ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

بقلم: روكسان غاي

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

أنا أراقب إميلي، عشيقتي، وهي تتنقل في السوق، وتفتش بين الأشياء والتي لا تأمل أي واحدة فينا باقتنائها. الجو حار والرائحة خانقة، حرارة تجعلك تشعرين أن مقلتيك تتعرقان، ولا تفكرين إلا بالقفز في ماء المحيط المالح للاستجمام قليلا. أنا أراقب عشيقتي لأنه أمر خطير جدا أن أفعل أي شيء سوى المراقبة. وجهها رقيق ومرسوم، ولكن حينما تتراقص أصابعها بين أشياء الزينة المحببة عندها، تشرق عيناها وترتخي عضلات كتفيها. وأتصور أنها تتخيل كيف سيكون الحال إذا امتلكت هذه الأشياء البسيطة التي ترغب بها. هناك عدد قليل من السياح في السوق، يتجولون وهم بغاية الارتباك، ويقرأون بروشورات ليست في مكانها الصحيح.  معظم الأمريكيين يأتون إلى هاييتي وهم يتوقعون أنها مثل جزيرة أروبا أو القديس كيتس. فهم ينظرون إلى كل هذه الجزر الصغيرة كأنها جزيرة واحدة، حيث الخمور تتدفق باستمرار، والسعاة الصغار ينتظرون تلبية كل احتياجاتهم. ولسوء حظهم كل الأولاد السعاة فروا من البلد ولم يعد هناك جليد لتبريد مشروباتهم. تعارفنا أنا وإميلي منذ أيام طفولتنا. كانت أمي أفضل صديقة لأمها، وشاهدنا اعتقال والدينا بسبب تأييد الانتخابات الحرة، وتعايشنا مع اختفاء أخوتنا في الريف أو المحيط، وراقبت كل منا الأخرى. كنا نراقب بعضنا البعض باستمرار. وفي إحدى المرات ونحن نجلس على الشرفة الأمامية، ونشرب عصير المانغو،  والكوب البارد لصق جبين كل منا. بعد كل رشفة، تلتفت نحوي وتقول: "أحيانا يا ماري فرانسيس، لا يهمني رؤية إنسانة سواك في هذا العالم". شقت ضجة أولاد المدارس طريقها وتجاوزتنا، وكان مجرد النظر إليهم يهيئني للبكاء. فهم صغار جدا، لكنهم ليسوا أبرياء، ويريدون أشياء لا يمكنهم امتلاكها. رفعت إميلي نظراتها نحوي. لا أحد غيري يمكنه أن يرى أنها ابتسامة، غير أنني أستطيع أن أعرف ذلك. ارتفع جفناها، والتفت أطراف شفتيها قليلا، وتلمست أصبعها ذقنها. نصبت رأسي جانبا، وتظاهرت أنني مهتمة بعلبة كورن فليكس تباع بثلاثة عشر دولارا.  مسدت أحد حاجبي وهبطت بأصبعي نحو خدي. وهذه هي طريقتي بالابتسام لها، لأخبرها أنني أود لو ألمس وجهها، وأقبض على يدها ونحن نتسوق، وأنا أهمس بأحلام لا معنى لها سوى أن ما نرغب به أكبر من قدراتنا. وببطء، اقتربت منها، متجاهلة الأكواع العظمية، والوجوه النحيلة، والعجائز المرهقات اللواتي تمتصصن شفاههن. دق قلبي مع كل خطوة، وذابت الحرقة بين الفخذين مع دقة لطيفة. كان علي أن أبتعد، ولكنني اليوم أميل للتمرد. كنت أحب تعذيب نفسي بهذه الرقصة التي أكون فيها قريبة جدا ومع ذلك أكون بعيدة أيضا. حينما أصبحت أخيرا بقربها، تفحصت بحرص  بيدي اليسرى حفنة خرز من ثيابها، وكانت يمناي متهدلة بجانبي، وأصبعان على القماشة الزهرية البالية في ثوبها، وهو واحد من ثلاثة تمتلكها. مالت نحوي، وأصبح بوسعي الإحساس بالضغط الطري لفخذها على أصبعي، وذراعها العاري لصق ذراعي. التفتت وأمكنني الإحساس بنظراتها نحوي. أجبرت نفسي على النظر قدما، ولكن كانت كأنها تتغلغل بعينيها في داخل جسمي، وتتجاوز بشرتي، وعظامي، ودمي، وتبلغ قلبي. زلقت أصابعي إلى الأعلى، على طول الأطراف المستديرة من وركها وحتى الخصر. في وقت آخر، أو مكان آخر، أو لو أنني شخص آخر، كنت سأقف وراءها، وأرعى قفا رقبتها بشفتي. وأعقد ذراعي حولها من أجل سعادة تدوم لحظة، قبل أن آخذ يدها ونتابع التجوال في السوق. ولكن بما أننا هنا وفي هذا الحال، ابتعدت حالما شاهدت جماعة من الشباب، رجال ساخطون يقتربون منا. وأشك بوجود أي سبب خاص لسخطهم. فهو السخط الذي ينتاب الرجال في هذه الأيام، فهم غاضبون من أوضاعهم و رغباتهم وأحوالهم. وهو الغضب الذي نشترك به جميعا. ولكنه غضب لا يعبر عنه غير الرجال. بدأت أمشي بالاتجاه المعاكس مع أنني أردت أن ألتفت وأهمس: أحب وأريد أن أكون برفقتك. أعتقد، في أيام مثل هذا اليوم، أنه يمكنني المشي حتى تؤلمني عضلات ساقي، احتجاجا على الإرهاق، حتى أصل المحيط، وحتى أدخل في الوقت والموضع الذي يجعلنا أنا وإميلي معا، وفي العلن. ولكن الآن، نحن امرأتان غير موجودتين. نحن أقل من خيالين، وأعلى من شبحين. ونحن نسير على درب الشائعات التي يتبادلها الجيران بأصوات مكتومة ومرعوبة. ونحن امرأتان يتجاهلهما الناس لأن حب النساء للأمريكيين فقط - وليس شيئا يتقبله شعب جزيرة تخشى الله. يوجد عدد قليل من هؤلاء يعيشون في العلن، وغالبا هم رجال، فنانون يتمخترون بألوان ساطعة في أرجاء البلدة  لأن عملهم متألق جدا. ومع ذلك يواجهون الاشمئزاز بين حين وآخر: إساءة هنا، وحجرة حادة ترمى هناك. وإذا مرضوا، تقابلهم ابتسامات حاقدة، تذكرهم بأيامهم الطيبة، وبأبدانهم التي أنهكوها بدون نفع. تم ضبطنا أنا وإميلي في إحدى المناسبات. حينها كنت في الثالثة والعشرين وهي في الثانية والعشرين. كان الوقت متأخرا وفي الليل، تقابلنا في الظلام بين البيوت. كانت أمي وأمها نائمتين، وجيراننا نائمين. لحظة شعرنا أننا آخر امرأتين في هذا العالم، واستمتعنا بالإحساس بحريتنا - حرية أن تتصرف كما ترغب. وتحت غطاء الليل اشتدت الحرارة وتعرقنا. في هاييتي تمر بعض الليالي، وتشعر خلالها كأن القمر يحرق بحرارته مثل الشمس. كانت ترتدي قميصا رقيقا وصندلا قديما. وكنت أرتدي معطفي المنزلي، وأعلى ثلاث أزرار مفتوحة. تماسكنا بالأيدي وانزوينا في أحلك جزء من الفضاء الأسود، وكل منا تتحسس وجه الأخرى بأصابعها كما لو أن ملامحنا، ربما، تبدلت في فضاء الساعات القليلة التي انفصلنا فيها عن بعضنا البعض.  لعقتها بلساني من طرف ذقنها حتى الفجوة الموجودة تحت حلقها. وشعرت بطعم ملوحة العرق، وأمكنني الإحساس بأنفاسها وهي تنبض تحت سطح جلدها. لم نتكلم، ولكن انتفت الحاجة للكلمات. وأي شيء يمكن قوله ذكرناه على امتداد السنوات. عانقت قفا رقبتي ورفعت رأسي، ووضعت شفتي أمام شفتيها، ثم قبلتني بضراوة، وتخيلت أنها ستبتلعني كلي. كانت شفاهنا جافة جدا ومتشققة، فتذوقت دمها. دفعت لساني بين شفتيها، وتحريت به الأطراف المدببة لأسنانها، التحم لسانانا.  بعد ذلك جعلتني أنخفض، وسحبت قميصها حتى كتفيها النحيلين. حضنت ثدييها بيدي، وتدفق اللحم الطري بين أصابعي. همست إميلي بكلمة واحدة، "رجاء". طرحتها على الأرض، ووضعت يدي بنهم على فخذيها. كانت الأرض تحت جسدينا دافئة، ومحرضة، ومعطاءة. ثم سمعنا شهقة، وعلمت إذا تحركت، سيسقط قلبي من صدري على الأرض. وعلمت أيضا أن كل مخاوفي على وشك أن تنتهي. نعمت بالعديد من مثل هذه اللحظات. تدحرجت إميلي بعيدا عني، ومدت يدها إلى قميصها وعقدت ذراعيها على صدرها، كما لو أنها ستختفي إذا لزمت السكون. وببطء التفت برأسي ورأيت أمي تحت حزمة رقيقة من ضوء القمر، وكان منظر وجهها مرعوبا جدا، وبعيدا جدا، وبصعوبة تعرفت عليها. استدارت وانصرفت. ولم نتكلم عن الأمر - لا أنا وأمي ولا أنا وعشيقتي - غير أننا أنا وإميلي لم نتقابل لاحقا في الظلام بين بيتينا ثانية. والآن، بعد خمس سنوات، وكلما أردنا ممارسة الحب، نتسلل إلى بيت صديقة حالما أمكننا، أو نجتمع على فترات مع من هم على شاكلتنا، نساء ورجال هم أقل من ظل، وأكثر من شبح.  عشاق صغار وحزينون. واجتماعاتنا، في ليالي يوم السبت في الغرفة الخلفية من بيت أحدهم في بورت أو برينس. يتم سكب الروم. وندفع عشر دولارات للدخول. وطيلة الوقت، نحاول أن نتظاهر أننا في نيويورك أو ميامي أو مونتريال، في بار مع الأصدقاء. ونحاول أن نبرهن على عاطفتنا. و نحاول أن نبدو أننا لا ننظر إلى الباب، خشية من إلقاء القبض علينا. وكنت أنا وإميلي نتسلل إلى الحمام، المعتم والرطب، بمساحته الضيقة التي تحد من التحرك. ونتحرى ثيابنا، ثم ندس أيدينا بين أفخاذنا، ونتبادل قبلات طويلة، وتختلط أنفاسنا، بمحاولة لاختلاس ما أمكن من البهجة من جسمينا قبل العودة إلى البيت. وفي أمسية من شهر كانون أول هادئ على نحو غريب، وقبل فترة قريبة، هاجم اجتماعنا الخاص مجموعة من الرجال، في الحقيقة صبيان. كنت جالسة مع إميلي على الكنبة، وذراع إحدانا حول الأخرى، وحينها دخل من الباب الأمامي خمسة رجال. وأمكننا شم رائحة الكحول تفوح منهم - ومعها الكراهية. كان ألبيرت يقف بالباب، وهو من الأصدقاء، فقبضوا على قميصه، وألقوا به على الجدار، وأتبعوا ذلك بكلام فظ وغليظ. وألقى أحدهم، طويل وأبيض اللون، وملامحه عريضة، الستيريو على الأرض، وباشر بضربه بعصا بيسبول. ولسبب ما، تابعت الموسيقا عزفها. امتلأ الهواء بإهاناتهم بينما الموسيقا الرقيقة تعزف. شخر الرجل ذو العصا "مثليون". جمدنا لحظة،  كلنا، الأحد عشر، مؤملين أن هدوءنا سينهي الموقف. ثم باشرنا الجري في عرض البيت، وخرجنا من الباب الخلفي، وابتعدنا عن المكان. كنا نعلم أنهم جبناء، ولكن لم نجرؤ على النظر نحو الخلف. في اليوم التالي، سمعنا أن ألبيرت في المستشفى بثلاث أضلاع ويد مكسورة، وسلسلة من الرضوض. حزنت لألمه. ولكن لم أكن أريد أن أكون أنا ولا إميلي بمكانه. ببساطة توجب علي حمل خزي آخر. تابعنا لقاءاتنا، وواصلنا تحدي الأعراف، لأننا نعلم أن لحظات مسروقة مثلها، أمر بسيط. وهو كل ما بقي لنا في هذا العالم الكبير والواسع. وعندما بلغنا البيت، كانت أمي نائمة في السرير. في السنوات السابقة، أنفقت معظم وقتها نائمة، وكان لنعاسها سبب مفهوم. وقفت بعتبة بابها، أستمع لصوت أنفاسها. كان هادئا ومترددا. وتجاعيد وجهها عميقة. وكانت تبدو مرتاحة وبسلام، ولم يسعني إيقاظها، ولا إزعاج هذه اللحظة المسروقة. ولإيقاظها لن أكسب غير إلحاق الضرر بها. رأيت الألم على وجهها حينما نظرت لي. وهذا الحزن ناجم من الحياة مع ابنة تحبها ولكنها ترفض ذلك. هناك أوقات أفكر خلالها بالاستقرار مع رجل، أي رجل. وهو ما يجلب السرور العارم للوالدة. ثم أتذكر رائحة رقبة إميلي ورعشة أصابعها فوق أصابعي. وأنا على يقين ورغم البعاد غير المحتمل الذي يفصل بيننا، لن أكون إلا هكذا. وهي كذلك. في المطبخ حضرت لنفسي كوبا من القهوة بالحليب، ومع أن الهواء حار، ومع أننا في الداخل، تركت وجهي فوق البخار، فتفتحت مسامي. يمكنني أن أرى مباشرة من النافذة بيت إميلي. جلست هناك، وانتظرت رؤيتها عائدة إلى البيت من السوق. أمها تلوح من الشرفة وأنا أقدم لها ابتسامة خجولة، تلويحة حذرة، ثم أهرب بنظري قبل أن يفضحني وجهي. جلست لساعات وفكرت بآخر مرة مارست فيها الحب مع إميلي. كم كان عائما، وكم جعلني جائعة. فكرت بفخذيها الدبقين وهما يحتكان ببعضهما البعض أثناء المشي، وفكرت بها وهي في السوق، ودفء فخذها الذي يضغط على أطراف أصابعي - لحظات مسروقة متعددة. أول مرة مارسنا فيها الحب كنا على علاقة خجولة وغريبة. كنت في التاسعة عشرة، وهي في بداية الثامنة عشرة، وكلما مشينا من المدرسة إلى البيت، يحرقنا الرصيف المتشقق والملتهب من خلال نعل الحذاء الرقيق، أقبض على يدها بيدي، وأتمسك بها بقوة حتى تبيض عقد أصابعي. تتوقف وتحدق بي. أفتح فمي، ولكن لا أجد الكلمات. ولكن هناك كلمات، وببساطة لم أعرف كيف أحرك شفتي عليها. من بعيد، اقتربت تويوتا وحيدة منا، أغلقت عيني، وملت عليها، ولمست بشفتي شفتيها. لمست قوس حاجبيها بأصبع واحدة، ثم ابتعدت جريا، محاولة أن لا أبكي. نادتني، وحينما استدرت، لم أجدها، فتابعت الجري، انفصلت عن الطريق وعبرت من حقل قصب، وتجاهلت العليق الذي خدش جلدي، حتى وصلت بيتي. تمسكت الوالدة بصدرها عندما رأتني، هززت رأسي وتراجعت إلى غرفة نومي، وجلست على الأرض الإسمنتية الباردة في الزاوية، وحضنت ركبتي بذراعي، وأنا أهتز إلى الأمام والخلف. بعد دقيقة جاءت دقة خفيفة على الباب. قلت بصوت خشن: "اذهبي". ولكن انفتح الباب الخشبي ببطء وصرير، ووقفت إميلي هناك، وشفتاها مضمومتان. دخلت إلى غرفتي وأغلقت الباب وراءها. سألتني: "لماذا فعلت ذلك؟". خفضت رأسي، وحدقت بالأرض. اقتربت. أصبحت قريبة بما يكفي لشم العرق ورائحة عطرها الفواح. ركعت، وضغطت بركبتيها على ركبتي، وحضنت وجهي بيديها وفي تلك اللحظة، احتضنتني كلي. سألتني مجددا: "لماذا فعلت ذلك؟". نظرت إلى أعلى.

"أشعر بأشياء من غير المفروض أن أراها. وأريد أشياء من غير المفروض أن أريدها".

"كيف تعرفين ذلك؟".

ضحكت بمرارة وقلت: "إذا علمت ستنصرفين مباشرة. ولن تنظري لي ثانية".

"هل تعرفينني أصلا؟".

"ليس الأمر بسيطا لهذه الدرجة".

قبضت على يدي بيدها، ووضعتها على ثدييها. نبض جلدها قليلا من تحت قميصها فارتعشت أصابعي. كنت بحاجة لكامل التحكم بذاتي كي لا أحرك يدي بوصة واحدة إلى اليمين أو اليسار. ثم غطت يدي بيدها، وزلقت يدي تحت قميصها، ووضعتها على بطنها ثم جعلتها تحضن ثديها. تنهدت تنهيدة قوية، مستمتعة بثقلها الذي ملأ راحة يدي. وتخيلت تلك اللحظة لوقت طويل، مستلقية على السرير وحدي وفي ظلام ليال رطبة، وشعرت بألم حاد وقوي بين عيني، ولدقيقة من الوقت، أصبح العالم أبيض. قالت: "ربما الأمر بسيط". هربت صيحة يتيمة من حنجرتي الجافة. قبلت ذقنها، ورقبتها، وسحبت قميصها إلى أعلى كتفيها وفمي يتحسس طريقه إلى أسفل. جرتني نحوها، وأصابعها ترسم دوائر صغيرة على قفا رقبتي. وأمكنني سماع حركات أمي في المطبخ، ودق قلبي وأنا أصلي كي لا تقاطعنا.  وضعت يدي تحت مطاط تنورة إميلي. بقيت صامتة وراكعة، ولكنها باعدت ما بين فخذيها، ثم ضغطت ما لديها على أصابعي، ولم يكن لدي فكرة واضحة عما أفعل. مثل صدى بعيد أمكنني أن أسمع أمي تناديني للعشاء، وتسأل إميلي إذا كانت ترغب بالانضمام إلينا. لم يمكنني التنفس.

عادت إميلي إلى بيتها بعد وقت حلول الظلام.  وحينما وقفت على أعتاب بيتها، نظرت نحوي، وشاهدتني في العتمة، فبدلت رأيها، وشقت طريقها إلى بيتي. حييتها عند الباب، وكانت تبدو حزينة جدا، مجوفة تماما، ففتحت ذراعي فتداعت على صدري، وحطت برأسها على كتفي. همست تقول: "لا يمكنني النوم وحدي الليلة. لا يمكنني ذلك". رفعت ذقنها بأصبعي، ونظرت في عينيها قائلة: "يمكننا زيارة باتريشيا، ربما تسمح لنا بقضاء الليل هناك".

هزت إميلي رأسها وقالت: "بل أريد أن أنام هنا في سريرك... بل سريرنا". كانت هناك في بطني فراشات. ولم أدرك حتى الآن أنني أردت سماعها تقول لي هذه الكلمات. "أمي هنا". "لا أهتم، هل تهتمين أنت؟". أفكر بكل المسرات الصغيرة التي حرمنا أنفسنا منها طيلة سنوات. ولم يمكنني رفض هذا الطلب الوحيد، الطلب الوحيد الذي طلبته مني.  قلت: "تعالي". وقدتها إلى غرفة النوم. تسللنا من أمام غرفة نوم أمي. كانت تشخر. ولكن لم أعن بإغلاق بابها، وكذلك لم أغلق بابي. وجرأة إميلي الليلة، مهما كانت غامضة ومبهمة، جعلتني أفضل أن أكون شجاعة مثلها.  جرأتها جعلتني أتساءل إن كان لدينا ما نخشاه - كما لو أن الأشباح والظلال هي التي تعيق حبنا. تعرت من ثيابها، وأنا كذلك، وزحفنا إلى سريري، والذي بدأ يصر تحت ثقلنا. استلقت على ظهرها، وأنا على جانبي. تحرت عن شفتي بإبهامها. كانت ابتسامتها صادقة. وأعماق عينيها البنيتين والباهتتين بلا مسافات.  رأيت فيها الحكمة والخوف والقليل من الفرح والرغبة. كنا متوترتين بشدة. وأتساءل إذا كانت أم إميلي تعلم أين هي ابنتها، وماذا تفعل. زفرت بصوت مسموع. لم أكن واعية أنني أحبس أنفاسي. قالت إميلي وهي تضغط بواحد من أصابعها على شفتي: "إشش". فكرت بالخطر الكامن فيما نفعل. وفكرت بالحجارة وهي تضرب اللحم والعظم. قد تكون والدتي واقفة في ردهة الباب ولكن لم ألفت رأسي. استلقينا معا. غطت يدها بيدي. وسقطت بالنوم قبل أن أخبرها أنني أحبها، مصغية لصوت دقات قلبها وجريان دمها. ولم يمكنني أن أطلب منها أن تغادر قبل حلول الفجر. كنت مرهقة ومطمئنة جدا ولا أعرف الخوف. في الصباح ستجدنا الوالدة هكذا، الأطراف متعانقة، والجسدان جسد واحد، وكل منا تتنسم أنفاس الأخرى. وستعتقد والدتي أنها تشاهد أشباحا أو ظلالا. وهي محقة.

***

......................

* روكسان غاي  Roxan Gay: كاتبة أمريكية من هاييتي. تكتب القصة والرواية.

 

نص للشاعر يحيى السماوي..

مترجم الى اللغة الانكليزية

ترجمة إنهاء الياس سيفو

***

A Blaze

By: Yahia Alsamawi

Translated by: Enhaa Elias

***

I feel pain?

Thus:

I am surviving …

*

Poor are the Dead

For they do not feel pain!

*

The lover and the beloved die

Yet love remains ….

***

ومـضـة

أنـا أتـألَّـم؟

إذنْ:

أنـا حـيٌّ أُرزق ..

*

مـسـاكـيـنُ الـمـوتـى

فـهـم لا يـتـألـمـون!

*

يموتُ العاشقُ والمعشوقُ

ويبقى العشق ..

*

ثلاثون قصة قصيرة للغاية من أمريكا اللاتينية

اختيار وترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

مقدمة قصيرة جدا على غرار هذه القصص

هذه مجموعة مختارة من القصص القصيرة جدا التى اشتهر بها كتاب من أمريكا اللاتينية ولعل أشهر من عرف بهذا النوع من القصص الكاتب المشهور أوجوستو مونتيروسو وقصته الأكثر شهرة "الديناصور" التى كتبت فى منتصف الستينات، وعُدّت وقتها أشهر وأصغر قصة فى العالم، حيث لم تزد عن سبع كلمات، لكن الآن هناك من تفوق على هذا العدد وكتب قصة فى أبع كلمات وهى قصة المهاجر للكاتب المكسيكى لويس فيليب لوميلي وسوف نضمها إلى هذه المختارات. جدير بالذكر ان هناك حركة نقدية واسعة تلاحق هذا النوع القصصى وقد ألفت العديد من الكتب التى تتحدث عن أصول هذا النوع وسماته وكل مايتعلق به،ولسنا معنيين بهذه الكتب إن ما يهمنا هنا تقديم أكبر قدر من القصص المتميزة المعروفة لدى القارىء فى الغرب عامة حيث ترجمت الى اللغة الانجليزية واللغات الاخرى بما فى ذلك العربية. ومن ثم ستجمع مهمتى هنا بين الترجمة بنفسى أو من ترجمة آخرين وهى قليلة جدا وربما لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وبالتأكيد سأشير إلى ترجمة خلاف ترجمتى، ساكتفى باختيار قصة واحدة فقط لكل كاتب، وبالتالى معنا ثلاثون كاتبا والآن هيا بنا إلى النصوص.

**

1- الديناصور

تأليف: أوجوستو مونتيروسو

عندما استيقظ، كان الديناصور ما يزال موجودًا.

(تمت)

**

2- الديناصور

تأليف: بابلو أورباني

عندما استيقظ، تنهد بارتياح: لم يعد الديناصور موجودًا.

(تمت)

المؤلف: بابلو أورباني (المجر، 1939) كاتب وصحفي أرجنتيني. فرد من عائلة متواضعة، وصل إلى الأرجنتين عندما كان في السابعة من عمره. قام بوظائف مختلفة وكرس نفسه لكتابة القصص والروايات التي تتميز بنبرة ساخرة. خلال عملية إعادة التنظيم الوطنية،استقر في كندا، حيث كتب معظم كتبه. يعمل مدرسًا ومحاضرًا للغة الإسبانية. نُشر كتابه الأول بعنوان "ليلة ثورية"، وهو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة، في عام 1972.وبعد ثلاث سنوات، في عام 1975، ظهرت روايته "بندقية من أجل ماك". حيث كان يقيم بالفعل في أوتاوا / كندا.

**

3- المهاجر*

تأليف: لويس فيليب لوميلي

- هل نسيت شيئا؟

- إن شاء الله !

(تمت)

المؤلف: لويس فيليب لوميلى / كاتب وشاعر مكسيكى،ولد عام 1975 م، درس هندسة الفيزياء وحاصل على ماجستير فى علوم البيئة والدكتوراه فى فلسفة العلوم عام 2012 م، حصل على جائزة القص القصير من معهد الفنون الجميلة وتعتبر قصة المهاجر أقصر قصة قصيرة فى العالم حيث تتكون من أربعة كلمات فقط.

* نشر الكاتب المكسيكي لويس فيليبي لوميلي القصة الصغيرة (المهاجر) عام 2005 م. متفوقا على أجوستو منتيروسو صاحب قصة الديناصور المعروفة.

**

4- القلق

تأليف: أورلاندو إنريكي فان بريدام

قال الجلاد:

- لا تقلق كل شيء سيكون على ما يرام.

أجاب المحكوم عليه بالإعدام:

- هذا ما يقلقني.

(تمت)

المؤلف: أورلاندو فان بريدام (23 أغسطس 1952) هو كاتب مقالات ومعلم أرجنتيني. وهو مسؤول عن رؤساء النظرية الأدبية والأدب الأيبيري الأمريكي في جامعة فورموزا الوطنية، المقاطعة التي يعيش فيها في إل كولورادو.

**

5- الرجل الخفي

تأليف: غابرييل خيمينيز إيمان

كان ذلك الرجل غير مرئي، لكن لم يلاحظه أحد.

(تمت)

**

6- درس

تاليف: لورا نيكاسترو

إذا كان هناك شيء واحد علمه الرجل لتلك المرأة فهو التعبير عن رغباتها. إذا كان هناك شيء واحد تعلمته المرأة من هذا الرجل، فهو أن الرغبات لا تتحقق دائمًا.

(تمت)

المؤلفة: لورا نيكاسترو /(1935- 2017) ولدت لورا نيكاسترو في بوينس آيرس (الأرجنتين)، ودرست الفلسفة في كلية الفلسفة والآداب. عاشت لمدة عامين في ألمانيا. بدأت النشر في الثمانينيات. من الكتب المنشورة : لصوص النار - قصص، 1984..سمع أن الخطوات – قصص 1987 غير ملموس – رواية (1990) مدن الرمل - قصص (1992) كتاب الحب السري - قصص (1995) الخميس إلى الأبد – رواية(2005). لا تيجرا - قصص، 2009).

**

7- خرافة

(التاريخ يعيد نفسه)

تأليف: دييجو مونيوز فالينزويلا

بمرور الوقت، اكتسب الأمير وزنًا ثقيلا بسبب الشراهة وإدمان الكحول والحفلات الدائمة. الآن لديه بطن عملاق وذقن ضخم. بالكاد الأرجل المتهالكة قادرة على حمله. يعاني من الفواق باستمرار نتيجة السكر كل يوم. قالت الأميرة لنفسها بمرارة: " يا إلهي، لقد انتهى به الأمر إلى التحول إلى ضفدع، تمامًا كما كان في البداية " وخلصت إلى أن التاريخ يعيد نفسه.

(تمت)

المؤلف: دييجو مونيوز فالينزويلا - (تشيلي، 1956) نشر سبعة كتب من القصص القصيرة جدا: لم ينته شيء، الأماكن السرية، الملائكة والجلادون، عن الوحوش والجمال، فليكن، الجنيات الجديدة والميكروسوري؛ أربع روايات.

**

8- راقصة صغيرة

تأليف: سلمى فراجا

أحيانًا تعزف راقصة الباليه على الأكورديون في مترو الأنفاق، وتوزع القبلات وتنتظر العملات المعدنية. لديها بشرة ذهبية، وعينان بلون العسل، وشعر مائل للحمرة، أشعث ومتسخ قليلاً. تظهر ساقيها المستديرتين من البنطال القصير، حيث ينظر إليهما بشراهة الراكب الذي يرتدي بدلة أنيقة ورابطة عنق لامعة.

المؤلفة / سلمى فراجا (كاتبة من الارجنتين): ولدت في رياليكو، لا بامبا. تعيش وتعمل في بوينس آيرس، الأرجنتين.

**

9- وظيفة مضمونة

تأليف: رينيه أفيليس فابيلا

عند الموت، يذهب عازفو القيثارة مباشرة إلى الجنة حيث لا يعانون من البطالة أبدًا.

(تمت)

المؤلف: رينيه أفيليس فابيلا/ رينيه أفيليس فابيلا (15 نوفمبر 1940-9 أكتوبر 2016) كاتب وراوئي وصحفي مكسيكى. ولد في مكسيكو سيتي في 15 نوفمبر 1940؛ توفي في 9 أكتوبر 2016 م.درس العلاقات الدولية أجرى دراسات عليا في باريس، حصل على جائزة الصحافة الوطنية من نادي الصحفيين المكسيكي لأفضل مكمل ثقافي في إل بوهو، في عام 1990. جائزة الصحافة الوطنية المكسيكية للنشر الثقافي 1991. الجائزة الوطنية للصحافة من نادي الصحفيين المكسيكي لأفضل مقال متعمق في عام 1992 وجائزة كولومبيا الوطنية للسرد.

**

10 -اختبار الإيمان

تأليف: روبرت أباد

لقد حلمت بنهاية العالم ورأيت النوعين الباقيين يخرجان من تحت الأنقاض: الصراصير والشعراء.

(تمت)

المؤلف: روبرت أباد / كاتب من الكسيك (1988، كويرنافاكا). يكتب ويقرأ ويبدع الموسيقى. درس التربية في جامعة ولاية موريلوس.

**

11- استراتيجية

تأليف: آنا ماريا إنتيلي

الحلم له علاقة بالوسادة. الوسادة لها علاقة بالملاءات. الملاءات لها علاقة بالمرتبة. المرتبة بها ثقب ضخم. عندما أخلد للنوم أهرب منه لأتجنب الكابوس.

(تمت)

المؤلفة: آنا ماريا إنتيلي/ ولدت آنا ماريا إنتيلي في سان ميغيل دي توكومان، الأرجنتين عام 1950 م، تقيم في ليما، بيرو، منذ عام 1975.هي طبيبة أعصاب ومعالجة نفسية. تخرجت في الطب البشري فى جامعة توكومان الوطنية. الإرشاد التحليلي النفسي. حصلت على الماجستير عن الأدب في بيرو وأمريكا اللاتينية لجامعة سان ماركوس الوطنية في سان ماركوس (بيرو).

**

12- غيرة

تأليف: ألفونسو بيدرازا بيريز

عطيل غاضب؛ لقد اكتشف للتو أن هناك قصصًا تعيش فيها الشخصيات في سعادة دائمة. (تمت)

المؤلف: ألفونسو بيدرازا بيريز/ كاتب من المكسيك، جراح، مؤسس ورشة العمل في مجال القصص القصيرة جدا، يكاد يكون متخصصا فى القصصة القصيرة جدا ينتج ويدير البرنامج الإذاعي "أشخاص من كلمات قليلة" المكرس لنشر أدب القصص المصغر العالمي.

**

13- الحدود

تأليف: باميلا بيرالتا بيزارو

يوجه رجل مسدسًا إلى أمي، بينما يبحث في فضلاتي عن الحبوب التي أجبرني على ابتلاعها قبل عبور الحدود.

(تمت)

المؤلفة: باميلا بيرالتا بيزارو / كاتبة إسبانية وعالمة نفس، حاصلة على الماجستير في علم النفس العيادي..

**

14- حوار مع بورخيس

تأليف: خوان خوسيه أريولا

في آخر مرة التقيت فيها مع خورخي لويس بورخيس، كنا في عداد الأموات. لإلهاء أنفسنا، بدأنا نتحدث عن الخلود.

(تمت)

المؤلف: خوان خوسيه أريولا/ خوان خوسيه أريولا ثونيجا ‏ هو كاتب مكسيكي شهير وُلد في مدينة ثابوتلان الجرندي - المعروفة باسم ثيوداد جوثمان - التابعة لولاية خاليسكو في 21 سبتمبر 1918 م وتوفى عام 2001م.

**

15- قطة

تأليف: هيرنان جوركويرا

بينما كنت أسير إلى العمل في ذلك الصباح، جاءت قطة بيضاء نحوي.عندما رأتني، ركضت إلى الشارع وصدمتها سيارة مسرعة. كان خطأي أنني أرتدى ملابس سوداء.

(تمت)

المؤلف: هيرنان جوركويرا / كاتب تشيلي شاب ولد في سانتياغو في مارس 1983، يعيش في مدينة فالبارايسو منذ عام 2000 م.

**

16- بدون عنوان

تأليف: آنا ماريا شوا

يحلم الرجل بأنه يحب المرأة. تهرب المرأة. يرسل الرجل وراءها كلاب شهوته.تعبر المرأة جسرًا فوق نهر، وتعبر جدارًا، وتصعد فوق جبل. تسبح الكلاب عبر النهر، وتقفز من فوق الجدار، وتتوقف عن اللهاث عند سفح الجبل. يعرف الرجل، في حلمه، أنه لن يتمكن أبدًا من الوصول إليها في حلمه. عندما يستيقظ، تكون المرأة إلى جانبه ويكتشف الرجل، بخيبة أمل، أنها الآن ملكه.

(تمت)

المؤلفة: آنا ماريا شوا/ Ana María Shua ولد في بوينس آيرس عام 1951م. وهي أستاذة الأدب في جامعة بوينس آيرس الوطنية وعملت كإعلامية وصحفية وكاتبة سيناريو سينمائي. كتب العديد من الكتب للأطفال والكبار، تشتهر بشكل خاص بقصصها القصيرة، التي تُعتبر من بين الأفضل في اللغة الإسبانية. كما نشر الشعر والقصص القصيرة والروايات والمقالات والمقالات الصحفية وسيناريوهات الأفلام. ومن أبرز أعماله روايات "أنا صبور" (1980) و"لوس أموريس دي لوريتا" (1984) - التي تحولت إلى فيلم عام 1986 م

**

17- الحكيم الجاهل

تأليف: أورلاندو رومانو

في ذلك الصباح، بمجرد استيقاظه، بدأ الصبي يضحك ويفرغ نفسه من الأفكار.عاش وهرم ومات لاهيا، دون أن يستعيد صفاء ذهنه. دعاه حكماء المكان معلمًا.

(تمت)

المؤلف:أورلاندو رومانو/ Orlando Romano (ولد فى توكومان، الأرجنتين، 1972) كاتب قصة وصحفي أرجنتيني يعيش في بوينس آيرس.

**

18- القدر المكتوب

تأليف: ساندرا بولاسيو

ذات مرة، سقط عملاق ذو سبع ضفائر شعر طويلة وقوة جبارة مفتونًا بدليلة الفلسطينية الجميلة، في تلك اللحظة فقط تغير تاريخ الرجال.

(تمت)

المؤلفة: ساندرا بولاسيو/ Sandra Bulacio ولدت في سان ميغيل دي توكومان. طالبة ومنسقة ورشة العمل حول قراءات العمل الأدبي لفيودور ميغالوفيتش دوستويفسكي.

**

19- تنفيذ الخطة

تأليف: كارلوس إدواردو سانشيز

اكتشف أنها كانت تخونه؛ خطط لقتلها ثم الانتحار. عن طريق الخطأ، عكس ترتيب الخطة ولم يكن قادرًا إلا على تنفيذها جزئيًا.

(تمت)

المؤلف: كارلوس إدواردو سانشيز/ ولد عام 1960 في توكومان. حصل على الجائزة الأولى في "مسابقة مايو للآداب 2005"، توكومان الأرجنتين، ونال الجائزة الأولى في مسابقة "كوينتوس ديل نورويست" للجامعة الوطنية في توكومان، الأرجنتين.شارك في مختارات في الأرجنتين وخارجها. وهو أحد مؤسسي مجلة / كتاب/ "A turucuto "

**

20- أغنى رجل فى العالم

تأليف: جابرييل خيمينيز إيمان

كان أغنى رجل في العالم يشعر بالاشمئزاز الشديد من لمس أمواله، معتقدًا أنه لو فعل ذلك، يمكن أن تتلاشى كل تلك الثروة التي لن يستطيع أن يستردها بكل الأموال التي لديه.

(تمت)

المؤلف: جابرييل خيمينيز إيمان (كاراكاس، 1950).اشتهر الكاتب الفنزويلي بأعماله السردية والشعرية، والتي تُرجمت إلى عدة لغات وجمعت في مختارات من أمريكا اللاتينية وأوروبا.عاش خمس سنوات في برشلونة بإسبانيا ومثل فنزويلا في الأحداث الدولية في كاراكاس وأثينا وباريس ونيويورك والمكسيك وإشبيلية وسالامانكا وبورتو وبوينس آيرس وسانتو دومينغو وجنيف وكيتو.

**

21- حرة وقصص أخرى قصيرة جدا

تأليف: إلديكو نصر

امرأة تدرس اللغة الإنجليزية بعد العمل. امرأة أخرى تشتري دراجة وتتعلم ركوبها في فناء منزلها الخلفي. امرأة ثالثة تكتب قصصا رائعة عن الحب والمغامرة. وهذه الأخيرة لديها حبيب يصغرها بعدة سنوات، تدفع له ثروة صغيرة من المال تسرقها من زوجها. كل ذلك من أجل رغبة واحدة: أن تكون حرةً.

(تمت)

المؤلفة: إلديكو نصر/ ولدت إلديكو نصر في ريو بلانكو (خوخوي، الأرجنتين) عام 1976. ظهرت قصصها القصيرة في العديد من المختارات الأرجنتينية المخصصة لهذا النوع. تنسق ورش عمل للكتابة الإبداعية وتعمل معلمة للتعليم الابتدائي. صدر كتابها الأول من القصص القصيرة جدا بعنوان: كل يوم سعادة، عام 2007م.ثم أصدرت بعد ذلك كتبا أخرى فى هذا النوع.

**

22- راحة

تأليف: بيبيانا برنال

امرأة تبكي تحاول كتابة قصة قصيرة. الشيء الوحيد الذي يخطر ببالها هو قصة يبكي فيها البطل من البداية إلى النهاية. عندما تنتهي من كتابتها، يتوقف بكاء البطل. الآن الشيء الوحيد الذي يقلقها هو تهدئة صرخة الكاتب.

(تمت)

المؤلفة: بيبيانا برنال/ (كولومبيا، 1985). شاعرة وراوية ومحررة ومديرة ثقافية. ولدت في كالاركا، كوينديو، في عام 1985. أكملت دراستها الابتدائية في مدرسة أنجيلا أورتيز، إحدى المؤسسات العديدة التي دمرها زلزال 1999 والذي تسبب في الكثير من الفوضى في منطقة البن، وخاصة في أرمينيا. في معهد كالاركا، تخرجت بيبيانا من المدرسة الثانوية ثم درست اللغة الإسبانية والأدب في جامعة كوينديو. حصلت بيبيانا برنال على العديد من الجوائز، أصدرت ديوانى شعر ونشرت عددا من القصص القصير فى دوريات ومجلات مختلفة. ترجمت قصائدها وشعرها الى كثير من اللغات.

**

23-حب مستحيل

تأليف: خوان أنطونيو ماسوليفر روديناس

تقع امرأة فى حب سمكة، تعرف أنه حب مستحيل، والأسوأ من ذلك أنه خاطئ، لذلك قررت أن تتزوج من شخص محترم وتخفى عنه شغفها، ونظرا لأن جميع الأسماك متشابهة، تملأ الزوجة المنزل بأحواض الأسماك وبمختلف أنواع الأسماك، لكى تنسى حبها الأول والوحيد؛ فى يأس تحاول التعرف على حبها الأول، لكن دون جدوى.

(تمت)

المؤلف: خوان أنطونيو ماسوليفر روديناس (برشلونة، إسبانيا، 1939) ناقد أدبى ومترجم وشاعر ورائى وأستاذًا للأدب الأسباني وأمريكا اللاتينية في جامعة وستمنستر في لندن، لمدة ثلاثين عاما، ويُدرس حاليًا في برنامج الماجستير في الكتابة الإبداعية في جامعة بومبيو فابرا. يعيش في برشلونة.

**

24- الجاهل

تأليف: خوسيه ماريا ميرينو

لقد هبطت الطائرة،وتوقفت المحركات، وانطلقت بالفعل الإشارة التي تجبرك على ارتداء حزام الأمان. ومع ذلك،لم يستيقظ أحد. لا أفهم كيف لا يريد الآخرون مغادرة هذا المكان بعد تجربة الرحلة الرهيبة، والأصوات الغريبة، والانفجار، والدخان الكثيف، والاهتزاز الرهيب. أستيقظ، أفتح الصندوق، أخرج حقيبتي، معطفي. لقد اكتشفت للتو أن الجميع ينظر إلي. فجأة يشيرون إلي ويضحكون على هذه الضحكة الغريبة،ضحكة تبدو مليئة بالألم،وها أنا مع حقيبتي في يد ومعطفي في اليد الأخرى،لا أعرف ما الذي يحدث ؟

(تمت)

المؤلف: خوسيه ماريا ميرينو / روائي وشاعر وكاتب رحلات إسباني ولد في آكورونيا، غاليسيا في 5 مارس 1941. وهو أب لابنتين، ماريا وآنا، وكلاهما أستاذ جامعي. (آنا ميرينو شاعرة أيضًا). عاش عدة سنوات في ليون ويعيش حاليًا في مدريد. اشتهر برواياته وقصصه القصيرة وشاعر وكاتب رحلات. يعد من أبرز الكتاب الإسبان المعاصرين.إنتاجه الأدبي مثير للإعجاب من حيث الكمية والنوعية. مارس كل أشكال السرد والشعر والمقال الأدبي. حصل على العديد من الجوائز والأوسمة المهمة. أستاذ القصة القصيرة، قام بتحرير مجموعات مهمة من القصص القصيرة والحكايات. السيد ميرينو هو أيضًا مدرس متمرس، ويستمتع بمشاركة خبراته مع الكتاب والطلاب الأصغر سنًا. أجرى العديد من ورش العمل ودورات وندوات الكتابة الإبداعية في مختلف الجامعات ومدارس الكتابة.

**

25- اختبار الايمان

تأليف: روبرت أباد

لقد حلمت بنهاية العالم ورأيت النوعين الباقيين يخرجان من تحت الأنقاض: الصراصير والشعراء.

(تمت)

المؤلف: روبرت أباد / كاتب من الكسيك (1988، كويرنافاكا). يكتب ويقرأ ويبدع الموسيقى. درس التربية في جامعة ولاية موريلوس.

**

26- الملاك

تأليف: دييجو مونوز فالينزويلا

يقوم ملاك بممارسة الطيران وسط المدينة بعفوية، يتم القبض عليه ومحاكمته بتهمة انتهاك قوانين الطرق الجوية،والتسبب في اضطراب عام وعدم إرسال الإشارات بشكل صحيح. في مواجهة مثل هذا الاتهام، لا يمكن للملاك أن يدافع عن نفسه. في السجن يفكر في معنى الحرية ويقرر البحث عن مهنة أقل خطورة.

(تمت)

المؤلف: دييجو مونيوز فالينزويلا - (تشيلي، 1956) كاتب تشيلي ومهندس، ولد دييجو مونيوز فالينزويلا في كونستيتسيون، تشيلي، عام 1956. انتقلت عائلته إلى سانتياغو حيث درس الهندسة المدنية الكيميائية وحصل على درجة الماجستير من جامعة تشيلي. كان أستاذًا في كلية العلوم الفيزيائية والرياضية وعضوًا في برنامج الدراسات المعرفية حتى عام 1997. نشر سبعة كتب من القصص القصيرة جدا: لم ينته شيء، الأماكن السرية،الملائكة والجلادون، عن الوحوش والجمال، فليكن،الجنيات الجديدة والميكروسوري؛ أربع روايات.

**

27- قرار

تأليف: مونيكا كزون

اتضح أنني قتلت هذا الصباح فأرًا مثيرًا للاشمئزاز، والآن أكتب بقلق. غادرت بمزاج متغير للغاية. كنت في مزاج سيئ تقريبًا، قدت سيارتي في جميع أنحاء المدينة على أمل الحصول على وجبة غداء مجانية، لكن القسيمة قد انتهت صلاحيتها. واصلت البحث عن الطعام. سألت في الحانات،وفي المنازل، فتشت في صناديق القمامة، وانتهى بي الأمر بالإحباط. لقد وضع الكثير من الفراغ حداً لصبري. عدت إلى الملجأ منهكة. بحثت عن الفأر القذر الذي قتله هذا الصباح، واقترضت مقلاة.

(تمت)

المؤلفة: مونيكا كزون/ توكومان (1969) كاتبة من الأرجنتين. حاصلة على بكارليوس فى التربية. متخصصة في الثقافة والقراءة وأدب الأطفال (جامعة فالنسيا، إسبانيا).

**

28- الرؤية بطرف العين

تأليف: لويزا فالينزويلا

هذا صحيح، لقد وضع يده على مؤخرتي وكنت على وشك الصراخ قاتل وغد عندما مرت الحافلة بالكنيسة ورسم علامة الصليب.قلت لنفسي إنه رجل طيب.ربما لم يفعل ذلك عن قصد، أو ربما لم تكن يده اليمنى تعرف ما تفعله يده اليسرى. حاولت التراجع أكثر في الحافلة - البحث عن تفسيرات شيء، والتعرض للمداعبة شيء آخر - لكن المزيد من الركاب صعدوا ولم يكن هناك طريقة للقيام بذلك. إن تأرجحتي للخروج من متناول يده سمح له فقط بإمساكي بشكل أفضل وحتى مداعبتي. كنت متوترة وتحركت في النهاية. تحرك هو أيضا. مررنا بكنيسة أخرى لكنه لم يلاحظ ذلك، وعندما رفع يده على وجهه كان عليه أن يمسح العرق عن جبينه. راقبته بطرف عينى، متظاهرة أنه لم يكن هناك شيء يحدث، أو على أي حال لم يجعله يعتقد أنني أحببت ذلك. كان من المستحيل التحرك أبعد من ذلك. وبدأ يهزني. قررت موازنة نفسي ووأضعت يدي على مؤخرته. بعد بضع بنايات انفصلت عنه مع دفع مجموعة من الركاب. ثم انجرفت مع الركاب وهم ينزلون من الحافلة، والآن أنا حزينة لأنني فقدته فجأة لأنه لم يكن هناك سوى 7400 بيزو في محفظته وكنت سأستفيد منه أكثر إذا كنا وحدنا.لقد بدا حنونًا. وكريما جدا.

المؤلفة: وُلدت لويزا فالينزويلا، الابنة الكبرى للكاتب الأرجنتيني البارز لويزا مرسيدس ليفينسون، في بوينس آيرس عام 1938. كان منزل ليفينسون مكانًا لتجمع المجتمع الأدبي في الأرجنتين - كان خورخي لويس بورخيس وخوليو كورتازار، من بين آخرين، ضيوفًا متكررين - وفالينزويلا، القارئ النهم، بدأ الكتابة " عام 1958. صحفية وراوئية أرجنتينية. بين عامي 1979 و1989 عاشت في نيويورك، حيث كانت كاتبة مقيمة في جامعة كولومبيا كو ونيويورك نيو. عمل كمدرس ودورات تدريبية وورش عمل في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك.

**

29 -موسيقى

تأليف: آنا ماريا ماتوتى

لقد اعتادت ابنتا الملحن العظيم- اللتان تبلغان من العمر ستة وسبعة أعوام- على الصمت. لا ينبغي أن يكون هناك أية ضوضاء في المنزل،لأن أبي كان يعمل. كانتا تمشيان على أطراف أصابعهما، بالنعال، وفقط لا يكسر هذا الصمت سوى صوت بيانو والدهما.

ثم مرة أخرى صمت.

ذات يوم، تُرك باب المكتب مغلقًا بغير إحكام، وتسللت الصغرى نحو الباب الموارب؛ كانت ترى كيف ينحني الأب، من وقت لآخر، على قطعة من الورق ويكتب شيئًا.

عند ذلك ركضت الفتاة بحثًا عن أختها الكبرى. وصرخت، صرخت لأول مرة وسط الصمت الثقيل:

- موسيقى أبي، لا تصدقينها، إنها يخترعها !

المؤلفة: آنا ماريا ماتوتى/ كاتبة إسبانية، ولدت في برشلونة عام 1925، لأسرة ثرية حيث كان والدها صاحب مصانع للمظلات، واتسمت طفولتها بالمرض، بسبب الحرب الأهلية. تُعد إسبانيا ما بعد الحرب، التي تُرى من خلال عيون فتاة صغيرة، بأهوالها وحرمانها وبؤسها، فكرة مهيمنة متكررة في العديد من رواياتها. نشرت أول أعمالها، لوس أبيل. في السابعة عشرة من عمرها فقط. عملت أستاذة جامعية زائرة في جامعات أوكلاهوما وإنديانا فرجينيا.أصبحت عضوًا في الأكاديمية الملكية الإسبانية عام 1997 وحصلت على جائزة سرفانتس المرموقة عن أعمالها كافة في عام 2010. ووفقًا لماريو فارجاس أيوسا، فهي "واحدة من أهم الكتاب في اللغة الإسبانية".وتوفيت في برشلونة عام2014

**

30- البحث

تأليف: كوستاس أكسيلوس

ساح رجل في العالم طوال حياته بحثًا عن الحجر – حجر الفلاسفة - الذي يحول المعادن الرخيصة إلى ذهب. كان يتجول في الجبال والوديان، مرتديًا خرقة مربوطة على جسده بحزام ذى إبزيم معدني. في كل مرة بدا له أن الحجر الذى فى يده هو الحجر الكري، كان يفركه بإبزيمه ثم يضطر إلى رميها بعيدًا. بعد ظهر أحد الأيام عندما كان متعبًا للغاية، جاء إلى كوخ فلاحة عجوز وطلب منها طعاما وشرابا. استجوبته العجوز، وبعد أن استمعت إليه فى صمت نظرت إلى إبزيم حزامه وقالت:

- يا مسكين، لقد رميت الحجر الكريم، ألم تلاحظ أن إبزيمك قد تحول بالفعل إلى ذهب؟

(تمت)

المؤلف: كوستاس أكسيلوس (أثينا، 1924-باريس، 2010) فيلسوف فرنسى ومحرر ومترجم وأستاذ جامعى مرموق من أصل يوناني. وُلد فى أثينا في عائلة من البرجوازية اليونانية، وتلقى تعليمه بثلاث لغات: اليونانية والفرنسية والألمانية. دفعه الاحتلال الألماني لليونان خلال الحرب العالمية الثانية إلى التخلي عن دراسته في القانون والاقتصاد. شارك في المقاومة اليونانية كصحفي ومنظم ينتمي للحزب الشيوعي، والذي سيُطرد منه لاحقًا باعتباره منحرفًا. اعتقلته الحكومة اليمينية في الفترة المربكة التي سبقت الحرب الأهلية، وتم حبسه في معسكر اعتقال بجانب البحر، حيث تمكن من السباحة في إحدى الليالي في ديسمبر 1944. بفضل جهود مدير المعهد الفرنسي، تمكن من مغادرة بلاده بالقارب، مع مائتي مثقف يوناني مضطهد آخر، والانتقال إلى باريس في ديسمبر / كانون الأول 1945. وفي نهاية العام نفسه، حكمت عليه محكمة عسكرية بالإعدام غيابيًا، حيث لم يتمكن من العودة حتى صيف عام1956 م. بعد دراسة الفلسفة في جامعة السوربون،عمل باحثا في المركز الوطني للبحوث العلمية (1950-1957) ولاحقًا في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. ومن عام 1962 إلى عام 1973 كان أستاذًا للفلسفة في جامعة السوربون، قبل أن يعود إلى المركز الوطني للبحث العلمي. في عام 1957 انضم إلى فريق مجلة الحجج التي كان رئيس تحريرها من عام 1960 حتى اختفائها عام 1962. وكان كوستاس أكسيلوس يكتب بالفرنسية ولكن أيضًا باللغتين اليونانية والألمانية.استخدم أكسلوس فكر هيراقليطس لتقييم نظريات ماركس وإنجلز، وساهم في تنامي اهتمام الفلاسفة المعاصرين بما قبل سقراط وفي الفلسفة اليونانية القديمة بشكل عام. ويعد كتاب " لعبة العالم " أهم كتبه على الإطلاق.القصص من كتاب حكايات فلسفية الصادر عام 1971 م

بقلم: أولغا توكارشوك

ترجمة: صالح الرزوق

***

كان جانيواري فوجنيتش، الموظف المدني المتقاعد والملاك، رجلا مذهلا، كما يقولون في لوفوف. فهو وسيم ومعتز بنفسه. ومع أنه بالخمسين ونيف، له شعر أسود مع القليل من المشيب، وله لحية صغيرة تحت فمه، لكنه يحلق وجهه بإتقان شديد، ولا يدع غير شاربه الرائع، والذي يهتم به، ويفتله باستعمال البوميد، وهو مادة أساسها الشحوم. ونتيجة ذلك كان ميجيسلاف، ابنه، يربط دائما رائحة الدهون النفاذة بوالده، فقد كانت الدهون بمثابة جلد آخر تفوح منه رائحة عطرية. كان بمقدور جانيواري أن يتزوج ثانية بسهولة، ولكنه فقد العزاء بالنساء. فزوجته، التي توفيت بعد عدة شهور من الإنجاب، متأثرة بإجهاد إنجاب طفل، وبكآبة غير مفهومة، حطمت نهائيا ثقته بالجنس اللطيف - كما لو أنه خدعة أو عار مسلط عليه. ولدت وماتت. يا لأعصابه! أمه أيضا رحلت قبل الأوان. هناك خطأ بخصوص الأمهات. ويبدو أنهن موكولات بعمل خطير، يغامرن خلاله بحياتهن الملفوفة بالدانتيلا في معتزلاتهن وغرف النوم كأن طريقهن يقود إلى وجود مسموم بين ملاءات الأسرة والأواني النحاسية، وبين المناشف والمساحيق وأكوام التعليمات اللازمة للحياة اليومية على مدار السنة.

للنساء، في عالم عائلة ميجسواف فوجنيتش، حياة ضارة وقصيرة وغامضة، فهن يلقين حتفهن، ويبقين في ذاكرة الناس مثل أشكال عائمة بدون تضاريس. ويصبحن نبضات غير مفهومة ونائية موضعها كون مؤقت، ويحدوهن غايات لا تفسرها إلا الوظائف البيولوجية. لاحقا ستبرز مربية ميجيسلاف في ذاكرته كأنها صورة ضبابية، ودائما منقبة بشيء ما، خارج بؤرة النظر، وهاربة، تشبه خطا منسحبا طويلا ورفيعا. في أيام الطفولة كان يلهو معها، ويشد يديها وجلد يديها المتجعد. كان يقبض على ذلك الجلد بإبهامه وسبابته، ليأخذ هيئة ذكر الإوز (يسمونها "قرصة")، وبهذه الطريقة كان يقلل من تجاعيد يديها حتى تصبحا كأنهما شابتان. وكان يتخيل ذلك ويخمن كيف يمكنه تقليل طيات غليسيرا (وهو اسم عبثي شاع في تلك الأيام بين الفلاحين في منطقة لفوف)، كان بشد سطح جلدها يأمل أن يحمي مربيته من أن تطعن بالسن. لكنه لم ينجح في ذلك. وكان والده يعتقد أن السبب في الكوارث الوطنية، وفشل التعليم، يقع على التربية المتراخية التي تشجع السلوك البناتي، والميوعة، والسلبية، وهو ما يعرف اليوم باسم "استقلال الفرد". لم يوافق على ذلك. ما يهم هو الرجولة، والطاقة، والعمل الاجتماعي لمصلحة المجتمع، والعقلانية، والبراغماتية. وكان مغرما على وجه الخصوص بكلمة "البراغماتية".

بحجة تعليم ميجيسلاف وتربيته تربية ذكورية مناسبة، قرر جانيواري بيع بعض الأراضي والعقارات التي تركتها زوجته له، وأن يشتري في لوفوف شقة مضيئة ومريحة. وأخذ معه غليسيريا، لتعمل طاهية، وقهرمانة، ومربية. ومنذئذ وهم عائلة محترمة ولو أنها غير كاملة. كان قراره صائبا. باستثمار أمواله في أمور مستجدة، أصبح سلوك جانيواري عمليا جدا، وفي الحقيقة كسب عدة ميزات من الحياة في المدينة. وتراكمت اهتمامات عمله الجديد، وأصبح سهلا أن يعتني به وبطرق واقعية، بالمقارنة مع ريف غالينسيا البليد، وكانت كل رحلة إلى المدينة مثل رحلة عبر المحيط. كان جانيواري فوجنيتش مستثمرا جريئا. وضع بعض نقود العقار الذي باعه في شقق صغيرة وباحة من القرميد وذلك في قرية قريبة من بريجاني، واستثمر الباقي في أسهم تمتلكها محطة قطارات غاليسيا. وكل ما سلف وفر له دخلا مرتبا، يكفيه بسهولة ليعتني بنفسه وبابنه بمستوى محترم ومستقر. ولكنه تمسك بالحذر والمنطق، وكان على حدود التقتير. وفي ظروف نادرة إذا اشترى شيئا، دائما يحرص أن يكون من أفضل نوعية. ومن الطبيعي بذل عدة محاولات للزواج للمرة الثانية، ولكن في داخل ذهن جانيواري فوجنيتش كانت زوجته الراحلة، مخلوقة متفردة ومثالية، وكل امرأة على وجه البسيطة هي مجرد ظل لها، وإنسانة لا تستحق الاهتمام، أو حتى لفت النظر، كما لو أن النساء يحاولن بشكل أخرق تقليد تلك المخلوقة المذهلة. والنتيجة أن غليسيريا هي المرأة الوحيدة التي يتذكر ميجيسلاف فوجنيتش أنها شوهدت قريبة وبكل التفاصيل. فقد ربته قليلا في المطبخ، وقدمت له اللقيمات الطيبة، ولكن بما أن سلطتها لا تتخطى عتبات بقية الغرف، قامت هناك فقط بتبديل حفاظات الصغير ميجيتش (كما يناديه والده وعمه في تلك الأيام). وحاولت أن تعوضه عن غياب أمه. كانت تطعمه طبقا يتكون من القليل من خبز الدقيق المقرمش بالعسل، أو تقشر أطراف رغيف الخبز وتدهنه بطبقة سميكة من الزبدة الطازجة. كان الطعام هو ما يسره. وكان يتلقى هذه التعابير العاطفية الدافئة بامتنان، وربما كانت على وشك أن تتطور إلى رغبة وحب، ولكن والده لم يسمح بذلك. كان جانيواري يعامل غليسيريا كخادمة وحسب، ولا يتقرب منها، ولم يثق بهذه المرأة المسنة والممتلئة، المتوارية بين التنورات والدانتيلا والقبعات. كان يمقت بدانتها ويشتبه أنها تسرق الطعام، لذلك كان يدفع لها أقل مما يجب. وكان هناك دائما شيء غير مريح بخصوص حمامات طفولة ميجيتش. وكان والده يأخذ وقتا طويلا ليختبر صلواته قبل أن يتركه مكرها لغليسيريا. وكان يقود الولد إلى مملكتها، المطبخ، حيث ينتظره على الأرض حوض من القصدير المملوء بماء ساخن يكلله البخار. ولا يتذكر ميجيتش أن والده حضر حمامه. كان ينشر عبير الصابون والمناشف النظيفة رائحة سارة، حتى أصبح عطرا يدل على أيام السبت. وكانت غليسيريا تستقبله بيديها المكتنزتين، وكماها مرفوعان حتى الكوعين، ومحمران من الحرارة، وهي تبتسم، ومنذ تلك اللحظة يصبح ميجيتش الصغير مشاركا في طقس التعري، فينغمر بالماء، ثم تدعكه برقعة التنظيف، وترطبه بالصابون المعطر الذي تحتفظ به غاليسيا خصيصا لجلده الناعم، ولاستعماله هو فقط. وطيلة الاستحمام، تناغيه بالبولونية والأوكرانية وبطريقة غير مسبوقة. فهو "ألماستها الصغيرة"، "وفقاعة صغيرة من صابونتها"، و"حبيبها"، و"جوهرتها الناعمة"، و"ملاكها الصغير". وكان سيل الأسماء يسكر ميجيتش الصغير، الذي لا يمكنه استيعاب كل الصور السحرية المتضمنة في هذه الكلمات: جواهر وكنائس وغابات وحدائق - عالم كامل مدفون فيه، وذكرت له كلمات غيرها، لكنه لم يتعرف عليها بالرؤية شخصيا، بل من أشكالها التي يمكنه تخيلها. وكانت تخاطب أطرافه بقولها "أياديه"، "قدمه"، "سيقانه"، "صدره الرفيع". فيشعر بالرضا وحتى بالزهو لهذا الوجود، وهو شعور لم ينتابه بصحبة والده. وكان يحدق ببطنه الناتئة، يسميها "معدته"، وبالثقب الذي يتخللها ويسميه "زر البطن - السرة". وكانت غليسيريا تخيم عليه وتيار من العرق ينسكب من جبينها، فالمطبخ كله حمام بخار. ثم تسحب ميجيتش وتضعه على الطاولة، فوق منشفة ممدودة، وتنشفه، وهي تدغدغه من إبطيه، أو وهي تتظاهر أنها ستقضم "أصابع قدميه الصغيرتين". وكان ميجيتش لا يضحك بصوت مرتفع، خشية من تنبيه والده، والذي ربما يجري، متتبعا التيار البارد في الممر، فيوقف لعبته الممتعة، لذلك يقهقه بهدوء. وتكون منامته الجديدة والقطنية المغسولة حديثا قاسية وغير مريحة، لكن يعلم ميجيتش أنه في الصباح التالي، وبعد أول ليلة، ستعود كما كانت - ناعمة وطرية. فمرور الوقت يمهد الثنيات ويقلل الخشونة، ويجعل العالم ودودا نحوه. وما أن يرتدي منامته، تأتي غليسيريا بالمشط وتمشط به شعره الأشقر، المقصوص قصة الزفاف، كي لا يقاوم محاولاتها في تسريحه بجدائل صغيرة.

وتقول له: "شعرك قوي وغزير جدا".

كان من الجيد أن يكون بمتناوله أخبار موثوقة عن أمور تهمه، ومن ضمنها شعره. طبعا خربت التسريحة بسرعة، ثم مشطته على شكل لفافات تغطي جبينه، والتي كان والده يربت عليها كلما جاء ليتمنى له ليلة طيبة، ويكون ميجيتش حينها مستلقيا في غرفته الباردة بملاءاتها المنشاة حديثا، ولكن يكون السرير دافئا عند قدميه، وهكذا يذكره بأوقاته الجميلة في حمامه الأسبوعي.

طالما كرر والده ذم النساء، مع أن ميجيسلاف لا يتذكر حقا متى وفي أي موقف سمعه يذمهن - و"كرر" يعني أنه تكلم بطريقة ما، أحيانا بدون أن يفتح فمه - وكان يرى أن النساء، بطبعهن، خائنات ومتقلبات. بكاءات. ومن المستحيل أن تعلم كيف تتعامل معهن، وبماذا تثق فيهن. وهن غدارات، وزئبقيات كالحيايا أو الحرير (وهذا بالفعل ترابط غريب). ويصعب أن تمسك بهن، فهن يتسللن من يدك ثم يضحكن على ضعفك. ويوجد قول قديم يكرره العم إميل، الأخ الأصغر لجانيواري، وهو ضابط فرسان في الجيش النمساوي، والحقيقة أنه كرره عدة مرات، و هو ما يتذكره ميجيسلاف جيدا. والكلام له علاقة بغليسيريا، أو ربما بخطيبة عمه، الوحيدة، التي تخلت عنه وتزوجت بآخر. في هذه المناسبات، كان عمه - والذي له بالعادة أخلاق مشينة - يسرق ملعقته من صحن حسائه ويضعها فوق طبقه. ويقول: "المرأة والضفدع والعفريت ثلاث أخوات".

بذل فوجنيتش الصغير جهده ليحل معنى هذا القول، لكنه لم يجد فكرة عما يحاول عمه المتأنق، والذي بالعادة يعبر عن أفكاره بدقة، أن يقول. هل هناك ارتباط حقيقي بين المرأة والضفدع والعفريت؟. ثلاثة غامضون ومجهولون. وتبدو المرأة بينهم خارج غرفة نومها البورجوازية ذات ورق الجدران. وفي وسط الغابة والمستنقعات الموحلة مع الضفادع، ومن الواضح أن الثلاثي أقارب ومن نفس الحفرة الموجودة في أعماق الغابة، حيث لا يصل لا صوت ولا عين بشر، وحيث يفقد أي سائح طريقه. آه. حسنا. لا يوجد غابات من هذا النوع قرب لوفوف، ولكن ربما في مكان ما في فولينيا، أو على سفوح جبال كارباتيا. ورأى الولد أنه من الأسهل تصور علاقة بين غليسيريا والضفدع، ولكن ليس العفريت، وإن شئت الحقيقة هو لا يؤمن بالعفاريت. وكان والده يقول: "إنها مجرد خرافات". ولكن بالنسبة للضفدع، نعم: كانت بدينة وبدون شكل محدد، وتنورة المربية التي يعلوها مريولة تزيد من تشويه قامتها. ولو توجب عليها الجلوس بوضع القرفصاء على أرض المطبخ، ورفع رأسها بطريقة صحيحة - نعم، ستبدو مثل الضفدع.

