة، وابنتها الكبرى، سلمى، البالغة من العمر ستة عشر عامًا، والتي كانت تتقاسم مع أمها ألمها، كانت وحدها في البيت ذلك اليوم. كانت سلمى قد أرسلت إخوتها إلى مدارسهم، تنتظر بقلق عودة أمها. وعندما رأت أخوالها برفقة أمها، تنفست الصعداء. فرحت برؤيتهم. ظنت أن أخوالها سيجرّون تلك المرأة الأخرى من شعرها ويطردونها. صارت تجري كالغزالة، تُحضر لأخوالها بعض السكاكر، وتُغلي الشاي.

كانت مهرون مستلقية في غرفتها. دخلت سلمى، مسحت دموع أمها، وأطعمتها بضع لقمات، وكانت تهم بالخروج حاملة صحن الطعام المتبقي، حين سمعت صوتًا مألوفًا. ركضت عائدة إلى غرفة النوم.

- أمي، أمي، أبي جاء!

تظاهرت مهرون بأنها لم تسمع، وغاصت أعمق تحت الغطاء الذي كانت قد تغطّت به. كانت أعصاب رأسها تخفق من شدة التوتر، بينما خرجت سلمى إلى غرفة المعيشة. كان أخوالها قد خرجوا مجددًا، وكانت تسمع أصوات الرجال يتحدثون. حديث، ضحك، سلامات.

"آريه بهيا! في أي وقت جئت؟" كان عنايت يسأل.

"جئنا للتو. كيف حالك؟"

"أنا بخير، بفضل الله ودعواتكم."

صوت أمان: "أين كنت يا عنايت بهاي؟"

"هنا فقط. بعض الأعمال، أفعل هذا وذاك - تعرف كيف هو الحال. بعد كل شيء، لا يمكننا الجلوس في المنزل بعد الاستيقاظ. سلمى "

نادى على سلمى ابنته:

- سلمى، أين ماما؟ انظري من جاء. قولي لماما أن تخرج.

لم يصدر أي صوت من داخل المنزل. قال:

- أتساءل أين هي. لا بد أنها بالداخل مع الرضيع. دعني أناديها، انتظروا.

دخل ورأى سلمى، وسألها بصوت منخفض:

- متى جاء هؤلاء؟ أين أمك؟

بدأ خيط من الشك يتشكل في قلبه. أجابت سلمى بذكاء. خرجت منه زفرة راحة.

- جاء الأخوال للتو. أمي لا تزال نائمة.

- لم تستيقظ بعد؟ ماذا حدث لها؟

جاء إلى باب غرفة النوم. منظر مهرون المتكورة نائمة أقلقه. ادعاؤها الوحيد للأهمية هو أنها أم أطفاله. رغم رغبته في ذلك، لم تحمله قدماه للداخل.

تخيلت كيف يقف عند الباب. ملابسه، رائحة السجائر، عرق جسده، جسده الذي يشيخ، عيناه الكبيرتان. الرجل الذي ترك أثره على كل عصب فيها أصبح غريباً عنها. بقيت ملفوفة بإحكام بالبطانية، تسمع صوته.

- سلمى، تعالي هنا. قولي لها أن تتوقف عن كل هذا الدراما. أنه إذا كانت قد استدعت إخوتها هنا ليعظوني، فهي تضع حبلاً حول عنقها. بنفس واحد - مرة، مرتين، ثلاث مرات - سأقولها وأنهي الأمر، قولي لها. وأخبريها أنه بعد طلاقها، لترى إذا كانت قادرة على تزويج أخواتها الصغيرات وبناتها. قولي لها هذا - أنها تدمر شرف العائلة أمام الضيوف. قولي لها، أمك. دعيها تحيي إخوتها - اسأليها إذا كانت تريد دجاجاً أم لحم ضأن، لأن الوقت يقترب من الظهر، لذا قولي لها أن تبدأ في طبخ الغداء قريباً."

لم تكن سلمى حتى هناك، لكنه أفرغ كل ما كان عليه قوله، متخيلاً أنها تسمعه.

تحدث عنايت وأصهاره كما لو أنه لم يكن هناك خطأ ما. تحدثوا عن أسعار القهوة، عن الانتخابات في كشمير، عن التحقيق في جريمة قتل زوجين مسنين في الحي، عن الفتاة المسلمة من المحلة التي تزوجت شاباً هندوسياً في حفل مدني، عن هذا الشيء، عن ذاك. استمر الحديث بينما صفرت طنجرة الضغط، ودوى صوت الخلاط، وانتشرت رائحة التوابل القوية، وأحضر الدجاج، وكان الطعام جاهزاً لأن مهرون هي من أعدته، وركضت سلمى تخدمهم جميعاً على الغداء.

خرجت مهرون من المطبخ مرة واحدة فقط، لفترة وجيزة.

بعد وجبة ثقيلة، وفمهم ممتلئ بقطع التنبول، استعد إخوة مهرون للمغادرة. قبل أن يذهبوا، جاء أمان ووقف قرب باب المطبخ.وقال لأخته:

- استخدمي القليل من الذكاء وتعاملي مع كل هذا، سآتي في زيارة الأسبوع المقبل. سيتصرف هكذا لبضعة أيام ثم سيعود من تلقاء نفسه. يجب أن تكوني مسؤولة. ما المشاكل التي تواجهها بعض النساء - أزواج مدمنون على الخمر، حماه يضربونهن. احمدي الله أنك في وضع جيد. هو غير مسؤول قليلاً، هذا كل شيء. عليكِ أن توازني كل ذلك.

غادر إخوتها، وبمجرد اختفاء صوت السيارة، طار عنايت إلى خارج المنزل أيضاً.

التفتت سلمى إلى أمها. لم يواسيها أخوالها ولم يساعدوها. بدأت تنتفض بحزن أمها. امتلأت عيناها بالدموع عندما خرج أبوها. كان المنزل محاطا بالكآبة، وعندما عاد إخوتها من المدرسة لم يتمكنوا من تبديدها. كان لكل منهم مهامه الخاصة، وعبئه الخاص.

عندما بدأ المساء يفقد نوره، أضيئت المصابيح حول المنزل. لكن المصباح في قلب مهرون كان قد انطفأ منذ زمن بعيد. من تعيش من أجله؟ ما المغزى؟ الجدران، السقف، الأطباق، الأوعية، الموقد، السرير، الأواني، نبتة الورد في الفناء الأمامي - لا شيء منها كان قادراً على إجابة أسئلتها. لم تلاحظ الزوج من العيون الباهتة التي تحوم حولها، تقف على أهبة الاستعداد. أرادت سلمى أن تدفن نفسها في كتبها؛ كان من المفترض أن تستعد لامتحانات الثانوية العامة المُقبلة. لكن قلقاً عظيماً لا يمكن وصفه جعلها تبقى أمها في مرمى بصرها باستمرار.

في هدوء الليل، كانت مهرون تحدق في الظلمة. كانت ليلة حالكة السواد، مثل حياتها تمامًا.كان الأطفال نائمين. وحدها سلمى لا تزال مستيقظة، تذاكر دروسها في غرفة الجلوس، وعيناها لا تفارقان غرفة أمها.

غابت عن مهرون القدرة على النوم. أخذت تتساءل:هل كانت معاركها في بيت أهلها أسهل؟ كان زواجها من عنايت قبل شهر من امتحانات السنة الثانية في تجارة. بكت، وتوسلت أن يُسمح لها بتقديمها، لكن الجميع كانوا صمًّا عن توسلاتها.بعد أسبوع تقريبًا من الزواج، تحدّثت مع زوجها بخجل عن الأمر.ضحك، وراح يناديها: " حبيبتي ، قلبي ، روحي".قال:

- إذا لم تكوني هنا، ألا أختنق؟

وصدّقته مهرون. صدّقت أنه إن لم تكن معه، ربما يختنق فعلًا.كانت سعيدة. أطاعت كل رغباته، وكانت هي المصباح الذي أضاء قلبه.

لم تحصل مهرون على زوجها لنفسها إلا بعد وفاة والديْه قبل عام.ذهبت أخوات زوجها إلى بيوت أزواجهن، وذهب أصهارها كل في طريقه . تحقق الحلم القديم — أن يكون لها بيتها الخاص. لكن حين تحقق، كانت ملامحها قد تغيرت. تجعد وجهها، وبرزت عروق يديها، واستقر ظل رقيق تحت عينيها، وتشقق كعباها، واستقر الوسخ تحت أظافرها المتكسرة غير المتساوية، وخف شعر رأسها — ولم تكن قد انتبهت لأيٍّ من ذلك.

وكل هذا لم تلاحظه هي ، وربما لم يكن عنايت ليلحظ أيضًا، لولا عملية الزائدة التي أجراها... وتلك الممرضة... تلك الممرضة التي تعمل كثيراً مقابل أجر زهيد في مستشفى خاص،بألف حلم في عينيها، تمشي أو ربما تطير في الهواء - يصعب الجزم - ببشرتها المتوهجة وعينيها العسليتين اللتين تجذبانك مثل الدوامة، وهي تنزلق نحو الثلاثينيات من عمرها، مستعدة لفعل أي شيء، أي شيء على الإطلاق، لضمان مستقبلها وإشباع أحلامها.

لم ينادِ عنايتُ تلك الممرضةَ بـ«أخت» كما جرت العادة. منذ اليوم الأول الذي قضاه في المستشفى، كان يناديها باسمها مباشرة. ثم راح يُهين الرحم الذي منحه أولاده وبناته.راح ينتقد بطن مهرون المرتخية، وثدييها المترهلين اللذين أرضعا أطفالهما حتى الشبع. لقد جعل روحها تشعر بالعار أيضاً. ذات يوم قال لها:

-أنتِ مثل أمي .

وبهذه الكلمات دفعها حية إلى الجحيم. في الأشهر القليلة منذ أن نطق بهذه الكلمات،

كل لقمة تأكلها في هذا البيت تشعر بها كإثم. شعور الغربة في بيتها يؤرقها، ونار الإهانات تطحنها،لذلك لجأت إلى عائلتها طلباً للمساعدة.

كانت عتمة الليل تزداد كثافة، وكان القلق في قلب مهرون يتصلّب ويتجذّر.لم يسبق لها أن شعرت بهذه الوحدة من قبل . لم يكن لديها أي رغبة في شيء. جلست على السرير. لا أحد يسأل عنها. لا أحد يغازلها، لا أحد يعانقها، لا أحد يقبلها. الشخص الذي كان يفعل هذه الأشياء أصبح ملكاً لغيرها الآن. لا يبدو أن للحياة نهاية.حتى الضجة الصاخبة من الخلف لم تزعجها. علمت أن صورة مؤطرة قد سقطت، وانكسر الزجاج،وتحطم الإطار إلى قطع، وسقطت الصورة لكن نوعًا من القلق العميق كان قد استوطن قلبها، ولم تكن لديها أي رغبة في ترتيب الفوضى. نهضت ببطء من السرير.حدقت في رضيعها لفترة طويلة، ثم خرجت من الغرفة. كان أطفالها الصغار ينامون بسلام.

بخطوات هادئة، دخلت إلى غرفة المعيشة ورأت سلمى التي كانت تستذكر دروسها هناك قد غلبها النعاس، ورأسها مستند إلى الطاولة. وقفت مهرون بجانب ابنتها النائمة،وبدأت ترتجف. كانت تظن أن مشاعرها قد ماتت جميعها، لكن ذلك الطوفان الذي اجتاحها وهي تنظر إلى سلمى جعلها توشك أن تنهار. قاومت رغبة جارفة في أن تلمس ابنتها، وقالت لها، في قلبها: "يجب أن تكوني أمًّا لهؤلاء الأطفال، يا عزيزتي".

بدأت قدماها تحملانها ببطء إلى الأمام. فتحت الباب وخرجت إلى الفناء الأمامي. النباتات القليلة التي كانت قد رعتها بدت كأنها تبكي. وكأنها تومئ موافقةً على القرار الذي اتخذته. عادت إلى الداخل، أغلقت الباب خلفها، وتوجهت إلى المطبخ، حملت علبة الكيروسين ودارت حول المنزل، غير قادرة على تحديد المكان الذي يجب أن تكون فيه عندما تُريق الكيروسين على نفسها. توقفت لتلقي نظرة أخيرة على أطفالها النائمين قبل أن تعود إلى غرفة الجلوس.

لم تنظر إلى سلمى.

سارعت إلى المطبخ، التقطت علبة الثقاب، وبيدها اليمنى تمسك بها بإحكام، فتحت مزلاج الباب الأمامي بهدوء وخرجت إلى الفناء مرة أخرى. حدقت في الظلام وتأكدت من أنها تفكر في أنها لا تملك أحداً، في أن لا أحد يريدها، بينما كانت تُريق الكيروسين على نفسها. كانت في قبضة قوة خارجة عن سيطرتها. نظرت حولها، ولم تصل إلى مسامعها أي أصوات، ولم تستطع أن تشعر بأي لمسة، لم يتبقَّ لها أي ذكريات، ولا علاقات تستطيع اختراقها. كانت خارج وعيها.

لكن كل شيء كان يحدث داخل المنزل، حيث أيقظ صرخات الطفل الجائعة سلمى فجأة، مما جعلها تسرع لتحمل الطفل إلى صدرها وتنادي "أمي، أمي"، تعبر الغرفة إلى حيث كان إخوتها نائمين ثم تبحث عن أمها في أنحاء المنزل، قبل أن تلاحظ الباب المفتوح وتخرج مسرعة إلى الفناء، وحتى في ذلك الظلام الضبابي، رأت شكل أمها وشمَّت رائحة الكيروسين.

بدون تفكير، أسرعت إلى الأمام وهي تحمل الطفل بين يديها وعانقت أمها بشدة. نظرت أمها، التي كانت تحمل علبة الثقاب في يدها، إلى الفتاة التي تعانقها بلا شعور، وكأنها كانت تنتظر شخصاً آخر. وضعت سلمى الطفل على الأرض وبكت: "أمي! أمي! لا تتركينا وتذهبي!" وأمسكت بساقي أمها.

كانت سلمى تنتحب، والرضيع الصغير يبكي على الأرض. نظرت مهرون إليهما، وحاربت لتتحرر من تلك القوة الغريبة التي أحاطت بها، فسقطت علبة الثقاب من يدها. ما زالت سلمى تشبثت بساقي أمها، وهي تردد:

- أمي... فقط لأنكِ خسرتِ شخصاً واحداً، ستلقي بنا جميعاً لرحمة تلك المرأة؟ أنتِ مستعدةٌ للموت من أجل أبي، لكن أليس بمقدوركِ أن تعيشي من أجلنا؟ كيف تجعليننا أيتاماً يا أمي؟ نحنُ فى حاجة إليك .

لكن أكثر من كلماتها، كان لمسة سلمى هي ما أثر فيها.

رفعت الطفل الباكي وضمت سلمى إلى صدرها، وبينما شعرت وكأن صديقةً تواسيها وتفهمها، ثقلت جفون مهرون، ولم تستطع إلا أن تهمس:

- سامحيني يا حبيبتي...

بينما كان ظلام الليل يبدأ في الذوبان.

(تمت)

***

............................

الكاتبة: بانو مشتاق/ Banu Mushtaq (ولدت في 3 أبريل 1948) كاتبة وناشطة ومحامية هندية تكتب باللغة الكانادية، وتنحدر من ولاية كارناتاكا. تُعرف بشكل خاص بكتابها "مصباح القلب"، وهو مجموعة من قصصها القصيرة تُرجمت إلى الإنجليزية بواسطة ديبا بهاشتي، وفاز بجائزة البوكر الدولية عام 2025. نشرت ست مجموعات قصصية، ورواية، ومجموعة مقالات، ومجموعة شعرية. وقد تُرجمت أعمالها إلى الأردية والهندية والتاميلية والمالايالامية والإنجليزية. وُلدت بانو مشتاق في أسرة مسلمة بمدينة حسن، كارناتاكا، في 3 أبريل 1948. وعندما كانت في الثامنة من عمرها، التحقت بمدرسة تبشيرية تدرّس باللغة الكانادية في مدينة شيفاموغا، بشرط أن تتعلم "القراءة والكتابة بالكانادية خلال ستة أشهر"؛ لكنها فاقت التوقعات وبدأت الكتابة بعد أيام قليلة فقط من التحاقها بالمدرسة.

* مصباح القلب: قصص مختارة هي مجموعة قصصية للكاتبة الهندية بانو مشتاق، كُتبت في الأصل باللغة الكانادية بين عامي 1990 و2023، وتُرجمت إلى الإنجليزية بواسطة ديبا بهاشتي. نُشرت المجموعة في المملكة المتحدة عن دار And Other Stories في 10 سبتمبر 2024، وتضم 12 قصة تستكشف حياة النساء المسلمات في جنوب الهند، مع التركيز على موضوعات مثل النظام الأبوي، وعدم المساواة بين الجنسين، والقدرة على الصمود.

فاز الكتاب بجائزة البوكر الدولية لعام 2025، ليصبح أول عمل مكتوب باللغة الكانادية وأول مجموعة قصصية على الإطلاق تفوز بهذه الجائزة.

بقلم: كيفن بروفر

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

قبور

في عام العناية الإلهية، في عام الخضرة الواسعة، في الموسم المطير،

حين مزقت الجداول سفح الجبل وأغرقت الحقول،

حين حفرت الأمطار فجوات مظلمة في التل خلف الكنيسة

فبرزت العظام في المكان الذي كان قبورا من قبل—

في أيام الفوضى، في أيام اللخبطة والذكاء، في بعثرة العظام،

شظايا وخرق التوابيت حيث كنا نبحث

بين الجثث المتحللة في ضباب العصر—تلك الكنوز التي اكتشفناها،

عملات معدنية عليها وجوه لا أحد يعرفها، صليب يشع ذهبيا بضوء الشمس،

خاتم ودبوس زينة. كنا أطفالا ومتوحشين، نستمتع باللعب في الروث والوحل

الى ان يلوح القس العجوز ببندقيته في الهواء علينا فنتفرق ضاحكين.

ثم يخيم صمت ونحن نختبئ بين جذور النباتات وعظام الموتى من زمن سحيق.

لم اشعر بسعادة كتلك قط.

*

كتبت هذه الأبيات قبل ثلاث سنوات، متخيلا تحللا لن اشهده ابدا،

على الرغم من انكم ربما عايشتم شيئا مثله في المكان الذي أنتم فيه،

مئات من الأعوام من الآن، حين أكون قد لفني النسيان.

في تكرار ذلك الحدث، ستلوح عظامي بارزة من الوحل

خلف حطام مقبرة الكنيسة في مخيلتي. وأنتم الذين لن اعرفكم ابدا،

ستفتشون فرحين عن عملات معدنية بينها. كنت أفكر في هذه القصيدة

في متجر البقالة، جنب اللحوم المبردة، كنت أفكر في مستقبلي البعيد،

وفيكم أنتم الذين تعيشون في ذلك المستقبل، حين يسقط رجل عجوز فجأة على الأرض.

كان ممددا هناك جنب مرطبان مايونيز مهشم. حين علمت انه لم يتأذ،

اخذته الى الحمام، حيث نظفت قميصه بتلك المناديل الورقية البنية التي توجد في لفائف لا نهاية لها.

كان يتعرق. تفوح منه رائحة النبيذ. اعطاني خمس دولارات مقابل عنائي.

لم أكن اريد نقوده، لكنني اخذتها لأجعله سعيدا فحسب.

***

......................

كيفن بروفر: شاعر أميركي من مواليد كليفلاند بولاية اوهايو لعام 1969. تلقى تعليمه في عدد من الجامعات ويعمل حاليا أستاذا للكتابة الإبداعية في جامعة هيوستن ومحررا لعدد من الدوريات. نشر العديد من المجموعات الشعرية نال اغلبها او رشح لجوائز مرموقة. من عناوين مجموعاته الشعرية: "الغابة الغريبة" 1998؛ "عظم الاصبع" 2002؛ "النشيد الوطني" 2008؛ "الكنائس" 2014؛ "كيف أحـبَّهم" 2018؛ و"المخاوف" 2023. يقول الشاعر عن قصيدته هذه ما يأتي:

"تهمني طريقة انتقال القصائد عبر الزمن. بدأت برؤيا عن المستقبل الذي يتخيله المتكلم في القصيدة، والذي لا يكشف عن نفسه الا بعد سنين بوصفه مبتدع تلك الرؤيا. ولكنني اتساءل، لمن يقدم هذه الرؤيا المستقبلية؟ على اية حال، انه يقيم في قبرين: أحدهما في مقبرة كنيسة المستقبل في مخيلته والآخر قسم اللحوم المبردة في المتجر، الذي هو كما يتخيله مقبرة من نوع ما. في كلتا الحالتين، تعرض النقود مقابل الاهتمام بالموتى او بمن سيموتون قريبا."

بقلم: روبرت هيتشنز

ترجمة وإعداد صالح الرزوق

***

لم يكن مصير السيدة ليمير، بالتأكيد، عاديا. فهي فرنسية، من مرسيل، كما يمكنك أن تعلم من لهجتها، ولا سيما حينما تقول "C'est bien!"، كما أنها بنت ظريفة ونشيطة جدا، مع إرادة قوية، وعاطفة جياشة متأهبة للمتعة ولحياة المدينة. وتستطيع أن تخمن، من كلامها حينما بلغت السابعة عشرة، أنها إذا فكرت بالرحيل عن مرسيل، لن يكون إلا للسفر إلى باريس. ولم يكن يعجبها أي شيء. وكانت تشعر أنها مولودة لتعيش في مدينة عظيمة. وها هي الآن وقد بلغت الأربعين، تعيش هنا في الصحراء، ولديها نزل في الكيف تحت جبل الملح!. أحيانا تتساءل كيف وصلت إلى هذه الأنحاء، وهي تعبر باحة النزل، وتمر بالبغال التي ربطها النزلاء في أكواخ مفتوحة، أو حينما تسكب النبيذ الجزائري المسكر للمزارعين القادمين من التل، أو لتاجر رحالة أغبر أشعث من باتنة، وهي مدينة مشهورة بعرائش الكروم التي تقابل الصحراء.

كان اسمها ماري بريتيل، والآن هي ماري ليمير وتعيش في الكيف! وفي الصحراء، والله وحده يعلم من تخدم: جزائريين، فرسانا مجندين من شمال إفريقيا، حداة إبل، صيادي غزلان! يا الله. هذا كثير!. ولكن إن كان لديك "مشكلة" ما، كيف تتعامل معها؟ كانت "مشكلة" ماري بريتيل أنها ضعيفة لدرجة البلاهة أمام الوجوه الوسيمة. وقد أرادت أن تنجح في العالم، وأن تسافر، وأن تذهب إلى باريس، أو إذا استحال ذلك، أن تبقى في مارسيليا، وأن تتزوج من رجل غني في المدينة، وأن تعقد الحفلات، وأن تشتري الأثواب من مدام فاني Vannier، في رو دي كليشي، والقبعات من تريبيشو Trebichot، في رو ديس كولونيس، وأن تحضر عروض المسرحيات، وأن تكون موضع الاهتمام وأن يشار لها بالبنان في أرض السباق، و -- و، باختصار، أن تكون جميلة جميلات مارسيليا. وها هي في الكيف، وكل ذلك بسبب تلك "المشكلة" التي في طبيعتها. وكان لدى السيد ليمير وجه وسيم. عدا أنه رجل طيب، مخلص، وشجاع، ومفتول العضلات، وقوي العزيمة. ولكنه ليس من مرسيليا، لكنه جاء إليها لتقديم عرض أكروبات في صالة الموسيقا، وهناك قابلته ماري بريتيل، وهو يرتدي ثيابا ضيقة فضية، ويؤدي ألعابا مدهشة على ثلاثة قضبان متوازية. وكان لذراعيه عضلات تشبه صفائح الحديد، وشارباه الأشقران مقلمان بشكل خط مدبب، وعيناه الشجاعتان متوقدتان كالنار وتفتنان النساء - و - حسنا، هربت معه ماري بريتيل، وأصبحت السيدة لامار. وهكذا جاءت إلى الجزائر، حيث أصيب لامار بحادث وهو يقدم عرضه. وتلك هي بداية الأوديسة التي انتهت إلى الكيف.

"غبية - غبية - غبية". غالبا ما كررت ذلك لنفسها، وهي تتجول في النزل وتؤدي واجباتها وذرات الرمل تتغلغل في شعرها.

"غبية - غبية - غبية".

كانت الكلمة تذهب مع رياح الخسارة وتلقي بها في الصحراء. بعد الحادث فقد لامار عمله. ثم فقد حسنه. ومال للبدانة. وتوقف عن تقليم شاربيه ليكونا مدببين. وتلاشت قوة عضلاته، وغطتها الدهون الطرية. ثم اعتاد على الشراب. وبهذه الطريقة جرفهما التيار.

ولكسب بعض النقود عمل بعدة مهن - دليلا، وحارسا، ومرافقا لل "الجميلة فاطمة". يمكن القول إنه عمل في الجزائر بمهن مستحيلة.

وماذا عن ماري؟. حسنا، الأفضل أن لا ندقق في حياتها عن مقربة تحت شمس إفريقيا اللاهبة. مهما كانت، لم تكن ناجحة. حتى أنهما تشردا من الجزائر. إلى أين ذهبا؟. أي مكان لم يحلا به في هذه الأرض المحترقة؟. عرفتهما أوران على حدود المغرب، ومساجد القيروان، ورياح تونس، وصخور القسنطينة، وجدران بوجي الصاخبة المحاذية للماء، والحصن الوطني في كبيلة الكبرى. أقاما في كل مكان. وأخيرا دفعتهما رياح الصحراء، من أشجار النخيل المتداعية في بيسكرا، مثل ذرتي رمل مسكينتين في الصحراء، إلى الجدران الطينية في الكيف. وهنا - بمعونة من الله - عملا لعشر سنوات في نزل "أو ريتور دو ديزيرت - العودة إلى الصحراء". أنفقا عشر سنوات طويلة وحارة وجافة، وفي نزل من هذا النوع. لكن لماذا؟. لو أنه في مارسيليا لأطلقا عليه اسم... - حسنا، لا يمكن لأحد أن يؤكد ماذا يمكن أن يطلقا عليه في شارع كانيبير!. غير أنه يمكنهما العثور على اسم له، وهذا مؤكد. لكن هذا النزل يقف وحده. وحده تماما في الصحراء. وهي تحيط في الكيف بواحة صغيرة، تحجب، بين أشجار نخيل متوسطة الطول، قرية عربية متواضعة. ولا يمكنني أن أقرر لماذا يجب على النزل أن يبنى خارج الواحة، بعيدا عن القرية. إنما هذا هو الحال. ويبدو أن السبب هو الخجل من بيوت العرب الطينية، الفارغة، وحتى لا يقارن بها. مع ذلك ليس هناك غير القليل للشعور بهذا الخجل. فالنزل أيضا مبني من طين جففته الشمس أساسا، وبقيت أرض البيت التي يمتلك مثلها معظمهم. يواجه الفندق صحراء منبسطة لا يوجد لها مثيل. والطريق الذي كان يمر من أمامه جرفته الريح إلى مناطق المياه، ومن العريشة المتشابكة، والبعيدة، يمكن للمرء أن يرى بضوء الشمس، المحاصيل الخضراء المدببة والمرتفعة، والتي يزرعها الأفارقة الشماليون، والذين لديهم مخيم يمتد على يمين طريق كرافانات يقود من ممر الصفا إلى بسكرا.

ويمكن الإنسان أن يرى الفندق، على ذلك الطريق من بعيد جدا. حتى يصبح لونه الأبيض مثل خيط أبيض، وحتى يبدو أي شخص يرحل عليه أصغر من الدمية، ناهيك عن الكرافان. تصبح مجرد غمامة متحركة مغلفة بغمامة من الغبار. ولكن حوالي المساء، حينما يصبح الجو الإفريقي الهادئ حادا لدرجة فظيعة تقريبا، يصبح لكل علامة على الخيط معنى يجذب العين، ويحرك الذهن ليتساءل: "ما هذا الذي يزحف على الطريق؟ من هذا المرتحل؟ هل هو فارس على حصانه الرشيق، وبارودته مرفوعة باتجاه السماء؟. أم أنه امرأة تمتطي حمارا يخطو؟ أم بدوي على جمله؟ أم أنه فقط رجل صحراوي فقير، نصف عار ملفوفا بأسماله، ويخبط الأرض بقدمه السمراء العارية على درب تشويه الشمس، وغطاء رأسه يغطي عينيه، وقبضة عصاه في يده؟.

بعد عشر سنوات استمرت ماري ليمير بسؤال نفسها مثل هذه الأسئلة وهي في تعريشة النزل، كلما فترت زحمة العمل، وحينما يكون زوجها غائبا، أو إذا كان مستلقيا على السرير وهو نصف مخمور، بعد جرعة أفسنتين زائدة، وحاج، الخادم العربي الأعور، يجلس القرفصاء على مؤخرته في زاوية يدخن الكيف.

لن يهمهما الجواب على الإطلاق. ولم تتوقع أي شيء من الطريق الذي يقود إلى الصحراء. لكن توجب على ذهنها، الراكد بسبب العزلة في إفريقيا، أن يفعل شيئا يشغل به نفسه. وكانت مرارا تحدق بالسهول، وعبارة "يا للعجب" ترتعش على شفتيها دون أي هدف، وتعبير قاس يدل على التساؤل في عينيها البنيتين الداكنتين، بجفنين يتخللهما تجعيدات طفيفة. وربما أنت تتساءل لماذا مرت مدام ليمير بحب عاصف بقصد المتعة، وكانت حينها ذات إرادة قوية، ووافقت على البقاء عشر سنوات معزولة في الكيف، متقوقعة في فندق بائس، ولا يأتي إليه غير القليل من الأشخاص، من أولئك الفقراء والمساكين.

أثقل عليها كل من الظروف وليمير كثيرا. كان كلاهما فظا. وكانت أشبه بمستعبدة لديهما. كان ليمير فاشلا بامتياز، ولكن تحت تأثير الأفسنتين، تتبقى أثار طفيفة من سلطة كانت في الماضي تضمن له النجاح. فقد أغرمت به مدام ليمير سابقا لدرجة العبادة، عشقت سطوته وجماله. والآن فقد كليهما. أصبح حطاما. غير أنه حطام يتخلله العنف. وإلقاء الأوامر أصبح واحدا من عاداته. مثل جاذبية إفريقيا التي يجب أن تؤمن بها. وهكذا انتظرت مدام ليمير عشر سنوات طويلة في النزل قرب جبل الملح، وهي تحدق بالطريق في انتظار شيء غريب ومثير يأتي من الصحراء. ولكن هذا لم يحصل أبدا، أبدا. وتابع ليمير شرب الأفسنتين، وإلقاء الشتائم، والنوم. لعشر سنوات طويلة. وتابع حاج الجلوس على مؤخرته القرفصاء وإغراق نفسه في الكيف. وتابعت مدام ليمير الصبر تحت عريشة العنب، وحبات الرمل في شعرها، وهي تحدق طويلا بالسهول. وحينما ظهرت علامة على مبعدة في الطريق الأبيض، راقبتها حتى تعبت عيناها القاسيتان، وهي تتساءل من يكون، أو ماذا يريد - هل هو إفريقي شمالي على ظهر حصان، أم امرأة تمتطي حمارا، أم أنه بدوي على جمله، أم مجرد متشرد أسود ونصف عار يمخر في الرمال، ويتجه من غروب الشمس الفاتن إلى النزل الوحيد.

II

ومع أن روبيرت ليمير كان حطاما لم يكن شيخا كبيرا بالسن، فهو في الخامسة والأربعين فقط، وحفظه الهواء المعتدل والرقيق في الصحراء من التداعي الكامل. كان منهارا وبائسا، ثقيل الصدر والكتفين، بوجه ضخم وشاحب، وعينين حانقتين وقلقتين بسبب العبودية للأفسنتين. يداه ترتجفان دائما، وفي الأيام الصعبة ترتعشان مثل أوراق النبات. ولكن هناك بعض السلطة في جسمه المتهالك قبل الأوان، وبعض الإرادة في عقله. كان محطما، ولكنه حطام رجل كان معتادا على التحكم عمليا بالنساء. فهو لم يفقد ذلك.

في إحدى الأمسيات - في شهر أيار، وساعات الحرارة الطويلة في الصحراء قد بدأت - كان ليمير بعيدا عن فندقه، يصطاد بجانب جبل الملح مع زميله، وهو مستوطن لديه مزرعة صغيرة ليست بعيدة عن بسكرا، وجاء ليمضي وقته في الكيف. وكان لهذا الرجل تاريخ. فهو في السابق مدير فندق، ولديه أسبابه ليشتبه أن أحد النزلاء يجامع زوجته. في إحدى الليالي، اكتشف دون أي شك أن شبهاته صحيحة، فانتظر حتى موعد إغلاق الفندق، ثم شق طريقه إلى غرفة النزيل، ووضع فيه ثلاث رصاصات، وهو نائم في سريره. وتلقى نتيجة هذه الجريمة، أو القصاص العادل، عشر شهور سجن فقط. ولكن انتهى عمله في إدارة الفندق. والآن هو مزارع بسيط. وربما كان أيضا الصديق الحقيقي الأوحد لليمير في إفريقيا، وكان يأتي أحيانا ليقضي ليلة في نزله "العودة إلى الصحراء".

في أمسية من أيار، كانت مدام ليمير وحدها في النزل مع حاج، الخادم الأعور، تحضر الوجبة الخفيفة للصيادين الاثنين. والذباب يطن في الأرجاء تحت أوراق الكرمة المغبرة، والتي لم يحركها أية نسمة. وبلورات الملح على سفوح الجبل تلمع في الشمس التي لا تزال ملتهبة، مع أنها غير بعيدة عن أوان انحدارها. وعلى الجدران الطينية الجافة في النزل وعلى حجارة محيط الباحة المبلطة، زحفت سحلية، أو استراحت بصبر يتخلله الفضول واستراق النظر، كما لو أنها تستعد لحركة تالية، ولكنها تنتظر الإشارة. ووقف بغل أو اثنان في حظيرة طويلة مفتوحة على الباحة، وكلب قبائلي هزيل القوام يحوم نحو الأمام والخلف بحثا عن بقايا وشفتاه تكشفان عن أسنانه الحادة. تابعت المدام ليمير ببطء عملها وحبات الرمل في شعرها، والذباب يطن حولها. لم يطرأ شيء. لا شيء حصل في الكيف على الإطلاق. ولكن لسبب غامض شعرت مدام ليمير فجأة أن وجودها في الصحراء لا معنى له فعلا. ربما كانت إفريقيا، تستنفذ بالتدريج حيوية المرأة الفرنسية، وفي هذا اليوم انتزعت آخر نقطة من قواها، والتي كانت حتى الآن، تمكنها على مواجهة حياتها، مهما هي كئيبة، ومنهكة. وربما هناك بعض الثقل الغريب وغير المعتاد في الهواء والذي كان عموما خفيفا كالريشة. أو لعل السبب هو في عقلها، ولعل أفريقيا أخذت من طبيعة هذه الضحية، في هذا اليوم بالتحديد، ذرة، أو مقدارا صغيرا بحجم ذرة الرمل، لكنه قوة إرادة ضرورية تماما للاحتفاظ باستعداد المرأة للوقوف على قدميها. ومهما كان السبب كانت تشعر أنها منهارة. لكنها لم تصرخ. ولم تشتم. ولم تسقط مغمى عليها، أو تستلقي وتحدق بعينين يائستين بيوم فارغ ويحتضر. ولم تهمل واجباتها المنزلية، وهي الآن، تجرف بمفتاح بسيط قطعة من لحم الضأن والخنزير المعلب لوجبة المساء الخفيفة. ولكن شيئا في داخلها رفع صوته بحدة. وكأنها سمعته يقول: "لا يمكنني الاحتمال بعد الآن". وعلمت أنه صوت الحقيقة. لم يعد بوسعها احتماله لفترة أطول: الشمس الإفريقية على جدران طينية بنية. وتغلغل حبات الرمل في شعرها، طيران الذباب حول وجهها، المتجعد قبل الأوان بسبب الحرارة الجافة الدائمة وريح الصحراء. والسماء الساطعة فوقها، والأرض المعدنية تحتها، والصمت - مثل الصمت الذي كان سائدا قبل الخليقة، عدا عن الأصوات المتكررة التي تتخلله. طرقات حوافر البغل على الحجارة، نباح كلب الحراسة على السقف المصنوع من النخيل في بيوت القرية البعيدة، ضحكات بنات آوى وشخيرها في الليل، وتلك الأغنية النواحة التي يغنيها حاج، وهو يهز رأسه الحليق مع نرغيلته والتي يكوم عليها الحشيش الذي يقربه من الجنون.

لم يعد بمقدورها تحمل ذلك.

لم تتغير النظرة على وجهها إلا قليلا. وزوايا فمها، منذ أن اكتأبت قبل فترة طويلة، لم تكن غير معتادة. وكانت يداها النحيلتان والقاسيتان ثابتتين حين تؤدي عملها المنفر. ولكن ماتت داخل ماري ليمير المرأة التي قاومت قليلا خلال عشر سنوات فظيعة وفي ظرف قاهر. ماتت ماري بريتل، ابنة مارسيليا، وهي في منتصف العمر، وتخلت عن جسمها المضعضع.

"هذا المصير ليس لي. ولا يمكنني تحمله أكثر".

والآن فرغت علبة القصدير التي تحتوي على الضأن والخنزير. باستثناء ذرات هلامية داكنة لا تزال ملتصقة حول الحواف. ذهبت مدام ليمير إلى الفحم الذي تحول إلى جمار، وفي يدها مقلاة قديمة قذرة. لا تزال ماري بريتل تنسحب منها، ولكن على المدام ليمير أن تعد الوجبة الخفيفة لزوج مخمور بالأسفنتين مع صديقه المجرم القادم من ألفا Alfa . تأخر الرجلان بالعودة، وأنهت المدام ليمير واجبها قبل عودتهما. ولم يكن لديها ما تهتم به، فذهبت إلى العريشة المشرفة على الطريق، حيث توجد طاولة قديمة مبقعة ببقايا النبيذ. وحولها ثلاث أو أربع كراس متهالكة. جلست مدام ليمير - بالأحرى ألقت نفسها - على إحداها، ومددت ذراعيها على الطاولة، وحدقت بالطريق الفارغ أمامها.

قالت لنفسها: "يا إلهي. يا إلهي". وضربت بيد واحدة الطاولة، وقالت بصوت مرتفع: "يا إلهي. يا إلهي".

نظرت إلى الكروم فوقها. كانت الأوراق مجللة بالرمل، ولاحظت حشرات تزحف عليها. راقبتها. ماذا كانت تصنع؟. ما غاياتها ونواياها؟ أي هدف يمكن أن تعزم عليه؟.

ودائما كانت تنقر بيدها، تنقر على الطاولة.

ومارسيليا!. لا تزال هناك قرب البحر، مزدحمة، ومبتهجة بالحياة. وهذا هو الأوان الذي تبدأ الحياة فيه بالحركة. الشلالات تهدر تحت الأحواض النباتية المعلقة، والوحوش تتجول في أقفاصها. والمظلات مفتوحة فوق المقاهي في مدينة المقاهي تلك. ويمكنها تقريبا رؤية أطرافها الملونة وهي تخفق في الهواء القادم من الميناء ومن قلعة دي إيف. وهناك صوت مطارق على طول شاطئ البحر. فهم يشيدون مقصورات السباحة الموسمية. الذهاب إلى البحر أمر مبهج. لأنه يهدئ الإنسان ويسعده. سقطت خنفساء من شجرة الكرمة على الطاولة بقرب اليد التي تنقر. دب السخط في مدام ليمير. نهضت، وذهبت لتقف في مدخل العريشة. لم يعد لمرسيليا مكان. وإفريقيا ماثلة أمامها. لعشر سنوات وهي تنظر على طول الطريق. نظرت نحوه مجددا. كانت هذه الساعة المسائية رائعة، فإفريقيا تبدو وكأنها ترفع نفسها نحو مصادر النور، ولكنها مضطرة أن تستسلم للظلام. حتى أن الإنسان يرى من على مسافة بعيدة، وتقريبا بقوة فوق طبيعية. شحذت مدام ليمير بصرها، كما يفعل الناس في الغسق حينما يبذلون جهدهم ليروا من خلال حجاب الظلام المتراكم. ما هذا الذي يسعى على الطريق؟. زحفت نظرتها فوق السهل المتحجر والعقيم حتى وصلت إلى المحاصيل الخضراء، وتابعت حتى تجاوزت خيمات مضارب الأفارقة الشماليين. وعلى مقربة منها ارتفع خيط من الدخان في الهواء الشفاف. وتابعت لمسافة أبعد حتى الجبال حيث يقل عرض المساحة البيضاء، ثم ضاع نظرها في ذلك المشهد. في هذه الأمسية، وربما لأنها تحن كثيرا لشيء ما، لأي شيء، لم يصادف نظرها شيئا على الطريق. كان أمامها مجرد بياض فارغ تحت شمس تغرب. ثم شعرت المرأة بالاضطراب، فضربت كفا بكف، وصاحت بصوت مرتفع: "إذا جاء الشيطان نفسه فقط من هذا الطريق وطلب مني أن أرحل من حفرة هذا المكان الملعون، سوف أرافقه. سأذهب. بودي أن أذهب".

رددت ذلك بحدة، وهي تصنع بيديها إشارات عصبية نحو الصحراء. وتجعد وجهها. وحينها كانت أشبه بامرأة قبيحة يائسة.

ولكن بنت مارسيليا هي التي كانت تستغيث في داخلها. كانت ماري بريتل تطالب بالمرح الذي رمته بعيدا في صباها، من أجل وجه وسيم.

"سأذهب. سأذهب".

انطلقت هذه الصرخة الثاقبة إلى شمس المغيب. ولكن لم يجاوبها أحد، ولم يظهر تعكر نقطة سوداء بياض الطريق المتعرج الذي يخترق السهول، ثم يمر من أمام باب النزل.

***

...........................

روبيرت هيتشنز  Robert Hichens  كاتب إنكليزي. ولد في كينت عام 1864 وتوفي في زيوريخ عام 1950. زار مصر وكتب عنها مرارا وتكرارا. لم يتزوج لأنه مثلي جنسيا. وهو من فضح أوسكار وايلد واتهمه بالمثلية في روايته "القرنفل الأخضر" 1894. من أهم أعماله: رجل الخيال 1895، اللندنيون 1898، حديقة الله 1904، بيلا دونا 1909، لدغة الأفعى 1919ومنها تمت ترجمة هذه القصة.

 

بقلم: فكتوريا تشانغ

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

 ***

العشب، 1967

حين افتح الباب، ابتسم والوح الى الناس الذين لديهم اعين فقط والذين هم فرحون بلا حدود. أرى اطفالي، ولكن قفاهم فقط. حين يستديرون، لا اتعرف عليهم. كان لديهم افواه فيما مضى، ولكنهم الآن لديهم اعين فقط. اريد ان اغادر الغرفة، ولكن حين افعل ذلك، أكون في الخارج، ويكون الآخرون جميعا في الداخل. لذلك في المرة القادمة، افتح الباب وأبقى في الداخل. لكن حينئذ يكون الجميع في الخارج. قالت اغنس ان "العزلة والحرية هما الشي نفسه." عزلتي مثل العشب. أصبح مدركة لحضوره الى حد يجعل الأمر أيضا يبدأ بمنح الشعور بكونه جمهورا. أحيانا تختطف عزلتي هاتفي وتلتقط سيلفي، ترسله الى مكان ما حيث يراه الآخرون ويعجبوا به. أحيانا يعلق الناس عن مدى جمال عزلتي وأحيانا تجيب عزلتي بشجاعة. تبدأ بمتابعة حسابات العزلات البالغة نصف عمرها. ماذا لو كانت عزلتي مكتئبة؟ ماذا لو حتى عزلتي لا تريد ان تكون لوحدها؟

***

.......................

فكتوريا تشانغ: شاعرة أميركية تايوانية من مواليد مدينة مشيغان لأبوين مهاجرين. تلقت تعليمها في جامعتي مشيغان وهارفرد.  صدرت لها عدة مجموعات شعرية فاز معظمها بجوائز مهمة منذ اول اصدار لها بعنوان "الدائرة" في عام 2005 وحتى مجموعتها المعنونة "الأشجار تشهد كل شيء" في 2022 التي منحتها صحيفة النيويوركر لقب افضل كتاب لذلك العام.  تشير الشاعرة الى ان هذه القصيدة من آخر مجموعة لها بعنوان "ادير ظهري للعالم" صدرت للشاعرة في عام 2024 وهي تضم قصائد تتناغم في موضوعاتها مع اعمال وكتابات الرسامة الكندية الأميركية آغنس مارتن (1912-2004) التي ارتبط اسمها بحركات فنية عرفت بالحدنوية والتعبيرية التجريدية.

 

(قصتان)

ليزلي ووكر تراهان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

(1) أسنان جيدة

أري الرجل نفسه كل يوم، الرجل يشبهني، أو يبدو على الشكل الذي سأكون عليه بعد ثلاثين عامًا لو كنت رجلًا. ذلك يعني أنه يشبه أبي، يشبه أبي لو كان على قيد الحياة.

أرى الرجل ينتظر الحافلة أمام نافذة شقتي، أراه في محل البقالة ولمغسلة والمقاهي، ومحلات بيع القهوة، أراه ينتظر في الطوابير، أو يوقع على الصور، أراه جالسًا على مقعد في الحديقة يشاهد الغرباء، وهو دائمًا وحيد، وأنا كذلك دائمًا وحيدة أيضًا.

أتصل بأختي لكي أحدثها عن الرجل، أترك الجزء المتعقلق بأنه يشهني. تقول: هل جددت أدويتك، ومتى آخر مرة رأيت فيها طبيبك؟ يبدو أنها تأكل رقائق البطاطس .

تقع شقتي فوق عيادة طبيب الأسنان، يعطيني طبيب الأسنان خصمًا على الدفع له مقابل الرد على الهواتف مرة واحدة في الأسبوع. عندما تنتهي العيادة، يغلق طبيب الأسنان الباب ويقول، الآن هيا نتحقق من تلك الأقواس، واستلقي علي كرسي بينما يضع يده في فمي.

شيء واحد أتذكره عن والدي، كانت أطراف أصابعه متيبسة لدرجة أنه عندما لمسني شعرت أنه يرتدي قفازات.

أحيانًا يأتي الرجل إلى المخبز حيث أعمل، لست الخباز، أنا أقوم بتنظيف فتات الآخرين، أمسح الحليب المسكوب وأضع يدي على بطاقات الائتمان ونقودهم القذرة.

كان لطبيب الأسنان زوجة وابنة، ولكن كل ذلك انتهى الآن، يحدثني عنهما عندما يفحص أسناني، يقول أن زوجته تشرب الكثير من النبيذ وابنته تأكل الكثير من الحلوى، وهو أثناء ذلك كله يبقي يديه في فمي، فلا أقول كلمة واحدة.

أحيانًا أرى الرجل وهو يحمل حقيبة كمان ومن المفترض أنه يحمل كمانًا.

كان والدي يعزف على الكمان. حاول أن يعلمني، لكن يدي خذلتنى ولم تعزف أبدًا بشكل صحيح.

بعد رؤية الرجل كل يوم لعدة أسابيع، أجد صعوبة في تذكر شكل والدي الآن، ليس لدي صور له، لكنني أحلم به كثيرًا، عندما أحلم به أرى وجه الرجل بدلًا منه.

أحلم أنني ألعب الورق مع الرجل، إنه يفوز، لدي كل البطاقات الصحيحة، وألعب كل واحدة بدقة.

يقول طبيب الأسنان أن أسناني عجيبة، يقول أنها جميلة جدًا لدرجة أنني لا أستحقها.

كانت لدي أبي أسنان مخيفة، ذلك واحد من الاختلافات التي أعرفها بينى وبينه .

ذات يوم رأيت الرجل يركب الحافلة، أنا أيضًا ركبت، إنه طريق لم أستخدمه أبدًا من قبل، تساءلت إلى أين ستأخذني الحافلة، أريد أن أجلس بجوار الرجل، لكنه يضع كمانًا في المقعد المجاور له، فأضطر للجلوس في مؤخرة الحافلة.

مكان واحد لم أر فيه الرجل أبدًا هو عيادة طبيب الأسنان، أود أن أراه هناك، وأتساءل عما إذا كانت لديه أسنان جيدة.

مات أبي بينما كان يعزف على الكمان، في لحظة كانت الموسيقى تملأ المنزل، وفي اللحظة التالية، تحطم، ثم صمت تام.

في الحافلة مع الرجل مررنا بالمنزل حيث مات أبي، أشعر بالحكة في يدي، أهرش وأهرش مع ذلك لا تتوقفان عن الحك، أنا متأكدة أن هناك خطأ ما فيهما، لكن لا شيء هناك. نظرت إلى أعلى ورأيت حقيبة كمان الرجل تتكأ على النافذة، يبدو أنها تحلم بشيء ما.

يطلب مني طبيب الأسنان أن أتعشى معه، يقول أنه سيعطيني كشفًا مجانيًا لمدة ستة أشهر إذا قبلت دعوته.

لطالما قال أبي أن التيبس الذى في يده علامة على القوة، قال أن الأجزاء الصلبة غطت الأجزاء الضعيفة وهذا ما منحه القوة.

أحرص على رؤية رأس الرجل من آخر الحافلة، كل ما أمكنني رؤيته العنق الأنيق لحقيبة الكمان، لا أستطيع رؤية المشابك المعدنية ولا أستطيع أن أرى مقبضها ولكنني أتخيل الرجل وهو يلف يديه حولها.

أتصل بأختي، الهاتف يرن ويرن.

يطلب لي طبيب الأسنان العشاء، دجاج ومكرونة، أطلب كأسًا من النبيذ، لكنه يقول أن النبيذ مضر بأسناني، أشرب الماء فقط، ولا توجد حلوى.

ينزل الرجل من الحافلة فأتبعه، يمشي داخلًا متجرًا للموسيقى،أقف في الخارج وأراقب عبر النافذة الرجل وهو يتحرك إلى آخرالمحل، يخرج الكمان من الحقيبة، ثم يجلس.

بعد العشاء يقول طبيب الأسنان حان الوقت لتنظيف أسنانك بالخيط،، استلقيت على كرسيه وهو يلف خيطًا حول إصبعين، أسمع صوت طقطقة البلاستيك، أشعر بارتفاع الضغط، عندما يسحب الخيط يكون مشبعًا بالدم.

عندما مات أبي انكسر القوس وقطع يده اليمني.

أتصل بأختي، أقول ماذا تتذكرين عن يديه؟" تقول: هل تناولت أدويتك ومتى كانت آخر مرة تحدثت فيها إلى طبييب؟" أقول: " يداه . . هل تتذكرينهما؟" تقول: لا أعرف ما الذي تتحدثين عنه؟" هناك شخص ما في الخلفية، لا أعرف إذا ما كانت تتحدث إليه أم تتحدث إلي.

عبر نافذة متجر الموسيقى، أرى انعكاس صورتي، وأرى الرجل جالسًا فوق مقعد معدني صغير يعزف على الكمان، أقف هناك لفترة طويلة أشاهدنا معًا هكذا.

***

(2) جبنة طرية

تقترب فتاة من امرأة، الاثنتان تسيران في اتجاهين متقابلين.

تبلغ الفتاة من العمر خمسة عشر عامًا وربما ستة عشر، عمر المرأة ثلاثة أضعاف عمر الفتاة تقريبًا أو أكثر.

الفتاة في صحبة فتى، أما المرأة فمعها حقيبة بقالة.

إنه كيس من الورق تحمله المرأة دون إحكام على جانب فخذها الأيمن، كان الهواء معبأ بأمطار غير متساقطة، يبد أن المرأة ليست في عجلة من أمرها، تستل علبة وردية اللون من الجقيبة وتفتحها بيد واحدة.

يميل الفتى لتقبيل الفتاة، لكن الفتاة لم تكن تنظر إليه، إنها تنظر إلى المرأة، معجبة بقصة شعرها الأشقر الفوضى وسروالها الجينز وحذائها الطويل. تعتقد أن المرأة فاتنة، مثل فكرة طفل عن أميرة، كبرت فقط،على حين فستانها ملطخ بالوحل.

عندما يقترب فم الفتى من الفتاة، تشم في أنفاسه رائحة المعدن، تشم رائحة نار، رائحة صدأ، يخطر في بالها قد تركته يحترق، فأسود الطعام وفسد.

تخطو الفتاة جانبًا وتصطدم بالمرأة.

تسقط الحقيبة من يد المرأة وتتناثر محتوياتها على الرصيف.

يتناثر النبيذ الأجمر على سروال الفتى وتسقط بين قدميه علبة بسكويت وقطعة من الجبن الطري ملفوفة في بلاستيك رقيق.

تقول الفتاة آسفة.

تقول المرأة لا بد أنك كنت تمزحين معي.

يقول الفتى للمرأة ينبغي عليك أن تدفعي لي مقابل التنظيف الجاف لهذا السروال.

تقول المرأة سأدفع عندما أموت.

تخجل الفتاة، تخجل لأنها اصطدمت بالمرأة الفاتنة، وتشعر بالخجل من كونها مع فتى لا يجيد الاعتذار.  تشعر بالخجل لأنها رفضت منذ وقت طويل رفضًا قاطعًا أن تجرب الجبن الطري، وأنها كانت قد تمسكت بهذا القرار تمامًا.

تخجل من ثيابها غير الملهمة وشعرها غير المصقول، تخجل من أن عينيها زرقاوان وليستا بنيتين مثل عيني المرأة، تخجل من أن الشمس لا تشرق وتخجل من القمامة على الرصيف، تخجل من أنها تعيش في هذه المدينة وأنها مشت في هذا الشارع وفي هذا الموضع لأول مرة.

يتحدث الفتى والفتاة بصوت عالٍ الآن، وتعتقد الفتاة أنهما يشبهان الدمى بحركاتيهما المتشنجة ووجهيهما القاسيين، يبدأ الناس في الانعطاف بعيدًا عنهما وعن الرصيف الذي كان مشغولًا من قبل. طفلان صغيران يشاهدان علانية من داخل نافذة شقة. يجذبهما شخص ما بعيدًا، لكن يبقى أثرهما الشبحي باقيًا.

يتطلع الفتى إلى شيء ما على هاتفه، يقول أنه يحاول تقييم تكلفة فاتورة التنظيف الجافة. تقول المرأة أنها لن تدفع مقابل تنظيف ملابس الجينز الرديئة التي يلبسها الأطفال.

يقول الفتى عفوًا سيدتي، هذا أجمل سروال جينز لدي.

تقول المرأة بالطبع هو كذلك، تقول المرأة أعط له إجازة، تقول ربما لن يحدث لك هذا النوع من الأشياء إذا ما تواعدت مع فتيات في مثل سنك.

ليس الفتى صبيًا حقًا ولكن إلى حد ما نوع من الرجال، أكبر من الفتاة بما يقرب من عشر سنوات.

تلعق المرأة شفتيها، وتحدق فيهما، تقول كم سنة هي أصغر منه: خمس سنوات أم ست سنوات؟

ابتسامة الفتى جامدة مثل الجبس، يقول كلانا في الثامنة عشرة. يضع يديه في جيبه وينظر في عين المرأة بتحدٍ.

تصهل المرأة بالضحك، تقول بالتأكيد، يا روميو بالتأكيد. تتعرض للفتاة بالسؤال عما إذا كانت على ما يرام، وإذا ما كانت في حاجة إلى مساعدة من نوع ما، تلمس ذراع الفتاة.

تبدأ قطرات المطر اللطيف في السقوط على الرصيف أمامهم، تشعر الفتاة بوخز خفيف على رأسها، تدفع يد المرأة بعيدًا.

تقول المرأة اهتمي بنفسك، تخطو الفتاة فوق علبة البسكويت وتبدأ في الابتعاد. ينحني الفتي لأخذ قطعة الجبن، يلف ذراعيه للخلف، ويقول مرحبًا سيدتي، لقد نسيت شيئًا.

تستدير المرأة وتضع الجبن على خدها الأيسر، مسحة لامعة من الكريمة تمتد من أنفها إلى إذنها، يتساقط المطر بشدة الآن ويلتصق شعر المرأة بخديها.

تسقط قطرات المطر الثلحية الصلبة على رأس الفتاة وتتدحرج على وجهها، تراقب الفتى وهو يركض على الرصيف، عائدًا في الاتجاه الذي أتيا منه. يرفع يديه فوق رأسه مثل طائر غريب يحاول الطيران، شعر الفتاة وملابسها غارقان في الماء، لا ترى جدوى من البحث عن غطاء الآن. تختلس النظر إلى قطعة الجبن، وهى نصف ملفوفة في البلاستيك وعائمة في بركة من مياه الأمطار. تقبض على قطعة منها بين سبابتها وإبهامها، وترفعها إلى فمها. تصرخ المرأة، ليس من حقك هذا الجبن، ولكن خلال المطر يبدو صراخها كالهمس.