تقدمت غليسيريا بالسن. وأصبح من الصعب عليها أن تؤدي واجباتها - أن تغسل، وتطبخ، وتكوي، وتنظف - فغادرت حينما بلغ ميجيتش سبع سنوات، وكان حينها قد بلغ سن الذهاب إلى المدرسة. وقتها قرر والده أنها بكل الأحوال لا تلزمه، ويمكن أن يحل محلها مدرسة داخلية. وما أن اتفق مع مدير المدرسة، السيد شومان، حتى وضعه بين يديه. ولسوء الحظ لم يمكث ميجيتش في هذه المؤسسة طويلا، والأسباب هي أصدقاء قال عنهم والده إنهم مدعاة لل "التحسس" و"عدم الانسجام"، وهو ما يعني للولد الإحساس بالمهانة وللوالد اليأس من فهم الوضع المخيب للأمل كليا. وثبتت صحة المقولة القديمة "لا يوجد شر لا يصاحبه الخير"، فمنذئذ تلقى ميجيتش تعليمه في المنزل على يد معلم متفرغ. وكلف المعلم الأول، ثم الثاني، وبعده الثالث، والده الكثير من الأموال والقلق، لأن المعلمين كانوا جنسا يصعب إرضاؤه في هذا الوجود - لا شيء يسعدهم، ودائما يجدون شيئا ليشتكوا منه.

جاء يوسف بعد غليسيريا. وكان بالعادة يحضر البيغوري والسمك المقلي الذي يشتريه من السوق. وأحيانا يرسل ميجيتش إلى القبو لإحضار البطاطا ومخلل الملفوف. وهذا كان واحدا من الواجبات "الهندية الشجاعة" التي سنها والده، وكان فوجنيتش الصغير يتلقى عليها الأوسمة. الهبوط إلى القبو يعني التغلب على الشعور بالذعر والهوان المفاجئ الذي يجعل أصبعه ترتعش وهو يشعل الشموع. كان القبو بشكل حرف ل، يقودك أولا نحو اليسار، ثم اليمين. كانت البطاطا ممددة في الظلام، في زاوية رطبة، ويحجزها سور من الألواح، وكانت على هيئة كومة تتناقص يوميا، وفي الربيع تنمو منها براعم بيضاء، بحثا بكل قوتها عن الضوء. وبجانبها تقف براميل مليئة بالملفوف ومخلل الخيار القزمي.

في إحدى المرات شاهد هناك فرخ ضفدع كبير، جالسا بلا حراك فوق البطاطا، حدق به بعينيه الجاحظتين الصفراوين. فصرخ وأسرع يصعد السلالم، ولكن رغم توسلاته وبكائه، طلب والده منه أن يعود إلى الأسفل. ولحسن الحظ لم يكن الضفدع هناك. بعد ذلك كلما ذهب إلى القبو، يكون الضفدع بالضرورة في ذهنه. وكلما فكر به يصبح في ذهنه هناك، ويبقى للأبد. وفكرة قتله، كما تخيل في البداية، بحمل حجرة كبيرة يأخذها من العالم المضيء إلى الأسفل، وإلقائها على الجسم الطري والمنتبج، كان يذكي فيه توترا غريبا، يسرع من نبضه. ولكنه كان يخاف من أن تكون عواقب هذه الجريمة أفظع. قتل الضفدع بحجرة قد يلوث البطاطا، وهو ما لا يمكن نسيانه. ومنذئذ كلما وضع يديه في برميل مخلل الخيار، يخاف أن يجد الضفدع وقد تسلل إلى هناك بمعجزة، وقد يمسكه بالصدفة طالما انسل بين المخلل، وتحول بقدراته العجيبة إلى شيء رطب ولزج. نعم، كانت هذه تجربة لتعلم الشجاعة - فهو لم يكسب أوسمته إلا بصعوبة.

في أيام الأحد ذهب الأب وابنه إلى مطعم في شارع تريبولانسكا، وتناولا غداء طقوسيا يتكون من الحساء، والطبق الأساسي، والحلوى - وتناول الأب شرابا كحوليا وقهوة - وأقنعا نفسيهما أن الإنسان يستطيع الحياة بدون نساء وطباخات ماهرات.

كانت شقتهما في شارع بانسكا في لوفوف أنيقة ومشمسة. فنوافذ غرفة الرسم وغرفة الطعام تشرف على الشارع، وهو صاخب جدا، لأن بلاط الشارع يحول كل حركة إلى زمجرة، على شاكلة الدق على الطبول. ولكن بعد عدة سنوات قليلة، اعتاد رأساهما على الضجة. وكان جانيواري يظن أن مأواهما هادئ تماما. وعندما بلغ ميجيتش الثالثة عشرة، انتسب إلى صالة رياضية ناطقة باللغة الألمانية، وموقعها في مركز البلدية. وكان مرتين في اليوم يمشي من البيت إلى المدرسة، ثم بالعكس. ويمر بدير برناردين، ثم يتأمل معروضات المتاجر في شارع تشفو وشارع شارنيتسكي. ثم يجتاز محطة الإطفاء، ويشعر بالاحترام العميق لهذه المؤسسة أكثر من الدير. وشاهد في عدة مناسبات رجال الإطفاء وهم يهرعون، إما للتدريب أو للاستجابة لحريق حقيقي، وتناغم هؤلاء الرجال النشيطين ببذاتهم كان دوما مبعث سرور له. وكانت التعليمات والصيحات والإشارات تذكره برقصات رآها في الريف، ولا سيما ضرب القدم على الأرض والحركات الجريئة التي تؤديها الأجسام البشرية. رجال الإطفاء يرقصون لهدف - يستجيبون لحريق، ولمنع الخراب أو الموت. وحركاتهم المتقنة تبلغ درجة مثالية، وهي بدون أي خطأ. وأي خطوة يبدأ بها أحدهم، ينهيها الآخر. ويتناقلون الخراطيم والدلاء، ويلبون النداء، ويقفزون إلى أعلى وأسفل، واحد - اثنان - ثلاثة، ثم يكون محرك السيارة جاهزا على الطريق. وجاهزا لمقاومة الخطر، فيجلسون بلا حراك على مقاعدهم مثل جنود حديديين. ويطلق أحدهم النفير، وبذلك يدور العالم كله حولهم ويكون في خدمتهم. وكان ميجيتش الصغير يخاف أن تظهر البثور من جراء الحرارة على جلده. عموما خلال ثانيتين فقط، يصبح محرك الإطفاء جاهزا للمعركة - ملفوفا بالخراطيم، ومزودا بالفؤوس، والعتلات، والسواطير، ومدعوما بالخوذ النحاسية البراقة - ثم تنطلق السيارة من البوابة المفتوحة إلى المدينة.

مر الصبي من بين ظل أشجار الحديقة القديمة فوق السور ووصل إلى المدرسة، وكانت تخيم على المدينة، معلقة في الأعالي، مثل كنيسة رقاد العذراء بأبراجها الثلاثة المواجهة لها. ويوجد في هذه الكنيسة - كان أحيانا يتلصص على داخلها - صورة ملاك تبعث السرور في نفسه. كان يسميه ملاكا بأربع أصابع، ولا يذكر اسمه وهو غابرييل، المكتوب بجانبه، لأن الطريقة التي رسم بها الفنان يده، تمتد بحركة للمباركة، فتبدو كأنها فقدت الإبهام، أما أصبع الخاتم فقد كانت قصيرة قليلا أيضا. شعر ميجيتش الصغير بشيء من الراحة الغريبة وهو يحدق بهذا العيب في مخلوق مثالي. وبفضل العيب الثانوي بدا الملاك أقرب له، وكأنه بشر. وكان يتحرك في الصورة، واقفا بثبات على أرض مخضرة، بثوب براق (نعم، كانت هناك دوائر مضيئة عليها)، وللملاك جناح واحد مرئي - ليس من الريش، مثل جناح الإوز، ولكن كأنه حياكة من مئات الحبات، ومبطن بلون أحمر، وكان يمسك قصبة ويبدو مشغولا، ومهموما على نحو ما. يشار إلى الملائكة ب "هو"، ولكن يبدو واضحا أن الملاك ذا الأصابع الأربع، مستثنى من هذه التصنيفات المباشرة، وله موضع مستقل، وجنس ملائكي خاص به، وجندر إلهي.

في صالة الرياضة تعلم ميجيتش الألمانية على يد ميجيسلاف باوم، وهو يهودي حسن الملامح وضخم، بقامة تشبه الفايكنغ. يضاف إلى ذلك أن التلاميذ في الحصص كانوا باستمرار يبذلون أفضل جهدهم لنطق الكلمات بحرص، كي يتكلموا الألمانية بأسلوب غوتة، وهو شيء ما دائما ما كان يعيدهم إلى غاليسيا ولهجتهم الرخيمة والرقيقة التي تشبه البولونية والييديش، وتبدو فيها الكلمات مسطحة قليلا كأنها خفافات منزلية قديمة - ويمكن للإنسان أن يشعر معها أنه بأمان وفي بيته. وينقسم زملاء ميجيتش إلى أربع حلقات: بولونيون ويهود وأوكرانيون وجماعة مختلطة من نمساويين، وروماني وهنغاريين اثنين، وثلاثة ألمان من ترانسلفانيا. وكان ميجيتش يقف على الحدود، كما لو أنه لا ينتمي إلى إحدى الجماعات هذه، ولم يكن العرق وحده يكفيه لتحديد مكانه في رقعة الكلمات المتقاطعة التي يشكلونها، والتي يتبدل فيها المنتصر القوي والتابع والمتفوق. كان يبدو أن بقية الأولاد صاخبون، وكان يخاف أن يدخل معهم بمشاحنات. ولم يكن يحتمل العنف، ولا كل تلك المشاحنات، والاشتباكات واللكمات. كان ودودا - وربما هذه كلمة كبيرة جدا - مع أناتول، ولقبه توليك، وكان والده، وهو يهودي بطبعه، وطبيب أسنان معروف. وكان للصبي بوضوح مواهب فنية، وأخلاق رقيقة تجذب إليه ميجيسلاف. أحيانا كان يسمح لتوليك بالبحث في علبة قلمه الرصاص الخشبي. كان توليك يرتب بحرص أقلام الرصاص بأصابعه الطويلة، ويلمس الرأس الرصاصي الأسود بأطراف أنامله، فيشعر ميجيتش برعشة سرور، تبدأ من جلدة رأسه وحتى كتفيه ثم العكس.

معا كانا زوجا غريبا. وكان والده يأمل أن يتعلم لعب الشطرنج ليحسن من عقل ميجيتش الضبابي وغير الواضح. وعموما الشطرنج مكانه البلاط، والإمبراطور نفسه أبدى ولعا عظيما به. فهو تسلية الرجال المتنعمين، ويتطلب الذكاء والتنبؤ.

وكان فوجنيتش الأكبر يعتقد أن نقل البيادق على رقعة الشطرنج واحترام القواعد، يسهل عليه التحكم بحياة ابنه ويجعل العالم أكثر أمانا له، إن لم يرحب به. ولذلك في كل يوم بعد الغداء، حينما يكونان في مرحلة هضم الطعام، وهدوء ما بعد الظهيرة، يجلسان حول الطاولة ويخرجان رقعة الشطرنج، ويسمح الأب لميجيسلاف أن يبدأ بأول حركة. وكلما أخطأ الولد، يأتي الأب إلى جانبه، ويقف وراءه، ويحاول توجيه الصبي عبر سلسلة من الأسباب والنتائج التي تحكم حركاته القادمة. وإذا قاومه ميجيتش، أو كان "بليدا"، يغضب الوالد، ويغادر الغرفة، ليدخن سيجارا، ويجلس ابنه أمام رقعة الشطرنج حتى يهتدي إلى فكرة دفاع أو هجوم مناسبة. فهم ميجيسلاف فوجنيتش الصغير القواعد وأمكنه التنبؤ بالكثير، لكن، إن شئت الحقيقة، لم يستمتع باللعب. تحريك الأحجار حسب القواعد واستهداف خصمه حتى يخسر كان بالنسبة له أسلوبا ممكنا للتحكم بالأحجار. ولكنه يحبذ أحلام اليقظة، وأن يرى رقعة الشطرنج كأنها فضاء يتحدد فيه مصير البيادق سيئة الحظ وسواها من أحجار اللعب. كان يتخيلها شخصيات، بينها علاقات، وشبكة معقدة من المصالح، وهنا إما أن تكون مع الآخر أو ضده. وكان يظن أنه هدر للطاقات أن توجه تفكيرك للسيطرة على الرقعة، وأن تترك البيادق تحت رحمة لعبة رسمية تلعبها حسب قوانين صارمة. ولذلك ما أن يفقد والده اهتمامه ويغادر لأجل مشاكل ضرورية، يضع ميجيتش أحجار الشطرنج على السجادة الممدودة، وعلى كومة المقاعد، وهناك يباشر العمل، والتخطيط للرحلات، وتجهيز المطابخ والبيوت والأماكن. ويصبح صحن رماد سجائر والده زورقا، وقاعدة القلم مجدافا، بينما تتحول المساحة تحت الكرسي إلى كاتدرائية، يزف فيها الملكتان، السوداء والبيضاء. وخلال تنافس شعب الشطرنج هذا يتماهى دائما مع الفارس، الذي يأتي بالأخبار، ويعقد الصلح بين المتخاصمين، ويرتب لوازم الرحلات، أو يحذر من المخاطر (مثل دخول يوسف، وتنظيف السجادة، أو الاستدعاء لوجبة الغداء).

ثم حينما يعنفه والده، أو يرسله إلى غرفته بدون عشاء على سبيل العقوبة، ينصرف بكبرياء الفرسان - خطوتان نحو الأمام وخطوة نحو الجانب. وكان ميجيتش يشغل نفسه في الرياضيات والكيمياء، وهذه إرادة والده، وباعتقاده كان والده أعلم منه. ولكنه كان مفتونا باللغة اللاتينية، ولو أمكنه سيهب معظم وقته لها. أعاره معلم اللاتينية، وهو السيد أمبورسكي الصغير والمضحك، بعض الكتب، وفضل ميجيتش منها "الحمار الذهبي" لأبوليوس. وكان بطبعة قديمة، ومن سلسلة بيبليوتيكا سكريبتوم غراكوروم إت رومانوروم - سلسلة تيوبنير للنصوص اللاتينية والرومانية"، ولكن تبين أن قراءته صعبة جدا على المبتدئ. وحالما فهم السيد الذكي أمبورسكي ذلك، أهداه نسخة ترجمها إلى الألمانية أوغست رود، وتقريبا حفظها ميجيتش عن ظهر قلب، واستمتع بالكتاب كلما فتحه. وأصبح الكتاب الوحيد الذي يحبه، ولم يترك شيء آخر انطباعا عظيما لديه مثله. وأغرم على نحو خاص بحكاية المتشرد غير المحظوظ الذي تحول إلى حمار. ووجد علاقة تربطه بلوقيوس، ولكنهما اختلفا بدرجة الشجاعة، والفكاهة، والفضول فيما يتعلق بشؤون العالم. كان لوقيوس البطل، ولكنه كان يبتسم بخبث وسخرية من بين صفحات الكتاب، ويتحدى حال بطله، مدركا لوضعه العبثي.

أراد ميجيتش أن يكون مثل لوقيوس فقط: ماكرا، مجاملا، ومعتدا بنفسه. وربما يقبل سذاجة لوقيوس، فقد ثبت أنها خصلة طيبة تقود دائما إلى أماكن يصعب توقعها، فتبلغ أعماق الحياة الواقعية، حيث يمكن أن يمر الإنسان بتحول مفاجئ أو عنيف. وحيث يمكن أن يتبدل المرء، ويصبح غير معروف، ولكنه يبقى في داخله نفس الشخص الحقيقي. ومن الواضح هناك وجود خارجي وداخلي. "الداخلي" يرتدي "الخارجي"، ثم يعرفه العالم بذلك الشكل. تساءل ميجيتش لماذا يشعر "الداخلي" أنه غير مرتاح في داخل "الخارجي"؟. مغامرات لوقيوس مثل محنة فظيعة، لأن خطر عدم إمكانية العودة أبدا لشكله كان دائما معلقا فوقه، ويهدده بالموت بصفة حمار، وعليه لن يمكن التعرف على طبيعته الحقيقية، ووجوده الداخلي!. تأثر ميجيتش بعمق بهذه الدراما، مع أنه طبعا لم يقر لأي أحد عنها. واضطراب لوقيوس من أحواله يبدو أخف من حال الصبي القارئ. بتقطيبة وجهه الساخر وتشاؤمه تغلغل لوقيوس سريعا في أفق عالم ميجيتش، بصفة حمار وإنسان معا، حتى أنه آمن أنه ذات يوم سيجد بستان وروده، وأن مسخه سيحصل بأمر من الآلهة القوية.

وكلما اقترب موعد مجيء العم إميل إلى لوفوف، تجري تحضيرات خاصة. يسرع يوسف إلى المتاجر ويعود دائما ببطة في السلة، ويساعده صبي من السوق بإحضار الخضار والتفاح - التفاح إجباري. كان أميل طويلا، وسيما، وشابا بشعر معتدل وبشارب ناعم يمنح شبابه جاذبية حسية ورجولة رقيقة.

تحيط سترته الزرقاء الرمادية بجذعه النحيف على نحو أنيق، وتمنح بشرته شحوبا صافيا. ولكن الأفضل - كما رأى ميجيتش - كان بنطلونه الأحمر المضموم في بوط ملمع جيدا ويصل حتى ركبتيه. كان أميل يأتي، ويدق كعبيه، ويشعل سيجارا فورا، والذي يبقيه والد الصبي معه. ويتلقى ميجيتش من عمه علبة كيك من الباتيسيري ومعها بعض اللوازم العسكرية أو غير ذلك: فوارغ رصاص، فتاحة ورق، أو علبة قصدير متهالكة. ثم يتوجب عليه الرد على أسئلة عمه، فيفعل ذلك بثقة تامة وإقناع ويبدي ما يختزنه من معارف: "يتكون فوج الفرسان من مجموعتين في كل منها فرقتان". أو "فرقة الفرسان تشمل ست جيوش". ثم يضيف أن كل فوج يضم فوجا خاصا من مدافع تجرها الجياد وأربع وحدات من الرشاشات. ومن هذه الرشاشات تأتي الفوارغ، ولكن ميجيتش غير متيقن ماذا يفعل بها. كان يحملها ببساطة في جيبه ويشعر بوزنها الذي يبعث فيه السرور.

وفي إحدى الليالي نهض ميجيتش ليتبول، وكان نصف نائم، فصادف عمه في الحمام. كان لإيميل رقعة فوق شاربه تقسم وجهه، وتسطح ملامحه وتجعل ملامحه الوسيمة غروتسكية المظهر ومضحكة، مثل وجه دمية. وكان سرواله عند كاحليه، ويكشف عن شعر ساقيه، والخيارة الصغيرة البنية المعلقة بينهما. وبدا لميجيتش نوعا ما أنه من غير المناسب لعسكري أن يحمل فاكهة ذابلة في سرواله.

في اليوم السابق لوصول إيميل، انتهى يوسف من التسوق، ثم هبط إلى القبو ليقطع رأس البطة، ثم طيلة بعد الظهيرة، كان الطائر يتدلى من ديكور معدني يعلو موقدا من الرخام، ورقبته نحو الأسفل فوق صحن، لينقط الدم فيه ببطء، قطرة فقطرة. وأدرك ميجيتش من ألمه وندمه السابق أنه لا يجب بأي حال أن يشفق على البطة التي أتى بها من السوق، وأن لا يأسف لنهايتها، لذلك أهمل عاطفته، وأحيانا كان صياحها المهين قبل الذبح، يدفعه ليسد أذنيه كي يتجنب رؤيتها خلال وجودها القصير في البيت. لكن النزف ونزع الريش والتعليق فوق الموقد ملأه باليأس، وتسبب له ببكاء وخضوع مشلول الإرادة، واضطره ذلك ليختفي من أمام والده، وعمه، وأيضا يوسف. فقد يقولون إنه ينوح كامرأة. والمنظر المريع لخثرة الدم الأحمر الداكن، والبني تقريبا، فوق الجذع، يضعه في جو غامض ومؤلم، يشعر خلاله بالخوف، وأيضا بالاستلاب، وبفتنة لا يمكن وصفها وتقترب من المتعة، ولكنها أقوى من قشر الجروح المندملة على ركبتيه، أو العبث بسن حليبي مشارف على السقوط. وكان يغلب على صدره أسف لا ينتهي بالبكاء أو الارتياح، من أي نوع، ولكن يتبخر فقط من الداخل، ويقيد رئتيه. ولذلك تشكلت بينه وبين البطة، مقطوعة الرأس، وكلما قطرت الدماء منها، علاقة غامضة، إحساس فيزيائي، ومشاعر بالدوار والضعف تأتي من عدم قدرته على الدفاع عن نفسه كليا. واكتملت دائرة الرعب بجماليات الريش، الدبقة بالدم، والذي يلمع بشكل مبهر في ضوء المطبخ، وبلون أزرق داكن وذهبي، بلون الحبر المخضر، أو فيروزي، أو أزرق ملتهب، ولكن كان ذلك يذكره بدقة بأجنحة ملاك ذي أربع أصابع. وهكذا أصبح موت البطة كفرا، وعدوانا على كل العالم. ولكن الأسوأ سيأتي. بمعونة من يوسف وكلما استعمل الدم والخل والخوخ والكرز المجفف، وأضاف فلفل جامايكا وورق الغار والعترة والفلفل لتحضير الجيرنينا - حساء دم البط - يتنبأ ميجيتش بالاضطرابات القادمة.

يوضع أمامه طبق من هذا الحساء، وكأنه اختبار لنضجه، وبحضور عمه، الضابط. ومع ذلك لا ينم محيا الأب وإميل أن هذا وضع استثنائي وخاص جدا. خلال ذلك يتبادلان الحديث، وبالعادة يكون عن التجارة أو السياسة، ناهيك عن خطط إميل للزواج - وهذا السؤال يبرز فقط أثناء الشراب. وحينها يجلس ميجيتش أمام طبق طعام بلون الشوكولاتة ويكون مليئا بحبات الدهن، وفوطته تحت ذقنه، وهو يشعر بالتوتر، ولا يقوى على منع تجمع لعابه في فمه، لأن حلقه المنقبض يرفض أن يبلع. ثم يرميه والده بنظرة عائمة، وكأنه محكوم عليه بالعذاب، يحمل ميجيتش ملعقته ويدسها في الوجبة اللزجة السوداء. وعند هذه اللحظة يتجول إميل بعينيه، قائلا مع تنهيدة، إن هذا أطيب طعام ذاقه في كل حياته. ويعبر يوسف عن الرضا تجاه هذا الثناء فيشرق وجهه الضبابي بالعادة، ولا يغادر المطبخ، ويتوقع المزيد من الثناء بوجوده. ويعلم ميجيتش أن عيون الرجلين ستلتفت إليه، فيناقش نفسه ضمنيا، موضحا لها أنه عليه أن يبدأ، ولا يسعه تخييب رجاء أقرب اثنين له، فهما يريدان له الأفضل، وعليه أن يكون رجلا حقيقيا يتحكم بنفسه، وهما يقدمان له هذا الطبق بسبب حبهما له. ثم تملأ الدموع مقلتيه، وترتفع إلى فمه الملعقة المرتجفة، وتسيل قطرات من الحساء، ولكنه يفتح فمه ويتلقى هذا العطاء. ويأمل على الدوام أن ذكريات طعم جيرنينا التي تخلفت لديه من الوجبات السابقة، غير صحيحة. والآن وفجأة ستدهشه بمذاقها الطيب. ومجددا يملأ فمه شيء فظيع، يتخلله نكهة الغار، والعترة ممزوجا بقشرة الزبدة، ومع ذلك يبقى مقرفا ومرفوضا. طعم لاذع، عنيف ومتوحش، حار، ويشق طريقه بين لسانه وخديه، بمذاق حلو وممرض. فينقبض حلقه، ويشعر بالحاجة ليتقيأ، غير أنه يسيطر على نفسه، ويتجاهلها، وهكذا بعد لحظة تردد، يدخل منسحبا في جسمه، ويختفي في أمعائه، ويتدفق دم الحيوان المغلي نحو معدته. ويتظاهر أبوه وعمه أنهما لا يراقبانه، ولكنه متيقن أنه اختبار. ودائما هما يتابعانه عن مقربة، وببرود وبزاوية عينيهما. وحينما يتناول ثاني ملعقة، ثم أخرى، يهدأ أبوه، ويبدأ بإطلاق النكات. وتملأ الدموع عيني الصبي، ويتجاهل ذلك، أيضا، ويجبرهما على الاختفاء في أعماقه.

ويقول والده بمرح: "هذا حساء بولوني تقليدي. فقط المغفل من لا يجربه. وسيمنحك المزيد من القوة".

ويبتسم عمه إميل، وأطراف شاربه المفتول تأخذ لونا أحمر داكنا. هذا شيء بسيط. يفكر ميجيتش وهو يبلع دموعه لتختلط مع دم الحيوان في جسمه الطفولي الصغير. أن تكون رجلا يعني أن تتمرن على تجاهل أسباب المشاكل. وهذا هو كل اللغز. ولكنه كان كما هو. ولا يسعه التحكم بذلك. فهو يفكر أنه طبيعي. وفي إحدى المرات حاول أن يوضح ذلك لوالده، ولم تسعفه الكلمات. ثم فكر بلغز كيك الخميرة وهو ينتفخ، أو بالحمامات التي تبيض بيضا حزينا على أطراف نافذة فارغة. صور حية تظهر أمام عينيه لبيت قديم في الريف، أو ثياب داخلية تجف في العلية في الشتاء، رغم المطر في الخارج، ثم تحملها غليسيريا من هناك في سلة. يمكنه رؤية العلية بوضوح، ودائما تكون مجللة بالغبار، ويكشف المشهد من نوافذها الضيقة، والمعروفة باسم - الدريئة، عن حقول وحديقة صغيرة، مع رائحة نفاذة من سيقان مكومة لبندورة متعفنة، وذرة حلوة، وبقوليات. وبفعل ظاهرة ليس لها تفسير يتبدل هذا الخيال إلى مشاعر مادية: خشونة القماشة، وصلابة الياقات، وزوايا السراويل المكوية مؤخرا، وقرصة حزام الجلد القاسي. وهي هناك. في العلية. وكلما أمكنه، وحين يكون منفردا بنفسه، وبعيدا عن متناول رقابة أبيه، يتعرى تماما. ويلف جسمه العاري بغطاء طاولة حريري له حواف مزركشة، ويشعر بالسعادة كلما احتك الغطاء بسمانتي ساقيه، وفخذيه، ويفكر كم هو رائع لو أمكن الناس أن يتجولوا بعباءات من أغطية الطاولات، مثل قدماء الإغريق.

***

...........................

- الترجمة من البولونية: أنتونيا لويد - جونز. وهي مقتطفات من رواية للكاتبة بعنوان: إمبيوزم. منشورة في النيويوركير. عدد 3 حزيران 2024.

- أولغا توكارشوك Olga Tokarczuk روائية بولونية تجريبية. حازت على نوبل في الآداب عام 2018. من أهم رواياتها "السفر"، "جر محراثك فوق عظام الموتى"، وغيرها.

 

بقلم: مارك هاليداي

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

اوراق اعتماد

لم يفقد طفلا قط. لم يفقد طفلا ولا حتى اوشك ان.

كيف يمكن له ان يتكلم عن الفقدان؟

لم يُغتصب قط. ولا حتى اوشك ان.

كيف يمكن له ان يتوقع ان نصغي له؟

لم يدمه ابوه ضربا قط او اي شخص آخر.

لم يشاهد قط قريبا او صديقا يموت معذبا

ولا حتى موتا هادئا، حتى الآن.

(فيما عدا امه قبل زمن طويل وببطء شديد.)

كيف يمكن له ان يدعي؟ لماذا عليه ان ينهض ويتحدث عن المعاناة وعن الحزن؟

لم ير قط اي شخص يرمى برصاصة او يطعن في الحياة الواقعية.

لم يهاجمه احد من الخلف قط ولا حتى اوشك ان.

(المرة الوحيدة التي سطوا على منزله،

كانت حادثة صغيرة وسخيفة على طريقة

التلطيخ بالطماطم التافهة لجنوب فيلادلفيا.)

لم يقفز قط من منزل محترق.

هل نجى يوما من اعصار، او زلزال، او فيضان؟ كلا مطلقا.

وهو بكل تأكيد لم يجثم في حفرة لعينة وسط الأدغال بينما يرش

رصاص الكلاشنكوف اللعين الوحل على خوذته اللعينة.

كيف يعتقد ان بإمكانه الحديث عن الخوف؟

لم تعذبه شرطة براغواي قط

ولا حتى اعتقل في تركيا.

لم يقض قط ليلة واحد في السجن.

انه عمليا لم يعتد على الألم الشديد

(كانت الاستثناءات قليلة) وكذلك الخطر الرهيب.

لم يجرب قط الهروين ولا حتى الكوكائين.

لم يقطع وريده قط ولا حتى فكر بذلك.

الى حد ما فالرجل بالكاد عاش!

ومع ذلك فهو يسترعي اهتمامنا حين يكون بإمكاننا

ان نصغي الى اولئك الذين عانوا حقا.

أ يعتقد ان الجميع يمتلكون الحقيقة الجادة؟

هل يعرف ما التواضع؟

أ يعتقد ان لا شيء يهم سوى "اللغة"؟

أ يعتبر الاستعارة غرفة ملابس لتكسوا التفاهة حلة جميلة؟

أ لا يرى

ان ليس بإمكاننا الاصغاء لأي قصة حزينة

حتى لو اردنا ذلك؟

***

..................

مارك هاليداي: شاعر وناقد واستاذ ادب اميركي من مواليد عام 1949. تلقى تعليمه في جامعتي براون وبرانديز وعمل بالتدريس في عدة جامعات. من عناوين مجموعاته الشعرية: "نجم صغير" 1987؛ "احتفظ بهذا الى الأبد" 2008؛ و"الخاسرون يواصلون الحلم" 2018.

بقلم: ماري جيتسكيل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان مستلقياً في كرسيه الهزاز، بالكاد مستيقظاً بما يكفي ليشعر بالحلم يتحرك تحت أفكاره مباشرةً. بدا مثل حلم من تلك الأحلام النقية الجميلة التي يعود فيها شاباً مرة أخرى، ويغمره إدراك أن الأصدقاء الذين ماتوا، أو رحلوا، أو قرروا أنهم لم يعودوا يحبونه، كانوا في الحقيقة هناك طوال الوقت، يحبونه. تذبذب جزء من الحلم، فتمكن من تمييز شفتين وعظام خدين لامرأة حنونة، تبتسم بينما تميل نحوه. دقّ الهاتف، فانتشر الصوت خلال يقظته المرنة، متسللاً إلى الحلم المنتظر. لكن زوجته كانت قد رفعت صوت جهاز الرد الآلي مرة أخرى، فهاجمه بزئير مشوّش ومكتوم تحوّل إلى صوت صديقه نورم.

شعر بالامتعاض لاستيقاظه، والامتنان لأن أحداً اتصل به هذه المرة، فنهض ليرد. التقط الهاتف، وصدر صوت صراخ جهاز الرد الآلي من السماعة. سب بينما يعبث به، وهو يكره أصابعه المتصلبة. بتهيج، تبادل التحيات مع صديقه، ثم قال نورم بصوت غريب الثقل:

"رأيت عدد مجلة (سيلف) الذي فيه كيتي."

انتظر تفسيراً. لم يأتِ شيء، فقال: "ماذا؟ عدد (سيلف)؟ ما هي (سيلف)؟"

"يا للهول، ستو، كنت متأكداً أنك رأيته. الآن أشعر بالحرج."

تقدم الحلم ثم تراجع مرة أخرى.

"الحرج من ماذا؟"

"ابنتي لديها اشتراك في هذه المجلة، (سيلف). وقد نشروا مقالاً كتبته كيتي عن الآباء والبنات يتحدثون مع بعضهم، وهي... حسنًا، كتبت عنك. وقد قرأت لي لوريل المقال."

"يا إلهي."

"من السخافة أن أكون أنا من يخبرك. فقط ظننت—"

"هل كان سيئاً؟"

"لا، لم تقل أي شيء سيء. فقط لم أفهم الفكرة منه كله. وتساءلت ما رأيك."

أغلق الهاتف وعاد إلى غرفة المعيشة، وهو الآن مستيقظ تمامًا. كانت ابنته كيتي تعيش في ساوث كارولينا، تعمل في متجر أسطوانات مستعملة وتصنع تماثيل حيوانات تبيعها بطلب مسبق. لم تكتب أي شيءٍ يعرفه من قبل، ومع ذلك فقد نشرت مقالًا في مجلة وطنية عنه. رفع ذراعيه ووضعهما على حافة النافذة؛ حيث برد الهواء القادم من النافذة المفتوحة تحت إبطيه. في الخارج، كان الكلب الصغير للعائلة المجاورة يتجول بلهفة على الرصيف، يبحث عن أحد لينبح عليه. ربما كانت قد كتبت مقالًا عن مدى روعة أبيها، وخجلت من إظهاره له مباشرة. لكن هذا الاحتمال بدا مستبعدًا. كيتي كانت هادئة، لكنها لم تكن خجولة. بل كانت فظة وقد تكون عدوانية. وعندما تكون غير متأكدة، تزيد من عدوانيتها.

لفّ حافة إحدى فتحتي أنفه بإبهامه وبدأ بقلق يداعب شعيرات أنفه بإصبعه. كان يعلم أنها عادة مقززة، لكنها كانت تهدئه. عندما كانت كيتي طفلة صغيرة، كان يفعل ذلك ليُضحكها. كان يقول، "حسنًا"، "هل تعتقدين أن الوقت حان لنلعب بشعيرات أنفنا؟" فكانت تضحك، تضع يديها على وجهها، وتتألق عيناها فوق مفاصل أصابعها.

ثم بلغت الرابعة عشرة، وأصبحت متعالية ومتمردة كأي فتاة كان يرميها بكرات ورقية وهو في سنها. لم يعودا يتوافقان كما السابق. ذات مرة، كانا يجلسان في غرفة المعيشة يشاهدان التلفاز، هو على الأريكة، وهي على المقعد الصغير. كان فيلم "تشارلي تشان" يعرض، لكنه كان يراقب ظهرها وشعرها البني الطويل الكثيف، الذي غسلته للتو وكانت تمشطه. أمالت رأسها إلى الأمام ليتدلى الشعر بين ساقيها المتباعدتين، وبدأت تمشطه بفرشاة نايلون وردية ببطء.

"ألا تعتقدين أن الوقت حان لنلعب بشعيرات أنفنا؟"

لم يتحرك ظهرها المنحني أو شعرها.

"من يريد أن يلعب بشعيرات أنفه؟"

لا رد. غنى.

"شعيرات في الأنف، شعيرات في الأنف"

فقفزت فجأة من المقعد.

"أنت مقزز لدرجة أنك تُشعرني بالاشمئزاز!"

وخرجت من الغرفة غاضبة، كتفاها يرتديان "سترة" من السخط.

أحيانًا كان يقول ذلك فقط ليرى انزعاجها، ليشعر بغضبها الطفولي العاجز تجاه انتهاك أنوثتها الرقيقة.تمنى لو تعود زوجته بالسيارة كي يستطيع الذهاب إلى المتجر وشراء نسخة من مجلة "سيلف". كانت سيارته في الورشة، ولم يستطع المشي إلى تلك المجموعة الصغيرة من المتاجر ومواقف السيارات التي تشكل "البلدة" في هذا الحر. سيستغرق المشي عشرين دقيقة على الأقل، وسيكون منهكًا تمامًا عندما يصل. سيجد المجلة ويقرأها هناك في المتجر، وإذا كان المقال سيئًا، فقد لا يملك القوة للمشي عائدًا.

ذهب إلى المطبخ، فتح زجاجة بيرة وأحضرها إلى غرفة المعيشة. كانت زوجته غائبة منذ أكثر من ساعة، ولا أحد يعلم كم من الوقت ستغيب أكثر. يمكنها قضاء اليوم كله تقريبًا تقود حول المقاطعة، لا تشتري سوى وعاء عسل أو كيس تفاح. بالطبع، كان بإمكانه الاتصال بكيتي، لكنه على الأرجح سيصل إلى جهاز الرد الآلي الخاص بها، بالإضافة إلى أنه لم يرغب بالتحدث إليها قبل أن يفهم الموقف. شعر بالعجز ينتشر في جسده كما يشعر السباح بمرور كائن بحري ضخم تحته. كيف يمكنها أن تفعل هذا به؟ كانت تعرف كم يخشى أي نوع من التعريض، تعرف كيف يحمي نفسه من الغرباء، كيف كان يسحب جميع الستائر بعناية عند حلول المساء حتى لا يراهم أحد يمشون في المنزل. كانت تعرف كم شعر بالخجل عندما أعلنت في السادسة عشرة من عمرها أنها مثلية.

كان كلب العائلة المجاورة الآن على الجانب الآخر من الشارع، ينبح عند كعبي سيدة عجوز مقوسة الساقين ترتدي فستانًا أزرق وتحاول السير على الرصيف. "اللعنة"، قال. ترك النافذة وضبط محطة الأوبرا المسائية على الراديو. كانوا في الفصل الأخير من أوبرا "لا بوهيم".

لم يتذكر بالضبط متى حدث ذلك، لكن كيتي، فتاته الصغيرة الجميلة السعيدة، تحولت إلى مراهقة كئيبة غريبة يتنمر عليها الأطفال الآخرون. أصبحت نحيلة وقبيحة. عيناها الزرقاوان، اللتان كانتا حساستين ومشرقتين، أصبحتا باهتتين، كما لو أن كيتي الحقيقية قد تراجعت بعيدًا عن السطح لدرجة أن عينيها وُجِدتا لتحمياها بدلاً من أن تعكساها. بدا الأمر وكأنها تعمدت إبعاد جمالها عنهما، مظهرةً لمحات منه فقط خلال لحظات سهو لا مفر منها، مثل تلك المرة التي جلست فيها أمام التلفاز، تغرق في أحلام اليقظة وتمشط شعرها بكسل. في مثل هذه اللحظات، كان جمالها الكامن يكسر قلبه. كما كان يزعجه أيضًا. من ماذا كانت تتراجع؟ كلاهما أحبها. عندما كانت صغيرة ولا تستطيع النوم ليلاً، كانت مارشا تجلس معها في السرير لساعات. كانت تمدح قصصها ورسوماتها كما لو كانت عبقريّة. وعندما كانت كيتي في السابعة، كانت هي وأمها تقضيان أوقاتًا خاصة، تخرجان فيها معًا وتتحدثان في أي شيء تريد كيتي التحدث عنه.

حاول أن يقارن بين كيتي المتجهمة الكئيبة في السادسة عشرة، وبين الشابة المثلية النحيلة الواثقة من نفسها في الثامنة والعشرين التي تكتب مقالات في مجلة "سيلف". تخيل نفسه في المحكمة، يلوح بنسخة من المجلة أمام هيئة محلفين مصدومين. سيتناول الصحفيون القضية. رأى العناوين: "أب يقاضي مجلة – ابنته المثلية تكشف..." تكشف ماذا؟ ما الذي وجدته كيتي لتقوله عنه، مما أثار اهتمام البلاد بأسرها، ولم ترغب في أن يعرفه؟

تغلب الغضب على شعوره بالعجز. كيتي يمكن أن تكون شريرة. لم يرَ جانبها القاسي منذ سنوات، لكنه كان يعرف أنه موجود. تذكر الوقت الذي وقف فيه خلف الباب الأمامي نصف المفتوح بينما كانت كيتي ذات الخمسة عشر عامًا منحنية على الدرج الأمامي مع إحدى صديقاتها القلائل، شقراء بسيطة الملامح ذات أحمر شفاه فاتح وترتدي سترة جلدية بيضاء. جاء إلى الباب ليتحقق من الطقس ويقول شيئًا للفتاتين، لكنهن كن يتمتمن بتركيز لدرجة أن الفضول تغلب عليه، فتراجع قليلًا ليستمع. قالت كيتي: "حسنًا، على الأقل أمك ذكية. أما أمي فليست مجرد  عاهرة، بل هي غبية أيضًا."

وهذا بعد كل أغاني النوم والأوقات الخاصة! ولم تكن هذه حادثة منعزلة أيضًا؛ ففي كل مرة يعود فيها من العمل، كانت زوجته تقول شيئًا سيئًا عن كيتي. لم تُجهّز المائدة إلا بعد أن طُلب منها ذلك أربع مرات. ذهبت إلى منزل لويس بدلًا من العودة مباشرةً كما أُمرت. ارتدت فستانًا إلى المدرسة كان قصيرًا بما يكفي لإظهار أطراف جواربها.

وعندما يحين وقت وصول كيتي لتناول العشاء، تبدو وكأنها كانت تقوم بأعمال شاقة طوال اليوم، كان يغضب منها. لم يستطع منع نفسه. ها هي زوجته تبذل قصارى جهدها في تربية أسرة وطهي العشاء، وها هي هذه الطفلة البشعة تبدو قبيحة، تتصرف بوقاحة، ولا تُجهّز المائدة. بدا من غير المعقول أن تصبح بهذا السوء بعد أن استهلكت الكثير من وقتهما. حتى نظراتها المتألمة كانت تثير غضبه - فما الذي فعله أحدٌ لها حتى تستحق كل هذا التعاطف؟

انحنى إلى الأمام وهو يمضغ داخل فمه برفق بينما يستمع إلى الفتاة المحتضرة في "لا بوهيم". رأى سيارة زوجته تدخل الممر. مشى إلى الباب الخلفي، يكاد يعصر يديه من شدة التوتر، وانتظر حتى تدخل. وعندما فعلت، انتزع حقيبة البقالة من بين ذراعيها وقال:

" أعطيني المفاتيح."

وقفت مذهولة على السلم، تنظر إليه بذهول غبي.كرر:

"أعطيني المفاتيح!"

"ما الأمر، ستو؟ ماذا حدث؟"

"سأخبرك عندما أعود."

ركب السيارة وأصبح جزءاً منها، ذلك الصندوق المتحرك المتلهف الذي يدفعه عبر عالم الآخرين المعقد بجنون، عالم يتحرك بسرعة فائقة: بيوتهم، أطفالهم، كلابهم، حياتهم. لم يكن عادةً مدركاً بهذا القدر لهذا الشعور المزعج بالانفصال بينه وبين الآخرين، لكنه شعر أنه كان كامناً هناك طوال الوقت، تحت سطح ما يشغل تفكيره معظم اليوم. من السخرية أن يطفو هذا الشعور بهذا الوضوح في لحظة كان فيها - فعلياً - ارتباط ملموس ومزعج ومروع بينه وبين كل سكان مقاطعة واين: مئات النسخ من مجلة "سيلف" المنتشرة في الصيدليات ومحلات الكتب ومتاجر البقالة والمكتبات. كأن هناك مجساً متصلاً بجانب السيارة، يربطه بعشوائية ببشر التقطوا المجلة، ربما جيرانه أنفسهم. توقف عند تقاطع مزدحم، يشعر كأنه نملة وسط سرب معادٍ.

اندفعت كيتي خارج المنزل إلى هذا السرب مبكراً، زاعمةً أن الحياة معه ومع مارشا كانت جحيماً. نعم، لقد كانت جحيماً، لكن بسببهما هي لا هما. وكأن اكتئابها وبلادتها لم يكونا كافيين، تحولت إلى مثلية. أخذ الأطفال يتبعونها في الشارع ويسخرون منها. رمى أحدهم كتبها في المرحاض. تشاجرت باليدين. ألقى الجيران نظرات لاذعة. لكن رد الفعل هذا زاد من تشبثها بهويتها الجديدة؛ جعلها تخلق لنفسها أسطورة رومانسية، كأي مراهقة .كتبت قصائد عن محاربات بطوليات، جلبت إلى المنزل كتبًا ومجلات غريبة تمجد - ضمن أشياء أخرى - العاهرات. كانت مارشا تبحث عنها وتلقي بها في القمامة. صرخت كيتي في وجهها، وانتفخت أوتار رقبتها النحيلة. أما هو فلكم كيتي وأسقطها أرضًا. حاولت مارشا إيقافه فصرخ عليها. قفزت كيتي واندفعت بينهما كأنها تدافع عن أمها. أمسك بها وهزها بعنف، لكنه لم يستطع أن يهز ذلك التحدي الثابت في عينيها.

لكن في أغلب الأحيان، استمرا كعادتهما، يتناولان العشاء معًا، ويشاهدان التلفاز، ويتبادلان النكات. كان هذا أسوأ ما في الأمر؛ كان ينظر إلى كيتي ويرى ابنته، وقد أصبحت مألوفة في تجهمها المنعزل، فيشعر بالراحة والود. ثم يتذكر أنها مثلية، فينهمر بينهما سيل من التعقيدات والخطيئة، مما يجعل رؤيتها مستحيلة. ثم تعود مجرد كيتي مرة أخرى. كان يكره ذلك.

هربت في السادسة عشرة، وعثرت عليها الشرطة في شقة لفتاة ثمانية عشر عامًا تدعى دولوريس، لاعبة كمال أجسام، لديها وشم لامرأة عارية على عضدها الأيسر. جعلتهم مارشا يدخلونها مستشفى للأمراض النفسية ليراقبها الأطباء، لكنه كره الأطباء - أولاد كلاب متعجرفون يستمتعون بأسئلتهم الملتوية - فأخرجها. أنهت المدرسة، وأخبروها أنها إذا أرادت المغادرة، فلا مانع لديهما. لم تضيع وقتًا في الخروج من المنزل.

انتقلت إلى شقة قرب ديترويت مع فتاة تدعى جورج، وعملت في دار للأطفال المعاقين عقليًا. كانت تزورهم كل بضعة أسابيع مع حقيبة ضخمة من الملابس للغسيل. كانت نحيلة وعضلاتها توحي بالتوتر العصبي، جسدها يشبه كلب قتال مربوط بسلسلة. قصت شعرها كولد، وارتدت نظارات شمسية سوداء، وقفازات جلدية نصفية، وأحزمة جلدية. كل ما تبقى من جمالها كان وقفتها المنتصبة العسكرية وحركاتها الفعالة؛ كانت تدخل إلى الغرفة كقائد لقوات حرب عصابات. تجلس مع مارشا على طاولة الطعام، تشرب الشاي وتتبادل معها حديثًا مقتضبًا، بينما يتكلم جسدها بلغته العسكرية الدقيقة، وآلة الغسيل تئن من الغرفة المجاورة، أما هو فكان يتجول داخلاً وخارجًا، يحاول فهم ما تقوله. أحيانًا تبقى حتى المساء، لتتناول العشاء وتشاهد مسلسل "الكل في العائلة". ثم ترسلها مارشا إلى بيتها ببرطمان من بودينج التابيوكا محلي الصنع أو كيس من التفاح والبرتقال.

وفي أحد الأيام، وصلت المنزل رسالة بدلًا من زيارة، عليها ختم بريد سان فرانسيسكو. قالت إنها تركت جورج. وسردت تفاصيل غريبة عن حياتها الجديدة، بينما كانت غامضة حول كيفية إعالة نفسها. راودته كوابيس عن كيتي بجسدها الصغير الشجاع الممتلئ بالعضلات الفخورة، ضائعة بين نساء ضخمات الأجساد يرقصن عاريات في نوادي "جو-جو" ويتعاطين المخدرات بإبر، نساء مرعبات ألهمت - في نظر ابنته الحالمة المضطربة - صورة البطولة المقهورة والسحر الأنثوي المكثف. كان يستيقظ ليلًا ويتعثر نحو الحمام بحثًا عن دواء للمعدة، كان ظلام المنزل المألوف مثقلًا بصور تهديدية تحاصره، صور رأى انعكاسها على تعبيره عندما أشعل ضوء الحمام فوق المرآة.

ثم ذات عام، عادت لقضاء عيد الميلاد. دخلت المنزل بحقيبتها وكيس هدايا لهما، ورأى أنها عادت جميلة من جديد. جمالًا أثار حفيظة حواسه وأغواها في آن. شعرها القصير الشائك كان مبرقشًا بالبنفسجي، فمها الظريف مُحمر، وأنفها وأذناها مثقوبان بحجر أميثست وفضة متدلية. انفتح وجهها كأنه آلاف البتلات. عيناها براقتان بالحدس السريع بينما تضع حقيبتها، وعرف أنها رأته يلاحظ جمالها. تحركت نحوه بخصر ممشوق؛ عانقته للمرة الأولى منذ سنوات. شعر بجسدها الحيوي المرن يلامسه، وانفطر قلبه غصةً من الدم والحب. قالت:

"عيد ميلاد مجيد، أبي"،

كان صوتها أجشًّ وخشنًا؛ تفوح منه رائحة المعرفة والثقة. كُتِبَ على قميصها "فتيات ذوات كرات". كانت في الثانية والعشرين من عمرها.

بقيت أسبوعًا، تفرغ جمالها الغريب المزعج في المنزل وتغير جزيئات هوائه. تحدثت عن الفتيات اللاتي تشارك الشقة معهن، وعملها في مقهى، وكيف أن سكان كاليفورنيا يختلفون عن سكان ميشيجان. وتحدثت عن صديقاتها: لورين، التي كانت جميلة لدرجة أن الرجال يسقطون من دراجاتهم وهم يلتفتون خلفها لرؤيتها بشكل أفضل؛ وجودي، خبيرة فنون قتالية؛ وميريديث، التي تربي طفلًا مع زوجتها أنجيلا. تحدثت عن قراءات الشعر، ودروس الخزف، وورش عمل ثقب الجسم. أدرك وهو يراقبها أنها الآن تفعل أشياء سيئة كتلك التي أغضبته منها قبل خمس سنوات أو أسوأ، ومع ذلك لم يتشاجرا. بدا أن هناك مساحة بيضاء شاسعة بينهما، يستحيل اختراقها أو الجدال عبرها. علاوة على ذلك، قد لا تعود أبدًا إذا صرخ عليها.

وبدلًا من ذلك، راقبها محاولًا فك لغز التحول الذي مرت به. أولًا كانت طفلة جميلة سعيدة تحولت إلى مراهقة قبيحة متعجرفة تعيسة. ومن هناك أصبحت فتاة متشددة بعيون منحرفة مكبوتة. والآن هي عفريتة نابضة بالحياة، تعيش - على ما يبدو - في عالم مصنوع من خردة مبعثرة مرصعة بحبات الراينستون. من أين أتت هؤلاء الأشخاص الثلاثة المختلفون؟ حتى مارشا، التي قضت معها وقتًا طويلًا في الطفولة، لم تستطع تتبع أصول كيتي الجديدة من القديمة. أحيانًا كان يفكر بمرارة أنه ومارشا لم يعودا حتى والدين حقيقيين، بل مجرد عجوزين منعزلين يتجولان في منزل، لا يرتبطان بطفل حقيقي يذهب إلى الجامعة، أو على الأقل لديه حياة مفهومة، بل بكائنٍ بديل هو نتاج أغرب صفاتهما الخفية، كيانٌ خرج من زوايا مظلمة في نفسيهما لم يشكا يوماً بوجودها.

لم يكن هناك سوى عدد قليل من السيارات في موقف السيارات. دار حوله بتعمد لا طائل منه قبل أن يركن بالقرب من الصيدلية. قضى ثوانٍ مزعجة وهو يبحث عن مجلة "سيلف"، حتى أدرك أن صورة الغلاف المزينة بالفرشاة الهوائية تبتسم له مباشرة. قلب بسرعة إلى صفحة المحتويات، ثم توجه إلى الجزء الخلفي من المجلة. كُتبت عبارة "Speak Easy" بشكل جانبي أعلى الصفحة بحروف مستديرة بلون الفيروز. وفي الأسفل كان اسم ابنته داخل مربع صغير: "كيتي ثورن فنانة خزف تعيش في ساوث كارولينا". كانت يداه ترتجفان.

كان من الصعب عليه استيعاب الفقرات الأولى بعقلانية، والتي بدت - بغموض - وكأنها تتحدث عن مكالمة هاتفية دارت بينهما ذات مرة حول فراغ وأنانية الأشخاص الذين يمارسون الجنس دون زواج أو إنجاب أطفال. برزت بعض العبارات بوضوح: "...قد يحبني أبي لكنه لا يحب الطريقة التي أعيش بها"، "...الأمر أكثر تعقيدًا لأني مثلية"، "...لأنه لا يزال يؤلمني". لأسباب لم يفهمها، شعر بابتسامة عصبية ترتجف تحت جلده. فقام بكبتها.

" هذا الألم له جذور عميقة في علاقتنا، بدأ - على ما أعتقد - عندما كنت مراهقة."

كان يشعر بوعي مؤلم بأنه في مكان عام، فدفع ثمن المجلة وخرج بها إلى السيارة. قاد ببطء إلى مكان آخر في المواقف، بعيدًا قدر الإمكان عن الصيدلية، والتقط المجلة وبدأ القراءة من جديد. وصفت "الصعوبات الرهيبة" بينه وبينها. وسردت بإيجاز وبأدب غامض، المشاجرات، الهروب، العودة، المصالحة الصامتة.

"هناك مسافة عاطفية قبلناها جميعًا واخترنا التعايش معها، على أمل أن يصل التواصل بين الحين والآخر - حب، غضب، أي شيء - إلى الطرف الآخر."

وضع المجلة جانبًا ونظر من النافذة. كان وقت الغروب يقترب؛ معظم المحلات في المركز التجاري الصغير كانت مغلقة. لم يكن هناك سوى سيارتين أخريين في موقف السيارات ،وامرأة ضخمة، بطيئة، عابسة الوجه، تحمل كيسي بقالة، تستعد لقيادة إحداهما. كان قد أوقف سيارته أمام قطعة أرض مليئة بالأعشاب الضارة على حافة المواقف. كانت هناك أعشاب خشنة منتشرة مثل العناكب الكبيرة الخضراء، وهندباء صفراء صغيرة، وهندباء قديمة هشة، وباقات من نباتات السرمق الزرقاء القوية. حتى في محنته، أدرك بشكل غامض جمال الأعشاب الزرقاء مقابل السماء البيضاء والرمادية الباردة. لوهلة، هدأه صوت الحشرات. مرت صور كيتي في ذاكرته بسرعة رهيبة: جبينها ذي التسع سنوات منحني فوق طبق الآيس كريم، وجسدها الصغير بقميص النوم يصعد الدرج، ويدها ذات الخاتم تلامس وجهها، ومفاتيح حزامها تهتز وهي تمشي ببطء ببنطالها الجينز الأزرق مبتعدة عن المنزل. لقد ذهب كل شيء..

استطردت المقالة لتصف كيف أغلقت كيتي الهاتف وهي تشعر بالإحباط،، ثم سردت كل الأشياء التي كان يمكن أن تقولها له لإخباره كم آلمها، ممهدة الطريق لـ "تواصل حقيقي"؛ كل ذلك بلغة برامج الحوارات التلفزيونية المزعجة. لم يستطع ربط هذه الكلمات بصورة كيتي التي رآها آخر مرة مسترخية في المنزل. كانت تبلغ الآن الثامنة والعشرين، ولم تعد تصبغ شعرها أو تضع حليًا في أنفها. كان سلوكها جادًا، مثقّفًا، تكاد مثل عانس متقشفة. ذات مرة، سمعها تقول لمارشا: "ثم ألقت هذه الفتاة الإيطالية نظرة سريعة عليّ وقالت لجوان: 'أنتِ تتجولين مع الكثير من الدبابير'. فقلت: 'أنا لست دبورًا، أنا مجرد قمامة بيضاء'" فقال هو حينها:  "تكلمي عن نفسك".

لو حدث أسوأ ما يمكن ولم يستطع والدي الرد عليّ بالمثل، لكنتُ فعلتُ خيرًا. لكنتُ أقرّ باحتياجاتي الخاصة، وأوجدتُ فرصةً للتواصل مع ما يُطلق عليه المعالجون "الوالد الصالح" في داخلي.

حسنًا، إذا كان هذا هو نوع الكلام الذي كانت تنوي قوله له، فهو يشعر بالارتياح لأنها لم تقله. لكن إن لم تكن قد قالته له، فلماذا تقوله على الملأ لبقية البلاد؟

شغّل الراديو. كان يغني: "حاول أن تتذكر، وإن تذكرت، فاتبع، اتبع". أطفأه. تردد صدى الحلم المتقطع خافتاً. أغمض عينيه. عندما كان في التاسعة أو العاشرة من عمره، قال له عمه: "كلٌّ يصنع عالمه الخاص. ترى ما تريد أن تراه وتسمع ما تريد أن تسمعه. يمكنك فعل ذلك الآن. إذا رمشت عشر مرات ثم أغمضت عينيك بإحكام، سترى أي شيء تريد رؤيته أمامك". حاول ذلك، على مضض، ولم يرَ شيئاً سوى فكرة غامضة عن كرة بيضاء مصفرة تتحرك بزحف في الظلام. في ذلك الوقت، ظن أن السبب ربما هو عدم بذله جهداً كافياً.

كان قد قال لكيتي أن تفعل الشيء نفسه، أو شيئًا مشابهًا، عندما كانت في الثامنة أو التاسعة. كانا يجلسان على الشرفة الخلفية في كراسي الحديقة المخططة، يمسكان بأيدي بعضهما ويشاهدان اليراعات تضيء وتنطفئ.

أغلقت عينيها لفترة طويلة. ثم قالت بجدية شديدة: "أرى كرات كبيرة من الألوان، مثل الزهور الأشعث. إنها وردية وحمراء وفيروزية. أرى جزيرة بها أشجار نخيل وصخور وردية. هناك دلافين وعروسات بحر تسبح في الماء حولها." كاد أن يذهل من إيمانها بهذه الرؤية المستحيلة. ثم شعر بالحزن، لأنها لن ترى أبدًا ما تريد رؤيته. ثم اعتقد أنها إلى حد  ما غبية، حتى بالنسبة لطفلة.

تذكر طفولته فجأة. كان يمشي في منتصف الشارع عند الغسق، يتصبب عرقًا خفيفًا بعد مباراة كرة سلة. كان هناك صوت الصراصير ونباح الكلاب الخافت وهمسات الناس المنخفضة على شرفات منازل الأمامية. محاطًا بدفء الليل وأصواته، شعر بمزيج رائع من السعادة والحزن أن الحياة يمكن أن تحتوي هذه اللحظة المثالية، وحزن لأنه سيصل قريبًا إلى المنزل، ويدخل إلى الضوء الساطع، ويستعد لليوم التالي بضوضائه وإمكانياته المقلقة. عقد العزم على الاحتفاظ بهذه المساء في ذهنه إلى الأبد، ليطبع في مكان دائم كل الأحاسيس التي مر بها وهو يمشي بجوار منزل عائلة أوتلاندرز، حتى يتمكن دائمًا من إخراجها والنظر إليها. تذكر بشكل غامض شعوره بأنه إذا نجح في فعل ذلك، يمكنه إيقاف الزمن والاحتفاظ به.

أدرك أنه يجب عليه العودة إلى المنزل قريبًا. لم يرغب في التحدث عن المقال مع مارشا، لكن فكرة الجلوس في المنزل معها وعدم التحدث عنه كانت أمرا صعب التحمل. تخيل المحادثة تبدأ ببطء، ومحادثة مستقبلية مع كيتي تنمو بداخلها. كانت المحادثة آلة ضخمة ومعقدة مثل تلك التي تظهر أحيانًا في أحلامه؛ إذا استطاع فقط سحب المفتاح، فكل شيء سيكون على ما يرام، لكنه شعر بالذهول من ثقل الأمر وتعقيده لدرجة أنه لم يستطع فعل ذلك. علاوة على ذلك، في هذه الحالة، قد لا يكون كل شيء على ما يرام. وضع المجلة تحت مقعده وأدار محرك السيارة.

كانت مارشا جالسة في كرسيها المفضل، غارقة في القراءة. رفعت رأسها فجأة، وكأن تعابير وجهها تعكس صراعاً داخلياً معقداً لا يقل حدة عن صراعه، لكنه منقسم في اتجاهات مختلفة، غير مدرك له ولما يعرفه. في عقله، انسحب منها بسرعة لدرجة أن الغرفة المألوفة أصبحت للحظة مشحونة برعب غامض كابوسي. ثم أبرزت عادية المشهد حدث اليوم الاستثنائي، وشعر بالغضب والحيرة لدرجة أنه كاد أن يصرخ. سألت مارشا.

"هل كل شيء على ما يرام، ستو؟"

"لا، لا شيء على ما يرام. أنا رجل عجوز متعب في عالم مقرف لا أريد أن أكون فيه. عندما أخرج هناك، أشعر وكأنني أمشي على السكاكين. كل شيء هجوم — القبح، الرخص، الوقاحة، كل شيء."

شعر بها تنسحب منه إلى عالمها الخاص من السخط، شفتاها متجهمتان في ذلك التعبير عن المثابرة الممزوجة بالضيق الذي ورثته عن أمها. مثل كيتي، مثل الجميع، كانت تتركه.

"ليس لدي ابنة حقيقية، وليس لدي زوجة حقيقية هنا معي، لأنها مشغولة جداً بالركض وراء--"

" لقد مررنا بهذا من قبل. لقد اتفقنا أنني أستطيع- "

"كان ذلك مختلفًا! كان ذلك عندما كان لدينا سيارتان!"

انطلق صوته من حلقه كسوط متقطع ليخرج نصف صرخة مبحوحة.

"ليس لدي سيارة، أتذكرين؟ هذا يعني أنني عالق، وحيد لساعات، ويمكن لنورم بيزارو أن يتصل بي ويخبرني ببرود أن ابنتي المثلية قد خانتني في مجلة وطنية وماذا أعتقد في ذلك؟"

أراد أن يلكم الحائط حتى تنزف يده. أراد أن ترى كيتي الدم. تحول تعبير مارشا إلى ذهول مصحوب بفم مفتوح. جعله عجزها يشعر أن غضبه هائل ومروع، ثم ما لبث أن تحول إلى عجز بحد ذاته. جلس على الأريكة، وبَدَلَ الغضب، شعر بالألم.

" ماذا فعلت كيتي؟ ماذا حدث؟ ماذا قال نورم—"

"كتبت مقالًا في مجلة سيلف عن كونها مثلية ومشاكلها وشيء يتعلق بي. لا أعرف؛ بالكاد استطعت قراءة ذلك الهراء."

نظرت مارشا إلى أظافرها.

نظر إليها فرأى جمال بشرتها العاجية المترهلة تحت وطأة تقدمها في السن ونظارتها ثنائية البؤرة، ووجهها المتأثر عاطفيا، والزغب الداكن على شفتها العليا، وأزرار سترتها اللؤلؤية الطفولية التي لم يُغلق منها سوى الزر العلوي.

" أنا متفاجئة من فعل نورم، كيف اتصل بك هكذا فجأة."

"آه، ومن يعرف ماذا كان يدور في باله!"

هدأت كلماتها من روعه وأبطأت خفقات قلبه، وإن لم تلامس جرحه الحقيقي.

قالت وهي تمتد بيدها.

" تعال هنا  .. دعني أدلك كتفيك."

سمح لها بالاقتراب، وجلسا جنباً إلى جنب على الأريكة، هو متوازن على الحافة بساقيه المزروعتين بشكل غير مريح، بينما جلست هي بأناقة على أحد وركيها وساقاها مشدودتان ومتقاطعتان بإحكام. عدم الراحة في هذه الوضعية ألغى الفائدة العملية من التدليك، لكنه رحب بلمستها. كانت لمارشا يدان قويتان وذكيتان، تخاطبان عضلاته بلغة الأمان العميق والحب ومتعة الحياة الجسدية. بينما كانت تدلكه، اقتربت منه، ولمس صدرها المغطى بالسترة جسده، فشعر بالتوتر يغادره، وكأنه يُنتزع منه عنوة.  من خلال عينيه نصف المغلقتين، رأى حذاءها الرياضي على الأرض —لم يستطع قط أن يتجاوز هذه الظاهرة: نساء بالغات ينتعلن أحذية كانت مخصصة في السابق للأولاد—وقد بدا في ضوء الغرفة الخافت أن إصبع أحد الحذاءين يستند إلى الآخر كأنه يحتضنه، ورباطاهما متشابكان في فوضى جميلة.

مسكينة كيتي. لم يكن الأمر سيئًا لدرجة أنها لم تُجهّز الطاولة في الوقت المحدد. لم يستطع تذكر سبب غضبه هو ومارشا الشديد بسبب الطاولة. إلا إذا كان بسبب برودها، وابتعادها الدائم، وصوتها الساخر. لكنها كانت مراهقة، وهذا ما يفعله المراهقون. حسنًا، كان ذلك مؤسفًا، لكن لا يمكن فعل شيء الآن.

فكر في والده. ذلك كان مؤسفًا أيضًا، ولم يكن أحد يكتب مقالات عن ذلك. كانت هناك مسافة بينهما، كبيرة ومطلقة لدرجة أن كلمة "مسافة" بدت غير كافية لوصفها. لكن ذلك ربما لأنه عرف والده فقط عندما كان طفلًا صغيرًا جدًا؛ لو عاش والده أكثر، لربما تقاربا أكثر. كان يستطيع تذكر وجه والده بوضوح فقط على مائدة الإفطار، حيث يظهر صامتًا وساكنًا إلا لحركات الشفتين والفك، مريحًا في ثباته. كان والده يأكل عصيدته بيد تمسك الملعقة، ومرفقه على الطاولة، وعيناه إلى الأسفل، أحيانًا يمسك بيده الأخرى منشفة باردة على رأسه الذي كان دائمًا يؤلمه بألم نبيل، كما يبدو، يتحمله برضا مع واجباته كزوج وأب. كان يحب التحديق في ذلك الوجه الكبير بتجاعيده العميقة وشحمتي أذنيه الطويلتين، وشفتيه الرقيقتين وفكيه المتحركين أثناء المضغ. ملأه سكونه وتعبيره الخالي من المشاعر الذي يشبه الآلهة بالإعجاب والطمأنينة، حتى نظر إليه والده ببطء من فوق صحن حبوب الإفطار ذات يوم، والتقت عيناه بعينيه، وقال، "توقف عن التحديق بي، أيها الأحمق الصغير".

في باقي الذكريات، كان والده جسدًا ضخمًا ثقيلًا بوجه مطوَّل مبهم الملامح. رآه نائمًا على الكرسي الكبير في غرفة المعيشة، ويداه الكبيرتان، المغطّاتان بالشعر عند المفاصل، تكادان تلامسان الأرض.

وقد رآه أيضًا يمشي على الطريق المؤدي إلى باب المنزل، بخطواته السريعة القصيرة نفسها التي اعتادها عند عودته من العمل، مشية متصلّبة، متقطعة، منحت جسده الضخم طابعًا آليًا مهيبًا.كان قميصه مبتلًا تحت الإبطين، ورأسه مطأطأ، وعيناه شاردتان لكن متيقظتان، كما لو أنه يراقب العالم الخارجي بحذر خشية أن يهجم عليه شيء مقيت بينما ينشغل هو بشيء أهم في الداخل.

" الأب الصالح فى داخلك."

ما الذي يقصده أولئك الحمقى حسنو النيّة الذين يخترعون هذه العبارات؟

عندما يموت الأب، يرحل.

لا يوجد "أب صغير مبتسم" يظهر فجأة، ملوّحًا بفرح، من جيب سرّي في صدرك. بعض أنواع الفقد نهائيّة، لا رجعة فيها. ولا قدر من "تحقيق الذات" أو "التعبير عن الذات" سيغيّر من ذلك شيئًا.وكأنها سمعته، ضغطت مارشا بجسمها بكل ما تملك من طاقة، وركّزت قواها على إرخاء عضلاته. تسرب عرقها ومزيل العرق المعطّر إلى صوف سترتها، مما أضاف نفحة صوفية خافتة إلى رائحتها..قالت بحيوية:

"حسنًا!"

ثم بدأت تدلك كتفيه، وتربّت عليهما بقوة.

مدّ يده إلى الخلف ولمس يدها شاكرًا.

على الجهة المقابلة من حيث جلسا، كان هناك كرسي أحمر في الماضي، وفيه جلست كيتي ذات مرة، لا تنظر إليه، ووجهها مخبأ داخل قبضتها.قال لها:" أنتِ مثلية؟ حسنًا، لا بأس. لا تعنين لي شيئًا. تخرجين من هذا الباب؟ لا يهم. وإن عدتِ، فسأبصق في وجهك. لا يهم إن كنت على فراش الموت، سأجد ما يكفي من القوة لأبصق في وجهك." لم تتحرك عندما قال ذلك. انهمرت الدموع على قبضتها وذراعها، لكنها لم تنظر إليه.

أبقت مارشا يديها عليه لحظة أخرى، ثم تحركت وجلست بعيدًا عنه على الأريكة.

(انتهت)

***

.......................

* لا تُجامل ماري جيتسكيل ولا تُلطّف ضرباتها. هذه واحدة من القصص النادرة التي تشعر فيها – ولو بدرجة محدودة – بالتعاطف مع بطل قصتها رغم كونه شخصًا فظًا بحق. فأبٌ يسترجع الماضي بعد أن علم أن ابنته كتبت مقالًا في مجلة عن علاقتهما، بعد أن أعلنت عن هويتها الجنسية كامرأة مثلية. ومن ثم فإن أي تعاطف معه يمكن أن ينبع من انقسام شخصيته إلى جانبين: جانب غاضب، أناني، رهابِيّ من المثليين، يترتب عليه طرد ابنته من المنزل. وجانب آخر، مرتبك، ومنطوٍ، يعاني من اضطرابات عاطفية، ويكافح لمواجهة فشله كأب.

ثيمات القصة: علاقة الأب بابنته، تمرد المراهقين، الهوية الجنسية، القبول، والانفصال العاطفي.

الكاتبة: ماري جيتسكيل/ Mary Gaitskill (وُلدت في 11 نوفمبر 1954) هي روائية وكاتبة مقالات وقصص قصيرة أمريكية. ظهرت أعمالها في مجلات مرموقة مثل ذا نيويوركر، هاربرز ماغازين، إسكواير، بالإضافة إلى أفضل القصص القصيرة الأمريكية (أعوام 1993، 2006، 2012، 2020)، وقصص جائزة أو. هنري (1998، 2008).من أبرز كتبها مجموعة القصص القصيرة سلوك سيئ (1988)، ورواية فيرونيكا (2005)، التي رُشّحت لجائزتين مرموقتين: الجائزة الوطنية للكتاب في فئة الرواية، وجائزة نقاد الكتاب الوطنية في فئة الرواية أيضا .

ترجمة لنص: وما مسّني وهمٌ

للشاعرة: عائشة بريكات

ترجمة: رياض عبد الواحد

***

Text by: Aisha Brikat

Translated by:Riyadh Abdulwahid

***

And when I thought

that my heart had been glorified—

I fell down in prostration

beneath a shadow of certainty,

yet I was not among the playful.

Time said:

Explode,

as meaning bursts

when struck by parable.

But I—

I was on the brink of a love

that would not fracture.

I passed by my mirror

as one passed

a thing bartered

for a price too cheap—

and I did not know myself.

Nor was my soul adorned before me,

but they said: This is your trial.

So I endured,

until the text seized me from my rib.

And when I prayed

to be reborn as a miracle,

revelation came

from the direction of the heart—

bare,

stripped of all interpretation.

And it said:

We shall not make you firm

except with a measure of longing,

so be beautifully patient.

Raise not your voice

in the presence of metaphor—

for meanings are nations

that do not speak

until permission is given.

They believed

that serenity comes all at once.

But I sent my soul

to wipe the eyelid of time,

saying: Do not fear,

for those who pace

upon the mouth of patience

are most worthy of the bread

when it breaks.

I asked for no sign—

but when my name was called

from behind absence,

I turned,

and saw the text standing,

smiling,

like one who had witnessed the Resurrection,

yet felt no dread

and bore no regret.

And here I am:

concealing what was poured

into my heart

from a place I cannot name—

walking gently upon the earth,

as if I were made

of humble ink.

And should I one day be asked

what I worshipped,

I will say:

I prostrated to Allah

when He descended upon my heart—

without simile,

and without metaphor.

***

..........................

وما مسّني وهمٌ

عائشة بريكات

وإذ ظننتُ...

أن قلبي سُبّح له

خررتُ ساجدةً

تحت شُبهةِ يقين

وما كنتُ من العابثات

*

قال الوقت:

انفجري

كما ينفلق المغزى

إذا ضُرِب له مثل

لكني

كنتُ على شفا عشقٍ لا يتصدّع.

*

مررتُ على مرآتي

كما يُمَرّ على شيءٍ

بُذل بثمنٍ بخس

فلم أعرفني

*

وما زُيّنت لي نفسي

لكنهم قالوا: هذه فتنتك

فصبرتُ

حتى مسّني النصُّ من ضلعي.

*

وإذ دعوتُ أن أُبعث بمعجزة

جاءني الوحيُ من جهة القلب

عارٍ من التأويل

**

وقال: لن نثبّتك إلا بشيءٍ من الحنين

فاصبري صبراً جميلاً

ولا ترفعي صوتك في حضرة المجاز

إن المعاني أُمَمٌ لا تنطق حتى يُؤذن لها.

*

ظنّوا أن السكينة تُؤتى دفعةً

فأرسلتُ روحي تمسح

على جفنِ الوقت

وتقول : لا تخف

إن الذين يذرعون على فوهة الصبر

هم أولى الناس بالرغيف حين يُكسر.

*

لم أطلب آيةً

لكنني حين نُودي اسمي

من وراءِ الغياب

التفتُّ

فوجدتُ النص واقفاً

يبتسم كمن شهد القيامة

ولم يُكتب عليه فزعٌ ولا ندم.

*

وها أنا

أخفي ما انسكب في قلبي

من جهةٍ لا أعلمها

وأمشي في الأرض هوناً

كأني خُلِقتُ من حبر مهين

*

ولعلي إذا سئلت يوماً

عن ما عبدت

أقول: سجدت لله

حين تنزل في قلبي

بلا تشبيه

ولا مجاز

 

قصة: يوكيكو توميناجا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

استيقظت وأنا أشعر بالبلل، ذلك البلل الذي ظل عالقًا في جسدي. كانت حلمتا صدري متصلبتين، وعندما احتكتا بقميصي، شعر النصف السفلي من جسدي بماضيّ. في حياتي السابقة، كنت أتوق إلى بشرة رجل أتلذذ به، وأتشبث به ؛ من أجل هذه الإحساسات. كنت امرأة ذات يوم.

كان أليكس نائمًا بجانبي، وأرجلنا ملتفة معًا. تحررتُ منه وأمسكتُ بفخذيّ. حاولتُ أن أمنع جسدي من الشعور بهذا الإحساس بالضغط بقوة. لكن نبضي بين فخذيّ استمر في الخفقان بجواره..

أترك الجهة اليسرى من سريري، الأقرب إلى الحمام، فارغة. حتى عندما كان عمره ثماني سنوات، كان أليكس يأتي إلى سريري بعد أن يذهب إلى الحمام في منتصف الليل، وعندما يأتي، كان يدفع قدميه بين فخذيّ. كان وجهه أكثر نعومةً وبراءةً مما هو عليه حين يكون مستيقظاً. كنت أستيقظ عند الفجر، قبل أن يرن المنبه، وأستغل نوم أليكس. كنت أتفقد رأسه بحثًا عن القمل، وعينيه بحثًا من المخاط، وأحصي النمش على وجهه. كنت أتتبع جبهته، وجفنيه وأنفه، الذي كان مثل زلاقة مصنوعة من البورسلين. كان إصبعي ينزلق على جسر أنفه، مرارًا وتكرارًا. ثم كنت ألمس خده بخدي، على إيقاع تنفسه، وأسترجع ليالي الصيف في اليابان، الليالي التي كنت أراقب فيها أمي وهي تزيل القشرة الرقيقة لخوخة بيضاء محمرة، والعصير يتساقط بين أصابعها.

في الحادي والعشرين من سبتمبر من كل عام، في ذكرى وفاة زوجي، أتصل بحماتي. أبدأ حديثنا ببشهيق خفيف، بما يكفي لتسمعني. ورغم أن أنفي نظيف، أتمكن من عزف دويتو شهيق إيقاعي معها. ثم عادة ما تمخط أنفها ثلاث مرات وتختتم المحادثة بقولها: "كيوكو، حان الوقت لكي تجدي سعادتك. لقد ضحيتِ بحياتك بما فيه الكفاية."

أقول لها الحقيقة: "شكرًا، لكنني سعيدة كما أنا." تنفجر حماتي في البكاء. وبينما أسمعها تشكرني على منحي ابنها السعادة التي عرفها، أشعر بطبقة أخرى من الذنب تتراكم في قلبي.

في عيد ميلاد زوجي، أشتري تورتة الكيك بالفراولة من المخبز الإيطالي في شارع ميشين وأدعو الجيران وبعض أصدقائه. يقلبون في ألبومات الصور على طاولة الطعام. بينما يضيء الضوء الخافت وجوههم وضحكاتهم وهم يستمعون لقصة قيام زوجي بتركيب محرك نوفا 1970 في مرآب منزلنا. أجلس بعيداً عنهم، على كرسي بجانب الموقد، وأنا أزيل بقايا عجين الفطائر من سطح المنضدة بينما أنتظر أن يغلي الماء. عندما يبدأ ضيوفي في العبث بصمت بالكريمة المتبقية على قطع الكيك، ينتابني الخوف من أن يُسألوني عن حالي.وأكثر من ذلك، أخشى أن يعانقني أحدهم، ويضغطني إلى جسده حتى أشعر بحرارة جسمه، لأنه في تلك اللحظة قد يلاحظون أنني لست فارغة من الداخل،  أو الأسوأ من ذلك، أنني راضية.

في الصباح الذي اكتشفت فيه أنني حامل بأليكس، التقيت بليفي في سانت فرانسيس. قلت له ألا يقلق، كل شيء تحت السيطرة، المكان للإجهاض، المال، حتى الطريق إلى المنزل. كل شيء تم تدبيره. كنا معًا فقط لبضعة أشهر، فقط بما يكفي لترك فرشاة أسناني في مكانها، لا شيء أكثر.

قلت:

- جائعة؟

وأنا ألوح للنادلة مبتسمة. طلبت قهوة وبسكويتا بالكريمة.

هز ليفي رأسه وأعادها دون أن يطلب شيئًا. لم ينظر إليها، بل ظلّت عيناه عليّ طوال الوقت. سألته:

- ما الذي نُشاهده الليلة؟

قال:

- هل فكرتِ أنني قد أريد الطفل؟ هل فكرتِ يومًا أنني أريد الزواج منك؟ أنا وأنتِ؟

ساعد ضجيج المطعم الشعبي في ملء الفراغات في حديثنا. كنت أراقب ليفي وهو يفتح منديله، ويضع الأدوات الفضية، ويعيدها إلى المنديل، ويعيد لفها من جديد. ثم يضغط بأصابعه على زوايا عينيه من الداخل.

مددت يدي نحو يده، وقلت:

- نعم، بالطبع، حبيبي.

ربما كان حبي له هو ما جعلني أكذب. إذا كان الأمر كذلك، فربما كانت نظريتي صحيحة، الحب يعكر السلام.

في الثلث الثاني من حملي، بينما كنت مستلقية على سريري، كنت أتخيل كثيرًا قطع معصمي، ودمي ينقط على الأرض، وحياة جنيني تنتهي ببطء قبل أن يواجه صعوبات الحياة ووالدة لا تحبه. ماذا لو أن الجنين امتص ليس فقط غذائي بل أيضًا مشاعري؟ ماذا لو أن أحلام اليقظة التي تراودني فرضت على الطفل مشكلات في التعلق؟ بدلًا من دمي، كانت دموعي تلطخ وسادتي. استدرت لأنظر إلى ليفي وضعت يدي على أضلاعه، أشعر بتوسعها وانقباضها، وتخيلت رد فعله عندما يجدني بلا حياة بجانبه. لذا، أبقيت الجنين على قيد الحياة. ليس من أجل الطفل. ليس من أجل ليفي. أبقيته من أجلي.

وُلد أليكس بملامح ملاكم ياباني مشهور أصبح فيما بعد كوميديان. وجهه أحمر ومجروح، وجسده مكدم. عندما ضغطته على صدري لأرضعه، كان بالكاد يفتح عينيه، جفونه ما تزال متورمة، وكأنه كائن فضائي... لا بياض في عينيه.

صرخت لأمي في اليابان عبر الهاتف.

-  إنه هنا! إنه بين ذراعي!  أحمر كالمؤخرة، ويبدو مثل جوتس إيشيماتسو. أمي، هو هنا معي، وعندما أضع أصبعي تحت أنفه، أستطيع أن أشعر بالهواء يخرج. إنه حي!

ضحكت أمي أو بكت أو كليهما، وقالت:

- يبدو أنه رائع!

- نعم، رغم أن ذلك لا يُعقل

- ولماذا يجب أن يكون معقولاً؟

مرتان أو ثلاث مرات في الشتاء، عندما يكون سريري باردًا جدًا بحيث لا أستطيع وضع قدميّ فيه، أصعد إلى سرير أليكس العلوي وأوقظه برفق.

- أليكس، ليكس، أليك، ليكسي، لولو. لالا. تعال إلى سريري.

أقول ذلك، وأنا أثيره بالدغدغة تحت ذراعه. يتمتم في نومه ويدير وجهه عني.

- أليكس، تعال ونم مع ماما.

أكرر. لا يتحرك و يبدو جسده كجذع خشبي ثقيل. بعد عدة هزات وهمسات في أذنه، يستيقظ، وعيناه ما تزالان مغلقتين، وينزل عبر السلم. أمسك ظهره لحمايته من السقوط، وعندما يصل إلى الأرض، أحمله إلى سريري. تتشابك أقدامنا، ويده الضعيفة مستلقية على خدي، ولم أعد باردة بعد الآن.

لقد كنت أجمع بطاقات العطلات الخاصة بالأبراج الصينية. كتبت خمسة عشر بطاقة حتى الآن، وأغلقت كل واحدة في ظرف بني. أخي رجل طيب يحتفظ بالأسرار لنفسه. وهو أيضًا رحالة عالمي يقضي كل وقت إجازته خارج اليابان. عندما يذهب أليكس إلى الكلية، سأعطي الظرف لأخي وأطلب منه أن يرسل بطاقة واحدة إلى أليكس كل عام من بلد أجنبي. أتخيل أليكس وهو يقول: "أمي! هي أسعد امرأة أعرفها. العام الماضي كانت البطاقة مختومة في فرنسا، وهذا العام في البرازيل." وسأبتسم تحت المطر البارد مع صورة ابتسامته.

هذا الصباح، تركت أليكس دون أن ألمسه وذهبت إلى المطبخ. شغلت الفرن على درجة الشواء، كسرت بيضتين في وعاء، أضفت بعض الحليب، خفقتهما، وصببت المزيج في المقلاة. وضعت قطعة من البطاطا المحمصة المجمدة في الفرن وألقيت شريحتي خبز في المحمصة. حضّرت الفطور لنفسي أيضًا، حتى يكون لأليكس من يتناول الطعام معه. تناول الفطور بمفرده هو ما يفعله الأطفال الوحيدون. ابني ليس وحيدًا. لن أسمح بذلك. أعرف أنني لا أستحق أن آكل، لكن إذا لم آكل فمن سيبقى ليحبّه؟ قطعت شقين على قمة برتقالة لكي أتمكن من تقشيرها، حتى يأكل الفاكهة ولا يقتصر الأمر على امتصاص العصير فقط. صببت بعض الحليب في أكوابنا. لا قهوة في بيتي. أليكس لا يزال صغيرًا جدًا عليها، ولا أشتري هذا المنتج الفاخر لنفسي. أخرجت البطاطا المحمصة من الفرن ووضعتها في طبقه وتساءلت أين أخطأت.

رَنَّ المنبه وحان الوقت ليصحو. انفرجت شفتاه قليلاً؛ استنشقتُ زفيره. أنفاسه التي تشبه رائحة الأعشاب البحرية.  لا أستطيع مقاومتها، لا أستطيع إلا أن أتناولها. قلت له:

- حبيبي، حان وقت الاستيقاظ.

تحرك قليلاً، جذبني إلى سريري، ودفن وجهه في حضني.

تجمدتُ في مكاني. قال في توسل:

- خمس دقائق أخرى.

- لا، الوقت انتهى.

تذمر لكنه نهض من على  السرير ببط ومشى إلى الحمام. رأيت ظهره وهو يقف أمام المرحاض ثم سمعت صوت الماء الجاري. سأل وهو يغسل يديه:

-  ماذا يوجد على الفطور؟

أجبت:

- نفس ما كان بالأمس.

لا أحد في هذا البيت، فقط هو وأنا. لا أحد يراه في هذا البيت، فقط أنا. ولا أحد أراه في هذا البيت، ولا خارج الباب، ولا في أي مكان، سوى هو. من سيحبّه إذا لم أكن أنا؟

جلسنا وجها لوجه. الطعام لا يزال دافئًا، تمامًا كما يجب.

سألته:

- هل تحبني؟

-  نعم، لماذا؟

قلت:

- لأني سعيدة.

هز كتفيه. يؤلمني أن أكون سعيدة.

قال:

- كلمتنا الآنسة سميث عن الجنة والنار بالأمس، هي لا تؤمن بأي منهما، لأن المعلمة في مدرسة الأحد قالت لها عندما كانت طفلة أن كلبها لا يمكنه الذهاب إلى الجنة معها، فالبشر فقط هم من يستطيعون ذلك.

قلت:

- هذا مضحك. بماذا تؤمن أنت؟

-   أؤمن بكل شيء، الجنة، والنار، والتناسخ، وحقل العقاب، وحقل الزنابق. وماذا عنك؟

- لا أؤمن بأيٍّ من ذلك.

أنهينا فطورنا. غسل أسنانه، غير ملابسه، وأخذ حقيبته. فور أن مدّ يده إلى مقبض الباب، استدار، ونظر إليّ. قال:

- بلى، أنتِ تؤمنين يا أمي. أعلم أنكِ تؤمنين بشيء ما.

(تمت)

***

......................

الكاتبة: وُلدت يوكيكو توميناجا / YUKIKO TOMINAGA ونشأت في اليابان. وصلت إلى نهائيات جائزة فلانري أوكونور للقصص القصيرة لعام 2020، التي اختارتها روكسان جاي. رُشِّحت أعمالها لجائزة بوشكارت، ونُشرت في مجلتي شيكاجو كوارترلي ريفيو وبيلينجهام ريفيو، ومنشورات أخرى. تعمل أيضًا في دار نشر كاونتربوينت، حيث تُساهم في تعريف القراء الناطقين باللغة الإنجليزية بكتب يابانية لم تُترجم من قبل.

 

قصة: منى جاردنر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

البلد الهند. مسؤول استعماري وزوجته يقيمان مأدبة عشاء كبيرة. يجلسان مع ضيوفهما - ضباط الجيش والملحقين الحكوميين وزوجاتهم، وعالم الطبيعة الأمريكي الزائر - في غرفة طعامهما الفسيحة، والتي تحتوي على أرضيات رخامية وروافد خشبية مفتوحة وأبواب زجاجية واسعة تفتح على الشرفة.

ينشب نقاش حيوى ودافئ بين امرأة شابة تصر على أن المرأة قد تجاوزت حقبة القفز على الكرسي عند رؤية الفأر وكولونيل يقول إنهن لم يكبرن.

يقول الكولونيل:

- رد فعل المرأة الثابت في أي أزمة هو الصراخ. وبينما قد يشعر الرجل بذلك، إلا أنه يتحكم في أعصابه بمقدار أوقية واحدة زيادة عن المرأة، وهذه الأوقية الأخيرة هي ما يهم.

لا يشارك الأمريكي في النقاش ولكنه يراقب الضيوف الآخرين. وأثناء نظره، رأى تعبيرًا غريبًا يأتي على وجه المضيفة. إنها تحدق إلى الأمام مباشرة، وتتقلص عضلاتها قليلاً. بإيماءة صغيرة، استدعت الخادم المحلى الذي يقف خلف كرسيها وهمست له. اتسعت عينا الخادم وسرعان ما غادر الغرفة.

من بين الضيوف، لم يلاحظ ذلك أحد باستثناء الأمريكي أو رأى الصبي يضع وعاءً من الحليب على الشرفة خارج الباب المفتوح مباشرةً.

يخطر على ذهن الأمريكي فورا . في الهند، الحليب في وعاء يعني شيئًا واحدًا فقط - طعم للثعابين . يدرك أنه لا بد من وجود كوبرا في الغرفة. ينظر إلى العوارض الخشبية - المكان الأرجح - لكنها فارغة. ثلاث زوايا من الغرفة فارغة، وفي الرابعة ينتظر الخدم تقديم الطبق التالي. لم يتبق سوى مكان واحد - تحت الطاولة.

كان دافعه الأول هو القفز للخلف وتحذير الآخرين، لكنه يعلم أن الضجة ستجعل الثعبان يهاجم. يتحدث بسرعة، ونبرة صوته آسرة لدرجة أنها تبكي الجميع.

- أريد أن أعرف بالضبط ما مدى التحكم الذي يتمتع به كل شخص على هذه الطاولة. سأعد لثلاثمائة - أي خمس دقائق - ولن يقوم أحدكم بتحريك عضلة. ومن يتحرك منكم سيخسر  خمسين روبية. مستعدون!

جلس العشرون شخصًا مثل الصور الحجرية بينما كان يعد. يقول ". . . مائتان وثمانون. ... " عندما رأى بطرف عينه الكوبرا تخرج وتصل إلى وعاء الحليب،أطلق صرخات عالية واضحة وهو يقفز لإغلاق أبواب الشرفة بأمان.

هتف المضيف:

- كنت على حق أيها الكولونيل! كشفت لنا عن رجل يعد مثالاً على السيطرة الكاملة.

يقول الأمريكي، مستديرًا إلى مضيفته:

-  دقيقة واحدة فقط   السّيدة وينز، كيف عرفت أن الكوبرا كانت في الغرفة؟

تضيء ابتسامة باهتة وجه المرأة وهي تجيب:

- لأنها كانت تزحف على قدمي.

(النهاية)

***

.....................

المؤلفة: منى جاردنر/ Mona Gardner  (1903-1998)/ ولدت منى جاردنر فى بلمار، مقاطعة مونماوث  نيو جيرسي في 29 مايو 1903 في تومز ريفر.نشرت جاردنر هذه القصة عام 1941 م فى/Saturday Review .

بقلم: أيوبامي أديبايو

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

لم تشاهده أرملته وهو يدخل، ولكننا شاهدناه. كان بنفس الثياب التي ارتداها حينما ذهب إلى العمل قبل حوالي خمس أسابيع. بذة سوداء، قميص أبيض وربطة عنق هزيلة زرقاء. وقف بالباب لحظة، كأنه يتوقع أن تنظر إلى أعلى، وتبتسم له وتعتذر. جرت أطراف غطاء رأسها، وقلبت صفحة الجريدة التي كانت تقرأها. أغلق الباب، وذهب إلى مكان الجلوس دون أن يخلع نعليه. ربما اعتقد أنه سيدفعها للكلام معه. فقد تشاحنا عدة مرات بسبب نوع الأحذية التي يمكنه أن يسير بها فوق البساط الكريمي الذي يغطي الأرض. وضعت الجريدة في حضنها، ودعكت ذراعها بطريقتها المعتادة كلما شعرت بالبرد. حينما خلع سترته، شاهدناها: بقعة الدم الواسعة التي غطت ظهره من عظام كتفيه إلى النقطة التي اختفى بها قميصه في سرواله. كان القميص ملتصقا بظهره، ومن الواضح أنه مبتل، وكأنه بعد خمسة أسابيع، لا يزال مكان الجرح الذي قتله ينزف. طوى السترة نصفين، ووضعها على ذراع كرسي جلد أسود، كان يجلس عليه دائما بعد أية مشاحنة كبيرة. ولكنها لم تتخلى عن كرسي الحب الذي اشترياه بعد شهرين من زواجهما. وكان هو الذي يستيقظ متنهدا ويذهب إلى كرسيه الأسود. ولا نعتقد أنه أخبرها أنه هدية من لوب، صديقته الحميمة السابقة، والتي اعتقد أنه سيقترن بها. جلس في المقعد الجلدي ومد ساقيه وانتظر. ماذا ينتظر؟. الحقيقة أنه خلال عشرة شهور من الزواج، كانت هي التي تبادر بالاعتذار. وهكذا تنتهي مشاحناتهما بنفس الطريقة، تقع على ركبتيها أمامه، وتطلب المغفرة، حتى لو أنه هو المخطئ. وبعد أن تعتذر، يربت على شعرها ويقول إنه متأسف بدوره. أصابنا هذا الإيقاع المتكرر بالضجر. فالزوجان اللذان غادرا، قبل مجيئه منذ أربع سنوات مضت، كانا مسليين أكثر. في تلك الليلة، انتظرها حتى تنتهي من تقليب صفحات الجريدة ببطء، فقد كانت تقرأ كل مقالة بالطريقة التي اتبعتها كل ليلة منذ أسبوعين بعد أن رحلت أمه وأمها وبقية المعزين. نظف حنجرته بين حين وآخر، ومنحها نظرة جانبية. لا بد أنه أدرك أخيرا أنها لن تركع أمامه في تلك الليلة. ولذلك فعل شيئا لم يفعله من قبل، وبادر إلى الكلام معها قبل أن تعتذر إليه. وقال لها: "أتيت إلى البيت بالتاكسي. وكان السائق حلو المعشر. ولم يتقاض النقود مني. تخيلي هذا في لاغوس" - وتابع بصوت هامس: "ولكن ماذا عن سيارتي. ماذا حصل لسيارتي".

وحينما أغمض عينيه ودمدم بصوت خافت عن سيارته، قلبت صفحة أخرى واقتربت من منتصف الجريدة، وكانت نعوته منشورة بجوار إعلان عن زيت المحركات. وهنا فتح عينيه. وقال وهو يمد أصبعه باتجاهها: "ماريا. عليك في هذا الصباح أن تتعلمي كيف تثقين بي. نعم. كنت أدردش مع لوب ليلة أمس، ولكن لم يكن عليك التجسس على هاتفي. هذا ليس من حقك". وتراجع بظهره إلى الخلف، بعد أن قال ذلك، ورماها بنظرة نافذة.

نظرت قليلا إلى الأعلى، نحوه، وباتجاه الكرسي التي قالت لأمها إنها ستحتفظ بها، لأنها المفضلة عنده. وعندما هزت رأسها ببطء وعادت بنظرتها إلى الجريدة، تنهد وقال: " حسنا. لديك حق أيضا. ولكن. لكن. عمليا لا مكان للاستدراك. لديك كل الحق بالنظر في هاتفي. وما دمت فعلت ذلك، لا بد أنك لاحظت أنني كنت أخبر لوب كيف علينا أن نتابع حياتنا. انظري. هل استمرت المحادثة لوقت طويل؟. ربما. ولكن هذا لا يعني أنني استيقظت لأثرثر معها. أنت تعلمين أنني كنت أبحث عن أكا ACCA (رابطة المحاسبة الرسمية المسجلة - المترجم). لهذا السبب استيقظت. أما الكلام معها فقد كان مجرد شيء جانبي". فركت عينيها بقفا يدها اليمنى، ثم نظرت إليه، وشفتها السفلى بين أسنانها، والأسف في عينيها، فقال وهو يميل إلى الأمام في كرسيه: "انظري. أعلم أنك تعتقدين أنني لا زلت أكن عاطفة نحو لوب، ولكنني تزوجت منك يا ماريا. اسمعيني. بعد أن أرسلت صورة صدرها في الليلة الماضية، توقفت عن الكلام معها. أنت قرأت المحادثة. وتعلمين أنني لم أعلق بعد ذلك. وإذا كنت تتوقعين أنني محيت الأشياء التي تفوهت بها، لماذا لم أمح الصورة أيضا؟. ربما كان علي أن أخبرها، حينما أرسلت الصورة، أن ترحل، ولكن رأيت، رأيت أن الصمت أفضل".

كان يقول الحقيقة. ورأيناه يهز رأسه ويقلب هاتفه على وجهه فوق طاولة الطعام المغطاة بالزجاج، بعد أن ظهرت الصورة. ثم ذهب إلى كتبه واستمر الهاتف على ذلك الوضع حتى انتقل إلى الحمام حوالي الخامسة صباحا.

ماريا كانت ثاني شخص يلمسه. وهكذا اندلعت آخر مشادة بينهما. وحينها كان في الحمام. واستمرت حتى نهاية استحمامه واستحمامها. ارتفعت أصواتهما وهما يلبسان الثياب. كان أسرع بارتداء ملابسه، حتى أنه وضع ربطة عنقه الرفيعة الزرقاء في جيبه عوضا عن ارتدائها. تبعته إلى الباب، قبل أن تزرر قميصها المفصل، وهي تصيح بالأسئلة التي رفض الإجابة عنها. صفق الباب وهو يغادر، فاتكأت على واحد منا، وتنهدت قبل أن تخبط الأرض عائدة إلى غرفتهما للانتهاء من ارتداء الثياب من أجل العمل.

والآن زفرت وهي تقلب صفحة أخرى ولكنها لم تصل إلى منتصف الجريدة، وكان أمامها قراءة صفحتين قبل أن تصل إلى إعلان زيوت المحركات، ولكن الدموع كانت تسيل على خديها مسبقا. وقف ليجلس قربها في كرسي الحب الرمادي. وعندما جلس، لم تحرك ساكنا، ثم ارتجفت بشدة وسكنت مجددا. جففت وجهها بيديها ونظرت إلى المكان الذي جلس فيه على يمينها. لا بد أنها شعرت بوجوده. على نحو ما، شعر جسدها بما لم تراه عيناها. جلسا بتلك الطريقة لعدة لحظات، يتبادلان النظرات من وجهيهما ولكن لم يشاهد الآخر غير واحد منهما.

قال: "آسف. آسف لأنني جرحتك".

مدت ماريا يدها نحوه. وسمحت ليمناها أن تحوم بجانبه وهو على كرسي الحب، بحوالي عدة بوصات فوق ركبتيه اللتين لا يمكنها رؤيتهما. ثم سحبت يدها، ووضعتها على قلبها. لمس أطراف اللفاحة السوداء التي تغطي رأسها، وفرك النسيج بإبهامه وسبابته قائلا: "هيا. كلميني. ألم يدهشك اعتذاري منك أولا؟". وجر اللفاحة، وكشف رأسها الحليق وتابع: "ماذا يا - ماريا؟ أين ذهب شعرك؟".

لم تذرف ماريا دمعة واحدة حينما حلقت شعرها بعد اليوم الذي تأكد لها أن الجثمان الذي سحبه ضابط المرور من بين الحطام على ثالث جسر أساسي هو جثمان زوجها. جلست بظهر متصلب ووجه جامد بينما إحدى شقيقات زوجها تشذب بمقص شعهرها البني الطويل والغزير المنسدل على كتفيها. ولكن استندت أم ماريا على أحدنا، وغطت وجهها بكلتا يديها، وانخرطت بالبكاء. جلست ماريا في الكرسي التي يجلس عليها زوجها حينما يدردش مع لوب، وقلبت في كتاب مدرسي نسي وضعه جانبا أثناء خروجه المتسرع من البيت. سقط بعض شعرها على الصفحات. وسالت دموعها لاحقا، بعد بكاء الجميع - أمها، أمه، أخواتها، أخواته، والنساء اللواتي أتين لتعزيتها وللتأكد أنها تعبر عن أحزانها بطريقة صحيحة - ثم عدن إلى بيوتهن وأزواجهن.

وصلت الآن إلى صفحة النعوات في الجريدة. رفعتها كما تفعل دائما حينما تصل إلى هذه الصفحة، تحركت إلى اليسار، لتقترب من مصباح النور، وكأنه يشع ما يكفي على ما تقرأ، أو أنه سيغير شيئا، من الكلمات، أو من صورة الرجل الذي تزوجته.

عندما رفعت الجريدة، وقف ومال نحو الأمام، وأصبح ينظر مباشرة إلى وجهه. كانت الصورة ملتقطة في يوم زفافهما التقليدي. وخلاله كان مكللا بالبني والذهبي. علق حبلين من خرز المرجان حول رقبته، وكان فمه مفتوحا على سعته، وكان بمنتصف ضحكته. هز رأسه وهو يحدق بالصفحة، وبالإعداد لجنازته، وبقائمة الأصدقاء الذين وقعوا بأسمائهم في الأسفل من جهة اليمين. ثم قال: "ماريا. يا ماريا. توقفي عن هذا الهراء. أنت تسمعينني، يا ماريا، يمكنك سماعي. أنا حي يا ماريا. وأنا هنا".

غطت الوجه في الجريدة براحتيها، ونكست رأسها، وبدأت بالنحيب. صاح وهو يبتعد عنها: "هيا". وقف في وسط الغرفة، يراقب بكاءها، ويهز رأسه مرارا وتكرارا. ثم قال: "أنا حي. حي".

ثم جاء إلى واحد منا، الأقرب منه. وربما فكر أننا سنكون معيارا يعاين به حالته. وعندما لصق جسمه بذلك الجدار وأغلق عينيه بقوة، شعر كل منا أنه يحاول أن يخترقنا، وأن يمر من الطلاء والإسمنت والفولاذ نحو الجهة الأخرى. ولكنه لم يمر، وفي مكان ما من الجدار الذي شكلناه نشأ صدع. حينما فتح عينيه، نظر حوله، ووجد أنه لا يزال في غرفة المعيشة لا غرفة النوم. ابتسم، وذهب إلى ماريا وركع أمامها.

قال: "انظري. أنا هنا. وحي أرزق. عليك أن تصغي لي. توقفي عن البكاء. توقفي. رجاء".

ثم حاول أن يعانقها. ولكن اختفى ذراعاه في جسدها ولم يعانق ماريا، بل علقت يداه فيها. وعندما سحبهما إلى الخلف، شهقت وضمت كتفيها، في المنطقة التي لمستها يداه. انتقلت نظرته إلى الأمام والخلف بين يديه ودمعتها - ووجها المخطط بالدموع. وقال: "لا. هذا مستحيل".

وحاول مجددا. في هذه المرة حاول أن يعانقها من خصرها، ولكن علقت يداه في داخلها، وعندما تمكن من تحريرهما من بطنها، صاحت، وأمسكت بطنها، وانثنت على نفسها.

قال وهو يحدق بيديه: "آه يا إلهي".

انزلقت الجريدة من حضنها وهي تنثني. وتوزعت الصفحات على الأرض حول قدميها. قلب في الصفحات، واحدة واحدة، حتى وجد النعوة. حرك إبهامه فوق كل حرف من عبارة "رحل باكرا جدا" وحتى آخر كلمة من نعوات الصفحة. وبعد أن انتهى، كور يديه بشكل قبضتين وبدأ يصيح. ثم تحولت الأصوات التي صنعاها، نواحها وعواؤه، إلى موجة واحدة هزت أغطية النوافذ.

***

........................

أيوبامي أديبايو Ayobami Adebayo كاتبة نيجيرية. أصدرت كتابها الأول عام 2017 بعنوان "ابق معي". صدر لها أيضا "سحر الأشياء الصغيرة" عام 2023.

 

بقلم: جوادالوبي نيتيل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

حدث ذلك قبل بضع سنوات، في تلك الفترة التي استأجرنا فيها شقتنا. لجأنا إلى وكالة عقارية أوصى بها صديقي وكانت تتقاضى عمولات معقولة جدًا. بعد زيارة عدة مبانٍ في جميع أحياء برشلونة، اخترنا اثنين: أحدهما في شارع ميستال بالقرب من ساحة إسبانيا، والآخر في شارع كارولينيس في حي جراسيا. كان شقة ميستال مكانًا مشمسًا، مع شرفة صغيرة تخيلتها ألينا فورًا كحديقة داخلية. لم تكن العمارة جميلة بشكل خاص. كانت من تلك المباني المربعة التي تفتقر إلى السحر والتي تنتشر في تلك المنطقة، ولكنها بدت لألينا واسعة. أما شقة جراسيا، فكانت تقع في الطابق الأوسط، على الرصيف الأيسر من شارع كارولينيس، قادمة من مترو فونتانا. كان المبنى قديمًا ومشغولًا بشكل جيد. كان المصعد الخشبي الذي يتناغم مع الباب المودرن والركائز والأقواس داخل الشقة يعطيه طابعًا مميزًا. باختصار، كانت شقة أنيقة جدًا، مكانًا يمكن تنظيم عشاءات ممتعة فيه، منزلًا يفخر به المرء. للأسف، في تلك الشقة كان الضوء يدخل بالكاد ومن الجهة المقابلة. كان الفناء الداخلي، الذي يطل عليه ثلاث غرف، من المفترض أن يضيء الشقق العليا لكنه لم يكن يصل إلى تلك الطابق. وكان هذا السبب الذي جعلنا لا نختارها فورًا. في أوقات فراغها، كانت ألينا تعمل كرسامة لقصص الأطفال وفضلت مكانًا مشرقًا. خلال عطلة نهاية الأسبوع، فكرت في الأمر وقررت أن أختار شقة جراسيا. ما أهمية عدم وجود الشمس إذا كنا دائمًا ما ندعو الناس في المساء؟ علاوة على ذلك، لم تكن ألينا ترسم كثيرًا حتى تكون هذه الأنشطة الثانوية سببًا مقنعًا. وعندما تقوم بذلك، يمكنها استخدام مصباح مصمم يحاكي ضوء النهار بشكل مثالي. وعدتها بأنني سأتكفل بتركيبه بنفسي.

صباح يوم الاثنين، اتصلنا بالوكالة لإبلاغهم بأننا اخترنا شقة كارولينيس، لكن الموظفة أخبرتنا بأنها لم تعد متاحة.

- لقد تم حجزها من قبل عائلة شابة لديها طفلان.

احتججت بإصرار، مضيفًا:

- لكننا أكملنا جميع مستنداتنا مسبقًا، لماذا لا تؤجرونها لنا مباشرة؟

ردت الموظفة بلهجة قاطعة:

- لا يمكننا ذلك. العائلة دفعت عربون الحجز، وهذه سياسة الوكالة التي لا يمكن تجاوزها.

ثم أضافت قبل أن تنهي المكالمة:

- إذا طرأ أي تغيير أو تأخروا في تقديم الأوراق المطلوبة، سأبلغكم على الفور.

في تلك الليلة، ذهبت ألينَا إلى الوكالة لدفع عربون حجز شقة شارع ميسترال. أما أنا، فبقيت غارقًا في خيالاتي حول الحياة في حي جراسيا: التجوال في شوارعه، السينما "فيردي"، الجلوس في المقاهي ذات التراسات، والمسرح "تياترينيو". كنت واثقًا أن القرب من المسرح سيعيدني إلى خشبة التمثيل، وبحلول العام القادم، كنت سأعمل في إحدى المسرحيات بلا شك. ومع مرور الوقت، أصبحت شقة جراسيا في مخيلتي أمرًا لا يمكن الاستغناء عنه.

لكن يوم الخميس، تلقيت مكالمة من الوكالة أكدت لي أن الشقة قد أُجرت بالفعل. وهكذا، لم يكن أمامنا خيار سوى الانتقال إلى شقة ساحة إسبانيا.

في شهر يوليو، انشغلنا أنا وألينَا بتجديد شقتنا. قمنا بطلاء الجدران والسقف، وإصلاح الخزائن، وتصميم الحديقة الداخلية التي تخيلتها. وعندما انتهينا، قررنا قضاء بضعة أيام في قرية والديّ. عند عودتنا من الريف، كان رائحة الطلاء قد تلاشت تمامًا.

لكن، ومنذ الليلة الأولى، شعرت أن الشقة غير صالحة للسكن. لم تكن لدي أية أسباب منطقية لهذا الشعور، لذلك قررت عدم إخبار ألينَا. أما هي، فقد كانت غارقة في سعادتها بما حققته من تحسينات، وبالألوان التي اخترناها لغرفة المعيشة.

في الخريف، وضعتُ خطة جديدة لاستعادة مسيرتي في التمثيل. تضمنت الخطة الاقتراب من الشباب الذين ربما ما زالوا يحملون بعض الاحترام لممثلي جيلي. لذلك نظمتُ عدة عشاءات للتعرف على بعض المخرجين الجدد. كنتُ قد قضيتُ أكثر من عامين أعمل في دائرة تابعة لحكومة كاتالونيا، وثلاث سنوات دون أن أصعد على خشبة المسرح. وفقًا لما كانت تقوله ألينا، كان عليّ أن أشكر السماء على هذا العمل الممل وأترك المسرح كهواية أمارسها في أوقات الفراغ، كما كانت تفعل هي مع الرسم.

كان الضيوف في تلك العشاءات يهنئوننا على شقتنا، لكنهم لم يعرضوا عليّ أي فرصة عمل في أي مسرحية، حتى ولو كعامل مساعد في قسم الديكور. ومع اقتراب الشتاء، بقي الوضع على حاله تقريبًا. ومع مرور الوقت، بدأتُ أشعر بإحساس غامض، هادئ جدًا لا يرقى أن يُسمى قلقًا، لكنه كان مزعجًا بما يكفي ليظل حاضرًا في داخلي. كان لدي شعور قوي بأن شيئًا ما يجري بالقرب مني، شيء لا أستطيع رؤيته لكنه يخصني تمامًا.

بدأتُ المشي في فترة ما بعد الظهيرة لتخفيف توتري. بعد العمل، كنتُ أتجول في المدينة بلا هدف محدد. غالبًا ما كانت جولات المشي تلك تتحول إلى دوران حول أحد المسارح. مسرح "روميا" إذا كنتُ في حي رافال، أو مسرح "ليوري" إذا كنتُ بالقرب من المنزل. كثيرًا ما كنتُ أكتفي بالبقاء في الشوارع المحيطة دون الاقتراب حتى من أبواب المسرح لرؤية جدول العروض. كنتُ أكتفي بمراقبة خروج الجمهور الذي، بعد انتهاء العرض، يتوجه بحماس نحو الحانات والمطاعم في الحي.

كان يكفيني أن أستنشق هواء تلك الكثافة العاطفية التي تملأ قلوب الجمهور بعد عرض جيد، تلك الكثافة التي شعرتُ بها مرات كثيرة في الماضي. لقد كانت هي نفسها التي جعلتني في مراهقتي أعتقد أنني وُلدتُ لأكون ممثلًا.

كان أحد تلك التجوالات ما أعادني مجددًا إلى شارع كارولينس. منذ أن انتهينا من ترميم شقتنا في شارع ميسترال، خفتت الأفكار عن تلك الشقة الأخرى، وتحولت شقة جراسيا إلى أمنية منسية ضمن قائمة طويلة من الأشياء التي تمنيت تحقيقها ولم تحدث قط، وظننت أنني قد تجاوزتها. ولكن، حين اقتربت من محطة المترو –رغم البرد القارس الذي كان يلف اليوم-لم أستطع مقاومة الرغبة في المرور بالمبنى. في النهاية، لم يكن يبعد سوى شارعين بعد محطة فونتانا، ولن يستغرق الأمر طويلًا.

كان الشارع غارقًا في الظلام، ومن الزاوية ظهرت لي النوافذ المضيئة للطابق الأرضي المرتفع. ومع اقترابي أكثر، تسللت إلى مسامعي أصداء موسيقى خافتة. رأيت مصباحًا أرضيًا منصوبًا في المكان الذي كنت أنوي وضعه فيه لو كنت هناك، ولاحظت وجود أصص للنباتات أيضًا. توقفت لبضع دقائق، متأملا تلك الظلال التي تلوح خلف النوافذ، متخيلا أنها ظلالي وظلال عائلتي. لم تكن ظلالي وظلال ألينا، بل عائلة أخرى، زوجة وأبناء لم أعرفهم يومًا، ولكنهم ألهبوا قلبي بحنين موجع وحزن عميق، كذاك الذي يسيطر علينا حين نتذكر أحبة غابوا عن حياتنا ولم نعد نراهم.

عندما عدت إلى المنزل، أعدت ألينا العشاء وكانت تنتظرني لأقرأ في غرفة الطعام. ذهبت لأغسل يدي، وعندما نظرت في المرآة، شعرت وكأن شخصًا مختلفًا قد استولى على وجهي. لقد فكرت في البيت الآخر طوال الليل. كنت أعتقد أن هذه الشقة هي الأكثر ملاءمة لأذواقي وطريقة وجودي، تمامًا كما كانت شقة ميسترال أكثر ملاءمة لألينا. قلت لنفسي، لأعزي نفسي، إن الشقة تشبه إلى حد ما الطفل الذي تختلط فيه جينات عائلتين. في حالتنا، كان ذوق زوجتي هو الذي انتصر، ربما سيأتي دوري في المرة القادمة.

في يوم الجمعة التالي، عند خروجي من المكتب، توجهت مجددًا إلى المبنى. في تلك الأيام، كان الظلام يحل مبكرًا، لذا كانت الليلة قد خيمت عندما نزلت في محطة مترو فونتانا. لكن هذه المرة، لم يكن هناك ضوء في الشقة. كانت معظم نوافذ البناية مغلقة. "هذا أمر طبيعي"، فكرت، "في مثل هذا الوقت، لا يكون أحد في بيته." قررت الجلوس في المقهى الموجود على الرصيف المقابل. اخترت طاولة قريبة من الشارع وطلبت قهوة منزوعة الكافيين مع الحليب.

كان المكان يحمل الطابع البوهيمي والفرنسي الذي يميز أجواء مقاهي جراسيا، بأضوائه الخافتة وبعض الملصقات المعلقة على الجدران. في أحد هذه الملصقات، لاحظت برنامج عروض مسرح تياتريناو. كانت تُعرض مجددًا مسرحية أوبو ملكا، من تأليف ألفريد جاري الذتي تم نقلها إلى السياق السياسي لكاتالونيا. كانت العروض ممتدة حتى نهاية الشتاء. رغم أن الكثيرين قد تحدثوا عن المسرحية بإعجاب، فضلت عدم حضورها. كان شافي ميستري، الممثل الرئيسي، شابًا أسمرً ذا بنية عضلية، وكان زميلي في مدرسة الفنون. بعد التخرج، سافر شافي إلى إيطاليا ثم إلى الدنمارك ليتدرب مع يوجينيو باربا. وعند عودته، استقبل المسرح الكتالوني شافي كأنه مخلص، ومنحوه أدوارًا لم يحظَ بها أحد من جيلنا حتى ذلك الحين.

بينما كنت أرتشف قهوتي ببطء، كنت أتأرجح بنظري بين ملصق المسرح وباب المبنى، وهما مكانان لا أستطيع دخولهما إلا بصفتي مجرد متفرج.

كنت في هذا الوضع عندما رأيت امرأة تتوقف أمام البناية الرئيسية. بدا أنها في أوائل الثلاثينيات من عمرها. كانت نحيلة وشقراء، وشعرها مرفوع بطريقة تجمع بين الأناقة والعفوية المتقنة. كانت تدفع عربة طفل وإلى جانبها طفل صغير ينتظران حتى تفتح الباب. الوجه الذي رأيته لبضع ثوانٍ بدا لي جميلاً.

بعد دقائق قليلة، أضاءت الأنوار في الطابق الأول. ظهرت ظلال الطفل في النافذة، وفي عمق المكان، كانت المرأة تحمل الطفل بين ذراعيها. كانت الأجواء الدافئة للشقة تنساب وكأنها تصل حتى المقهى الذي كنت أجلس فيه عند الزاوية. واصلت مراقبتي لبضع دقائق، ثم دفعت ثمن قهوتي وعدت إلى منزلي. هذه المرة، كانت ألينا قد تناولت العشاء بالفعل، واستقبلتني في السرير أمام التلفاز.

في اليوم التالي، استيقظنا معًا كما هي العادة. تناولنا الإفطار بهدوء، وكما هو معتاد، خرج كل منا من المنزل في اتجاه مختلف. ولكن بدلاً من أن أأخذ المترو إلى عملي، وعندما وصلت إلى ساحة إسبانيا، صعدت إلى الخط الأخضر، الذي سرت فيه كأنني ميت حي حتى وصلت إلى فونتانا. كان عليّ أن أنتظر ساعة في المقهى قبل أن أرى المستأجرة تخرج من الشقة. من ملابس الطفل، بدا لي أنها ستأخذه إلى المدرسة. تركت بعض العملات على الطاولة وقررت متابعتها.

في ذلك الأسبوع، قمت بتقديم إجازة من المكتب بادعاء الإصابة بالإنفلونزا، وعلى مدار خمسة أيام متتالية، خصصت وقتي لملاحقة المرأة في شوارع جراسيا. كانت ثلاثة أيام كافية لمعرفة عاداتها وأوقاتها: بعد أن تترك الطفل، تعود إلى المنزل لتطعم الطفل في الأريكة حتى الساعة العاشرة. ثم تخرج بمقعد الطفل إلى ساحة فيرينا حيث تجلس لتقرأ في أحد المقاهي حتى وقت الغداء. بعد ذلك، تستلم ابنها من المدرسة وتعود إلى المنزل. كانت نادرًا ما تخرج في المساء.

بقية وقتي - أي الساعات التي لم أكن أخصصها لمهمة التجسس - كانت تبدو لي غير ذات أهمية. كانت حياتي مشابهة للإعلانات التلفزيونية التي تقاطع فيلمًا مشوقًا. لم أستطع فعل شيء حيال ذلك سوى تحمله بصبر. بدأت ألينا في إلقاء تعليقات ساخرة، كانت تقول إنني في الآونة الأخيرة كنت في مكان آخر. لكنني كنت دائمًا أتحدث إليها عن صراعاتي المهنية.

في صباح يوم الخميس، عندما غادرت المنزل لركوب المترو، كدت أتعرض للدهس بواسطة شاحنة قمامة، والسيارات لا تسير بسرعة أبدًا. قلت لنفسي أن زوجتي كانت على حق: يجب عليّ أن أتوقف عن هذه التفاهات وأركز على عملي، لكن هذا لم يقنعني تمامًا، تمامًا كما لم يكن يعجبني العيش في شارع مليء بالبيروقراطيين والمهاجرين، مغطى بفضلات الكلاب، أو وجود رسومات جدارية على جدران المترو. لم يعجبني أيضًا اللكنة البارشلونية التي كان يتحدث بها موظفو عملي، ولا طعم القهوة القوية في المقهى القريب. حيّنا لم يكن سيئًا، والمبنى لم يكن سيئًا، والشقة أيضًا لم تكن سيئة، لكن مهما نظرت حولي، لم أتمكن من إيجاد شيء كان على ما يرام. كانت الحياة تبدو لي غير عادلة في جميع جوانبها. وبصفتي ممثلًا، كان بإمكاني التظاهر بنفس الرضا الذي كان يظهره جيراني، لكنني كنت لا أزال أتساءل في أي عام أو في أي كيلومتر قد خرجت من الطريق السريع الذي كان يقودني إلى المصير الذي كنت أعتقد أنه يخصني، أو على العكس، أي زاوية كان يجب أن ألتف فيها حتى لا أخرج إلى هذا الشارع المليء بالسيارات، هذه الجادة السريعة المؤدية إلى الحدائق المحبطة في فترة الحجر الصحي.

أوحى لي حدسي أن شيئًا جيدًا ينتظرني في الشقة التي لم نستأجرها. شيء غير تقليدي ومنعش، مثل بداية جديدة بعد سنوات طويلة من التعاسة.

مع مرور الأيام، توقفت عن الرضا بدور الشاهد وبدأت السرية تصبح غير محتملة. أردت أن أتحدث مع المرأة، أن أكسب ثقتها وأجعلها تدعوني إلى منزلها. لم أعد أستطيع الانتظار، وفي صباح يوم الجمعة، قررت أن أقف في طريقها في مقهى فيريينا.

كان صباحًا مشمسًا في الشتاء، حيث لا يكون الجو باردًا جدًا، وكان من اللطيف الجلوس في التراس. خلعَت معطفها وطلبت قهوة. جلست على بعد طاولتين منها، وشعرت كيف بدأ نبض قلبي يتسارع. ومع ذلك، طرحت السؤال بشكل مباشر، وبطبيعية:

- كنتِ في مدرسة التمثيل، أليس كذلك؟

رفعت المستأجرة نظرها. حدقت عيناها الزرقاوان فيّ لبضع ثوان، ثم أجابت المرأة بلكنة أجنبية لم أتمكن من التعرف عليها:

-أنا لا.. لكن زوجي هو الذي درس في تلك المدرسة.

تحدثنا لبضع دقائق. أخبرتني أنها دانماركية وأنها درست الديكور المسرحي في كوبنهاجن حتى قررت الانتقال إلى برشلونة للزواج من رجل كان ممثلًا. قبل أن تذكر اسم زوجها، أدركت أنها تتحدث عن زوجة إكسافي.قلت بإعجاب مصطنع:

-لا تخبريني أنكِ متزوجة من إكسافي، تلميذ يوجينيو باربا.

أظهرت اهتمامًا حقيقيًا بمسيرة زميلي السابق؛ وبدأت أتذكر بصوت عالٍ ثلاث مواقف مدرسية جمعتني به، مُبالغًا في أهمية علاقتنا. بدت مسرورة واستمرت في الاستماع إليّ باهتمام بقدر ما سمحت لها مسؤولياتها الأمومية، قبل أن تسرع للذهاب إلى مدرسة ابنها. قالت وهي تنهض:

-من النادر أن نجد أشخاصًا من تلك الفترة. زملاء إكسافي لا يحضرون عروضه تقريبًا. يجب أن نلتقي في وقت لاحق

ثم تركت لي بطاقة تحتوي على اسمها، وعنوانها في شارع كارولينس، ورقم هاتفها. كانت تُدعى جوزفينّا وتستخدم لقب زوجها.

عدت إلى العمل في ذلك المساء وأدخلت البطاقة في الدرج. لم يكن لدي أدنى نية للاتصال بها أو للعودة إلى طرقها. ومع ذلك، لم تنتهِ الأمور هنا. بعد ثلاثة أسابيع، اتصلت بي أليينا لتخبرني أن إكسافي ميستري قد اتصل في ذلك المساء.

- يريدنا أن نذهب لتناول العشاء في منزله!

قالت ذلك بدهشة، وكأنني تم ترشيحي لجائزة أوسكار بدلاً من ذلك.

سألْتُها بقلق:

- وماذا قلتِ له؟

- قلت له إن يوم الجمعة سيكون مناسبًا لنا. هل تعرف في أي شارع يسكنون؟

أجبت:

-نعم، أعرف، هم من فازوا بالشقة التي كنا نريدها.

قلت ذلك لأرى إن كان بإمكاني جعل أليينا تكرههم قليلاً. كنت قد نسيت أنها كانت تفضل شقتنا دائمًا.

على الرغم من أننا لم نكن أصدقاء أبدًا، تصرف إكسافي وكأن عودتي لرؤيته كانت تسره حقًا. كان العشاء لذيذًا وكان الشقة أجمل بكثير مما كانت عليه قبل بضعة أشهر، عندما عرضتها لنا الوكالة. من جانبي، وجدته قد تغير كثيرًا، أصبح أكبر سنًا وأقل كلامًا، أقرب إلى الملك أوبو فى مرحية ألفريد جاري منه إلى الشاب الذي تعرفت عليه قبل خمسة عشر عامًا. تساءلت إن كان مريضًا أو أن مظهره كان نتيجة موسم طويل كهذا. ومع ذلك، بدلاً من أن يجعله ذلك بائسًا، كانت هذه الشيخوخة المبكرة تبرز جوهريته المتفوقة. خلال العشاء، أكد لي أن زملاءه في مدرسة المسرح لم يريدوا أن يعرفوا عنه شيئًا منذ أن عاد إلى إسبانيا. ولكن رغم الحرب الشرسة التي شنها عليه الاتحاد، لم يشكك المخرجون أبدًا في موهبته.

قلت لإرضائه:

- من الطبيعي أن هؤلاء الممثلين الصغار يكرهونك، لا بد أنهم يغارون منك...

وعلى الفور، كسبت إعجابه.

خلال العشاء، نهضت مرتين للذهاب إلى الحمام. هكذا اكتشفت الغرف الأخرى، التي كانت مدهشة مثل غرفة المعيشة. في الردهة كانت هناك صور مؤطرة لإكسافي على خشبة المسرح، وكذلك لوحة تذكارية. كانت جميع الأثاث والأشياء في ذلك المكان تبدو مألوفة لي، ولذلك شعرت بشعور بالانتماء كان من الصعب تحمله. كان ذلك المنزل تقريبًا ملكي، لكن، لسبب غير مفهوم، لم أستطع العيش هناك.

قرب نهاية الليل، سألني ميستر عن سبب تركي للتمثيل. كنت على وشك أن أخبره بما أقوله دائمًا، أي أنني أفضل أن أعيش حياة مستقرة وآمنة مع منزل جميل حيث سيعيش الأبناء الذين سأرزق بهم من ألينا، لكنني لم أجرؤ. رفعت كتفي وأجبت بأنني لم أستطع تحمل الوسط الفني، ولهذا فضلت الابتعاد. وقد تفهم ذلك تمامًا.

كانت أمسية غريبة. تحدثنا كثيرًا عن المدرسة، وعن أحلامنا السابقة، والطريق الذي اختاره كل منا. وصف لي إكسافي المسرحية وعلاقاته مع المسرح الكتالوني، التي لم تكن على النحو الذي تخيلته. فاجأني أنه انفتح عليّ بهذه الطريقة. شعرت في صوته بشيء من المرارة التي لم أتمكن حينها من فهمها.

تحدثنا وشربنا حتى الصباح. وعدنا أن نبقى على تواصل وأن ندعوهم للعشاء في المرة القادمة. لا أتذكر بالضبط كيف عدنا إلى المنزل. عندما استيقظت، كانت رأسي المؤلمة كأنها مستنقع عفن. كانت ألينا تحدق بي. بعد ساعات قليلة، اعترضت على اهتمامي بزوجة ميستر. طلبت مني ألا أراها مرة أخرى. مع ذلك، اتصلت في نفس اليوم لأشكرهم على العشاء. شرحت لي جوزيفينا، التي أجابت على الهاتف، أن إكسافي كان مريضًا ورفضت أن تتيح لي التواصل معه. زادت شكوكي بشأن صحته.

قالت:

-بشكل عام هو يتحمل ذلك جيدًا،لكن اليوم لم يستطع حتى النهوض من السرير.

أقلقني صوتها. طوال تلك الأيام، لم أستطع إخراج جوزيفينا من رأسي. لم أتمكن من تحديد ما إذا كان ما جذبني إليها، شخصيتها وفمها، أم أن إعجابي كان بسبب كونها زوجة إكسافي ميستر. رجل كنت أحسده على كل شيء، بما في ذلك علاقته المضطربة مع المسرح الكتالوني.

كان هذا أبرد شهر ديسمبر على ما أتذكره. تغلغلت الرطوبة في عظامنا وكانت ألينا لا تزال غاضبة. عدت إلى شقة كارولين عدة مرات، ولكن بدونها. أتذكر أن تلك الزيارات إلى تشافي ميستري كانت الشيء الوحيد المثير للاهتمام الذي قمت به في ذلك الشتاء. شربنا البراندي ولعبنا الشطرنج في الاستوديو الخاص به، حيث لم تدخل أشعة الشمس تقريبًا أبدًا. وبينما كنا نلعب، كان يشتت انتباهه بالحديث عن ماضينا المشترك في مدرسة المسرح. لم أتمكن من تصديق أنه، بعد هذا النجاح الكبير، كان يشعر بالحنين لتلك الفترة البائسة.

في إحدى الأمسيات، وبين كأس وآخر، أخبرني أنه لن يكمل موسم "أوبو". عندما سألته عن السبب، أراني بعض الأوراق التي تحمل شعار عيادة CIMA.

- يقول الطبيب أنه سيكون من الأفضل إيقاف الموسم، لكن بدلاً من ذلك طلب ريجولا من شخص أحمق أن يحل محلي. هل يمكنك أن تصدق ذلك؟

بدأ الطفل يصرخ في الغرفة المجاورة. عندما سألته عما ينوي فعله حيال ذلك، أجاب:

- سأفكر في شيء ما. ومهما كان رأي الآخرين، أنا مستمر في عملي.

نزلت الدرج متفاجئًا من جوابه. على الرغم من مرضه، كان الرجل مليئًا بالثقة بالنفس. عندما غادرت المبنى التقيت بجوزيفينا. لقد كانت تنتظرني في نفس المقهى الذي كنت أتجسس فيه على شقتها عدة مرات. كانت عيناها متورمتين.

جلست معها على طاولة في الخلف. كانت تتحدث بصوت منخفض، وكأنها تخشى أن يسمع الزبائن الآخرون ما ستقوله. شرحت لي مدى خطورة آخر النتائج. وفقًا لها، كان مرض شافي نتيجة لعدة سنوات من العمل المستمر دون راحة، لكنه كان أحمق بالإضافة إلى كونه أنانيًا. كما عبرت عن مرارتها تجاه المدير الذي طرده إلى الشارع مثل الكلب. حاولت تهدئتها:

- إن الطلب من ريجولا تعليق الموسم لأن شافي مريض بمثابة انتحار وسيضر بالممثلين الآخرين أيضًا.

أمسكت بيدها. ولكن لا كلماتي ولا إيماءاتي الداعمة كانت قادرة على جعلها تشعر بالهدوء.

منذ تلك اللحظة، زدت من معدل زياراتي. كنت أذهب ثلاث أو أربع مرات خلال الأسبوع، باستثناء يومي السبت والأحد. لم أكن حتى أتعب نفسي بالمرور عبر المنزل. بعد الخروج من العمل، كنت أركب الحافلة في شارع مايور دي جراسيا وأتوقف قبل بضعة شوارع لأذهب إلى السوبر ماركت. إذا كان هناك شيء يمكنني قوله لصالح نفسي هو أنني كنت دائمًا أصل ومعي شيء للأكل. كل مساء، كنت أعرض وضع الطاولة، أو تغيير حفاضات الطفل أو اللعب مع الطفل الآخر. لم أجد صعوبة في التعود على المنزل، لأنه كما قلت سابقًا، كان دائمًا يبدو لي مألوفًا. عند الدخول، كنت أضع معطفي على المشجب وأترك حقيبتي في الردهة، ثم أذهب مباشرة إلى المطبخ لأضع الأشياء التي اشتريتها. تدريجيًا، بدأت أتحول إلى عضو آخر في الأسرة. كنت أعرف تمامًا مكان كل طبق في المطبخ، كنت أعرف كيف أضع الطاولة وحتى أغير الفراش إذا لزم الأمر. في الحمام، حيث كنت أحب الجلوس لفترات طويلة، كنت دائمًا أجد مجلتَي المفضلتين.