(تمت)

***

..................

المؤلفة: ليزلي وولكر تراهان/ Leslie Walker Trahan كاتبة ومحررة وأمينة مكتبة سابقة، تعيش فى أوستن/تكساس، مع زوجها وولديها نشرت قصصها القصير وقصائد نثر في العديد من المجلات الأدبية. ويمكن التواصل معها على تويتر: Twitter @lesliewtrahan

Heinrich Heine (1790 -1856) - Die Wahlesel

German (Deutsch)

حمير الانتخاب، قصيدة ساخرة، للشاعر الألماني هاينريش هاينه (1797-1856)

 ترجمة: د. بهجت عباس

***

أخيراً ضاقوا ذرعًا بالحرية

ورغبت جمهورية الحيوانات

بحاكم واحد

يحكمهم حكمًا مطلقًا.

*

تجمعت الحيوانات كُلُّها،

وكُتبت بطاقاتُ الاقتراع؛

وتهيَّجت الفصائل بشكل محموم،

ودُبّـرت المؤامرات.

*

كانت لجنة الحمير

تُدار من قِبل مسنّين ذوي آذان طويلة

وكانوا يُزينون رؤوسهم بشارة

سوداء- حمراء - ذهبية.

*

وكانت هناك مجموعة صغيرة من الخيول،

لكنهم لم يجرُؤا على التصويت؛

كانوا خائفين من صيحات

المسنّين ذوي الآذان الطويلة الغاضبة.

*

وحينما رشّح أحدهم

الحصان للمنصب،

صرخ حمار مسنًّ بجعجعة،

وصاح: أنت خائن!

*

أنت خائن،

لا تجري فيك قطرة دم حمار؛

أنت لست حمارًا، أكاد أعتقد

أنَّ فرساً إيطالية أنجبتك.

*

ربّما تنحدر من نسل حمار وحشي، جلدك

مخطط، كجلد الحمار الوحشي؛

نبرة صوتك

تبدو مصرية-عبرية تمامًا.

*

وإن لم تكن غريبًا، فأنت مجرد

حمار فاهم وبارد الشعور؛

لا تعرف أعماق طبيعة الحمار،

لا تسمع مزاميره الغامضة.

Sign in*

لكنني غمرتُ روحي تمامًا

في ذلك النعاس العذب؛

أنا حمار، في ذيلي

كل شعرة حمار.

*

أنا لستُ رومانيًا، لستُ سلافيًا؛

أنا حمار ألماني،

مثل آبائي. كانوا في غاية اللطف،

مثقَّفين جداً ، أذكياء جدّاً.

*

لم يلعبوا بهمّة

ألعاب الرذيلة التافهة؛

كانوا يركضون يوميًا، نشطين، أتقياء، مرحين، أحرارًا،

يحملون أكياسهم إلى الطاحونة.

*

الآباءُ لم يموتوا! في القبر

تقبع فقط جلودهم

أجسادهم الفانية. ومن السماء

ينظرون إلينا بحبور.

*

حمير متجلّية في نور المجد!

نريد أن نكون دائمًا مثلكم

ولا نحيد عن درب الواجب

قيد أنملة.

*

يا له من فرح أن أكون حمارًا!

حفيدًا لمثل هؤلاء ذوي الآذان الطويلة!

أود أن أصرخ من فوق أسطح المنازل كلِّها:

لقد وُلدتُ حمارًا.

*

الحمار العظيم الذي أنجبني،

كان من أصل ألماني؛

أمي، ماما، أرضعتني

بحليب الحمير الألماني.

*

أنا حمار، وسأتمسك بإخلاص،

مثل أجدادي، الكبار،

بعادات الحمير القديمة المحبوبة،

عادات الحمير.

*

ولأنني حمار، أنصحكم

بأن تنتخبوا الحمار ملكًا؛

سنؤسس مملكة الحمير العظيمة،

حيث لا يحكمها إلا الحمير.

*

كلنا حمير! هاااااي!

لسنا خدّام الخيول .

لتذهب الخيول! عاش، يا هلا!

ملك سلالة الحمير!

*

هكذا تكلم الوطني. في القاعة،

هتف الحمير له بالتصفيق.

كانوا جميعًا وطنيين،

وضربوا الأرضَ بحوافرهم.

*

زيّنوا رأس الخطيب

بإكليل من السنديان.

شكرهم بصمت وهو في سعادة

لوَّحَ بذيله امتناناً.

***

....................

Die Freiheit hat man satt am End,

Und die Republik der Tiere

Begehrte, daß ein einzger Regent

Sie absolut regiere.

***

Jedwede Tiergattung versammelte sich,

Wahlzettel wurden geschrieben;

Parteisucht wütete fürchterlich,

Intrigen wurden getrieben.

*

Das Komitee der Esel ward

Von Alt-Langohren regieret;

Sie hatten die Köpfe mit einer Kokard,

Die schwarz-rot-gold, verzieret.

*

Es gab eine kleine Pferdepartei,

Doch wagte sie nicht zu stimmen;

Sie hatte Angst vor dem Geschrei

Der Alt-Langohren, der grimmen.

*

Als einer jedoch die Kandidatur

Des Rosses empfahl, mit Zeter

Ein Alt-Langohr in die Rede ihm fuhr,

Und schrie: Du bist ein Verräter!

*

Du bist ein Verräter, es fließt in dir

Kein Tropfen vom Eselsblute;

Du bist kein Esel, ich glaube schier,

Dich warf eine welsche Stute.

*

Du stammst vom Zebra vielleicht, die Haut

Sie ist gestreift zebräisch;

Auch deiner Stimme näselnder Laut

Klingt ziemlich ägyptisch-hebräisch.

*

Und wärst du kein Fremdling, so bist du doch nur

Verstandesesel, ein kalter;

Du kennst nicht die Tiefen der Eselsnatur,

Dir klingt nicht ihr mystischer Psalter.

*

Ich aber versenkte die Seele ganz

In jenes süße Gedösel;

Ich bin ein Esel, in meinem Schwanz

Ist jedes Haar ein Esel.

*

Ich bin kein Römling, ich bin kein Slav;

Ein deutscher Esel bin ich,

Gleich meinen Vätern. Sie waren so brav,

So pflanzenwüchsig, so sinnig.

*

Sie spielten nicht mit Galanterei

Frivole Lasterspiele;

Sie trabten täglich, frisch-fromm-fröhlich-frei,

Mit ihren Säcken zur Mühle.

*

Die Väter sind nicht tot! Im Grab

Nur ihre Häute liegen,

Die sterblichen Hüllen. Vom Himmel herab

Schaun sie auf uns mit Vergnügen.

*

Verklärte Esel im Gloria-Licht!

Wir wollen Euch immer gleichen

Und niemals von dem Pfad der Pflicht

Nur einen Fingerbreit weichen.

*

O welche Wonne, ein Esel zu sein!

Ein Enkel von solchen Langohren!

Ich möcht es von allen Dächern schrein:

Ich bin als ein Esel geboren.

*

Der große Esel, der mich erzeugt,

Er war von deutschem Stamme;

Mit deutscher Eselsmilch gesäugt

Hat mich die Mutter, die Mamme.

*

Ich bin ein Esel, und will getreu,

Wie meine Väter, die Alten,

An der alten, lieben Eselei,

Am Eseltume halten.

*

Und weil ich ein Esel, so rat ich Euch,

Den Esel zum König zu wählen;

Wir stiften das große Eselreich,

Wo nur die Esel befehlen.

*

Wir alle sind Esel! I-A! I-A!

Wir sind keine Pferdeknechte.

Fort mit den Rossen! Es lebe, hurra!

Der König vom Eselsgeschlechte!

*

So sprach der Patriot. Im Saal

Die Esel Beifall rufen.

Sie waren alle national,

Und stampften mit den Hufen.

*

Sie haben des Redners Haupt geschmückt

Mit einem Eichenkranze.

Er dankte stumm, und hochbeglückt

Wedelt' er mit dem Schwanze.

بقلم: منى كريم

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

اسياد وعشاق

يقولون ان شهرزاد انقذت جميع النساء بسرد القصص

انا لا أستطيع حتى ان أنقذ نفسي قبل شروق الشمس

*

اشعر انني

هناك معه

اقاوم بشدة

ما يؤلم بشدة

*

يأخذني في جولة حول منزله

الذي احرقت امرأة نفسها فيه

ولم تتضرر جدرانه

*

ها هنا تجرجرني الأشباح

ها هنا يمتزج الرماد بالتراب

*

بابتسامة........... ذئبة عجوز

يتظاهر انه........ لا يسمع صمتها

*

"ظننت ان الأمر ....... يعجبك هكذا،"

هكذا يقول لشهرزاد........ يمنحها اطفالا،

*

ينتشر عبر الزمن .......... اشباحه في العالم.

***

.......................

منى كريم: شاعرة ومترجمة واكاديمية تقيم في اميركا من مواليد الكويت في عام 1987 من أسرة من البدون—اي الذين لا يمنحون الجنسية الكويتية. لم يسمح لها بتلقي التعليم في الجامعات الحكومية الكويتية فالتحقت بالجامعة الأميركية في الكويت بمعونة من اسرة كويتية ميسورة، ثم حصلت على منحة دراسية من جامعة بنامتن في الولايات المتحدة لتنال شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن. يتناول شعرها قضايا النسوية والهوية والهجرة. نشرت في الرابعة عشرة من عمرها اول مجموعة شعرية تحت عنوان (نهارات مغسولة بماء العطش) وبعد عامين نشرت مجموعة ثانية تحت عنوان (غياب بأصابع مبتورة). عن قصيدتها هذه تقول الشاعرة ما يأتي:

"تزعجني الطريقة التي يعاد فيها رسم صورة شهرزاد على انها شخصية نسوية (Feminist figure)—امرأة تنقذ النساء الأخريات بسرد القصص، امرأة تتفاوض مع النظام الأبوي وتتغلب عليه. كتبت هذه القصيدة للتعبير عن الشعور بالإنهاك من الأبطال الخارقين، بالنجاة بعد موت الآخرين، وخصوصا حين يغلف ذلك بقصص الحب. هنا نرى شهرزاد تقاسي الانهاك والانهيار وهي مرمية على فراش، لوحة زيتية من الألم، خارطة غزيت. القصيدة جسدها وهو ينتهك بحميمية وهدوء لحظات بطيئة وقصيرة."

بقلم: ميلتون حاطوم

ترجمة: صالح الرزوق

***

بعض الناس صامتون أو بالكاد ينطقون بكلمة، ولكن في براسيليا حتى الجدران ترسل أصواتا غريبة. الصمت، الصمت العميق، لا يوجد إلا في الأماكن النائية، في السافانا الأصلية، في السيرادو. لاحظت أن ورق جدران غرفة الفندق مصمم بأشكال هندسية مثل ورق الأورغامي، ومن النافذة أرى أشجارا عارية من الأوراق وبأغصان ملتوية، ثم المرج البني، وأخيرا الأفق المحترق بجفاف شهر أيلول. وفي وسط السهوب المحترقة، ساحة القوى الثلاثة... يقول الناس إن مكتبة براسيليا الجديدة الوطنية فتحت قبل أن يتوفر فيها أي كتاب. هل هذه استعارة تدل على عقول السياسيين؟ أم أنها ترمز لهذه الأوقات التي نحياها؟.

الوصيفة في الفندق امرأة من ميناس، وموظف الاستقبال شاب من بيرنامبوكو، وأحد مساعدي كبير الطهاة من باهيا. كل البرازيل هنا، ويبدو أن البرازيل الحقيقية غائبة من منحوتات المجلس الوطني المقعرة والمحدبة. كل مرة ألج فيها إلى المصعد الزجاجي أسمع صوت الطيور. فهي تغني ولكنك لا تراها: أين هي؟. لا يوجد. طيور في صور بانتانال وأمازونيا الملصقة على جدارين من المصعد البانورامي. وحينما أصعد أو أهبط سبعة عشر طابقا في ذلك القفص الزجاجي والمعدني، أضطر لسماع الرنين المعدني. وأتذكر قصة قصيرة لمارسيل شوب وهي "باولو أوشيلو". كان عبقري فلورنسا، في القرن الخامس عشر، مهووسا بالطيور، كما كان أيضا مهتما بالهندسة والفلسفة. أراد أوشيلو أن يفهم مساحات وعمق العالم. فرسم الطيور على جدران مرسمه، وهكذا حصل على لقبه، وأعطى لشوب عنوان القصة التي كتبها. لكن الحياة ليست متخيلة، على الأقل ليس دائما، ولا سيما حينما يقف المصعد في الطابق الأرضي، لأجلس هناك على طاولة الفطور، وأستمع لشذرات من حوارات غير سرية:

"سأعود في الأسبوع المقبل لأحصل على نتيجة المناقصة...".

"تكلمت مع السيناتور، نحن فقط بحاجة إلى...".

"تدبرت أمر موعد، والآن أسهل لي الحصول على...".

تتقاضى امرأة ميناس أدنى الأجور، وتعيش في سامامبايا، واحدة من مناطق فافيلا الفيدرالية. حينما قطنت في براسيليا لم يكن أحد معتادا على كلمة فافيلا، وكنا نطلق عليها اسم المدن الفضائية. لا يزال التعبير المتحضر موجودا، ولكن الوقت يجعل التعابير الحضارية باهتة.  تم إنجاز خطة العاصمة تحت إشراف الفقر والبؤس البرازيلي: البناؤون المحليون الفقراء، وعمال المياومة، والفنانون والعاطلون عن العمل المهاجرون من كل الزوايا، والذين استقروا في ضواحي المدينة الكبيرة.

كيف ستكون البرازيل وبراسيليا إن لم يكن هناك منع تجول عسكري، بلياليه الطويلة المخيفة؟.

أما مساعد كبير الطهاة فيتقاضى أكثر بقليل من امرأة ميناس، ويعيش في سوبرادينو.

"إن لم أتناول وجباتي في الفندق، سأجوع. ولداي هما من أبناء العاصمة".

توأم من حقبة الرئيس كولور، هذان الولدان جاءا إلى العالم وسط كابوس سياسي. سوبرادينو. لن أنسى هذه المدن الفضائية، كنا نذهب إليها لنكتب بالطلاء شعارات ضد الرقابة وخشونة الحكم العسكري. أين ذهب أصدقاء تلك الفترة؟. كان زي ويلسون الذي نعرفه باسم كوكا، لا يزال شابا حينما عبر إلى الطرف الآخر من الحاجز الزجاجي، حتى أنه لم يقل وداعا. لا زلت أتذكر حماسه للكلاسيكيات؛ قرأ كل شيء وتأملنا من وراء النظارات السميكة التي حملها وجهه الطفولي. وشيكو دوس أنخوس، ابن الكاتب سيرو دوس أنخوس، رحل أيضا عن هذا العالم نهائيا. قلت لشيكو: رواية والدك "بيلميرو الموظف" رائعة. هؤلاء المحليون يكتبون كتابة مؤثرة، وأشعر بالغيرة منهم.

لمست نوعا من الاعتزاز في نظرة صديقي. ثم أطلق ضحكة عالية. شيكو يضحك حينما يصمت الجميع. تلك الأوقات لا تنفع للضحك، ولكن كان لديه حس بالمرح، وهو ما يساعد على خلق حالة من الانسجام.  

في عام 1968 لا يوجد شيء نظيف تماما في براسيليا، فهي مدينة جنينية، وعاصمة صغيرة. وأيضا عاصمة تحت الرقابة. بعض الرجال أصحاب السلطة يرتدون البذة وربطة العنق، والعديد منهم يتأنقون بالبذة والنحاس، وتعطيهم أسلحتهم هيئة عنيفة جدا، ولكنهم أيضا خائفون، وفي ظل الخوف والعنف والوحل يحتلون قلب براسيليا. الغبار الأحمر يغطي الأبنية المتميزة، ويلوث واجهات الأديرة، والأطراف الملتوية للكاتدرائيات التي لم يكتمل بناؤها. ويبقع الغبار الموحل قصر بلانالتو؛ والآخر، قصر ألفورادو، محمر كذلك.  اعتادوا على أن يقولوا: 'الوحل القذر، الوحل اللعين".  وحتى وحل السافانا الأصلي شيوعي أيضا. ولا يتوفر كثير من الفنادق، وأتذكر ليلتين أمضيتهما في فندق داس ناسوش، ليلة للقلق، وخلالها غاص قلبي من الشوق للشمال. ثم انتقلت إلى غرفة في بيت زقاق W3  جنوبا: وهو مأوى رخيص في بيت ضيافة مأجور ولكنه غير رسمي. وكانت تمتلكه عائلة سوداء: كان الأب بناء من باهيا، معمارا أصيلا ساعد في بناء فندق داس ناسوش الذي فتح أبوابه عام 1962. وللبيوت في W-3 جنوب منصات خلفية، تتحول أحيانا إلى باحات خلفية، ولكنها حاليا غير واضحة. كان ولدان يلعبان لعبة "الغميضة" قرب شجرة بيتانغا. قدم لي أحدهما حفنة من الثمار، وهكذا بدأت أشعر بحب براسيليا. 

تعرضت الباحات لإعادة البناء مع ملحقات رخيصة، وتم تقسيمها إلى غرف صغيرة متجاورة، مثل الفافيلا (الضواحي الشعبية).  فالعائلات تزداد بالعدد، ويتراجع الدخل، ويبدأ أصحاب الأملاك بإيجار مساحات من باحاتهم الخلفية. 

ولا حتى براسيليا، المصممة بعقلانية شديدة وغير بشرية، يمكنها مقاومة فوضى العمارة الحضرية. أحاط البؤس وعشوائياته بسلطات الجمهورية الثلاثة، وعاد الخوف القديم والعنف ولكن تحت أسماء جديدة.  شيكو دوس أنخوس، كوكا، لن تعيش لترى هذا.  خويو لويز لافيتا، ناقد ممتاز عاش في براسيليا في تلك الفترة، ومات أيضا دون أن يرى تحرير البلاد من أمل لا يتنازل عنه البرازيليون. وهذه واحدة من صفاتهم. غادرنا أيضا صديق آخر هو خويو أليكساندر باربوسا، وكان ناقدا أدبيا عميقا. وقد طرد مع مئات المحاضرين من جامعة براسيليا، وأصبحوا خارج تلك المؤسسة في الستينات. ولكن قاومت الجامعة أسباب الفناء. أفكر بكم جميعا وأنا أسمع الرنين المعدني للعصافير الغائبة. سبع عشرة طابقا في ثلاثين ثانية. الأفضل أن تمشي بدون اتجاه، لتتذكر براسيليا في ظلمات الصباح الباكر، بانتظار بزوغ الفجر. أغادر القفص المعدني والزجاجي، وأشاهد امرأتين شقراوين شقرة صناعية تتكلمان مع الموجودات في الصالة. كانتا على كنبتين من الجلد وتشربان الويسكي، وربما تكسبان في ليلة ما تجنيه امرأة ميناس في شهر، وربما تكسب الموجودات في الصالة أكثر مما تجنيه كل العاهرات والنساء العاملات من أجر في عشرة أعوام. 

لا تعني صور الأوريغامي على الجدار أي شيء لي، فهي ديكور آخر في غرفة فندق يمكن أن تراها في الفليبين، وهولاندا أو جنوب إفريقيا. قمت برحلة بلا هدف عبرت بها سيرادو، أردت أن أرى مكانا من ماضيي، البركة الزرقاء، حيث يمكن أن أجد ملجأ أختبئ فيه من الخوف ومن الرجال.

رحلة عبر الأزمنة: من خلال المرئي وغير المرئي في غبش الذاكرة. هنا توجد عصافير حقيقية: تحط سانهاشو (التاناجر)  وسييرا والسيس الأزرق على ظل أشجار جاتوبا وتتغذى على ثمار كوميليا الممتلئة. وتستلقي الأجساد العارية على الصخور قرب البركة الزرقاء وترتمي الأعشاب الرطبة على الجداول. لا أرى أشجارا قزمة بأغصان ملتوية، ولا أرى الأطراف المعوجة للمخلوقات المأساوية الشبيهة بالنباتات. هنا، لا يؤلم الماضي جسدي أو روحي، ويمكنني قطاف الزهور الجافة من سيرادو وأنا أكتب هذه الكلمات في حب المدينة التي لا تفارق خيالي.

***

......................

* ترجمها عن البرتغالية أنخيل غوريا

* ميلتون حاطوم Milton Hatoum مولود في ماناوس. درس الهندسة المعمارية، وعمل في تدريس الأدب البرازيلي في جامعة أمازوناس وجامعة كاليفورنيا، بيركلي. نشر عمله الأول "حكاية شرق ما" عام 1989. له عدة روايات منها "الشقيقان" 2000، رماد الأمازون 2005، أيتام إلدورادو 2008 وغيرها. أولى مجموعاته القصصية حملت عنوان "مدينة الجزيرة".

 

بقلم: بيلي كولينز

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

الورشة

يمكنني على اية حال ان ابدأ بالقول كم يعجبني العنوان.

انه يستحوذ عليّ لأنني في ورشة حاليا

وفي الحال تشد القصيدة انتباهي،

مثل الملاح العجوز يشدني من ردني.

*

ويعجبني اول مقطعين شعريين،

طريقة تأسيسهما هذا النمط من الإشارة الى الذات

التي تتخلل القصيدة برمتها

وتخبرنا ان الكلمات هي طعام يرمى

على الأرض لكلمات أخرى لتأكله.

اكاد أستطيع تذوق ذيل الأفعى

في فمها،

ان عرفت قصدي.

*

لكنني ما لست متأكدا منه هو الصوت،

الذي يصدر في أماكن عرضية جدا، سراويل جينز زرقاء جدا،

لكن في أوقات أخرى يبدو متحفظا،

احترافيا بالمعنى الأسوأ للكلمة

كأنه القصيدة وهي تنفخ دخان الغليون بوجهي.

لكن ربما هذا هو بالضبط ما تريد ان تفعله.

*

ما وجدته لافتا هي المقاطع الوسطى،

خصوصا المقطع الرابع.

تعجبني صورة الغيوم المحلقة مثل أقراص طبية

التي تعطيني صورة واضحة جدا.

ويعجبني حقا كيف يظهر مشغل الجسر المتحرك

على نحو غير متوقع

وقدماه على الطرابزون الحديدي

وصنارة صيده تتهزهز—تعجبني تتهزهز—

شص في القناة الصناعية المتوانية ادناه.

تعجبني القناة الصناعية المتوانية ادناه. كل تلك النونات.

*

ربما انه انا فحسب،

لكن المقطع التالي هو الموضع الذي ابدأ فيه بمواجهة مشكلة.

اقصد كيف يمكن للمساء ان يرتطم بالنجوم؟

وما هي نغمة الثلج الملزمة؟

كذلك، اجوب الشوارع الذي انتزع منها الكافايين.

عند هذه النقطة اضيع. احتاج مساعدة.

الشيء الآخر الذي يضللني،

وربما هذا انا فقط،

هو الكيفية التي يواصل المشهد تقلبه.

أولا، نحن في هذا المطار الكبير

والمتكلم يتفحص صفا من المناطيد

مما يجعلني اعتقد ان ذلك قد يكون حلما.

ثم يأخذنا الى حديقته،

الجزء الذي فيه ازهار الدالية وخرطوم المياه الملتوي،

لكن بعد ذلك لا اعلم اين يفترض بنا ان نكون.

المطر والضوء الأخضر بلون النعناع،

الذي يجعلك تشعر كإنك خارج المنزل، لكن ماذا عن ورق الجدران هذا؟

او أ هو مقبرة منزلية من نوع ما؟

ثمة شيء متعلق بالموت يجري هنا.

*

في الحقيقة، ابدأ أتساءل فيما إذا لدينا هنا

في الحقيقة قصيدتان، او ثلاثة، او أربعة،

او ربما لا توجد.

*

ولكن بعد ذلك هناك المقطع الأخير، المفضل لديّ.

ها هنا تستعيد القصيدة اهتمامي بها،

خصوصا الأبيات التي ينطق بها صوت الفأر.

اقصد نحن جميعا شاهدنا هذه الصور في أفلام الكارتون من قبل،

لكنني لا زلت اعشق التفاصيل التي يوردها

في معرض وصفه للمكان الذي يعيش فيه.

القوس المثالي الصغير للمدخل في الازارة،

السرير المصنوع من علبة سردين ملتوية الى الخلف،

بكرة الخيط ليستعملها كطاولة.

ابدأ بالتفكير في صعوبة كون الفأر كان عليه العمل

ليلة بعد أخرى ليجمع كل هذه الأشياء

بينما كان الناس في المنزل يغطون بالنوم،

وهذا يمنحني شعورا قويا،

إحساسا قوي جدا بشيء ما.

لكنني لا اعلم ان كان ثمة شخص آخر يشعر بذلك.

ربما كان ذلك انا فحسب.

ربما تلك طريقة قراءتي انا فحسب.

***

........................

بيلي كولينز: شاعر أميركي من مواليد مدینة نيويورك عام ١٩٤١ یتمیز شعره بكسر جمیع الأشكال والأوزان التقلیدیة فھو یكتب شعرا متحررا من جمیع القیود وله أیضا آراء حول الغموض في الشعر وتعقید الشكل الشعري وفي تأویل القصائد یعبر فیھا عن انحیازه إلى البساطة ووضوح التعبیر والشعر الذي یسھل فھمه معترضا على الشعر الذي یكتبه الشعراء لغیرھم من الشعراء ولیس لجمھور عریض من القراء. شغل كولينز منصب شاعر الولایات المتحدة بین عامي 2001- 2002 وخلال فترة إشغاله ھذا المنصب حرر كولینز مختارات شعریة بعنوان (شعر ١٨٠) تتألف من ١٨٠ قصیدة على عدد أیام السنة الدراسیة. وھي مجموعة یسعى كولینز من خلالھا إلى إیصال الشعر إلى أكبر عدد من طلاب المدارس وإشاعته بین المراھقین. نال كولينز جوائز عديدة على مجموعاته الشعرية وفيما يأتي بعض عناوينها: (قصائد فيديو) 1980؛ (التفاحة التي أدهشت باريس) 1988؛ (فن الغرق) 1995؛ (الإبحار وحيدا حول الغرفة) 2001؛ (تسعة خيول) 2002؛ و (المتاعب التي يثيرها الشعر وقصائد أخرى) 2005.

بقلم: سو ج. هونغ

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

 قبل ست عشرة سنة، جلست في كوخ خانق على متن زورق شراعي في ساغ هاربور وبيدي قلم وورقة للتملص من هدر الوقت مع زوج لا أحبه. لماذا أخبرك بذلك؟.

لأن الاعتراف، أيها الابن العزيز، بأنني لا أحبه، يساعد على تفسير أسباب وجودك حيث أنت الآن. الآن أنت في الطابق الثامن من مستشفى رينسيك للأمراض العصبية في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس UCLA. في الطابق الثامن المخصص لليائسين. لمن هم على شاكلة فرجينيا وولف. وهو الطابق الذي يصبح في الساعة 3:45 بعد الظهر مكانا لتجمع غرباء عصابيين ينتظرون فتح الباب. حينها نتواصل بعين زجاجية مرعوبة وحزينة، وهي من خصائص من لا يعلم، على وجه اليقين، من سيقابل عندما يكون في غرف الأعزة على قلبه. في الوقت المحدد يسمح لنا الموظف بالدخول، كل زائرين معا، بعضهم يحمل الشطائر. لم أفعل ذلك في أول يوم. والآن أتيت ومعي علكة البيرة، المسموح بها. وهو الطابق الذي تجلس فيه برداء المستشفى الأصفر، وتكتب باليد الواجبات المفروضة التي تصر أن أرسلها بالإيميل إلى أساتذتك، وهم على مبعدة ثلاثة آلاف ميل. وأنت تذرع المكان بخطوات إلى الأمام والخلف مثل فهد في القفص. وأحيانا ترتدي الثوب بدون القمصان طويلة الأكمام التي أتيتك بها، ويمكنني رؤية الوشم على ذراعك الأيسر. صليب القدس. شهقت حينما شاهدته أول مرة، عندما قابلتك في المطار الشهر الماضي، فقد لمع بشيء من التحدي أمامي، حاملا رسالة من الله إلى هذه الزاوية من العالم. لم أتكلم. هكذا تفعل الأمهات حينما لا تعرفن كيف تؤدين واجب الأمومة: ندفن كلماتنا في بطوننا. العديد من الأمهات، بعمري، يشتكين من هذه العقدة، ولكن هذا حقا نوع من التربية الأبوية بدون دليل للإرشادات.