كما كان قد أعلن، استمر شافي في العمل. بمجرد أن ترك العمل الفني، بدأ في كتابة رواية. وفقًا لجوزيفينا، كان يصحح مخطوطًا قد احتفظ به لأكثر من عشر سنوات، وهو محاكاة ساخرة للبيئة الفنية الإسبانية، وبشكل خاص تلك الموجودة في كاتالونيا. كان مشاهدته أثناء العمل محطمة للكرامة. أنا متأكد من أن انضباطه وتركيزه كانا يجعلان أي شخص يشعر بالسوء، وليس مجرد طفيلي مثلي. عند موعد العشاء، كانت جوزيفينا تطرق باب الاستوديو عدة مرات لتعرف إذا كان يريد الانضمام إلينا أو إذا كان يفضل أن نأخذ له العشاء إلى مكتبه. عندما كان يوافق على تناول الطعام معنا، كان دائمًا هو من يضع جوًا من البهجة على الطاولة. كان يختار أسطوانة موسيقية، ويشعل شمعة. كان الأطفال قد ناموا في تلك الساعات، وكنا نجلس وحدنا لنستمتع بحساء دافئ. على عكس ما كنت عليه، كان هو يأكل أقل فأقل. في بعض الأحيان، كان متعبًا جدًا لدرجة أنه كان يجد صعوبة في حمل أدوات الطعام. ومع ذلك، تمكن من إنهاء الرواية.

بعد وقت قصير، دخل شافي إلى مستشفى سان باو. كانت جوزيفينا ترافقه معظم الوقت، وبالطبع، تضاعفت المهام المنزلية. حاولت مساعدتها بكل ما أستطيع، كنت أتلقى المكالمات الهاتفية وأستغل الفرصة لحذف الرسائل التهديدية من جهاز الرد الآلي التي كانت تتركها ألينَا، والتي كانت قد بدأت منذ ذلك الحين في سبّي. لكن لم يكن لدي وقت لهجمات الغيرة تلك، كان عليّ أن أعتني بالطفلين، وأعد لهما العشاء، وأضعهما في السرير ليناما. هكذا بدأت أمضي الليالي هناك. أولًا على الأريكة، ثم مع الطفلين اللذين كانا دائمًا يشعران بالخوف، وعندما كانت جوزيفينا تبقى في المستشفى، كنت أيضًا أنام في سريرهما.

توفي شافي قبل أن ينتهي الشتاء. قمنا بتوديعه في بيدرالبيس. كانت جنازة حزينة، مع عدد أكبر من الصحفيين مقارنة بالأصدقاء. كنت هناك طوال الصباح. لم تظهر زوجتي، وفضلت ألا أضغط عليها لكي تأتي. في الظهيرة، التقيت بجوزيفينا في مقهى الجنازة. جلسنا في إحدى الطاولات. كان الجو هناك مريحًا. كان البرد أقل، والبخار على النوافذ حال دون رؤية القبور في الحديقة. أتذكر أنها كانت ترتدي شالًا رماديًا من الكشمير. عندما بحثت عن يدها، أدركت أنني لم أعد أرغب فيها. أنا متأكد من أن الأمر لم يكن يتعلق بألمها أو الظروف الدرامية. سألتها عن الطفلين، وأخبرتني أن شقيقتها أخذتهما إلى الدنمارك في نفس الصباح. شكرتني على كوني قريبًا منها في الأيام الأخيرة:

- لقد أظهرت لشافي أن ليس جميع الممثلين حقيرين كما كان يعتقد.

اكتفيت بالابتسام بتواضع. عندما ودعنا بعضنا، أخبرتني جوزيفينا بأنها تفكر في العودة إلى كوبنهاجن وسألتني إذا كنت مهتمًا باستئجار شقتها مجددًا. طلبت منها أن تعطيني بضعة أيام للتفكير.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: جوادالوبي نيتيل /Guadalupe Nettel: كاتبة مكسيكية/ ولدت جوادالوبي نيتل في مدينة مكسيكو عام 1973، وقضت جزءًا من طفولتها في جنوب فرنسا. درست اللغة والأدب الإسباني في جامعة أوتونوما في مكسيكو، ثم نالت درجة الدكتوراه في علوم اللغة من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس.كتبت نيتل العديد من القصص القصيرة والروايات والدراسات، وقد تُرجمت أعمالها إلى ثماني عشرة لغة. حصلت على عدة جوائز دولية، منها جائزة جيلبرتو أوين للرواية، وجائزة أنتوان آرتو، وجائزة آنا سيجرز.

أصدرت أربع مجموعات قصصية هي: ألعاب الخيال (1993)، الأيام الأحفورية (2003)، بتلات وقصص مزعجة أخرى (2008)، وزواج الأسماك الحمراء (2013)، التي فازت بجائزة رواية قصيرة ريبيرا ديل دويرو. والضائعون عام 2023. وفي مجال الرواية، نشرت الضيف عام 2006، التي كانت مرشحة لجائزة هيرالد، ثم نشرت الجسد الذي وُلِدتُ فيه عام 2011، وفي 2014 نشرت بعد الشتاء التي فازت في النهاية بجائزة هيرالد للرواية. كما كتبت مقالات مثل لفهم خوليو كورتاثار (2008) وأوكتافيو بايث، الكلمات في حرية (2014)وتشارك نيتيل بانتظام في العديد من المجلات الأدبية في إسبانيا وفرنسا وكندا وأمريكا اللاتينية.

https://letraslibres.com/revista-espana/la-vida-en-otro-lugar

بقلم: لندا باستن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

لماذا قصائدك معتمة جدا؟

أ ليس القمر معتما ايضا،

في اغلب الأوقات؟

و أ لا تبدو الصفحة البيضاء

ناقصة

من دون البقع المعتمة

لحروف الأبجدية؟

حين استدعى الرب الضوء

لم يطرد الظلام.

بدلا من ذلك اخترع

الأبنوس والغربان،

وذلك الخال الصغير

على وجنتك اليسرى.

أو هل قصدت ان تسأل:

"لماذا انت حزينة غالبا؟"

اسأل القمر.

اسأل ما قد شهد.

***

....................

لندا باستن (1932 – 2023) شاعرة أميركية من مواليد نيويورك. شغلت منصب شاعرة ولاية ميريلاند للسنوات 1991-1995. نشرت 15 مجموعة شعرية ومجموعة أغاني راب ومقالات وحازت على العديد من الجوائز. من بين عناوين مجموعاتها: (دائرة تامة للشمس) 1971؛ (في الطريق الى حديقة الحيوان: قصائد) 1975؛ (مراحل الحزن الخمس) 1978؛ (بانتظار حياتي) 1981؛ (أبطال متنكرون) 1991؛ (ملكة بلد مطير 2006 )؛ و(الضوء المسافر) 2011, وآخرها بعنوان (تقريبا مرثية) 2022 .

بقلم: نيوين دوش تونغ

ترجمة صالح الرزوق

***

كان لدى الطابعة ثلاث آلات للطباعة. لا بد أن التي أمامها مباشرة مطلية بطبقة لها لون القشدة الطرية والتي تحولت حاليا إلى لون زيتي، الاثنتان اللتان على يسارها ويمينها، بلون أخضر بارد، لا تزالان جديدتين. طاولتها تقابل الجدار، ونافذة من جهة اليمين تفتح على ممشى إسمنتي بجوار مرفأ العبارات. كنت أقف تحت المظلة في الخارج، بعيدا عن المطر، ونظراتي نحو الداخل. كنت أرى نصف وجهها، منقطا بنمش وردي، وهي تميل قليلا إلى الأمام وأصابعها ترقص على الحروف المعدنية كالمطر. أما مكان عملها فقد كان ملحقا بمتجر "باي لوريل هيربال"، وهي مساحة تكفي لإيواء طاولة فقط، مع كرسي، وخزانة معدنية محشوة بالأضابير. اعتدت أن أحدق بشغف بورق الكربون الأسود، والذي يبدو أنه يفوح بعبير السوس، والقرفة، والعنب المجفف القادم من طاولة المتجر.

الطابعة في حوالي الأربعين، ونحيفة، وشعرها ملفوف بشكل كعكة ومثبت بإبرة قنفذ عنبرية اللون، وتتكلم بلهجة سكان هانوي. ووجهها لطيف ولكنه عملي. وترتدي "أو داي" إما بلون زهر الربيع الأخضر أو الخوخ الناضج، وأصابعها محرومة من الخواتم، وطويلة، وناعمة، والعروق الزرق على ظهر يديها مثل خيوط من الزبرجد. ما أن اعتادت لوجودي أمام نافذتها، حتى دعتني وطلبت مني أن أساعدها ببعض الواجبات البسيطة، وبعد ذلك قدمت لي أوراق كربون قديمة على سبيل الأجر لقاء عملي - وهي أوراق مستعملة ومتهالكة وأصبحت فضية اللون، ومع ذلك احتفظت بها. كنت أستعمل ورق الكربون لطباعة صور جميلة أنقلها من بعض الكتب، وهو ما أثار إعجاب زملائي في المدرسة غاية الإعجاب.

حينها كانت الآلات الطابعة نادرة في حياتنا، وبما أن أي شيء رسمي يتطلب التنسيق والطباعة، كان الطلب على خدمات الطابعة شديدا -  وربما لهذا السبب احتاجت لثلاث آلات، إحداها لعقود الزواج، والثانية لاستمارات الباحثين عن عمل، والثالثة "لتصريح شهادات الولادة". ومع أنها مجرد طابعة، كان عملها يتطلب سرعة بديهة ومهارة فائقة. وغالبا ما تصحح أخطاء إملائية ونحوية يرتكبها العميل، وترشده لكل شيء من شؤون العمل وحتى الحب وخطط الزواج. وكان يأتيها أشخاص بدون عروض بخط اليد، فيملون عليها طلباتهم، وهي تكتب ما يريدون في استمارات صممتها بنفسها. وفي إحدى المرات وقف وراءها شخص مصاب بالربو، صوته متأثر بسنوات من تدخين السجائر، وقرأ عليها طلباته: استرحام لإعادة النظر بالتجنيد الإجباري بسبب ظروف عائلية.. اسم ابني.. مولود في.. مكان الولادة.. مكان الإقامة...  وأقدم هنا الاسترحام طالبا من الحكومة إعادة النظر بالقرعة المفروضة على ابني، لأنه ابني الوحيد، ولا يوجد غيره للاعتناء بشؤون العائلة، وأمه ليست بحالة جيدة، وابنتي لا يعتمد عليها. التفتت الطابعة. وقالت: لماذا تقول لا يعتمد على ابنتك؟. ابتسم الرجل وقال: حسنا. يمكنك تدبر عبارة بديلة بهذا الخصوص.

وكان لديها عدة أكوام من الصحف والمجلات القديمة لزبائنها كي يتصفحونها في حجرة الانتظار. كنت أجلس في كرسي صغير خلف الباب، وأقلب في المجلات الحكومية مثل "الحرية"، بصورها الملونة الجميلة، "عطر الوطن" التي تنشر القصص القصيرة من جنوب البلاد لكتاب منهم بنه نيوين لوش أو صون نام، وبعض الصحف الخاصة مثل "الاستقلال"، "السلام"، و"تسونامي"، وطيلة الوقت أستمع لحوار، مرتفع أو هامس، بين الطابعة وزبائنها. وأحيانا تنهض لتشعل موقد الكيروسين في زاوية الغرفة البعيدة، من أجل إعداد الشاي- تظهر شعلة زرقاء مرتجفة، ويغلي الماء، ثم تسكبه في إبريق من السيراميك مليء بأعواد شاي "كوان تين"، بعد ذلك تصب سائلا أخضر في كوب رقيق، وأحيانا تقدمه لي، وهي تتحرك بخطوات مضيئة بين أكوام من الأضابير.

وكان مكتبها، الكائن في شارع مغمور في طريق يقود إلى النهر، مزدحما بالأشياء، وبلا لافتة كأنه ملحق فقط بمتجر الأعشاب. ومع أنها لا تهتم بالإعلان عن نفسها، يجد الجميع طريقهم دائما إلى هناك. وأمام مكتبها البسيط تقف شجرة توت أبيض عجوز، بثمار توت حمر وأوراق خضر لطيفة - ولكن الشجرة اليوم ميتة. في تلك الأيام، خلال الخماسين أو المواسم الجافة، وحينما تتأخر العبارة ساعات لتعبر بي النهر إلى البيت، أتوقف في مكتبها. كانت تعمل صامتة، ولكن أحيانا تلتفت لتنظر نحوي بعينيها الدافئتين والباسمتين. وبين حين وآخر يظهر جنتلمان أكبر منها، له شعر مدهون بالزيوت، وجلد أشهب، وخدود بارزة العظام، وقميص منشى أبيض، ومظلة سوداء مبلولة بالمطر أو لماعة، ويتكلم معها من خارج النافذة. كان يدفع نقدا لقاء أعمال ورقية، وأحيانا يتبادل معها عدة كلمات قبل أن يتابع. وفي تلك الأوقات تقف وراء طاولتها وترد على تحياته وهي تستند على النافذة بذراعيها المعقودين أمام صدرها. وبعد رحيل ضيفها، بقيافته الذكورية، تميل برأسها، وتغلق عينيها، وتبتسم ابتسامة غامضة، وتواصل عملها.

وتستمر الحياة هكذا، من عام دراسي إلى آخر، كما لو أن كل شيء يجري بهدوء، وكأن الزمن لا يتوقف ولا شيء يتغير. رغم الثورة والحرب ثم كل هذا الموت والاحتضار الذي أعقبه - في تلك الأوقات لم نكن نفهز ولا نتوقع هذه الأمور. 

أحيانا أتخيل الطابعة مثل مي، بطلة "الاعتدال الربيعي"، وهي رواية قوية للكاتب كاي هونغ نشرت في فترة الاستعمار الفرنسي. توجب على مي، وهي امرأة متعلمة من عائلة فقيرة مات والدها في شبابه، أن تعمل لتعيل أخاها الأصغر الذي يدرس في ليسيه محمية بوميلو في هانوي. وكانت نقية وجميلة وذات مبادئ، ووقعت بحب لوش، الرجل الشاب الذي ينتمي لعائلة غنية، ولكن تآكل حبهما بسبب الحواجز الطبقية والاقتصادية. أحيانا أتخيل نفسي بمكان هوي، الأخ الأصغر لمي، الذي يحب أخته ولكنه يشعر بالضعف أمام قوة القدر. وكنت أجلس معظم الوقت، بترقب، لأشاهد كيف تصعد مفاتيح الطابعة وتهبط كأنها رقاقات تفرقع تحت أصابع الطابعة الرشيقة.

بدلت الحرب الاتجاه بلا إنذار. في يومين وليلتين انسحبت كتائب المشاة المتمركزة في قاعدتي إي تو ودونغ ها التابعة لمنطقة كوانغ تري، وعبرت النهر بكثير من الفوضى، وخلفت وراءها دبابات وعتادا - وسيكرر المشهد نفسه بالضبط بعد ثلاث سنوات في أجزاء أخرى من البلاد. هرب المدنيون والموظفون الخائفون، ولكن منعهم من متابعة طريقهم قصف مكثف على الطريق السريع. وتخلخلت صفوفهم نحو الأمام والخلف مثل النمل على صفيحة حارة وذلك تحت شمس نيسان. كان الهواء راكدا وحارا، والتهبت الأشجار المزهرة حديثا بألسنة النار، وذابت، لكنها لم تمت، وجفت جذوعها الجديدة غير أنها لم تسقط. في آخر يوم قبل أن أغادر بلدتي، تجولت في الطريق الفارغ. كان السطح الإسفلتي يذوب تحت سماء شاسعة. وتمدد الضوء المزعج على الأرض، ولم يكن يشبه لا ضوء الحرب ولا السلم. وتخلل الأفق لون أزرق رمادي بليد، كما لو أنه يسبق الخسوف. مشيت على طول الحدود الفاصلة بين العتمة والنور، ولكن حتى هذه الحدود كانت تتحرك بسرعة شديدة. لم أتمكن من اللحاق وتعثرت في خنادق وجثث توزعت على طول الطريق السريع 1، قرب تقاطع  لونغ ها Long Hưng.

عدت مشيا إلى مركز البلدة، ووصلت إلى أمكنتي المحببة، مررت بمكان بعد الآخر. مدرسة ثانة تام، مدرسة نيوين هوا، مكتبة لونغ يان، ومكتبة فو لونغ، ومكتبة تاو دا. ودعت مرابع طفولتي لآخر مرة. وتخيلت أنني الوحيد الذي يودع مرفأ عبارات سوق المنطقة، بدرجاته الكثيرة المغطاة بحراشف السمك الأبيض التي تفوح منها رائحة السمك، ومعبد تن ها بأجراسه الصامتة تحت مظلة من الأشجار الصينية،  ومتجر الأقمشة المكدس بالحرير وكانت أمي تزوره تكرارا، والبائعة المبتسمة التي تغطي فمها بيد واحدة، ومطعم والدي المفضل الذي يقدم دم البط، ومتجر النودل المفضل عند أختي، وصالة البليارد التي يحبها أصدقائي، حيث أقف لوقت طويل، وأنا أراقب الكرات الحمر والزرق وهي تتدحرج بحنان في زاوية من طاولة اللعب. حملتها وأصغيت لصوتها حينما تركتها من يدي.

في شمس نهايات ما بعد الظهر، تلمع المدينة وتذوب كأنها قصة خرافية. تسكعت أمام بيت زميل دراسة قديم وأمامه شجرة لوكوما وسريعا ما ستكون بيضاء يتخللها أزهار الربيع.  وكانت البوابة الزرقاء مغلقة الآن وسيغطيها شبكة العنكبوت عاجلا. تعانقت حمامتان بيضاوان على شرفة من القرميد قرب بركة صنعها المطر تطفو عليها ورقة لوتس نصف ممزقة.

ذهبت إلى مكتب الطابعة ولاحظت أن الباب لا يزال مغلقا، والقفل بمكانه، ولكن النافذة مفتوحة. تلفت حولي بعض الوقت، ودخلت من النافذة، وأشعلت الضوء - لا توجد كهرباء، ربما غادرت الطابعة مع عشرات ألوف النازحين بسبب الحرب، ومثلهم، توقعت أنها ستعود خلال أيام، حينما تتحسن الحال. ومن أوراق الكربون المبعثرة على الأرض، ميزت الرائحة الصينية العشبية: اللوز المر، والخوخ السكري، والقرفة. وكانت الطابعات الثلاثة موجودة وسليمة على طاولة الطابعة. اقتربت من الطابعة الوسطى ذات اللون الكريمي - وعليها رخصة زواج، مطبوعة، وكانت تبدو مرتبة ورسمية. وعلى يسارها الآلة الطابعة الزبرجدية، وفيها ورقة أخرى، نصف جاهزة. نظرت إلى أول عدة سطور:

تبرؤ من رابطة عائلية

أثارت هذه الكلمات الغريبة فضولي. سحبت الورقة وقرأت:

نحن - و - ابننا، - المولود في -، هو طالب في الصف التاسع في -. تقدمنا بهذه الوثيقة العامة، لتنشر في الصحف، ولنعلن أنه، من هذا اليوم فصاعدا، لن نعترف بعد الآن - أن ابننا - من العائلة. السبب: - أنه غير مطيع وغير مهذب، ويهمل واجباته، وقد غادر بيته ليتبع أوبرا كيم شونغ المتنقلة ويرافقها.

مع التقدير محررة في  -

وقفت لفترة طويلة في الغرفة المعتمة، والشمس تغرق ببطء تحت غابة قيقب "نه بايو" على الطرف الآخر من النهر،  ملونة السماء بلون الرمان. على السقف الأحمر القرميدي أطلق عصفور صيحة مكبوتة يمكن سماعها، وتبعها أصوات رقيقة ناجمة عن سقوط الأغصان، وكان احتمال كسر عش طائر مدعاة للتشاؤم، وزاد من ركود الهواء الخانق للبلدة المهجورة. فكرت بالرجل الشاب المجهول وغير المعروف، وربما حتى هذه اللحظة لم يعلم بالخبر الصادم ولا ببراءة والديه منه -   والدان أحباه ولكن بطريقة قاسية. إلى أين ذهب والداه؟. إلى محطة قطار لانغ كو أو مرفأ دا نانغ؟. أم هل فقدا حياتيهما أثناء الإجلاء؟. وفكرت بجماعة الأوبرا الجنوبية التي أتت إلى هذه البلدة الحدودية لتقدم عروضها في العام الجديد، حينما كان السلام سائدا. ربما في الفرقة مغنية جميلة ذات صوت منوم، غادرت في اليوم التالي دون أن تعلم أنها استولت على قلب طالب صف تاسع، ولكنه كان يفضل الموسيقا الشعبية والأوبرا الكلاسيكية على حياة الطلبة.  ثم تعلم العزف بأدوات النفخ وقرر الهرب من بلدته ليتبع طريقها حتى سايغون. وربما سيبلغ في أحد الأيام الشهرة وهو في العاصمة، ثم يعود منتصرا إلى بلدته ومعه محبوه وجماعته. أو أنه قد يمضي بطريق خاطئ، ولا يحظى حبه للفن غير الرفض، أو لا يقدره أحد، وينتهي به الحال إلى الفشل والتشرد والجوع، وذات يوم، سيقف في الطريق، وينظر لشمس الغروب ويحن لبلدته.  ولكن بلدته تحولت إلى أنقاض - مثل صخور محطمة وذهب فاسد، كما ورد في المثل، ولم يتبق مكان يمكن أن يقول عنه إنه وطنه.

وربما بعد عشر أو عشرين سنة، سيمنح الوالدان وابنهما المفقود فرصة للصلح في بلد أجنبي. كيف؟. لا أعلم. ولكن لا بد من طريقة. لأن الآباء والأبناء، والأخوة والأخوات، الذين مروا بخلافات في الحياة أو اختلاف في وجهات النظر، لم يمكنهم أن يعيشوا متباعدين إلى الأبد.  

هل سيبحث الوالدان، في ذلك الوقت من المستقبل البعيد، عن الطابعة التي كتبت له براءته العائلية؟ وهل سيطلب منها أن تعيد له تلك الورقة التي اصفرت الآن بسبب الوقت، ويحرقها ببطء حتى تصبح رمادا بينما صوت طباعتها يدفعه للتفكير بنور الربيع في الظلام؟.

كالنائم طويت الوثيقة، وضعتها في جيب سروالي، وزررته. قفزت من النافذة، ثم أغلقتها ورائي، وانصرفت.

***

........................

* الترجمة من الفيتنامية: Thuy Dinh

* نيوين دوش تونغ  Nguyễn Đức Tùng شاعر وناقد ومترجم كندي / فيتنامي. يعيش في فانكوفر (كولومبيا البريطانية).

مجموعة شعراء

ترجمة: سوران محمد

***

(مشكلة في القلب)

مايكل جينينغز

انتبه! هذا القلب القديم الذي أيقظته

بعد أن نام طويلاً

لە أوتار صدئة تكاد تنكسر

يُطلب منه الآن أن يعزف أغنية أخرى.

*

صُممت تلك الحيوية الربيعية لاحتواء اضطراب الدم الجارف.

إنه الخريف الآن، ونحن نتسلل إلى سبات الشتاء القارس

ولا يصلح للحب الرومانسي.

***

(انتهى الشتاء)

ويندي ويستلي

يُشير لي هذا الفصل

بأنفاسه المظلمة الكئيبة

أو بفجره المتأخر وغروبه المبكر،

أن هذا الموت مُحاطٌ بالحياة

كغطاءٍ من الحزن.

هناك القليل من النور والكثير من البرد

وأنا أفكر في موتي.

*

تتسلل أمي بهدوء

تُذكرني بأن الحياة قصيرة

والكوارث تزحف دائمًا من الخلف

لتُصيب غيرالمحفوظ وساذج لا يعلم

لكن هناك همسات أخرى،

من قبور من يرقدون بسلام،

عن نجاةٍ مجيدةٍ وحياةٍ عاشوها بفرحٍ وألوان.

ألاحظ السماء مُرقّطةٌ ببريقٍ مُشرق.

وقد انتهى الشتاء.

***

(طيور الكروان)

كيث كادي

لا توجد طيور الكروان إلا عند الغسق؛

فقط في الأيام التي لا ريح فيها ولا مطر

حيث تتلألأ الشمس كطين فضي

أو تتساقط أحجار القمر المبكرة على أكوام لامعة

لمصب النهر العاري.

*

تتلوى أصواتها كعصف العصر المحتضر؛

تتلمس مصب النهر الذي ينحسر فيه المد والجزر

يائسةً، بحثاً عن شيء ضائع.

كثيراً ما تنظر خلفها وتتأمل

في الوحل المتكتل ذي الجوانب المائلة.

تجعد أفواهها شبه الضاحكة

تتعرج على انحناءات ناعمة،

وتُحرك زحف مسارها المتعرج.

لا تتأمل في العاصفة؛

لا تعيش إلا في ختام النهار،

*

عندما يُجرف مدُّ رجال من شاطئ مُبحر،

وصوت صقيع رمادي يرتجف في السماء الناضجة.

تقلب تجاويف حناجرها

من ذعر ساخر، وتحول مسعور إلى

أغنيةٍ حزينةٍ، مائية

*

تُنبئ باستسلامٍ هادئ،

مع عودة المد، وهبوب النسمات

ترنيم عكس التيار باتجاه المدينة

لا يعيش طائر الكروان إلا في ختام النهار،

ويموت مع انحسار الشمس.

***

.........................

*الكروان: طائر مائي منقط، ذو منقار طويل بحجم قبج.

*المصدر: مجلة بولسر الشعرية الفصلية، ربيع  Pulsar/ 2025

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - القامة

أنا ألم طويل القامة

أبصر الكلم

أنى كان

بمجرد لمحة

ويراني المعوز

أنى كان

دون أن أتسلق

كتف هم

آخر..!

***

2 - انحناء

زهرة خزامى

انحنت للعليق

تلثم يده

وما أن انتهت من ذلك

وانتصبت واقفة

حتى تخضبت سيقان

العليق

باللون الأحمر

فتكور حسرة

على اللون

الأصفر..!

***

3- الكرسي

إن الكرسي

الذي أجلسوا عليه

ذاك الشاعر

وقتلوه

قد أضحى خير

شاهد

على ذلك الجناح

فقد عاش

ليشهد موت الجلاد

وكيف جلس عليه

العتق

***

4 - تعليم

كانت (جميلة) تجدل*

شعر (الجزائر) المسترسل

بأسرارها

و تقول

أيها الوطن

إن قطعوا يدي اليمنى

لعلمت اليسرى

كيف تكتب اسمك

و إن قطعوا يدي اليسرى

لجعلت أصابع قدي

تعتاد كيف تكتب

اسمك

و إن بتروا أطرافي

الأربعة

سأكتب اسمك بالصراخ

و إن همد

صراخي

أكون قد علمت نظراتي

كيف تحفر اسمك

في عيون الأوجال

التي يستشعر بها

جلاوزة الغرف

الباردة

أيها الوطن

***

5 - تمثال

سيأتي اليوم

الذي تعتصم فيه

تماثيل الدنيا

فلا تتشامخ

احتجاجا

لعدم مشاهدتها

منذ أن وجدت

تمثالا منحوتا

ل (أديسون)**

بجانب آلاف التماثيل

***

......................

* إشارة إلى المناضلة (جملة بوحيرد) الشخصية الجزائرية المعروفة وأيقونة الثورة الجزائرية.

** توماس أديسون (1847 – 1931) العالم الفيزياوي الأمريكي المعروف ومخترع العديد من الالات الكهربائية ومنها المصباح الكهربائي.

- شيركو بيكس: شاعر وأديب كردي كبير. (1940 السليمانية / العراق – 2013 السويد). نشر مع مجموعة من الأدباء الكرد (بيان المرصد) حول الابداع والحداثة الأدبية واللغوية. ترجمت أعماله إلى لغات عديدة، ومنها (الإنكليزية، الفرنسية، البولونية، العربية، السويدية، الألمانية، الإيطالية، التركية، والرومانية) وغيرها. منح جائزة (توخولسكي) الأدبية في السويد، وجائزة العنقاء الذهبية العراقية، وجائزة (بيره ميرد). من أعماله (ضياء القصائد - شعر 1968، هودج البكاء 1969- شعر، كاوة الحداد – مسرحية شعرية 1971، أنا باللهب أرتوي – شعر 1973، الغزالة – مسرحية شعرية، الغبش – شعر 1978، أنشودتان جبليتان - شعر 1980، الشيخ والبحر – رواية مترجمة لهمنغواي 1982، الصليب والثعبان، يوميات شاعر، مرايا صغيرة – شعر). ترجمنا له إلى اللغة العربية ونشرنا له في الصحف والمجلات العراقية والعربية وضمن مجموعات شعرية مشتركة. عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001.

بقلم: تد كوزر

ترجمة: عاد صالح الزبيدي

***

موت كلب

في الصباح التالي شعرت بأن منزلنا

قد جرى رفعه بعيدا عن اساسه

خلال الليل وهو الآن عائم،

على الرغم من ثقله الكبير الا انه سحب معه

ما يساوي قدما او اكثر من ايما شيء كان يجعله يطفو،

ليس ماءً، ولكن شيء بارد ورقيق وصاف،

الصمت يلف سطحه بينما بدأ المنزل

يستدير فوق تيار تتزايد قوته،

مغادرا، جارفا معه زوجتي وانا،

ولكن على الرغم من ان ذلك لم يحدث لي قط

حتى تلك اللحظة، الا ان كلبنا، وطوال خمسة عشر عاما،

كان قد تحمل مسؤولية ما نملك

بلصق بطنه على الأرضية،

ومخالبه الأمامية ايضا،

وبعد رحيله بدأ المنزل يطفو متجها نحو الفراغ،

وما من ارض صلبة تلوح في مرأى البصر.

***

.................

تد كوزر: شاعر أميركي ولد في مدينة ايمز بولاية ايوا عام 1939 وتلقى تعليمه في جامعتها ثم في جامعة نبراسكا حيث نال شهادة الماجستير وعمل أستاذا زائرا إضافة إلى عمله الأساسي في شركات التأمين. نشر اثنتي عشرة مجموعة شعرية فازت بعدة جوائز أهمها جائزة البوليتزر عام 2005 التي نالها عن مجموعته "مباهج وظلال". شغل منصب شاعر الولايات المتحدة لدورتين متتاليتين. من عناوين مجاميعه الشعرية الأخرى: "عالَم واحد كل مرة" 1985 ؛ "كتاب أشياء" 1995؛  و"عجائب محلية: فصول في جبال الألب البوهيمية" 2004 .

قصة برايان واشنطن

ترجمة: صالح الرزوق

***

بدا السؤال مباشرا. فقد أخبرني نوح - في رسالة قصيرة، وهي الأولى منذ سنوات - أنه هو وأمه أعادا افتتاح مخبزهما، ثم سأل إن كان بمقدوري تقديم المساعدة. وخلال ذلك بوسعي أن أنام على كنبة والده. مارست عائلته هذا العمل منذ سنوات طويلة. حتى أنني شاركتهم بالعمل لعدة سنوات، قبل أن أغادر هيوستون إلى نيويورك، لمطاردة محاسب لعوب له لحية. وبعد رحيلي، تابع المخبز عمله، وواصل العالم دورانه، وبقي نوح في كاتي، وهي بلدة صغيرة على تخوم المدينة، وعلق بالفقاعة - ولكن بعد وفاة والده، أغلق نوح ولاين أبوابهما. وعمل نوح بائع زهور لبعض الوقت. ووجدت لاين عملا في مركز تسوق. ولم أتصل معهما، ولم تكن لدي خطط للمستقبل. ولكن الآن ها هو نوح، وبيده عرض عمل متكامل. وكنت بحاجة لمكان أعيش فيه، والفضل يعود للمحاسب. كنت أعلم أن لاين لن تتقاضى مني الإيجار - ولذلك حينما وقفت في باحة سياراتهم، مخدرا ببخار 12 ساعة من القيادة المتواصلة، وبنوستالجيا المنطقة القديمة، لاحظت كيف كان نوح يحدق من النافذة. مرت علي لحظة فكرت خلالها أن أستدير وأعود من حيث أتيت فورا. ولكن ظهرت لاين في المشهد ولوحت ببدها، فلوحت بالمثل. وخرج نوح إلى الممشى، وهو ينخر ويشخر بطريقته المعتادة، وقبض على قفل شاحنتي، وسألني لماذا تبدو حقائبي اللعينة ثقيلة، وما هو الجحيم الذي أنوي أن أسافر إليه.

**

كان مخبزهما في الواقع عبارة عن بيت صغير من طابقين. وهو متموضع في باحة قرب مركز تسوق، بجوار طريق يصب في الطريق السريع. إذا أسرعت بالقيادة جدا، لا تراه. ولكن البناء أضفى حسا سكنيا على الشارع. وكان مدخله يفضي إلى غرفة معيشة معدلة لتكون صالة للجلوس - ثم هناك آلة الدفع، والمطبخ، وبعده الحمام. ويوجد سلالم غير مرئية بجوار الشرفة، من الخلف، ووراء كل ما سبق. وبدورها تفضي إلى غرفتي نوم، وغرفة ألعاب. وقد نمت فيها على الأرض، مع أنها مكتظة بكنبة وبعض النباتات المنعشة والكثيفة. في صباي كانت عائلتي تعيش قبالة المخبز. ولم يكن أفرادها متواجدين دائما. وكان نوح لا يمانع استضافتي. كنت أعود بعد عناء التعليم من المدرسة برفقته عبر الأزقة، ومأوى السيارات، إلى المخبز لنقتل الوقت مع والديه، وكنا نطوي عجينة المعكرونة في المطبخ. والد نوح شاب كوري شاب، علمني كل شيء عن طيها، وطريقة تحويلها إلى قوالب وأشكال في راحة اليد. وعلمني أن أثق بيدي. كان ينتسب لعائلة من الخبازين، أما زوجته - وهي امرأة سوداء من سان دييغو - فقد كبرت في المخبز. ولذلك حينما قالا لي إنني أتقن عجن أرغفة الخبز مع نوح، صدقت كلامهما. وكان والد نوح يقول لي إنني أفضل من ابنه، وكفاني ذلك لأبدأ بالتفكير في رد الجميل بعد أن أنال درجتي، ولكن لم أذكر هذا الموضوع. ثم مرض والد نوح. ولاحقا بقي نوح ولاين. وأصبحت مثليا، لكن نوح لم يصبح كذلك. ولم يبق للانتظار في ذلك المكان أي معنى، فرحلت. تنقلت من لوس أنجلس، إلى نيو أورليانز، إلى فانكوفر، إلى بروكلين، لأتبع صديقي، وبقي نوح في البيت، حتى تحسنت مهارته في المخبز، وللأسف لم يسمع هذا الإطراء من والده. بعد ذلك عملت صبي منزل عند أي كان، وكنت أطبخ المعكرونة في عطلات الأسبوع. وكنا نتراسل في هذه العطلات الأسبوعية، وإن كنت أحيانا أنسى مراسلته، وفي النهاية توقفت عن النسيان. أصبح هذا اختياري. وعلى هذا الأساس توقف نوح عن الاتصال بي أيضا.

**

في الصباح التالي من يوم وصولي، قبل الفجر، أيقظني نوح بلمسة من قدمه. وحام فوقي بالشورت، وهو يطرف بعينيه. كان دائما شابا ثقيلا، وممتلئا مثلي. ولكنه الآن أصبح هشا أيضا، وتقريبا لم أتعرف عليه.

قلت له: يمكنك أن تتحلى باللطف قليلا.

قال نوح: أنت لا تعرف كيف تعيش. كلنا استيقظنا إلا أنت.

- ولكن نحن ثلاثة فقط.

- مهما كان. القهوة جاهزة تحت.

قلت: لن تجد إنسانا خشنا مثلك.

قطب نوح قليلا، قبل أن يختفي وراء الزاوية. كانت لاين تطوي قائمة الطعام على الطاولة، عانقتها، ورميت نظرة إلى ابنها. كان واقفا قرب آلة النقود، يرشف من كوب. ثم بصمت، طبيعي، باشرنا بترتيب الخزانة - وهكذا أنفقنا يومنا. نظفنا الغبار، وكنسنا، وخشخشنا بالوصفات، وتذوقنا المشروبات. وحينما حان وقت العمل مع الوصفات، كان ملمس العجين في راحتي مألوفا، ولكنه لا يزال بعيدا على نحو ما، ووجدت نفسي ألتفت إلى نوح، لأراقب حركاته. من الواضح أنه تحسن. ويستعمل يديه بأريحية. في النهاية رفع عينيه ليضبطني أراقبه.

قال: هل يوجد شيء بوجهي؟.

قلت: أقترح أن تبتسم.

كشر وهو يصنع المعكرونة واحدة واحدة بدقة. ثم توقف قليلا باستراحة قصيرة، وتابع ثانية.

**

كانت كاتي تتوسع وتغطيها حقول الأرز. أصبح لدينا متجر فيديو ومدارس وبعض الباحات للرياضة ومركز للتسوق وصالة سينما. وحينها إن كنت تبحث عن مشكلة عويصة عليك أن تتوجه إلى شرق المدينة. ولكن تبدل كل ذلك: الآن لدينا مدينة صينيين كاملة. وأرسى الفنزويليون أركان مجتمعاتهم. وأصبح هناك صالة للفنون، وأماكن غير محدودة للحشيش، وعدد من المتاجر الموزعة على طول محيط البلدة - مع أنها الآن لم تعد عمليا بلدة. وكان المخبز ميتا في وسطها.

أحضرت صديقا، في إحدى المرات، قبل أن أغادر الولاية لأول مرة. رأى والد نوح الشاب، وشد على يديه. وحذت لاين حذوه، أيضا، وغمزت لي من فوق كتفه. وأذكر أنني عدت في تلك الليلة إلى نوح، مبتهجا تماما، وكذلك كانت أحواله. ولم يتوقع أي منا إمكانية حصول ذلك - لنا في كاتي. فقد وضعنا الخطط لتحديد الهيئة التي سيكون عليها شريك نوح (أكبر وأطول قليلا)، وكيف سيغازله (في وجبات غداء وسط البلدة)، وكيف سيستمتعان بحبهما (ربما في أحد الحقول بمكان ما). ولكن طبعا لم يمر وقت طويل قبل أن يتخلى عني شريكي من أجل شخص مخنث. وفي تلك الليلة، أخبرت نوح، وكنت في سيارته وأرتعش قليلا، وهو بجانبي يومئ للفضاء المفتوح. ذهبنا بالسيارة إلى ملعب كرة القدم - بحثا عن الصمت وعن مكان - وبدأت أغفو، ثم فتحت عيني على نوح وهو يميل نحوي ليضع وجهه فوق وجهي. قبلته بالمثل، وبشغف تام - ثم بشغف أكبر - قبل أن أنسحب. ثم ضحك نوح، بقليل من الحماس، وكذلك، فعلت أيضا، وأنا أقفز فوق المقعد الأمامي - حتى، في لحظة ما، شهق كلانا، وتمسكنا بحزام الأمان، ونحن بغاية الانفعال والحمى.

**

بقي أسبوع على افتتاح المخبز، وخلاله كنا نحن الثلاثة بقبضة الروتين: نوح يلكزني لأستيقظ قبل الفجر، وفي الصباح ننشغل في المخبز، ونحن نرشف القهوة ونفحص القوائم. بينما لاين تتنقل بين المطبخ والمصرف وبالعكس. وكنا نتابع عملنا حتى ما بعد الظهيرة. وحينها يحتل نوح المطبخ وأقفز أنا إلى الكومبيوتر بجانب الطاولة. وبدماثة تسألني لاين بعض الأسئلة - عن الوسائط الاجتماعية، والتسويق - ولكنها كانت تعلم كل شيء، ويكون نوح خلال ذلك مشغولا بالعمل في الخلف، يخبز، متجاهلا وجودنا. في النهاية أصبح المكان كما تخيلناه. ولكنه بقي عسيرا على الفهم، مثل معجزة، شيء لا يمكننا إنجازه بمفردنا، وبأيدينا. حركت لاين رأسها، وهي تحدق بالبناء من الجهة المعاكسة في الشارع، وسألت إن كنا غير قادرين على تخطيط لافتتنا بأيدينا. قال نوح عن ذلك إنه إفراط بالوساوس - ولكن هزت لاين رأسها لكلينا، وقالت إنه لا مكان لأنصاف الحلول. ثم وهي تراقبنا، قمت مع نوح بكتابة اللافتة. وقفت لاين بجانبنا، وهي تنقل رأسها من طرف إلى آخر. وفي إحدى اللحظات قالت إن اللافتة انتهت، وأصبحت جميلة، ووافقنا على كلامها.

**

أخبرني نوح، في إحدى مكالماتنا الهاتفية النادرة، عن شاب واحد اقتحم حياته. حصل هذا منذ سنوات خلت. كنت حينها أعيش في بروكلين مع طبيب تحول إلى رسام. وكان نوح في تكساس، يعيش حكاية حبه. سألني وقتها عن الجنس، فأخبرته بما أعرف. وسألني عن الرسميات في الحياة العامة. واستفسر عن الفرق بين الاهتمام بشريكه والاهتمام بنفسه. وكنت صادقا معه - ولكن أحيانا، كنت أتهرب منه. في أحد الأيام، في منتصف ذلك اليوم، انفصل عني الرجل الذي كنت على علاقة به، وكنت خارج شقته، ولم يسمح لي الحارس بالدخول، فخابرت نوح من مقهى في المبنى.

وحينما انفصل نوح عن صديقه، كنت أعيش مع شخص آخر. وأخبرني أن هناك أمورا لم يمكنهما تجاوزها. وهذا كل شيء. وكانت هذه فرصتي لأتقرب منه، كما كان يفعل، وكنت أشعر بذلك. ثم تبلدت مشاعري. سألت نوح ما هو الخطأ الذي ارتكبه. وسألته لماذا يصعّب الموضوع. وشعرت أنه يهز رأسه على الطرف الآخر من الهاتف، ثم بالمقارنة تحسنت مشاعري، فقد كنت أكثر خبرة منه، وأشبه مؤخرة لعينة. لاحقا تركني رجلي، أيضا، وعاودت الاتصال بنوح، وفي تلك الأثناء لم يكن يرد، فقد انشغل بوالده، وبصعوبة كنت أتمكن من مكالمته.

**

في الليلة السابقة المحددة للافتتاح، جاءت لاين باكرا. قالت: أمامنا يوم طويل، واقترحت أن نبكر بالنوم أيضا. فأخبرتها أنني سأتبعها إلى أعلى، وكذلك نوح، أيضا - ولكن مكثنا كلانا في الأسفل، نمسح، حتى منتصف الليل. أنا كنست، ونظفت الجدران. ولزم نوح الصمت، وهو يقوم بعمله. ثم في النهاية رفع نظره، وسأل إذا كنت أريد شيئا آكله. كان قد مر على أول مرة لنا معا في السيارة أكثر من عقد. خرجنا من المحلة باتجاه المدينة. وتابع نوح القيادة. لم أوقفه. قدنا حوالي ساعة قبل أن يدخل في شارع يمر بمطاعم تاكو كابانا، ثم وقفنا في باحة السيارات، ووجهانا نحو الطريق السريع، لنقضم في الظلام رقاقات تورتيلا.

مد نوح يده إلى علبة بيننا وقال: لم أتوقع أن تعود.

قلت: حسنا. توقعك مخطئ.

- كان من الممكن أن أفقد نقودي لو راهنت على ذلك.

- أمر طيب أنك لست مقامرا.

قال نوح: أنت لم تأت لوداع والدي.

قلت له: أدرك هذا.

- كان من واجبك أن تأتي.

قلت: أنت محق. وأنا آسف.

قال نوح: لا تعتذر بهذه الطريقة الشئيمة.

قلت: ولكن لم أكن متأكدا أنك تريد أن أكون حاضرا.

- ماذا؟.

- أنا جاد. وربما هذا ما أدهشني. كان علي أن ألاحظ ذلك بنفسي.

قال نوح: أنت من غادر. لقد هجرتني.

قلت: هذا لأنك لم تهتم.

وعلى الفور تمنيت لو أسحب كلامي.

جلسنا كلانا نمضغ بصمت. مد نوح يده إلى العلبة المجاورة لي، وفعلت مثله.

قال: اسمع. لا ضرورة لأن أخبرك أن هذا ليس عدلا. أنت تعلم ماذا يحصل. وأن كل شيء تبدل.

قلت: حسنا.

- حسنا على ماذا؟.

قلت: أنت تختلق الأعذار.

قال نوح: كلا. أنا أذكر الأسباب. أن كل شيء تبدل.

وأضاف: والأسوأ أنك تبدلت أيضا.

**

أنهينا كلانا في لحظة ما طعامنا. وعدنا إلى البيت، دون أن نتبادل كلمة واحدة. جلست على الأرض، واستقر نوح في غرفة نومه، وسمعته يشخر حتى غفوت في النهاية.

**

في صبيحة يوم افتتاح المخبز سقطت الثلوج. وكان هذا أول يوم تشهد فيه هيوستون الثلوج منذ سنوات. وتوقعنا أن هذا الجو سيخنق نشاطنا، وقفنا نحن الثلاثة حول آلة النقود، نلهو بإبهاماتنا. ومسح نوح يده. نقرت على هاتفي. ووقفت لاين بجانبنا، مقتنعة أنه لا ضرورة للقلق. قالت: هذه الأمور تحدث على دفعات، ونحتاج للتريث، تبادلت النظر مع نوح، وانتظرت أن يقول شيئا، ولكنه لم يفعل طبعا، وكذلك أنا. كانت لاين محقة. قبل الغداء، جاءت امرأتان بيضاوان. ثم شاب آسيوي مع ابنته. ثم حلقة من الطلاب والهواتف في أيديهم. ثم زرافات من الناس بجماعات محدودة، وأحيانا أفراد، وكانوا يأتون إلى الطاولة، ويشيرون من وراء الزجاج ويتأملون قائمة الطعام. ومع نهاية ما بعد الظهيرة، لم يعد لدينا معكرونة. وانشغلت تماما بخزانة النقود، وكانت لاين تخدم الزبائن. وتهادى نوح نحو الطاولات بثياب فضفاضة، وكان يقفز في أرجاء المطبخ. وبصعوبة تبادلنا بعض الكلمات، ولكن لم يزعجنا ذلك: كان كل شيء مألوفا وعاديا. وها نحن نعمل معا. وبانسجام رغم كل شيء. لم نمتنع عن تبادل الحديث، ولكن لم يكن هناك شيء نقوله.

**

في تلك الليلة، حسبت لاين ثمار أيام العمل. لم يكن هناك شيء عظيم، ولكنه أفضل من توقعاتنا. بعد ذلك اغتسلنا نحن الثلاثة، وتناولنا طعامنا، ثم استقرت لاين في الطابق العلوي، أنا جمعت كتفيّ وتبعتها. ومكث نوح في الأسفل ليتصفح الوصفات قرب آلة النقود. فكرت به وهو في الأسفل، وأصغيت لصوته وهو يقلب الصفحات - ولاحقا، بفترة طويلة، استيقظت لأشاهده يتأملني، جالسا قبالة الكنبة. لم ينطق أحدنا بكلمة. جلس نوح ببساطة، وساقاه متقاطعتان فوق الخشب. بدا مألوفا أكثر رغم كل شيء، وتساءلت إن كنت مألوفا مثله. وفكرت كيف أتصرف إذا أقبل، وكيف أرد على حركاته. وعلى نحو ما تساءلت إن كانت هذه هي النهاية التي نتوجه إليها. ثم ضغط على ركبتي وطلب مني أن أتبعه إلى الأسفل. كنت مكدودا، ولكنه كان قد طهى وجبة كاملة. استندنا على الطاولة. وطلب مني نوح أن أقضم لقمة من معكرونة أمامه، شيء ممتلئ وتغطيه رقاقات براقة، وفهمت المعنى فورا. وتيقنت أنه فهمه مثلي. كان يريد أن يخبرني. لكن لم أعرف ماذا أقول، وعوضا عن ذلك، نفذت كلامه: تناولت قضمة. ثم نظرت إليه. ونظر لي أيضا. ملنا على الطاولة بدفء، وهدوء، ونحن نمضغ دون صوت، برشاقة، رغم الفوضى التي صنعناها بيننا.

***

..........................

* برايان واشنطن Bryan Washington روائي أمريكي معاصر من هيوستون. من أهم أعماله: الباحة 2019، النصب التذكاري 2020، وجبة عائلية 2023، وساوس 202، وغيرها...

 

قصيدة للشاعر الارجنتيني فابيان كاساس

ترجمة: سالم الياس مدالو

***

كان واحد من تلك

الايام التي تجري

الامور فيها بصورة مقبولة

وعلى ما يرام

نظفت البيت

وكتبت قصيدتين

او ثلاث

ولم ارغب بكتابة منها

المزيد خطوت

اولى خطواتي

في الممر كي اخذ

كيس القمامة

الى الخارج

وحينذاك هبت

ريح قوية فصفقت

الباب ورائي

وقفت هناك

في الخارج

وفي الظلام

ومفاتيحي لم تك معي

مستشعرا اصوات

جيراني عبر بواباتهم

فقلت في سري

قد يكون هذا شيئا موقتا

او ربما بعد ذلك

يكون الموت

فالرواق مظلم

والباب مقفول

وكيس القمامة

في يدك .

***

.....................

فابيان كاساس – 1965، شاعر وكاتب وصحفي ارجنتيني يعتبر من ابرز الشخصيات الادبية الأرجنتينية في تسعينات القرن الماضي باعماله التي تشمل الشعر والرواية والقصص القصيرة والمقالات باسلوبه الاستثنائي والمثير وغالبا ما تناول كاساس مواضيع الحياة اليومية والمشاعر الانسانية حاز على عديد من الجوائز الادبية منها جائزة سيغيرز المرموقة عام 2007 لغنائتية الاستثنائية وتاثثره على كتاب امريكا اللاتينية. ترجمت اعماله الى عدة لغات منها الانكليزية والالمانية والفرنسية ومن قصائده

دورات الحياة -وبناء - وغيرهما .

قصة: سيكى ليو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في صباح يوم عمل روتينى عادى في أوائل أغسطس، قبل أربعة أشهر من الألفية الجديدة، خرجت تشين ييزي من غرفة نومها وهي لا ترتدي سوى الجوارب. تسلل نسيم صيفي دافئ عبر شق نافذة غرفة المعيشة ووأخذ يداعب ذراعيها العاريتين ثم انحدر إلى مؤخرتها المكشوفة. في تلك اللحظات النادرة التي تجد نفسها فيها وحيدة في الشقة، كانت تفضل العري، والعودة إلى الحالة البدائية. لكنها لاحظت على الفور أن شيئًا ما خارج عن المألوف. بين وعاء مليء بقشور البيض المكسورة وكوب الشاي، كان هناك ظرف بنفسجي باهت بدرجة لم ترها من قبل- كأنه فراشة نادرة مثبتة على طاولة الطعام الخشبية. لا بد أن زميلتها في الغرفة استلمت الرسالة من مكتب البريد قبل الخروج من المدينة.

حملت المظروف إلى أنبوب الضوء المائل عبر النافذة. كان اسمها مكتوبًا بأحرف كبيرة مائلة إلى اليمين، كما لو أنها كتبت على عجل. في عنوان المرسل، الذي كان باللغة الإنجليزية، كتبت كلمة شيكاغو. كانت غريبة. لم تكن تعرف أحداً في أمريكا، على الأقل لا أحد لديه سبب للكتابة إليها. فتحت المظروف بنفس المقص الصغير الذي استخدمته لقص حواجبها، وسقطت صورة صغيرة مستطيلة الشكل. وأظهرت الصورة شابا ينظر حوله في مثل سنها، مذهولاً وليس وسيماً، بعينين متباعدتين وأذنين كبيرتين بشكل كوميدي. وجاء في الرسالة المصاحبة له ما يلي:

عزيزتي تشين يزي،

اسمي لي مين. أنا ابن عم زميلك في الكلية، دونغ يو. من فضلك سامحيني إذا كان هذا بمثابة تهور. رأيت صورة لك في كتابه السنوي وأعجبت بهالتك الأنيقة وابتسامتك الحلوة. أعيش في شيكاغو وأبحث عن صديق لاستكشاف أمريكا معًا.

إذا كنت مهتمًة، يمكنك مراسلتي مرة أخرى على هذا العنوان.

لي مين

وعندما وصلت إلى النهاية، عادت إلى البداية وأعادت القراءة. ثم التقطت الصورة مرة أخرى، ولاحظت فم الرجل الواسع، المنفتح كما لو أنه تمت مقاطعته في منتصف الجملة. وتذكرت إعجابها بالطريقة التي ظهرت بها صورتها في الكتاب السنوي. كان شعرها مجعدًا لهذه المناسبة، وكانت شفتاها مزمومتين بابتسامة متواضعة ومليئة بالأمل. بعد قراءة الرسالة للمرة الثالثة، تذكرت أن دونغ يو، الصبي السمين الذي جلس خلفها في صف الفيزياء، كان يتفاخر بالفعل بوجود قريب له في الخارج. في الكلية كان الجميع يحلمون بالمغادرة. كانت الشائعات تقول إنك تستطيع أن تكسب من غسل الصحون في مطعم أمريكي في أسبوع أكثر مما يمكنك أن تكسبه كمهندس هنا في شهر واحد، وكان الناس يتنقلون بالسيارات – سيارات شخصية. لكن الوصول إلى هناك يتطلب وجود كفيل أجنبي، ورسوم التقديم، والمال لشراء تذكرة طائرة في اتجاه واحد. كانت هواية طفلة غنية، وكانت تتمتم بصوت منخفض مع نيا، صديقتها المفضلة في الكلية، كلما شاهدتا طلابًا يلاحقون علماء دوليين، ويطالبون بممارسة لغتهم الإنجليزية.

شعرت باحمرار شديد عندما فكرة أن شخصًا غريبًا قد أعجب بصورتها، ثم شعرت بالحرج من غرورها، ثم المفاجأة. هل كان هذا هو ما يفعله الرجال في أمريكا: العثور على صديقات في الصين عن طريق كتابة الرسائل؟ لم تكن تعرف كيف يجب عليها الرد. لا بد أن ابن عم دونغ يو سمع أنها كانت مع شخص ما بالفعل. مخطوبة، في الواقع.

ناهيك عن أن كل ذلك قد حدث بشكل غير رسمي إلى حد ما. قبل ثلاثة أسابيع، التقت ببو عند نهر شيانغ جيانغ على المقعد المعتاد، في الوقت المعتاد. كان واقفًا هناك بالفعل عندما اقتربت: يداه في جيوبه، وساقاه نحيفتان في بنطاله الرمادي النشوي. لقد كان طالب دراسات عليا في الكيمياء في الجامعة التي التحقا بها عندما كانا طالبين جامعيين. لوح لها قليلاً، ثم نظر إلى النهر، حيث غطس طائر أبيض في الماء، وجناحه مسطح مثل نصل السكين. وعلى الشاطئ الآخر كان هناك صف من المباني الأسمنتية الرمادية اللون التي رسمت عليها شعارات حمراء كبيرة: الوقت هو المال، والكفاءة هي الحياة. زرع المزيد من الأشجار، وإنجاب عدد أقل من الأطفال.

قال وهو يشير إلى الماء عندما اقتربت: "انظري". وسألها إذا كانت تعرف أي نوع من الطيور هو. "إنه طائر الكركي، أليس كذلك؟

- البلشون الأبيض. إنه يأتى إلى هنا في الربيع ويطير جنوبًا في الخريف.

وضع يديه على جبينه، كما لو كان يضبط منظارًا غير مرئي.

- إنه يعيش عادة في حقول الأرز في الريف. من الغريب رؤية واحد هنا.

رفع الطائر رأسه من الماء، وومض بطن السمكة اللامع للحظة قبل أن يغلق منقاره. لقد كان يعتقد أن رقبته رفيعة جدًا لدرجة أنه لا يمكنه ابتلاع شيء كبير جدًا. لقد كانت معجزة أنها لم تنكسر إلى نصفين. سألها بو عما إذا كانت قد رأت طائر البلشون الأبيض في مسقط رأسها.

- لا. لم أر قط حيوانًا بريًا هناك. ربما أكلها الجيران جميعًا.

لقد كانت مزحة، رغم أنه كان من الممكن أن تكون حقيقية. حدثت سنوات المجاعة خلال حياة والديها، قبل وقت قصير من ولادتها هي وبو. عندما رأت تكشيرةبو ، أحنت رأسها وقامت بتنعيم فستانها. كانت تنسى أحيانًا أنه حساس لهذه الأشياء: إصابات الحيوانات والبشر، والحرمان، والكرب، والألم العام.

على مدى الأشهر الاثني عشر التي قضياها في المواعدة، كانا يلتقيان مرة واحدة في الأسبوع على وجه التحديد، عند النهر إذا كان الطقس لطيفًا، أو في المسرح بخلاف ذلك. في ذلك اليوم، سارا حتى الجسر الشمالي. خلفه كان هناك طريق سكة حديد مهجور مليء بالأعشاب الطويلة. لقد تساءلت دائمًا عما يكمن في نهاية المسارات. قرية مهجورة؟ العمود الفقري المتعرج لسلسلة جبال؟ لقد خلفت عاصفة رعدية من الليلة السابقة وراءها ضبابًا رقيقًا غطى المسارات بحجاب مرتعش. أومأت برأسها نحو الأفق المائي وقالت:

- ماذا تعتقد هناك؟

- ماذا؟

بدا بو مشتتا. وضع يده على كتفها وأدار جسدها حتى أصبحت في مواجهته.

- دعينا نبقى هنا لفترة من الوقت. اسمعى، لقد كنت أفكر، اسمعي، لقد كنت أفكر - لقد كنا معًا لمدة عام. والتقينا بوالدي بعضنا البعض. لقد تعرفنا بشكل جيد على بعضنا البعض.

أومأت برأسها ببطء، متظاهرة بالهدوء. ظنت أنها تستطيع رؤية الاقتراح القادم. كان الأمر واضحًا، مع كل العلامات التي سبقته: تحدث بو عن نوع السكن الذي سيوفره برنامج الدراسات العليا إذا تزوج، ودعاها بو لمقابلة والديه، وتصرف بو بطريقة مهذبة عندما أخذته. لزيارة والدتها في قريتها المتداعية. ولكن ماذا لو لم يكن متوقعًا كما اعتقدت؟ لقد تخيلت أنه في الواقع ينفصل عنها. كان بوسعها أن تشعر تقريبًا بدوار شديد لاحتمال هجرها دون سابق إنذار، وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، بعد عام من مواعدة رجل مثل بو وكونها موضع حسد بين أصدقائها. تخيلت وجهها وقد أصبح شاحبًا، وفقدت الإحساس بقدميها ويديها كما يحدث أحيانًا عندما تكون في حالة صدمة. لقد هزها رعب هذه الفكرة كصدمة كهربائية.

وتابع:

- أعتقد أننا نعتبر متوافقين جدًا. يجب أن نفكر في الزواج.

لقد استنزفت كل مخاوفها منها مثل الهواء الذي يخرج من بالون مثقوب. شعرت باستقرار هائل. ابتسمت وأجابت:

- أنا أفكر في نفس الشيء .

أمسك بيدها بقوة وقبل خدها: قبلة قصيرة عفيفة، مشبعة بنفس اللياقة التي عاملها بها طوال فترة خطوبتهما. مرة واحدة فقط، تحت جنح الظلام في المسرح، ضغطت بصدرها عليه ردًا على ذلك. لقد انسحب، وفي عينيه نظرة ماكرة، وربت على ذراعها بضع ربتات طويلة، كما لو كان يسترضي قطة.

وفكرت مرة أخرى في الطريقة التي اتخذت بها الاختيار الصحيح في بو- بو، بأدبه وعينيه الناعمتين، وضبط النفس الرجولي.

وأوضح أنهما سيحظىان بحفل زفاف مناسب في المدينة، وهو مسند بمرفقيه على الجسر. ومضى في سرد ما يحتاجان إليه: مكان، وقائمة طعام، ودعوات، وحلويات للأطفال - كان هناك المزيد من الأشياء التي كان ينساها، وكان عليه أن يعد قائمة لاحقًا. وقال:

- أنا آسف لأن الأمر معقد للغاية .

هزت رأسها وهي تحمل ابتسامتها. إن الاستماع إليه وهو يعمل في عالم من المهام والأهداف الواضحة قد أغرقها في حمام دافئ من التفاؤل. كان من الجيد أن يكون لديك زوج يعرف الطريقة الصحيحة للقيام بالأشياء، ويخطط. معظم الرجال لم يفعلوا ذلك. في القرية التي نشأت فيها، كان حفل الزفاف عبارة عن مائدتين من الدجاج المذبوح والمشروبات الكحولية في ساحة أحد الأشخاص. في أحد الأعوام، هطلت الأمطار، وتذكرت جلوسها على كرسي تحت شجرة فلين،وهي تقضم ساق دجاجة بينما كان الطين يمور حول مقعدها.

وفي وقت لاحق، في الحافلة المتوجهة إلى العمل، أخرجت الرسالة المرسلة من أمريكا ونظرت إليها مرة أخرى. كانت الكتابة لهاو. أمر مثير للسخرية حقًا، وصارم جدًا، وكان من الممكن نسخها من دليل حول كيفية جذب النساء. وتساءلت كيف سيكون رد فعل زميلاتها في قسم المحاسبة في وحدة تصنيع أسطح العمل رقم 2 في تشانغشا إذا أخبرتهن بالرسالة. من المحتمل أن تتحول عيونهن إلى اللون الأحمر من الحسد. أولاً، بو، ثم هذا الرجل الأمريكي، الذي طلب نقلها إلى الخارج. أمسكت بأصابعها الحواف الحادة للظرف الموجود في حقيبتها وقررت أنها ستحتفظ بالرسالة لنفسها حتى تتمكن من اتخاذ قرار بشأن ما ستفعله بها.

عندما أخبرت زملاءها في العمل عن خطوبتها، كان رد فعلهم في البداية هو الصدمة المقنعة، ثم دشنوا عبارات التهنئة المبتذلة، على نحو لا يختلف عن الطريقة التي يثني بها المرء على زميله في الفصل الذي حصل على وظيفة مرغوبة. لم يكن أحد يتوقع أن ينتهي الأمر بها وبو معًا. كان والدا بو طبيبين في مستشفى تشانغشا رقم 1، وكان أصدقاؤه في الكلية أبناء مسؤولين حكوميين وأساتذة جامعيين. لم تتقاطع مساراتهما أبدًا حتى حضرا حفلة صديق مشترك بعد عام من التخرج. لقد ظهرت وهي ترتدي فستانًا أخضر ووشاحًا حريريًا اشترته بأول راتب لها. لقد كانت سنة من العيش في المدينة طويلة بما يكفي لتقليد ما ترتديه النساء الأنيقات في الشوارع، وكيف يحملن أنفسهن ويجدلن شعرهن، وكيف يلمسن ضفائرهن عندما يغازلن الرجال. في الحفلة، وقفت وظهرها مستقيم مثل اللوح، أطول بنصف رأس من بقية النساء في الغرفة. بالنسبة إلى بو، لا بد أنه لم يكن من الممكن التعرف عليها من خلال الفتاة الريفية التي كان يراها من وقت لآخر في غرفة الطعام، وهي تتجول في قمصانها البنية الفضفاضة.

ولمفاجأة الجميع، لم يرفض والدا بو علاقتهما. وفي وقت سابق من ذلك الصيف، تناولت العشاء معهما في الشقة التي نشأ فيها بو. كانت والدته قد طرحت عليها كل أنواع الأسئلة حول عائلتها: الآباء؟ توفي والدها عندما كانت في الثالثة من عمرها. الإخوة؟ أخ واحد، لكنه مات بمرض السل عندما كان في السادسة من عمره وكانت هى في التاسعة من عمرها. بعد ذلك الوقت، سيتم إغلاق هذا السؤال؟ كانت تعتني بقطعة أرض العائلة وتعمل خياطة في الليل. ماذا زرعت؟ خس، جزر، بطاطس.

تدخل والد بو:

- لماذا تسألين الكثير من الأسئلة؟ انظرى، إنها لم تتناول قضمة واحدة بعد.

احمرت زوجته خجلاً، وهي تضع إصبعها على المشبك اليشم الرقيق الموجود على معصمها.

- تمام. هيا نأكل أولا. على أية حال، لقد أحببت دائمًا سكان الريف. إنهم جميعًا أبرياء للغاية ويعملون بجد.

شعرت بيد بو تربت على يدها تحت الطاولة، وابتسمت كما لو أنها وافقت.

في عطلة نهاية الأسبوع التي تلت ظهور المظروف الأرجواني في منزلها، أدى حادث دراجة تعرضت له عمة مسنة إلى انتقال بو إلى شنجهاي في اللحظة الأخيرة. قررت الذهاب إلى النهر على أية حال. وبدون بو، ركضت بين الجسرين اللذين يربطان الحديقة الواقعة على ضفاف النهر حتى آلمت رئتيها. اشترت كيسًا بلاستيكيًا من العجين المقلي الساخن وأكلته بأصابعها، وتقاسمت المقعد مع رجل ذو ساق واحدة يرتدي ملابس بالية. في طريق عودتها إلى المنزل، توقفت خارج محل لبيع الكتب مع لوحة خشبية عامة تحت مظلتها كتب عليها كتب العصر الجديد.