أخبرتني أنك تعمل على تحسين خطك. وقلت: "خط يدي بالكتابة فظيع. لأنه لم يكن لدي مكان للجلوس والعمل باطمئنان. ولن أنجح بدون خط جيد. لماذا لم توفري لي بيتا يمكنني أن أعمل وأنعم فيه بسلام؟". 

قاطعته: "خطك ممتاز". ماذا يفترض بأم أن تقول وهي تتخبط داخل هذه الحلقات العبثية؟. فأنت تنطق بالهراء حين تقول أنك قلق على خطك بينما كل العالم الآن يطبع بإبهامه، ويملي على الهاتف، والذكاء الصناعي يتحكم بنا ويرتبنا كما يشاء. وبغضون جيلين أو ثلاثة ستختفي القدرة على الكتابة باليد، مثل أرقام الهواتف، لا أحد يحتفظ بها في ذاكرته. ولذلك عزمت أن أقول شيئا، لكن خرج من فمي عبارة "أنا آسفة لأنني خذلتك".

تقلصت عيناك اللوزيتان بشكل خط أسود، ووبختني بقولك: "لقد خذلتيني. بكل شيء. أيتها المرأة الغبية". ثم نهضت عن المقعد المستند على الجدار وأتيت نحوي، وقبضتاك مضمومتان. انتبهت لوزنك البالغ 210 أرطال، ولطولك وهو ستة أقدام، ولكنني لم أبارح مكاني على سريرك، لأنني أستطيع رؤية وجهي. حينما يمتعض نتيجة ما يوجد في دماغك حتى يسيطر عليك، يفضح وجهك نصف الآسيوي عرقه الغامض بوجنتيه المحمرتين وشفتيه الممتلئتين بعذوبة ساذجة. في داخلك لا يزال يوجد بقايا غايفين السابق المحب لأمه.

ما أن اقتربت مني، حتى هدأ وجهك، واختفى رقم 11 من بين حاجبيك، ووقفت قربي وهمست: "آه يا أمي". عيناك واسعتان، والحدقتان ممتلئتان ببريق يحيط بالأسفل. تراجعت للخلف نحو المقعد الذي قلبته وقلت: "حقيقة لا أريد الدواء. فهو يسممني". ثم جلست وأخذت قلمك الرصاص لتؤدي واجبك المنزلي.

لم يكن عندي ما أقدمه، وراقبتك ببساطة خلال ما تبقى من ساعة الزيارة، فأعلنت عن طلباتك من أجل اليوم القادم قائلا: "أحتاج لمزيد من الورق المسطّر. وأقلام أضافية. حينما لا أجد الرصاص لا يقدمون لي غير الأقلام الملونة. ولا أستطيع الكتابة بأقلام التلوين. وعليك أن تدخلي إلى حسابي وتخبري أساتذتي بالإيميل أنني في لوس أنجليس. هل اتصلت بهم؟. عليك أن تخبريهم أنني قادر على أداء العمل. وأن تخبري العميد أنني أتحسن أثناء عملي".

ثم سألت: "هل بوسعك طباعة شيء عن مرض الوسواس القهري؟". 

أضفت هذا لحالة القلق والكآبة العامة التي كانت تتحكم بك في صباك في المدرسة الثانوية. هكذا تتشكل شخصية جيلك. علاج نفسي. كوكتيل دواء نفسي. قال المقيم الموجود أنهم بحاجة لك لعدة أيام ليحددوا ماذا يفيدك للاستقرار، أسبوع كامل على الحافة لتعرف إذا كنت ترغب بالاستمرار في هذا العالم معنا.

جاءت الممرضة ودقت الباب. نهضت وتوجهت إلى الحمام. سألتك: "هل تعتقد أنه حان الوقت لتخبر والدك؟". والدك، الذي لم أكلمه منذ ست عشرة سنة. الذي يشترك معك بالجينات ولكنه لم يكن أكثر من شبح مر في حياتك. غسلت دورة المياه، وأويت إلى السرير، وأغلقت عينيك. عدت إلى الصالة، وركزت على همهمة نظام تنقية الهواء بانتظار المصعد ليحملني إلى شوارع قرية ويستوود والعودة إلى الناس الأحياء. دائما يلاحظ الناس مقدار شبهك بي. شعر أسود، عينان سوداوان، وجه مستدير، أنف مستقيم، ولكنها ملاحظات ممن لم يشاهد والدك، الذي، رغم انتمائه الأشكنازي، يحمل نفس المواصفات، باستثناء استدارة الوجه. فهو بخدين وذقن مدبب. وبعينين خضراوين. وأنت تعلم أنك نتيجة مثالية لاجتماعنا أنا ووالدك. ها أنا أخبرك يا غايفين، أحيانا تضع يدك على وركك، وأصابعك ممدودة بالمقلوب، وهذا ينقلني إلى أيام كنت أنظر فيها إليه بعدسات وردية. بعد العودة من وقت الزيارة، حضّرت نفسي لرحلة واشنطن العاصمة لاستعادة مقتنياتك وإعادتها من جورج تاون، إلى البيت، في لوس أنجليس. وحينما نقلناك قبل خمسة شهور من أجل عامك الجديد، حزمنا  الصناديق وشحناها بالبحر على مدى أسابيع من التخطيط والتفاؤل. والآن لدينا يومان لحزم أمتعتك، اشتريت كل اللوازم بواسطة أمازون: مضخة يدوية لسحب الهواء، حقيبة زرقاء مرنة من البلاستيك، شريط لاصق، وأقلام. دخلت إلى حسابك في المدرسة، ورفعت مقالتك من أجل سيمنار الكتابة الخاص بالعودة إلى المجتمع، وتفحصت بريدك الإلكتروني. وصلت رسالة نصية، ورأيت الفقاعة الخضراء تعبر الشاشة، وشعرت كأنني أراقب شخصا يتخلى عن ثيابه. كانت من شخص يدعى كيكو ومفادها: هل سأراك في الاجتماع؟. تتبعت بقية الرسائل وتفحصت رسائل الاجتماعات في الكنيسة. وما يتعلق بالآباء. والآباء الحقيقيين. وكلمات الشفرة عن كنيسة المونيين. وهنا توقف قلبي. فكرت بالأيام القاتمة من زواجي بوالدك. وهي أيام لم أتطرق لها مع أي إنسان. وكيف تقابلنا. وكيف انفصلنا. حتى لا يصدر الناس أحكامهم علي. بعد كشف المستور، لن يبقى سري مستورا. مع أنني كنت قد توقفت عن التواصل مع نفسي. ما هو حظي بإزالة الحرف القرمزي المعاصر الذي يبدأ بحرف 'م' ويدل على موني (أتباع كنيسة التوحيد التي أسسها سون مونغ مون - هامش). رغم مقاومتي. عدت بذاكرتي إلى اليوم الذي قابلت به والدك. حين ارتديت ثوبا أبيض من الدانتيلا، ماركة لورا أشلي، لأنه أبهى ثوب رأيته في مركز التسوق قبل سفري من نيويورك إلى سيؤول، حيث بدأت العمل لأول مرة بعد تخرجي من الجامعة. في ذلك البحر من الثياب البيض كالحلوى والبذات السود، كان ثوبي البري خارج مكانه. كان ضيقا ويسبب الحكة بدانتيلا رخيصة وبطانة أرخص، وهو ما كنت أفكر به حينما وضعوني أنا ووالدك معا في غرفة اجتماعات بدون نوافذ. قال بصوت عالي النبرة بقوامه الطويل والمنتفخ بالعضلات: "مرحبا يا سارة. يسعدني لقاؤك". برز من جيب صدارته منديله المنقوش بأول حرفين من اسمه ي. ي. وهما اختصار لإيريك إيزنشتاين - وذلك بخيط أزرق. ثم مد يده للمصافحة، ولكنني اقتربت لأعانقه. فقد كنا على وشك أن نكون زوجا وزوجة.

قال: "أخبرتني القس الأم أنك من لوس أنجليس. ولكن أصلك من كوريا".

"أنا أعيش في نيويورك الآن. وأنت من شاطئ بوسطن الشمالي؟ وتعمل في تجارة الصيد؟".

"على مشارف غلوشستر. والزورق لخالي. شقيق أمي. أمي مطلقة وتعيش مع زوجها الثاني وهو ليس والدي. ولا أعلم لماذا أخبرك بهذا. هل تعرف بوسطن؟".

"هناك بدأت بزيارة الكنيسة".

"هل كنت في حفل الحديقة قبل ثلاثة أيام؟".

قلت "كنت هناك". وبدأ وجهي يحمر، ولاحظت أنه كان جذابا. وكان صمتنا بمثابة تأكيد لاتحادنا. فهو قدرنا أيضا. قبض على يدي وتقدمنا في ممرات وأنفاق الإستاد، وانتهينا إلى حقل رتبونا فيه بطابور - عريس - عروس- عريس - عروس- بدقة وعاطفة. وكانت هناك خشبة وقف عليها الأم والأب بالعباءات والتيجان. كان الإستاد يفيض بالحب المنبعث من عشرات ألوف الأزواج، وشعرت أنني جزء من الكون. وهذا يعني أنه لي معنى. نظرت نحو يميني ورأيت والدك، وكان يمسح دمعة من خده. أصغينا إلى رسالة حبية من الأب الحقيقي تدعونا لإنقاذ الكوكب بالزواج بين الأعراق. وكانت رسالة الأب باللغة الكورية، ولكن كانت توجد في أرجاء الحقل لوحات تعرض رسائل المباركة والتهنئة، وكذلك أجهزة صوتية كانت تضخ في آذاننا عبر سماعات قدمت لنا حال وصولنا. ثم حان وقتنا للنطق بالقسم والعهد، وتلوناه بلغة إنكليزية: نحن إدارة Cheon Il Guk (عبارة كورية معناها: مملكة السماء الموحدة - هامش)، عائلتنا تتعهد بتكوين عائلة كونية تجمع السماء والأرض، وهو طريق الرب في الخلق. سنجعل العالم مثاليا، ونحقق الحرية والوحدة والسعادة، ونركز على الحب الحقيقي.

ثم تم الأمر. أصبحت أنا وأبوك عائلة. وأصبحنا شخصا واحدا.

كما قلت حينما سألتني، لماذا أنجبتك ما دمت أعلم أنني لن أبقى مع أبيك: ليس لدينا آلة زمن لإبطال ما حصل وانتهى. يمكنك إلغاء المستقبل، ولكن ليس الماضي. لم أدرك أنه حينما نطقت بتلك الكلمات سيأتي يوم ما وتجرب ما سلف وتختبره بقلبك.

حينما كنت في المدرسة الإبتدائية، اعتدت أنا وصديقات أمي، أن نلعب لعبة الإعراب عن مخاوفنا بما يتعلق بسلوك أبنائنا في سن المراهقة. همست جانين، أقرب صديقات أمي، ونحن ندخن سيجارة على طرف شرفة بيتها بينما كنت أنت ودانييل تلعبان لعبة وي في غرفة المعيشة: " طرد من المدرسة واتهم بالتحرش الجنسي". كانت تلك أفكارا مستحيلة، وكان الإقرار بها علنا مؤلما وحارقا. ونفذ في قلوبنا. لم يقلقني احتمال أن تحمل منك فتاة ما أو أن تستسلم للمخدرات، رغم سرعة نمو الأولاد في الطرف الغربي من لوس أنجليس. أشد ما خفت منه أن تعود إلينا من مدرستك وأنت مسيحي إيفانجيلي، متحمس ومتعصب بزي يدعي المحبة. وربما لهذا السبب اخترت أن نعيش في منطقة علمانية من لوس أنجليس، حيث يوجد كثير من اليهود المستنيرين، والبروتستانت غير المتشددين. سألتني وأنت في الصف السابع: "لماذا يحصل الجميع على نسخة من الوصايا mitzvah وليس أنا؟. ولماذا لا يمكننا عبادة الله بالطريقة التي يعبده بها الآخرون؟".

"لأننا لسنا كما نبدو".

"ولكن كنيتي هي إينشتاين. يربكني أن أضطر للاعتراف أنني لست يهوديا". 

"لماذا عليك أن تعترف؟ ومن طلب منك أن تفعل ذلك؟".

قلت لي وأنت تصفق باب غرفتك: "أنت لا تفهمين أي شيء".

في أيام المدرسة الابتدائية، تركز قلق والدينا على الطفرات البيولوجية - الجنس والمخدرات. وهي أشياء تقلق منها العائلات السليمة. وعلى مدى سنوات، كلما انضم لي المزيد من الآباء المطلقين، كانت بوصلة رعايتنا الأبوية تشير إلى أضرار تلحق بالعقل والنفس.

قالت جانين في الشهر التالي للشروع بالطلاق: "سيلومني حتى الأبد لأنني تخليت عن والده".

بعد عدة أسابيع انتقلوا إلى سانتا كلاريتا، في عطلة ربيع طلاب السنة الثانية، وقلت: "شكرا لأنك حرصت أن لا أنتقل خلال العام الدراسي. كان دانييل يبكي اليوم أثناء الغداء".

قالت جانين، ونحن في المطبخ أساعدها على حزم صناديقها: "شيء رائع أن تربي من تريد. بلا تنازلات. دائما كنت أحسدك على ذلك. من المؤكد أن الأم غير المتزوجة شيء مروع. اللعنة. هذا يترك فراغات. ويصعب الأمور".

وحينما مرت الكنيسة بحالات رحيل، عقد الأب مون صلاة ينعي فيها المصائب التي تحل بالعائلة الظالمة. وحدد كل شيء بالتفصيل - شجرة تسقط على البيت، حتى تسحق كل من فيها، مع إجهاضات تستمر لأجيال - كما لو أنه لا شيء يصيب فرعون ولا يمكن لمون أن يقوم به.

كان من السهل الرد على أسئلة والديّ. كانا ببساطة سعيدين لسماع أنباء زياراتي إلى الكنيسة، وأنني كسبت صداقات بعد عذاب فترة طويلة في أعقاب الهجرة من سيؤول. فكروا بهذا: ابنتهما تنفق معظم وقتها مع صديقات تفضلن الحياة بلا خطيئة، والعثور على شريك طيب، وبناء عائلة، ونشر السلام في العالم. وهو حلم أمريكي لا يسع والدا مهاجرة التفكير بأفضل منه.

ولكن قال أوسكار وايلد: الكوابيس هي أيضا أحلام. حينما بلغت العشرينات من عمرك، يا غايفين، اعتبرت أن الحياة الإشكالية هي حياة غريبة. وأثبت لك مرور الوقت أن الشر يبدأ من النوايا الطيبة، وأن تستمتع يعني تقبل الأجزاء غير الآمنة من الحزمة كلها. وخلال عطلة نهاية أسبوع واحد من شهر تشرين الأول، في السنة المتقدمة من الجامعة، تخليت عن عدة صديقات من أجل عائلة نشيطة اخترتها، واستحوذت على كل انتباهي ووقتي.

حينما اعترضوا طريقي، كنت عائدة من رعاية أطفال أستاذة في قسم الفلسفة. لا أذكر اسمها. لكن سألتني موني إذا كان بمقدورها مرافقتي في طريق العودة إلى الكامبوس. كان الوقت في أواخر ليلة الجمعة، وحينها كان معظم الطلبة ينفخون أنفاسهم بعد أسبوع من حفلات جماعية، وهناك رأيتها ترتدي قميص جامعة تافتس مثلي. ولكن كنت أبدو طالبة جامعة منهكة، في حين أنها متوهجة كأنها ربحت جائزة اليانصيب. أنفقت أفضل أيام حياتي في ساميرفيل، ولكن لم أندمج بحياة التسلية التي نعمت بها زميلاتي في الدراسة. لم أكن مستعدة لذلك. حرفيا لم يكن لدي نقود أنفقها على البيرة في لسيغو أو على أكوام من طلاء الشفاه التي وضعتها زميلتي الجديدة على طاولة تبرجها. كنت أحتفظ بعلبة نفايات معدنية حصلت عليها من مكتب المعونات المالية، وعمل يعين على تكاليف الدراسة، وعدة دولارات إضافية أدخرها من حساب رعاية الأطفال. قبلت دعوتها بسهولة، إلى حفلة، قالت إنها ستمنحنى الهدف والمتعة في الحياة. وكذلك لا تنشد التراتيل وهي حافية مثل جماعة الهير كريشنا حليقي الرؤوس الذين تراهم في المطارات في قاعة استرداد الحقائب. فقد كان رأسها أشقر وأجعد. وأخبرتني أنني بعد ذلك لن أفوت أي حفلة من هذا النوع. وصدق كلامها. لا يوجد نشاط يشبه حفلات الموني في حديقة بوسطن. وهي حديقة من الأيام التي تفوح فيها رائحة البيرة بكل الأرجاء، حتى في المقاعد الجانبية حيث جلسنا. كانت الموسيقا ناعمة، ووقف بوجهنا عمود منعنا من الرؤية. لم نهتم. حتى أنني تأثرت في أول حفلة، وتأرجحت مع كل أغنية، رفعت ذراعي وكتفي عاليا، وجعلت راحتي نحو الأعلى. تابعت على هذا المنوال لعدد من السنوات. وحينما كنت عازبة وبعد أن اقترنت بأبيك كرمت علي الكنيسة ببعض الأشياء، وأغلق بقية العالم أبوابه أمامي. تقدمت لمقابلات بحثا عن عمل مثلما يفعل الكبار، ورفضوني جميعا. ولكن حالما ذكرت في إحدى الصلوات أن صيد الوظائف أتعبني، تلقيت عرضا من فندق تابع للكنيسة في مانهاتن بنيويورك بعد أسبوع، وعملت في قسم المحاسبة لسنتين قبل حفل التبريك في سيؤول. بعد الزواج، انتقلت إلى بيفرلي، ماساشوستس، مع والدك لنعيش في شقة صغيرة قبالة محطة القطار. وعملت مع شركة ديكور في لويس وارف، وتابع هو الصيد بالزورق مع عمه. في أيام إبحارهم، كنت أقوده إلى غلوشستر، وكنا نتماسك بالأيدي في الميناء. أردت أن أخبره أنني أشتاق له، ولكن لم أحرجه أمام الطاقم. فقد مر على عاصفة أندريا عام فقط، وأي تردد يشبه تحريض القدر. ولأكون صادقة حقا، لم أكن متأكدة أنه سيعرب، مثلي، عن اشتياقه لي.

وخلال هذه الفترات، ارتبطت في رأسي ساعات أيام السبت بصوت البوابات في الشارع وهي تطرق وترن معلنة عن وصول القطار. أما أيام الأسبوع فقد غلفها الضباب وكانت عن رحلة بالقطار السريع إلى بوسطن للذهاب إلى العمل. كنت أشعر أن الحياة واقفة بمكانها، ولكن أوراق النباتات تغير لونها، ورائحة الخشب المحترق تنتشر في الهواء. ثم احتفلنا بأخبار عطلتك في عيد الميلاد، وبدأت بكل سرور أربط الأيام بمواعيدك المتوقعة. غاب والدك في البحر أطول فترة قبل وصولك في آب عام 2003 مباشرة. لا يمكنني أن أكذب. خارج هذا الأسبوع المنصرم كنت معك في المستشفى لرعاية حالة انتحار، وكان أسوأ وقت في حياتي، ولكننا كنا بحاجة للنقود. بعد أيام من عودتنا إلى البيت، خيم التعتيم على الشاطئ الشرقي. إذا نظرت إلى أعلى سترى أنه الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة. انزعج جيراننا، ولكننا أشعلنا في الشقة كل الشموع كأننا نحضّر لوليمة مسائية. نمت في المهد بجوار طاولة العشاء الصغيرة، وتناولنا خلال ذلك معظم ما لدينا في الثلاجة، حتى لا نرمي كل شيء في النفايات. ثم وضعناك بجوار السرير، لنراقبك طيلة الليل، وتماسكنا بالأيدي بكل قوتنا. ولم أهتم بقسوة وخشونة يدي والدك. كنت أرتاح لملمسهما في تلك الليلة.

سألته: "هل تعتقد أن غايفين يعرف مقدار أهميته عندنا؟".

"لا أعلم. ولكن أظن أنه يشعر بحبنا".

"أتمنى وجود طريقة تسمح لك بالانتظار معنا لفترة أطول".

"لا أرى أي فرصة لذلك. أنت تعلمين أن الأجور جيدة، وأعرف كيف أؤدي هذا العمل".

لم أرد فأبوك لا يتأثر بالكلام. مضى على زواجنا ثلاث سنوات، ولكنه بقي لغزا بالنسبة لي خلال أوقات وجوده في البحر وأوقات صمته. وأيضا لم أرغب بالإفصاح عما في رأسي: كيف ينتهي الحال بمتعلم في رابطة آيفي - ومتخصص بالرياضيات، على متن زورق للصيد؟.

لم تتوفر لي فرصة للسؤال. بعد شهر، قدمت الكنيسة لوالدك عملا في واشنطن العاصمة، بصفة مهندس صوفت وير في برنامج إعلامي أطلقوه حديثا. في أول عطلة عيد ميلاد، كان والدك يفوح برائحة التوابل لا السمك، وشعرت بنعومة يديه عندما قبضت عليهما في الكنيسة بإحكام. لبعض الوقت لم أتمكن من تخيل أي طريقة سواها للحياة. كلما فكرت بتلك السنة المنصرمة، بغض النظر عن الفصل، أرى أمامي مساحة رمادية، وأسمع صوت تساقط الثلج. كان لدينا شقة أكبر في الإسكندرية، وبعض النقود التي تعينني على الحياة في المنزل. فكرت أن حياتنا الجديدة ستكون مريحة، لكن المتعة التي انتظرتها لم تواتيني. وعزوت انغلاقه وفراغ حياتنا الزوجية للفترة الطويلة التي كان ينفقها في البحر. وشكلت الحياة في هذا المكان الجديد، وبظل غياب والدك، ومع أنه وجيز، انقطاعات يومية. فصمته وانفصالنا لم يكونا أعراضا عابرة ولكن حالة دائمة. وأسوأ شيء في كل ذلك أنني كنت أعلم ذلك. كل مساء، كنت أذرع الشقة بخطواتي وأنت بين ذراعي، حتى أسمع صوت مفاتيحه في الباب. وأي حوار كان ينتهي بسرعة، ثم أجهز العشاء وهو يستحم. بعد ذلك نأوي إلى السرير، ونشاهد التلفزيون قبل أن نغط بالنوم. في أمسية يوم من تموز ونحن نقترب من عيد ميلادك الثاني، وصلنا إلى موضوع عن المستقبل.

سأل والدك: "هل تعتقدين أنه آن الأوان لإنجاب ولد آخر؟".

"لا أظن أنني جاهزة".

"ومتى تكونين جاهزة؟".

لم يكن لدي رد.

سألني مجددا وهو يقلب محطات التلفزيون: "متى؟".

"لا أعلم. هل هكذا حقا تريد أن تتكلم عن موضوع من هذا النوع؟".

"ما هي الطريقة التي تودين الكلام بها؟".

"لا أعلم".

أغلق التلفزيون، ثم مصباح القراءة، قبل أن يدير ظهره لي. وتحول تنفسه الثقيل سريعا إلى شخير، وطمرتني ترددات صوته العالي.

بعد أسبوعين، أخذني والدك في رحلة مفاجئة. تركناك مع أمه، والتي جاءت لتعتني بك خلال إبحارنا إلى ساغ هاربور. كنت محتارة ولكن انتابني شعور مثل لحظة الدخول إلى حقل في سيؤول للحصول على التبريكات.

انطلقنا من ولمنغتون، بسيارة CS36 استعارها والدك من أحد أعضاء الكنيسة. كانت جميلة وغالية الثمن، وتصورت أنه يمكنها أن تستوعب ضعف طولي ست مرات، إذا استلقيت فيها من الرأس حتى أصابع القدمين، ومن طرف لطرف مقابل. استغرقنا ثلاثة أيام مريحة لنصل إلى نيويورك في جو من الرياح العاصفة. مررنا من تحت جسر بروكلين، وفكرت بالحياة التي يمكن أن أفوز بها في المدينة. لم أفكر بمثل ذلك منذ سنوات، ولكن في تلك اللحظة استحوذت علي.  لم نتوقع العواصف، لكن العبور من إيست ريفير كان قاسيا ونحن نمر بمحاذاة ريكيرز. وصلنا أمواج المياه الهادئة فارتخت قبضتاي وأصابع قدمي. وبعد وصولنا في خاتمة المطاف إلى ميناء جيفرسون، خيم الظلام، وحدقت بالشمس المائلة للغروب، ولاحظت على محيطها منارة كانت تدور وهي مشعة بحزمة من الضوء، مع أن ضوء الشمس لم يغرب تماما. كانت الليلة عاصفة يا غايفين. ارتفع الموج مرة بعد أخرى، وانتظرناه بعيدا، ثم هدير الماء، ووزن جسم والدك، الرائحة القوية في الكابينات خنقتني، ومنعت عني تقريبا نفسي الأخير. قلقت عليك ومما قد يحصل لك، إن لاقينا أي مكروه. هل ستربيك والدة أبيك؟. أم أمي؟. ماذا عن الكنيسة؟. شعرت أن الكنيسة مستعدة للعناية بك. لتثبت أمامنا قناعتها بعائلات من أمثالنا. أغلقت عيني، وصليت ليهدأ البحر في الصباح، ومع تقدم الليل، لاحظت أنني أنتظر الإنقاذ مما بعد العاصفة أيضا.  في الصباح التالي كانت المياه راكدة وبراقة مثل العشب بدون أي علامة تدل على ليلة أمس الهائجة. مع أول شعاع ضوء، سمعنا العدائين وراكبي الدراجات يمرون من جانب الماء لأداء واجبهم الصباحي. غادرنا باكرا لنبلغ ساغا هاربور في المساء. ولكن بعد عدة ساعات تشكلت عاصفة سحابية ووجدنا أنفسنا ننحرف عن مسارنا. أبحر بنا أبوك إلى ماتيتوك ليقرر هناك ماذا يفعل. ووجهني لأكون تحت السطح حتى بلغنا المياه الآمنة. نظرت من مقعدي في المقصورة نحو الأعلى، ورأيت السماء سوداء تقريبا ولكن لم نكن قرابة الغروب. قدنا المحرك ببطء على طول الطريق المائي، ثم توقفنا بموازة الضفة. كانت تمطر بغزارة حينما أصبحنا تحت السطح، وجلسنا في المقصورة، نستمع لسمفونية العاصفة الهائجة. بعد ساعات، حينما توقف المطر، ذهبنا إلى دكان في الشارع. ونحن هناك، خابرت جدتك لأطمئن عليك. قالت إنك تحلم. طلبت أن أكلمك، فأكدت لي أن أيقاظك لن يكون أمرا طيبا. توجهت إلى الباب، ثم استدرت وطلبت استعمال الهاتف ثانية. أردت مكالمة والدي. لأنني لم أكلمهما منذ عام على الأقل. بالنظر لتاريخ الزواج المدبر في كوريا، توقعت أن يسعدهما الخبر. ولكن قلقا مما اعتبراه زواجا قسريا. فقد قرآ المقال المنشور عن القس مون. والإشاعات عن الأخطاء المالية. وطقوس الجماعة. أمسكت أنفاسي. ولكن حينما سمعت صوت الوالدة تقول: "Yeobuseh-yo (ألو بالكورية - هامش)"، أطلقت سراح نحيب ثم انخرطت بالبكاء.

سألتني: "Wehgureh؟ لماذا أنت هكذا بالكورية - هامش".

"لأنني مشتاقة لك".

"وأنا أيضا. Sarah-ya . مر وقت طويل. هل أنت مرتاحة؟".

"ليس تماما. سأكلمك بعد العودة إلى البيت". وأغلقت الخط، ومسحت عيني، ثم خرجت إلى والدك.

عدنا إلى الزورق بصمت. ما أن اعتليناه، حتى قسمنا الشطائر، وفتحت زجاجة نبيذ، وجلست برفقة كتاب للقراءة. تناول والدك شطيرته وبيرته، وأشعل المذياع ليستمع لمباراة يلعبها فريق ميتس، وجلس بجواري. ثم مال علي ليطبع قبلة. شممت من شطيرته رائحة السالامي، فأمسكت أنفاسي، وأغلقت عيني، وشعرت بشفتيه على شفتي، ولسانه يحاول جاهدا أن يفتح فمي. أولا جاريته. وقلت لنفسي: إنه زوجي. ثم انغلقت. انسحبت ونظرت إليه. فتشت عيناه في عيني. في البداية اضطرب نظره، ثم أصبحت عيناه سوداوين بطريقة لم يسبق لي رؤيتها. بعد ذلك دفعني على المقعد، ومددني عليه، وأصبح كله فوقي. ثبتت يداه رسغي، وأصبحتا فوق رأسي. ووضع فمه على فمي ثانية، ولكن قاومته في هذه المرة: "كلا ليس هذا".

لم ينطق بكلمة وهو يفك أزرار سرواله، وينزع سروالي الداخلي. بعد دقائق قليلة، كان يقذف في داخلي وأنا أنظر إلى سقف المقصورة، وألاحظ الغبار على المصباح. لم أعول. ولم أتكلم. وتركته حتى ينتهي. في وقت لاحق من تلك الليلة حلمت أنني في حياة أخرى لن أكون على متن هذا القارب، وسأكون متحررة من ذنب الهجران والتخلي عنه. في الصباح، أبحرنا إلى ساغ هاربور بصمت ولم نتكلم عن ليلة الأمس. واتفقنا، بسبب التنبؤ بالمزيد من العواصف، أن نختصر رحلتنا، لأنه أفضل إجراء منطقي. كان الإبحار مستقيما حتى انعطفنا حول أورينت إلى غاردنيرز باي، حيث ماتت الرياح تماما. وشوتنا شمس ما بعد الظهيرة المتأخرة بلا رحمة. وعندما رسونا سأل والدك: "هل تريدين مرافقتي لتحري النادي؟".

قلت وأنا أهبط إلى مقصورتنا التي أصبح جوها كالساونا: "كلا". سمعت صوت خطوات والدك وهي تعلن عن خروجه من القارب. أنفقت الساعتين التاليتين أضع الخطط لهروبنا. من ما يجب حزمه الآن، حتى كيف أحجز تذكرة طائرة إلى لوس أنجليس. وهناك أعيش مع والديّ لحين توفير التكاليف الضرورية أو نوع الأعمال التي قد تسنح فرصتها لي. أيضا دونت تفاصيل الأمور التي طلبت مني الكنيسة القيام بها. وعالجنا المبالغ الملحة المفروضة على أعضاء الكنيسة المعوزين. والأوقات التي أنفقتها للعبور من فانويل هول، بحثا عن شابات أحثهن على الإقبال على الحياة، دون التفكير بمستقبلهن. كنا نصطاد النساء والرجال الوحيدين متسترين على ذلك بشعار زائف وهو الحب والسلام. كنا نخبرهم عن أعراسنا الجماعية - ومباركتنا- وحب العائلة "الحقيقية". ولم نذكر كلمة عن عزلتنا في العالم. أو أي شيء عن الأبنية والشركات التي كسبها الأب والأم مون بتبرعاتنا، فقد كنا مجرد أتباع للكنيسة. احتقنت عيناي واحمر خداي من الألم. كنت أعلم أن كل ذلك خطأ. بعد عدة ساعات عاد والدك. كان قد تناول العشاء في النادي وأحضر معه زجاجة ويسكي. ثم شربنا وبدأنا برقصتنا الأخيرة. كان الجو معتما مع شريط من هلال باهت. الماء هادئ. بلا رياح. أمكنني سماع ضجة غير مفهومة للناس الذين يتنقلون في البلدة من المطعم إلى البار. هؤلاء صيادو الأحلام في ليالي الصيف في البلدة الساحلية. كنت أذرع مقدمة الزورق وبيدي شرابي حينما قلت: "لقد فاض الكيل معي". وحينما شعرت بحركته قلت: "إياك أن تعطيني ظهرك".

اقتربت من مكان صوته، ولكن انزلقت قدمي على القفل الزجاجي لسقف المقصورة. ولأكون صادقة لا أعلم إذا شعرت حقا بالندم في تلك اللحظة، أو أنه شيء تراكم على مدى سنوات. لم أشاهد الحواف الحرة التي تعثرت بها وأنا أسقط نحو الشراع. وانتابني ألم مفاجئ في جبيني، ثم ارتفعت حرارة خدي. مددت ذراعي وأنا أتخبط نحو الجوانب وسقطت الزجاجة من يدي. وشعرت بزورق النجاة على فخذي الأيمن لدقيقة من الوقت. وآخر شيء رأيته كان ضوءا بعيدا توقعت أنه القمر. ولا أذكر سقوطي في الماء. استيقظت في المستشفى. كان أبوك هناك. توسلت له كي نغادر، ليتمكن من العودة إلى البحر. وأن يختار إذا أراد البقاء على اتصال معك. لم أكن لأمنعه، ولكن رفضت البقاء في الكنيسة. إذا أراد أن يبقى، عليه أن يبتعد عنك. وإن لم يوافق، سأفضح كل شيء عن الكنيسة أمام العالم. وسأسكب كل قطرة كيروسين أجدها وأضرم بها النار. أنا في المستشفى لإخراجك منه. وأنت ارتديت ثياب الخروج، وهم وضعوا هاتفك ومحفظتك في كيس بلاستيكي أحمر سوف تحمله معك في طريقك إلى الشارع. في السيارة سألت: "ماما، هل تتذكرين الأرنب المخملي؟".

"أتذكر. القصة رائعة. لماذا تسأل؟".

"كلا. أجدها مأساوية. الأرنوب أصبح حقيقة لأن الصبي أحبه، ثم تخلى عنه بعد أن لازمه خلال الوباء. هل تعتقدين أن والدي تخلص مني؟".

لم أعرف ماذا أقول.

"إذا اغتنم الفرصة ليراني حينما كنت في المدرسة، ربما اختلفت الأمور. دائما كنت أعتقد أنه سيأتي ليقابلني. وهذا هو سبب ذهابي إلى جورج تاون. مثل الولد الذي وجد نفسه، في خاتمة المطاف، في الحقل مع الأرنوب وكأنه أرنب حقيقي".

ونحن في طريقنا إلى البيت، قدنا السيارة على طول هيل غارد وبعد عدة شوارع من سان سيت وجدنا حفنة من طلاب جامعة كاليفورنيا لوس أنجليس UCLA متوجهين إلى صلاة منتصف اليوم في سانت ألبانس. طلبت أن نتوقف، وبعد أن توقفنا تبعتك، غير متيقنة مما تخطط له. دخلنا مع بداية الصلاة، وجلسنا في الخلف. كنت متيقظة ولاحظت أننا متداخلين وبوضوح، ولكنني فقدت نفسي في الطقوس وتبعتك لطقس المناولة. وعوضا عن الركوع أمام الطاولة، اتجهت يسارا لتقف مع قسيسة وحيدة.

سألت: "هل أنت هنا للتبريك؟".

"لي ولأمي".

وضعت يديها على كتفيك وقالت: "أبتي، حبك الغامر يعيش فينا جميعا. هذا الولد طاهر. وأمه طاهرة. وهما على ما هما عليه. وهما كما خلقتهما. أعنهما على مواجهة تحديات العالم. امنحهما القوة خلال خيبات الأمل، والحكمة في التعامل مع السعادة حينما تسنح لهما. أرشدهما لاكتشاف السلام في داخلهما مهما امتنع عنهما أحيانا. من قلبك الواسع، امنحهما حبا يغفر لهما ولغيرهما. ولتساعدهما على اكتشاف طريق الخروج من الظلام والاقتراب من الخير. نحن نصلي طالبين تبريكاتك، الآن ودائما. آمين".

حالما عدنا إلى مقاعدنا، تساءلت كم مرة كررت القسيسة تلك التبريكات بالضبط، وإذا ما كان لديها طفل يلومها على أمور ذهبت باتجاه خاطئ في حياتهما. وإذا ما منحت طفلها الإذن للإيمان بإله ناقص، وأن يشتاق لأب ليس كما يبدو عليه. في تلك اللحظة، شعرت بالغضب على القس مون وتحطيمه لفرصتنا بحياة وادعة. ولكن فكرت أيضا بيدي وهي تضع بذرة في الأرض. أنا أم وحارسة لإيمانك الأعمى. وأنا أؤمن بأب يضحي في سبيل أولاده. أب جاهز لأي شيء. يوجد كتاب عن الطلاق يناقش الاستعداد للقيام بأي شيء للاحتفاظ برعاية الأبناء. وغالبا يدعي الناس أنهم جاهزون لأي شيء، ولكن أي شيء غالبا ما يكون أبعد بكثير مما يتوقعه أي إنسان. خلال الصلاة رأيت أن هذا هو أي شيء بالنسبة لي: أن أحبك حينما لا تكون قادرا على مبادلتي الحب. في النهاية قبضت على يدي ونحن نسير إلى موقف السيارات. الشمس تلمع، والعصافير تطير فوق الرؤوس كما لو أنه يوم ربيعي آخر.

***

...........................

سو ج. هونغ  Soo J. Hong مولودة في سيؤول. تلقت علومها في الولايات المتحدة.

 

بقلم: سينثيا رايلانت

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان الجميع في جلين مورجان يعلمون أن هناك خنزيرًا بريًا في الغابة المجاورة لمزرعة ميلر. كان الخنزير خارج السياج الحديدي المتناثر وخلف سيارة دودج السوداء القديمة التي انتهى بها المطاف بطريقة ما في الغابة حيث فقدت معظم أجزائها وأصبحت مجرد هيكل مهدم.

كانت جيني تعلق ذقنها فوق السياج العلوي، وتدير شفرة طويلة من العشب الأخضر بين أسنانها وتهمس، "خنزير بري هناك". وكانت هناك أوقات كانت متأكدة من أنها سمعته. كانت تتخيله يركض بثقل بين الأشجار، متجاهلًا الأشواك الحادة والأشجار المتشابكة التي كانت تخدش ظهره، فيقفز مبتعدًا وهو يرتعش.

ظنّت أنه ربما يكون له قرن ذهبي يتوج رأسه المخيف. كان الخنزير البري يندفع عميقًا في أعماق الغابة، ثم يقفز على حوافره الخلفية، ويرفع رأسه نحو السماء ويطلق نغمة طويلة، واضحة، وثابتة في الهواء. كانت النغمة تنساب عبر الليل كأنها سهم يخترق قلب القمر. لم يكن الخنزير يهاب القمر، كما كانت جيني تدرك، بينما كانت مستلقية في سريرها، تصغي لصوت الليل.

في أحد أيام الصيف الحارة، ذهبت للبحث عن الخنزير. لم يسبق لأحد في جلين مورجان أن تجاوز سيارة دودج السوداء القديمة وما بعدها، على حد علمها. لكن الخنزير كان هناك في مكان ما، بين تلك الأشجار الرهيبة، وكانت عيناه الخضراوتان الداكنتان تنتظران شخصًا ما.

شعرت جيني أنها هذا الشخص.

كانت جيني تتحرك ببطء فوق أوراق الشجر البنية الرطبة، وشعرت بأذنيها ترفرفان وتنتفضان بينما تستمع لأنفاس ثقيلة قادمة من بين الأشجار. توقفت لالتقاط ورقة من شجر الشاي لمضغها، وقفت دقيقة، ثم استأنفت مسيرتها.

في أعماق الغابة، أبقت عينيها مرفوعتين نحو السماء. كانت بحاجة إلى تذكير نفسها بوجود عالم آخر فوقها، عالم يفصلها عن الأشجار—عالم من الفضاء والهواء، هواء لا يلتصق بها ولا يغمر جسدها كما يفعل هواء الغابة الذي يضغط في كل زاوية من روحها.

أخيرًا، استندت إلى شجرة لتستريح، وعندما فعلت، سمعت صوته لأول مرة. نسيت أن تتنفس، وهي واقفة هناك، تستمع إلى وقع الحوافر، فتكتل الحلق في حشرجة، ثم سعلت. سعلت!

وكان الآن الصوت المدويّ مرعبًا، عالياً لدرجة أنه أفقدها القدرة على التمييز. مرعب. وقفت هناك، جسدها جامد، وعيناها غارقتين في الدموع، وعرفت أنها تستطيع أن تدعو، لكن لسبب ما، لم تفعل.

اندفع عبر الأشجار بسرعة مذهلة، حتى أنها لم تجد الوقت الكافي لتصرخ أو تهرب. وكان هناك أمامها في لحظة.

اهتز جسده الكبير الداكن اللون وهو يقف منتظرًا خلف ظل الشجرة التي كانت جيني تعتمد عليها. كانت فتحات أنفه تلمع، وعيناه تراقبانها، لكنه، بطريقة مذهلة، ظل صامتًا. اهتز وتلألأ، ولكنه بقي هادئًا تمامًا، في صمت عميق.

تماهت جيني مع صمته، وجسدها جامد كالحجر، ولكن عيناها كانت تشع بالحياة. جالت ببصرها على ظهره المشوه، المغطى بالأشواك، ثم توقفت عند ساقيه الخلفيتين العريضتين. انهمرت دموعها بغزارة على وجهها، بينما كانت تحدق في أذني الخنزير الممزقتين، الملطختين بالدماء. تساقطت دموعها على الأوراق، وكان الصوت الوحيد الذي يملأ المكان هو أنفاسه الثقيلة والبطيئة.

ثم حرك الخنزير أنفه فجأة، لكن جيني بقيت ثابتة دون أن تتحرك.

من بين الأشجار، صاح عصفور الزرزور عالياً، وفجأة، انتهى كل شيء. وقفت جيني كالتمثال، بينما دَار الخنزير برأسه في خوف شديد، ثم انطلق فجأة متفادياً إياها، مسرعاً في رعب.

مُرَّ بجانبها...

ومنذ ذلك الصيف، لا تزال جيني تضع ذقنها على السور الخشبي القديم، ولا تزال تهمس، "الخنزير هناك". لكن عندما تميل على السور، وتنظر إلى الأشجار، تكون عيناها مليئتين بالدموع، وتترك بقعًا مبللة على الخشب المتشقق. هي آسفة لأذني الخنزير الممزقتين وآسفة لأنه ليس له قرن ذهبي.

لكنها بعد كل ذلك تشعر بالأسف لأنه يعيش في خوف من الطيور الزرقاء والفتيات الصغيرات، في حين أن الجميع في جلين مورجان يعيشون في خوف منه.

(تمت)

***

...................

الكاتبة: سينثيا رايلانت/ Cynthia Rylandt (ولدت في 6 يونيو 1954) هي كاتبة وأمينة مكتبة أمريكية. كتبت أكثر من 100 كتاب للأطفال، بما في ذلك أعمال خيالية (كتب مصورة، قصص قصيرة وروايات)، غير خيالية، وشعر. فاز عدد من كتبها بجوائز، بما في ذلك روايتها مايف المفقودة التي فازت بميدالية نيوبييري لعام 1993، وغبار أبيض نقي التي كانت من بين الكتب الفائزة بشرف نيوبييري في عام 1987.

وُلدت سينثيا رايلانت في مدينة هوبويل بولاية فيرجينيا في يونيو 1954. انفصل والداها عندما كانت في سن صغيرة، ولذلك نشأت سينثيا تحت رعاية والدتها وأجدادها. كانت علاقتها بوالدها ضعيفة جدًا، وتوفي وهو في سن الثالثة عشرة. في سيرتها الذاتية "لكنني سأعود مرة أخرى"، تصف سينثيا فقدان والدها كأحد الأسباب التي ألهمتها لبدء الكتابة.

تكتب سينثيا عن طفولتها والتجارب التي خاضتها أثناء نشأتها في جبال ولاية فرجينيا الغربية وأوهايو. كثيرًا ما تتضمن كتبها شخصيات وأحداث مستوحاة من أشخاص وتجارب حقيقية في حياتها. بدأت سينثيا الكتابة لأول مرة أثناء دراستها في الكلية عندما التحقت بدورة في اللغة الإنجليزية. كانت قد قرأت الكتب المصورة وروايات الرومانسية قبل دخولها الكلية، لكنها لم تكن قد فكرت في الكتابة من قبل. في ذلك الوقت، كانت تعمل في قسم الأطفال بالمكتبة العامة. لم تكن المناطق التي نشأت فيها تحتوي على مكتبات عامة أو متاجر لبيع الكتب، لذلك كانت هذه تجربة جديدة بالنسبة لها. تأثرت سينثيا بالكاتب جيمس آجي، وقررت كتابة أول كتاب لها، "عندما كنت صغيرة في الجبال"، الذي يعكس حياتها كطفلة نشأت في فرجينيا الغربية. كما أن سينثيا تحب القطط والكلاب، ولذلك غالبًا ما تكتب عن حيواناتها الأليفة في كتبها. كما تستمتع بأن يشارك شخصيات كتبها في الأنشطة التي تحبها شخصيًا.

درست سينثيا رايلانت في كلية موريس هارفي وتخرجت عام 1975. وبعد حصولها على أول شهادة لها، عادت إلى الدراسة للحصول على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة مارشال ودرجة الماجستير في علوم المكتبات من جامعة كنت.

 

بقلم: كارول آن دَفي

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

تعليم لتمضية الوقت

اليوم سأقتل شيئا. أي شيء.

لقد طفح الكيل بي بسبب تجاهلهم

واليوم سألعب دور الرب. انه يوم اعتيادي،

رمادي نوعا ما يشوبه ملل في الشوارع.

*

اسحق ذبابة على الشباك بإبهامي.

قرأنا ذلك في المدرسة. شكسبير.

كان ذلك بلغة اخرى والآن الذبابة بلغة اخرى.

انفخ موهبتي على القدح لأكتب اسمي.

*

انا عبقري. يمكنني ان اكون اي شيء على الاطلاق،

بنصف الفرصة المتاحة. ولكن اليوم سأقوم بتغيير العالم.

عالم شيء مّا. القطة تتجنبني.

القطة تعلم انني عبقري، وقد خبأت نفسها.

*

اسكب السمكة الذهبية في المرحاض. اسحب السلسلة.

ارى ان في ذلك خيرا. الببغاء مذعورة.

مرة كل اسبوعين، اسير مسافة الميلين نحو البلدة

لأوقع على الاعانة المالية. انهم لا يقدّرون توقيعي.

*

لم يبق شيء لأقتله. اتصل بالإذاعة

واقول للمتحدث إنك تتحدث الى نجم كبير.

يقطع الخط. اتناول سكين المطبخ واخرج.

الأرصفة تتلألأ فجأة. ألمس ذراعك.

***

....................

كارول آن دَفي: شاعرة وكاتبة مسرح اسكتلندية من مواليد غلاسكو للعام 1955 نشرت أول مجموعة شعرية بعنوان (الوقوف أنثى عارية) عام 1985 تلتها عدة مجموعات منها (اصوات مرمية) 1985؛ (البلد الآخر)1990؛ و(زوجة العالم) عام 1999 . نالت العديد من الجوائز الأدبية أبرزها جائزة ت. س. اليوت للشعر كما منحت وسام الإمبراطورية مرتين. شغلت منصب شاعر البلاط البريطاني للأعوام 2009-2019. (قتل الذبابة في القصيدة فيه إحالة الى مسرحية شكسبير "الملك لير" وتحديدا للبيتين الآتيين: "مثل الذباب عند الأولاد العابثين نحن عند الآلهة./ يقتلوننا من اجل المتعة." وقوله "أرى ان في ذلك خيرا" ترديد لكلمات الرب حين خلق العالم، كما ترد في سفر التكوين.)

بقلم: كاثرين فولكمر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

- شكراً لانتظارك. اسمي جيمي. كيف يمكنني مساعدتك اليوم؟

- هل تعرف ذلك الشيء عن أسماك القرش، كيف يمكنها شم قطرة دم من على بعد أميال؟ لدي حالة جلدية تجعلني أخدش جسدي كثيرًا. هل يمكنك أن تضمن لي أنني سأكون بأمان في المياه قبالة جزيرة ميكونوس؟

- هل تدرك أن ميكونوس تقع في اليونان يا سيدي؟

- هل تحاول أن تخبرني أنه لا توجد أسماك قرش في البحر الأبيض المتوسط؟

بدأ أحمر الشفاه بالتشقق عند زوايا فم جيمي. أحمر الشفاه الأحمر الرخيص الذي أراد أن يراه حبيبه. كان قد سرقه من أحد الصناديق الصغيرة العديدة في غرفة نوم والدته في الليلة السابقة، عندما عاد إلى المنزل من العمل ليجدها نائمة. والدته، السنيورا. الأرملة الأكثر ترملًا من بين كل الأرامل. السيدة الإيطالية ذات اللقب الذي لا يمكن نطقه: بيفيل أكوا. نائمة معظم حياتها، تخشى الألوان خارج غرفة نومها، واقعة في حب حزنها الأبدي – حياة مخفية تحت الغبار وفتات التعاطف غير المرغوب فيه. مأساة لا جمهور لها سوى ابنها. دراما ضاعت في بلد جديد لن يكون أبدًا أكثر من حلمها غير المكتمل.

- ماذا عن أسماك القرش إذن؟

- هل تعتقد أن لون دمك هو نفس لون أحمر شفاهي؟

- عفوًا؟

- أنا فقط أحاول أن أتخيل المشهد. أنت وبشرتك المخدوشة، والبحر الأزرق العميق، والشرير ذو الأسنان المخيفة. هل كنت تفكر في القرش الأبيض الكبير؟

- هل فقدت عقلك؟

- أنا مجرد شخص بصري للغاية، وبما أننا تدربنا على أخذ مخاوف عملائنا على محمل الجد، أريد أن أرى ما تراه. أين تحديدًا تميل إلى الخدش؟ ألا تعتقد أنه من المحتمل أن يكون هذا هو المكان الذي سيهاجم فيه القرش أولًا؟

- يا أيها المجنون اللعين.

بعد أن اختفى الصوت، تخيل جيمي سحابة من الدم تتدفق من طرف جسد في منتصف العمر تم قطعه، مع أجزاء من اللحم وزوج من سراويل السباحة الفاخرة متعددة الألوان تطفو حولها. صيحات تحت الماء خنقتها عنف البحر. فجأة، شعر بالحسد من القرش لحريته في تحقيق رغباته، وقرر أن يحذو حذو الحيوان ويكتم صوت هاتفه، على الرغم من أن الساعة الأولى من ورديته لم تنته بعد. على الرغم من أن قواعد مركز الاتصال لا تسمح له بالنهوض ليحدق في نفسه في المرآة لدقيقة، أو ليبكي في سرواله الذي لم يزرر على أحد مقاعد المرحاض المهتزة. لكن جيمي لم يكترث، لأنه أراد لهذا اليوم أن يكون يومًا مختلفًا. يومًا هادئًا. مثل درجة خفيفة من اللون الوردي. يومًا بلا أذى.

حاول أن يمرّ بسرعة من أمام صفوف مكاتب العمل التي لا نهاية لها، والتي تخصّ الفرق الأخرى في طابقه. تجمّعات من محطّات فضائية دائرية صغيرة تمثّل المنتجات المختلفة التي يمكن للأشخاص طلبها من مسافة مريحة، مثل: صناديق الخضروات وطعام الكلاب والمراتب والمناديل الورقية. أو في حالة جيمي: العطلات. وكان انتماء كل مجموعة واضحا ومميزا من خلال لافتة كرتونية رخيصة تحمل اسم الشركة وشعارها تطفو فوق الموظفين. معلقة بخيوط غير مرئية، كانت هذه اللافتات تلوح في الأفق مثل تهديد دائم، جزء من جهاز كان على استعداد لأن ينهار على أولئك الذين يُضبطون وهم غير منتجين أو غير مفيدين. يمكن التعرف على أعضاء الفريق من خلال عنصر الهوية المؤسسية الوحيد الخاص بهم، وهو القلانس المختلفة التي كان عليهم ارتداؤها، باستثناء قادة الفرق والمديرين ، الذين سُمح لهم بالتمتع براحة الحياة المدنية بينما بدا الجميع وشعروا كانهم مثل شخصية تليتابي. ذكّرته هذه السترات ذات القلنسوة بالخراف التي يقوم أصحابها بوضع علامات على صوفها بألوان زاهية. وبينما كان يمرّ بجانب زملائه الآن، تعرّف على بعض الوجوه، لكن معظمهم كانوا جددًا وغير معروفين، على الرغم من أنه أمضى بالفعل ما يقرب من عام في العمل في شركة "فانيلا ترافلز المحدودة".

على الأقل، لم يكن يعمل في الطابق السفلي المخصص للمكالمات الصادرة، حيث كان سيُجبَر على بذل آخر ما لديه من طاقة لإجراء مكالمات عشوائية، أو في أحد مراكز الاتصال الأكثر بؤسًا في الخارج. على الأقل، زبائنه كانوا بحاجة إليه، حتى لو كان ذلك مجرد اعتماد عابر، ولذلك لم يكن يتعرّض للإهانات والدوس باستمرار مثل كائن صُنِّف على أنه آفة. ومع ذلك، كان لا يزال جزءًا من وفرة لا تنتهي، مجموعة من العظام التي ليس لها الحق في طلب الكرامة، وصوت شخص غير مرئي خارج هذه الجدران. وبقدر ما كان يعجبه أحيانًا فكرة التخلّص من هذا الجسد، كان يعلم أن الوقت ربما قد حان ليكون شجاعًا ويواجه عالمًا ستكون فيه منحنياته   الممتلئة حقيقة مرة أخرى.

على الأقل، لم يكن يعمل في الطابق الأسفل المخصص للمكالمات الصادرة، حيث كان سيُجبَر على بذل آخر ما لديه من طاقة لإجراء مكالمات عشوائية، أو في أحد مراكز الاتصال الأكثر بؤسًا في الخارج. على الأقل، زبائنه كانوا بحاجة إليه، حتى لو كان ذلك مجرد اعتماد عابر، ولذلك لم يكن يتعرّض للإهانات والدوس باستمرار مثل كائن صُنِّف على أنه آفة. ومع ذلك، كان لا يزال جزءًا من وفرة لا تنتهي، مجموعة من العظام التي ليس لها الحق في طلب الكرامة، وصوت شخص غير مرئي خارج هذه الجدران. وعلى الرغم أنه أحب أحياناً فكرة التحرر من هذا الجسد، إلا أنه أدرك أن الوقت قد حان ربما ليكون شجاعاً ويواجه عالماً ستكون فيه منحنيات جسده البدينة حقيقةً لا مفر منها مرة أخرى.

أغلق جيمي باب المرحاض خلفه، وتذكّر أنه وافق على قضاء استراحته الطويلة اليوم مع إيلين، صديقته السويدية من فريق الحجوزات، التي تحلم بإنشاء حضانة أطفال في الهواء الطلق داخل الغابة كانت إيلين دائمًا تبدو وكأنّها تضع "مؤخّرة قطّة" على وجهها، شفتاها مشدودتان، كما لو أنها حاولت التلذّذ بكيس من الليمون. وبغضّ النظر عن عدم وجود أي حياة برّية حقيقية في لندن، لم يكن جيمي يتخيّل أبدًا ترك الأطفال في رعايتها.  على الأرجح سيعود الأطفال كغرباء غابات صغار بوجوه تغطّيها لحى سابقة لأوانها، مثل أقزام حديقة شريرة يرفضون الغناء والرقص. ربما كانت هذه تقنية سويدية خاصة للبقاء: لا حاجة للبهجة عندما تكون وحيدًا في تلك الغابات التي لا نهاية لها المليئة بالحياة الرغيدة والمناسبة لـ "الأيائل" أو "الظباء"؟ لم يكن لدى جيمي أي فكرة عن الفرق بينهما. كانت إيلين قد عرضت عليه صورة ذات مرة، وتلك الأجسام الضخمة على سيقان نحيلة ذكّرته بجدّته وكيف كانت تدفع جسدها الثقيل عبر الحياة كعربة تسوق. لا بد أن جيناتها هي التي جعلته يبدو هكذا.

كان جيمي يحاول أن يصل بوجهه إلى الفراغ بين ساقيه، فتمكّن من تجنّب النظر إلى اللون البرتقالي الباهت الذي كان من المفترض أن يضفي لمسة إنسانية على مقصورة المرحاض بسطوحها الزائفة، هذا "الصالون" الخاص بموظف المكتب العصري. على عكس اللون الرمادي، كان اللون البرتقالي واثقًا جدًا من قبحه، مما جعله يشعر بالغيرة قليلاً، كما لو أنه من الممكن أن تكون جريئًا إلى هذا الحد بشأن عيوبك.