على الرغم من مرورها بالمتجر عدة مرات في طريقها إلى المنزل من مواعيدها مع بو، إلا أنها لم تدخل أبدًا. لم يكن لديها أي سبب لقراءة الكتب منذ الكلية. كانت تفضل قضاء وقت فراغها في الخارج، والتنزه ومشاهدة الناس والاستمتاع بأشعة الشمس. كان هذا شيئًا مشتركًا بينها وبين بو: لم يكن أي منهما يحب الجلوس. في المدرسة، كانت متخصصة في الرياضيات، وكانت دفاتر ملاحظاتها مليئة بالتكاملات الرائعة والأحرف اليونانية المتعرجة الأنيقة. لكن عامين من التحديق في طوابير طويلة من بيانات الأرباح والخسائر، ووضع علامة على كل عنصر بطرف قلم الجرافيت لتحديد مدى توفير التكاليف، أدى إلى صقل الزوايا الحادة من دماغها. أصبحت فكرة قراءة كتاب الآن بمثابة الدخول في بركة من الطين الخانقة.

ولم تكن والدتها لتلومها على هذا. تخلصي مما لا تحتاجين إليه، هكذا أخبرتها في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من فقرهما، كانت والدتها تحتقر الفوضى. كانت جدران المنزل الصغير المكون من غرفة نوم واحدة عارية طوال طفولتها، حيث كانت أي عائلة تعيش هناك تتنقل أو تغادر باستمرار.

لكن رؤيتها للمكتبة اليوم ذكّرتها بالرجل الأمريكي من شيكاغو. كانت تخرج الرسالة لتعيد قراءتها كل يوم تقريبًا، وقوم بتسوية التجاعيد بإبهامها. جعلها ذلك تفكر في الأشخاص القلائل الذين تعرفهم في الخارج. كان هناك ابن عم جارتها الذي يعمل في سان فرانسيسكو، وزميل الدراسة الذي يدرس في ليفربول، وابن زميل العمل الذي هاجر مؤخرًا إلى تورونتو. كان من المحرج أن يعيش الناس حياتهم في أماكن لم تتمكن حتى من تحديد موقعها على الخريطة.

دق الجرس عندما دفعت الشرائط البلاستيكية السميكة التي كانت بمثابة الباب جانبًا، ورفعت العمة عند الخروج قدميها عن المنضدة. كانت كومة أنيقة من قشور بذور عباد الشمس تتراكم بالقرب من مرفقها. مرت يزي بقسم الشعر، ثم السير الذاتية والكتب المدرسية والروايات قبل أن تصل إلى الجزء الخلفي من المتجر، ، حيث توجد لافتة صغيرة مكتوبة بخط اليد تتدلى من السقف مكتوب عليها أجنبي. في قسم الكتب الأجنبية كانت هناك امرأة تبدو في مثل عمرها، تحمل حقيبة أنيقة، وتمرر أصابعها الطويلة الرفيعة على ظهر كل كتاب في رف الكتب الأجنبية بحرص. كانت تلك الكتب المغطاة باللون الأخضر مألوفة منذ أن كانت في الكلية عندما كانت تلمحها في كل مكان بين أيدي زملائها الأكثر حظًا، والذين كان السفر إلى الخارج بالنسبة لهم حلمًا بعيد المنال ولكنه ليس مستحيلاً.

- هل تحتاجين إلى مساعدة؟

استخدم رجل يحمل كومة من الكتب يده الحرة لإنشاء إسفين بين كتابين، بالقرب من وجهها لدرجة أنها تمكنت من رؤية الحواف المهترئة لخيط أزرق وأبيض مربوط حول معصمه. تراجعت خطوة إلى الوراء، مندهشة، وشعرت بالزوايا الحادة والصلبة لكومة كتبه تحفر في عمودها الفقري.

قال:

- أوه، آسف .

شعرت بيده تضغط لفترة وجيزة على كتفها من خلال قميصها، كما لو كان يعتقد أنها على وشك الإطاحة، أو ربما كان يحاول فقط حماية كتبه.

حاولت ألا تجفل أو تبدو مرتبكة للغاية. لقد كان أطول منها، لكنها كانت ترى الآن أنه كان صغيرًا، وربما لا يزال طالبًا جامعيًا.

قالت:

- أريد خريطة.هل تباع هنا؟

قال:

- نحن لا نبيع الخرائط، لكن يمكنني أن أريكم بعض الكتب التي تحتوي على خرائط . ما هي المنطقة التي تريدين رؤيتها؟

عندما قال هذا، وضع كتابًا على الرف: "الوقت الذي أمضيته في إنجلترا: مذكرات". على مستوى عينها، كان هناك عصبان يسيران بالتوازي مع رقبته المدبوغة، واستقرت مجموعة من البثور على حافة فكه.

- كلها.

- فهمت. أنت في القسم الخطأ.

قال لها أن تتبعه. وبينما كانا يتجولان في المتجر، كان يتوقف أحيانًا فجأة ويضع كتابًا في صف ما، كما لو كان يحفظ الموقع الدقيق لكل كتاب. من الخلف، شاهدت قميصه الضخم ينتفخ حول جسده النحيل، واعتقدت أنه يذكرها بابن عمها، الذي كان أيضًا طويل القامة وشابًا ويمسك نفسه بنفس الطريقة المتشددة والمتيقظة. كان ابن عمها قد ترك المدرسة الثانوية وكان يعمل في ورشة إصلاح الدراجات النارية في قريتهم. في المرة الأخيرة التي عادت فيها إلى المنزل، كان يغازل فتاة ذات وجه رائع ناعم ومشرق مثل وجه طفل. في أحد الأيام، وضعت يزي سلة من ثمار الكاكي عند باب والدته الصماء ورأته يقود الفتاة إلى قطعة من الغابة خلف المنزل. الطريقة التي سقط بها رأس الفتاة على كتفه جعلتها تتراجع. لقد رأته يزي وهو يركض حول فناء منزلها بملابسه الداخلية عندما كان طفلاً صغيرًا وعلمته كيفية ركوب الدراجة. على الرغم من أنها عرفت أنها يجب أن تغادر، إلا أنها شعرت فجأة بجذورها على الأرض، كما لو أنها أصبحت شجرة. وقفت بجانب الباب لفترة طويلة، تستمع إلى دوامة من الصرير البري ترتفع فوق الغابة وتشعر بأن المحلاق الدافئ يزحف إلى رقبتها.

قال الشاب، وتوقف تماماً في النهاية:

- كتب الجغرافيا العالمية موجودة هنا،لدينا الكثير، الذي يغطي جميع المناطق.

ثم انحنى وسحب مجلدًا صغيرًا من الرف السفلي.

- هذه هي النسخة الأكثر إحكاما لدينا. اعتمادًا على الغرض الذي تستخدمه من أجله، لا بد أن يكون هذا هو المناسب.

وعندما شكرته، أومأ برأسه وقال:

- إذا كانت لديك أسئلة أخرى، يمكنك أن تجديني دائمًا .

لقد توقف للحظة قبل أن يبتعد، وتضاءلت كومة الكتب التي بين ذراعيه الآن إلى كتابين فقط. نظرت إلى السوار الموجود على معصمه مرة أخرى وتساءلت عما إذا كان لديه صديقة صنعته له.

اشترت الكتاب وتصفحته في الحافلة إلى منزلها. أدركت أن الكتاب لم يكن مفيدًا بأي شكل من الأشكال إلى جانب تحديد المدن وأنظمة الطرق في أي بلد. لم يكن هناك وصف لعادات المكان، ولا تعليق على تاريخه أو مناخه. كانت سان فرانسيسكو على ساحل المحيط الهادئ، وليفربول على جزيرة، وتورونتو وشيكاغو بالقرب من البحيرات الكبيرة. يبدو أن الجميع قد انتقلوا إلى مكان قريب من مسطح مائي. لقد تساءلت دائمًا: هل ستكون شخصًا مختلفًا بعض الشيء إذا عاشت على شاطئ مساحة شاسعة من المياه، تساءلت دائمًا: هل ستكون شخصًا مختلفًا بعض الشيء إذا عاشت على شاطئ مساحة شاسعة من المياه، شخصًا لديه فهم أفضل للروعة والخطر واللاحدود؟ كان من الصعب التسليم بهذا. لقد عاشت في أماكن غير ساحلية طوال حياتها.

وفي نهاية الأسبوع التالي، زارت القرية الشمالية الصغيرة التي نشأت فيها. لقد اعتقدت أنه من المناسب إعلان خبر خطوبتها شخصيًا، رغم أنها شككت في أن والدتها لن تعبر عن أي شيء سوى الموافقة المعتدلة. على عكس الآباء الآخرين في القرية، كان لدى هوا آراء قليلة حول قرارات حياة طفلها.

وفي وقت سابق من الصيف، أحضرت ييزي بو إلى منزلها للمرة الأولى.

- ما رأيك ؟

سألت هوا بعد أن عاد بو إلى تشانغشا وأصبح منزلهما هادئًا مرة أخرى،ولم يصدر صوت طقطقة إلا مع صوت قيامهما بالأعمال المنزلية جنبًا إلى جنب. كانت هوا تتكئ على باب المطبخ الذي يفتح على فناء منزلهم، وترمي حبات الذرة إلى الدجاج.

- ليس سيئًا. هو طويل.

- نعم.

- لقد حان الوقت لكي تتزوجي.

- نعم.

ألقيت في الريح حفنة أخرى من الذرة. احتشد الدجاج.

- يبدو أنه لائق بما فيه الكفاية. لا تضيعا المزيد من الوقت.

انتظرت والدتها لتقول المزيد، لكن هوا ذهبت إلى الجانب الآخر من الفناء لإحضار المزيد من الذرة، مما يشير إلى انتهاء محادثتهما. استدارت ييزي منزعجة، ومشت عبر المطبخ وخرجت من الباب الأمامي، وجلست بتثاقل على جذع أسمنتي ساخن على جانب الطريق. بدت والدتها غير معجبة بصفات بو الواضحة المثيرة للإعجاب: مظهره الأنيق، وخلفيته العائلية، وأخلاقه الحميدة، وتعليمه. ألم تدرك أنه كان إنجازًا لها أن تجد رجلاً مثل هذا؟ في اليوم السابق، كان بو أليفا ومهذبا بشكل استثنائي، حيث ساعد والدتها في نقل أوعية الحساء من موقد الفحم إلى الطاولة، وجلس معها على الأرض بينما كانت تقشر البازلاء. ألم تدرك هوا أن معظم الرجال لن يفعلوا هذه الأشياء؟

الآن، بعد يوم كامل في القطار، سارت مجهدة على الطريق الترابي المألوف الذي يمتد بين محطة القطار ذات الرصيف الواحد ومنزل طفولتها، وهي تعيد المحادثة في ذهنها. شعرت بالذعر. كان عليها أن تذكر نفسها بأن حياة والدتها كأرملة فلاحية أمية كانت عبارة عن طريق طويل وضيق، لم يتميز إلا بأحداث مثل الزواج، وولادة الأطفال، ووفاة زوجها، وفي حالة هوا، وفاة أحد أفراد أسرتها. رجل. طفل كان من الطبيعي أن تكون هذه هي المقاييس الوحيدة التي تقيس بها الحياة، وأن تنظر إليها بنفس الطريقة الواقعية التي تستيقظ بها قبل الفجر كل يوم لتخصيب محاصيلها وإطعام دجاجها. ولكن مرة أخرى، هل كانت حياتها مختلفة؟ وسرعان ما ستنتقل إلى شقة أكبر قليلاً، وتأخذ طفلاً إلى المدرسة بالدراجة، وترى نفس زملاء العمل كل يوم حتى التقاعد. لن يكون هناك أية مفاجآت أبدا.

وسمعت أحداً ينادي باسمها. كانت ابنة العم يو، تلوح لها من الفناء الأمامي لمنزلها، وتمسك إحدى يديها بسلة من البطاطس والأخرى تمسح يدها بمئزرها. لوحت يزي لترد التحية لكنها تظاهرت بأنها في عجلة من أمرها، لأنه لا تريد التورط في ثرثرة القرية. وعندما ظنت أنها أصبحت بعيدة عن الأنظار بأمان، أبطأت سرعتها ونظرت إلى الوراء نحو الفناء. نعم، كانت لا تزال هناك شجرة الصفصاف الصفراء، والقطط الضالة تتجمع بجوار بئرها.

قبل وفاة العم يو بسرطان البنكرياس عندما كانت في سن المراهقة، كانت ساحة منزله الأمامية هي مكان تجمع الأعمام العاطلين عن العمل في القرية للعب الورق. لقد لعبوا على طاولات مؤقتة، بدون قمصان، ولفائفهم من الجلد الفضفاض بنية ومرقطة. عندما كانت والدتها تعمل بعيدًا، ولم تكن هناك مدرسة، كان يسمح أحيانًا ليزي بإحضار كرسي صغير والجلوس بالقرب منه. ركضت حول الطاولات، تطارد اليعسوب، واستطاعت رؤية أوراقهم وكيف يلعبون كل دور. يقولون "ركزى على دراستك". "اقرأى الكتب. لا تكونى مثلنا." ما زالت تحسب تلك الأيام المشمسة الطويلة - بعيدًا عن مسؤوليات الأعمال المنزلية والواجبات المدرسية، عندما بدا الوقت نفسه وكأنه توقف في مكان ما لتأخذ قيلولة - من بين ذكريات طفولتها الأكثر راحة.

ثم كانت هناك زوجات الأعمام، اللاتي يأتين إلى الطاولات من وقت لآخر ويوجهن الإهانات. كن يطلبن من رجالهن أن يفعلوا شيئًا مفيدًا لمرة واحدة،وفي بعض الأحيان كن تأتين ومعهن مكانس يهددون بوضعها على ظهورهم التي أحرقتها الشمس. ولهذا السبب، ارتبطت أوراق اللعب بالفشل وخيبة الأمل ولم تلمس مجموعة أوراق اللعب حتى الكلية. وهناك، في الفصل الدراسي الأول لها، مرت بمجموعة من طلاب الرياضيات يلعبون لعبة مألوفة في الفناء. "هل ترغبين في الإنضمام إلينا؟" نادى عليها صبي. "لا تقلقى، نحن لا نلعب من أجل المال." انتهى بها الأمر بالفوز بثماني مباريات متتالية في تلك الليلة. قالت وهي تحاول التخلص من انتصاراتها: "حظ المبتدئين". ومع ذلك، بعد ذلك، بدأ نفس زملاء الدراسة الذين تجاهلوها أثناء جلسات مراجعة الامتحانات ينظرون إليها باهتمام مدروس.

كانت هوا تكنس الفناء الأمامي لمنزلهما عندما وصلت. لقد أصبحت الآن امرأة منهكة، عقدية ومتقلبة. عندما رأت ابنتها، أسقطت المكنسة وسارت مرتعشة قليلاً، ممسكة بكم بلوزة يزي الجديدة. في المقابل، أمسكت يزي بمعصم والدتها الآخر. بدا لها أنهما لم يتلامسا إلا بطريقة عابرة ومفاجئة. منذ أن غادرت المنزل في السابعة عشرة من عمرها، كانت تعود في عادة فقط في أيام العطلات، ولم تكن أبدًا مفاجئة.

قالت والدتها، وهي تقصد ذلك كمجاملة:

- لقد أصبحت أكثر بدانة .

ولم تتفاجأ والدتها عندما أخبرتها بالخطوبة، وأصرت على ذبح دجاجة احتفالاً. وعلى العشاء، قامتا بدفع قطع الدجاج بصمت في أوعية بعضهما البعض. في بعض الأحيان، كانت والدتها تتحرك وتذكر خبرا مقتضبًا مثل: "لقد أنجبت ابنة العم ليو ولدين توأمان" أو "إنهم يبنون طريقًا جديدًا خارج منزلنا". أومأت يزى برأسها ردًا على ذلك وأطلقت التعليق المناسب، مدركة أنه مثل المرة الأخيرة، لن تنقل هوا أي آراء أو نصائح أخرى بشأن زواجها الوشيك.

على الأقل لم يعد هناك حديث عن عودتها. قبل ست سنوات، عندما أصبحت أول شخص يذهب إلى الكلية في قريتهم بأكملها، قامت هوا أيضًا بذبح دجاجة للاحتفال. لكن بينما كانتا تأكلان، كانت تترك عيدان تناول الطعام الخاصة بها تتوقف في الهواء وتقول:

"في يوم من الأيام، عندما تريدين العودة إلى هنا، يمكنك ذلك".

شعرت بكلمات والدتها وكأن الماء البارد يُسكب عليها. لقد فكرت، إلى أي مستوى يجب أن أغرق لأعود؟

بالتأكيد، لن يحدث ذلك أبدًا الآن. لقد حشرت نفسها في شقوق تشانغشا، حتى لو وجدت قبحها لا يطاق تقريبًا، وحافلاتها منتفخة ووحشية، وحشود الأجساد تنبض في شوارعها مثل الحشرات. في أسبوعها الأول في الكلية، شاهدت آثار حادث سيارة خارج البوابات الرئيسية للحرم الجامعي. احترقت إحدى لوحات الترخيص وتحولت إلى قشرة سوداء، وكان الإصبع المقطوع ملقى على الحصى. وجدت نفسها غير قادرة على إبعاد عينيها عن النيران التي تلتهم الجثة المعدنية. في ذلك الوقت، اعتقدت أن تشانغشا قد تسحقها، لكن ما فعلته حقًا هو إعادة ترتيبها. جعلتها جديدة. والآن، مع بو، نجحت في تحقيق البقاء هناك، على عكس توقعات والدتها.

ومع ذلك، عندما استعدت للعودة إلى المدينة بعد يومين، حشوت والدتها بيضًا مسلوقًا في حقيبة ظهرها وربتت على خديها، تمامًا كما كانت تفعل في كل مرة ذهبت فيها يزي إلى مدرسة داخلية عندما كانت مراهقة.قالت هوا:

- اعتني بنفسك .تناولى الطعام جيدًا، ونامى جيدًا.

- حسنا . اعتني بنفسك.

قالتا نفس الكلمات لبعضهما البعض عند كل فراق. وعندما استدارت للصعود إلى القطار، شعرت بسيل مفاجئ من الدموع، جعلها تسرع في صعود الدرج، والجلوس على مقعدها، والابتعاد عن النافذة حتى لا تتمكن والدتها من رؤية وجهها من الرصيف. لقد أدركت أنه على الرغم من كل شيء ،كانت والدتها، ولن يهتم بها أحد مثلها بنفس الطريقة. ولا حتى بو.

بعد ظهر ذلك اليوم شاهدت قطارها يمر بسرعة عبر الأراضي الزراعية وواجهات المتاجر الملتصقة ببعضها البعض بواسطة الطرق الموحلة. بعد أن توقف القطار في بلدة لم تتمكن من تمييز اسمها من خلال جهاز الاتصال الداخلي، استولى رجل على السرير المقابل لها، ووضع حقيبة سوداء من القماش الخشن تحت قدميه.كانت الحجرة التي يتقاسمانها، والتي تحتوي على سريرين بطابقين جنبًا إلى جنب، صغيرة بما يكفي بحيث يمكنها شم رائحة العرق والديزل المنبعثين من قميصه الكتاني. قام على الفور بفك أزراره وهو جالس، وكشف عن قميص أبيض بال تحته، كانت أحزمتها ملتصقة بحافة كتفيه الصلبتين، ذات اللون البنى وملساء بسبب العرق. المرأة التي كانت في السرير فوقها لم تتحرك عندما دخل الرجل؛ لقد كانت نائمة كالجثة منذ أن غادر القطار القرية.

سألت ييزي الرجل عن المحطة التي مرا بها للتو فذكر اسم مدينة لم تسمع عنها من قبل.

- إلى أين أنت ذاهبة يا آنسة؟

أخرج علبة سجائر من جيبه وولاعة. قام بحركة بيديه نحوها. هزت رأسها بالنفى .

قالت:

- تشانغشا .

- أنا ذاهب إلى ووهان.

بدأا محادثة حول المكان الذي أتيا منه والمكان الذهابين منه. قامت بتقييم يدي الرجل العريضة وذراعيه السميكتين، والأهلة الداكنة على أظافره. كانت هناك قصص بين صديقاتها عن المنحرفين والملاحقين في الحافلات والقطارات الذين يفعلون أشياء فظيعة مع النساء اللاتي يصرحن بالكثير من المعلومات الشخصية. يمكنه بالتأكيد التغلب عليها إذا أراد ذلك، وخنقها بتلك اليدين. ومع ذلك واصلت المحادثة.

وأوضح الرجل، الذي قدم نفسه على أنه تشانغ دايمين، أنه رجل أعمال. كان يمتلك سلسلة متاجر تبيع منتجات متخصصة من الريف بكميات كبيرة، أشياء مثل التوابل والفواكه المجففة والفول السوداني والصابون المصنوع يدويًا. في ووهان سيفتتح متجرًا جديدًا. استخدم الرجل جسده بالكامل وهو يتحدث، يومئ بسيجارته المتدلية بين أصابعه، واقترب أكثر عندما سألته عن سير العمل. كانت الأعمال مزدهرة. نعم، في الواقع، كانوا يرفعون الأسعار. أحب سكان المدينة الوصول إلى المنتجات الطازجة من المزرعة.

قالت متأملة:

- تصنع والدتي معجون الفاصوليا الحمراء والخضروات المخللة، وأحيانًا أغطية وسائد تُخيط يدويًا. إنها تبيع بضائعها فقط في قرى أخرى - بعيدة سيرًا على الأقدام.

- بالضبط. انظرى، ما أفعله هو ربط العملاء بالبائعين بطريقة أكثر ملاءمة. الجميع يكسب.

ولم تقابل رجل أعمال من قبل. بعد التخرج، تم تعيين كل من اختار التخلي عن المزيد من الدراسة في وحدة عمل. وقد عين الأشخاص غير المحظوظين في وحدات في المدن النائية. تعيش نيا الآن في منطقة جبلية في الجنوب الغربي، تقضي أيامها في محطة فضائية. في المكان الذي عاشت فيه نيا، كان الطعام سيئًا، والناس فظين، وكانت فرص الزواج بالنسبة للمرأة المتعلمة في الجامعة ضئيلة. كانت رسائلها إلى ييزي في البداية مليئة بالاستياء والألم، ثم تحولت في الأشهر الأخيرة إلى الهزيمة. ولكن بغض النظر عن المكان الذي انتهى بهم الأمر، كان جميع زملائها في الفصل يعملون في وظائف روتينية برواتب صغيرة وترقيات غير متكررة. لم يسافر أحد كثيرًا. وحتى مع التغيير الأخير في السياسة الاقتصادية، لم يرغب معظم الناس في المخاطرة بأوعية الأرز الحديدية التي توفرها لهم وحدات عملهم.

لقد كان هذا الرجل في كل مكان. وقال إن سهول منغوليا الداخلية لا نهاية لها. غروب الشمس أشعلها باللون الأحمر، ولم يشعر قط بالوحدة في حياته كلها أكثر مما شعر به وهو ينظر إلى تلك الأرض. كانت جبال قويلين ناعمة ومستديرة، مثل الإبهام. كان الطبق المميز هناك هو القواقع، والتي يجب على المرء دائمًا تناولها مع البيرة الباردة. لقد ذهب إلى تشانغشا أيضًا. كانت هناك سلسلة جبال شهيرة ليست بعيدة عن المدينة، تبدو قممها مثل الصخور التي ترتفع في الهواء. هل كانت كذلك؟

قالت وهي تومئ برأسها:

- لقد سمعت عنها.

كان هذا هو رد فعلها المعتاد كلما أخبرها الناس عن أماكن خيالية لم تزرها من قبل، كما لو أن مجرد معرفتها بوجود مكان ما يقربها منه.

قال:

- اذهب في يوم غائم .الأفضل بعد ليلة ممطرة.

ومضى للحديث عن شنغهاي، رحلته الأخيرة. حسنًا، كانت شنغهاي شيئًا آخر. بقيت الأضواء مضاءة طوال الليل. كان هناك أجانب، أشخاص بيض ذوي رموش شقراء وعيون زرقاء يتجولون في شوارع معينة، إذا كنت تعرف أين تبحث عنهم. . وبينما قال هذا، أدركت أنها طوال الوقت الذي كانت تنظر فيه إلى خرائط أمريكا وكندا، كانت تتخيلها مليئة بالشعب الصيني. كان هناك باحث زائر في الكلية، خلال سنتها الثانية، جاء من ولاية كنتاكي، وكان شعره أشقر ورموشه شقراء. لقد كان يصدمها دائمًا على أنها ضعيفة، وأثيرية تقريبًا. تخيلت أنها في شوارع مليئة بأشخاص يشبهونه. ستشعر وكأنها على كوكب غريب.

غمر الضوء البرتقالي المنبعث من غروب الشمس مقصورتهما وأغرق وجه الرجل. خمنت أنه لا يمكن أن يكون قد تجاوز الثلاثين من عمره ، على الرغم من أن وجهه كان متجعدًا بشكل ناعم وسمرة غير متساوية، وكان على وشك الخراب - ربما بسبب السفر المستمر، والتدخين، والأيام الطويلة التي قضاها تحت الشمس الحارقة، والتفاوض مع المزارعين.

أخبرها أن المكان الذي جاء منه ليس مثل شنغهاي مُطْلَقاً. لقد كان مكانًا صغيرًا في يوهان حيث بدا وكأن الجميع ماتوا قبل أن يكبر أطفالهم، بما في ذلك والديه. لقد بدأ كعامل مهاجر في مصنع للأحذية، حيث كانت وظيفته هي خياطة أجزاء من جلد البقر يدويًا للنعال الداخلية للأحذية. في نهاية المطاف، تسبب مزيج من الحركة المتكررة والمحاليل الكيميائية التي كان عليه استخدامها في فقدان الإحساس في أطراف إصبعيه السبابة والإبهام.

وقال وقد تسللت ابتسامة على شفتيه:

- يمكنني أن أضع ولاعة على إبهامي الآن ولن أشعر بأي شيء .

تخيلت أن رائحة اللحم المحروق تملأ مقصورتهما وجفلت. ومع ذلك وجدت نفسها تقول:

- حقًا. دعنى أرى.

رفع حاجبيه مستغرباً. لكن دون احتجاج، أخرج الولاعة من جيبه ووضعها على الطاولة بينهما. قال وهو يستند إلى وسادته:

- أشعليها.

بدأت بالضحك، لكنها توقفت بعد ذلك. كان يتأملها ولا يبتسم.

كانت تعلم أن التراجع الآن سيكون بمثابة موقف ضعيف ، مثل خسارة مباراة. وصلت ببطء إلى الولاعة ومدت إبهامها على دولابها المعدني الصغير. استغرق الأمر عدة محاولات قبل أن يومض اللهب أخيرًا. انحنى مرتين ومد إبهامه إليها مثل الشمعة. وجدت نفسها مرتين تطلق المفتاح، وتترك الشعلة تنطفئ في الثانية الأخيرة. شعرت بكفها زلقة من العرق. أخيرًا، سند يدها بيده الأخرى، ممسكًا بالولاعة بثبات بينما ترك اللهب يلعق إبهامه السيئ.

ولم يظهر على وجهه أي رد فعل. وبعد بضع ثوان، سحب إبهامه إلى الخلف ونفخ فيه، كما لو كان من أجل الحظ. ابتسم ابتسامة عريضة. يده الأخرى، التي كانت لا تزال ممسكة بيدها، أخرجت أصابعها من الولاعة بلطف وأبعدتها عنها. يمكنها أن تشعر بالنتوءات الصلبة لبشرته تضغط على مفاصل أصابعها.

أخذت يدها في حضنها. ثم ضغطت على الزجاج البارد بخدها، الذي كان مشتعلا بالحرارة حتى أذنها. وقالت إنه قد يكون هناك مرهم ليده. وكانت والدتها تعاني من مشاكل في أصابعها أيضًا بسبب عملها كخياطة. عندما كانت فتاة، شاهدت والدتها وهي تنقع أصابعها في خليط من جذور الزنجبيل المغلية ودهن الخنزير.

من المؤكد أن بو كان سيضحك على هذا الاقتراح. على الرغم من أنه لم يدرس الطب، إلا أنه غالبًا ما كان يتصرف كقناة للمعرفة الطبية الصحيحة ويرفض أي شيء غير علمي. وفيما يتعلق بالآلام والأمراض، كان يجيب عادةً قائلاً: "كان لدى والدي مرضى . . . " أو "كانت والدتي تقول دائمًا . . "

أدركت الآن أنها كانت المرة الأولى التي تفكر فيها في بو منذ فترة طويلة.

قالت:

- يمكنك أيضًا أن تحاول .

قال إن عنده الكثير من دهن الزنجبيل ولحم الخنزير ؛ يمكنه تحضيره بسهولة.

مر رجل بعربة يبيع عبوات صغيرة من الوجبات الخفيفة وألعاب الأطفال.اشترى دايمين كوبًا من الشاي الساخن وشربه بسرعة.وعندما بدأت العربة في التحرك بعيدًا، صرخت للبائع قائلة: "انتظر"، وأشارت إلى مجموعة البطاقات المتنوعة المصطفة بجوار عبوات الرامن (نوع من الحساء).

سألته بعد أن دفعت ثمن طابقين: هل تلعب؟

- بالتأكيد.

- ما هي الألعاب التي تعرفينها؟

- كل الألعاب المعروفة .

فضت الغلاف وخلطت الطابقين معًا. راقبها وهي تتحرك، وعيناه تتحركان من أصابعها إلى وجهها، ثم تتراجعان مرة أخرى. وضع بقايا سيجارته في بقايا الشاي الرطبة.وقال:

- سأجد المزيد من اللاعبين لنا .

عاد برفقة امرأة في منتصف العمر ورجل أصلع قصير اعتقدت في البداية أنهما شقيقان. لقد اشتركا في نفس الظهر المنحني والفك المربع والعينين البارزتين. قاما بضغط أجسادهما في المساحة الفارغة على الأسرة وبدأا على الفور بالتناوب في سحب البطاقات من سطح الطاولة، ولم يبدوا مهتمين بالدردشة باستثناء مشاركة ألقابهما وحقيقة أنهما كانا مسافرين لزيارة ابنتهما في شنتشن.

بدأ الأربعة بألعاب بسيطة يعرفها حتى الأطفال، ثم انتقلوا إلى لعب ألعاب أكثر تعقيدًا تتطلب منهم تشكيل تحالفات. انتصف الليل وأضاءت أضواء الفلورسنت في الأعلى. لعبت هي ودايمين بضع جولات كشركاء في لعبة تسمى تراكتور، وفازا مرتين وخسرا مرة واحدة. كان للزوجين ميزة غير عادلة؛ فقد استطاعت من سرعتهما الماكرة أن تدرك أنهما رجلان كبيران في السن يجيدان اللعب معًا. في نهاية كل لعبة، كان الرجل العجوز يقول دائمًا: "مرحبًا، دعنا نرى ما سيحدث بعد ذلك"، وكانت المرأة العجوز دائمًا تخدش الشامة في الفم بخنصرها وترد:

- قم بخلط الأوراق جيدًا، سوف ترى.

في منتصف الجولة الرابعة، بينما كانت تفكر في البطاقة التي ستلعبها بعد ذلك، شعرت ييزي بشيء يضغط على كاحلها. مقبض. خلسة، نظرت نحو الأرض ورأت أن حذاء دايمين الجلدي كان يلامس كاحلها العاري. عبر الطاولة كانت عيناه الداكنتان مغمضتين، لكنها فهمت. لعبت وفقا لذلك. في المرة التالية كان دورها – اضغط اضغط.

لقد لعبوا بهذه الطريقة حتى نهض الزوجان، بعد سلسلة من الخسائر، اشتكيا من برودة القطار. بعد أن غادرا، التفتت إليه، ورأت أن وجهه، مثل انعكاس صورتها في النافذة، كان شاحبًا ولكنه مشرق من الإثارة.

قالت:

- لقد كنت تغش .

- كنا نغش.

- حسنا عدالة.

- رأيت المرأة تقبض فكيها نحو الرجل. قبضتان سريعتان تعنيان أنها لم تحصل على ما يحتاجه.

هز كتفيه:

- عليك أن تحاكي استراتيجية خصمك.

أشعل سيجارة أخرى.

- في المباريات القليلة الأولى، عندما كنا نلعب بشكل فردي،هل كنت تخسرين عمدًا؟

- ليس من الممتع أن يستمر شخص واحد في الفوز.

ضحك:

- كيف تعلمت اللعب بشكل جيد؟

- من خلال المشاهدة .

وعلى الرغم من توقفهما عن اللعب، إلا أن حذائه كان لا يزال مضغوطًا على كاحلها. لقد انتزع منها ألمًا بطيئًا ودافئًا. وفوقهما تحركت المرأة النائمة، ثم هدأت مرة أخرى. نظرا إلى بعضهما البعض لفترة طويلة.

- يجب أن تنزلى معي في ووهان. سنصل قبل الصباح.

أخرجت من حلقها ضحكة صغيرة ساخرة.

- لا أستطيع أن أفعل ذلك.

- لديك شخص ما بالفعل.

- أعتقد ذلك.

مد يده إلى حقيبته، وأخرج دفترًا صغيرًا، وكتب عليه العنوان ورقم الهاتف. "إذا كنت بحاجة إلى أي شيء،" قال وهو يمزق الصفحة ويمررها على الطاولة. حدقت في التراب تحت أظافره، وتذكرت كيف لاحظت الاتساع الوحشي ليديه عندما جلس لأول مرة. تصورت نفسها وهي تنزل من القطار معه. يمكن أن يذهبا إلى فندق رخيص، حيث يمكنه أن يأخذها على السرير، ويتظاهر باللياقة بطريقة تثيرهما معًا، ثم يذهبان لتناول وجبة من معكرونة السمسم الساخنة والجافة. أو يمكنه استدراجها إلى حديقة نائية واغتصابها وقتلها.

في الصباح استيقظت على المقصورة فارغة. لقد رحل كل من دايمين والمرأة التي كانت تنام في الطابق العلوي.

**

خلال استراحة الغداء التي استمرت لمدة ساعة في وحدة تصنيع أسطح العمل رقم 2 في تشانغشا، كانت النساء في العشرينات من أعمارهن يحببن الجلوس معًا. اليوم، قامت إروين، إحدى زميلات يزي في الكلية، بوضع صينية الطعام الخاصة بها بقوة لدرجة أن بعض حساء الأعشاب البحرية البني تناثر على ياقتها البيضاء.

سألت:

- هل تتذكرين زميلتي في الكلية؟ تلك القصيرة واللطيفة التي تدرس اللغة الروسية؟

عندما أومأت بيزى برأسها، نقرت إروين بلسانها والتفتت إلى النساء الأخريات.

- لقد تقدم رجل يعيش في أمريكا لخطبة زميلتي في الغرفة في الكلية. واستمعن إلى هذا  لقد اختارها من بين مئات الصور في كتابنا السنوي. على حين لم يلتقيا قط.

ثارت هناك ضجة على الطاولة. قال إحدى المحاسبات:

- ماذا؟

وقال أخرى:

- أنت تمزحين. أين في أمريكا؟

- شيكاغو.

حاولت يزى إبقاء صوتها فضوليًا بشكل طفيف فقط.

- لقد قدم عرض الزواج في الرسالة؟

- لقد كتب أنه يبحث عن صديقة. ولكننا جميعا نعرف ماذا يعني ذلك.

- لا أستطيع أن أصدق أن هناك شيئًا جيدًا كهذا تحت السماء!

قالت امرأة أخرى:

- لقد انتقلت ابنة أخت جارتي للتو إلى أمريكا لإكمال دراستها العليا . ما هي الدولة التي تسمى - كان، كان ..

قالت يزي:

- كانساس؟

- ربما. انا لا اتذكر. لكنها تعيش حياة عظيمة. إنها تأكل أفخاذ الدجاج والموز كل يوم. فهي رخيصة هناك وتأتي في أكياس كبيرة.

سألت إحدى المحاسبات الجدد، ذو الوجه المربع:

- إروين، هل سترد عليه صديقتك؟ إذا لم تفعل ذلك، سأفعل أنا .

قالت إروين:

- مستحيل. فكرى في الأمر - الرجل الذي يرسل رسالة كهذه طوال الطريق إلى هنا لا بد أنه يائس للغاية. ومن يعرف ما هي المشاكل التي لديه.

قالت زميلة إروين في المكتب:

- أنت لست مخطئًة. قد يكون غريب الأطوار .

قالت المرأة ذات الوجه المربع بحزن:

- ومع ذلك سأذهب إلى أمريكا لمقابلة شخص غريب الأطوار .

وجدت صعوبة في أن تكون منتجة لبقية اليوم. كلما نظرت عيناها إلى الأرقام الموجودة في ورقة الميزانية أمامها، كانت تتخيل الرجل الأمريكي في مكان أجنبي بأثاث غريب، جالسًا على الأرض، محاطًا بنسخ ونسخ من نفس الرسالة. شعرت بأنها رخيصة ومزعجة. الطريقة التي كتبت بها الرسالة، مع هالتك الأنيقة وابتسامتك اللطيفة، جعلتها تفيض بشعور من الاعتراف والحميمية. طوال هذا الوقت لم تكن تعرف كيف ترد لأنها تخيلت أن لي مين رجل انطوائي لكنه عاطفي للغاية، من النوع الذي يتطلب شجاعة هائلة لكتابة هذا النوع من الرسائل.

في الواقع، ربما كان وحيدًا ويائسًا بشكل مثير للشفقة، كما قالت زميلاتها في العمل. لقد تخيلته وهو يسيل لعابه على صور النساء ويداعب نفسه وهو يتجول بعينيه على وجوههن المبتسمة. ربما اختارها لأنها بدت محتشمة بشكل خاص في صورتها، وحتى خجولة، مما جعلها أكثر إثارة، وهو صندوق سيتعين عليه فتحه. زميلة إيروين في الكلية، والمتلقي الآخر للرسالة (الذي كان يعرف عدد الأشخاص الآخرين الموجودين هناك)، كانت على هذا النحو: لطيفة، معسولة الكلام، ودائمًا ما تعيد تصفيف ضفائرها بعصبية. أو ربما كان ببساطة فضولية بشأن نوع المرأة التي سترد، تمامًا كما كان فضولية بشأن نوع الرجل الذي سيكتب رسالة كهذه.

ثم كان هناك الرجل من القطار. يبدو أنها لم تتوقف عن التفكير فيه للحظة خلال الأسابيع الثلاثة التي تلت عودتها إلى تشانغشا. حتى نفحة من السيجارة الرخيصة التي كان يدخنها، وهي ملقاة في محطة الحافلات،، التي تنطلق في الهواء خارج صالات ماه جونج، وتتدحرج على أجساد الرجال الذين يعملون في مواقع البناء - كانت كافية لجعلها تشعر بهذا الألم البطيء والدافئ مرة أخرى. في بعض الأحيان كانت تجد نفسها تفكر فيه حتى وهي تجلس بجوار بو مباشرة وتناقش حفل زفافهما. لقد أدركت أنها إذا فكرت مليًا في الأمر، فلن تتمكن بعد الآن من التأكد من شكل وجهه. لكنها تذكرت أجزاء مميزة منه بوضوح شديد. وكانت صورة يديه، أو كتفه، ترتفع أمام عينيها كالشبح، بدون داع .

وبسبب أحلام اليقظة، وجدت نفسها بحاجة إلى البقاء في المكتب بعد الساعة العادية، مسرعة لإنهاء مهام اليوم. بحلول الوقت الذي غادرت فيه، كانت مصابيح الشوارع مضاءة ووصلت نحو السماء الأرجوانية المتسعة. ومن دون تفكير، وجدت نفسها تنزل من الحافلة قبل محطة واحدة وتسير إلى محطة الهاتف العمومي.

أدخلت الرقم الذي حفظته وشاهدت السيارات تتدفق بينما رن الهاتف مرة ومرتين. في الرنة الثالثة: -مرحبًا؟ كان الصوت الذكوري على الطرف الآخر مشوهًا، ومشوهًا بالكهرباء الساكنة، لكنه هو صوته بشكل لا لبس فيه.

انتظرت للتسمع . ثم تمكنت من الصراخ:

- مرحبًا.

- من هذا؟

بدا الرجل غير صبور. سلكت حلقها.

قال مرة أخرى:

- مرحبًا؟

- إنها ييزي، من القطار.

- آه؟ من؟

- كنا نلعب ..

قال:

- أعتقد أنك ضربت الرقم الخطأ .

على الرغم من السكون، استطاعت أن تستشعر تراجعًا في صوته. كانت هناك فترة توقف، بالكاد محسوسة، قبل أن يغلق الخط.

رمشت بعينيها، واستدارت ببطء لتنظر إلى الطريق، أولاً إلى أحد الجانبين ثم إلى الجانب الآخر، وكادت أن تعمى بسبب المصابيح الأمامية لسيارة قادمة. أعادت الهاتف إلى جهاز الاستقبال لتلتقط أنفاسها.

عادت إلى المنزل ببطء، متخذة الطريق الطويل، على الرغم من أن موعد العشاء كان قد مر والجوع يلاحقها من الداخل. هل كان قد نسيها حقاً؟ هل كانت دعوته مزحة؟ أو ربما اتصلت به في وقت سيء وكان برفقة امرأة أخرى — زوجة، أو صديقة، أو عشيقة.لمعت أمامها صورة كتفيه البنيتين مرة أخرى، وأغمضت عينيها لفترة وجيزة، وتخيلت نفسها تضغط على الذكرى لأسفل، لأسفل، مثل إسقاط شيء ما في بئر طويل مظلم. الحقيقة هي أنها لم تكن تعرف سبب اتصالها به، بصرف النظر عن معرفة ما إذا كانت ستفعل ذلك بالفعل.

في نهاية هذا الأسبوع، خططت هي وبو للقاء عند النهر، حيث سيضعان اللمسات الأخيرة على قائمة دعوات الزفاف. كان كل شيء يحدث بسرعة كبيرة، فكرت وهي تلف سترة صوفية حول كتفيها بينما كان إعصار صغير من الأوراق المتساقطة يتقافز على ممر المشاة. لقد أدى أسبوع من الأمطار المتواصلة إلى خنق ما تبقى من الصيف، ونزع أوراق الأغصان الرطبة.

وفي طريقها إلى النهر، دلفت إلى المكتبة مرة أخرى. هذه المرة كان هناك رجل في منتصف العمر يسجل في السجل. بقيت الأم وابنتها بالقرب من الكتب المدرسية وأمسكتا بأيدي بعضهما البعض .

وبعد مرورها بقسم الشعر والسير، رأت الشاب في قسم العلوم يقف على سلم صغير محاولا الوصل إلى الرف العلوي.

سألت:

- هل تبيعون المفكرات هنا؟

نظر إليها ثم أمال ذقنه وكأنه يخنق ضحكته.

- لماذا تواصلين البحث عن الأشياء التي لا نبيعها؟

قالت:

- لا أعرف.

لقد تذكرها بعد كل شيء.

- كنت أعتقد أن المكتبات سيكون لديها مفكرات.أليس ذلك هو المعتاد؟

نزل من على سلمه:

- المكتبات تبيع الكتب. لم أر مذكرات أو مفكرات معروضة منذ سنوات. لكن دعيني أرى ما يمكنني فعله من أجلك.

شقا طريقهما عبر عدة أرفف. أخذ حلقة مفاتيح من خطاف على جانب المكتب حيث كان الرجل الأكبر سنا يجلس ويهوى على نفسه بمروحة من الخيزران.

سألت وهى تتبعه:

- هل عملت هنا لسنوات؟

- ست سنوات .

- اعتقدت أنك لا تزال في المدرسة.

- أنا في الكلية الآن، لكن أمي وأبي يمتلكان هذا المكان.

مرا بالكتب المدرسية والمجموعات الشعرية ورفوف الكتب الأجنبية حيث تحدثا آخر مرة. ومنذ ذلك الحين لم تكلف نفسها عناء إخراج مجموعة البطاقات أو الرسالة من حقيبتها. أصبح ثقلهم على جانبها مألوفًا الآن.

- لذا فإن العم العجوز في المقدمة ..

- هذا والدي.

- آه. اعتقدت أنني رأيت تشابها بينكما.

توقفا عند الباب، وكان على الشاب تجربة بعض المفاتيح المختلفة قبل فتحه. وعندما دخل دون أن ينبس ببنت شفة، تبعته، وتركت الباب مفتوحًا. في الداخل، كان هناك مصباح كهربائي مكشوف معلق بسلك معدني، بجوار مروحة بلاستيكية ذات شفرة مفقودة. وبصرف النظر عن أرفف الكتب التي تغطي الجدران من الأرض إلى السقف دون أي تنظيم واضح، كانت هناك أشياء غير متوقعة: جرتان عملاقتان من الطين بشفاه متشققة، وملصق بالحجم الطبيعي لمغنية من جيل والديها، وعربة أطفال زرقاء ذات ألوان باهتة. أنماط هندسية. تساءلت إذا كانت هذه تذكارات من طفولة الشاب، وإذا كانت تعني شيئًا بالنسبة له. كان لديها ذكرى واضحة عن دفع شقيقها في عربة الأطفال على الطرق الترابية في قريتهم، وكانت هي نفسها طفلة فقط، وقدماها العاريتين تطحنان أوراق الشجر الميتة بينما كان شقيقها يضحك فرحًا بالسرعة.

فتح الشاب عدة صناديق. من حين لآخر، كانت عيناه تنزلق نحوها، في البداية عندما ظن أنها لا تنظر، ثم بجرأة، ونظراته الطويلة ترسم الدفء على خديها. وسألها عن نوع المفكرات التي كانت تبحث عنها. وأوضحت أنها تحتاج إلى نوع جديد من المذكرات، مذكرة بسيطة لتصنيف أحداث اليوم، وقوائم المهام، وقوائم البقالة، وما إلى ذلك. يجب أن يكون هناك مساحة كبيرة بين السطور. كان خطه يد كبير إلى حد ما.

لقد رفعا أرجلهما عالياً ليرفعا أنفسهما فوق الجرار العملاقة. وعلى الجانب الآخر منهما كانت هناك متاهة من الأرفف التي لم تترك مساحة كافية لشخصين للانحناء دون أن يطرقا رؤوسهما. سألته ماذا كان يدرس في الكلية. وقال إنه لم يكن متأكدا بعد. وقالت:

- خذ وقتك في الاختيار. ليتني فعلت ذلك.

- ماذا درست أنت ؟

- الرياضيات. على الجانب النظري، وإن كان. لقد كانت عديمة الفائدة مثل الفلسفة.

أخبرها أنه كان مهتمًا بعلم الأحياء، لكنه الآن يفكر في التحول إلى علوم الكمبيوتر. كان يشعر بالقلق من أن الأمر قد يكون صعبًا للغاية. وذكّرته بأن الدرجات ليست كل شيء، فمعظم الأشخاص يُعينون في وحدات العمل الجيدة عن طريق المحسوبية. وحذرت قائلة: "تأكد من أنك لا تنسى ذلك". لقد فوجئت بنبرة صوتها المعقولة والصابرة، كما لو كانت معلمته.

ولم تكن تلك نيتها. لقد رأت أنه كان مرتبكًا بسبب التحول في محادثتهما. نظر بعينيه عبر الغرفة المليئة بالخردة، ويبدو أنه غير متأكد تمامًا مما يجب فعله بنفسه. لقد أوضح تردده مدى حداثة سنه وعدم يقينه أمراً لا لبس فيه، ولكنه كشف أيضًا عن مدى مرونته وشفافيته. مد ذراعيه فوق رأسه بحثًا عن صندوق من الورق المقوى البني على رف علوي، واستطاعت أن ترى الخيط الأزرق والأبيض معلقًا على معصمه، رفيعًا ومحكمًا، وخصلة صغيرة من الشعر الداكن تحت إبطه. ولما أنزل الصندوق ليفتحه وضعت أصابعها على سواره ولم تتحرك حتى خفض رأسه ليُقبّلها .

أثناء التقبيل، مرر يده إلى مؤخرة رقبتها وإلى شعرها وسحبها بلطف. أمالت الحركة رأسها، مما أتاح المجال للسانه الكبير الدافئ للدخول إلى فمها. من أجل الاستمرار في مداعبة بعضهما البعض دون إثارة ضجة، قاما بالمناورة حول أكوام الكتب، والجرار، وعربة الأطفال، حتى وجدا مساحة صغيرة بجوار الحائط. واجه صعوبة في فك حزام تنورتها، فقامت برفعها أعلى خصرها، ومن ثم أستطاع أن يدخل أحد أصابعه فى داخلها على الفور تقريبًا. لقد بعث ذلك في داخلها هزة كبيرة من المتعة، دون أي ألمٍ كانت قد توقعته. أمسكت بمعصمه، ولم تسمح له بتحريك يده بينما كانت تهز وركيها ذهابًا وإيابًا ضده، حتى شعرت بدفء مألوف يتراكم في بطنها. ولكن على عكس ما كانت عليه عندما كانت وحيدة في ظلام غرفة نومها، كان هناك الكثير من عوامل التشتيت هنا: سطوع المصباح العاري يؤذي عينيها، والغبار يجعلها ترغب في العطس. في النهاية أفلتت معصمه. مسح الإصبع الذي كان بداخلها على ساعدها، تاركاً خطاً طويلاً رطباً.

وعندما دفع بالانتفاخ في سرواله نحوها، قالت:

- من الأفضل أن نذهب .

لم يحتج، بل اقترب منها مرة أخرى وقبل شحمة أذنها بخفة، وترددت أنفاسه في كهف أذنها.

أعادا ترتيب ملابسهما المبعثرة. ولم تلحظ إلا بعد خروجهما من الغرفة أنه ما زال يحمل الصندوق الكرتوني. مدّت يدها ورفعت الغطاء. كان بداخله ألعاب أطفال مغبرة: دمية ذات وجه رمادي، وكرة بلاستيكية حمراء صغيرة، وعداد مكسور. لم يكن هناك أي دفتر يوميات في النهاية.

لقد تأخرت عن موعدها مع بو. خارج المكتبة، اخترقت التنهدات النحاسية الصاخبة للحافلات العامة الهواء الخريفي الرقيق، وتدافعت أجسادها على الرصيف. ونظرًا لأن لديهما لوجستيات زفاف مهمة يجب مناقشتها، فلن يكون بو سعيدًا. كان عليها أن توضح لنفسها. خطت بضع خطوات باتجاه النهر وشعرت أنها بحاجة إلى الجلوس.

في مكان قريب كان هناك قماش مشمع أزرق اللون منتشر على الرصيف، يعرض مجموعة متنوعة من الأشياء الرخيصة ذات الإنتاج الضخم: أوعية نحاسية حزينة، وملاعق مشقوقة، وصنادل بلاستيكية وردية اللون. كانت صاحبة هذا الكشك غائبة للحظات، فجلست على الكرسي الصغير الموجود خلف البضائع. وعلى مستوى عينيها كانت ركب الناس تتدفق بجانبها. لقد كانت وجهة نظر غريبة أن تكون منخفضًا جدًا على الأرض. وتساءلت عما إذا كان هذا هو شعور والدتها عندما تأخذ بضائعها إلى الأسواق البعيدة وتفرشها على بطانية ولم يسبق لها أن ذهبت في تلك الرحلات؛ ولم تطلب منها هوا (والتها) ذلك قط. ولكن كلما عادت هوا في وقت متأخر من الليل، وكان ظلها الطويل يصل إلى المدخل قبل جسدها، كانت تبدو دائمًا وكأنها نوع من المغامرات الجريئة. سيكون صرير عربتها غاضبًا وبشعًا، لكن رائحتها ستكون مختلفة وجديدة. كانت يزي تمسح حبات العرق عن جبين أمها بيدها الصغيرة، وكانت تتدحرج على الأرض منتعشة مثل المجوهرات.

- مهلا، هذه هي أغراضي، أيتها اللعينة!

يبدو أن امرأة ترتدي قميصًا أحمر مبهرج ظهرت من العدم واندفعت نحوها.

فأسرعت بالوقوف.تمتمت

- آسفة، آسفة .

نظرت إليها صاحبة القماش من أعلى إلى أسفل بشكل مثير للريبة. كانت في منتصف العمر، قصيرة القامة، ممتلئة الجسم، مثل ثور صغير.

- لقد كنت متعبًة فقط ..

قالت المرأة باقتضاب:

- دعيني أرى أنك لم تسرقى شيئا.

وقبل أن تتمكن من الاحتجاج، مدت المرأة يدها إلى حقيبتها وفتحتها. قامت بلمس أنابيب أحمر الشفاه والمحفظة وكتاب الخرائط قبل أن تشعر بالرضا. سقطت الرسالة واستقرت على مجموعة من أعقاب السجائر القذرة.

قالت المرأة وهي تدفع حقيبتها إلى ذراعيها:

- حسنًا، اذهبي .

عندها فقط انحنت ييزي لالتقاط الرسالة، وهزت المظروف الأرجواني لتنفيضه من الرماد. ربما كانت هناك امرأة أخرى قد استجابت بالفعل لـ (لي مين) وقبلت عرضه بتذكرة ذهاب بلا عودة إلى أمريكا. إذا ذهبت إلى مكتب البريد هذا المساء—هل سيكون الوقت قد فات؟

وقفت المرأة واضعةً يديها على خصرها، وظلت تحدق بها. وتسببت ضجتهما في تركيز أعين المارة عليهما. شعرت بوخز دافئ من الخجل. لا، لا، هذه ليست فرشتي ، أرادت التوضيح. هذه ليست بضاعتي القبيحة والمثيرة للشفقة. ولكن ببطء بدأت تشعر بنوع من الوقاحة. حدقت في الرجال والنساء الذين كانوا يسرعون ، كما لو كانت تتحداهم أن ينظروا إليها. أما نظراتهم، حتى لو توقفت عليها للحظة، فقد كانت تنتقل فورًا إلى مكان آخر، كما لو كانت قطعة معدن تعكس الشمس.

(النهاية)

***

........................

المؤلفة: سيكى ليو/ Siqi Liu: كاتبة أمريكية صينية حاصلة على درجة الماجستير في الفنون الجميلة في القص من ورشة عمل الكتاب في آيوا، وقد فازت بجائزة بوشكارت/ .Pushcart الأدبية. ولدت سيكى ليو في تشانغشا، الصين، وهاجرت إلى ضواحي شيكاغو في سن السابعة وتعيش الآن في مدينة آيوا ومدينة نيويورك.

 

بقلم: اندريا ركسيليس

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

كيف كانت اللغة

يوم ماتت الغزلان،

كنت حية في منزلي.

كنت حية في حقل مائي

من الأنهار الجليدية.

في مملكة غابة البتولا في حنجرتي.

يوم بكت العصافير،

يوم هربت الثعالب من الغابة المحترقة.

كنت حية في عقد من الزمن.

احيانا كان ديني الحلم بمنطقة اخرى.

مكان قبل الأشجار، سابق للهيب.

حين ماتت الغزلان

كنت في منزلي احلم.

ثم حل الجفاف. انقطع الصوت.

نيران بحمرة التفاح

سكنت داخل حنجرتي تهس.

***

......................

اندريا ركسيليس: شاعرة واكاديمية اميركية نشرت اربع مجموعات شعرية وتقوم بتدريس الشعر في ورشة كتاب لايتهاوس في دنفر وتدير برنامج الدراسات العليا بجامعة ريجس.

من الأدب الكردي:

بقلم: رفيق صابر

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

عندما أرادوا

أن يمنعوا عن السنديانة

هواء (كويستان)*

عندما أرادوا أن يقطعوا عنها

مياه الثلوج الجبلية

وأرادوا لها أن تفترق

عن حبيبها

عندما أرادوا اجتثاثها

وراحوا يذبحون ظلالها

بحضرتها

راحت هي تبكي

أوراقها

المتساقطة

حتى ترنحت

وانحنت فوق الأرض

فوق التراب

غارسة أغصانها

وذروتها في الأرض

واضعة قلبها

فوق صخرة

خشناء

وأذابته فوق جذورها

وأغصانها

وذروتها..!

***

..........................

* كويستان: المناطق الجبلية الباردة.

- (رفيق صابر): باحث وشاعر كردي مغترب غزير الإنتاج، ولد عام 1950 في (قلعة دزة)  السليمانية – العراق.

- خريج جامعة بغداد – قسم اللغة الكردية وآدابها.

- حاصل على شهادة الدكتوراه من الأكاديمية العلمية البلغارية 1987.

- قبل بصفة لاجئ في السويد في عام 1989 وأصدر هناك مجلة (رابون).

حاصل على جائزة (كلاس دي فيلري).

- نشر نحو (27) كتابا.

- أصدر مجموعته الشعرية البكر المسماة (الجذوات تتقد) عام 1976، وقد أعيد نشرها في ايران عام 1979.

- ثم أصدر مجموعته الشعرية الثانية المسماة (فيض) عام 1979

- أصدر الاعمال الشعرية التالية: -

احتراق تحت المطر – لندن 1987

لاوك هلبجة – بيروت 1989

مثوى – السويد 1990

وه رزه  به ردينه – المانيا 1992

ديوان رفيق صابر – السويد 1993

المرآة والظل – السويد 1996

ملتقى الضياء – السويد 1997، وأربيل – العراق 1997

- ترجمت أعماله إلى السويدية، الدنماركية، الإنكليزية، العربية، الفارسية، الإستونية، الفرنسية والنرويجية.

- عن (من مشكاة الشعر: قصائد مختارة) للمترجم، أربيل – العراق 2002.

بقلم: كيفن سبايد

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كنت جالسًا في الشرفة الخلفية أقرأ عندما سمعت صوت الدراجة النارية. أول ما سمعتها على الطريق الرئيسي، تئن تحت زقزقة العصافير، ثم سمعتها تبطئ سرعتها، وينخفض أنينها إلى همسة. والآن كانت تنزل في الممر بين الأشجار. وضعت كتابي جانبًا. كانت كارا قد غابت عني ثلاثة أيام. بعد ثلاثة أيام، كنت أرغب في المزيد. وإن حصلت على يوم إضافي، كنت أعلم أنني سأرغب في يومين آخرين. وإن حصلت على يومين، سأرغب في أربعة أيام أخرى. في النهاية، سأصل إلى مرحلة لا أرغب فيها أبدًا برؤية إنسان آخر. الوحدة كانت حلوة وخطيرة، لكنني الآن كنت أُجبَر على العودة إلى ذاتي الأخرى. الكائن الذي أكونه عندما لا أكون وحيدًا. لكنني لم أستطع الاستمرار في التفكير بهذه الطريقة، فلم أفعل.

كان صباحًا ربيعيًا مشمسًا، والزهور البرية تنتشر في كل مكان. تجرأت على الالتفات إلى مقدمة المنزل، الجانب المظلم منه، في اللحظة ذاتها التي انطلقت فيها الدراجة النارية من بين الأشجار. كانت تسحب مقطورة صغيرة تستخدمها كارا في رحلاتها إلى المدينة. وكانت تحمل زوجًا من الدراجات الهوائية مثبتتين على المقطورة. في البداية لم أعرف ما هما. أشياء غريبة. شيء من قصة قديمة. أدوات خيالية لمشاكل لم أكن أعرف بعد أننا نملكها. كنت قد نسيت أن الناس يركبون الدراجات. لم يكن بإمكانك رؤية الطريق من المنزل، وأنا بالكاد أذهب إلى هناك. بعض الأيام بالكاد أجرؤ على الذهاب إلى مقدمة المنزل. الفناء الخلفي كان مملكتي – مسرحًا طبيعيًا من النهر، الأشجار، التلال، العصافير. لم يكن لدي مشكلة مع العصافير. لم يتوقف الأمر عن إدهاشي أن العصافير تستطيع الطيران حقًا. لم أظن أني سأعتاد على ذلك أبدًا. كنت أجلس هناك على الشرفة الخلفية أشاهدها تطير بلا وعي من شجرة إلى أخرى. كانت تتعامل مع الأمر بلا مبالاة مروعة. على أية حال، لم يكن أحد ليصل من ذلك الاتجاه بعجلات.

وحين أدركت ما كنت أنظر إليه، قلت:

- مِن مَن سرقتيهما؟

- من شخص لا تعرفه.

أسندت كارا إحدى الدراجتين على جدار المنزل. ظلت ساكنة بلا حراك. كان طلاء العارضة الخضراء يلمع تحت أشعة الشمس. بدت عجلتاها صلبتين وقويتين ، ومقودها الأنيق وكأنه مُنح إرادة حرة. لقد عرفت رجالًا كانت وجوههم أكثر فراغًا من ذلك. رفعت كارا الدراجة الأخرى عن المقطورة، قفزت فوقها وانطلقت عبر الفناء، نازلة التل باتجاه النهر، ثم استدارت في اللحظة التي كانت ستندفع فيها مباشرة إلى الماء—وكان من شيمها تمامًا أن تفعل ذلك.

أما الدراجة المتكئة على جادر المنزل فكانت تنتظرني هناك. صابرة، غارقة في عالمها الصلب. كنت أعرف كيف أركب الدراجة لكنني لم أفكر أبدًا أن الأمر سيصل إلى ذلك. عندما لمست المقود شعرت بنبضه. أو ربما كان مجرد نبضي يعود إليّ. لا بد أن لدي نبضًا.لم تتراجع الدراجة. ضبطت مقعدها. كان آخر من ركبها ذا ساقين طويلتين. لم تكن ساقاي طويلتين. لكنها لم تكن قصيرة أيضًا. كانت ساقين عاديتين، تسهل إصابتهما بالكدمات، لكنهما أقوى مما قد يتوقعه أحد من مظهري.رفعت إحدى ساقيّ فوق العارضة. بدا الأمر غريبًا، أن أفعل شيئًا كهذا. كأنني شخص يفعل أشياء كهذه. كان الأمر أشبه بأداء معجزة لا معنى لها.

بينما كنا ندوّس صعودًا نحو الطريق، لم تكترث الأشجار على جانبيّ بإخفاء دهشتها. انحنت فوق الدرب، متشابكة الأغصان من فوق كأنها أغنية. تبعتُ كارا. لم أكن أعرف إلى أين نتجه. كان شعورًا رائعًا أن أكون راكبًا دراجة لدرجة أنني لم أهتم بالوجهة طالما أننا لسنا متجهين نحو البلدة. كان الطريق ينهار في بعض الأماكن وتناثرت الصخور من المنحدرات، فكنت أتجنب هذه الفخاخ بحذر. في أحد المواضع، انهارت كمية هائلة من الحطام من التل وأخذت قضمة كبيرة من الطريق. كان المكان قد أصبح مغطى بالشجيرات الشائكة وشتلات الأشجار الصغيرة. أي شخص يأتي من هذا الطريق سيكون مضطرًا للمناورة حول هذا التعدي الفظ على مسار وعر مليء بالحفر يتعرج بين الأشجار. توقفنا ثم سحبنا الدراجات على طول المسار. عندما يأتي المطر سيكون من المستحيل العبور. لم تقل كارا شيئًا عن أي من هذا ولم أقل أنا أيضًا شيئًا.

لم أتذكر آخر مرة سلكت فيها هذا الطريق. قبل سنوات. لكنه الآن مختلف تماماً لدرجة أنني أشعر أنني لم آتِ إلى هنا من قبل. حين سرقتُ دراجة كارا النارية ذات مرة، صعدت إلى التلال لأتمكن من رؤية البحيرة من الأعلى. كان مهماً أن أرى البحيرة بين الحين والآخر، ذلك الامتداد الشاسع الذي يختفي في الضباب. كنت دائماً أسلك الطريق نفسه ولم أقابل أحداً قط. أما هذا الطريق فكان أكثر عرضة لحركة المرور. لكن اليوم، لم نرَ أحداً. تقدّمت كارا بالدراجة أمامي وتبعتها. بدأت رئتاي تحترقان بالفعل. كانت الأشجار كثيفة ومظلمة، تتآمر أوراقها الخضراء الداكنة ضد السماء، وكان الطريق مغطىً بالأغصان الصغيرة والفروع المتساقطة. حيث سقطت أشجار كاملة عبر الطريق، قام أحدهم بقطعها وإزالتها بالمنشار. تساءلت إن كانت كارا نفسها من فعلت ذلك. يوماً ما، ستبتلع الغابة هذا الطريق.

توقفت كارا وأسندت دراجتها إلى شجرة. كان جدول ماء يندفع من التلال، ماراً بقناة تحت الطريق متجهاً نحو البحيرة. لم أتمكن من رؤية البحيرة عبر الأشجار لكنني علمت أنها هناك. كل تلك المياه كانت تملك جاذبية، قوة جذب. حين كانت العواصف تجرد الأشجار من أوراقها في الخريف، كنت تراها من هنا. لم تكن بعيدة. أسندت دراجتي إلى دراجتها، وتركنا الدراجتين خلفنا وبدأنا نصعد الوادي.

في البداية، استطعنا السير بجانب الجدول على الأوراق الميتة من العام الماضي، بينما ارتفعت جوانب الوادي بشدة على كلا الجانبين. لكنه ضاق بعد ذلك فسرنا في الماء البارد ونحن نرتدي أحذيتنا. كانت هناك صخور ضخمة، أكبر من بيوت صغيرة، قد انتفخت وسط الجدول. قالت كارا إنها ترسّبت هناك بفعل الأنهار الجليدية، تلك نفسها التي حفرت شكل البحيرات قبل عشرة آلاف عام. كنت قد سمعت هذه الحكاية كثيرًا، لكنني كنت أجد صعوبة في تصديقها.  لم أستطع التوقف عن التساؤل عما كان هنا قبل التلال والبحيرات. هل كانت هناك أشجار مليئة بالطيور والحشرات والديدان المتدلية على خيوط؟ هل كانت هناك نساء بشعور طويلة ووجوه مليئة بالندوب؟ هل كانت هناك نساء بشعور قصيرة ووشوم؟ ماذا كان هنا قبل أن تزحف الأنهار الجليدية وتنظّفه وتلقي بهذه الصخور العملاقة؟

أصيبت قدماي بالخدر كنت أكره البرد، طبعًا، وكان مجرد التفكير في البرد يمكن أن يثير في نفسي الرعب، لكنني كنت أعلم أنه لن يدوم لأشهر. كان بردًا نقيًّا. أحرق البرد قدمي. كان قاع الجدول حاداً مليئاً بالصخور والحطام، وأحياناً كنا نمسك بأيدي بعضنا لنحافظ على توازننا، كوحش ضخم بأربعة أرجل ورأسين يتسلل صعوداً في الوادي. كانت يد كارا خشنة وقوية، وكنت أعلم أنها كانت قادرة على نزع ذراعي من مكانها. ثم وصلنا إلى شلال. كان أطول منا مجتمعين، واضطررنا لتسلق حافة جافة ضيقة على جانبه. انهار الصخر الزيتي المفكك تحت أقدامنا، لكن التسلق كان سهلاً. لو لم يكن سهلاً لما فعلته. كنت أفعل العديد من الأشياء الصعبة، مثل إصلاح الأحذية أو قطع رؤوس دجاجات كنت أعرفها جيداً، وكتابة القصائد، لكنني لم أفعل الأشياء الصعبة دون سبب.