ندم على ما شهده هذا المكان. كيف احتفلت هذه الجدران الرقيقة بهزيمته. بينما كانت ملابسه الداخلية لا تزال نظيفة، استطاع أن يشمّ رائحة جسده، رائحة منزله ومسحوق غسيله - وهو تذكير بأنه لا يزال على قيد الحياة - بينما كان يحاول أن يتذكّر آخر محادثة له مع إيلين، في وقت سابق من هذا الأسبوع. كانت تأكل مكرونة"نودلز بوت" نباتية، والتي كانت دائمًا ما تجعله يشعر بالغثيان. كان متأكدًا أنه لو لم يُجبر على مغادرة إيطاليا، لما كان ليتعرّض أبدًا لمثل هذا الاعتداء على الذوق. حتى الآن، بينما كان يحاول دفن رأسه في حضنه، وبطنه يمنعه من اتخاذ وضعية أنيقة، كان يمكنه رؤية إيلين وهي تحشو تلك الديدان الزلقة في فمها الصغير الذي يشبه "مؤخرة القطة" والمغطّى بأحمر شفاه فاقع.

- مع من تحاولين أن تمارسي الجنس؟

- ماذا؟

- أحمر شفاهك. هل لديك خطط؟ أم أنك قلقة من أن زبائننا يستطيعون رؤيتك عبر الهاتف وسيحجزون عطلة فقط إذا كان هناك بعض الإثارة البصرية؟

تظاهر جيمي بأنه يختنق بقضيب حتى جعلها تحمر خجلاً.

- اغرب عن وجهي يا جيمي. لكن إذا كان لا بد أن تعرف، نعم، أنا ذاهبة في موعد غرامي.

- هل هو الفتى من فريق الخضروات؟

بينما ينظر إليها، كان يتساءل غالبًا عما إذا كانت حشوات التجميل، مثل تلك التي حقنتها هيلينا بنجاح في وجهها، قد تساعد في تخفيف مشكلة شفتيها غير الجذابتين، لكنه استنتج أنه في النهاية حتى مؤخرة قطة حقيقية ستكون على الأرجح أكثر جاذبية.

-  لقد ذهبت في موعد واحد معه فقط يا جيمي.

-  أتخيل أنه كان من الصعب الوصول إلى الذروة مع مناقشة الفوائد البيئية للخضروات الجذرية.

- مضحك جدًا.

- هل هو شخص من فريق ورق المرحاض هذه المرة؟ ربما ستتعلّمين كيف "تقذفين" على نعومة ورقتين برائحة الخوخ.

-  لا، وقبل أن تبدأ في تخيّل الناس من فريق طعام الكلاب، إنه في الواقع سيمون. نحن ذاهبان لتناول مشروب بعد ورديتنا.

- مشرفنا؟ الفتى الأشقر الغاضب؟

- اصمت. ومن الأفضل ألا تخبر دانيال بالأمر.

- أرجوك لا تخبريني أنه يقوم بأحد إعلانات جرانولا بار الرهيبة تلك مرة أخرى!

- لا تتظاهر بأنك لا تعرف.

عادة ما كانت القيلولة تتدفق في عروق جيمي مثل فقاعات من الراحة والبهجة، ولكن هذه المرة، بينما بدأت كلمات إيلين تكشف عن معناها الحقيقي، رفض قلبه أن يستقر.

- هل تقصدين أنهم جعلوا دانيال قائد فريق الآن بعد أن غادر ستيوارت؟

- صحيح. اعتبارًا من يوم الجمعة هذا، لن يضطر معشوقك إلى ارتداء سترة صفراء ذات قلنسوة بعد الآن.

فجأة، شعر جيمي بالدونية حتى أمام فم إيلين الصغير الذي يشبه "مؤخرة القطة"، مما قضى على أي إمكانات جنسية كان يجدها في شفتيه الممتلئتين. لماذا لم يخبره دانيال بهذا؟ لماذا جعله يجلس في هذا المطبخ المثير للشفقة مع إيلين، يبدوان وكأنهما خاسران ضائعان فرصتهما الوحيدة في الحياة هي ممارسة الجنس مع المسؤولين؟

كان الأمر كما لو أن الأمور مع دانيال أصبحت الآن شيئاً يُخجل منه، وكأن كبرياءه قد مُسَّت في المكان الخطأ. ثم تخيّل أحمر شفاه إيلين الفاقع على قضيب سيمون ، واختلطت كل الألوان في ذهنه. متى تعلّمت أن تلعب بكل تلك الحياة تحت جلدها؟  كيف وجدت الثقة لمنح المتعة، بينما كان هو يشعر أنه محاصر في عدم الارتياح والشوق؟

الآن، وبينما كان يستمع إلى محطة الراديو ذات الموسيقى الهادئة التي تملأ جميع المناطق خارج قسم مركز الاتصال، وكأنها "خلية تعذيب أمريكية"، شعر جيمي بأن جسده يتفاعل مع غياب الصمت. أحسّ أن أنسجته تفقد مقاومتها وهو يحاول فهم كيف يمكن للأعصاب أن تكون غادرة إلى هذا الحدّ، لتمرّر معلومات كان من السهل عليه أن يعيش بدونها. كيف كانت مستعدة للرقص بينما كان هو يحاول أن يكبح نفسه. كيف كانت ستشي به عندما داس على دبور في حديقة والدته وهو طفل، لتسمح للألم بالوصول إلى عقله وأخيرًا إلى عينيه. إذا كان الألم ليس سوى نتيجة للتواصل الناجح في مكان ما في دماغه، فلماذا لا يمكن للمخفي أن يبقى في الظلام؟ لماذا لم يكن كافيًا أن ينزف من الجروح التي يمكن للأصابع أن تشفيها؟ حتى الآن، عندما كان من المفترض أن يكون في مكتبه في الزاوية، يتعامل مع رسائله الإلكترونية ومكالماته اليومية - وهي تذمّرات أناس على خلاف مع نزعاتهم نحو المتعة، وإجازات أصبحت غير ممتعة بسبب توقعاتهم - لماذا فجأة شعرت الحياة وكأنه قد داس مرة أخرى على غضب كائن يحتضر؟

- جيمي. هل أنت في الداخل؟ أنا سيمون.

بالطبع هو سيمون. بطبيعته المعادية لكل ما هو غير مشروع، كان سايمون يشن غارة على آخر بقعة خصوصية لهم، يتوقع المتعة حيث لا يريد سوى رؤية الجهد. كان دائمًا مستعدًا لأن يركع على ركبتيه ليحصي عدد الأرجل في المقصورة، وكان جيمي يكره الشعور بالذنب الذي انتابه بسبب ذلك. كما لو أن جسده يحتاج مساحة كبيرة جدًا، كما لو أن من حق سايمون أن يتفحص رغباته. وهو حتى لم يكن لديه ماء بارد لتبريد عينيه. لماذا لا تحتوي هذه المقصورات الملعونة على حوض، ومرآة، وقليل من الرفاهية التي يقرأ عنها طوال اليوم في أوصاف الفنادق؟

- أنا آسف. سأخرج في دقيقة.

- أنت تعرف أن عليك أن تستأذن مني أولاً قبل أن تأخذ استراحة، أليس كذلك؟ الطابق  مزدحم اليوم ولا يمكننا أن يذهب الجميع للاستراحة معًا.

كان من المستحيل ألا يسمع الشكوك، وألا يشعر بنفسه وهو يتقلّص من الداخل.

- هل أنت متأكد أنك بخير يا جيمي؟ هل تحتاج إلى مساعدة؟

- أنا بخير. فقط أبدأ يومي ببطء، كما تعلم.

من المؤكد أن سيمون لم يكن يعرف ذلك؛ فقد وُلد بتلك الطاقة المقرفة التي تمكنه من القفز من الفراش صباحًا وكي قمصانه.. لم يشعر أبدًا بالحاجة إلى التشكيك في انتصاباته أو حبس نفسه في مرحاض برتقالي رخيص لأنه لا يستطيع مواجهة فكرة يوم آخر على هذه الأرض. لم يستطع جيمي أن يصدّق أن إيلين وافقت على الذهاب في موعد غرامي ثانٍ معه الليلة.

- لن أقطع شراييني هنا. ولست أقيم حفلة أيضًا، ذوقي أفضل من ذلك".

كان يمكنه أن يطلب من السيد جون نوبس، صاحب عمله السابق ومالك صالة الجنازات، بائع أقبح التوابيت في المدينة، أن يدفنه.

- من فضلك افتح الباب، يا جيمي. وإلا سأضطر إلى تصعيد هذا الأمر.

ربما كان بإمكانه أن يتولى العمل ويصبح مديرًا للجنازات. كان يمكنه أن يتصالح مع الأشياء ويضمن أن يتم التعامل مع الناس وحيواناتهم الأليفة بشكل نهائي. كان يمكنه أن يقدم فقط خدمة حرق الجثث، لمزيد من التأكيد.

- جيمي! لقد فاتتك المقابلة هذا الصباح، وأنا حقًا بحاجة للتحدث معك خلال استراحتك اليوم.

- وإذا كان لديّ خطط؟

- إذن أخشى أنه سيتعين عليك إلغاؤها. هذا الأمر عاجل نوعًا ما. أنا متأكد أنك تعرف عمّا يدور الحديث.

لم يكلّف جيمي نفسه عناء فحص مظهره على كاميرا هاتفه، لأنه كان يعرف أنه ليس لديه أي مظهر اليوم، ولم يكن مستعدًا لما سيكشفه الضوء في هذا المرحاض.

كان سايمون يستند إلى الحوض المقابل للمقصورة. في موقف آخر من حياة جيمي، كان ربما توقف هناك ونظر في عيني سيمون الزرقاوين الفضوليتين. كان يمكن أن تكون مغازلة أو حتى قبلة، لحظة ذات معنى وحميمية. خطوة أولى نحو شيء لطيف، أو حتى شيء خشن. بداية شيء دافئ. لكن بدلاً من ذلك، تذكر أنه كان يضع أحمر شفاه أمه، وأن كل شيء حولهما كانت تفوح منه رائحة البول ووظائف جسدية أخرى، ولم يستطع سوى المرور أمام سيمون، الذي لم يحاول حتى إخفاء دهشته من ألوان جيمي الجديدة. وعيناه على الأرض، حاول جيمي أن ينسى أن هذا كان عملاً من أعمال التعدي على الحدود، وأنه يبلغ من العمر ما يقرب من الثلاثين، وأن يده اليسرى كانت ترتجف بسبب استراحة غير مصرح بها في المرحاض.

العمل في الوردية المتأخرة كان يعني أن جيمي غالبًا ما يفوّت اجتماعات الفريق الصباحية التي يقوم خلالها سيمون بتحليل مكالمة أو اثنتين تم تسجيلهما لأغراض التدريب والمراقبة الشهيرة. كان زملاؤه يُجبرون على مشاهدة أداء بعضهم البعض وهو يُفكّك مثل الضفادع الميتة، لمشاهدة بقايا كبريائهم وهي تبرد وتصبح غير جذابة بين يدي رجل يحمل شفرة حادة.

من بين جميع المكالمات المسجلة، كان سيمون دائمًا ما ينجح في العثور على تلك اللحظة التي لم يُحافظ فيها الموظفون على سجلهم الحافل بالجودة العالية، حيث فشل موظف مركز الاتصالات في الرد بشكل مناسب أو جعل عميله يشعر بالراحة. مثل تدليك عشوائي بكمية خاطئة من الكريم. أو مثل حلمة خنزير تظهر فجأة في قطعة لحم مقدد فتهدم أوهام الوجبات السريعة.

الأجساد تعيق الطريق.

كان سيمون سيدهم الشرير، يعاقبهم على إخفاقاتهم بتعريضهم للإهانة في العلن – كل ذلك دليل على حقيقة أنه كان على اتصال منتطم بالمتصل الغامض، ذلك أداة مراقبة الجودة الملعونة التي كانوا جميعًا يعيشون في خوف منه. ذلك الشبح متعدد الأصوات الذي كانوا يسمعونه خلف كل نغمة غير متناغمة، موجود ليضللهم مثل أطفال في غابة. كان جيمي غالبًا ما يتخيلهم كساحرة في منزل مصنوع من الإغراءات، تتوق إلى تحويل أجسادهم المتعبة إلى وليمة كان سيمون يحب أن يذكّر فريقه بأنهم بحاجة إلى "الانحناء أكثر" وإسعاد الآخرين، وألا ينسوا أبدًا أنه لا يُسمح لهم باستخدام كلمة "تعويض". كانوا كائنات عاقلة، والأمر يتعلق بمهاراتهم "الناعمة". كل ما كان يفعله جيمي وزملاؤه كان بادرة حسن نية، ويمكن للعملاء أن يكتشفوا ما إذا كانت مخاوفهم لا تؤخذ على محمل الجد.

المهارات الناعمة. كلما ذكر سيمون هذه العبارة، كان جيمي يحسّ بتنمل في أطرافه. كان يمقت أن يكون موضع أنظار الآخرين، لكنه كان يستمتع أحيانًا بإثارة غضب سيمون، ويتخيل عقوبات أخرى محتملة قد يختبرونها معًا.. وبقدر ما كان يشك في أن بعض المكالمات التي استمتع سيمون باللعب بها خلال تلك الاجتماعات كانت مكالماته الخاصة، كان جيمي يعرف أيضًا أنه طالما كان على استعداد للعمل في الوردية المتأخرة، فمن غير المرجح أن يقوموا بطرده. كان يعرف مدى صعوبة العثور على شخص يعمل في ليالي الجمعة والسبت، شخص ليس لديه حياة، بل لديه أم وقطة. شخص مثل جيمي.

ذهاب سيمون له إلى المرحاض لطلب محادثة رسمية يعني أن الأمر لا يتعلق بإحدى مكالمات جيمي المعتادة، أو عجزه المتكرر عن الالتزام بمعايير الشركة. كان ذلك دليلًا على أن خبر مغامرته الأخيرة قد انتشر في المكتب كـ"فتى مطيع"، وأن المعلومة قد وصلت أخيرًا إلى أذني سيمون الصغيرتين الصلبتين، وأنه الآن يعرف ما فعله جيمي في المرحاض يوم الجمعة الماضي.

(انتهى)

***

.....................

* فصل من رواية "مكالمات قد يتم تسجيلها" لكاثرين فولكمر

* كاثرين فولكمر: كاتبة وصحفية مقيمة في لندن. تحمل درجة الدكتوراه في اللغات الحديثة من جامعة أكسفورد. وُلدت فولكمر في ألمانيا عام 1987، وتعيش الآن في لندن حيث تعمل في وكالة أدبية. تُرجمت روايتها الأولى، "الموعد" (The Appointment)، إلى أكثر من خمس عشرة لغة وتم تحويلها إلى عمل مسرحي وإذاعي في عدة بلدان.

 

بقلم: لندا هوغن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

القصيدة التي ليس لها نهاية

لأولئك الذين لا يصلون الى نهاية هذه القصيدة،

ستجلب لكم موجة بحرية قاسية ومتواصلة

الرؤيا الأبدية، كيف تذرف فيها ام

ملح البحر المحيط من عينيها.

اب يبحث باستمرار، عائدا بتفكيره الى وقت حدث فيه

ان انقلب أحد البلدان على نفسه،

فأطلق العنان للسموم والجيوش على مواطنيه المطمئنين

حتى ان بعض المسافرين خاطروا بحياتهم من اجل عفو عام،

دفعوا كل شيء من اجل ان يرحلوا في قارب مطاطي مع الآخرين

خافضين رؤوسهم في الماء، لا أحد منهم يتحرك.

يكلم الأب الطفل قائلا: انظر الى الأسماك الطائرة.

انظر يا ابني، الى الحوت في الأفق.

ترى الاشراقة البعيدة للمحيط الساكن.

تحط سمكة صغيرة في حجر فتاة. الفتاة تبتسم فحسب.

لكن الماء له اصوات عديدة

وامواج مجهولة وخفية.

الكائن البشري شيء ضئيل وسط ضخامة كهذه،

مثل ضآلة فردة حذاء صغيرة فوق الأحجار

حيث يأمل مسافرون مجهولون بعفو عام.

وعلى الرغم من ان الأم والأب بحثا طوال حياتهما،

كل الذي رأوه فردة حذاء، فردة الحذاء الصغيرة

الباردة التي جرفها الماء فوق حجارة داكنة.

***

......................

لندا هوغن: شاعرة واكاديمية وكاتبة متعددة الاهتمامات أميركية من قبائل تشيكاسو الهندية ولدت عام 1947. تلقت تعليمها في جامعة كولورادو حيث أصبحت أستاذة للكتابة الإبداعية فيها، كما قامت بالتدريس في جامعات أخرى عديدة. نال شعرها وكتاباتها جوائز عديدة من بينها جائزتا الكتاب الأميركي ولانن في الشعر وجائزة بوليتزر في الرواية. من عناوين مجموعاتها الشعرية: "استدعاء نفسي الى المنزل" 1978؛ "يا بناتي احبكن" 1981؛ "كسوف" 1983؛ "الرؤية من خلال الشمس" 1985؛ "كتاب العلاجات" 1993؛ و"معتم. جميل" 2014.

قصة: ناتسو كيرينو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

البيضة المسلوقة

بيضة بيضاء وحيدة كانت تهتز في قاع قدر صغير. في متجر "ميوشي مارت" المحلي، كان سعر كرتونة البيض المكونة من عشر بيضات هو 198 ينًا، وهو الخيار الأرخص في المنطقة. بمعدل بيضة واحدة في اليوم، كانت الكرتونة بأكملها تكفي لعشرة أيام. رخيصة، مليئة بالبروتين، وسهلة التحضير. فقط ضع واحدة في قدر مع بعض الماء، انتظر خمس عشرة دقيقة، وانتهى الأمر: بيضة مسلوقة.

"هل تعرفين ما الذي يجعل البيضة بيضة؟ إذا قمت بغليها لمدة خمس عشرة دقيقة، فإنها تصبح مسلوقة. هذا هو تعريف البيضة. في الطبخ، من المهم معرفة جوهر مكوناتك."

إيزوغاي-سان، إحدى المريضات في دار المسنين حيث اعتادت ريكي على العمل، لم تكن تتعب أبدًا من تكرار هذه العبارة. كانت تجلس منتصبة في كرسيها المتحرك، متباهية ومتباعدة، على الرغم من أن بيجامتها الوردية كانت ملطخة ببقع الطعام.

كان اسم إيزوغاي-سان مكتوبًا بحروف غامضة لا يستطيع أحد قراءته. وكلما نطق شخص ما اسمها بشكل خاطئ، كانت ترد بغضب، مصححة: "إنها إيزوغاي."

أحيانًا كانت تشير إلى طية صدرها وتقول: "إنها إيزوغاي،" رغم أنها لم تكن ترتدي بطاقة اسم ولم يخاطبها أحد. وهكذا، عُرفت في دار المسنين باسم العجوز التي تتجول وهي تقول: "إنها إيزوغاي،" و"هل تعرف ما الذي يجعل البيضة بيضة؟" بقطع النظر عمن كانت تتحدث إليه.

لكن لم تكن هناك بيضات مسلوقة في كافيتريا دار المسنين، لأن العديد من كبار السن هناك كانوا غير قادرين على تقشير قشرة البيض في المقام الأول. وإلى جانب ذلك، كان من الممكن أن تقف البيضات المسلوقة في حلقهم. لذلك، كانت أطباق البيض الوحيدة التي تقدمها الكافيتريا هي بيض داشي-ماكي حلو بشكل مفرط (يحظى دائمًا بشعبية)، أو حساء البيض المخفوق، أو في حالات نادرة، بيضة مسلوقة طرية.

لهذا السبب، كان هوس إيزوغاي-سان بالبيض المسلوق لغزًا للجميع. ومع مرور الوقت، انتشرت شائعات بأنها كانت تعمل كطاهية، مما جعل الناس أكثر تسامحًا مع نوعها الخاص من الخرف. كما اكتسبت سمعة بامتلاكها تحليلاً دقيقًا لطبيعة البيضة.

في أحد الأيام، أخبرت إحدى موظفات دار المسنين المرضى المسنين عن طاهٍ مشهور قرأت عنه على الإنترنت، كان يتحدث دائمًا عن "جوهر المكونات." ونتيجة لذلك، أصبح المرضى الذين كانوا حتى ذلك الحين يتعاطفون بشكل غامض مع خطابات إيزوغاي-سان حول "جوهر البيضة" يتفقون معها بسهولة أكبر بكثير. وبعد ذلك بوقت قصير، أصيبت إيزوغاي-سان بنزلة برد، تطورت إلى إنفلونزا، وتوفيت بشكل غير متوقع.

إذا كانت طبيعة بيضة الدجاج هي أنها تصبح مسلوقة بعد ثماني دقائق، فماذا عن البيضة داخل جسد المرأة؟ إذا قمت بغليها، كم من الوقت ستستغرق لتتصلب؟ "آه، إيزوغاي-سان! أخبريني، ما هو جوهر البيضة البشرية؟" نادت ريكي على الاسم المألوف وهي تحدق في القدر الذي يغلي.

عملت ريكي في دار المسنين لمدة عامين ونصف تقريبًا، من سن الحادية والعشرين إلى الثالثة والعشرين. استغرقتها كل تلك الفترة لتوفير 2,000,000 ين، يومًا بعد يوم بعناء شديد. بالنسبة لمعظم الناس، قد يبدو ذلك لا شيء؛ ولكن بالنسبة لريكي، كان السبب الوحيد الذي جعلها قادرة على توفير حتى هذا القدر هو أنها كانت تعيش مع والديها طوال الوقت.

وقد عينت موظفة في دار المسنين، التي افتتحت مؤخرًا بالقرب من منزل والديها، بعد فترة وجيزة من تخرجها من كلية صغرى في شمال شرق هوكايدو. كان والداها في غاية السعادة عندما تم توظيفها، قائلين إنه أمر جيد، لأنهما على أي حال سينتهيان هناك عاجلاً أم آجلاً. ولكن في يومها الأول في العمل، لمحت ريكي امرأة عجوز تلعب بكرة من برازها، وأرادت على الفور الاستقالة. لم تستطع أن تصدق أن الناس يفعلون أشياء كهذه حقا.

وكما اتضح، لم يكن خطأ دار المسنين أن ريكي لم تستمر طويلاً. أينما ذهبت، كان الأمر نفسه. حتى بعد انتقالها إلى طوكيو، لم تستطع أن تحافظ على وظيفة. أحيانًا كانت تتساءل ما إذا كانت هي المشكلة، وما إذا كانت ببساطة غير صبورة. ولكن في النهاية أدركت ما الذي جعل هذه الوظائف لا تُحتمل بالنسبة لها: إنه الشعور بأن مصيرها قد تقرر بالفعل، وأنه ليس هناك مكان آخر تذهب إليه—بينما في الواقع، لم يكن لديها أي فكرة عن هويتها، أو ما تريد أن تفعله في حياتها.

منذ فترة، حصلت صديقة لها من المدرسة الثانوية على وظيفة في صالون للأظافر. حينها أدركت ريكي أن الأشخاص الذين لديهم ثقة بما يريدون فعله في الحياة ويتابعون هدفهم بعزيمة قوية هم أقوى ويقضون وقتًا أسهل بكثير. كانت صديقتها قد ذهبت إلى مدرسة لفنيي الأظافر في طوكيو لمدة عام، ثم بدأت العمل في صالون تديره المدرسة. الآن هي تعمل في الفرع الرئيسي للصالون في شيبويا. كلما نظرت ريكي إلى حساب صديقتها على إنستغرام، كانت تستطيع أن تلاحظ أنها مزدهرة. صديقها حلاق يعمل في هاراجوكو. لكن لم يكن شيبويا، ولا هاراجوكو، ولم يكن الصديق هو ما كانت ريكي تحسده عليها، بل بالأحرى الشعور بأن صديقتها تبدو راضية ومُحقِقة لذاتها.

كانت قد رأت هذه الصديقة مرة واحدة فقط منذ انتقالها إلى طوكيو، عندما التقتا في مقهى في إبيسو. كان هذا تقريبًا في الوقت الذي بدأت فيه ريكي العمل بدوام جزئي في شركة تقوم بفرز النشرات الإعلانية والمواد المطبوعة الأخرى في غرب نيبوري.

شَعَرت ريكي بالرهبة لمجرد ذكر حي مثل إبيسو، وحضرت صديقتها في ذلك اليوم بمظهر أنيق بشكل خاص، شعرها مصبوغ بلون أحمر-بني عصري، مما لفت أنظار كل من حولها. في اللحظة التي رأت فيها أظافر صديقتها المزينة بإتقان، ارتدت ريكي جسديًا ونفسيًا، وتراجعت بكرسيها لا إراديًا.

حاولت أن تُفسّر الفجوة الهائلة التي انفتحت بينها وبين صديقتها بحقيقة أنها لم تسعَ أبدًا إلى مسيرة مهنية حقيقية. لكن عندما عرضت صديقتها أظافرها بفخر—"انظري، لقد صنعتها بنفسي!"—كان كل ما يمكن أن تفكر فيه هو: لا، لقد سارت الأمور على هذا النحو لأنها لم تكن تملك موهبة تُذكر.

لماذا كانت الأمور تسوء وتسوء منذ مجيئها إلى طوكيو؟ لم يكن لديها شيء تعود إليه في مسقط رأسها بهوكايدو. كانت قد تشاجرت مع والدها شجارًا كبيرًا قبل مغادرتها مباشرة، ولذلك رفضت العودة، ببساطة بدافع الكبرياء. وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن لديها المال لدفع ثمن تذكرة الطائرة.

غادرت منزلها وبحوزتها 2,000,000 ين، ولكن بطريقة ما تبخرت جميعها في غضون ستة أشهر. كان عليها أن تدفع تأمين مفتاح شقتها، وتأمين الإيجار، ثم ثمن الثلاجة، والميكروويف، والسرير، والأثاث، والأواني والمقالي، وأدوات المائدة. كل ذلك بالإضافة إلى نفقات معيشتها المتزايدة باستمرار، وهكذا بدا المال وكأنه يتبخر. والآن، لم يتبق معها أى شيء.

إحباطها من وظيفتها، مصحوبًا بالشعور بأنها ليست جيدة في أي شيء بشكل خاص، جعلا ريكي تشعر بالفراغ من الداخل، يومًا بعد يوم. لم تكن تعلم أن الفقر يمكن أن يكون بهذا القدر من الوحدة، وهذا القدر من الخنق. لمرة واحدة فقط في حياتها، أرادت أن تختبر شعور عدم القلق بشأن المال.

بؤس شراء كل الطعام المخفض من السوبر ماركت قبل الإغلاق مباشرة، ومحاولة إيجاد طرق جديدة لخفض فاتورة الطاقة، والمشي بدلاً من استخدام وسائل النقل العام، وشراء الملابس من متاجر الملابس المستعملة فقط: أرادت الخروج من كل ذلك.

أعلن المؤقت على هاتفها. ثماني دقائق بالضبط. أفرغت ريكي الماء المغلي من القدر وأضافت ماءً باردًا لتبريد البيضة المسلوقة حديثًا. وقفت عند الحوض وبدأت في تقشير القشرة. أحيانًا تتسرب جيوب من الهواء إلى البيضة أثناء طهيها، وإذا دحرجتها قليلاً، ستظهر تشققات صغيرة في القشرة، مما يسهّل تقشيرها من الأسفل.

كان ينبغي أن تخبر إيزوغاي-سان أن هذا هو جوهر البيضة. لكن إيزوغاي-سان ما كانت لتصدقها—على الرغم من أنها لو كان متخصص في الطهي هو من قال الشيء نفسه، لما كانت تبالي. كان بإمكان ريكي أن تتخيلها وهي تضيّق عينيها بشك. "هذا ما أصبحت عليه،" فكرت ريكي. "شخصًا عاديًا لا يكترث به أحد، يُستبعد حتى من قِبل أمثال إيزوغاي-سان."

صبت ريكي بعض صلصة الصويا في طبق وغمست بيضتها فيها. منذ أن كانت طفلة، كانت تحب دائمًا أن تأكل بيضها المسلوق مع صلصة الصويا، وليس الملح. لهذا السبب كانت تكره الرحلات المدرسية: كانوا يسمحون لك فقط بإحضار الملح. عندما روت هذه القصة لأول شاب واعدته بعد انتقالها إلى طوكيو، سخر منها بسببها.

"صلصة الصويا؟ على بيضك؟ واو، أنت حقًا من الأرياف."

كان أكبر من ريكي بثلاث سنوات. كان يربي لحية صغيرة، ولهجة قانتو شمالية ثقيلة. كان متكلفًا بعض الشيء. التقت به أثناء عملها كعاملة مؤقتة في متجر استيراد، على الرغم من أن "متجر استيراد" جعل الأمر يبدو أكثر فخامة مما كان عليه في الواقع، والذي كان مجرد متجر ملابس. قال الرجل إنه يعمل هناك فقط لأنهم يسمحون له بتربية اللحية.

فكرت ريكي: " يا لك من متكلم فارغ.. أنت الذي لديك لهجة."

ثم، وكأنه قرأ أفكارها، بدأ يتباهى كيف أن المحافظة التي جاء منها تقع تقنيًا ضمن منطقة طوكيو الكبرى، لذلك لا تُعد ريفية، مثل هوكايدو. كان حاد الملاحظة فقط عندما شعر بأن الآخرين قد يحكمون عليه.

كانت ريكي متأخرة في نضجها، وقد اعتبرها حمقاء، وكذب عليها، وواعد نساء أخريات من وراء ظهرها، وحصل على ما أراده منها، ورحل.

منذ ذلك الحين، تساءلت ريكي عما إذا كان للرجال أي فائدة على الإطلاق. في نظرها، كانوا مجرد كائنات وقحة، غبية، لا تفكر إلا في نفسها. يرمون أحذيتهم المتسخة على الأرض، ولا يضعونها أبدًا في مكانها. يتركون غطاء المرحاض مرفوعًا، ولا يلاحظون إن تركوا القليل من البول على الأرض، ثم يدوسون فيه. يفتحون ثلاجات الآخرين دون إذن، ويشربون زجاجة النبيذ الفوار التي كانت تحرسها ككنز. ينامون متمددين في السرير الضيق ويقومون بركل ريكي. ولأنه كان يعتقد أن النساء يجب أن يخدمنه، لم يكن يهتم إن قذف في داخلها. عندما أخبرته أنها قلقة من الحمل، ضحك، قائلاً إنه إذا أجبرته على الزواج منها بسبب الحمل، فسيكون هو من يقع في ورطة.

كل الرجال الذين قابلتهم ريكي منذ مجيئها إلى طوكيو كانوا أشخاصًا لا يمكن أن تحلم بالنوم معهم حتى لو تقطعت بهم السبل على جزيرة صحراوية. "لا أحتاج إلى رجل، أفضل أن أكون وحيدة،" فكرت—لكن الواقع هو أنه بمرتبها، لم تكن تستطيع تحمل تكلفة أن تكون عزباء.

وظيفة ريكي الحالية هي العمل كعاملة مؤقتة في مكتب مستشفى كيتاموكي العام. كل يوم، كانت تجلس في ذلك المستشفى القديم المعتم لمدة تسع ساعات ونصف، من الثامنة صباحًا حتى الخامسة والنصف مساءً، عندما يغلق المكتب. لكن راتبها الشهري كان 140,000 ين فقط. من هذا المبلغ، يذهب 58,000 للإيجار—  شقة رخيصة لا يصلها الكثير من الضوء— مما لا يترك لها سوى 82,000 ين شهريًا للعيش.

شخص آخر لديه نفس الوظيفة ولكنه يعيش في المنزل قد يكون قادرًا على تحمل ثمن قهوة في دين آند ديلوكا، لكن في حالتها، لم تكن ريكي قادرة حتى على شراء قهوة من سفن إليفن. كان من المفترض أن ينتهي عقدها العام المقبل أيضًا، لذا كان عليها أن تبحث عن وظيفة جديدة بعد ذلك. كانت تتوق إلى المال والأمان من أعماق كيانها.

(انتهى)

***

.........................

النص اعلاه مقتطف من رواية "السنونو" الكاتبة اليابانية ناتسو كيرينو**. وُلدت كيرينو في عام 1951 وسرعان ما رسّخت لنفسها سمعة في بلدها كواحدة من الروائيات النادرات في أدب الغموض اللاتي تتجاوز أعمالهن الرواية البوليسية التقليدية. فازت بالجائزة الكبرى لأدب الجريمة في اليابان عن روايتها خارج في عام 1998، بالإضافة إلى جائزة أدبية كبرى—وهي جائزة ناوكي—عن روايتها وجنات ناعمة في عام 1999. وقد حُولت العديد من كتبها إلى أفلام سينمائية. كانت رواية خارج أولى رواياتها التي تُنشر باللغة الإنجليزية، ورُشّحت لجائزة إدجار.

* العنوان من وضع المترجم حيث يراه مناسبا لمحتوى المقتطف.

** من رواية السنونو للكاتبة ناتسو كيرينو، ترجمة ليزا هوفمان-كورودا.( 2025). تشتهر الكاتبة ناتسو كيرينو، التي ولدت عام 1951، بكونها إحدى كاتبات الغموض النادرات اللاتي تتجاوز أعمالهن الرواية البوليسية التقليدية. وقد تأكدت هذه المكانة بفوزها بالجائزة الكبرى لأدب الجريمة في اليابان عن روايتها Out عام 1998، بالإضافة إلى إحدى الجوائز الأدبية الكبرى، وهي جائزة ناوكي، عن روايتها Soft Cheeks عام 1999 (التي لم تُنشر باللغة الإنجليزية بعد). كما تحولت العديد من كتبها إلى أفلام سينمائية، وكانت Out أولى رواياتها التي تُنشر باللغة الإنجليزية، ورُشّحت لجائزة إدجار.

 

بقلم: سارة برودي

ترجمة: صالح الرزوق

***

كنت في معظم حيات بدون أم. هربت منا إلى مونتريال، وكما نما لعلمنا في إحدى المناسبات كانت بحالة هستيرية. ولا أتذكرها إلا من ألبوم الصور الذي أودعناه في سقيفة غرفة النوم، والمغطى بالغبار الرمادي الذي يتساقط عليه من الدعامات. وكنت مع أخي الأكبر مني نتأرجح من الدعامات ليلا، ونحن نتكلم بصوت خافت، ولذلك كان الغبار يهب ويزكم الغرفة: واللحافين الممدودين على السريرين، ومجسم رأس ويلي مايز الخاص بجورج، ومجسمات الثلج الخاصة بي. هل كان والدنا يعلم أننا نمتلك صورها؟.

سألني جورج في إحدى الليالي وهو يعرض صورة أمنا على الشاطئ: "هل هذه هي؟".

كانت ترتدي بذة سباحة من قطعة واحدة وتجلس على منشفة، وهي تعبث بشعرها المحترق بالشمس، وحول أصابعها خصلة قصيرة.  وكانت ابتسامتها العريضة والبيضاء تلفت انتباهي أنا وأخي.

أغلق جورج الألبوم قائلا: "لم تكن تبتسم أبدا".

قلت له: "أحيانا تبتسم".

"فقط حين تنتابها نوبات الحماقة".

الصورة على شاطئ ستنسون، 1944. شهران قبل أن تلتقي بالوالد. وكانت بعمر سبع عشرة سنة، وبغضون عام ستنجب أول ابن من بين اثنين. وأشد ما أزعجني بخصوص الصورة أنني لا أعرف من التقطها، ومن جعلها تبتسم هكذا.

 *

أقمنا في زقاق ويست بورتال في بيت فكتوري من الخشب. كنا من الطبقة المتوسطة، ولم يكن هذا حال العديد في سان فرانسيسكو يوم ذاك، كان والدي معماريا، ويصمم السجون. أتذكر جورج، وهو بعمر خمس عشرة سنة، وكان يوبخه وهو في مكانه على السلالم كي يتوقف عن بناء أقفاص للناس، وكيف أن الوالد لطمه على مؤخرة رأسه، وكانت أول مرة أراه يستعمل يديه لهذه الغاية. بالعادة يمسك بإحدى يديه قلم رصاص، ويغرس الثانية في شعر رأسه الأسود، بينما عظام كتفيه ناتئة إلى الأعلى، وظهره منكب على طاولته.  أحيانا، وفي وحدتي، أفكر بصورة والدتي وهي بالثامنة عشرة. ولأسباب لا يمكنني تفسيرها، تبدو لي خاصة، مع أنها مأخوذة قبل ثلاث سنوات من يوم مولدي. ترتدي في الصورة ثوب شاي أزرق، شعرها أطول، ويداها مستقرتان على بطنها المستديرة. وكما أرى كانت نحيفة جدا بالنسبة لامرأة حامل ولحد غريب. فذراعاها مثل غصنين، مع مساحة داكنة تحت عينيها. وكلما حدقت بها، أعتقد أنها تحدق بي، وأنها تعزم على الإفضاء لي بسر. والآن أدرك أن والدتي لا تحب الإفضاء بأسرارها، وهو شيء كان الوالد لا يشجعنا عليه. فقد اختفى من حياة الوالدة بعد أسابيع من علاقته بها، وحينها كان يخدم لمدة سنة في فرنسا. وبالتأكيد لا يمكن أنه من التقط الصورة.

ثم تركتنا هي عام 1957، وكنت أنا بالتاسعة، وجورج بلغ الثانية عشرة. وبغضون أسبوع بعد رحيلها، أرعبني جورج بسؤال، وكنت أتوقع أنه يعرف جوابه. قال: "هل تعتقدين أنها ستعود؟".

سألته: "ولماذا لا تعود؟".

"ربما لأنها ماتت".

"الوالد قال إنها لم تمت".

"هل أخبرك الوالد بذلك؟".

قلت ببطء: "كلا. ولكن ألا يخبرنا بالأمر لو أنها ميتة؟".

تأرجح جورج على الحافة، وهبط على سريره. كان يرتدي قميص بيجاما مقلمة فوق سروال قصير، وبدا وجهه شاحبا في ضوء القمر. عبس وهو يحدق بما ورائي وقال: "هو لا يتكلم أصلا؟".

"لكنه يرسم الصور".

قال جورج: "يرسم لوحات زرقاء لأنه مهندس معماري".

"ورسم صورة كاريكاتورية لهتلر".

قال جورج: "حسنا. كانت صورة كاريكاتورية واحدة وتافهة".

كانت أول مرة أعلم أن جورج يمقت والدنا، ولم أكن متأكدة ماذا أصنع حيال ذلك. في تلك الأيام كنت أحترم الاثنين بنفس القدر. كان الوالد حاضرا في تحرير باريس، وحفر الخنادق، ووضع الحواجز، وشاهدها وهي تحترق. رأيت صورته بالبذة، مأخوذة بعد خطاب ديغول، ووجهه مشطور بتقطيبة، وسترته غير مزررة، وذراعه ملتفة حول خصر امرأة بشعر أسود ولكنها ليست أمنا.

*

سألني جورج في أحد الأيام بعد قليل من عودته من فيتنام حيث فقد قدمه اليسرى: "لا يمكنني أن أصدق كلمة واحدة خرجت من فم الوالد".

كنا نجلس في غرفة المعيشة من بيت والدنا، حيث أقام جورج حتى يتعلم المشي بساقه الصناعية. وكان ينام في غرفة المعيشة لعدم قدرته على صعود السلالم. يا للبؤس. كان يكره اجتماعاتنا الليلية مع والدنا - والذي يعاني من كوابيس، ثم ينهض ويذهب إلى المطبخ، لتحضير شطيرة لنفسه بغض النظر عن الوقت.

تابع جورج كلامه: "الرجل واهم. مرت عليه عشرون سنة، ولا يزال يعاني من أحلامه اللعينة، والآن يفتخر بي؟ لأنني فقدت قدمي الفاجرة؟".

انقبضت معدتي. هل يعرف جورج تفاصيل أحلام الوالد؟. لم أكن مثل أخي. كان أقوى مني بمرتين، حتى في أيام طفولتنا، وكان يرميني في أماكن خانقة، ويلدغني لدغة الثعبان. وهو من ردع بقية الأولاد في المدرسة ومنعهم عن ملاحقتي، وكنت أجمع الحلازين وأضعها في دلو في باحتنا الخلفية. خشيت أن يتابع هذا الخط من الكلام، لذلك سألته: "هل ذكر أنه يفتخر بك؟".

قال جورج: "كلا. فهو لا يتكلم. وأنت تعرفين هذا. ولكن حينما عدت إلى البيت، نظر بعيني، ولم يسبق له أن فعل ذلك. وحدق بي لفترة طويلة، ثم ضغط كتفي، بقوة - كأنه يريد أن يؤذيني؟. وهكذا علمت أنه يعتز بي". شعرت بالرعدة. وأطلق أخي تنهيدة عالية. وتابع يقول: "لم أكن أريده أن يفتخر بمصابي. وليس لهذا السبب غادرت. غادرت لأن صوته سكن في رأسي، ولم يمكنني انتزاعه والتخلص منه. كان صوتا من النوع الذي يلازمك، ويدفعك للجنون، صوتا يخبرك أنه ليس بمقدورك أداء عمل جيد واحد. وكنت جاهزا لأداء أي شيء بعكس ما يريد، ولكن كان صوته يعلو ويعلو. ثم خضعت لإرادته وهل تعرفين ماذا حصل؟ خفت جدا حينما  رأيت نفسي أول مرة بالبذة، وأدركت مباشرة أنني مخطئ. لأن هيئتي أصبحت تبدو مثله".

*

لماذا رسم والدي العديد من الصور لهتلر؟ بعد موته وجدت دفترا مليئا بهذه الصور. هتلر بثوب وكعب عال. هتلر على دراجة بدولاب واحد. كان يوما باردا من عام 1989 حينما اكتشفت كل هذا، ورأيته مهملا في قاع درج طاولة الزينة، مدفونا تحت كومة من جوارب صوفية. ولدى رؤيتي له، اجتاحتني موجة من القلق، ومسحة من النفور تجاه جورج.  مع أنه يعيش معي، ومع أنه تابع تطور مرض والدنا - صدمته بتشخيص السرطان وهو بالواحدة والستين، وخوفه منه، وانحطاط صحته ببطء - لم يقبل أن يزوره، ولا أن يخابره، ولا أن يكتب له، وتركني للمعاناة مع متاهة الموت وحدي، تركني أيضا وحدي مع هذا الدفتر القديم. وأنفقت ساعات وأنا أقلب الصور.

لا أتذكر متى قال والدي لجورج ولي: "نحن نسير على طول شارع شامبس إليزيه". 

كم مرة ذكر هذه العبارة؟ ربما ألف. ربما مرة واحدة، ولكنها علقت برأسي. ثم سألنا: "يا أولاد. هل تعتقدان أنكما تعرفان ما هو الألم؟. هل تعتقدان أنكما تعرفان؟ كم عمر كل منكما؟".

وطبعا أجبناه.

***

..........................

* سارة برودي Sara Brody كاتبة قصة أمريكية معاصرة. رشحت لجائزة البوش كارت. القصة فقرة من رواية. ومنشورة في موقع مجلة "السرد الأساسي  Necessary fiction".

بقلم: سامانثا شويبلين

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في اليوم الذي أكملت فيه ثماني سنوات، شربت أختي- التي كانت دائمًا تحب أن تكون محور الاهتمام -  كوباً كاملاً من مبيض الملابس دفعة واحدة. كانت آبي في الثالثة من عمرها. في البداية ابتسمت، ربما بشعور من الاشمئزاز؛ ثم تغير وجهها بتعبير ينم عن الخوف والألم. عندما رأت أمي الكوب الفارغ يتدلى من يد آبي، أصبحت شديدة الشحوب مثل آبي.

- آبي، يا إلهي!

كان هذا كل ما قالته أمي، كررت:

-  آبي، يا إلهي!

واستغرق الأمر منها بضع ثوانٍ أخرى لتتحرك.

هزتها من كتفيها، لكن آبي لم تستجب. صرخت عليها، لكن آبي لم تستجب أيضاً. جرت نحو الهاتف واتصلت بأبي، وعندما عادت كانت آبي ما تزال واقفة، والكوب يتدلى من يدها. أخذت أمي الكوب ورمته في الحوض. فتحت الثلاجة، أخذت الحليب وسكبته في كوب. ظلت تراقب الكوب، ثم آبي، ثم الكوب، وفي النهاية رمت الكوب أيضاً في الحوض.

وصل أبي، الذي كان يعمل قريباً جداً من المنزل، في الحال، وكان لدى أمي الوقت الكافي لتعيد عرض كوب الحليب مرة أخرى، قبل أن يصل بسيارته ويبدأ في إطلاق البوق والصراخ.

أسرعت أمي كالبرق وهي تحمل آبي على صدرها. كانت الأبواب الأمامية، والبوابة، وأبواب السيارة كلها مفتوحة. وكان هناك المزيد من صوت البوق، وانخرطت أمي، التي كانت جالسة بالفعل في السيارة، في البكاء. اضطر أبي إلى مناداتي مرتين حتى أفهم أن عليّ أن أغلق الأبواب.

قطعنا أول عشرة مربعات سكنية في وقت أقل مما استغرقه إغلاق باب السيارة وربط حزام الأمان.  ولكن عندما وصلنا إلى الشارع الرئيسي، كانت حركة المرور تكاد تكون متوقفة تمامًا. بدأ أبي في إطلاق البوق والصراخ من النافذة: "أنا ذاهب إلى المستشفى! أنا ذاهب إلى المستشفى!" تحركت السيارات من حولنا وسمحت لنا بالمرور بطريقة معجزة ثم تبدأ المشكلة مرة أخرى بعد بضع سيارات. توقّف أبي خلف سيارة أخرى، وتوقف عن الضغط على البوق وضرب رأسه على المقود. لم أرَه يفعل شيئاً من هذا القبيل من قبل. كانت هناك لحظة من الصمت، ثم جلس ونظر إلي عبر مرآة السيارة. استدار وقال لي:

- اخلعي سروالك الداخلي.

كنت أرتدي زي المدرسة. كل ملابسي الداخلية كانت بيضاء، لكنني لم أكن أفكر في ذلك حينها، ولم أفهم طلب أبي. ضغطت يدي على المقعد لأحصل على دعم أفضل. نظرت إلى أمي، فصرخت:

- اخلعي ملابسك الداخلية اللعينة!

خلعت ملابسي الداخلية. أخذها أبي من يدي. نزلت النافذة، وواصل الضغط على البوق وأخرج ملابسي الداخلية إلى الخارج. رفعها عالياً بينما كان يصرخ ويواصل الضغط على البوق، ولفت كل الأنظار في الشارع الرئيسي. كانت الملابس الداخلية صغيرة، لكنها أيضاً كانت بيضاء جداً. خلفنا بشارع واحد، فتحت سيارة إسعاف صفارات الإنذار، ولحقت بنا بسرعة وبدأت تفتح لنا الطريق. واصل أبي التلويح بالملابس الداخلية حتى وصلنا إلى المستشفى.

أوقف أبى السيارة بجوار سيارات الإسعاف، وقفزوا منها. دون انتظار، أخذت أمي آبي وركضت مباشرة إلى داخل المستشفى. لم أكن متأكدة مما إذا كان ينبغي علي النزول أم لا: لم أكن أرتدي ملابس داخلية، ونظرت حولي لأرى أين تركها أبي، لكنها لم تكن على المقعد ولا في يده، التي كانت قد أغلقت بالفعل باب السيارة من الخارج.

قال أبي:

- هيا، هيا .

فتح أبي بابي وساعدني على النزول، ثم أقفل السيارة. ربت على كتفي عدة مرات ونحن نسير نحو غرفة الطوارئ. خرجت أمي من غرفة في نهاية الممر وأشارت لنا. شعرت بالارتياح لرؤيتها تتحدث مرة أخرى، وتقدم تفسيرات للممرضات.

قال أبي، مشيرًا إلى بعض الكراسي البرتقالية على الجانب الآخر من الممر.

-  ابقي هنا .

جلست. دخل أبي إلى غرفة الاستشارات مع أمي وانتظرت لفترة. لا أعلم كم من الوقت قد مر، لكن شعرت بأنه طويل. ضغطت ركبتيَّ معًا بإحكام وفكرت في كل ما حدث بسرعة، وفي احتمال أن يكون أي من أطفال المدرسة قد رأى كل ما جرى مع ملابسي الداخلية. عندما جلست بشكل مستقيم، ارتفع قميصي قليلًا، ولامس الجزء العاري من مؤخرتي جزءًا من الكرسي البلاستيكي. أحيانًا كانت الممرضة تدخل أو تخرج من غرفة الاستشارات، وكنت أسمع والديَّ يتجادلان. في لحظة ما، مددت رقبتي وألقيت نظرة على آبي وهي تتحرك بقلق على أحد الأسرة، وعرفت حينها أنها، على الأقل اليوم، لن تموت. ومع ذلك، كان علي أن أنتظر. ثم جاء رجل وجلس بجانبي. لا أعرف من أين أتى، لم أره من قبل. سألني:

- كيف حالك؟

فكرت في أن أقول «بخير»، وهو ما تقوله أمي دائمًا إذا سألها أحدهم كيف حالها، حتى لو كانت قد أخبرتني وآبي للتو بأنها على وشك الجنون بسببنا.أجبت:

- بخير.

- هل تنتظرين أحدًا؟

فكرت في الأمر. لم أكن حقًا أنتظر أحدًا؛ على الأقل لم يكن هذا ما كنت أرغب في فعله حينها. لذلك هززت رأسي، فقال:

- لماذا تجلسين في غرفة الانتظار إذن؟

فهمت أن ذلك  كان تناقضًا كبيرًا. فتح حقيبة صغيرة كانت على ركبتيه. فتش قليلًا، بدون استعجال. ثم أخرج من محفظة ورقة ذات لون وردي .

- ها هي، كنت أعلم أنني أحتفظ بها في مكان ما.

كانت الورقة تحمل الرقم 92. قال:

- هذه تذكرة لآيس كريم، إنني أدعوك.

أخبرته أنني لا أقبل أشياء من الغرباء.

-  لكنها مجانية، لقد ربحتها.

-  لا.

نظرت إلى الأمام وساد صمت بيننا.

قال، دون أن يظهر عليه الغضب:

- كما تحبين.

أخرج من حقيبته مجلة وبدأ في حل الكلمات المتقاطعة. ثم . فُتح باب غرفة الاستشارات مرة أخرى وسمعت أبي يقول: «لن أسمح بهذه الحماقة.» أتذكر ذلك لأن هذه العبارة هي التي ينهي بها والدي تقريبًا أي جدال أو نقاش، ولكن لا يبدو أن أحدا قد سمعه.

قلت:

- اليوم عيد ميلادي.

كررت في نفسي: إنه عيد ميلادي. ماذا يجب أن أفعل؟

أمسك الرجل القلم ليضع علامة في أحد مربعات اللغز، ونظر إليّ بدهشة. أومأت برأسي دون أن أنظر إليه، مدركة أنني جذبت انتباهه مرة أخرى.

قال وقد أغلق المجلة:

- لكن…  في الحقيقة، أحيانًا أجد صعوبة في فهم النساء. إذا كان عيد ميلادك، لماذا أنت في غرفة الانتظار؟

لقد كان رجلاً مراقباً. اعتدلت في جلستي ورأيت أنني، حتى في تلك اللحظة، لم أصل إلا إلى كتفيه.ابتسم وعدلت شعري. ثم قلت:

-لا أرتدي ملابس داخلية.

لم أعرف لماذا قلت ذلك. كان يوم عيد ميلادي وكنت بدون ملابس داخلية، وكان ذلك شيئًا لم أستطع التوقف عن التفكير فيه. كان لا يزال ينظر إليّ. ربما شعر بالقلق أو الإهانة، وفهمت أنه رغم أنني لم أكن أقصد ذلك، كان هناك شيء غير لائق في ما قلته للتو.

قال:

- ولكنه عيد ميلادك .

أومأت برأسي.أضاف:

- هذا ليس عدلًا. لا يمكن للشخص أن يتجول بدون ملابس داخلية في عيد ميلاده.

قلت:

- أعرف .

قلت ذلك بثقة كبيرة، لأنني الآن فهمت تمامًا كيف كان عرض آبي بأكمله بمثابة إهانة شخصية لي.

جلس للحظة دون أن يقول شيئًا. ثم نظر باتجاه النوافذ الكبيرة التي تطل على موقف السيارات.ثم قال:

- أعرف أين يمكن الحصول على ملابس داخلية لك .

-  أين؟

- المشكلة محلولة.

جمع أغراضه ووقف.

ترددت في النهوض. كان ذلك بسبب عدم ارتدائي للملابس الداخلية، ولكن أيضًا لأنني لم أكن أعرف ما إذا كان يقول الحقيقة أم لا. نظر نحو مكتب الاستقبال ولوح بيده للموظفات.

قال، مشيرًا إليّ:

- سنعود حالًا .. إنه عيد ميلادها.

ثم فكرت، يا إلهي، من فضلك لا تدعه يقول أي شيء عن ملابسي الداخلية، لكنه لم يفعل: فتح الباب وغمز لي، وعندها عرفت أنني يمكن أن أثق به.

خرجنا إلى مواقف السيارات. وأنا واقفة بالكاد كنت أبلغ خصره. كانت سيارة والدي ما زالت بجانب سيارات الإسعاف، وكان شرطي يدور حولها، منزعجًا. ظللت أراقبه وهو يرانا نبتعد. كان الهواء يلتف حول ساقيّ ويرفع تنورتي إلى أعلى لتبدو مثل خيمة ؛ كان يجب عليّ المشي وأنا أمسك بها، مع الإبقاء على ساقيّ ملتصقتين بشكل غير مريح. .

التفت إليّ ليرى إذا كنت أتبعه ورآني أتعامل بصعوبة مع ملابسي.

- من الأفضل أن نلتصق بالجدار..

- أريد أن أعرف إلى أين نحن ذاهبان.

- لا تكوني لحوحة، يا عزيزتي..

نعبر الشارع وندخل إلى مركز التسوق. لقد كان مركز تسوق قبيح للغاية، وكنت متأكدة أن أمي لا تأتي إلى هنا. سرنا إلى الخلف حيث كان هناك متجر ملابس كبير، متجر ضخم حقًا لا أعتقد أن أمي زارته أيضًا. قبل أن ندخل، قال "لا تبتعدي" وأعطاني يده، التي كانت باردة وناعمة جداً. رحب بالصرافين بنفس الطريقة التي رحب بها بالموظفات عند خروجنا من المستشفى، لكنني لم أرَ أي شخص يرد عليه.

تقدمنا بين أروقة الملابس. بالإضافة إلى الفساتين والسراويل والتيشرتات، كانت هناك ملابس عمل: خوذات، ملابس عمل صفراء مثل التي يرتديها عمال النظافة، زيّ عاملات النظافة، أحذية بلاستيكية، وحتى بعض الأدوات. تساءلت إذا كان يشتري ملابسه من هنا وإذا كان يستخدم أيا من هذه الأشياء، ثم تساءلت أيضاً عن اسمه. قال:

-  ها نحن هنا.

كنا محاطين بطاولات الملابس الداخلية للرجال والنساء. إذا مددت يدي، كان بإمكاني لمس صندوق كبير من السراويل الداخلية العملاقة، أكبر من أي شيء رأيته في حياتي، وسعر كل منها ثلاثة بيزو فقط. بواحد من تلك الملابس الداخلية يمكنك صنع ثلاثة سراويل لشخص بحجمي .  قال وهو يأخذني إلى قسم آخر يحتوي على سروايل أصغر:

- ليست هذه . انظري إلى كل هذه السراويل... أي واحدة ستختارين، سيدتي؟

نظرت قليلاً. كانت معظمها وردية أو بيضاء. أشرت إلى واحدة بيضاء، واحدة من القلائل التي لم يكن عليها شريط.

قلت:

- هذه. لكن لا أستطيع دفع ثمنها .

اقترب قليلًا وقال في أذني:

- لا يهم .

- هل أنت المالك؟

-لا. إنه عيد ميلادك.

ابتسمت.

–   ولكن علينا أن نجد أفضل منها. يجب أن نكون متأكدين .

قلت بحذر:

- حسنًا يا عزيزي .

قال:

- لا تقولي: حسنًا يا عزيزي، لأنني أشعر بالغضب .

وقام بتقليدي وأنا أمسك بتنورتي في موقف السيارات.

لقد أضحكني. وعندما انتهى من المزاح، مدّ أمامي قبضتيه المغلقتين وبقي على هذا الوضع حتى فهمت ولمست اليد اليمنى. فتحها: كانت فارغة..

- مازال يمكنك اختيار الأخرى.