مدت كارا يدها من قمة الشلال وسحبتني إلى الأعلى، متذمرة من أن وزني لا يزيد عن وزن طفل جائع.

كانت فترة ما بعد الظهيرة حارة، لكننا كنا الآن مبتلين تحت الظل البارد العميق للأشجار. كان الجدول يجري بانسياب فوق الشلال، وقاعه أملس وزلق. أملس كصحن قديم . جعلت كارا كفيها على شكل كوب وشربت من الماء. كانت الأشجار الطويلة تحوم فوقنا، تراقبنا بفضول لا نهائي.

تبعنا الجدول حول منعطف منحدر، حيث كان الماء ينساب على جانب واحد منه، بينما كان الجانب الآخر جافاً وأبيض تحت الشمس. جلستُ على صخرة مسطحة تحت الشمس، وأرخيت جسدي كي تتسلل الحرارة إلى عظامي. حرارة الشمس. طاقة قادمة من الفضاء الخارجي تُبقيني على قيد الحياة. تمدّدت تمامًا، فضحكت كارا. قالت:

- انهض، لقد كدنا نصل.

- دعيني أستلقي هنا دقيقة .

- انهض، يا رجل .

- خمس دقائق أخرى.

حدّقتُ إلى الأعلى، إلى الأشجار، ولثوانٍ معدودة بدا من الصعب أن أصدق أن هناك شيئًا آخر موجود. لا منازل محترقة منتشرة على الأرض، ولا أطفال يتسللون في الغابة. اختفت بلدتنا المليئة بالمجانين الصارخين، وأُغلِق على المغتصبين في صناديق. استلقيت على ظهري وأخمص يدي وقدمي ملتصقة بالصخرة الدافئة. أغمضت عيني ولم أتحرك. قلت:

- أنا هنا تمامًا. لستُ في أي مكان آخر.

ضحكت كارا مرة أخرى واستلقت بجانبي. بقينا هناك لفترة طويلة، نتنفس.

(انتهت)

***

........................

الكاتب: كيفن سبايد/ Kevin Spaide: كيفن سبايد من أوبورن، نيويورك. ظهرت قصصه في عدد من الأماكن، وكان أحدثها في مجلة FRiGG. يعيش في مدريد مع زوجته وابنه.

رابط القصة على: FRiGG

https://www.friggmagazine.com/issuesixtythree/fiction/spaide/stream.htm

نصوصُ وقصائد هولندية Remco Campert للشّاعر، عُني بترجمتها إلى العربيّة الأب يوسف جزراوي

 ***

* في أمستردام

كنتُ متأكدًا مِن أنّني أفتقدُ شيئًا مَا/ لم أستطع تحديده/ هكذا نسيتهُ وأنا أسيرُ في شارع امستردام/ مدينتي التي لا تُغلق أبدًا/ تعيشُ الليل كما النهارِ/ في أزقةِ المدينة/ أشعرُ بالحرمان مِن شيءٍ مَا تسلل إليّ وملأني شوقًا لشيءٍ شعرتُ أنّني فقدته وبتًُ أفتقدهُ.

أفقتقدُ هذا المبنى الامستردامي وزخارفه الخاصّة بالاراضي المنخفضة/ إنّه متحف ريجغس/ لقد كان يختزن روعة الأمسِ/ بدون الماضي لا يصمد حاضرنا/ نحن فارغون وبلا شكل/ ووجودنا أقصر عُمرًا مِن وجود البناية/ الذي يدوم أطول/ الممتد نحو الأبدية/ كانَ هذا المبنى رمزًا للأبدية/ لكن المدخل كان مغلقًا/ والباب كان مغلقًا، وهذه المدينة/ هذه الأرض المنخفضة، هذه الشّعبُ، جميعها لم تعد تنفتح، بل أصبحت معزولة عن ماضيها/ الآن وقد عرفتُ مَا فاتني في ربيعٍ جديد.

 **

* نصٌ وجودي

على طولِ المياه العميقة الطويلة/ خلف الأدغال المحترقة بِالشمس/ كنتُ أظن أنكِ دائمًة، ولكن دائمًا أن عينيكِ كالنسيمِ/ ودائمًا يهتز الماء قُبالة صمت مرتجف منكِ/ ظننتُ السعادة تدوم/ لكن بكاء طائركِ ظهرًا اماء الماء ذكرني بلون بشرتكِ/ أنتِ دائمًا معي.

 **

 * بسرعة قبل أن أنسى:

في السيارة مع صديقي/ أكتبُ بسرعة عبر ترحالنا في فصول أمريكا/ شمسٌ رطبة/ لكن في مدينة القديسة باربارا ثلوجٌ ساقطةٌ/ في الليل ضوء التلفاز الوامض على وجهها الجميل النائم/ مدينة تبدو أنها عادت فتاةٌ صغيرةٌ مِن جديد/ عندما أرحل عن مدن/ أكلتُ فيها مع صديقي/ تقاسمنا الخبز واللحم معًا/ تحدثنا/ عانقنا بعضنا وداعًا/ مع أننا ما زلنا نضحك/ ماذا عسانا أن نفعل غير ذلك/ تجوال لن يبقى منه سوى الكلمات/ إنّها تُذكّرني بشيءٍ ما/ لم تعد عينٌ تعرفه إلا القلم الذي كتبه.

 * في ليل ريفي باردٌ

يا لهُ مِن حشدٍ غريب/ حدث شيء ما!/ إنّه تسوّق في وقت متأخرٍ مِن الليل!!. أشعرُ بالخوف الشديد في الداخل/ مددتُ رأسي من النافذة وتفحصت الشارع/ المشي والقراءة في الشارع/ لم تعد مجديّة كثيرًا/ بينما حركة المرور مزدحمة/ تأتي موسيقى الراديو من نافذة مفتوحة/ في الشرفة فتاة ترتدي فستانًا جديدًا/ كما تمر بجانبي وعن قربٍ سيدة تروض حصانها/ الفتاة الريفية تنظر إليّ/ فهل أقول لها الكتاب الذي أقرأه اسمهُ "أنتِ" وقد نُشر مؤخرًا عنكِ.

**

 * عدتُ إلى بيت أمي بدونها.

 قضيتُ ليلةً على نهر ويترينغشانز في البيت المتهدم

محرومٌ إلى الأبد من رؤيتها

من الآخرة يتردد صوتها مجددًا:

"ريمكو، ماذا تفعل في بيتي؟"

سؤالٌ رافقني منذ ولادتي

ماذا كنت أفعل في بيت أمي؟

أرى أن في غرفتها الفارغة

لا يزال دليل السفر المشمس

وكيف، مُغلفًا بضبابٍ ناعم.

عبر مياه بحيرة غاردا الطويلة والعميقة

وحدي يسير بي القارب الصغير

الذي أبحرنا فيه يومًا

لنرى، على سبيل المثال،

هل لا يزال لإيليونورا دوزي مكانًا في خزانة التحف في منزل دانونزيو؟

**

في الفندقِ

يا حلوتي

فكرتُ فيكِ على جزيرة هاجمتها العاصفة

أدخن سيجارتي وأفكر في الطريق بين قارتين..

غادرتُ قبل وصول الفيضاناتِ

أود أن أخبركِ حركة دفاعي مختلفة تمامًا عني ...!

 أدخنُ وأكتبُ عن فكرة

جالسة بلا حراك في العش الغريب من عقلي..

كلما أحاول كتابتها

نبتت لها أجنحة.

 

بقلم: سونيا يوريكوفا

ترجمة: صالح الرزوق

***

عاد ولداي إلى البيت من المدرسة، وكان لديهما واجب منزلي مزعج عن الحلزونات. طبعا لم يعبرا عن امتعاضهما، ولكن تكلمت عن الموضوع مع دانو ونحن في السرير في تلك الليلة، واتفقنا أنه من الأفضل أن لا تفرض المدرسة عليهما واجبات منزلية. أحب الولدان الواجب، لأنهما اعتقدا أنني سأطلب حلزونات إفريقية لهذه الغاية، وسيحتفظان بها كحيوانات أليفة في المنزل. وبحثا في غوغل مع رفاق المدرسة عن الحلزونات الإفريقية وتبين لهم أنها تعيش على فراش من قشور جوز الهند ولا ينمو لها شعر. يا له من شيء عجيب.

كانت الوظيفة: "اقرأ مقالة علمية عن الحلزونات بمشاركة أبويك، وسجل أهم الحقائق، في دفتر الواجبات المنزلية، وارسم بعض الصور بعد الكتابة".

في البداية طلبت منهما ترتيب أشيائهما، فقد كان لدينا أطنان من الحلزونات في حديقتنا، ويمكنهما كتابة قصة طويلة - رغم أنهما في الصف الثاني فقط، وكتابتهما تقريبا دون أخطاء، وبالأخص نينا. ولكن تذكر ميشو أنني في الصيف الماضي علمتهما كيف يرشان الملح على الحلزونات، وقال إنه سيكتب قصة عن ذلك، ليقرأها معلم النشاطات البيتية.

لم يكن لدي خيار حينما كنت صغيرة. ما أن أمكنني المشي قدموا لي طبقا من الملح وأرسلوني إلى حقل الملفوف لقتل الأشياء التي نسميها حلزونات. لم يهتم أحد بالجنس والنوع، البزاق هو الحلزون الذي يهدد بالتهام المحصول. جلست القرفصاء بين الصفوف، حملت بعض الملح بأصابعي الصغيرة، وسكبته على دستة من الأجسام المخاطية. ارتجفت البزاقات وأصبحت سوداء، وسال المخاط منها. تابعت على طول صفوف الخضار حتى حل الظلام. ولكن حصلت على توبيخ لأنني وطأت على الكرنب، ثم غسلت يدي، وذهبت إلى السرير. 

والآن أصبحت الحلزونات وظيفة منزلية. لم يتمكن الولدان من الامتناع عن الكلام عنها وهما على طاولة الغداء، واستولت على ميشو بالأخص فكرة أن يمتلك حيوانا أليفا. وحينما نبهتهما أنها تترك وراءها خطا مخاطيا، رفع موبايله بوجهي قائلا: "الحلزونات الإفريقية لا تفعل ذلك".

"لماذا تجر حلزونا من قارة أخرى ولديك حديقة ممتلئة بالحلزونات؟".

أجاب: "فتشت ولم أجدها. ليس لدينا حلزونات لأنك طلبت منا رش الملح عليها في العام الماضي". في الحقيقة أزعجني ذلك. قلت له ما بين الهزل والجد أن الاحتفاظ بحلزون جنون وليس من محاسن الأخلاق أن تقتلع حلزونا من إفريقيا إرضاء لنزواتك.  انكفأ ميشو على نفسه، ولكن والحمد لله آزرني دانو، فأرسله إلى غرفته، وبقي غداؤه على الطاولة دون أن يأكله.

احتفظت نينا بهدوئها، وحينما حملت طبقها إلى المغسلة، قلت من فوق صحن السلطة: "غدا بعد المدرسة سنذهب إلى المكتبة ونبحث عن كتب عن الحلزونات".

وعندما أسرعت إلى ميشو لتنقل له الخبر، نظر لي دانو كأنني فقدت عقلي، وقال لي: لماذا لا نكتفي بالبحث عن شيء في الإنترنت، ونشاهد فيلما تعليميا عن الموضوع.

قلت له منهكة: "لا تزعجني أنت أيضا".

***

إن لم يأخذ الولدان عني أي شيء، ورثا حبي للكتب. حينما ذهبنا إلى قسم الأطفال في مكتبة المدينة، التفت تلقائيا نحو الموجودات. في طفولتي كنت أقرأ الكتاب بعد الآخر، أحمل معي عشر كتب وأعيدها بعد يومين،  ثم أغزو بقية الرف، وفي الأسبوع التالي، أتابع باتجاه الرف الآخر.  حينها حفظ موظفو المكتبة اسمي. في هذه الأيام يعاملوننا مثل زوار دائمين، ولكن الفرقأنه حل محل السيدات ذوات النظارات الثقيلة في قسم الأطفال شاب في بواكير العشرينات وبشعر خفيف أجعد. وكنت متأكدة أنه بعد انصرافنا كان يمارس العادة السرية. لم يترك لدينا الانطباع أنه غريب أو مغتصب للأولاد، ليس ذلك، ولكن توقعت أنه يستغل كل فرصة: حالما يغادر آخر طفل، ويترك وراءه عطره، عطر أمه المثير جنسيا، يكون قد بقي للإغلاق خمس دقائق، والكتب مرتبة على المنضدة، وبالحال يباشر وبسرعة.  

قلت له: "أبحث عن الحلزونات؟ هل يمكن أخذ نظرة".

انحني قليلا، وسبقني إلى الموسوعات. جلس الأولاد في قسم المطالعة، متوترين من الانتظار. اختارت نينا قصة عن سندريلا، ولا  أعلم ماذا يجذبها إليها، أحيانا تنظر فقط لملابس الأميرات، مع أن معظم الصور، حرفيا، تؤلم عيني. وطالع ميشو دليل لعبة حقل الألغام، ومع أنني أود أن أوجههم نحو الغاية التي أتينا من أجلها، احتفظت بهدوئي وابتسمت لموظف المكتبة. ولكن كان الأفضل أن يسرعوا بنسيان الحلزونات الحية. 

كانت موسوعات الأطفال على الرف السفلي، وهي منهكة، ومفككة، ومن الواضح أنه في عصر الإنترنت لم يبحث أحد منذ مدة طويلة فيها. ولكن كان الموظف واثقا من نفسه، ولم يسحب كتابا بعد الآخر، ومد يده إلى المجلدات السميكة وهو يقول اللعنة .. آه.. هل يوجد فيها شيء من ذلك. كنت بجانبه ولاحظت كتفيه العريضين وعضلاته البارزة من تحت قميصه الرقيق. تسارعت دقات قلبي، وارتجفت، ثم تنهدت بعمق لأغطي انفعالي. انحنى وظهره نحوي وقاطع تنهيدتي قائلا مع ضحكة عصبية: "آسف. استغرقت وقتا طويلا. الحقيقة أنني لست غوغل".

ذهنيا تنهدت. كان غبيا مع أن ظهره عريض. والشكر لله. ولذلك لم يتوجب علي التفكير به - لا الآن ولا إذا أويت إلى السرير ولا في أي وقت آخر.

قلت وأنا أزفر مجددا وأهوي نفسي: "الجو حار هنا". وقف ومعه عدة كتب، وبدأ يشرح لي سبب توقف المكيف عن العمل في هذا المكان، ولكن بالنتيجة قررت أنني لن أهجر دانو من أجله، وتحركنا إلى الطاولة.

قال ميشو باهتمام وهو مشغول بكتابه: "انظري ماما. هنا طريقة لبناء بيت بشكل الحلزون".

"تقصد بشكل قوقعة الحلزون، أليس كذلك؟".

"كلا. الحلزون كله".

كان في الدليل تعليمات عملية لبناء أشياء بأشكال حيوانات مختلفة. النوم في سن النمر!. انظروا إلى حقل الألغام بعين زرافة!. ابن حديقة في مؤخرة فيل!. وكنت أنا أود النوم في المكتبة مع موظف شاب - أين دليل هذه الرغبة؟. 

قلت بصوت مبحوح حينما ترك ميشو الدليل وارتمى على الموسوعات: "هيا وابن شيئا. ما دمت دائما تلعب لعبة حقل الألغام". أحيانا كنت أود أن يفعل الأولاد ذلك عمدا.

انضمت إلينا نينا. جلست بتهذيب على كرسي. ورتبت تنورتها بمهارة وعلى نحو طبيعي. نظرت إلى  الصفحات التي يعرضها الموظف، ومررت أصبعها على طول السطور وهي تقرأ: "الحلزونات حيوانات أليفة مناسبة لأطفال مصابين بالتحسس".

قلت بنغمة خفيفة حينما شاهدت فرحتها: "كلاكما لا يشكو من أي تحسس".

بالعادة كلما أزعجوني بهذا الموضوع أقول أنا المصابة بالتحسس. ولكن سبقني الموظف، وأعلن أنه يكره شعر الحيوانات وربما يفضل الحلزون وسيقتني حلزونا. واقترح الولدان أن يبني بيتا له قلعة من البلاستيك حولها خندق تعوم فيه دمى بشكل التماسيح.

مكثنا قرابة ساعة، ونسخنا عدة صفحات من الموسوعة، وحمل الأولاد إلى البيت بعض الكتب الجديدة. أودعت على الرف عدة عناوين، وتابع الموظف وأودع البقية. وابتسم لي. وأصابني ذلك بالخدر والدوار حتى حان وقت النوم.

***

كانت يوميات ما بعد الدوام من اختراع معلمة الواجبات المنزلية النشيطة، اسمها إميليا. ولكن يناديها الولدان ميلكا. وكانا يناديانها بصوت كخوار البقر، فتأتي لتنضم لهما. كنت أعترض على فلسفتها في الحياة، ولكن لم أعلن ذلك بصوت مسموع، لأنها كانت ذات كفاءة -  وكانت إذا تأخر الآباء تنتظر مع الأولاد ساعات وساعات.

جاء دانو يوم الجمعة ليقلني من مكتبي، وقمنا بشراء البقالة، ثم وقف أمام المدرسة.

قلت له: "اذهب. مزاجي لا يساعدني على ملاقاتها".

كانت ميلكا تنتظر في الخارج مع الولدين وتساعدهما على حزم الحقائب، وتصنع إشارات واسعة بذراعيها، وتلوح لنا. وعندما ركضت نينا مع ميشو نحو أصدقائهما، تابعت توضيح شيء ما لدانو بانفعال شديد. ابتسم لها فقط وفهمت أنه يوافقها بتهذيب. واحتفظ بابتسامته لنفسه لوقت إضافي، وحالما غاب الولدان ابتلعها.  بل أنا مخطئة  ما أن أصبحا في السيارة، اختفت ابتسامته.

"لديكما خطط للعطلة".

صاحت نينا: "سنذهب إلى ال...". ولكنها لم تعرف الكلمة.

قال ميشو: "معرض التيراريوم".

"تيراريوم.. ويمكن أن نشتري منه أشياء كثيرة".

"أبدا. كلا".

امتعضت حقا. غالبا بسبب الصياح المتبادل، وكان دانو يشتم بقية السائقين، مع أنه كان نفسه يعوي عند إشارة مرور حمراء كالمأفون، كما لو أنه لم ينتبه لما يدور حوله.

توقفنا، وسمحنا لحافلة بالمرور. رأيت امرأة عند موقف الحافلة. كانت تكافح مع طفل ألقى نفسه على الأرض والمخاط يسيل من أنفه. ورأيت الانتفاخات تحت عينيها تكبر وتجاعيدها تزداد بوقت قياسي. كانت صدمة. أطلقت الحافلة المنبه، وتحركت السيارات، وانتقلت الصور أمام النافذة إلى حشود تحمل الأكياس البلاستيكية، ومزيد من السيارات، وأضواء إشارات المرور.

قلت ببطء: "سنذهب. وستشاهدان الحلزونات، وسنناقش سلوكها، ولكن لن أشتري لكما أي شيء. الاهتمام بشخص ليس نزهة في حديقة".

صحح لي دانو "الاهتمام بشيء". وتبادلنا النظرات. ثم أعلن أنه غير قادر على مرافقتنا، لأن أحد زملائه طلب معونته في الانتقال. لم أعترض. وضعت رأسي على الزجاج وأصغيت لثرثرة نينا المتواصلة عما فعلاه في حصة الرشاقة.

في وقت لاحق من اليوم انتابت ميشو حالة عصبية، لأن كيفن، وهو طفل يجلس بجانبه في المدرسة، امتلك عائلة كاملة من الحلزونات في بيته، وتابع إرسال الصور إلى ميشو. حلزونات على يده، على رأسه، في طبق، مع فلاتر مختلفة ولصاقات الأبطال الخارقين. حاولت أن أوضح لميشو أنه لا حكمة من الغضب، فهو لن يحصل على أي حلزون ما لم يحسن سلوكه، وإذا كان لا يزال مهتما بها بعد المعرض، يمكنه أن يؤدي واجبه بامتياز حتى من دون وجود حلزونات في البيت. حملنا المقالات من المكتبة، ووجدت بسرعة في الإنترنت تعليمات عن تأليف مقالة عن الحلزونات، وأسعد ذلك نينا، وجلست هادئة بينما واصل ميشو البكاء وركل الوسادة.

بعد قليل توقعت أنه هدأ، فقد ذهب إلى غرفته ولزم الصمت. عاد دانو من غرفة الولدين في وقت النوم وفي يده حفنة نتف ممزقة من النسخ التي صورناها في المكتبة.

***

قال لي دانو في تلك الليلة ونحن في الحمام: "أود أن أحصل لهم على حلزون".

"إذا أنت تقول أنني أنا من تعارض؟".

قال ضاحكا: "هكذا على ما يبدو. انظري. إما أن يضجروا منه بسرعة، أو أن يهتموا به حقا".

جلست على طرف الحوض منهكة، ودهنت وجهي بالمطريات. كانت لها رائحة الشامبو الذي استعملته عائلتي في أول رحلة إلى إيطاليا. وحملني عبيره إلى الماضي بسرعة مخيفة.

"كيف وصلت هذه العائلة إلى حصر كلامها كله على الحلزونات، وسأمضي يوم السبت بحثا عن تيراريوم؟. حتى أنني لا أعرف ما هي وظائف البقية".

قال وهو يدس فرشاة أسنان في فمه: "لاحظي أننا لا نتكلم إلا عن الحلزونات". وتابعنا الكلام حتى الواحدة صباحا تقريبا عن الكتب وعن أمور اطلعنا عليها في الإنترنت، وعن الفيلم الذي سنشاهده يوم الأحد. إذا وجدنا من يجالس ميشو ونينا. ثم غلبنا النوم.

منذ فترة طويلة أحضرت إلى المدرسة مقالة عن الأعضاء الذكرية، مطبوعة على الطابعة الكاتبة، وقد وجدتها في أحد دفاتر الوالدة القديمة. لم أفهمها أبدا، وكانت تتكلم عن الطول المتوسط في وضع الراحة، ثم خلال الإثارة، وتضمنت إحصائيات عن فترة الانتصاب شملت أوروبا، ومن ضمنها سلوفاكيا. لم أكن أعلم ما هو الجماع، ولكن أخذت المقالة إلى  الصف، وحاولت مع صديقاتي حل هذا اللغز في الاستراحة. ولا أتذكر كيف سمعت المعلمة بالمقالة، وثرثرت معها حول الموضوع بغباء،  ولكنها أخبرت والدي، إنما لم أتعرض لمشكلة، لأنهما يعلمان من أين جاءت المقالة.

فكرت بذلك في طريقنا إلى المكتبة، ولم نكن متعجلين، مع أنها تفتح أيام السبت حتى الظهيرة فقط. وتخيلت كيف ستتصرف ميلكا إذا أحضروا لها نصا مشابها. ربما ستمتدحهم وتبين لهم التشابه بين الحلزون والعضو. 

"أسرعي يا أمي. وإلا باعوا الحلزونات".

كنت متعبة ومضعضعة في ذلك الصباح، وتوجب علي أن أعد ميشو أننا لن نغادر المعرض بيد فارغة، وصليت لله أن يكتفي بسمكة غوبي. تسكعت نينا بمرح وراءنا، وهي تنظر للحجارة على طرف الطريق، وبعد كل عدة دقائق تلتقط إحداها وتتأملها.

وانفصل عني الولدان في المكتبة، وبقيت لأفسر سبب عودتنا. ضحك الموظف، في إحدى المرات في طفولته أصابته نوبة عصبية فقطع سلك التلفزيون. قلت لأنني علمت أنه لم يفهم ما أقول: "لديك حكاية عن كل شيء".

قال من وراء آلة التصوير: "أنت محظوظة بعودتك، لأننا سنغلق قريبا بسبب مناسبة خاصة، سيسجلون شريط فيديو هنا".

"أحاول أن لا يفوتنا معرض التيراريوم".

انتصبت أذناه. فقد سمع بالمعرض، وأين يعقد، وكذلك ساعات الافتتاح.

"اعلمي أنني أنفقت بعض الوقت أهتم بالحلزونات، وكانت تبدو - كيف أعبر عن ذلك - مهدئة. لم أمتلك قطة ولا كلبا، ولكن بوسعي احتمال حلزون".

قبل أن ينهي عبارته تكهنت أنه سيكوم نفسه في سيارتي، ويروي لي قصصه المربكة، ويعد السيارات الحمراء والزرقاء مع الولدين، ومع أنه لن يرتاح في مقعده لن يغير وضعه، وسيبقى عطره في السيارة طيلة أسبوع. ولكن إذا كذبت عليه، وقلت له أن دانو سيرافقنا، ولدينا في السيارة مقعدان خلفيان، سيقول كلا.

سأله ميشو: "عن أي حلزون أنت تتكلم؟ الإفريقي؟".

قلت مباشرة: "أنه التصوير وسنكون بانتظارك في الخارج".  وتوقعت أن محادثة أخرى ستبدأ عن أفضل أنواع الحلزونات - النوع الإفريقي أم حلزون الحدائق - وبعدها سأحزم حقائبي وأسافر إلى الجهة الأخرى من العالم. 

***

تجولت في صالة المعرض كالمسرنمة - كان هناك دمدمة متواصلة، وخرير مياه، ونافورات تلفظ الماء، وأضواء نيون تطن، وجداجد تصفر.  في السيارة عرف الموظف باسمه وهو أندريا، ولكن تابعنا الكلام بالرسميات. ولصق بنا، وتبين أنه مفيد لنا، فقد كان يرد على أسئلة الولدين، وحين لا يعرف جوابا، يحاول تسليتهما أو أن يجد الجواب عند البائعين والمربين. شاهدت حرباء تقترب من جدجد. أخرجت لسانها قليلا، ثم أطلقته، ثم لم يبق غير سيقان الحشرة خارج فم الحرباء. لفظتها وذهبت للبحث عن الفريسة التالية.

قالت البائعة وهي تقرب التيراريوم بوصة مني: "إذا أردت أن تشعري أنك تعيشين في مرج صيفي، اشتريها، معها خمسون جدجدا بالمجان". إذا فعلت ذلك مع عشرين شخصا، ستنفد كل الطاولة. تابعت المشي قليلا، ونظرت إلى الخلف. التقطت المرأة التيراريوم وأعادتها. بحركة ماهرة.

كانت الحيوانات هادئة، لم أخف من العناكب، ولا السحالي الكبيرة كالإغوانا وكانت الضبيات تسحرني. ولكن بدأ ولداي يزعقان لأنني حاولت توجيههما نحو الأسماك. ثم لوح أندريا بيده ليعلن أنه وجد الحلزونات. 

اشترينا اثنين، أحدهما لميشو بجسم داكن وقوقعة بنية، والثاني لنينا بلون خفيف ومخطط بخطوط مثل القهوة بالحليب.  وضعت حجارة في قاع التيراريوم، وكان لديها جزدان مليء بالحصى.

قال المربي مع ابتسامة: "ستحصلين على لسان البحر مجانا". ضحكت لكلامه. وضحكت لي نينا، وحضنت خصري، وانضم إلينا ميشو. وضعا الحلزونين على راحتي يديهما، وقال البائع إنهما قد يعيشان سبع سنوات.

وأضاف: "وفي الطبيعة قد يعيشان عشر سنوات".

سألت أندريا وهو يعينني بوضع حلزوني  التيراريوم في السيارة: "وماذا عنك؟  لا أعتقد أنك ستشتري شيئا؟"  تركنا الولدين في الداخل، وهما يشاهدان إطعام الثعبان وجبته.

قال بجدية: "كنت أفكر بسمكة غوبي أو إغوانا. ولكن في النهاية أفكر بسمكة. قد تعيش في المكتبة، وهي تسبح على المنصة. وستنعش الصالة".

حاولت أن أمسك نباتا كان يسقط، وكانت التعليمات أن لا نضعه في التيراريوم حتى نعود إلى البيت. ولا بد أنه أخطأ بتفسير حركاتي، لذلك انحنى نحوي بعينين مغلقتين وحاول أن يقبلني. بسرعة وتهذيب دفعته بعيدا. احمر وجهه وتابع الاعتذار، ولكنني عدت إلى المعرض.

لزم الصمت طيلة طريق العودة، بالمقابل كان الولدان يصخبان بتشوق. حاولت أن أشغله بحوار ليفهم أنني غير غاضبة ولا شديدة الابتهاج، ولكنه جلس بمكانه يلهو بعقدة في كيس بلاستيكي وضع فيه سمكة غوبي بألوان قوس قزح.

***

 ثم في يوم الأحد حرر ولداي الرائعان الحلزونين. وبعد الغداء بقليل ذهبت أنا ودانو إلى السينما، وبقيت نينا وميشو مع جارتنا، وهي  طالبة بعمر واحد وعشرين عاما وتدعى بريجت. رافقت الولدين إلى الخارج، وأخذوا الحلزونين والتقطا لهما الصور، وقرآ في بعض الكتب، وناما في ضوء الشمس. وفجأة اختفى الحلزون الداكن.

غادرنا صالة السينما، ورأيت حينها دستة من المكالمات الفائتة أجراها الولدان وبريجيت. ارتعبت، ولكن ضحك دانو، قائلا إن الحلزونين هربا على الأرجح. بعد مكالمة قصيرة، حافلة بالنشيج، تأكد لي ذلك. ومع أن حلزون ميشو هو الهارب، كان أكثر البكاء من نصيب نينا. تكلمنا في الترام حول الفيلم باقتضاب، ثم أخبرني دانو أنه يتعين علي أن لا أكون بخيلة.

"لا تقولي إنك توقعت ذلك. وأنك لن تشتري لهما حيوانا آخر".

"لماذا تقول ذلك؟".

"لأنني أعرف بماذا تفكرين".

أطنبت بريجيت بالاعتذار، وسمحنا بعودتها إلى بيتها، فالخطأ ليس خطأها. وانتفخت عينا نينا، وجلس ميشو بهدوء على الكنبة. كانا ينتظران ما سيجري. اختلست نظرة من الحلزون الأقل سوادا وهو يقضم ببطء ورقة خس في التيراريوم.

"هل أديت واجبك؟".

ثم طبع دانو عدة صور من هاتف ميشو حين كان الحلزونان معا، ثم صنعت مع نينا مجسم حلزون كبير. وألصقنا الصور وأجزاء من المقالات المطبوعة في دفتر الواجبات المنزلية. وكتبت نينا أيضا أن اسم حلزونها قوس قزح، ورسمت قوس قزح حول كامل الصفحة. وضع ميشو دفتره جانبا، قائلا إنه سيكتب عن ضياع حلزونه ويعتقد أن الكائنات الفضائية اختطفته. ثم حزما دفتريهما في حقيبة الظهر، وأدينا الواجب المنزلي المعتاد من أطفال عاديين لديهم واجب فرضه معلمون عاديون.

في المساء شاهد ميشو ودانو التلفزيون معا، ولكن كانت نينا متعبة جدا من المشكلة العاطفية التي تلازم نهاية الأسبوع وأرادت أن تأوي إلى السرير أبكر من المعتاد.  التقطت كتاب حكايات خرافية استعرته من المكتبة كان على طاولة بقرب سريرها، وقرأت لها آخر قصة، عن أميرة اقترنت بالشيطان. كانت نينا تتقلب في السرير، ولم تجد وضعا مريحا، وألقت جانبا حصانها الدمية المفضل. وجهزت نفسي للإصغاء والتفهم، ومع ذلك كنت منهكة بسبب العطلة الأسبوعية أيضا - بعد نهاية القراءة، سألتها ما المشكلة. صمتت قليلا، ثم قالت إن ميشو سمح بهروب حلزونه لغاية في نفسه. ولم تتمكن من تقديم سبب - وربما كان بمقدورها ذلك ولكنها لم ترغب بالكشف عن المزيد.

قبل أن تسقط بالنوم، وعدتها أن نأتي يوم الاثنين بالمزيد من الكتب، بعد أن انتهينا من آخر كتاب. وتحاشيت ميشو، كان ينظف أسنانه، فذهبت لتفريغ غسالة الصحون. ثم أودعه دانو في سريره،  وعاد إلى غرفة النوم.

"حاول موظف المكتبة أن يقبلني أمس".

"ماذا؟ متى؟".

"حينما كنا نضع الأشياء في السيارة. كان حادثا غريبا، وارتبك بكلامه، قائلا إنه تحرك حركة خاطئة أو شيء من هذا القبيل".

"يا له من مغفل".

"وأخبرتني نينا أن ميشو سمح لحلزونه بالهرب عمدا".

"كيف يمكن ذلك؟".

هززت كتفي. طيلة ما بعد الظهيرة كنت أفكر بالولدين الغريبين اللذين أنجبتهما، حتى أنهما تركا حلزونا يهرب، ولكن حاولت تهدئة نفسي بفكرة أضحكتنا لعدة سنوات. في عمر المراهقة، كلما أصابني الإحباط، كنت أروي قصة.

"دانييل؟".

"نعم".

قلت مع تنهيدة: "هذا كثير بالنسبة لي".

أحاط دانو كتفي بذراعه وحاول أن يهدئني، في الصباح سنسأل ميشو ماذا حصل فعلا.

رأيت أمامي احتمالين - إما أن ابني كان أحمق وقبل فقدان حلزون كسبه بصعوبة، أو لسبب عجيب قتله. في طفولتنا كنا نحرق الضفادع وهي حية، ماذا لو أن هذه إشارة مبكرة على المرض النفسي؟. لا عجب أنني كبرت ووصلت لما أنا عليه الآن - ولكن ماذا عنه؟.

وسريعا ما نام دانو، وشخر بهدوء في أذني، وهو يحضنني.

عندما تقلب غادرت السرير. كان شعاع من النور يلمع في غرفة الجلوس قادما من الشارع، أشعلت المصباح من أجل الحلزون، وراقبته وهو يخرج، مرتبكا. في إحدى المرات من أيام صباي كنت مخمورة جدا، وسهرت طيلة الليل، لأن محتويات معدتي بلغت حلقي. كنت أعدو إلى الباحة، وأعود إلى نفس البقعة كل مرة، تحت الكرمة القديمة المواجهة للباب الأمامي. وعندما استيقظت تأكد لي أن الجميع سيشاهدون القيء، لأننا تناولنا كوكتيل القشدة. وقررت أن أذهب لإحضار علبة السقاية من أجل غسل المكان. 

ولكن لم أشاهد أي أثر للقيء في البقعة التي لجأت إليها ليلا. وكانت دستة من الحلزونات تزحف حول الأعشاب وكانت والدتي تشتم، وتسأل لماذا جاء هذا العدد الكبير منها إلى الباحة، وبالذات إلى ذلك المكان؟. لم أذكر شيئا، فمع أنهم يعلمون أنني كنت مخمورة حين عودتي، لم أكن جاهزة للإصغاء لطقوسهم.

***     

من المدخل وأنا باتجاه قسم الأطفال رأيت السمكة على الطاولة، تسبح في إناء مستدير. كان أندريا يساعد أما شابة معها ابنة بعمر الحضانة.  وضعت الكتب المقروءة على الطاولة، وذهبت بصمت إلى الرف الذي كان وراءه والذي استعرنا منه قصص الأميرة. وانتقيت ثلاثة كنت على علم أننا لم نقرأها.

قال للبنت الصغيرة: "للأسف لم نشتر ذلك الكتاب بعد". شكرته أمها بأدب، وغادرتا. حاولت أن أبتسم له بطريقة مشجعة، ولكنه حينما شاهدني، اعتراه التخشب.

"أعدت خمسة وسأستعير ثلاثة".

ذهب إلى مكانه منكس الرأس، ومسح بطاقة المكتبة، ووضع الكتب المعادة جانبا،  وطيلة الوقت لم يكلف نفسه النظر لي.

قال أخيرا: "لا أعلم ماذا اعتراني".

قلت: "لا تقلق. أنا أصدقك. وعمليا لم يقع مكروه". ولكن أستطيع التأكيد أنه خلال ثوان، ستحطمه نوبة عصبية.

قال: "سيدة وجدتني هنا، ولم يكن الأمر كما يبدو، وتورطت معها بمشكلة. بخصوص التعامل مع الصغار أو ما يشبه ذلك. اشتكت، وتقريبا تعرضت للطرد، ولكن لم يكن الموضوع يستحق".

كررت عبارة تعلمتها من الحياة مع الأولاد ومن الكتب التعليمية التي استعرتها من قسم أعلى بطابق واحد: "أصدقك". تمسك أندريا بالطاولة، وهو لا يشعر بالأمان، ونظر بعيني، مستأنسا بما قلته. أنه ربما يقول الحقيقة، والتي لا أهتم لها. ثم شرع بالبكاء وتقديم أعذار واهية، وكيف أنه يحب الأولاد كثيرا، كأصدقاء فقط، وهو راغب بتعليمهم، وكان يواعد النساء، نساء بالغات وطبيعيات، ولكن لم تنجح محاولاته، وبالأخص مع آخرهن، بعد فترة طويلة، وقد تخلص من ذكراها، وكان عليه أن يشتري السحلية، غير أنه يتراجع دائما، ويا لها من حياة، ويا له من رجل. لم أكن أعرف كيف أرد على دموع ولدي، فما بالك بنحيب غريب كبير بالعمر. ماذا علي أن أستخلص من كلامه المشتت، ومن صورته المضعضعة عن مصاعبه المربكة والطويلة العهد مع النساء، والحيوانات، ومع نفسه؟. وأوشكت أن أصفعه وأنصرف.

وكان على الحافة، فتوقف عن الثرثرة، وابتلع لعابه، وقال: "أنت زبونتي المفضلة".

وعمليا لم أجد ما أقوله حيال ذلك.

***

حينما أتيت لملاقاة الولدين من المدرسة المسائية، كانا يجريان خارج البناء، وبرفقة عدد من زملاء الدراسة، الذين كان آباؤهم بالانتظار، قفزا على السكوتر الخاص بكل منهما. حزمت علبة طعام نينا وحينها أصبحت ميلكا فوقي. عقدت يديها كأنها في صورة دينية، وكانت متوترة، وغير هادئة.

"هل فحصت وظيفة ميشكو عن الحلزون؟".

صحت في البداية نعم، وكنت أنا ونينا نرسم حلزونا، وكان ميشو يكتب عن هرب حلزونه. وحينما أجبتها تذكرت أنه كتب بعيدا عن أنظارنا، ثم وضع دفتر واجباته بسرعة في الحقيبة، وبدأ مع وظيفة الحساب. ابتعدت ببطء عن الخزانات، وخرجت من الممر.

"حلزون نينا رائع، ويجب أن تضعيه في ثلاجتك".

قلت وكنت في الخارج: "بالتأكيد سأفعل".

"وظيفة ميشكو لم تكن...".

قلت ملتفتة نحوها: "هل بإمكانك التوقف عن القول إنها واجب منزلي؟. في أحسن الأحوال هو دفتر واجبات، ويحتاجونه للواجبات المسائية. وإذا لم أحضرهم إلى هنا لن نفكر بمثل هذه الواجبات. لا هما ولا أنا".

لم تحول نظرتها ولو لحظة.

ثم قالت بحزم: "كتب ميشكو في دفتره أن الحلزونات حمقاء. وهذا كل شيء". وأدهشتني بنبرتها الأخلاقية، والتي لم أكن معتادة عليها منها.

"حسنا. بعد يوم سبت في معرض التيراريوم، أنا أؤيده أيضا".

ولكن لم أكن واثقة كما آمل. أمسكتني من ذراعي وقالت: "كما تعلمين، كانت الوظيفة بسيطة. وكل الآباء أدوها، ولم يتذمر أحد. ولم تكن إجبارية ويمكنك أن لا تقبلي بها. بعض الناس لا يحبون ذلك ببساطة".

هبطت على السلالم.

كررت: "وظيفة بسيطة".

قرقعت السكوتر على الشقوق في الممشى. لم تكن نينا تجيد اعتلاء السكوتر، ولكنها اجتهدت لتكون بجانب أخيها وبقية الأولاد. التفتت نحوي، فاصطدمت بحفرة، وأسرعت تلقائيا بالتحرك لمنعها من السقوط أرضا. ولكنها فعلتها مع ابتسامة، وأدت دورة حولي بقوس رائع.

***

.......................

* ترجمتها إلى الإنكليزية Magdalena Mullek.

** سونيا يوريكوفا  Soňa Uriková  كاتبة سلوفينية معاصرة.

 

بقلم: هيلين شولمان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

بعد ستة أشهر من وفاة زوجها، عثرت ليلي وايلرستين على يومياته الجنسية مدفونة في الرف الخلفي لخزانة الأرز في ممر شقتهما الواقعة في الجانب الغربي العلوي من مانهاتن، الشقة التي عاشا فيها معًا لما يقرب من أربعين عامًا، منذ ما كان والتر يسميه "عصر الإمكانيات"، حين كانا شابين تقريبًا. كان أول مسكن لهما شقة طويلة كخط السكك الحديدية، (متصلة الغرف على التوالي) في الطابق الرابع، على بعد ثلاث جادات من كولومبوس، وسط تجار المخدرات وبائعات الهوى، ومغنيي الأوبرا والأخصائيين الاجتماعيين—مكان مناسب لزوجين حديثي الزواج في بداية حياتهما. لكن بعد مرور عشر سنوات على زواجهما، عندما وجد والتر إعلانًا عن شقة مؤجرة فرعيًا في ريفرسايد درايف معلّقًا على لوحة الإعلانات في نقابته، شكرت ليلي الله على ذلك؛ أو بالأحرى، ما يعادل الله في نسخته العلمانية (الحظ). كانت حينها في الشهر الثامن من حملها بطفلهما الثالث. ثلاث غرف نوم وغرفة للخادمة.لكن من كانت الخادمة؟ ليلي؟ أم والتر؟

في البداية، كانا يتناوبان على غسل الأرضيات وتنظيف المراحيض. وكناشطَين، بكل ما تحمله الكلمة، كانا يجددان عقد زواجهما كل عام بروح ما آمنَا به في عملهما الحياتي: "لكل حسب قدرته، ولكل حسب حاجتها." كان واضحًا أن والتر يحتاج إلى هذه الغرفة أكثر من ليلي، ولهذا سرعان ما تحوّلت تلك الخزانة الصغيرة التي كانت تُسمى غرفة الخادمة إلى مكتبه-غرفة تخصه وحده- تاركًا لليلي مجرد زاوية على طاولة العشاء لأوراقها وبرامجها التوعوية وتلك الأكوام من الملفات (حملات سياسية، حقوق الإجهاض، جمعية الآباء والمعلمين، ثم وظيفتها الحقيقية كمحامية للأسرة في مكتب عضو المجلس التشريعي،قبل أن تنتقل ببراعة إلى مكتب تشاك شومر). أما خزانة الأرز، فكانت تلك مملكة ليلي؛وبالنسبة لها، كانت تمثل الفخامة بعينها.

والآن، بعد مرور ما يزيد عن أربعين عاماً، وقفت ليلي على أطراف أصابعها فوق سُلَّمٍ خشبيٍّ قديم، تتنشق عَفَن الأوراق المتآكلة وروائح الصور القديمة، وهواءً راكداً اختزنتْه الأوشحة الصوفية ومعاطف الشتاء، بينما تبخَّر عبق خشب الأرز الأحمر الفاخر منذ زمن بعيد . كانت تبحث في الرفوف العليا عن إحدى كنزات والتر الرمادية من الكشمير ذات الياقة المثلثة، متوهمةً بغباء أن هذه القطعة الناعمة التافهة قد لا تزال تحمل رائحته وتمنحها بعض العزاء-يا لها من حمقاء! كانت لا تزال في طور الحداد عليه آنذاك.لكن، ما إن فتحت ليلي أول دفتر من سلسلة مكوّنة من ثمانية دفاتر حلزونية- وكان مشهد خط والتر وحده كافيًا لأن يجعلها تلهث- خطه الأنيق الأوروبي الذي حمل شاعرية جسدية لافتة، حتى إن ليلي شعرت وكأنها تسمع موسيقى تصويرية تصاحب الصفحات، تلك الآلات الوترية الكاشفة… عندها أدركت أنها عثرت على كنزٍ لا يُقدَّر بثمن .

كمن تسير في نومها، حملت ليلي الدفاتر إلى غرفة النوم.هناك، استلقَت هناك على سريرهما الكبير، تقلّب الصفحات تلو الأخرى في سجلات مغامرات والتر المُذهلة والمدمِّرة — قدمَاها مرفوعتان، وبطنها على الوسادة، بنفس الوضعية التي كانت تتخذها وهي مراهقة عندما كانت تقرأ مجلات الأفلام في بيت أبيها في إيست نيويورك— تفتّش بجنون عن شيءٍ ما يمنحها شعوراً أفضل.

شكراً لله، فكّرت ليلي، لقد كنتُ مذكورة. كان والتر يشير إليها مرارًا في المذكرات بعبارات مثل "حبيبتي، ووحيدتي".وقد كانت وصفاته لتقاربهما الجسدي، المتكرر بما لا بأس به، دقيقة تمامًا: "حنون، محب، وملاذ جسدي". على مدار زواجهما الطويل والمعقد، عاشا قصة حب حقيقية؛ كانا يتشاجران ويضحكان ويتحدثان بلا انقطاع، على الهاتف، وعلى طاولة المطبخ، وفي الحمام وهو يحلق وهي جالسة على المرحاض. لطالما أيقنت أنهما أحبّا بعضهما إلى الأبد. ولم تفعل تلك الدفاتر الملعونة شيئًا لنفي هذه الفكرة. لكن من الواضح أنهما لم يمارسا ذلك النوع من الجنس الحارّ، المثير، الخطير، والمفعوم بالرغبة الحقيقية الذي كان والتر منجذبًا إليه بوضوح. أسماء، تواريخ، أوضاع؛ صديقاتها، أصدقاؤه، حتى ابنة عمها "سيل" - التي رحلت منذ زمن بسبب سرطان الثدي - الجميلة، العصبية، غير المتزوجة... لقد ضاجعتْ والتر! وبين السطور (وهذا ما آلمها بشكل خاص، رغم أنها لم تكن متأكدة تمامًا من السبب) ذكرٌ لعلاقات مع رجال، بعضهم أشير إليهم بأحرف أولى، وبعضهم بأرقام، رجال تعرف عليهم في الحانات، أو في مراحيض عامة، أو في القطارات، أو خلال رحلات عمل - فقد كان والتر محاميًا نقابيًا، دائم الترحال للمشاركة في احتجاجات ما، "ينقذ العالم" كما ظنت، بينما كان - كما يبدو الآن - منهمكًا في مصّ عضو سائق شاحنة! في اللحظة التي اكتشفت فيها الحياة السرية لزوجها، توقفت ليلي عن الحداد عليه.

بل على العكس، ما إن وقعت عيناها على ذلك النتاج الفوضوي لحياة إنسانية معقّدة-حياة والتر-حتى شعرت ليلي بالغيرة، وبروح التحدي، وبالرغبة في الانتقام.إن لم تكن قد مارست ذلك الجنس المذهل مع والتر، فهي إذن لم تمارسه مع أحد على الإطلاق.

يا للكلمات التي استخدمها! لوصف الرغبة وحدها: شبق، شهوانية، فحولة، نهم جنسي، تلهّف جسدي، دم حار، شوق ملتهب، وصخور متقدة! حتى أوصافه للأعضاء الأنثوية كانت تكاد تكون صبيانية محرجة - كأنها محارة وردية، أو زهرة رطبة، أو قفاز دافئ. لكن عندما يتعلّق الأمر بالعدة الرجولية، فقد اختار كلمات خشنة: كيس، سَلّة.يا له من مستمتع بدوره السري كـأمين أرشيف، كـكاتب يوميات، كـزانيٍ محترف.

لقد عاشا خمسين عامًا من الزواج السعيد. وثلاثة سنوات بائسة. تلك السنوات العجاف جاءت في النهاية، بعد أن تمكن مرض باركنسون من والتر، فبدأت يداه ترتعشان أولاً، ثم اختل توازنه، وأخيراً تقلصت خطواته إلى وئيدة متثاقلة تشبه تلك التي كان يؤديها تيم كونواي في برنامج "كارول بورنيت شو".وفي إحدى الليالي، بينما كانت ليلي تغطّ في نوم عميق- فالعناية به كانت قد أنهكتها تمامًا!- استفاقت فجأة على صوت ارتطام ارتطام مدوّ، إذ كان والتر قد سقط وصدم رأسه بأرضية غرفتهما الخشبية الصلبة. أصيب بنزيف دماغي حاد، وبحضور أبنائهم الثلاثة البالغين - أحدهم قادمًا من لوس أنجلوس، وآخر من لندن، والثالث آتٍ بسيارة أجرة من الجانب الآخر من المدينة -خضع لعمليتين جراحيتين في الدماغ صباح اليوم التالي.

قضى شهرًا في المستشفى وثلاثة أخرى في إعادة التأهيل، ثم عاد إلى البيت. عاد إلى إلى حياة من التبول اللاإرادي وسكب الطعام والكثير من الالتباس؛ كان الأمر غير مفهومٍ ليلي أن الرجل الذي ثرثرت معه دون توقف لنصف قرن .أصبح الآن عديم الكلام. كان من غير المفهوم أن تلك الشيخوخة الذهبية التي خطّطا لها—دورات تعليمية لكبار السن، رحلة إلى الصين، معًا دائمًا معًا، يحتجّان على كل كارثة قادمة—قد سُلبت منهما فجأة.كان من غير المفهوم، وهي تُحمّمه وتلبّسه ثيابه وتسحبه من جلسة علاجية إلى أخرى، أن هذه ستكون النهاية التي سيلقاها زوجها اللامع، الجذاب، دائم الإثارة، صعب المراس بعض الشيء.

لكن بالطبع، هكذا كانت النهاية. فبعد ثلاث سنوات بائسة، أصيب بنوبات تشنّج متتالية على سريرهما، بينما كانت ليلي تتصل بجنون بالإسعاف، ثم مات، ببساطة مات في ذلك السرير نفسه، السرير الذي تقاسماه طويلاً، حيث سهرت على رعايته ونامت بجواره وشاهدت التلفاز معه . وقرأت له وتشاجرت معه ثم تصالحت معه، السرير الذي كانت تستلقي عليه الآن! لقد مات في سريرهما بوجه مشوّه يعكس الغضب والألم، وجهٌ بدا فيه من الذكاء ما لم تره منذ زمن بعيد. في الموت، كان وجهه يتهمها. وكأنه يقول: لماذا تركتِ هذا يحدث لي؟ كانت تلك ملامح حاولت محوها من ذاكرتها. أما الآن، فقد عقدت العزم على إحياء ذكراه.

انقلبت ليلي على ظهرها، بعيدًا عن دفاتر زوجها الدقيقة، وحاولت التقاط أنفاسها، تلك الأنفاس التي، مثل قلبها في هذه الأيام، اعتادت أن تفلت منها.على سقف غرفتهما، كانت هناك بقعة ماء كبيرة إلى حد ما، يتفرع عنها شق وشروخ، تتخذ شكل مدينة تالاهاسي.هل كانت هذه البقعة حديثة نسبيًا؟ أم أنها، مثل كل مظاهر التدهور في حياتها -بقع الشيخوخة التي انتشرت كالأشنات على ظهر يديها، وتقوس عمودها الفقري الذي أخذ يقصر شيئًا فشيئًا - كانت تتسلل إليها بخفة دون أن تنتبه؟

دوَّنت ليلي في ذهنها أن تتحقق من سبب تلك الشقوق. جيرانها في الطابق العلوي، من الجيل الثاني- البناية خاضعة لقانون الإيجار المحدد- وهم عائلة مكوّنة من خمسة أفراد، كانوا قد انتقلوا منذ زمن إلى الضواحي (ريدجفيلد؟ سكارسدايل؟ مونتكلير!)، وصاروا يستخدمون شقتهم ذات الغرف السبع كمنزل ثانٍ في المدينة، لذا كانت شبه خالية معظم الوقت.

يمكنها أن تحاول استدعاء عامل الصيانة الجديد، فْرِيد، الذي لم تلتقِ به إلا عبر إعلان أُدخل تحت بابها. لم يكن يرد على جهاز النداء، ولذلك لم يكن موجودًا أبدًا عندما تحتاج إليه كانت .أعمال الصيانة المنزلية، والتعامل مع الحرفيين، من مهام والتر، والتي سلّمها لليلي على مضض عندما عجز عنها بسبب المرض. وليس لأن والتر كان ماهرًا بطبعه؛ لم يكن كذلك. لقد كان مفكرًا، مناضلًا، مدافعًا—حياته كانت حياة عقل!(والآن، كما يبدو، حياة الخصيتين أيضًا.) ومع ذلك، لم يكن ليسعد بتسليم أي جزء من سلطته، حتى تلك التي كان يكرهها بشدة.

كانت عجوزًا. هذه حقيقة لا تقبل الجدل. ليلي عجوز وستموت قريبًا. جلست. تدفق الدم من رأسها. وضعت راحتيها على غطاء السرير لتستقر. نظرت إلى يدها اليسرى، التي تحمل خاتم الزواج الفضي البسيط - هي ووالتر، لطالما راودتهما أفكار! لطالما كان لديهما هدف! - وشاهدت عروقها الزرقاء المنتفخة تتدحرج فوق الأوتار الرقيقة التي تشبه أسلاك البيانو، والتي تحرك أصابعها بينما تمدها ببطء. وقفت بحذر، وعندما استعادت توازنها، خرجت ليلي من غرفة نومها وسارت في الردهة، مارةً بخزانة الأرز السخيفة تلك، راكلةً الباب مغلقةً إياه، ثم دخلت المطبخ.

فتحت الثلاجة، وصبت لنفسها بعضًا من عصير الخوخ العضوي من جورجيا، الذي كانت تحتفظ به من أجل أحفادها. جلست إلى طاولة المطبخ، مطيحةً بالقطة السمينة، بَسْتَر، عن مربعها المدلّل من أشعة الشمس. حرّكت كتفيها ورأسها إلى داخل تلك البقعة، واستندت بمرفقيها. كان الضوء المنبعث من الفناء الداخلي (فالنوافذ هنا، لحسن الحظ، تواجه الجنوب) يغمر مطبخها وحمامها وغرفتي الأطفال، اللتين تحوّلتا منذ زمن إلى غرفة ضيوف وغرفة تلفاز- ليلي ووالتر، غرفة تلفاز، يا للسخرية؛ لم يكن لديهما وقت لمشاهدة التلفاز، إلا إذا أخذت سي إن إن ووبرنامج 60 دقيقة في الحسبان؛رغم أنها، في النهاية، وجدت نفسها تشاهد أوبرا من أجل الصحبة- - لقد أحبت ذلك الضوء الجنوبي! شعرت بأشعة الشمس الجميلة على وجهها، واستراحت للحظة. ثم مدّت ذراعها إلى الخزانة التي تحتفظ فيها بالكحول، فتحت زجاجة فودكا صغيرة من تلك التي تُقدَّم في الطائرات، وصبتها في عصيرها.

كان زوجها قد مات. لم يكن بوسعها أن تشكوه إلى أمه وتحاول كسب السيدة وايلرستاين إلى صفّها، أو أن تبوح بالأمر لأبيها الغاضب الدائم الإحساس بالإهانة، ذلك الذي ربما كان سيطارد والتر بسكين مطبخ-كما فعل من قبل مع زوج أختها رينا الأول، حين ضبطته رينا مع عاملة التنظيف. لقد ماتوا جميعًا: السيدة وايلرستاين، ووالد ليلي، وأختها، وزوج أختها الأول، مايمان، وزوجها الثاني، بول- ماتوا، ماتوا، ماتوا، وبهذا صاروا في مؤامرة ضدها.

كانت ليلي وحدها.

شربت ليلي كأسها، مزيج الفودكا وعصير الخوخ، في جرعة واحدة شرهة ونهمة. ستعيش بدونهم، جميعهم، هؤلاء الأوغاد. رفعت ليلي سماعة الهاتف. طلبت رقم ابنتها الكبرى، ميرا. ميرا. الفاسقة، الجامحة. العاهرة.. سألت ليلي

- كيف أعيش بدونهم؟

ثلاث مرّات أسبوعيًا، في المتوسط، خلال الأشهر الستة الماضية، كانت ليلي تتصل بابنتها طارحة عليها هذا السؤال. وهي تحدّق في تقويم نايتشر كونسيرفانسي المثبت على جدار المطبخ. أبريل. زهور وأمطار. وماذا في ذلك؟

كانت ميرا قد طُردت من بيتها على يد زوجها قبل بضع سنوات، بعد أن ضُبطت مرة أخرى، - وهذه المرة في علاقتها الثالثة -مع عشيق أصغر سنًا.(لقد ورثت جينات والدها! الأمر وراثي! لو أن ليلي كانت تعرف، لما أرهقت نفسها كل هذه السنوات في لوم ذاتها. انفلات ميرا الأخلاقي إرث من والدها. هي غلطتك اللعينة، يا والتر!)

أما أولاد ميرا الثلاثة، فكانوا يقضون السنوات الأخيرة متنقّلين كالحافلات الصغيرة بين شقّتي والديهم، الولد بين الجانبين الشرقي والغربي، والبنتان بخدمة سيارات أجرة من القرية. وكانت ميرا قد اكتشفت، كما تقول في أيامها الجيدة-الأيام التي لا تتصل فيها بليلي لتسأل: كيف أعيش من دونهم؟ - أن الطريقة الوحيدة لتحظى بحياة وأطفال هي الطلاق.كل متع الأمومة، مع إمكانية النوم حتى ساعة متأخرة كل أسبوعين، وقراءة كتاب، وممارسة الجنس، والذهاب للنادي الرياضي، وتناول الطعام بالخارج، ومشاهدة فيلم، والتحدث على الهاتف، ومواصلة حياته المهنية.

كانت ميرا محامية في قضايا الطلاق، وأصبحت الآن مستشارة قانونية في بنك.(مدرسة فيلدستون. معسكر باكز روك للعمل. كلية أوبرلين. متطوعة في بنك طعام في أحد أفقر أحياء كولورادو. والآن أصبحت مصرفية! أين أخطأوا في تربيتها؟)«

قالت ميرا بحدة طفيفة وهي تمضغ علكتها:

- وماذا يعني أن 'تعيشي'؟

كان أحد أيام الأحد التي تتناوب فيها على رعاية الأطفال، وميرا دائمًا ما تكون عصبية في نوبتها؛ فهي تحب أطفالها كفكرة، من حيث المبدأ فقط. في الخلفية، كانت الحرب العالمية الثالثة تدور رحاها بين أحفاد ليلي. وفي يوم جميل كهذا، كانوا يتعاركون داخل الشقة. كانت ليلي ستراهن بكل ما تملك على أن النوافذ كانت مغلقة كلها.

- كوني أكثر تحديدًا يا أمي. ماذا تقصدين بالضبط؟

قالت ليلي، وقد أثرت فيها الفودكا:

- أريد أن أمارس الجنس.

عندها، أصدرت ميرا فرقعة عالية بعلكتها. قالت ميرا:

- اذهبي إلى فلوريدا.

كانت نصيحة جيدة، لكنها تطلبت بعض التحضير.

قالت ليلي:

- بعيدة جدًا.

ردت ميرا:

- هناك يوجد الرجال، في مثل عمرك.

ثم صرخت من فوق كتفها:

- ليزي بوردن الصغيرة، ضعي السكين فورًا!

ثم عادت للحديث إلى والدتها.

- لا يمكنك الذهاب إلى حانة. لقد كبرتِ في السن. يجب أن تبحثي عن شخص كنتِ تعرفينه- أرمل لإحدى صديقاتك كنتِ تظنينه جذابًا، أو شاب من أيام المدرسة الثانوية، أو من مركز الخدمات الاجتماعية. أو كلية المدينة. إعادة التدوير تنجح دائمًا بالنسبة لي. يمكنك استخدام جوجل . بحثتُ الأسبوع الماضي عن بيلي رابابورت، تتذكرينه؟ من أيام المعسكر الصيفي؟ وكانت النتيجة رائعة. إنه مطلّق ويعمل وكيل عقارات في نيوجيرسي. أخذني إلى مطعم لو برناردان وصرف أطنانًا من المال، حتى قبل أن أسمح له بلمسي قليلًا في المقعد الخلفي من سيارة أوبر.

لحسن الحظ، انقطع الخط. تمنّت ليلي أن أحد الأحفاد قد نزع السلك من الحائط حتى لا تضطر إلى الاستماع لتلك الحمقاء ميرا. الحفيد الأصغر، الشرير، آدم. من المحتمل أنه الفاعل. وكان آدم هو الأحب إلى قلبها.

شارع 92 ومركز Y. هذا هو المكان الذي يقصده كبار السن عندما يشعرون بالوحدة. عندما لا يذهبون إلى فلوريدا، فكرت ليلي، ولم يصلوا بعد إلى مرحلة الخرف الكامل. لم يكن لديها وقت من قبل لكل تلك الأنشطة التي قرأت عنها في كتالوج المركز، لكنها كثيرًا ما كانت تقرأ عناوين البرامج وهي تتنهّد إعجابًا بالمحاضرات التي لم تحضرها، وبصفوف الفنون التي لم تجد لها وقتًا.

مركز شارع 92 - ذلك المكان الذي يلجأ إليه العجائز عندما يشعرن بالوحدة.عندما لا يذهبنن إلى فلوريدا، كما فكرت ليلي،وعندما لا يكون الخرف قد استولى عليهن بعد..لم يكن لديها يومًا وقت لكل الأشياء التي كانت تقرأ عنها في كتالوج المركز، لكنها كثيرًا ما كانت تتصفح العناوين وتتنهّد إعجابًا بالمحاضرات التي لم تحضرها قط، وبصفوف الفنون التي لم تجد لها متسعًا في جدولها.

أما الآن، فقد بات لدى ليلي متسع لكثير من الأشياء. مثل قراءة كتالوج مركز الشارع 92 من الغلاف إلى الغلاف. كانت هناك أمسيات شعرية – مضيعة للوقت في رأيها. وكانت هناك حفلات موسيقية، تحبها، خاصة تلك التي تعزف فيها الآلات الوترية. وكانت هناك محاضرات. وهناك أيضًا "دورات لغوية مكثفة ليوم واحد" للإيطالية -يا لها من فكرة ذكية! يوم واحد فقط، فهذا وحده كان التزامًا كافيًا لجيلها.

رفعت الهاتف وسجّلت في درس اللغة. ثم عادت إلى قنينات الفودكا الصغيرة، وشربت حتى ثملت بما يكفي لتغفو قبل نشرة أخبار السادسة، في غرفة التلفاز- فهي لم تكن تطيق العودة إلى سريرها الكبير، ذلك الذي، كما يبدو، استخدمه والتر في عام 1987 ليُجري "تجاربه" الخاصة على معلمة البيانو القبيحة والممتلئة الخاصة بابنتهما ميرا.

لقد كان زانيًا من الطراز الأول، ذلك الوغد والتر. وللحظة، سمحت ليلي لنفسها بأن تشتاق إلى قلبه الطيب والسخي.

**

في صباح أول وآخر درس إيطالي لها، انتابها شعورٌ مفاجئ أثناء الاستحمام. أدركت أنها لا تزال تُجاري غيرها في الجاذبية! كانت تعتني بجسدها بعناية—ليس لأنها توقعت حدوث شيء على الفور، لم تكن تتوقع ذلك، كانت تعرف أن الأمور الرومانسية تستغرق وقتًا، لكنها لم تكن تبحث عن الحب، بل عن الجنس؛ ولذلك هيأت نفسها لاحتمالية حدوثه. فالجنس، كما يبدو، الجنس بحسب والتر—هكذا كانت تشير إلى دفاتره الآن في ذهنها، الجنس بحسب والتر—يمكن أن يحدث من دون حتى مجرد تعارف سطحي.

حلقت ساقيها بعناية حول شبكة الدوالي الزرقاء التي كانت تزيّن بطتي ساقيها، وحول مثلث شعر العانة، الذي غدا فضيًّا وخفيفًا، وتحت إبطيها للمرة الأولى منذ شهور. منذ ما قبل وفاة والتر. بل منذ ما قبل ذلك بكثير. استغرقت وقتًا في ذلك. كانت ساقاها لا تزالان نحيفتين، لكن الجلد عليهما كان متجعّدًا، ينسدل بلطف حول فخذيها الداخليين في طيّات صغيرة تشبه الثنيات. رغت جسدها بالصابون بعناية، كل ثدي منها كان زلقًا وثقيلاً، ترفعه يد لتتمكن الأخرى من تمرير الصابون تحته وحوله جيدًا. غسلت شعرها ووضعَت عليه البلسم. وعندما أغلقت الماء، وضعت مرطبا على الكتلة الطرية المتحرّكة من جلدها، ذلك الجلد الذي صار منفصلًا الآن عن الجسد تحته. استخدمت الملقاط لإزالة الوبر الداكن قرب سُرّتها، وحول حلمتي ثدييها، وأخيراً، بتحدٍ أمام المرآة الكاملة الطول، حول ذقنها. يا إلهي!

ثم وقفت تتأمل نفسها لوقت طويل. نعم، كان ثدياها مترهّلين، لكنهما لا يزالان ممتلئين، وكانت بشرتها مرتخية، لكنها لم تكن بدينة، والغريب أن جسدها بدا أصغر سنًا من وجهها ويديها. أقل تجعّدًا بكثير. لا بد أنها تستطيع العثور على شخصٍ ما يرغب في مضاجعتها، شخص عجوز ويائس، وربما شبه كفيف. لا بد أن هناك عجوزًا سيكون سعيدًا بما يكفي، مع قليل من الفازلين، لأن يُدخل عضوه الذكري في مؤخرتها، واحدة من الممارسات الجنسية الكثيرة التي كان والتر يتغنّى بها في دفاتره- ومع ذلك، لم يحاولها ولو مرة واحدة مع زوجته. استدارت ليلي وفتحت مؤخرتها بيديها، وتأمّلت فتحة شرجها في المرآة، بشفتيها الورديّتين الجميلتين المطبقتين. لا شيء يعيبها في هذا الجانب.

لفّت ليلي نفسها بمنشفة. وضعت المكياج ومزيل العرق، فرّشت أسنانها وشعرها المبتل الذي بدأ يجف. ثم مشت بخفّة عبر الممر إلى غرفة نومها، حيث بذلت قصارى جهدها لترتدي شيئًا جاذبًا. ارتدت جينزًا، جينزًا عاديًا، ليس من ذاك النوع الذي ترتديه الجدّات، بل من نوع «ليفايس» الذي اعتادت ارتداءه منذ أن أعجبت به على أجساد الشابات في كل تلك المسيرات المناهضة للأسلحة النووية: جينز، وحذاء قصير، وسُترة صوفية وردية ناعمة. في البداية صفّفت شعرها الفضي على هيئة كعكة فرنسية، لكن الدرس كان في الانغماس في اللغة الإيطالية؛ وأرادت أن تبدو إيطالية! (ربما كان حلق شعر الإبطين قرارًا خاطئًا؟) لذلك فكّت شعرها وتركته منسدلًا في تموجات حول كتفيها. هل بدا ذلك شاطئيًا أكثر من اللازم؟ جامحًا؟ جمعت الجانبين من شعرها إلى الخلف على هيئة ذيل أميرة باستخدام مشبك.

كانت فتاة جذابة في شبابها، بجسد جميل، وثديين كبيرين، وأرداف ليست كبيرة جدًا. وعلى مدار السنين ازداد وزنها، ثم نحفت؛ وبعد وفاة والتر، توقّفت عن الأكل. لو أن العلاقات المثلية نجحت مع زوجها... لربما كانت المرأة أكثر تسامحًا. محارة وردية، زهرة مبللة، قفاز دافئ.

عندها سقط السقف حرفيًا. أو على الأقل قطعة كبيرة منه، قطعة على شكل ولاية فلوريدا بأكملها. سقط في وابل من الطلاء والجص، وأخطأ ليلي ببضع بوصات، لكنها غطّتها، وغطّت ملابسها، بالغبار.

استغرقت ليلي لحظة لتدرك ما حدث للتو. صارالسقف الآن على الأرض، العالم انقلب رأسًا على عقب، ملابسها ويومها وسجادتها — دُمِّرت كلها ظاهريًا. لكنها هي نفسها لم تُصب بأذى. قرصت ظهر يدها الرقيقة، فانتصب الجلد وبقي على حاله، فقدت بشرتها مرونتها منذ زمن. كانت لا تزال حية، بينما فلوريدا المتصدعة متناثرة من حولها. هكذا إذن، لا اكتشاف لمتعة المثلية اليوم. كانت حية، ووحيدة، وبفوضى عليها أن تنظّفها، قصة حياتها.

في تلك اللحظة، تكلم الله، أو ما بدا لها كصوت الله كما تعودت أن تتخيله، صوت رجولي قادم من العلو، جهوري، عميق كالكونترالتو..

- لـ ـي، هل أنت بخير؟

"ليـ..." — لم تعرف ليلي إن كان الصوت يقول "سيدتي" أم "ليلي"، فالتحية الشخصية ستكون مناسبة لإله عالم بكل شيء، بينما الأخرى تناسب "سائق الشاحنة العظيم في السماء." حتى هذا وجدته مذهلًا.نظرت إلى الأعلى، ورأت ثقبًا في السقف وسط الحطام. في مركز الثقب، كانت هناك عين تحدق نحوها.

رفعت عينيها نحو السقف، ورأت فجوة وسط الفوضى العارمة. وفي مركز الفجوة، كانت هناك عين.تحدق بها من الأعلى. قال الصوت،"ربما لم تكن فكرة السرير المائي الأفضل"، صوت عميقٌ وموجع، بنبرة مذيع الراديو، المرتبط على الأرجح بتلك العين - قزحية زرقاء لامعة، محاطة برموش سوداء، بتفاصيل مدهشة في التفاصيل.عندها لاحظت ليلي تساقط الماء باستمرار، تقط تقط تقط على سريرها. كان يبلّل الجصّ ويحوّله إلى ما يشبه الصمغ. "لم أكن على علم بالتسرّب، لكنني سأُصلحه في أسرع وقت."

كان الوضع يؤلم رقبتها، فتوقّفت عن النظر إلى الأعلى. بدلًا من ذلك، خرجت من غرفة نومها بحثًا عن غطاء بلاستيكي لتغطية مفرش السرير المخرّب، وعن ثياب بديلة- كلاهما كان في خزانة الأرز. عندما رأت انعكاسها في المرآة بالممر، انتابها الذعر: مغطاة بالجص على هذا النحو، بدت وكأنها ميتة بالفعل، شاحبة كالشبح.

كانت قد تخلّت لتوّها عن ملابسها التي انتقتها بعناية وارتدتها بأمل—يا تُرى، هل يستطيع محل التنظيف الجاف إنقاذ ذلك السويتر الوردي الناعم؟- وارتدت بدلًا منها فستانًا مقلدًا لتصميم ديان فون فورستنبرج. كانت ميرا قد اشترته لها كرشوة بعد طردها من المدرسة الثانوية لأنها كانت تمارس الجنس الفموي مع أعضاء فريق الرياضيات، عندما رنّ جرس الباب.

ربما كان فريد، المشرف الجديد، قد أتى لينقذها. مشت ليلي نحو الباب الأمامي، تربط فستان اللفّ على عجل، وخلفها أثر من الغبار. ربما سيكون ملاكها الحارس.

وحين فتحته، وقف أمامها رجل مسنّ، غير حليق، يرتدي قميصًا مصبوغًا بألوان "تاي داي" وبنطال جينز، شعره الرمادي طويل يلتف حول أذنيه، وعيناه الزرقاوان فاتحتان كسماء الصباح، تحفُّهما رموش داكنة طويلة، ناتجة على الأرجح عن تناول الإنترفيرون، رموش باربي، مهدورة على رجل. لم يكن الأمر يتطلب عبقريًّا لفهم أن هذا العجوز هو صاحب السرير المائي في الطابق العلوي. كان يحمل مكنسة كهربائية، وممسحة، وكيس قمامة.

قال:

- أرجوكِ، الأمر خطأي، لم أكن أعلم أن الصمّام كان يسرّب. اسمحي لي أن أتكفّل بتنظيف الفوضى.

" يتكفّل بالتنظيف؟" فليكن. ليلي لا تمانع، لكن من هو هذا الرجل؟ لم تره من قبل.قالت:

- من تكون؟

فأجاب الرجل المسن:

- اعذريني، اسمي إيرف، إيرف جورنشتاين. أنا عم ناثانييل سوان. سمحوا لي بالإقامة في شقتهم.

كان ناثانييل سوان جار ليلي في الطابق العلوي.

قالت ليلي:

-  حسنًا، يا إيرف، لقد دمّرت غرفة نومي تقريبًا. والآن بعد أن صار هناك ثقب في السقف، أعتقد أن علينا الاتصال بالمختصين، ألا ترى؟»

قال إيرف بلهجة مستهجنة:

- المختصين! لم أكن يومًا أخشى العمل الشريف. تركت دراسات العليا من أجل المصانع، ثم تركت المصانع لأعمل في السكك الحديدية! بنيت جسورًا، وحفرت أنفاقًا. كنت عامل نظافة، ونادلًا، وسجّلت ناخبين. وفي صيف واحد رائع، قطفت العنب في فرنسا. ورعيت الأغنام في كومونة بكاليفورنيا. كل هذا قبل أن أحصل على شهادة المحاسب القانوني.

كان إيرف في غرفة نومها. ولم يكن أمامها من خيار سوى أن تتبعه. قال، موجّهًا حديثه إلى الهواء:

- كنت دائمًا ما أوقف التسريبات وأمسح الفيضانات.

لم يكلّف نفسه عناء النظر إلى ليلي، كان منشغلًا جدًا بتصحيح الأخطاء، والتكفير عن الذنوب. كان لديه الكثير ليعوّضه.

تابع وهو يزمجر:

- من المؤسف أن الأعاصير لم تغسل تلك الولاية النتنة بأكملها.

كان من الواضح أنه ممتن لوجود مهمة أمامه، مهمة تنقذه من أي تأمل داخلي. وأضاف بصوت عالٍ:

- باركلاند! ملهى النبض! طفل أسود في الثانية عشرة يُحكم عليه بالمؤبد! ناس ملوّنون يُطردون من مراكز الاقتراع! وكلهم مسجّلين كديمقراطيين! هل هذه هي أمريكا؟

كان إيرف أشبه بدرويش أشيب يدور حول أرضية شقتها الخشبية، رأسه الرمادي يلتف في الهواء. (كانت ليلي تعرف الـ"ديدهدز" حق المعرفة؛ ابنها الأوسط، إيريك، أمضى سنتين من عمره في جولة "تور" مخدّرة مع فرقة غريتفول ديد. هي ووالتر عثرا عليه وهو يتلوّى من المخدرات في موقف سيارات في "ريد روكس"، كولورادو، وسط مئات من الأطفال التائهين البائسين مثله تمامًا. مركز هازلدِن. التعافي. والآن صار لديه شركة شحن بضائع خاصة به في لوس أنجلوس. متزوّج، لديه قرض رهن عقاري وطفلان. لكن ليلي لن تنسى أبدًا تلك الأمسية في كولورادو—حدقتا إيريك كانتا كدوائر متداخلة، ووجهه أحمر كالحافة الضخمة من الصخور التي كانت تحيط بهم تحت وهج الغروب—ووالتر يلتقط الصبيّ كأنه رضيع، يرفعه فوق كتفه، ثم يلتفت إليها قائلاً:

- ليل، هل رأيتِ يومًا لونًا كهذا؟

نعم، كانت الجبال تبدو آنذاك مثل قطعة لحم نيئة فاخرة. كان والتر رجلاً حسّيًّا، حتى أثناء إنقاذه لابنه، كان الجمال من حوله يذهله ويشله مؤقتًا. وقتها، لم تكن ليلي متأكدة إن كانت هذه الصفة تجعلها تحب زوجها أكثر أم تدفعها لكرهه.)

والآن، بعد أن مات والتر، ها هو إيرف جورنستين في شقتها، ذلك الهيبي العجوز الذي ربما باع لابنها إيريك أول قرص "ويندوزبين" في حياته. كان إيرف يرفع قطعًا ضخمة ومبللة من الجص ويكدسها في كيس القمامة.

قال:

- سأرسل اللحاف إلى المصبغة. يعرفونني هناك.

قالت ليلي:

-حسنًا.

لكنها فكرت: يعرفونه هناك؟ لماذا؟ لأنه هو من يوصل الغسيل؟

قال إيرف:

- عليكِ أن تأخذي حمامًا، أن تنفضي الغبار عن شعرك. إنه يطفئ لمعان اللون الفضي ويغطيه.

لقد لاحظ اللمعان في شعرها! رفعت ليلي يدها لتربّت على رأسها، فالتقت راحتها بطبقة من الغبار.

قالت في طاعة:

- حسنًا.

كأنها فتاة صغيرة، فتاة صغيرة مشدوهة ومنتوَبة، وربما – ربما – مُغازَلة؟ ثم عادت إلى الحمّام، الذي كان لا يزال رطبًا من حمامها قبل ساعة.

دخلت الحوض من جديد. وتركت الماء الساخن ينهمر على جسدها مرة أخرى. وبينما ارتفع البخار، راحت تراقب دوامة الغبار وهي تتجمع عند المصرف، وتنساب نزولًا كما في ساعة رملية. وفجأة فكرت: يوجد رجل في شقتي. رجل غريب!

كانت عارية، وحيدة، في الحمّام.

قبل أن يتسلّل الخوف أو الحس السليم إلى وعيها، طرقت الفرصة بابها. ربما يكون هذا الإرف هو خلاصها.

من لا يخاطر لا يربح. الأفضل أن تأتي متأخرًا من ألا تأتي أبدًا، و... إلخ، إلخ.

لتذهب دروس الإيطالية إلى الجحيم. ستوفر أجرة الباص الذي يزحف بها عبر الحديقة.

يملك إيرف قضيبًا، وعيناه جميلتان. خرجت ليلي من الحمّام، ولفّت جسدها بمنشفة وردية مخملية، أظهرت كتفيها، وعظمة ترقوتها الثابتة الجميلة، وذراعيها البيضاء الناعمتين.

عادت إلى غرفة نومها.

كان إيرف جورنستين لا يزال هناك، في غرفة نوم ليلي، ظهره نحوها، وقميصه المصبوغ بألوانٍ متداخلة يشبه دائرة تصويب تحيط بكرشه، لكن من الخلف- باستثناء تلك الضفيرة القصيرة في مؤخرة رأسه – كانت ليلي تكاد تعجب بقوة عموده الفقري المنحني قليلًا.

سألت ليلي:

- هل تؤمن بالحب؟

استدار إيرف ببطء وقال:

- كنت أؤمن، أيام الكوميونة.

ثم أضاف بأسى:

- لكن بعد ثلاث زوجات وكل تلك النفقة... تعلمت أن لا شيء يأتي مجانًا.

قالت ليلي، محاوِلة التظاهر باللا مبالاة، رغم ارتجاف صوتها:

- وماذا سيكلفني إذًا؟

قال إيرف:

- هل أنتِ جادة؟

كان يواجهها الآن، وفي يده كيس قمامة أسود من نوع "هيفتي"، وفي الأخرى خرطوم المكنسة الكهربائية. كان يرفعه من وركه كأنه قضيب فضي ضخم. يا لهذا البطن الكروي! لا بد أن تبذل جهدًا لتتجاهله.

قالت ليلي:

- زوجي ميت.

قال إيرف:

- أتمنى لو كانت زوجاتي كذلك.

ثم تنهد وقال:

- اثنتان منهن اجتمعتا وتشاركتا في شقة بمنتجع بالم بيتش. ورغم كل ادعاءات الحياة الزوجية،

ووضع الخرطوم بين ساقيه ورفع يده ليشكل علامة الاقتباس في الهواء

–  يمارسانها .

ثم تنهد مجددًا:

- صفقة تجارية فقط لابتزازي.

يا له من كره للنساء! فكرت ليلي.

قال:

- الزوجة الأخرى، جيني، كانت حبيبتي في المدرسة الثانوية، وكان من المعجزات أنها عادت إليّ! التقينا مجددًا بجوار المسبح في دار للرعاية. كانت تزور شقيقتها، ليندا. تزوجنا لبضع سنوات فقط، كنا صغارًا جدًا، صغيرين جدًا، وعندما جمعنا القدر من جديد، ظننا أننا استسلمنا مبكرًا. لكن بعد المشاكل، أوه، كل تلك المشاكل!

هنا تنهد إيرف تلك التنهيدة اليهودية القديمة، تنهيدة بدت وكأنها عبرت إليه من جيل سابق، تنهيدة لا يمكن تجاهلها، ذكّرت ليلي بأبيها –

- حتى جيني، السمينة، الطيبة، الوفية، لم تستطع أن تخرجني من خدرِي.

هز رأسه وقال:

- غرفتك، انظري إليها، نظيفة تقريبًا. تحتاج فقط إلى سقف جديد، ومختص لتنظيف السجاد بالبخار. سأشتري لك غطاء سرير جديد، أو لحاف، إن أحببت، أو حتى أصنعه لك بنفسي.

نظرت ليلي إليه وقالت:

- أتصنع اللحف؟

لو كانت رجلاً، لشعرت بأن انتصابها بدأ يخبو.

- أأنت صانع لحف؟

قال إيرف:

- الحياة كلها عن إعادة الابتكار. السؤال هو: كيف سأفعلها هذه المرة، للمرة الأخيرة.

جلس على طرف السرير.

يا إلهي، لا. هل هذه هي اللحظة التي سيبدأ فيها في الثرثرة عن حياته؟

قالت ليلي:

- عليّ أن أرتدي ملابسي الآن. وعليك أن تعود إلى شقتك في الطابق العلوي.

قال إيرف:

- لم أتناول الفياجرا هذا الصباح، لكنني مستعد إن كنتِ أنتِ كذلك.

تحدث وهو ينظر إلى الأرض.

- أنتِ ديمقراطية، أليس كذلك؟

قالت ليلي:

- أنا تقريبًا اشتراكية.

قال إيرف:

- أنا وأمثالي السبب في كل هذه الفوضى.

ثم وضع رأسه بين يديه وبدأ يبكي.

- أنا مكتئب سريريًا، كما أنكِ بالتأكيد لاحظتِ. الفياجرا تتداخل مع الوِلبوترين.

قالت ليلي:

- لا يبدو هذا مبشّرًا جدًا.

كانت متأكدة أنها لم تكن يومًا بهذه الوقاحة.

قال إيرف، وسط نحيبه:

- بالطبع تحتقرينني. أنا أحتقر نفسي.

قالت ليلي:

- أوه، إيرف.

لقد قضت حياتها في مواساة الرجال. كانت ردة الفعل هذه آلية تمامًا، موروثة من أمها، التي كانت تمضي معظم وقتها في تهدئة زوجها المذعور كثير الشكوى.

قال إيرف:

- الآن تقولين "أوه، إيرف"، لكن عندما تعرفين الحقيقة، لن تزعجي نفسك حتى بقول "أوه، إيرف".

قالت ليلي:

- ما هي؟ ما هي؟ لا تجعلني أخمّن. أنا كبيرة في السن، والوقت قليل. أين "الخط الأحمر" في هذه المعادلة؟

كانت تقتبس من ابنتها ميرّا المصرفية.

قال:

- أنا من بالم بيتش.

قالت ليلي:

- وماذا في ذلك؟

نظر إليها وقال:

- بطاقات الاقتراع المخرّمة؟ الحمقى الذين صوّتوا لبات بيوكانن؟ كنت واحدًا منهم.

حدّقت ليلي فيه. وقالت:

- هذا كان منذ سنوات!

قال:

- لا، لا، لا. لقد غيّرتُ مجرى التاريخ! أنا واحد من أولئك الحمقى الذين أوصلوا بوش إلى البيت الأبيض. وماذا حصل بعد ذلك؟ أحداث 11 سبتمبر. العراق. سوريا. زعزعة استقرار الشرق الأوسط. كل ذلك الموت والدمار! الهجرات الجماعية. صعود القومية. من دون بوش، ما كان ليكون هناك ترامب. ومن دون إيرف جورنستين، ما كان ليكون هناك بوش.

قالت ليلي:

- وماذا عن أوباما؟

قال إيرف:

- أوباما... لثماني سنوات متتالية كنتُ مهووسًا بأوباما.

ثم تنهد تلك التنهيدة المَرَضية من جديد.

ثم أضاف:

- في نهاية المطاف، يا ليلي الجميلة، كل شيء يبدأ بي.

أدركت ليلي أن في نزعة إيرف النرجسية مفارقة عجيبة - فبينما تنطوي على حكمة ما، تحمل في طياتها جنوناً لا يُنكر. ربما كان له وجهة نظر، في زمنٍ انحدرت فيه القيم إلى الحضيض، حيث ساد خطاب الكراهية وعادت نزعات التعصب بثوبها الجديد، بينما أضحت عبادة المال هي الديانة السائدة. أليس من المنطقي عندئذٍ أن نرى أن جهود جيلها - جيل إيرف ووالتر - ذهبت أدراج الرياح؟

تذكرت ابنها إيريك في أيامه الضائعة، حين كان يهذي بفلسفة "ماندالا الرمال" التي تعلمها من الرهبان التبتيين - أولئك الذين يقضون أياماً طويلة في صنع لوحات فنية بديعة من أحجار ثمينة مسحوقة، ليمسحوها فور إتمامها في لمحة عين. كان يلقنها دروساً عن "جمال الزوال" من على أريكتهما البالية، بينما كانت عيناه البنيتان تدوران كعجين الكعك في الخلاط الكهربائي.

"عِيشي اللحظة"

نصحها ابنها المدمن وهو تحت تأثير الهيروين، ذلك الابن الشاعر الذي ظل الأقرب إلى قلبها. لا عجب أن والتر كان يضاجع كل ما يتحرك.

قالت ليلي، وهي تشد منشفتها أكثر حول صدرها:

- أظن أنكَ يجب أن تعود إلى بيتك.

نهض إيرف بحزن من مكانه.قالت ليلي:

- لا ينبغي أن تلوم نفسك. ستشعر بتحسن حين تغسل وجهك.

قال إيرف بتردد:

- ربما.

سلمته ليلي مكنسته وممسحته، وحملت كيس القمامة بنفسها، ثم بدأت بتوجيهه نحو الممر بدفعة خفيفة. وأرشدته حتى الباب الأمامي. عندما فتحته، وجدت رجلاً وسيماً بقميص أسود وجينز أسود، يحمل حقيبة أدوات، واقفاً على ممسحة الباب.قال إيرف:

- آه، فريد! لقد تلقيت رسائلي.

لم تتحرك عضلة واحدة في وجه فريد. بدا منحوتًا، كما خمنت ليلي، من خشب مُلطخ بالشاي. أشبه بتمثال ملاك من حضارة أخرى، ربما من المستقبل الساحر؟ تلمع عيناه الخضراوان للحظة، وكأن طاقة تنبض داخله، أو ربما كان ذلك بسبب لمعان شعره الأحمر الناعم—بلون خشب خزانة الأرز في منزلها—الذي جعل عينيه تشعان. أو ربما كانا يتلألآن بسخرية من هذا المشهد العجائزي الذي وجدت ليلي نفسها، ولأسباب غامضة، جزءاً منه.

قال إيرف:

- المشكلة هناك في غرفة النوم .

انزلق فريد، برشاقة نمر الغابة، متجاوزاً إيرف بقميصه الملون وليلي بمنشفتها، وتوجه نحو الممر.قال إيرف، مركزاً الآن بالكامل على ليلي.

- كان من دواعي سروري التحدث معك، أنتِ شخص طيب.

فكرت ليلي.طيب؟! الطيبة لم تأتِ بأي أحد إلى أي مكان! لكنها قالت:

- شكراً لك.

- ربما يمكنني أن أدعوكِ لاحتساء القهوة يوماً ما؟

قالت ليلي:

- سنرى، إيرف، الله وحده يعلم ما يخبئه المستقبل لأي منا. في عمري هذا، لا أزعج نفسي بشراء مواضيد خضراء.

ابتسم قليلاً عند سماع ذلك، وأخذ كيس القمامة من يدها. ثم استدار إيرف حاملاً مكنسته وممسحته، واتجه نحو المصعد واضغط على الزر.

بالعودة إلى الشقة، في غرفة النوم، كان فريد الغامض يفحص الثقب في السقف بعينيه.قالت ليلي:

-  بعض الجص سيصلح هذا، أليس كذلك؟

حوّل فريد نظره من السقف إليها، متفحصاً إياها بعينيه الزمرديتين.

وقف الاثنان هكذا لبرهة، قبل أن تدرك ليلي أن منشفتها قد انزلقت، كاشفةً عن جانبها الأيسر.كان فريد يحدق في صدرها.حسناً، ولماذا لا؟ فكرت ليلي. إننا نعيش مرة واحدة فقط. تركت المنشفة تسقط إلى قدميها.(لقد رأت هذه الحركة مراراً في الأفلام!)

فيما بعد، وهما عاريان على السرير في غرفة التلفاز، وكان فريد قد دخلها من الخلف، إحدى يديه تداعب بظرها، والأخرى تقبض على ثديها – (توقعت ليلي أن يكون جسده خاليًا من الشعر، وأن يكون فخذه ناعمًا كالدمية كين، لكن لا، فريد رجلٌ بكل معنى الكلمة، رجلٌ بكل معنى الكلمة في كل شيء. كانت ستخبر ميرّا لاحقًا بذلك، وستقول لها بفخر، ممتزج بالحسد: "أحسنتِ يا أمي!") شعرت ليلي برغبة في أن تصرخ:

- يا والتر! كيف تخليت عني؟

لكنه كان قد مات. وليلي لم تكن ميتة.

ولذا، خرج صراخها من أعماق قلبها، كآهة واحدة عظيمة، ممتلئة، ودسمة، مشبعة باللذة.

(النهاية)

***

...................

* من كتاب: من حمقى من أجل الحب: قصص، بقلم هيلين شولمان . 2025

https://lithub.com/i-am-seventy-five

الكاتبة: هيلين شولمان/ Helen Schulman: (مواليد أبريل 1961) هي روائية وكاتبة قصة قصيرة ومقالة وسيناريو أميركية. حققت روايتها الخامسة This Beautiful Life نجاحًا عالميًا، وقد اختيرت ضمن قائمة 100 كتاب بارز لعام 2011 في نيويورك تايمز بوك ريفيو. وُلدت هيلين شولمان في مدينة نيويورك، حيث تعيش وتكتب وتدرّس. حصلت على درجة البكالوريوس من جامعة كورنيل، ودرجة الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة كولومبيا. نشرت حتى الآن سبع روايات، وصدر لها هذا الشهر( يوليو 2025 ) مجموعة قصصية بعنوان: حمقى من أجل الحب / Fools for Love.

 

بقلم: مارجا مينكو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

 ***

  سألتُ:

 - أما زلتِ تذكرينني؟

  نظرتِ المرأة إليّ بتمعن. كانت قد فتحت الباب قليلًا فقط. تقدمتُ ووقفتُ على العتبة، ثم أجابتْ بجفاف:

- لا، لا أعرفكِ.

- أنا ابنة السيدة س.

  أمسكت بالباب وكأنها تريد منعه من الانفتاح أكثر. لم يظهر على وجهها أيّ أثر للتعرّف. واصلت التحديق فيّ بصمت.

  ربما كنتُ مخطئة، فكرتُ، ربما ليست هي. كنتُ قد رأيتها مرة واحدة فقط، لفترة وجيزة، وكان ذلك قبل سنوات. لعلّي ضغطت على جرس المنزل الخطأ. تركتِ المرأة الباب وتنحّت جانبًا. كانت ترتدي سترة أمي الصوفية الخضراء. أزرارها الخشبية باهتة قليلًا من كثرة الغسيل. رأت أنني أحدّق في السترة، فاختبأت جزئيًا خلف الباب من جديد. لكنني عرفتُ الآن أنني على حق.

  سألتُ:

 - إذن، كنتِ تعرفين أمي ؟

  قالت المرأة:

 - هل عدتِ؟. ظننتُ أن لا أحد عاد.

 - فقط أنا.

 انفتح باب وأُغلق في الممر خلفها، وانبعثت منه رائحة عفنة.

  قالت:

 - يؤسفني أنني لا أستطيع أن أفعل شيئًا لأجلكِ.

 - لقد أتيتُ خصيصًا بالقطار. أردتُ التحدث معكِ قليلًا.

  قالت المرأة:

 - الوقت غير مناسب الآن. لا يمكنني استقبالك يمكن في وقتٍ آخر.

 أومأت بحذر وأغلقت الباب كما لو أنها لا تريد إزعاج أحد داخل المنزل.

  ظللتُ واقفة على العتبة. تحرّكت الستارة أمام النافذة البارزة. كان أحدهم يحدق بي ولا بدّ أنه سأل عما أريده. "لا شيء،" لابد أن المرأة أجابت. "لم يكن شيئًا."

  نظرتُ مجددًا إلى لوحة الاسم. مكتوب عليها "دورلينج" بحروف سوداء على خلفية بيضاء. وعلى عمود الباب، أعلى قليلًا، كان الرقم. الرقم 46.

  بينما كنتُ أمشي ببطء عائدةً إلى المحطة، فكرتُ في أمي التي أعطتني العنوان قبل سنوات. كان ذلك في النصف الأول من الحرب. كنتُ في المنزل لبضعة أيام ولاحظتُ على الفور أن شيئًا ما في الغرف قد تغير. افتقدتُ عدة أشياء. اندهشت أمي لأنني لاحظتُ ذلك بهذه السرعة. ثم حدثتني عن السيدة دورلينج. لم أكن قد سمعتُ بها من قبل، لكنها على ما يبدو كانت من معارف أمي القدامى، ولم تلتقِ بها منذ سنوات. ظهرت فجأةً وجددت الاتصال. ومنذ ذلك الحين، بدأت تزورنا بانتظام.

  قالت أمي:

 - في كل مرة تغادر فيها هذا المكان، تأخذ شيئاً معها. أخذت كل أدوات المائدة الفضية دفعة واحدة. ثم الصحون الأثرية التي كانت معلقة هناك. وقد واجهت صعوبة في حمل تلك المزهريات الكبيرة، وأخشى أن ظهرها قد تأذى من أواني الخزف.

 هزت أمي رأسها بحزن.وتابعت:

 - لم أكن لأجرؤ على طلب ذلك منها. هي من اقترحته عليّ بنفسها. بل أصرت على ذلك. كانت تريد إنقاذ كل أشيائي الجميلة. قالت: إذا اضطررنا لمغادرة هذا المكان، سنخسر كل شيء.

 سألتها:

 - هل اتفقتِ معها على أن تحتفظ بكل هذه الأشياء؟

 صاحت أمي:

 - وكأن الأمر يحتاج إلى اتفاق! سيكون إهانة صريحة أن نتحدث بهذه الطريقة. وفكري في المخاطر التي تتعرض لها في كل مرة تغادر فيها بابنا بحقيبة أو شنطة ممتلئة.

 بدا أن أمي لاحظت أنني لست مقتنعة تماماً. نظرت إليّ بتأنيب، ومنذ ذلك الحين لم نتحدث كثيرا في هذا الموضوع.

 في هذه الأثناء، وصلت إلى المحطة دون أن أعر الكثير من الاهتمام لما حولي في الطريق. كنت أسير في أماكن مألوفة لي لأول مرة منذ الحرب، لكنني لم أرغب في الذهاب أبعد مما هو ضروري. لم أرد أن أزعج نفسي برؤية الشوارع والمنازل المليئة بذكريات من زمن عزيز.

 في القطار أثناء عودتي، رأيت السيدة دورلينج مرة أخرى أمام عينيّ كما كانت في المرة الأولى التي التقيتها فيها. كان ذلك صباح اليوم التالي لليوم الذي حدثتني فيه أمي عنها. استيقظت متأخرة، وبينما كنت أنزل الدرج، رأيت أمي تودع أحداً. امرأة ذات ظهر عريض.قالت أمي:

 - هذه ابنتي.

 وأشارت لي أن أقترب.

 أومأت المرأة برأسها والتقطت الحقيبة الموجودة تحت حامل المعاطف. كانت ترتدي معطفاً بنياً وقبعة غير متناسقة.

 سألتُ وأنا أراها تعاني في حمل الحقيبة الثقيلة عند خروجها من المنزل:

 - هل تسكن بعيداً؟

 أجابت أمي:

 - في شارع ماركوني. الرقم 46. احفظي هذا العنوان.

***

  كنت قد تذكرتُ العنوان. لكنني انتظرت وقتًا طويلًا قبل الذهاب إلى هناك. في البداية، بعد التحرير، لم أكن مهتمةً البتة بتلك الأشياء المخزونة، وبالطبع كنت خائفةً منها بعض الشيء. خائفةً من مواجهة أشياء كانت تنتمي إلى ماضٍ لم يعد موجودًا؛ أشياء مُخبأة في الخزائن والصناديق تنتظر عبثًا أن تُعاد إلى أماكنها الأصلية؛ أشياء صمدت طوال تلك السنوات لمجرّد كونها "أغراضًا".

 لكن شيئًا فشيئًا، عاد كلّ شيء إلى طبيعته. أصبح لون الخبز أفتح، ووجدت سريرًا يمكن النوم فيه دون خوف، وغرفةً بإطلالة اعتدت عليها يومًا بعد يوم. ثمّ في أحد الأيام، لاحظت أن الفضول بدأ ينتابني حيال تلك الممتلكات التي لا بدّ أنها ما زالت في ذلك العنوان. أردتُ رؤيتها، لمسها، تذكّرها.

 بعد زيارتي الأولى الفاشلة لمنزل السيدة دورلينج، قررت المحاولة مرة أخرى. هذه المرة، فتحت الباب لي فتاة في الخامسة عشرة تقريبًا. سألتها إن كانت أمها في المنزل. أجابت:

 - لا، والدتي في مهمة.

 قلت:

 - لا بأس، سأنتظرها.

 تبعْتُ الفتاة عبر الممر. كان هناك حامل شموع حديدي عتيق الطراز لعيد الحانوكا معلقًا بجانب مرآة.لم نكن نستخدمه أبدًا لأنه كان أثقل وأكثر تعقيدًا من الشمعدان العادي.

 سألت الفتاة:

 - ألا تفضلين الجلوس؟

 فتحت باب غرفة المعيشة وأدخلتني أمامها. توقفتُ، مذعورة. كنتُ في غرفة أعرفها ولا أعرفها. وجدتُ نفسي محاطة بأشياء كنتُ أرغب حقًا في رؤيتها مجددًا، لكنها ثقلت عليّ في تلك الأجواء الغريبة. ربما بسبب الطريقة العديمة الذوق التي رُتّبت بها كلّ الأشياء، أو بسبب الأثاث القبيح، أو الرائحة العفنة التي علقت في المكان، لا أعرف؛ لكنني بالكاد تجرأت على النظر حولي. حركت الفتاة كرسيًا. جلستُ وحدقتُ في مفرش المائدة الصوفي. مرّرت يدي عليه. شعرتُ بدفء في أصابعي من فرك القماش. تتبعتُ خطوط النقوش. في مكان ما على الحافة، يجب أن تكون هناك علامة حرق لم تُصلح أبدًا.

  قالت الفتاة:

  - ستعود أمي قريبًا. لقد أعددتُ لها الشاي. هل ترغبين في فنجان؟

  - شكرًا لك.

  رفعتُ نظري. وضعت الفتاة الأكواب على طاولة الشاي. كان لها ظهر عريض، تمامًا مثل أمها. سكبت الشاي من إبريق أبيض، لم يكن عليه سوى إطار ذهبي حول الغطاء، كما تذكرت. فتحت صندوقاً وأخرجت منه بضع ملاعق.

 - هذا صندوق جميل.

  سمعتُ صوتي. كان صوتًا غريبًا، كما لو أن كل نبرة بدت مختلفة في هذه الغرفة.

 - أوه، هل تعرفين هذه الأشياء؟

 استدارت نحوي وقدّمت لي الشاي. ضحكت.

 - تقول أمي أنها تحفٌ قديمة. لدينا الكثير منها.

  أشارت حول الغرفة.

 - يمكنكِ أن تري بنفسك.

 لم أكن بحاجة إلى متابعة إشارتها. كنت أعرف أيّ الأشياء تقصد. نظرتُ فقط إلى لوحة الطبيعة الصامتة المعلقة فوق طاولة الشاي.

 عندما كنت طفلة، كنت دائمًا أتخيل نفسي آكل التفاحة المرسومة على الطبق القصديري.

 قالت:

 - نستخدمها لكل شيء. ذات مرة أكلنا حتى في الصحون المعلقة على الحائط. كنتُ أرغب في ذلك كثيرًا. لكنها لم تكن تجربة مميزة.."

 وجدتُ علامة الحرق على غطاء الطاولة. نظرت الفتاة إليّ متسائلة.

 قلت:

 - نعم، نعتاد لمس كل هذه الأشياء الجميلة في المنزل لدرجة أننا بالكاد ننظر إليها. لا نلاحظ إلا عندما يفقد شيء ما، لأنه يحتاج إلى إصلاح أو لأننا أعرناه لشخص ما، مثلًا."

  مرة أخرى، سمعتُ ذلك الصوت غير الطبيعي لصوتي، ثم أكملت:

 - أتذكر أن أمي سألتني ذات مرة إن كنتُ أرغب في مساعدتها في تلميع الفضيات. كان ذلك منذ وقت طويل، وربما كنتُ أشعر بالملل ذلك اليوم، أو ربما كنتُ مضطرة للبقاء في المنزل لأنني كنت مريضة، فهي لم تطلب مني ذلك من قبل. سألتها أي فضيات تقصد، فأجابتني باستغراب: 'الملاعق والشوك والسكاكين، بالطبع'. وكان هذا هو الأمر الغريب: لم أكن أعرف أن أدوات المائدة التي نأكل بها يوميًا كانت من الفضة."

  ضحكت الفتاة مجددًا.

  قلتُ وأنا أحدق فيها:

  - أراهن أنكِ أنتِ أيضًا لا تعرفين.

 سألت:

  - أدوات الطعام التي نستخدمها؟

 - حسنًا، هل تعرفين؟

 ترددت قليلًا، ثم مشت نحو خزانة الطعام وحاولت فتح أحد الأدراج.قالت:

 - سألقي نظرة. إنها هنا.

  قفزت واقفة:

 - لقد نسيت الوقت! لا بد أن ألحق بالقطار.

 كانت يدها على مقبض الدرج. قالت:

 - ألا تريدين انتظار أمي؟

- لا، يجب أن أذهب.

 مشيت نحو الباب، وسحبت الفتاة الدرج.

 قلتُ:

 - أعرف الطريق.

 وبينما كنتُ أعبر الممر، سمعت رنين الملاعق والشوك.

***

 عند ناصية الطريق رفعتُ رأسي لأقرأ لافتة الاسم. مكتوبٌ عليها: شارع ماركوني. كنتُ في المنزل رقم ٤٦. العنوان كان صحيحًا. لكنّي لم أعد أرغب في تذكّره الآن. لن أعود إلى هناك، لأنّ الأغراض التي ترتبط في ذاكرتك بالحياة المألوفة للأيام الخالية تفقد قيمتها فورًا حين تراها مجدّدًا في بيئة غريبة، منفصلة عن تلك الذكريات. وماذا عساي أن أفعل بها في غرفة مستأجرة صغيرة، حيث ما تزال بقايا ورق التعتيم الأسود معلّقة على نوافذها، ولا يتسع درج الطاولة الضيق لأكثر من بضع قطع من أدوات المائدة؟

عقدتُ العزم على نسيان ذلك العنوان. من بين كلّ ما كان عليّ نسيانه، كان هذا هو الخيار الأسهل.

(تمت)

***

.......................

الكاتبة: مارجا مينكو/ Marga Minco (اسم مستعار لسارة مينكو، ٣١ مارس ١٩٢٠ - ١٠ يوليو ٢٠٢٣) صحفية وكاتبة هولندية. نشأت مينكو في مدينة ذات أغلبية كاثوليكية، والتحقت بمدرسة حكومية للبنات في بريدا، حيث شعرت بالحرج بسبب هويتها اليهودية. في سن الثامنة عشرة، بدأت العمل كصحفية في الصحيفة المحلية. من أبرز أعمالها: العشب المر - سردية صغيرة (1957). العنوان (1957). الجانب الآخر (مجموعة قصصية) (1959). نقيضان (مع بيرت فوتن) (1961). ألقِ نظرة في الدرج (1963).المنزل المجاور (1965).العودة (1965). منزل فارغ (1966). اليوم الذي تزوجت فيه أختي (1970). السيد فريتس وقصص أخرى من الخمسينيات (1974). يمكنك أن تتحدث عن الحظ (في "بولكبويك 46") (1975). العنوان وقصص أخرى (1976) وغير ذلك من القصص والمقالات.

بقلم: والت ويتمان

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

افرح يا زميل النوتي

افرح

صرخت والحماس يكاد

يقتلني!

لقد انتهت حياتنا

لقد ابتدأت حياتنا

و نحن نرفع المرساة

الطويلة.. الطويلة

وأخيرا تتخلص

السفينة

وتنط

فتمخر عباب البحر

برشاقة

في منأى عن الساحل

افرح يا زميل النوتي

افرح

***

....................

- (والت ويتمان): شاعر أمريكي رائد. ولد في 31 آيار 1819 في (ويست هيلس). عمل في التدريس وأيضا في الصحافة خلال الفترة 1831 – 1845. صدر له ديوان (أوراق العشب) و(مذكرات الحرب) و(إني أجلس وأتامل) وغيرها. ومن أشهر قصائده (أغنية الطريق المفتوح)، (بعيد تناول العشاء والتحدث)، و(التضرع الدائم). أصيب بالشلل في عام 1873. حارب التعصب والفاشية والديكتاتورية. أفضى إلى ربه عام 1892. نشرت هذه الترجمة في مجلة (الطليعة الأدبية) العراقية، العددان (1 / 2) 1987. عن (في مرفأ الشعر) للمترجم، أربيل – العراق 2001.

بقلم: جهـﭭـرتشند ميجاني

ترجمة: جيني بهات

ترجمها إلى العربية: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

على الحدود الغربية من إقليم سوراث، تقع قرية تُدعى رانافاف، سُمّيت تيمّنًا ببئرٍ محليّ شهير.في زمنٍ مضى، كانت المزارع في تلك المنطقة تزدهر كما تزهر الأزهار الدائمة. وكما يتسلّق الرضيع جسد أمّه ليصل إلى ثدييها المانحين للحياة، كذلك تسلّقت عائلات مجتمع "كانبي" الزراعيّ التلال، واستقرّت في حضن الأرض الأم، لزراعة الحبوب وكسب لقمة العيش. هذه قصة عن ذلك الزمان.

كان كيتو باتِل أحد ملاّك الأراضي من طائفة "كانبي" في تلك الأنحاء.وكان له ابنةٌ بلغت من الجمال حدًّا جعلهم يطلقون عليها اسم أجوالي، أي "المُتوهِّجة" – لكنهم كانوا ينادونها ببساطة: أنجو. وحين كانت أنجو تبتسم ابتسامةً خفيفة، كان النور، للحظة، ينتشر من حولها كالأشعة.

منذ ساعات الصباح الأولى، كانت أنجو تُعدّ من عشر إلى اثنتي عشرة رغيفًا من الخبز المُسطّح الغنيّ لتقدّمه لوالدها. ثم تنظّف الزرائب التي تُؤوي ثيرانهم الأربعة، وتكنس ساحة الدار حتى تبدو كأنها حديقة نظيفة هادئة. وبعدها، تحلب الجاموستين، تمسك بأضرعها الغليظة – السميكة مثل عضد رجل – وتجذبها بمهارة بين قبضتيها حتى تنهمر منها جداول دافئة من الحليب الكثيف. ثم تخضّ هذا الحليب الطازج بسرعة لتُحضّر أكبر قدر ممكن من اللبن الرائب.

كان الكثير من الخُطّاب يتوافدون لطلب يد "أنجو" الفاتنة الموهوبة، لكنّ "كيتو" كان يردّهم بلطف قائلاً: " ما تزال ابنتي صغيرة على الزواج."

***

في يومٍ من الأيام، زار شابٌ من قبيلة الكانبي منزل كيتو باتيل. كان يرتدي ثياباً بالية بالكاد تستر جسده النحيل، ووجهه الشاحب يكسوه لونٌ باهت. لكن في عينيه نظرةٌ أثارت الشفقة. فقرر كيتو باتيل تشغيله كعامل في الحقل، مقابل ثلاث وجبات يومياً، وثوبين، وزوجٍ من الأحذية، وحين يحين موعد الحصاد، يحصل الشاب على قدر ما يستطيع حصده بنفسه من سنابل القمح. وهكذا بدأ الشاب الذي يدعى ميبو عمله على الفور.

كانت أنجو نفسها تتولى مهمة إحضار غداء ميبو يومياً إلى الحقل. كانت تنتظر هذه اللحظة بشوقٍ بالغ، حتى أنها كانت تنهي جميع أعمالها المنزلية قبل الظهيرة بوقتٍ طويل. رغيفان من الخبز السميك تعلوهما قطعة كبيرة من الزبدة، وسيقان الكوليوس المخللة بالليمون التي كانت تعدها خصيصاً له، وإبريقٌ فخاري مملوء باللبن الرائب الغليظ - حين تجمع أنجو هذه الأطعمة وتتوجه بها إلى الحقل، كان وجهها يكتسب جمالاً يفوق أي وقتٍ آخر من النهار.

كانت أنجو تجلس بجانب ميبو تطعمه بيدها، مازحةً إياه بتهديداتٍ عابرة:

- إن لم تأكل، فستموت أمك!"

فيردّ وهو يبتسم:

- ليس لي أمٌّ حتى أموتَ عليها .

فتضيف وهي تضغط على كتفيه:

- إذن سيموت أبوك!

فيقول وهو يهزّ رأسه:

- ولا أبَ لي أيضاً.

فتغمز بعينيها وتقول:

-  زوجتك إذن ستموت!

فيجيب ببراءة الرّحل:

-لعلّ أمها ما تزال تربي تلك الفتاة - زوجتي المستقبلية - في مكانٍ ما من هذا العالم.

فتميل نحوه وتقول بصوتٍ حنونٍ قاطع:

-  إذن.. سيموت أحبّ الناس إلى قلبك!

عندما يسمع ذلك التهديد الأخير، يعود الفتى إلى طعامه بشهيةٍ متقدة. يومًا بعد يوم، كان سعده يزداد بلا حدود. في أحد الأيام، سأل الفتى:

-  لماذا تُظهرين لي كل هذا اللطف؟

فأجابت ببساطة:

-    لأنك يتيم.. لا أمَ لك ولا أب.

وفي مرة أخرى، بينما كان صوت عجلة الساقية يتردد "كينشوك-كينشوك" لتروي الحقل، سألت أنجو:

- ميبو، ما الذي تتحدث عنه العجلة والمحور؟ ماذا يقولان لبعضهما؟

فأجاب ميبو بابتسامة خجولة:

- تذكّره بحياته الماضية. تقول للمحور: 'أيتها السيدة المحور! في تلك الحياة السابقة، كنتِ ابنة ملاك الأراضي باتل، وأنا كنتُ مجرد عامل فقير...

قالت أنجو ضاحكةً في حياء:

- يا له من بطل شجاع! هل نطقتَ أخيرًا بما في قلبك؟ لقد أصبحتَ جريئًا أكثر مما ينبغي، أيها القرد الخجول! انتظر فقط حتى أخبر أبي!

هكذا كانا يتبادلان ألعاب الغزل البريئة.

هكذا مر الصيف في ظل هذه اللحظات السعيدة. كان ميبو قد عمل بجدٍ لا يكل لحرث الأرض حتى أصبحت ناعمة كفراشٍ وثير. لم يترك حتى عشبةً ضالةً قائمة، فما بالك بالأعشاب الضارة. تغطت يداه بالجروح من قلع السيقان اليابسة المتشابكة. وكانت أنجو تأتي لتنفث نسماتها الباردة الناعمة على تلك الجروح، وتنزع الأشواك من قدميه برقةٍ تشبه دبيب النمل على الرمال.

وعندما هطلت أمطار الموسم، كان الحظ السعيد يغمر ميبو كما تغمر الأمطار الأرض العطشى. نبتت سيقان الذرة الرفيعة والدخن بضخامة حتى لم يعد بمقدوره أن يمسك واحدة منها بقبضة يده. وفي ظهيرة أحد الأيام، بينما كان ميبو يحدق بلا رمش في المحصول الشامخ، سألته أنجو:

-    فيما تحدق هكذا؟

فأجاب وهو يبتسم:

- أحاول أن أعرف إذا ما كان هذا المحصول كافياً لإقناع امرأة بالزواج مني هذا العام.

فتقول أنجو بخبث:

- وماذا لو لم تكن بحاجة إلى أيّ من هذا المحصول لتحصل على زوجة؟

فيجيب ميبو ببراءة:

- عندها سيُقال عني إنني يتيمٌ معدم، لا يملك شيئًا ليقدّمه لعروسه!

***

تم تحديد موعد يوم الحصاد الكبير. وخلال الأيام التي سبقت الموعد، كان ميبو يقطع ربطة من الحشيش الأخضر كل يوم ويهديها إلى الحداد في القرية. كانا قد صارا صديقين مقرّبين، وقد صنع له الحداد منجلًا صغيرًا. وبعد أن صيغَ المنجل المعدني، تم تنظيفه وشحذه بماء بئر رانافاف. لقد أصبح ذا شفر حادّ للغاية، كالسيف، لو اقترب من جسدٍ لقطع أطرافه بضربة واحدة.

وفي صبيحة يوم الحصاد المنتظر، حمل ميبو منجله الجديد وبدأ يقطع سنابل المحصول ببراعة. بحلول الظهيرة، كان قد حصد ثلاثة أرباع الحقل! جاء كيتو باتِل ليتفقد الأرض، ثم عاد إلى بيته مذهولًا، وعيناه جاحظتان. قال لزوجته:

- يا باتلاني، لقد خسرنا! بحلول الليل، سيكون ذلك الفتى قد حصد كل ما في أرضنا. وبحسب الاتفاق، كل ما يحصده سيكون ملكًا له. فماذا سنأكل بقية العام؟

سمعت أنجو كلام أبيها، فبدأت تتزين بأفضل ما لديها: ارتدت تنورة أرجوانية فاخرة مطرزة بقطع المرايا لجلب الحظ، وشالاً قرمزيًا كعروس لتغطية رأسها. سرحت شعرها وضفرته بطريقة العرائس، وملأت فراق رأسها الـسيندور الأحمر القاني، مثل العرائس الجُدد.

في هذا اليوم الخاص، خرجت أنجو مبكرًا كالمعتاد ومعها وجبة ميبو، لكنها أعدت له مفاجأة: حلوى "لابسي" شهية، صنعتها من دقيق القمح المحمص، وسكر الجاجري، والحليب الكريمي، والمكسرات، والفواكه المجففة.

جلس ميبو ليأكل، لكن قلبه كان مضطربًا اليوم. راحت أنجو تثرثر في مواضيع شتى لإبقاء الأجواء مرِحة، لكنه لم يُبدِ أيّ اهتمام. أسرع بحشو فمه ببضع لُقيمات، ثم غسل يديه إشارةً إلى أنه انتهى من الأكل. قدمت له أنجو حبة الهيل المعطرة التي كانت مربوطة بطرف شالها - وهي عادة بعد الأكل - لكنه رفض حتى هذه الهدية النفيسة اليوم. نهض ميبو فجأة...

- اجلس الآن، هيا! لن تبقى بلا زوجة إن فوّتَّ حصاد سنبلتين فقط.

لكن ميبو لم يرضخ لها. ولم يبتسم حتى لمزحتها. قالت:

-اليوم، رؤوس الحَبّ أعزّ عليك من أنجو، أليس كذلك؟

لكن قلب ميبو لم يَلِن. قالت تتوسّل:

- حسنًا، سأزوّجك بعروسك المستقبلية مجانًا! اجلس معي قليلًا فقط… انظر إليّ، على الأقل!

لكن ميبو أدار وجهه إلى الجهة المعاكسة، ومضى نحو سيقان الزرع الناضجة. قالت وهي تهرع إليه:

- انتظر… لماذا لا تستمع إليّ؟

كان مقبض المنجل قد ثُبّت في حزام قميص ميبو،

وكان نصله المُقوّس يتدلّى بتراخٍ حول عنقه — كما هي العادة بين عمّال الحقول حين يتوقفون عن الحصاد لأخذ قسط من الراحة. وفي اندفاعها البريء المليء بالحبّ، أمسكت أنجو بمقبض المنجل وجذبته نحوها قائلة:

- لن تتوقف، أليس كذلك؟

فتوقّف ميبو. توقّف إلى الأبد.بمجرد سحبة صغيرة،غاص ذلك المنجل المشحوذ بماء رانافاف عميقًا في عنقه.وقبل أن ترفع أنجو ذراعها للإمساك بالمقبض، كان ميبو قد ابتسم لها ابتسامة صغيرة، خفيفة. وظلّت تلك الابتسامة — مثل الضحكة المجمدة — عالقة على وجهه إلى الأبد.

في تلك اللحظات الأخيرة، تحققت أمنية ميبو بالزواج. نعم، تزوج ميبو. بذات الثياب الفاخرة التي لبستها يوم الحصاد - ذلك التنّور الأرجواني الداكن المطرّز بقطع المرايا الصغيرة لجلب الحظ، وذلك الرداء القرمزي الطويل الذي تتهادى خيوطه الذهبية - تمدّدت أنجو إلى جانب جثمان حبيبها ميبو على محرقة جنائزية . باركهما إله النار "أجني" بسريرٍ زفافيّ من الجمر المتوهّج، بلون الورود الحمراء.

ومنذ ذلك الحين، يُردّد الناس هذه الأبيات تخليداً لذكرى العاشقين:

منجلٌ حادّ وقوي،

يحصد الأرواح ويكدّسها عالياً.

عذراءٌ في رانافاف، وادعة العين،

تصعدُ إلى فراشٍ مشتعل لتموت طائعة.

ومنذ ذلك الحين، ظلّ بئر رانافاف الشهير مُغلقًا ومدفونًا تحت الأرض ، مدفوناً في أحضان النسيان. واليوم، يقوم نُصُب تذكاري كبير في الموقع الذي كان فيه البئر ذات يوم. لم يعد هناك أي أثر مرئي للبئر نفسه، سوى الأبيات الشعرية المنقوشة التي تحكي قصته، كشاهد وحيد على ما كان.

***

.......................

* ألّف جهـﭭـرتشند ميجاني (1896–1947) ما يقرب من مئة كتاب – بين روايات وسير ذاتية ومجموعات من القصص والقصائد والأغاني والمسرحيات. وقد كرّس حياته للحفاظ على التراث الثقافي المميّز لإقليم سوراشترا – شبه جزيرة كبيرة تمتدّ في بحر العرب من ولاية غوجارات الواقعة غرب الهند، المعروفة بأنها مسقط رأس المهاتما غاندي وآخر موطن طبيعي لأسود آسيا.

في عام 1922، شرع ميجاني في رحلة استمرت عدة سنوات عبر سوراشترا، بهدف توثيق تراثها الشفهي قبل أن تلتهمه قوى الاستعمار والتصنيع والتحضّر والنزعة القومية السابقة للاستقلال.

وقد فرض غياب الطرق المعبدة أو خطوط السكك الحديدية آنذاك على ميجاني السفر عبر تضاريس صعبة على ظهور الخيل أو الجمال أو في عربات يجرها الثيران، ليصل إلى القرى ويلتقي بالفلاحين والمتمرّدين والخارجين عن القانون.

تأتي هذه القصة، "العروس المتوهّجة" ( العنوان الأصلي: "Parnetar")، من الجزء الثاني ضمن مجموعة مكوّنة من خمسة مجلدات بعنوان "جوهـر سوراشترا"، نُشرت بين عامي 1923 و1927.

تدور أحداث القصة في بلدة رانافاف، وهي موقع تتداخل فيه الأساطير المستمدة من ملحمة الرامايانا الهندية القديمة.

في مقدمة "جوهـر سوراشترا"، يؤكّد ميجاني على تصوير شخصياته التاريخية ببساطة وصدق، من دون أي تزويق. وكأيّ راوي فلكلوري بارع، كان يُدرك أن الحكاية الشعبية ما هي إلا "إثنوغرافيا ذاتية" – أي أن الثقافة تحكي عن نفسها، لا كما يصفها الآخرون من الخارج.

وتهدف ترجمتي، كما تقول جيني بهات، إلى الحفاظ على الخصوصيات الثقافية – من الوجبات والملابس وتفاصيل الحياة اليومية، وصولًا إلى الرؤية الكونية الهندوسية التي تُجسَّد في الفصول الأخيرة – مع تقديم قصة يجد فيها القارئ بُعدًا إنسانيًا عالميًا عن الحب والبراءة والحوادث التي قد تشكّل مسار حياتنا.

- جيني بهات (المترجمة)

ملاحظة المؤلف: لقد مُنحت الشخصيات في هذه القصة أسماءً خيالية، حيث تعذّر التأكد من الأسماء الحقيقية. والقصة مُترجمة عن اللغة الغوجاراتية بواسطة جيني بهات، وهي مأخوذة من كتاب: جوهر سوراشترا: حكايات شعبية من غوجارات"، المجلد الثاني.

بقلم: قوبادي جلي زادة

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - حلم

عندما تغفو زوجتي

و هي ممسكة بحافة

دفترها

فإنها تحلم

بقصيدة مجنحة

لا بواجهة محل

الصائغ

**

2 - سقوط

أضناني التعب

فتوسدت حذائي

نائما

عندها حلمت

وقد صار جسدي

ملاذا للأذبة

والجراح

**

3 - شاي بالحليب

لكم هو أبيض

جسدك

كأنه ساقية من حليب

لكم هو أسمر

جسدي

كأنه ساقية من شاي

فليمزج خريرهما

معا

***

...........................

- قوبادي جلي زادة: شاعر كردي عراقي معروف، ومن رواد شعر الهايكو الكردي. ولد عام 1956. خريج كلية القانون والسياسة للسنة الدراسية 1976 / 1977. منح عدة جوائز وكرم أكثر من مرة. نشر (8) مجاميع شعرية. من مؤلفاته (فان إيروتيك مع روستم اغالة، ترجمة أرخوان رسول). له أعمال مترجمة للعربية والإنكليزية والفارسية والتركية. ترجمنا ونشرنا له ضمن مجاميع شعرية مشتركة وفي الصحف والمجلات العراقية والعربية. عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001. 

قصة: سيلفيا مورينو-جارسيا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قِيلَ لها إنها ستعرف دائمًا متى سيأتي حبيبها من خلال تعويذة عرافة. كانت لعبة تلعبها مع فتيات القرية الأخريات — معتقدات غريبة تنتقل من جيل إلى جيل. كانت التعويذة تتطلب أن تخلع العذراء قميص نومها وتضعه تحت وسادتها ليلة اكتمال القمر. فتحلم بوجه رجل، وفي الصباح، تجد شيئًا عند عتبة بابها يعطيها دليلًا عن هوية زوجها المستقبلي. لم تستطع جوديث أن تتذكر الوجه عندما استيقظت. ومع ذلك، بعد أن ارتدت ملابسها في عجلة، بالكاد تكلفت عناء تمشيط شعرها، رأت غصينًا على درجات منزلها. عرفت أنه يرمز إلى الأشجار، إلى الغابة وكان ذلك جيدًا، لأنها كانت تكره القرية وسكانها، وتُفضل بدلاً من ذلك تخيل مناظر الأراضي البعيدة وفي قصور رجالٍ وسيمين من طبقة النبلاء.

وبعد بضعة أشهر، تحققت النبوءة. دخل غريب إلى القرية متعثر الخطى. كان صيادًا، يرتدي معطفًا رماديًا من الصوف وحذاء أسود يصل إلى منتصف ساقه، يتمتم بكلمات غير مفهومة وهو يخطو إلى داخل المتجر. تظلّل وجهه قبعة واسعة الحواف. في الفترة من الربيع وحتى الخريف، كان يُقام سوق للمزارعين كل أسبوعين، لكن في قسوة الشتاء، كان متجر أختها من الأماكن القليلة التي يمكن للمسافر أن يبتاع منها بعض الضروريات.كانت  أليس قد تزوّجت زواجًا جيدًا. وحين مات زوجها، ترك لها بيت الضيافة ذو الباب البنفسجي، والمتجر الملاصق له.

كان هناك نُزل في القرية، لكنه أغلق أبوابه حتى ذوبان الجليد. أما الحانة، فكانت أسرّتها موبوءة بالبراغيث. كل من احتاج مكانًا لائقًا للمبيت في فصل الشتاء، قصد بيت الضيافة. قال الرجل وهو يدخل المتجر ويخلع قبعته:

- قيل لي إنك تعرفين كيف أجد غرفة أقيم فيها.

كان ذا شعر بني فاتح، ووجه وسيم الملامح وقويّ التكوين. أنزلت جوديث الكتاب القديم الذي كانت تقرأه، وأومأت برأسها:

-  أختي تدير بيت الضيافة المجاور. الغرف نظيفة، والطعام وفير.يمكنك أن تلقي نظرة على الغرف قبل أن تدفع، إن أحببت.

قال مبتسمًا:

- أعتقد أنها ستكون مناسبة. تبدين أهلًا للثقة، وإن لم يكن السعر باهظًا، فسأكون راضيًا.

ابتسم لها ابتسامةً كادت أن تسقط الكتاب من يدها. قالت:

- تعال معي.

أرشدت الرجل. وبينما كانا يسيران معًا، فكرت: "إنه هو، إنه هو، إنه هو".

***

كان اسم الصياد ناثانييل، وبقي طوال ذلك الشتاء، يستكشف الغابات والجداول القريبة، ثم يعود محمّلًا بالأرانب والثعالب التي تُسلخ جلودها لاستخدامها في صنع الفرو. كان الضيف الوحيد في المنزل، رغم أن أليس وجوديث والأطفال كانوا يعيشون هناك أيضًا.

قبل أن تتزوج أليس وتلد طفلين، عاشت الشقيقتان مع الجدة في منزل أصغر. كانت جوديث مضطرة لمساعدة الجدة في غسل الملابس التي كانت تتلقاها من الناس، فخشنت يداها منذ كانت طفلة صغيرة. أما أليس، فلم تضطر أبدًا لفرك قطع الصابون على الملابس، لأنها كانت جميلة، وتوقعت الجدة أنها ستتزوج رجلًا نبيلًا. وهذا ما حدث. انتقلت الجدة وجوديث للعيش في بيت الضيوف مع أليس، وبينما استطاعت أليس شراء فساتين مخملية وقفازات تدفئ يديها، وعاشت الجدة بقية أيامها في راحة، ظلّت حياة جوديث كما هي، لم تتغير.

كانت جوديث قد بلغت الثامنة عشرة من عمرها، لكنها ما زالت تغسل الملابس؛ غير أنها الآن تغسل لأليس، والتوأمين، والضيوف كذلك.

كان اسم الصياد ناثانييل، وكان وسيمًا أكثر مما يبدو للوهلة الأولى، بعينين جميلتين تعبران عن الكثير وضحكة مُبهجة. كان يحلق ذقنه بدقة ويمشط شعره بأناقة. كان يحكي في العشاء قصصًا تجعل الأطفال يصرخون من الفرح — كان التوأمان في الرابعة — وتجعل أليس تبتسم. كانت جوديث تبتسم هي الأخرى، وتغسل ملابسه بأقصى درجات الحرص، وتفرك أرضية غرفته حتى تبرق، وتنفض الغبار عن أرجاء المنزل لتضمن أنه لن يجد ما يشتكي منه. كان ناثانييل يتمتع بمظهر رجل نبيل، وأرادت أن تعاملَه على هذا الأساس. كان يقول: " صباح الخير، جودي. " كم بدا صوته جميلًا—عميقًا ونقيًا. وكانت تسأله: "صباح النور. ما الذي تأمل في صيده اليوم؟" فيخبرها إن كان يأمل في الحصول على فراء ثعالب أو ظربان، أو شيء آخر. ويتحدث عن قطع الأوتاد أو بناء المصائد، وكيف كان يصطاد في وقت فراغه في شبابه، لكنه الآن يحاول أن يصبح صيادًا محترفًا، فهناك مالٌ يُكسب في هذا العمل إن كان المرء ماهرًا بما يكفي. وكان المال هو ما يسعى إليه. ثم يلوح لها مودعًا بغمزة وابتسامة. وفي مناسبات قليلة، كان يوجه لها إطراءً، كان يقول: "جودي الجميلة، أراك لاحقًا" مما يجعلها تحمر خجلاً.

لسوء الحظ، لم يكن ناثانييل هو الوحيد الذي كان يصطاد ذلك الشتاء. لم تدرك جوديث ذلك إلا بعد فوات الأوان. كانت أليس ترتدي ملابس الحداد منذ عام، وفي أول أيام الربيع، أعلنت أن هذا يكفي. وعادت إلى ارتداء الفساتين الملونة التي تركتها في خزانتها.

وبعد ذلك بوقت قصير، أصبح واضحًا للجميع في البلدة — ما عدا جوديث ربما، التي حجبت أحلامها وخيالاتها الجامحة رؤيتها — أن أليس كانت تفكر في جعل الضيف ضيفا  دائمًا في منزلهم. كان شابًا وسيمًا، وتهامس القرويون: كان زوج أليس الأول مريضًا،دميمًا، وثروته كانت تعويضًا عن قبحه.أما هذه المرة، فالأمر مختلف — الشاب قد كسب ودّ السيدة بسحره ووسامته. ورغم أن البعض رفعوا حواجبهم استغرابًا لهذا الزواج السريع، إلا أن الجميع اتفقوا على أنه لا يمكن توقع أرملة في الثالثة والعشرين أن تدير عملًا ومنزلًا بمفردها. كان الصياد مهذبًا؛ يستطيع القراءة والكتابة والحساب. ويستطيع إجراء أعمال في البلدة لا تستطيع أليس القيام بها. سيكون زوجًا ثانيًا مناسبًا.

كان اسم الصياد ناثانييل، وتزوج أليس في الصيف. انتقل من غرفته في الطابق الأرضي إلى إحدى الغرف في الطابق العلوي. اشترت له زوجته ملابس جديدة، وحقيبة حلاقة من الجلد الفاخر، وساعة جيب مطلية بالفضة. استمرت الحياة كما كانت من قبل، إلا أنه الآن كان يدخل المتجر في أيام معينة لمراجعة الحسابات ويصدر الأوامر للصبي العامل خلف المنضدة.