لمست القبضة الأخرى. استغرق الأمر مني بعض الوقت لأفهم أنه كان لباسًا داخليًا لأنني لم أر قط سروالًا أسود. وكانت للفتيات لأنها كانت مزينة بقلوب بيضاء، صغيرة جدًا حتى أنها بدت وكأنها نقاط، وكان وجه هيلو كيتي في المقدمة، في المكان الذي عادة ما يكون فيه الشريط الذي لا يعجبني أنا وأمي على الإطلاق. قال:

-  عليك أن تجربي ذلك.

وضعت السروال الداخلي على صدري. مد لي يده مرة أخرى وذهبنا إلى غرف القياس التي بدت خالية. ألقينا نظرة من بعيد. قال إنه لا يعرف إن كان بإمكانه الدخول معي، لأن الغرف كانت للنساء فقط. قال إنني سأضطر للذهاب وحدي. كان ذلك منطقيًا لأن، ما لم يكن شخصًا تعرفينه جيدًا، لا ينبغي أن يرى الناس ملابسك الداخلية. لكنني كنت خائفة من الذهاب إلى غرفة القياس وحدي، أو الأسوأ: أن أخرج من الغرفة ولا أجد أحداً. سألت:

- ما اسمك؟

–  لا أستطيع أن أخبرك بذلك.

-  لماذا؟

انحنى قليلاً، ليصبح تقريباً في نفس طولي، أو ربما كنت أنا أطول منه ببضعة سنتيمترات.

- لأنني ملعون .

- ملعون؟ ما هي اللعنة؟

- امرأة تكرهني قالت إنه في المرة القادمة التي أذكر فيها اسمي سأموت..

ظننت أن ذلك قد يكون مزحة أخرى، لكنه قالها بجدية تامة.

- يمكنك أن تكتب لي الاسم.

- أكتبه؟

-  إذا كتبته فلن تقوله، بل ستكتبه. وإذا كنت أعرف اسمك، فيمكنني الاتصال بك ولن أخاف من الذهاب إلى غرفة القياس بمفردي.

- لكننا لسنا متأكدين. ماذا لو كانت الكتابة بالنسبة لتلك المرأة هي أيضًا قول؟ ماذا لو كانت تعني بالقول الإشارة أو إبلاغ اسمي بأي طريقة كانت؟

-  وكيف ستعرف؟

-  الناس لا يثقون بي وأنا الرجل الأسوأ حظًا في العالم.

-   هذا غير صحيح، ولا توجد طريقة لمعرفة ذلك.

-  أعرف ما أقوله لك.

نظرنا معًا إلى السروال الداخلي في يدي. فكرت أن والديّ قد يكونان قد انتهيا الآن

من أمر آبي. قلت:

- لكنه عيد ميلادي.

ربما فعلت ذلك عمدا، هذا ما شعرت به في تلك اللحظة: امتلأت عيناي بالدموع. ثم عانقني، وكانت حركة سريعة جدًا، وضع ذراعيه على ظهري وضمني بقوة لدرجة أن وجهي دُفن في صدره. ثم أطلق سراحي، وأخرج مجلته وقلم رصاص، وكتب شيئًا على الهامش الأيمن للغلاف، ثم مزقه وطواه ثلاث مرات قبل أن يسلمني إياه. قال:

- لا تقرئيها .

ثم نهض ودفعني برفق نحو غرف القياس.

تجاوزت أربعة غرف قياس فارغة، متبعة الممر، وقبل أن أستجمع شجاعتي وأدخل الغرفة الخامسة، وضعت الورقة في جيب تنورتي والتفتت لأنظر إليه، وتبادلنا الابتسامات.

جربت السروال الداخلي. كان مثاليًا. رفعت المعطف لأرى كيف يبدو عليّ. كان مثاليًا جدًا. كان يناسبني بشكل مذهل، ولأنه  كان  أسود اللون، لن يطلب مني والديّ استخدامه ليلوح به  من النافذة خلف سيارة الإسعاف، وحتى لو فعل ذلك، لن أشعر بالحرج الشديد من أن زملائي يرونه. "انظروا إلى السروال الداخلي الذي تملكه هذه الفتاة"، سيفكرون، "ما أجمله من سروال داخلي". أدركت أنني لا أستطيع خلعه الآن. وأدركت شيئًا آخر: لم يكن له علامة أمان. كانت هناك علامة صغيرة حيث تكون العلامة عادة، ولكن لم يكن هناك إنذار.وقفت لحظة أطول أنظر إلى نفسي في المرآة، ثم لم أستطع التحمل أكثر وأخرجت الورقة الصغيرة، فتحتها وقرأت ما فيها .

خرجت من غرفة القياس ولم يكن هو في المكان الذي تركته فيه، ولكن كان أبعد قليلًا، بجانب ملابس السباحة. نظر إليّ، وعندما رأى أنني لم أكن أحمل الملابس الداخلية، غمز لي، وكنت أنا من أخذت يده. هذه المرة ضمّني بإحكام أكثر وكنت راضية عن ذلك؛ معًا، مشينا نحو المخرج. كنت أثق في أنه يعرف ما يفعله. إن الرجل الذي بدت عليه ملامح الحظ السيئ يعرف كيف يتعامل مع هذه الأمور.

تجاوزنا خط الدفع من المدخل الرئيسي. نظر إلينا أحد رجال الأمن وهو يضبط حزامه. من المؤكد أنه سيعتقد أن الرجل الذي لا يحمل اسمًا هو والدي، وشعرت بالفخر.

مررنا عبر أجهزة الكشف عند الخروج ودخلنا إلى المركز التجاري، وواصلنا المشي في صمت حتى عدنا إلى الشارع في تلك اللحظة رأيت أختي آبي، وحدها، في وسط موقف سيارات المستشفى. ورأيت أمي، على جانبنا من الشارع، تبحث بشكل محموم. كان والدي أيضًا قادمًا نحونا من موقف السيارات. كان يتبع الشرطي الذي كان ينظر إلى سيارته، والذي كان الآن يشير إلينا. حدث كل شيء بسرعة كبيرة رأنا والدي، صرخ باسمي، وبعد ثوانٍ قليلة، كان ذلك الشرطي واثنان آخران ظهروا من العدم قد وصلوا إلينا بالفعل. تركني الرجل غير المحظوظ، لكن يدي ظلت ممدودة نحوه لبضع ثوانٍ. أحاط به الجميع ودفعوه بطريقة سيئة. سألوا عما كان يفعله، وسألوه عن اسمه، لكنه لم يرد.

احتضنتني أمي وتفقدتني من رأس إلى أخمص القدمين. كانت تحمل سروالي الداخلي الأبيض في يدها اليمنى. ثم، أثناء فحصي، لاحظت أنني كنت أرتدي سروالًا داخليًا آخر. رفعت تنورتي بحركة واحدة: كان من غير اللائق والفاحش أن تفعل ذلك أمام الجميع، لدرجة أنني ارتجفت وتعين عليّ أن أتراجع بضع خطوات حتى لا أسقط. نظر إليّ الرجل غير المحظوظ ونظرت إليه. عندما رأت أمي السروال الداخلي الأسود صرخت "ابن العاهرة، ابن العاهرة"، واندفع والدي نحو الرجل وحاول ضربه. حاول الأمن الفصل بينهما. بحثت عن الورقة في جيبي، وضعتها في فمي، وعندما ابتلعتها، كررت اسمه بصمت، عدة مرات، حتى لا أنساه أبدًا.

(تمت)

***

......................

المؤلفة: سَمَانتا شْوِبْلِين / Samanta Schweblinوُلدت في بوينس آيرس، الأرجنتين، في عام 1978. حصل أول كتاب لها، "نواة الاضطراب" (2002)، على جائزة هارولدو كونتي وجائزة الصندوق الوطني للفنون. الثاني، "طائر في الفم" (2009)، حصل على جائزة Casa de las Américas وترجم إلى ثلاث عشرة لغة. حصلت على منح دراسية من مؤسسات مختلفة، وعاشت مؤقتاً في المكسيك وإيطاليا والصين وألمانيا (برلين)، حيث تقيم الآن. اختيرت من قبل المجلة المرموقة "Granta" كواحدة من "أفضل الرواة باللغة الإسبانية" و حصلت مؤخراً على جائزة خوان رولفو من فرنسا.

قصة: أولجا مارك

ترجمها الى العربية: د. محمد عبد الحليم غنيم

ترجمتها عن الروسية: شيلي فيرويذر-فيجا

***

"أيها الناس الطيبون، اشفقوا على يتيمة مسكينة!"

صدح صوت الفتاة في أرجاء الحافلة وضرب على النوافذ، وكأنه يريد أن يفرّ من الهواء الخانق ويهرب إلى الخارج.

عندما اقتحم هذا الصوت فجأة روتينهم المزدحم بما فيه الكفاية قبل العطلة، انتفض الركاب. حدّق بها البعض بانزعاج، هذه القامة الصغيرة الملفوفة بمعطف دافئ لا يبدو سيئاً للغاية، لكن معظمهم كان لديه رد فعل إيجابي بما يكفي تجاه كل من الصوت وصاحبته، وسقطت الأوراق النقدية المجعّدة بسخاء في راحة يدها النحيلة.

كانت فيركا سعيدة. ابتسمت لكل من أعطاها مالاً، فهي تعلم أن وجهها الصغير الجميل سيُحرك مشاعر الناس ويدفعهم للعطف، ويزيد من حجم تبرعاتهم.

- أين والداكِ؟

سألتها امرأة في منتصف العمر بقلق.

أجابت فيركا بمرح:

-    نحن لاجئون. من الشيشان.

ثم أضافت، تحسّبًا لأي شيء:

-    هناك حربٌ هناك.

هزّت المرأة رأسها بأسف، بينما اتجهت فيركا نحو المخرج. لقد جُمعت النقود، وحان الوقت للرحيل.

تمتمت فيركا بشيء وهي تقفز أثناء سيرها، مليئةً بالبهجة، سارت بين المباني السكنية الجديدة الشاهقة في أرقى جزء من المدينة. كان العمل لكسب العيش هنا خطيرًا، لكثرة رجال الشرطة والمواطنين اليقظين، لكن فيركا كانت تحب المخاطرة. توقفت بالقرب من أحد المداخل، فحصته عن كثب، ثم تجاوزته وانتقلت إلى المدخل التالي. دخلت من ذلك الباب وانتظرت. ولإضافة المزيد من المتعة، أخرجت فيركا شطيرة نقانق (هوت دوج) نصف مأكولة من جيبها. قضمت منها لقيمات صغيرة، دون استعجال — فبطنها كانت ممتلئة — ومثل ممثلة قبل دخولها المسرح، استعرضت حوارها. بعد حوالي عشر دقائق، دخل رجل من الباب. أمسكت فيركا ما تبقى من شطيرة النقانق بيد واحدة، وأسرعت لمقابلته.

- تريد لوليتا، حوريّة صغيرة، فتاة يافعة؟

ترنمت فيركا بالكلمات، ثم فتحت معطفها، وبسرعة الخفّاش سدّت الطريق إلى الدرج. لم تكن ترتدي شيئًا غير ذلك المعطف. برز نهداها الصغيران المدبّبان بصورة لافتة، وانقبضت حلماتها الداكنتان - ربما من البرد، وربما من الإثارة. بطن مشدود ، ومثلّث أشقر منتفخ في الأسفل، وفخذان قويّان وركبتان زَاوِيَّتَان لكائن بين الطفولة والأنوثة... ارتعد الرجل وتراجع خطوة إلى الوراء، بعيدًا عن وهج الجسد العاري اليافع. اندفعت فيركا نحوه. انطلق همسها عاليًا، تارة متوسّلًا، وتارة آمِرًا، سريعًا، متلاحقًا، يتردّد مرارًا وتكرارًا.

- اشفق على يتيمة مسكينة يا عم! أنا فتاة جميلة، فتاة طيبة، لم ترَ في حياتك مثلها، ولن تجد أبدًا مثلها...

كان الرجل يتراجع نحو المخرج، لكنه تقدم فجأة، أمسك بـ "فيركا" من كتفها، ودفعها خارج الباب.

- أيتها الوغدة الصغيرة!

طارت فيركا إلى الخارج وسقطت، وكادت أن تُسقط معها امرأة كانت على وشك أن تدخل. توقفت المرأة، وهي في حالة من الاضطراب، تحدق في فيركا العارية الممددة على معطفها.

- اغتصبني!

صاحت فيركا، وأضافت هي تتحدث بوضوح شديد وتحدق مباشرة في المرأة.

- أخذ ملابسي! أنا، اليتيمة!

وبدت في صورة يائسة، غطت وجهها بيديها.

ركض الرجل إلى الخارج، وألقت فيركا نظرة على وجه المرأة المصدوم، وصرخت: "النجدة!" ثم قفزت وركضت بين المباني.

توقفت فيركا لالتقاط أنفاسها بعد بضعة شوارع. كانت تهتز من الضحك، وقضت وقتًا طويلًا تستريح قرب إحدى الشجيرات الصغيرة التي زرعت قبل عامين. أخرجت فيركا زجاجة الفودكا التذكارية من جيبها، تلك التي أعجبت بها لجمالها وصغر حجمها واشترتها في صباح ذلك اليوم من كشك محطة الحافلات. فتحتها وأخذت رشفة. ثم واصلت السير نحو مبنى آخر، وهي ترقص في طريقها، دون أي استعجال، متظاهرة بأنها المغنية "لايما فايكوليه" على شاشة التلفزيون. كانت أبواب المباني هنا مزودة بأقفال تعمل بلوحات مفاتيح. انتظرت حتى دخل طفل، فدخلت خلفه، ووقفت تنتظر مرة أخرى.

ظهر رجل على الفور تقريبًا. وفتحت فيركا معطفها، واتجهت نحوه.

- هل تريد لوليتا، حورية، فتاة يافعة؟

توقف الرجل، وأخذ يتفحصها ببطء من أعلى إلى أسفل.

- كم عمركِ؟

- إحدى عشرة!

قالتها فيركا بابتهاج.

قال الرجل:

- أنتِ تكذبين.

تراجعت فيركا:

- أربعة عشر.

وتابعت بثقة:

- لا أتذكر، يا عم. نحن لاجئون من طاجيكستان. هناك حرب هناك.

- من أين تعلمتِ الكلام بهذا الشكل إذن، يا لوليتا من طاجيكستان؟

قالت فيركا وهي تقترب أكثر من الرجل:

- أنا ذكية جدًا. أقرأ الكتب، وأشاهد الأفلام، وأعزف على الجيتار. لم تحلم أبدًا بفتاة مثلي.

فحصها الرجل مرة أخرى عن كثب، مذكّرًا إياها بالطبيب في الفحص الطبي.

قال الرجل:

- حسنًا، لنذهب إلى منزلي.

- لا، يا عم، لست غبية. هنا، من فضلك. لن أذهب إلى منزلك.

تردد الرجل لثانية، ثم أمسك بـ "فيركا" وجرّها إلى السلالم حتى الدور الأول، حيث كان هناك تجويف صغير في الحائط.

توسّلت فيركا:

- يا عمي! أنا مجرد يتيمة. ماذا عن بعض المال؟

سألها الرجل:

- "كم تحتاجين؟ هل ما يكفي للآيس كريم؟

- ألف.

أخرج الرجل بعض المال، وألقت فيركا نظرة خاطفة على محفظته، ودسّه في يدها. تحسّس ملابسه الشتوية وأمضى خمس دقائق وهو يحاول إيجاد وضع مريح.

انتظرت فيركا بصبر، وقد كسبت المال الذي حصلت عليه بنفس الصبر والبرود، وهي تحدق بلا مبالاة من نافذة الدرج الضبابية. تحسّست في جيوبها بقية النقانق وبدأت في مضغها. قال الرجل:

- على الأقل كان يمكنكِ تؤجلي الأكل.

أجابت فيركا بحدة:

- لا أهدر الطعام.

سأل الرجل، بينما كانت فيركا تُزرّر معطفها في غير عجلة.

- الآن إلى أين ستذهبين؟

نزلت فيركا درجتين للأسفل وتوقفت لتصلح شعرها.

- لن أذهب إلى أي مكان حتى تدفع لي، يا عمي.

- ماذا تقصدين، حتى أدفع لكِ؟

استشاط الرجل غضبا.

- لقد أعطيتكِ ألفًا!

قالت فيركا في برود:

- ألف من عملتنا ،لقد قصدت ألف دولار.

شتم الرجل ولعن. تجمدت فيركا لثانية، ثم قلبت عينيها بطريقة مسرحية، ورفعت ذراعيها، وصرخت ليسمعها المبنى بأكمله.

- النجدة. النجدة. طفلة تتعرض للاغتصاب.

انقض الرجل عليها، لكن فيركا كانت مستعدة لذلك ؛ تملصت منه ، وركضت صاعدة على الدرج، وهي تدق بعنف على كل أبواب الشقق فى طريقها. صرخ الرجل عليها من الخلف.

- توقفي! اهدئي!

استدارت فيركا وهمست له:

- أعطني أجرتي، يا مغتصب الأطفال، وإلا سأذهب إلى الشرطة وتنتهي القصة!

في مكان ما، انْصَفَق بابٌ، وسُمِعت أصوات فى مكان آخر. شحب وجه الرجل، أخرج محفظته، وأخذ منها ثلاثمائة دولار، وألقى بها نحو فيركا. نظرة واحدة سريعة على المحفظة أخبرتها أنه لم يتبقَ شيء في داخلها، لذا التقطت فيركا المال، وأغلقت معطفها بإحكام، وركضت إلى الطابق السفلي، مرورًا بكل الأصوات القلقة التي تقول: "ماذا حدث؟" و"من الذي صرخ؟"

وحين ابتعدت بما يكفي، في قطعة أرض خالية قرب المكان الذي كانوا يبنون فيه برجًا آخر، قفزت فيركا عاليًا في الهواء، وأخذت تؤدي رقصة النصر لقبيلة مجهولة. أنهت زجاجة الفودكا وتوجهت إلى متجر "رامستور" لتحول الأوراق الخضراء عديمة الفائدة إلى أشياء جيدة تحتاجها.

غطت أجواء المساء الشتوي الباكر المدينة بوشاح قاتم. كان ضباب فترة ما بعد الظهيرة قد استقر كغيوم سامة تملأ الشوارع. أما فيركا فكانت تمشي ببطء، منحنية تحت وطأة عدة أكياس تسوق ممتلئة، وعليها صورة وحش أخضر فضائي، تشق طريقها ببطء مرورًا بحاجز خرساني طويل يحيط بموقع بناء مهجور منذ عشر سنوات. في الماضي، كانوا يخططون لبناء متجر كبير هنا، الأكبر في المدينة، حتى أنهم تمكنوا من وضع أساس متين وبناء الطوابق الأربعة الأولى.

لكن الأزمنة تغيرت، ولم يعد هناك ما يكفي من المال، فامتلأت الأرض أولاً بالأعشاب الضارة، ثم بالشتلات الصغيرة. الآن، تنتشر المتاجر الكبيرة في جميع أنحاء المدينة في مبانٍ جاهزة مستوردة. إنها تنمو أمام عينيك كأنها بيوت من ورق. لم يعد أحد يهتم بمشروع سوفيتي عملاق قديم. كانت فيركا تمشي، ولتشتيت انتباهها عن ذراعيها المؤلمتين اللتين بالكاد تحملان الحمل الثقيل، كانت تكرر الكلمات الجديدة التي قرأتها لأول مرة اليوم في المتجر، في الإعلانات وعلى المنتجات، على أغلفة الكتب وأشرطة الكاسيت: "آي-بيم"، "خدمات استشارية"، "قروض عقارية". أحبت هذه المجموعات الغامضة من الأصوات، التي يمكنها تكرارها وتذوقها حتى يصبح ما سمعته أو رأته أو قرأته فجأة واضحًا ومفهومًا... كان الناس يضحكون على هوسها الغريب، وهذا جعل المتعة شبه المحرمة أكثر حدة.

عندما وصلت إلى فتحة في الجدار الخرساني، مرّرت فيركا الأكياس أولاً، ثم زحفت هي بنفسها. اتبعت المسار المطروق جيدًا المؤدي إلى المبنى غير المكتمل وطرقت على نافذة القبو. لم يكن لأي من الطوابق العلوية جدران، بل مجرد هياكل وسقف بالكاد، لكن القبو والأقبية السفلية كانت مكتملة. كل ما احتاجوه هو وضع بعض الخشب الرقائقي في فتحات النوافذ والفتحات الهوائية ليصبح المكان جاهزًا.

انزلق مصراع من الورق المقوّى بسرعة، وظهر في النافذة رأس صبي أشعث يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا.

- فيركا! تعالي. هل أنتِ بردانة؟

- خذ !

في فخر، ناولته فيركا أكياس التسوق واحدة تلو الأخرى. أطلق الشاب صيحات إعجاب وسرور وهو يأخذ كل كيس، محاولًا معرفة ما بداخله، بينا فيركا تضحك.

عندما انتهت من تمرير كل الأكياس، انزلقت فيركا بنفسها عبر النافذة. أمسكها الشاب وساعدها على النزول، ثم سارع لتغطية النافذة. أحضرا الأكياس إلى الغرفة المجاورة، حيث كان الجو دافئًا بفضل موقد من الحديد الزهر، وكانت المكان يعج بالضجيج. كان من الواضح أن خمسة مراهقين صغارًا يعيشون هناك منذ فترة. كانت البطانيات مفروشة في الزوايا، والأطباق موضوعة على طاولات منزلية الصنع مجمعة من صناديق، ونافذة مظلمة مغطاة بألواح خشبية كانت مزينة بستارة.

استُقبِلت فيركا بصرخات الفرح، وعندما بدأت في عرض الأشياء التي اشترتها منتصرةً، تحول الفرح إلى ابتهاج عارم. صفّقوا لعصي النقانق المنحنية قليلاً، وأقراص الجبن الهولندي، ولفائف الجبن المدخن، والبقلاوة، والمعجنات، والأطعمة المعلبة، وزجاجات الفودكا والبيبسي، والحلوى، والشوكولاتة، والنعناع، وغيرها من الكنوز.

- كيف حملتِ كل ذلك؟

سألتها الفتاة القوية ذات العظام البارزة التي كانت دائمًا تشهق بأنفها. لكن فيركا كانت قد استعادت أنفاسها ورفضت السؤال بابتسامة:

- لا شيء يذكر.

وحين شبع الجميع وأخذوا نصيبهم من الشراب، وأخذوا يسترخون من غفوة الامتلاء القصيرة، يدخنون بنشوة، وكان الوقت كله مرحًا، بدأت فيركا تدور في وسط الغرفة، وتروي لهم أحداث يومها. أدّت كل الأدوار، وقلّدت أصوات الرجال ووجوه النساء المذعورة، وحكت كيف أنها ــ هي، فيركا ــ قامت بكل ذلك بمهارة وسلاسة.

كان الجميع يضحكون، يقلّدون كلماتها وإيماءاتها، وبينما كانت تستمتع بحبهم وإعجابهم، شعرت فيركا بالسعادة.

فجأة، قالت الفتاة القوية:

- لقد صار الجو بارداً بعد الظهر. هل نذهب لنقضي الليلة في دار الأيتام؟

قال الفتى ذو الشعر الأشعث، وهو ينظر إلى بقايا وليمتهم الشحيحة:

- لا. لنذهب غداً.

هتفت فيركا:

-غداً، غداً!

لم يكونوا يذهبون إلى دار الأيتام إلا عندما تسوء الأمور حقاً في الشوارع، أو عندما يحتاجون إلى الاختباء والانتظار حتى تمر بعض المتاعب. وقد توقف المشرفون منذ زمن طويل عن الاهتمام باختفاء الأطفال الأكبر سناً المتكرر. كانوا يغيبون في كثير من الأحيان لأيام متواصلة في الصيف، وأحياناً في الشتاء أيضاً.

قالت فيركا:

- لقد اشتريت هذا أيضًا.

وأخرجت من جيبها ولاعة.

سألها أحدهم، وهو يلقي نظرة غير مهتمة على ما اشترته:

- وماذا في ذلك؟ إنها مجرد ولاّعة.

- إنها أبدية. تدوم إلى الأبد.

رفعت فيركا بفخر المستطيل الأحمر الصغير ذو الزوايا المستديرة فوق رأسها.

ضحك الفتى ذو البشرة الداكنة الذي يشبه الغجري وقال:

- لا شيء يدوم إلى الأبد.

هتفت فيركا:

- لكن هذه تدوم، هذه تدوم!

ومررت إصبعها بحب على سطحها الأملس.

- لقد قالوا لي إنها كذلك!

همست الفتاة التي كانت تجلس دائماً بهدوء في الزاوية، وهي أصغرهم جميعاً:

- أنت محظوظة جداً. لديكِ دائماً مال وتعرفين الكثير من الكلمات الكبيرة الفخمة.

صاحت فيركا:

- هكذا أنا!

دارت في جميع أنحاء الغرفة، بيد تحمل الولاّعة وبالأخرى تحمل زجاجة فودكا مفتوحة، وكانت سعيدة، فالغرفة الدافئة كانت مريحة، ولهبها الصغير كان يرفرف ثم ينطفئ، والأطفال من حولها كانوا يستعدون للنوم، لكنها أرادت الذهاب إلى مكان ما، فعل شيء ما، لا يهم أين أو ماذا، طالما أن هذه السعادة المترنِّحة يمكن أن تستمر.

صاحت عليهم:

- هيا بنا نصعد إلى الطابق العلوي! لننظر إلى المدينة! إنها ليلة فريدة، سيكون الأمر رائعاً!

قال لها الفتى ذو الشعر الأشعث، وهو يدخل تحت بطانية مع إحدى الفتيات:

- أنتِ ثملة تماماً! الجو بارد هناك. سنتجمّد.

لكن فيركا كانت بالفعل تصعد الدرج المتهالك. فتحت الباب في الأعلى ثم صعدت، و صعدت، وصعدت، حتى وصلت إلى الطابق الأخيرانقضّ عليها الهواء البارد الحاد فأطلقت شهقة من السعادة، وشدّت معطفها بإحكام حول جسدها.

سارت فيركا إلى الحافة تماماً. كانت المدينة تومض لها بعشرات النوافذ المضيئة، وأضواء الأعياد في الشوارع، والومضات الملونة للإعلانات. كان الجو بارداً. في الليل، تنسى الطبيعة أن هذه المدينة جنوبية. أخذت فيركا رشفة سريعة من الفودكا. أشعلت ولاّعتها بشكل ميكانيكي، وكأنها تضيف شعلة صغيرة أخرى إلى الليل المتلألئ، ونظرت بعيداً. بالنسبة لها، كان المنظر من الأعلى دائماً آسراً. نظرت لفترة طويلة إلى المدينة الممتدة في كل الاتجاهات، ثم، وهي متجمدة، بدأت في الرقص. وسرعان ما كانت تضحك وتصرخ وتدور في دوائر، ورأسها ملقى إلى الخلف وذراعيها ممدودتان على اتساعهما. عندما توقفت وعادت لتنظر إلى المدينة، بدا لها أن الأضواء في النوافذ تُسحب، وتدور بلا حدود، في الظلام اللامحدود للفضاء. كان كل شيء يسبح: أضواء السيارات الأمامية، البيوت، الشوارع... كان الكوكب الضال يطير نحو المجهول، يسحب خلفه فص القمر الرشيق، والشمس أينما كانت مختبئة، والنجوم الشتوية الهشة. بالكاد تمسك نفسها، وبأقصى سرعة، صرخت فيركا على الأضواء التي تحولت إلى خطوط رفيعة ومشرقة:

"أيها الناس الطيبون، اشفقوا على يتيمة مسكينة!"

(انتهت)

***

.........................

* أولجا مارك / Olga Mark (1963-2008) كانت معلمة وناقدة وكاتبة قصص. نشرت ثلاثة أعمال روائية وديوانا من الشعر. كانت أولجا تكتب باللغة الروسية.

* شيلي فيرويذر-فيجا/ Shelley Fairweather-Vega مترجمة محترفة من اللغتين الروسية والأوزبكية، وقد ترجمت أعمالاً أدبية من جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي السابق. تحمل شهادات في العلاقات الدولية من جامعة جونز هوبكنز وفي الدراسات الروسية وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى من جامعة واشنطن. تشغل حالياً منصب رئيس جمعية المترجمين والفوريين في الشمال الغربي، وتدير خدمات المكتبة الروسية التابعة لـ FairVega. شاركت في تحرير العمل قيد الإنجاز "أمانات: كتابات نسائية حديثة من كازاخستان" مع زاوري باتاييفا.

في نصوص اليوم