كان اسم الصياد ناثانييل، وللأسف، لم يكن عاشق جوديث.

في الخريف، جلست جوديث خارج المنزل على نفس الدرجات حيث وجدت ذات يوم غصيناً وظنته نذيراً بالرومانسية. نظرت باتجاه الغابة التي تمتد قريباً منهم، والأشجار تتحول من الأخضر إلى الذهبي إلي الأحمر.

أخبرها ناثانيل وهو ينزل ليقف بجانبها:

- سيكون شتاءً قاسياً.

سألته:

- كيف تعرف؟

قال:

- أستطيع أن أخمن. السماء تحذرنا

لكنها فقدت اهتمامها بالعلامات، فهزت كتفيها بلا مبالاة تجاه تنبؤه. قال:

- نعم، سيكون شتاءً قاسياً. يجب أن تتوقفي عن جمع الفطر. الذئاب ستكون متلهفة لأي لقمة، وقد أصبح الجو بارداً جداً على أي حال،.

ثم، للحظة، انتشرت قشعريرة في جسدها، إحساس خافت بالخوف. هزت رأسها باستخفاف. قالت:

- الذئاب لا تتجول أبداً بهذا القرب منا.. عشت هنا لفترة أطول منك.

استمرت في هز سَلَّتها والزحف إلى الغابة، رأسها منحنية وهي تبحث عن فطر الشانتيريل الذي ينبت حول أشجار الدردار والبلوط. مع تقدم الخريف، اضطرت للذهاب إلى أعماق الغابة، عبر الجدول، حتى وصلت إلى بستان التفاح القديم المليء بالأشجار الميتة.

بجوار البستان كانت هناك كوخ مهجور. تمتلكه عجوز، صديقة للجدة، كانت تعيش هناك، وفي بعض الأحيان كانت جوديث تحمل لها طرداً مقابل حلوى. لكن العجوز غادرت منذ عامين وانتقلت لتعيش مع ابنها. ما زالت تملك الكوخ، لكنها لم تعد تزوره. أوكلت العناية به إلى أخت جوديث، لكن جوديث هي التي اعتنت به. نما النبات وانتشر، يضرب الهيكل الذابل، لكن السقف بقي صلباً. أحياناً كانت جوديث تدخل، تشعل النار وتجلس على السرير الصدئ لتقرأ، هرباً من المتجر ونزل الضيافة.

كانت الجدة توبخ جوديث عندما تمسكها تقرأ، قائلة إن هناك أعمالاً منزلية يجب إنجازها، لكنها لم توبخ أليس عندما كانت تقف أمام المرآة تمشط شعرها، أو عندما تجلس في الصالون تنظر إلى مجلات الموضة. ماتت الجدة، والآن تستطيع جوديث أن تفتح كتاباً حتى يُصدر ظهرها صوتاً، جالسةً بلذة شرسة في دفء الكوخ لبعض الوقت.

في أحد الأيام، بينما كانت تقف خارج الكوخ تعد الفطر الأصفر الكبير في سَلَّتها، مرّ ناثانيل بخطوات واسعة. قال:

-  الوقت متأخر أختك قالت إنه يجب عليّ إحضارك.

أزعجها تدخله، وأزعجها أكثر أن أليس أخبرته أين يمكن أن يجدها. كانت هذه البقعة مكاناً تلعب فيه الفتاتان معاً عندما كن أصغر سناً، قبل أن تتزوج أليس وتتظاهر بالأهمية، تدهن كريماً غالياً من اللوز على وجهها وتعطر مناديلها بالعطور. قال:

- غداً يوم السوق، تريد أليس أن تعودي إلى المنزل وتُهيئي الأسرة. هناك ضيوف سيصلون لقضاء الليل.

كان النزل والفندق والحانة يستقبل المسافرين الذين يبيعون بضائعهم في السوق، ويستضيفون الأعيان والأثرياء منهم. أما المزارعون البسطاء والعمال الشباب، الذين يتجمعون كباقات زهور مكتظة، فكانوا يصلون في الصباح الباكر جداً لبيع أو شراء البضائع بدلاً من السفر في الليلة السابقة. بعضهم كان يبيت عند الأصدقاء، والبعض الآخر كان ينام في الحقول كالمتشردين. سألت جوديث:

- ألا تستطيع هي تهيئة الأسرة بنفسها؟

لم تكن لتعبر عادةً عن أفكارها بهذه الصراحة، ولكن مع تقلص الموسم، كانت أليس تبذل أقل جهد ممكن في المساعدة بأعمال المنزل. لطالما كانت أختها على هذا النحو، لكنها حاولت لفترة قصيرة ذلك الصيف أن تصبح امرأة مجتهدة، ربما في محاولة لإظهار مهاراتها المنزلية لزوجها الجديد. لكن تلك الحماسة لم تدم طويلاً.

لم يجب ناثانيل. بعد أن كُلّف بإعادتها إلى المنزل، لم يكن ليسمح لها بالهرب. مشت معه غاضبةً عائدةً إلى النزل.

في الصباح، استيقظت مبكراً. كان آخر أيام السوق في الموسم. بعد ذلك، ستغلق القرية أبوابها على نفسها، لكن في ذلك اليوم، ولبضع ساعات ثمينة، كانت القرية تعج بالحركة والنشاط. كان هناك بيض للبيع، وأسماك مملحة، وأكياس بطاطس، ولكن أيضاً بضائع فاخرة: صناديق شاي، وفواكه مجففة، وشوكولاتة، وشرائط ودانتيل، وصابون معطر،و تبغ، ومسحوق أسنان. كان ناثانيل يبيع الفراء، وكان من المفترض أن تساعده جوديث.

كم أحبت أيام السوق في السنوات الماضية، لكن في هذا الخريف، أصبح من الصعب تحمل الوقوف بجانب ناثانيل وهو يتحدث إلى الزبائن - الوقوف قريباً منه جداً في كشكهم الصغير وهو يبتسم لها بلطف بينما قلبها يشتعل بعدم الراحة والتململ.

بينما كان ناثانيل منشغلاً بالحديث مع رجل، تسللت جوديث بعيداً. تجولت بين الأكشاك الأخرى، تتمنى لو كان لديها ما يكفي من المال لشراء أمشاط فاخرة أو دانتيل، لكنها لم تحصل من أختها سوى بضع قطع نقدية لقاء عملها، وكانت تلك تُمنح لها على مضض رغم أن أليس اشترت لنفسها أحذية جديدة، وشالاً جديداً، وقطعاً كثيرة من القماش لتجهيزاتها. نفقات لا داعي لها، إذ كانت أليس مجهزة بالفعل، لكنها تصرفت وكأنها عروس لأول مرة.

ركلت جوديث حصاةً صغيرة وتوقفت لتنظر إلى عربة بائع الكتب.

- مرحباً، الآنسة جوديث، هل تبحثين عن قراءة خفيفة؟ لدي تشكيلة جيدة من كتب السيدات:

قال ذلك وهو يربت على كومة من الكتب إلى يساره. ثم رفع كتاباً لحكايات خرافية مصورة.

في الأوقات العادية، ربما كانت جوديث لترضى بمثل هذه الكتب، أو كتب تعليم التطريز التي يعرضها، أو الروايات الخفيفة عن بطلات صابرات ينلن السعادة في الصفحة الأخيرة. لكنها في ذلك اليوم كانت تشعر بالاكتئاب.

قالت مشيرةً إلى صندوق كان الرجل يستند إليه:

-  أريد أن أرى ما لديك هناك.

قال الرجل وهو يستقيم واقفاً

- أوه، لا، هذه الكتب ليست لكِ، هذا كتاب حكايات خرافية مناسبة للشابات، مع شرح المغزى من كل قصة في نهايتها

- ولماذا لا يمكنني الحصول على الكتب الأخرى؟

-  تلك مجلدات صغيرة فاحشة للرجال.

عرفت جوديث ذلك، رغم أنها لم ترَ كتاباً "فاحشاً" عن قرب من قبل. كثير من شباب القرية كانوا يشترون تلك الكتب ويخفونها بسرعة، متجهين نحو الحانة أو أي مكان آخر حيث يمكنهم مشاركة الشراب والضحك على محتوى تلك الكتب.

-  كم ثمن الواحد منها ؟

- لا يمكنني.

أصرت جوديث:

- لدي المال.

قال الرجل:

- أختكِ ستخنقني إذا سمعت أني بعتكِ هذا، آنسة جوديث.

قال رجل:

- دعني ألقي نظرة على أحد تلك الكتب.

تقدم غريبٌ بجانب جوديث. لم يكن مزارعاً ولا تاجراً. بدت ملابسه فاخرةً في يومٍ ما، لكنها الآن متسخةٌ ومرقعةٌ مراتٍ عديدة. معطفه الأسود الطويل كان مهترئاً عند الحواف. كان شعره مربوطاً عند قفاه، ولم يكن يرتدي قبعةً كما يفعل أي رجل محترم، رغم أنه كان يرتدي قفازاتٍ بدت مصنوعةً من جلدٍ جيد. ربما كان نبيلاً سقط من مكانته، أو متشرداً جمع بعض الملابس اللائقة من محسنٍ ما. على الأرجح الاحتمال الثاني.

تردد بائع الكتب، لكنه فتح الصندوق وسلم الرجل كتاباً. تصفحه الغريب وسأل عن السعر. عندما ذكر البائع الثمن، دفع له بعض القطع النقدية.

بدأت جوديث بالابتعاد، لكن الغريب لحق بها بخطواتٍ سريعة. سألها:

- أتريدين قراءة هذا؟

أجابت:

- نعم، لكنك اشتريته، فماذا إذن؟

- سأبيعه لك.

- سترفع السعر."

- أبداً. من الواضح أنكِ أردتيه ولم تتمكني من الحصول عليه دون وساطة. التقي بي خلف الحانة عند الغسق. يمكنكِ الحصول عليه بسعرٍ زهيد "

- أعطيه لي الآن

قال الغريب وهو ينظر خلفها، وابتسم:

- ثمة رجل قادمٌ إليكِ.

التفتت جوديث ورأت ناثانيل يقترب منها. كان يداه في جيوبه وعلامات العبوس على وجهه. أسرع الغريب بالابتعاد، سألها ناثانيل:

- هل كان ذلك المتشرد يزعجكِ؟

-  كان يسأل إن كان يمكنه المبيت في الإسطبل مجاناً. أخبرته أننا لا نستطيع تقديم مثل هذه الصدقة "

قالت جوديث ذلك، عسى ألا يلاحظ ناثانيل كذبها.

***

كان بيت الضيافة يعجّ بالناس، واستغرق الأمر من جوديث وقتًا أطول مما توقعت لتتسلل خارجه. أسرعت خلف النزل، وحين وصلت،  وجدت نفسها وحيدة تحت أغصان شجرة معوجة. ربما كان قد أتى وذهب. لعنت في سرِّها. قال صوتٌ:

- لقد تأخرتِ.

فوجئت برؤية بقعة من الظلام تنزلق بعيداً عن الشجرة. كان الرجل متكئاً بإحكام على جذعها؛ لم تلحظه. عندما أصبح وجهه مرئياً أخيراً، لاحظت ابتسامته الحادة.

رفعت جوديث ذقنها بتحدٍّ.

-  كان لديّ شغلٌ يجب إنجازه. هل معك الكتاب؟

ربت الغريب على معطفه وأخرج الكتاب. عندما حاولت انتزاعه، سحبه بعيداً.

-  سآخذ أجرتي أولاً، يا جوديث ذات الشعر الأسود. أليس هذا اسمك؟

- كم تريد؟ لقد قلت أنه سيكون رخيصاً، أتذكر؟

-رخيص جداً. يمكنك الحصول عليه مقابل قبلة."

-هذا طلب غير لائق. أنت على الأرجح متشرد."

- لست متشرداً.

أضاف:

ومن سيراكِ في الظلام؟ القمر جديد الليلة."

لم يكن هناك قمر، لكن الضوء الخافت المنبعث من نوافذ النزل جعلها تتردد. علاوة على ذلك، كان المقايضة بالقبلات من أجل أغراض تافهة أمراً غير أخلاقي. أخبرته بذلك.

هز كتفيه. سأل:

- هل تريدين الكتاب أم لا؟

قالت:

- حسناً. قبلة واحدة فقط.

لم يكن لها حبيب، رغم أنها قبلت بعض الفتيان من البلدة. أمضت وقتاً طويلاً وهي تتخيل عشيقاً أحلامها لتقبل برجل عادي. فكرت في منحه ما منحته لأولئك الفتيان: قبلة سريعة خاطفة.

أمسك الرجل وجهها بيديه، وشعرت بلمسة الجلد الناعم على بشرتها بينما انحنى ليُقبّلها. انفتح فمها أمام فمه، وسمحت له بجذبها إليه من خصرها، وبنهش شفتها السفلى. لكن عندما حاول لمس صدرها، صفعَت يده بعيداً.

-  لقد وعدت. أعطني كتابي.

- دعيني أرى صدركِ وسأحضر لكِ كتاباً ثانياً. ضعف المتعة."

قالت، بصوت يكاد يكون همساً غاضباً.

- أنت فظّ،.

ضحك، ممدداً ذراعه وعارضاً عليها الكتاب. انتزعته منه وأسرعت عائدةً إلى المنزل. لكنها لم تجرؤ على قراءة الكتاب داخل النزل. بقيت مستيقظة معظم الليل، وفي لحظة ما شعرت بإحساس غريب بأن شيئاً ناعماً مرّ بجانبها في الظلام، رغم أنه لم يكن سوى البطانية التي سقطت على الأرض.

***

مع بزوغ الفجر، أمسكت جوديث سَلَّتها ووضعت الكتاب بداخله تحت منديل أحمر، ثم خرجت إلى الغابة. تساقطت أولى حبات الثلج الموسمية، لكنها كانت لمسات خفيفة من البياض على الأرض. عندما وصلت إلى الكوخ، أشعلت النار وجلست على كرسي مهترئ، تقلب الصفحات.

كان الكتاب بالفعل فاحشاً، يحكي قصة امرأة شابة تترك الدير وتخوض مغامرات غرامية عديدة في العالم. تصور الرسومات التفصيلية كل مغامراتها. لم ترَ جوديث عري الرجال إلا في صفحة من الإنجيل تظهر آدم وحواء يمسكان بأيديها، مع الثعبان ملتف حول أقدامهما. لكن تلك الرسومات كانت بدائية، بينما النقوش في هذا الكتاب صورت الواقع بكل تفاصيله الجسدية، تظهر أعضاء الرجال الطويلة وشعر عانة النساء، بالإضافة إلى عشرات الأوضاع الغرامية المختلفة.

كانت منشغلة بالكتاب لدرجة أنها لم تلحظ وجود أحد عند الباب حتى هبّت رياح باردة حركت شعرها. لم تكلف نفسها عناء قفل الباب.رفعت رأسها وأعادت الكتاب بسرعة إلى السلة، وغطته بالمنديل. سأل ناثانيل:

- ألم تسمعيني؟

هزت جوديث رأسها.

- ماذا تفعلين هنا؟ هل هو معكِ؟

- من؟

قال بغضب:

- لا تتظاهري بالبراءة. رأوكِ خلف الحانة الليلة الماضية تتحدثين مع ذلك الرجل.

أكدت له:

-  أنا وحدي.

ألقى ناثانيل نظرة حول الكوخ، لكنه كان صغيراً، ولا مكان يختبئ فيه عشيق.

- حسناً، دعينا نعود إلى البلدة. رأيت ذئباً أسود كبيراً بالأمس، ليس بعيداً عن هذا المكان. وحش ضخم حقاً. سأصطاده يوماً ما، لكنني لا أريده أن يعضكِ.

أمسك سَلَّتها، ربما ليحملها عنها، وفي لحظة ذعر جذبته نحوه، مما أدى إلى انقلابها. سقط الكتاب على الأرض، والتقطه ناثانيل. حدق في إحدى الصفحات، ثم نظر إليها. احمرّ وجه جوديث. تمتمت:

- إنها مجرد قصة.

سأل ناثانيل.

- هل أعطاكِ إياه ذلك الرجل؟"

- نعم.

- وماذا أعطاكِ أيضاً؟

- لا شيء.

أصر فى حدة:

- ماذا أيضاً؟

كررت

- إنها قصة.

كانت على وشك تقديم تبريرات لا حصر لها، لكنه جذبها إليه وقبّلها، ليس كما فعل الغريب في مزاح، بضحكة على شفتيه، بل بكل ثقل العالم.

سحبها نحو السرير، الذي صرّ بشدة  تحت ثقلهما. سمعت عواء ذئب في المسافة بينما أمسك فخذها من خلال قماش فستانها، الذي بهت لونه من جرّه في برك الغابة وطينها.

كان على جوديث أن تدفعه بعيداً. لكنها بكت صباح زفاف أليس، ولم يكن لديها أي شيء خاص بها، سوى ملابس أختها المستعملة، وسواعد خشنة من الصابون والغسيل. وبشكل غريب، وجدت نفسها تفكر في أن الغريب كان يرتدي قفازات، فلم تتمكن من الشعور بيديه كما قد تريد. هل كانت ناعمة، أم خشنة كيديها؟

ثم قبّلها ناثانيل مرة أخرى، فنسيت الغريب، وأختها، وكل العالم.

***

خبت النار، وابتعد الذئب. ارتديا ملابسهما.

وجدت جوديث صعوبة في تذكر كيفية ربط أربطة حذائها - كانت أصابعها خرقاء - فساعدها في ارتداء فستانها ثم وضع قبلة سريعة على خدها.

- أراكِ لاحقاً.

قالها وهو يمسك ببندقيته المتكئة على الباب ويغادر.

أطفأت جوديث النار وعادت إلى نزل الضيافة، على هدي غريزتها أكثر منها بعقلها الواعي. عند دخولها، وجدت أليس تغلي غضباً، تحاول التعامل مع التوأمين المشاغبين وتوبخ الخادمة في نفس الوقت. قالت أليس لأختها.

- هلا أسرعتِ وغسلتِ الملابس؟

كان بإمكانها إعطاء الغسيل لإحدى نساء القرية، لكن أليس ظلت تكلِّف جوديث بهذه المهمة.

هذه المرة لم تعترض جوديث. غسلت الملابس الداخلية التي كانت ترتديها، وراقبت الماء وهو يتحول إلى اللون الوردي بفعل الدم الذي تسرب من جسدها - الدم ونطفته. كان عليها أن تغسل نفسها قبل مغادرة الكوخ لكنها كانت مشدوهة جداً اكثر من كونها. ساعدها البرد والسير في استعادة وعيها: لا يمكن أن يُكتشف أمرها.

فركت بقوة حتى اختفت كل آثار اللون. ثم أفرغت الماء القذر الملطخ بالدم في الخارج، وتركته يتغلغل في جذور شجرة.

***

عجنت الخبز بأصابع متراخية، بينما شردت أفكارها عائدة إلى ناثانيل، رغم أن أختها كانت بجانبها وخشيت جوديث أن تتمكن أليس من تخمين ما يدور في رأسها. فقد كانت أليس دومًا تمتلك قدرة غريبة على معرفة متى ارتكبت جوديث خطيئة. كانت تسرع لإخبار الجدة، فتعاقبها الجدة لسوء تصرفها. قالت أليس:

- انتبهي لما تفعلين. هذا الخبز لن ينتفخ أبدًا.

فلم تكن لتنزل إلى مستوى لمس الدقيق والزبدة؛ بل كانت تراقب جوديث والخادمة بعينين ثاقبتين كقائد جيش.

- سيكون على ما يرام.

-  لن يكون كذلك. أنت مهملة. عليك أن تتعلمي الطهو جيدًا، وإلا لن تخطبي زوجًا أبدًا. لا عجب أن إليزابيث وراحيل تزوجتا بالفعل.

-   أنا أطبخ جيدًا، ولا يهمني ما يفعله الآخرون.

قالت جوديث ذلك، وهي تفكر في الفتيات اللواتي ألقين تلك التعويذة معها قبل أشهر. كانت إليزابيث حاملًا بالفعل بطفلها الأول وتبدو ضخمة كسفينة شراع، بينما تشتكي راحيل بلا توقف من زوجها كلما زارت المتجر.

لم ترد جوديث أحد أولاد القرية المملين الذين تزوجتهم صديقاتها. لقد أرادت رجلًا وسيمًا، قويًا وبنيانًا. أرادت ناثانيل. وقد شاركته الفراش.

كان على جوديث أن تتوب.

قالت أليس:

-  كل ما تعرفين طهوه هو الحساء. أحيانًا، يريد الرجل حلوى من زوجته. كعكة أو فطيرة.

ردت جوديث بفظاظة:

- أو ساعة جيب مطلية بالفضة.

احمرّت أختها غضبًا، لكن الجميع في البلدة همسوا بأن أليس اشترت ناثانيل. شعرت جوديث بالخزي من نفسها حينها. لم تكن تخون أختها سرًا فحسب، بل وتحدثت إليها بفظاظة. قالت:

-  أنا آسفة.

قالت أليس:

- انهي هذا، أيتها الحمقاء.. لو كان الأمر بيدك، لكنا نأكل عجينة محروقة.

ربما، لكنها فكرت: لقد نلتُ الرجل الذي أريده. وغسلت يديها، راجية أن تطهّر نفسها من أفكارها الخائنة، لكن تلك الأفكار كانت هناك، رغمًا عنها — شعور بالنصر لا يمكن إنكاره، يتلوه ذلك الخزي الصامت.

***

ظلت القبلات التي غرسها على فمها عالقة، عميقة كالجراح في جسدها،  وذكرياتها تسببت في ألم يشع منها. ومع ذلك كتمت هذا الألم، وحاولت محو لمساته من ذهنها. قررت أنها قد تخيلت اللقاء بأكمله، مسكونة بحلم غريب وحمى. يمكنها أن تكون فتاة صالحة، يمكنها أن تنسى، يجب عليها ذلك.

مر يومان ثم آخر. نزل ناثانيل الدرجات، بندقيته معلقة على كتفه. قال:

- صباح الخير، جودي.

أومأت له لكنها أبقيت عينيها على حذائها، متأملة أن تبدو مهيبة بدلاً من مذنبة.

- سأذهب للصيد اليوم. قرابة الظهيرة، قد أستريح في الكوخ المهجور الذي تفضلينه.

قالها  بصوته الخفيف. رفعت جوديث عينيها، لكنه كان ينظر إلى الغابة، لا إليها. حدقت به وهو يبتعد.

لاحقاً، بعد أن ساعدت قليلاً في المتجر، تسللت جوديث إلى الغابة ثم إلى الكوخ.

لم يكن هناك، فوجدت الكتاب الذي تركته ملقى على الأرض. التقطته وجلست على السرير، تحدق عبر النافذة بزجاجها الصغير.لم تعرف هل تضحك أم تبكي، ودلكت يديها وهي تفكر أنها يجب أن تكفر عن ذنبها، بينما تذكرت ثقل جسد ناثانيل عليها.

كانت خطيئة أن تضاجع رجلاً ليس زوجها. كان عليها أن تعترف للكاهن. وقد تكون هرعت إلى الكنيسة أيضاً، لولا أن ناثانيل دخل في تلك اللحظة، وهز رأسه بينما يتساقط الثلج من على كتفيه. سأل:

- أنا أتجمد. ألم تشعلي النار؟

شاهدته وهو يشعل النار، ثم التفت إليها وابتسم. اعترضت بشكل غامض همست:

–  لا يجب أن تشتهي.

لكنه خنق كلماتها بفمه، بينما كانت أصابعها العجلى تعاونه على نزع ثيابه.

***

تجنبته لمدة أسبوع كامل. الآن يكسو الثلج القرية مثل بطانية، خافِتًا كل الأصوات،

كما كانت أشجار الشوكران منحنية تحت ثقل هذا البياض.

ناثانييل، ناثانييل. كان قلبها ملتهبًا، وعيناها تبحثان عنه على مائدة العشاء، ومع ذلك كانت ترغب في أن تبقى فاضلة. إنْ جعلته عشيقها، فمصيرها إلى الجحيم. لقد اقترفت الإثم مرتين. مرتين من الحماقة. مرتين من اللعنة.  لم تكن تنوي فعل الشر حقًا. في المرتين فاجأها الأمر، وكان اتصالهما حميمية يائسة، عفوية.

سلكت الدرب المؤدي إلى الكوخ لكنها حادت عنه، تتوه بين الأشجار، تلتقط غصينًا وتكسره إلى نصفين. سمعت همهمة فتوقفت، ظنًا منها أن ناثانيل هو الذي يتبعها، لكن الصوت لم يكن مألوفًا. سألت.

- من هناك؟ معي سكين.

قال الغريب وهو يخرج من خلف شجرة.

- حسنًا. معي مسدس.

كان يحمل على كتفه حزمة وفي يده اليسرى تفاحة، قضمها بعزم مع صوت قرمشة حاسم. عبست جوديث.

-   ليس هذا مسدسًا.

-   إنه مخبأ. بالإضافة إلى ذلك، لا أرى السكين.

وضعت جوديث يديها خلف ظهرها.

- ماذا تفعل هنا؟

- أبحث عن مكان لأنام."

- اذهب إلى الحانة.

- يطلبون مبلغًا كبيرًا."

- إذن أنت متشرد."

- أنا زائر.

ألقى التفاحة في الهواء والتقطها.

- سمعت أن هناك كوخ حطاب مهجور في مكان ما.

- إنه ليس كوخ حطاب، ولا يمكنك البقاء هناك.

-   لماذا لا؟

- لأنك لا تستطيع. عد إلى البلدة واقتحم إسطبلًا."

- ثم أُطارَد من قبل رجل يحمل بندقية؟

قضم قطعة أخرى.

سرت ابتسامة على وجهه.

- خذيني إلى الكوخ. سأهديك هدية.

- لا أريد قبلة سخيفة أخرى منك.

- ليست قبلة. لن ألمسك،"

قال ذلك، وهو يمضغ وابتلع قطعة من التفاحة قبل أن يتكلم مرة أخرى.

- معي كتاب.

- لن أريك صدريّ مقابل ذلك. بالإضافة إلى ذلك، لدي كتاب بالفعل.

-  لديك كتاب فاحش. ماذا عن كتاب عن وحوش مرعبة وأشباح بشعة؟

ظنت جوديث أنه من الغباء أن تستمع إلى هذا الوغد، لكن من ناحية أخرى،

شغلتها محادثتهما عن مسألة ناثانيل ولعنة روحها.

- تبقى ليلة واحدة، ثم تغادر – أفهمت؟ هذا مكاني وحدي.

وافق على ذلك.وعندما دخلا، أشعلت جوديث النار، وراقبته وهو يجلس على أحد الكراسي وينزع معطفه. كانت هناك حقيبة قماشية رمادية صغيرة تتدلّى من حبل حول عنقه. أخرج من جيب معطفه كتابًا، ووضعه على الطاولة. انحنت جوديث فوقه وبدأت تقلّب صفحاته. كانت الرسومات فيه بالفعل مليئة بوحوش بشعة تقفز من خلف الأبواب، وأشباح تهزّ سلاسلها.قال:

- ما هو شيطانك المفضل؟

قالت جوديث:

- الوحوش التي تسكن البحيرات... تلك التي تخطف الأطفال إذا اقتربوا من الماء.

قال:

- يا لك من مخلوقة شريرة.

سألته:

- وأنت، ما هو شيطانك المفضل ؟

قلب الصفحات ووضع إصبعه المغطّى بالقفاز بلطف على إحدى الرسوم.

قال:

- الذئب البشري- مبدّل الشكل.

نظرت جوديث إلى الصورة. كان رجلاً يمزّق صدره بيديه، ومن تحت الجلد كانت تخرج رأس ذئب، جاهزة لافتراس امرأة ذات شعر طويل منسدل، مستلقية على السرير وتصرخ.

قالت:

- تفاهة. هذا لا يُخيف.

قال وهو يمدّ لها التفاحة التي أكل نصفها:

- هل ترغبين في قضمة؟

قالت:

-  كلا. قل لي، ما الذي تفعله هنا حقًا؟ هل أنت لصّ؟

قال مبتسمًا:

- أولًا متشرد، والآن لص؟

قالت، وهي تفكّر في ناثانيال الممدّد عاريًا على السرير في الزاوية:

- لست صيادًا. ولا أي شيء محترم.

قال:

- أنا نبيل هارب من لعنة رهيبة.

سألته:

- ما نوع هذه اللعنة؟

قال:

- لعنة الجوع... لا يمكن إشباعها. تتذوّق دم الفريسة الطازجة، فتُجبر على الصيد ليلًا. الشر يغلي في جسدك لأنك سرقت أثرًا مقدسًا من أرض بعيدة.

قالت وهي تشير إليه:

- ها أنت ذا. لصّ.

قال:

- إن كان يرضيك أكثر، فقد سحرني ساحر يعيش في كهف.

ضحكت على ذلك، ثم وقفت. كانت قد أطالت الغياب. لا بد أن أختها بدأت تتساءل أين هي، وإن لم تكن هي، فربما ناثانيال. لم تكن تريد أن يجدها برفقة الغريب.

قالت وهي تمسك بغطائها:

- غادر قبل الصباح، أتسمعني؟

قال:

- سأغادر. لكنني سألقاكِ مرة أخرى، في وقت آخر، يا جوديث ذات الشعر الأسود.

كان الغريب قد أنهى أكل تفاحته ورمى اللب في النار، ثم اتكأ بهدوء على كرسيه. أما هي، فخرجت من الكوخ.

***

حاصرها ناثانيال في المطبخ تلك الليلة. بدا شديد الكآبة، وتحدث بصوت منخفض. كان وجهه الوسيم مشوّهًا بالحزن.

قال:

- ماذا فعلتُ؟ ما الأمر؟

أجابت وهي تنظر إلى يديها المرتجفتين قليلًا:

- أنت تعرف ما فعلناه.

قال:

- ألا تحبينني يا جودي؟

الحب! يا له من لفظ بسيط، لا يمكنه أن يحيط بما تشعر به، مشاعرها العميقة والمضطربة التي تخشى أن تغرق فيها لمجرد النظر إليه. كل لحظة من صحوها كانت شوقًا، ولياليها كانت سهرًا ووجعًا. منذ اللحظة الأولى التي كلمها فيها، أحبّته، ثم عاشت عذاب فقدانه. والآن عرفت عذابًا آخر، عذوبة عناقه وثقل الخطيئة.

سمعت جوديث وقع خطوات أختها تنزل على الدرج، والألواح الخشبية تئن تحت إيقاعها المألوف.

قالت له بسرعة:

- لا يمكننا الحديث الآن.

فقال:

- قابليني غدًا، في الكوخ.

***

وافقت على مقابلته، مضطرة لأنها كانت فضولية لتعرف إن كان الغريب سيظل هناك. لم تكن ترغب في مواجهة بين الرجلين، لكنها أرادت أن ترى إن كان الغريب سيوفي بوعده ويغادر الكوخ عند الصباح. يبدو أن ذلك ما حدث، ولم يترك أثراً له خلفه. الكتاب الذي كان على الطاولة اختفى، والنار انطفأت.

لم تكد تدخل حتى فتح ناثانييل الباب. أمسك بها على الفور وألقاها على السرير، يجذب تنورتها. قالت له  بينما كان يقبل عنقها:

-  هذا إثم،  يجب أن نتوقف. أنت متزوج من أختي.

- لم يكن ينبغي لي الزواج من أليس. لم أشعر بأن لدي منزل منذ وقت طويل، وكنتم جميعاً لطيفين جداً، لم أرغب في فقدان ذلك. هي أوضحت أنه إذا لم أتزوجها، يجب أن أغادر. والله يا جوديث، لقد ارتكبت خطأً، لكني أحبكِ أنت، لا هي. أنا وأليس بالكاد نلتقي، أنتِ تعرفين ذلك.

كانت هناك حقيقة في هذا الكلام. كان ناثانييل مهذباً مع زوجته، لكنه لم يكن عاطفياً بشكل خاص، وكان لديهما غرف منفصلة. أليس وزوجها الأول أيضاً كانا يحتفظان بغرف منفصلة، لكن ذلك كان لأنه كان يشخر. حتى أن ناثانييل وأليس لم يقضيا شهر العسل معاً، رغم أن أليس كانت تتذمر من هذا: لقد أرادت السفر، وشراء حلي جميلة في مدينة ساحلية.

أوه، كان ناثانييل سعيداً بما يكفي للجلوس على مائدة أليس ومساعدتها في المتجر. بدا أنه يستمتع بمكانته المرتفعة في القرية، حيث أصبح تاجراً بدلاً من مجرد صياد. لكنه لم يبد أبداً مغرمًا بأليس كما قد تتخيل جوديث أن يكون الزوج الجديد.

قال أهل القرية إن أليس اشترته. ربما فعلت. قال

- إذا استطعت الاختيار مرة أخرى، سأتزوجكِ.

جعلها التفكير في تفضيلها على أختها تشعر بالفخر قليلاً، حتى لو لم يكن ينبغي لها ذلك، تماماً كما لا ينبغي لها أن ترغب في ناثانييل. تمتمت:

-  ما تزال هذا خطيئة.

قال:

-  يجب أن نهرب معاً.. ستجد أليس رجلاً آخر، فهي صغيرة بما يكفي. ستكون بخير ونحن يمكننا البدء من جديد، حيث لا أحد يعرفنا."

- أستفعل ذلك؟

- نعم.

قال ذلك بينما انزلق أصابعه على فخذيها وأغمضت عينيها، حتى وهي تحاول التمتمة عن الفجور والرذيلة. لكنها أحبته كثيراً في السر والصمت، والآن كان هنا. أكذ:

-  سنذهب، في الربيع، مع الذوبان.

كان ذئب يعوي، متحدياً البرد القارس بالخارج. لكنها لم تكن تشعر بالبرد، ليس في قلبها، جسدها مشتعل ورأسها مليء بأفكار عن جميع الأماكن التي قد يذهبان إليها. المدينة، جنوب البلدة، حيث يبنون الكاتدرائيات والقصور العظيمة، حيث البرد لا يكسر العظام. انزلق داخل جسدها، وفكرت ربما كان هناك حقاً لعنات، ولعنتها كانت أن ترغب فيه هكذا، ضد كل منطق وأدب.

قال ناثانييل بعد ذلك وهو يلبس قميصه:

- هذا ذلك الذئب الكبير مرة أخرى،عندما أمسك به، سأصنع لكِ رداءً من فرائه.

- هل فراء الذئب يستحق أي شيء؟

- يجب أن يكون. الشتاء قاسٍ، هناك عدد قليل من الثعالب حولنا، وكل شيء آخر نادر. بالكاد أمسك بشيء. لكن مرة أخرى، أنتِ تشتتيني كثيراً."

- لا أحتاج إلى فراء، فقط أريدك أنت.

أجاب:

- وهذا ما تملكينه بالفعل.

سألته:

- ألا يمكنك البقاء قليلاً؟

تتمنى أن تستكشف ظهره العاري، أن تهمس بأسرار في أذنه، أن تستمع إلى دقات قلبه بينما تغفو.قال:

- سيترقبون عودتي إلى المنزل.

أليس ستترقبه. عضت جوديث على ظفرها وهي تشاهده وهو يعدل معطفه. قالت:

- لقد حلمتُ بك ذات مرة، قبل أن تأتي إلى هذه البلدة. لا يمكن أن يكون خطأً إذا حلمتُ بك، أليس كذلك؟

ضحك.

-  وماذا كان الحلم؟

- لا شيء. قبلني.

طلبت جوديث وهي تتمسك به بيديها اليائستين، عسى أن يبقى دقائقَ أطول. لكنه ابتسم وقال إن عليه المغادرة قبل أن يفتقده أحد.

عندما خرج، ارتمت على السرير، يداها ممدودتان فوق رأسها، وقلبها ما زال ينبض بجنون على إيقاع لقائهما.

***

يُغطي الثلج الأبيض الثقيل سقوف القرية، بينما تميل قمم أشجار الصنوبر قليلاً نحو الشمس الصاعدة. داخل المتجر، كان ناثانييل يُراجع الحسابات بينما تعيد جوديث ترتيب برطمانات المربى. وقد خرج الصبي المُساعد متذمراً من ألم في ضرسه، ووعد بالعودة بعد ساعة، فوجدت نفسها تساعده في أعماله.

رن جرس الباب عند دخول أحدهم، وسمعت همهمة الرجل المميزة وهو يقترب من المنضدة. سأل.

-  هل لديكم تبغ؟

وقفت جوديث متصلبةً وهي تحمل برطماناً بين يديها، ظهرها نحو المدخل، بينما ساعد ناثانييل الزبون. غادر الرجل سريعاً، وبعد دقائق دخل آخر يبحث عن الصابون. فخرجت جوديث من المتجر.

وجدت الغريب على بعد خطوات قليلة من المدخل، مستنداً إلى الحائط، حاملاً عقداً من البصل على كتفه. ابتسم لها. سألته:

- ماذا كنت تفعل هناك؟.

- أحصل على قليل من التبغ. سيجعل هذا البصل أطيب إذا دخنت غليوناً. هذا عشائي، كما ترين، وهو ضئيل جداً.

- كان عليك أن تنفق نقودك على اللحم بدلاً من التبغ.

قال:

- على المرء أن يُدلل بعض رذائله، ألا تملكين كسرة خبزٍ، أليس كذلك؟

-   اغرب عن القرية. اذهب لتتسول في قرية كبيرة.

-  يُعتقل المتسولون في القرى الكبيرة."

قالت:

- وفي الصغيرة أيضاً.

بدا عليه النحول أكثر من أول لقاءٍ بينهما، تبرز عظام وجنتيه تحت جلده. تخيلته تحت ثيابه عظماً أكثر من لحم. قالت:

- عد بعد حلول الظلام، سأعطيك كسرة الخبز حينها."

عاد الصبي، وذهب ناثانييل إلى دار الضيافة. قبل الغروب، أخبرت جوديث الصبي أنها ستُغلق المتجر وحدها. فغادر ممتنّاً كأنما يرقص وهو في طريقه إلى البيت. وحضر الغريب بعد قليل، فأغلقت الباب وقادته إلى المخزن، حيث أخذت برطمان مخلل وآخر من المربى، ووضعتهما في كيس خيش مع رغيف خبز سرقته من المطبخ. توقعت ألا يشكو من جودته، كما تفعل أختها.

قالت:

- خذ. احسب نفسك محظوظاً ولا تزعجني مرة أخرى.

قال، وابتسامته الساخرة الحادة كالعادة. حاد كالسيف كان، وعيناه تشبهان الجليد، براقتين وباردتين:

- أنتِ روح الكرم بذاته.

- أين تنام؟ ليس في الكوخ، آمل. لا يُسمح لك بالعودة هناك."

- لن أدخله إلا إذا دعوتيني.

- جيد. لأنك لو كسرت نافذة وحاولت التسلل، سوف تندم. هل تنام في إسطبل أحدهم؟ تتسلل ليلاً؟

قال:

- ربما أنزلق إلى سرير سيدة عجوز ترتدي قلنسوة نومها وأدفئها أفضل من فراء.

- أنت أحمق وعليك المغادرة. لماذا تبقى هنا؟

قال:

- الشتاء قاسٍ في كل مكان، وكاهن هذه القرية أكرم من غيره، أحياناً يُعطي الرجل صحناً من الحساء مقابل كنس الثلج عن درج الكنيسة. أما في أماكن أخرى، فقد يضربونك بعصا ويطاردونك."

فكّرت أنه لا بد أن تكون حياةً بائسةً أن تتجوّل هكذا من قرية إلى قرية، تتسوّل الفتات وتقوم بأعمال وضيعة، مع تهديد السلطات بسحبك إلى السجن.

جلس الغريب وخلع معطفه وقفازيه الجلديين. لم تبدو يداه خشنتين، رغم أن شعراً داكناً قبيحاً يكسو مفاصله وأظافره طويلة. مع ذلك، بدا أشعثاً من كل مكان، بلحية كثيفة وشعر غزير مجتمع عند قفاه. بينما كان ناثانييل يحلق خديه كل صباح، وهذا ما أعجبها. جعله ذلك يبدو أكثر أناقة من شاب القرية. أميراً، لا متسولاً.

بدأ الرجل يقضم خبزه وهو يهمهم أثناء الأكل، بينما حدّقت في وجهه وفي الحقيبة الرمادية المتدلية من عنقه.

سألت:

- ما هذا؟

- ألا تحبين أن تعرفي.

- هل تحتفظ فيه بمالك أو بإرث خاص؟

-  إذا سمحتِ لي بملء كيس الخيش هذا ببضعة مؤن أخرى، سأخبرك.

فكّرت في عرضه. لن يكون من الصعب إخفاء اختفاء بعض الأشياء، إذا كانت صغيرة وغير مهمة. فأومأت برأسها. فألقت ببرطمان جزر وآخر بفجل أبيض في الكيس.

ركع أمامها، رافعاً الحبل عن عنقه. فتح الحقيبة وأفرغ محتوياتها على كفه. كان هناك ريشة، وعظمة صغيرة لا بد أنها تعود لطائر، وتراب، وحصى، وبتلات زهور مجففة، وخيط. قالت:

- إنه مجرد خردة.

-  إنها تعويذة لتحويلي إلى ذئب في ضوء القمر حتى أستطيع العواء عبر الغابة. ثم أعود إنساناً عند الفجر."

- إذا كنت تستطيع التحول إلى ذئب، لماذا لا تصطاد عشائك؟

-  أفعل، لكن لا أحد يرغب بمضغ عظام أرنب هزيل كل يوم. الشتاء كان سيئاً للصيد. وللمرء ولع ببعض السلع.

هزّت رأسها:

- مثل التبغ. لا أرى كيف تساعدك هذه الحقيبة في التحول إلى أي شيء."

- هذا يدل على مدى معرفتك. خذي بتلات خربق أسود ودهن ذئب، اغليهما لصنع مرهم وادهني به نفسك تحت ضوء القمر عند بلوغك الخامسة عشرة، ومن ثمّ ستستطيعين التحول إلى وحش.

سألت، مشيرة إلى كفه المفتوح.

-  فهمت. وهذه العظمة الصغيرة، ما فائدتها؟

- تُجري السحر، هذا ما تفعله."

أعاد الأشياء إلى الجراب وناوله إياها. أمسكت جوديث به بين يديها وهزّته، سامعة صوت محتوياته تصطك.

- هل هذا سبب كونك متشرداً؟ دهنت نفسك بمرهم وتحولت إلى ذئب. ثم أكلت مواشي الجيران واكتشفت أمرك."

قال، وهو يفرك يديه معاً:

- ربما. أو ربما يكون ارتداء الفراء في الشتاء أكثر دفئاً.

- في السابق قلت أنك سرقت ذخيرة مقدسة، وأن ساحراً في كهف لعنك، والآن تقول أنك تدهن جسمك بمرهم وتلقي تعويذة كافرة. أي القصص صحيحة؟

سأل، وعيناه الغائرتان مليئتان بالأذى:

-  ما رأيكِ، يا جوديث ذات الشعر الأسود؟

قالت، وهي تفحصه بدقة:

-  أنت أكبر مني سناً، لكن ليس بكثير.أعتقد أنك كنت حتى وقت قريب تلميذاً عند خياط أو إسكافي، وهربت بمال من خزنة معلمك."

- ربما مع زوجته، التي اتخذتني عشيقاً لها بتهور.

قالت:

- ليس ذلك. لست وسيماً. ليس لديك عضلات، ولا قوة. وشعرك يشبه عش غراب.

اعتبرت أن عيني ناثانييل رائعتين بالمقارنة به. كان حاجبا هذا الرجل كثيفين جداً؛ وأنفه مكسور. مع ذلك، احمرّت وجنتاها عندما ابتسم لها بابتسامته الملتوبة.

سألت، وهى تحدق فى عينيه رغم الاحمرار على خديها.

-  كيف وجدت هذه القرية؟

- تبعت النهر. فكان يغني لي.

عاد الغريب يهمهم وهو يلقي برطمان آخر في كيس الخيش.

سألت، ضاغطةً على شعرها ومسوّيته للخلف.

- ما هذه الأغنية؟

قال:

-  ألم تسمعيها من قبل؟ إنها مشهورة هذه الأيام. إنها أغنية عن فتاة يسحبها عشيقها الشيطان إلى قاع النهر. ستعجبك.

- لا أعرف. أفضل السيد على الشيطان.

نظر إليها بعينيه الماكرتين

- إذاً، صاحب المتجر بملابسه الأنيقة أفضل؟. الرجل في المتجر هو عشيقك، أليس كذلك؟"

- كنت تتجسس علي!

- ليس تجسساً. كنت أتجول في الغابة، فرأيتكِ وإياه تدخلان الكوخ. لا تقلقي، لم ألصق وجهي بالنافذة لأرى كيف ينزلق بين ساقيك.

رمت الجراب الصغير نحوه ووقفت غاضبة.

- اغرب. ينبغي أن أغلق المتجر.

جمع أغراضه ووضع الكيس على كتفه، ممسكاً إياه بكلتا يديه، بينما رتبت هي البرطمانات على الرف بغضب.

***

نزلت أليس مبكرًا، بينما كانت جوديث لا تزال تتناول إفطارها، أفكارها كئيبة متشابكة بينما جلست إلى الطاولة. كانت رائحة أختها تفوح بعطر كريم اللوز الفاخر، وارتدت فستانًا بنفسجيًا جميلًا. لا بد أن أفكارها كانت كئيبة هي الأخرى، فقد ألقت على جوديث نظرة غاضبة.

- حسنًا، ها أنتِ في المنزل أخيرا.

سألت جوديث:

- وأين عساي أكون؟"

- لقد كنتِ كسولة مؤخرًا. كلما التفتُّ، لا أجدكِ في المنزل، ولا تساعدين في المحل أيضًا.

قالت جوديث

- لقد ساعدت هذا الأسبوع.

- ربما، لكنكِ مهملة في الطعام والمؤن. تستخدمين الكثير من الصابون في الغسيل. ناثانييل لم يحالفه الحظ في جلب الفراء هذا الشتاء، مما يعني أننا بحاجة إلى التقتير.

لم يكونوا بحاجة إلى التقتير عندما أرادت أليس أمشاطًا جديدة أو زوجًا من الأحذية. قالت جوديث:

- سيحصل ناثانييل على فراء الذئب العظيم.لا تقلقي.

-  وماذا لو فعل؟ ليس هذا هو المقصود. أنتِ غير منتبهة هذا ما أعنيه. يقول صبي المحل إنكِ كسرت عدة برطمانات من المعلبات."

تلك كانت الكذبة التي أخبرتها. لم تستطع إخبار أختها أنها أعطتها لمتشرد سمحت له بدخول المحل. تمتمت جوديث:

- أنا آسفة.

قالت أليس:

- خرقاء كالعادة.. تركتِ الحليب يفيض الليلة الماضية. احرصي على عدم تكرار ذلك.

كانت تخاطبها كما تخاطب السيدة الخادمة الحقيرة. لكنهما كانتا غريبتين عن بعضهما منذ زمن طويل، حتى قبل أن تحب جوديث ناثانييل. فقد علمت الجدة أليس المكانة التي يجب أن تحتلها في الحياة، دائمًا بخطوتين فوق جوديث.

استمرت أليس في توبيخها قليلًا، لكنها في النهاية تعبت وتركتها وشأنها. وسرعان ما انطلقت جوديث بين الأشجار؛ كان الدرب الذي يعبر الغابة قد محاه الشتاء، لكنها عرفته من كثرة العادة. كان الجو باردًا جدًا في الخارج؛ ارتفعت أنفاسها من شفتيها، وتذوقت الحرية عندما لامسها ندفة ثلج على جبينها. ابتعدت، ابتعدت عن دار الضيافة، عن أليس، عن الأطفال الصارخين، عن ذكرى الجدة التي أعلنت أن أليس كانت الطفلة الأجمل بلا منازع، هاربة من كل ذلك. بين ذراعي ناثانييل، الذي لم يعنفها قط، والذي غمر وجهها بالقبلات.قالت له:

- أكره هذا المكان. أكره غرفتي والمنزل والقرية. لماذا لا يأتي الربيع عاجلًا؟ أتمنى أن يصبح كل شيء مختلفًا وجديدًا. أتمنى أن أحبك دون خداع أو أسرار. "

قال:

-  التمني لن يحقق ذلك. كوني صبورة، يا حبيبتي.

- أنا خائفة.

كانت كلها مشاعر وحماس. لقد غاب العقل عن جوديث. نسيت معنى الخطيئة أو الفضيلة. لم تعرف سوى معالم جسد حبيبها. ولم تتمن سوى إرضائه.

لكنها أحيانًا كانت تخشى أن أليس تعرف كل شيء عنهما، أو أنها سوف تكتشف الحقيقة قريبًا، مثل النساء اللواتي يقرأن الطالع في رواسب القهوة. أحيانًا، مثل الآن، شعرت جوديث أيضًا بحزن شديد، ووحدة لا يمكن تفسيرها.

قال ناثانييل:

- لا تكوني سخيفة.

عضَّ بأسنانُه شحمةَ أذنها، ثم انزلق إلى كتفها. وفي الخارج، عوى ذئبٌ. رفع رأسه.

- إنه ذلك الوحش اللعين. أحاول اصطياده منذ أسابيع. إنه ذئب ضخم، أؤكِّد لك. هذا المخلوق يسخر مني. لقد نصبتُ له فخاخًا جديدةً - سأمسك به."

سألَتْ، وهي تُلقي نظرةً على بندقيته عند الباب:

- هل ستطاردُه الآن؟

بدا أن ناثانييل يفكر في الأمر للحظة، لكن منظر جسدها كان بلا شكٍّ أشدَّ إغراءً من جلد الذئب، لأنه بدلاً من ذلك شدَّ على أربطة ثوبها. فكَّرَتْ:" دعِ الوحشَ ينوحُ إذن."

***

رسم الشتاءُ صقيعَه على سُقُفِ المنازل، وحوَّل الأرضَ إلى عاجٍ أبيض، وجلَدَ الأشجارَ بقسوته. ثم صَمَتَ. كان الغابُ هادئًا لدرجة أن الثلجَ طَقْطَقَ تحت قدميها، وعندما سقطت حفنةٌ من الثلجِ عن غصنٍ، بدا صداهُ يترددُ عبرَ الغابة. ولعل هذا هو السببُ الذي جعلها تسمعُه يُهمهِمُ قبل أن تصلَ إلى الكوخ بفترةٍ طويلة، حتى قبل أن ترى شبحَه الأسودَ يستندُ إلى الباب.

- ماذا تفعل هنا؟

سألتْه. كانت تحملُ سلةً في يدها، وقد وضعتْ فيها كتابًا وقليلًا من الطعام.

- أحاولُ أن أتأكدَ إذا كنتِ وحدكِ، لأشارككِ الدفء.

قالتْ:

-  لا ينبغي أن تكونَ هنا..

- تخشينَ أن يأتي عشيقُكِ فيضبطنا معًا؟ لن أؤذيه إلا إذا طلبتِ مني ذلك.

قالتْ:

- لن يأتي اليوم..إنه مشغولٌ في المحل.

- إذنِ هربتِ من أجل متعتكِ الخاصة.

نعم، لقد فعلتْ. في الآونة الأخيرة، لم يكن هناك سوى الهروب بالنسبة لها: من ضيقِ دار الضيافة، وأحيانًا حتى من الشهوةِ التي تقيدُها بناثانييل، لأنها أحيانًا كانت تتمنى ببساطة أن تأخذَ وجهه بين يديها وتقبلهُ في وسطِ البلدة، ليراهُ العالمُ أجمع. فتحتِ البابَ ودخلتْ، ثم التفتَتْ نحوه. بدا أكثرَ نحولًا من المرةِ الأخيرة، وعيناهُ محمرتان، ربما من الوقوفِ في البرد. وصوتُه بدا مبحوحًا. قالتْ بينما حلَّتْ وشاحَها عن عنقها:

- أشعلِ النار.

انشغلَ بالمهمة، بينما وضعتْ سَلَّتَها على الطاولة، وخلعتْ معطفَها، ونفضتْ الثلجَ عن حذائها، وهزَّتْ شعرَها ليتمددَ بحرية. وعندما اشتعلتِ النارُ، التفتَتْ نحوه. لاحظتْ جوديثُ على الفورِ الضمادةَ المتسخةَ حول يدهِ اليسرى.

-  ماذا حدث لك؟"

-  وقعتُ في فخ. ظننتُ أن عشيقَكِ سيطلقُ النارَ على رأسي، لكنني استطعتُ الهرب.

- أنت كاذب.

قالتْ ذلك بينما حلَّتِ الضمادةَ وتفحصتْ يده. كان هناك جرحٌ غائر، لكنه لا يمكن أن يكونَ ناتجًا عن مصائدِ ناثانييل الحديدية. لكان فقدَ يدهُ في إحداها. على الأرجح، أصيبَ عندما اقتحمَ إسطبلًا لشخصٍ ما، وجرحَ نفسه بزجاجٍ أو حتى مسمار.

- سأنظفه.

جمعتْ حفنةً من الثلجِ ووضعتها في قدر، ثم علقتِ القدرَ فوق النار حتى غلى الماء. لم يكن لديها ضماداتٌ طبية، لكن هناك الكثيرُ من الأقمشةِ القديمةِ التي يمكنُ تمزيقها واستخدامها لهذا الغرض. وعندما انتهتْ من تنظيفِ يده، لفَّتِ الضمادةَ المؤقتةَ بعنايةٍ حول راحته. قالتْ.

-  الآن أعرفُ بالتأكيد أنك لستَ مستذئبًا.

-  ما الذي فضحني؟

- الطريقة الوحيدة لاصطيادِ مثل هذه الوحوش هي أن يمتطي عذراءُ فرسًا أبيضًا ويتجولَ في البلدة. سيقتربُ الحصانُ من مسكنِ الكائن، وسيتمُّ تقطيعُه وإحراقه. إنهم لا يقعون في مصائدَ عادية. وأنا أعرفُ أيضًا أن الصبيَ يتحولُ إلى ذئبٍ بعد أن يشربَ ماءَ المطرِ من أثرِ قدمِ ذئبٍ في ليلةِ اكتمالِ القمر. قرأتُ ذلك في كتاب، مثل الذي أرَيْتَني إياه. لكنك لم تذكرْ شيئًا عن ماء المطر.

- يا له من إهمالٍ مني."

قالتْ جوديثُ وهي تربطُ العقدة

- أخبرني إذا كان الرباط مؤلمًا.

قالَ وهو يحركُ أصابعه:

- إنه جيد. شكرًا لك.

قالتْ وهي تناولهُ قطعةَ خبزٍ وشريحةَ جبن

-   تفضل..  كُلْ شيئًا.

قال:

- أنتِ لطيفةٌ جدًا لأنكِ تشاركين وجبتَكِ مع كاذب.

جلسا أمامَ النار. مدَّ ساقيهِ وأخرجَ شريطًا أحمرَ من جيبه قال:

- من أجلكِ.

أمسكتْ جوديثُ بالشريطِ بين أصابعها ونظرتْ إليه.

-  لا أستطيعُ قبولَ بضائعَ مسروقة.

-  لم أسرقها. على أي حال، إنها لكِ، لتصبحي مثلَ تلك الأغنية.

-   أية أغنية؟

-  التي سألتِ عنها ذات يوم، عن الشيطانِ الذي يغوي امرأةً حتى هلاكها."

بدأ يُهمهِمُ اللحنَ مرةً أخرى.

"كانت العذراءُ شابةً جميلة، ترتدي شريطًا أحمرَ في شعرها الأسود."

غنى.

"لكنها لم تكن حكيمة، غرقتْ في النهر، وكان ذلك حتفها. فلتكن هذه الأغنيةُ تحذيرًا يبعدكِ عن الشر والخطيئة."

لفَّتْ جوديثُ الشريطَ حول معصمها. كانت عيناها مثبتتين على النار. فكرتْ في ناثانييل. ذلك الشعورُ الخانقُ بالوحدةِ الذي يهاجمُها أحيانًا بدأ ينبتُ من جديد. هزَّتْ رأسها محاولةً إبعاده. أخبرتِ الرجل:

- لا يمكنني أن أعطيكَ شيئًا مقابلَه..

-  إنه مجاني لأنكِ تعجبيني. لديكِ مخالبُ مغروسةٌ في قلبي، يا جوديثَ ذاتَ الشعرِ الأسود. سأرحلُ عندما ينتهي الشتاء، لكني سأعودُ في الخريفِ لأرى كيف حالك. "

- لن أكون هنا الخريف القادم.

قالت ذلك، بينما خطرت في بالها صور المدينة بكنائسها الفخمة ومبانيها العظيمة وساحاتها الواسعة. نهضت ومررت يدها في شعرها.

صر كرسيه صريرا مزعجا عندما أمال ظهره للخلف. أدارت رأسها نحوه. وجهه النحيل بدا متأملاً بينما مرر ظفراً على ذراع الكرسي. سألها.

- هل ستشترين ثوباً حريرياً أحمر مطرزاً بالذهب، وترقصين في قصر أحد النبلاء؟  مثل تلك الكتب التي كان يحاول ذلك الشاب إعطاءك إياها، حيث تُشرح عبرة القصة في الصفحة الأخيرة؟"

-  أنا بالتأكيد لن أعيش في إحدى قصصك عن وحوش المستنقعات والمستذئبين."

قال:

- تعالي هنا

جذبها إليه لتجلس في حجره، فاجتاحها حزن مرير رغم محاولاتها دفعه بعيداً. فكرت مرة أخرى بناثانييل، وكيف عليه أن يعود مسرعاً إلى المنزل بعد لقاءاتهما، وكيف لا يوجد أبداً وقت كافٍ لهما.

احتضنها الغريب. كان شعوراً لطيفاً أن تشعر بدفء شخص آخر وتجلس في صمت، دون عجلة، حتى وهي تفكر في رجل آخر. قال أخيراً.

- قبليني بإخلاص.

أجابت:

- مقابل ماذا؟ الزيف؟  لقد قبلتك مرة واحدة بالفعل، وهذا أكثر مما تستحق.

قال، واضعاً مفاصله تحت ذقنها وأمال رأسها لتتمكن من النظر إليه:

- لم  تكن تلك  قبلة عاشق.

قالت، وهي تلهث قليلاً

-  أنت رجل مغرور لتعتقد أنه يمكنك أن تطلب أي شيء مني،  أنا لا أعرف حتى اسمك.

- ليس لدي اسم.

- كل الناس لهم أسماء.

- كل الناس، لكن ليس كل الأشياء. هل تطالبين الشجرة أو الغراب باسمه؟"

سألها، بينما كان يمسك وجهها بلطف، وإبهامه يمرر على شفتها السفلى ليحدد شكلها. أضاف:

- الاسم لا يهم. أنتِ تعرفينني. ليس لدي حرير أو ذهب، لكني أعدكِ بأن آكل قلب عدوكِ وأمزق رئتيه بمخالبي مقابل قبلة منكِ، يا جوديث العزيزة، وهذا أكثر مما يمكن لأمير أن يعد به."

أحمرت وجنتاها وخفضت نظرها. أربكها، لكنها سرعان ما استجمعت نفسها. وقفت جوديث وانحنت فوق كرسيه وقبلت خده. قالت:

-  هاك،لا داعي لوعود سخيفة.

ثم ضحكت وتراجعت خطوة، دارت كراقصة. ابتسم هو ولم يحاول إقناعها أو جذبها إلى حجره مرة أخرى.

مسحت شعرها عن وجهها وأشارت إلى الباب.

- هيا بنا، لنخرج، أنا إلى القرية وأنت إلى حيثما أتيت.

-  من الغابة، بوضوح. ألا يمكنكِ البقاء لفترة أطول؟

قالت جوديث وهي تتنهد عند تذكر كومة الأعمال المنزلية التي يجب أن تنجزها.

-  حفلة عيد ميلاد أختي بعد أيام قليلة. لدي الكثير من التحضيرات قبل ذلك،"

فتحت الباب وخرجا. بدأت الثلوج تتساقط، فلفت شالها فوق رأسها.قالت له:

- لا تمت جوعاً قبل ذلك وسأحفظ لك بعض الحلويات.

وربتت على ذراعه. ثم، وهي تشعر بنحول جسده النحيف، همست بجدية:

- اعتنِ بنفسك حقاً.

سألها، وهو يمسك يديها بين يديه. الضمادة التي يرتديها دغدغت بشرتها.

- هل سترتدين الشريط الأحمر في شعرك أثناء الحفلة؟"

- نعم.

رفع يدها ووضعها بلطف على شفتيه، في محاكاة ساخرة لقبلة رجل نبيل.

- سأفكر بكِ ليلة الحفلة، يا جوديث، بينما أعدو عبر الغابة وأمزق حلق أيل بعضة واحدة. سأتذكر كيف يطابق لون الشريط الأحمر لون دمه."

قالت، وهي تتحرر من قبضته وتعدل شالها:

-  أنت مجنون. اذهب، الحق القمر، وأخبره بأكاذيبك.

ابتسم وبدأ يهمهم من جديد وهو يبتعد عنها.

***

في ليلةٍ كان القمرُ فيها بدرًا مُحاطًا بهالةٍ متجمدة، أقامت أخت جوديث حفل عيد ميلادها. وكالعادة، كان حدثًا فاخرًا. ارتدت أليس فستانًا جديدًا بلون الكريمة، بينما كانت جوديث ملفوفةً بفستانها المخملي الرمادي الذي ارتدته منذ ثلاث سنوات في مثل هذه المناسبات. كانت جوديث قد نسجت الشريط الأحمر بين خصلات شعرها الأسود، ووقفت وهي تمسك كوبًا من العصير بين يديها، تبتسم ابتسامةً خفيفةً وتحدق في اتجاه ناثانييل، الذي كان يرتدي بدلةً سوداءً كويها بعناية ذلك الصباح. بالكاد نظر إليها، وابتسامته تتجنبها.

قالت زوجة الخباز لجوديث.

عزيزتي، كم تبدين رائعة، نضجتِ كثيرًا!

ردت أليس ببرود

لم تنضج بعدُ بما يكفي..

- هراء! أليس العزيزة، أختك ستتزوج قريبًا - انظري إليها. بيتر كان يتحدث عن هذا.

أجابت أليس

- آمل ألا يكون ذلك قريبًا جدًا. ما زلت بحاجة إلى مساعدة جوديث في المنزل لفترة، خاصةً الآن وأن عائلتنا ستكبر.

لم تسمع جوديث بقية ما قالته زوجة الخباز، فقد كانت مشغولةً بمحاولة إمساك الكوب بين يديها المرتعشتين. في النهاية وضعته جانبًا ورفعت عينيها، لترى أليس تقف بجانب ناثانييل، يدها على ذراعه.

نظرت أليس إلى أختها بنظرة باردة ثابتة.

اقترب أحد التوأمين من جوديث وجذب تنورتها، يطلب قطعة خبز بالمربى. هدأت الطفل، لكنه بدأ بالصراخ.

في منتصف الليل، استيقظت جوديث على صوت عواء. لكنه لم يكن صراخ طفل، بل عواء ذئب في الغابة. دفنت وجهها في الوسادة وبكت بتناغم مع الوحش.

***

في اليوم التالي، توجهت إلى الكوخ. فأين عساها تذهب؟ عرفَت قدماها هذا الدرب، فسلكتاه بلا وعي. كانت قد شدّت الشريط الأحمر في شعرها مجددًا ذلك الصباح، كعلامة على بهجة زائفة، ولمست طرفه بأصابعها وهي تسير.

في الأعلى، نعق غرابٌ ظل يتبعها كظلّ عبر الغابة، حتى بلغت المكان القديم فدخلت، هزّت رأسها، تتساقط رقاقات الثلج من على كتفيها إلى الأرض وتذوب سريعًا. كان هو قد أشعل النار بالفعل، وأضاء الشموع. جلس ناثانييل على الكرسي وابتسم لها. قال:

-  متأخرة قليلاً.أوشك الليل أن يحل.

تمتمت:

- صار الليل دائمًا على الأبواب الآن.

غربت الشمس باكرًا؛ بالكاد بضع ساعات من الدفء كانت تقف حاجزًا أمام الليل. كاد السواد القاتم يكون مخمليًا، يبسط سدوله فوق رؤوسهما، النجوم كالجواهر اللامعة، والقمر قرص فضي، والثلج رداء عاجي..نظرت من النافذة إلى هذا المشهد الجميل وفكرت في الانزلاق مرة أخرى إلى الشفق، إلى الظلام الآتي. لابد أنه خمن أفكارها، فقام فورًا وأمسك بها. طمأنها:

-  سنفر معًا.

لو لم تكن متأكدة من قبل، فقد حسمت كلماته الحقيقة. أو بالأحرى، الأكاذيب. أدركت أنه لم يقصد أيًا من تلك الأشياء التي قالها. لن يكونوا معًا أبدًا. ومع الربيع سيختلق عذرًا، ثم عذرًا آخر.قال:

- أحبك.

صفعته. صرخت.:

- محتال! كذاب!لست لي، بل لها!

-   جوديث، أرجوك، استمعي....

- ليس هذه المرة، لا.

شرح، توسل، هدد، أغراها، حاول أن يقتنعها، توسل مرة أخرى. بكت. في النهاية، أطبقت فمها على فمه لإسكاته. داعب شعرها وقال إنها جميلة، كاملة.

حاولت أن تكذب على نفسها وتصدق أكاذيبه المنسوجة بدقة، في فعل يائس من إحراق الذات. لكن ذلك لم يجد نفعًا، وعندما تحركا نحو السرير، بقيت ضائعة، وحيدة، باردة حتى العظم. كان الأمر كمن يحاول إحياء نارٍ أُطفئت بالماء: لم يبق سوى الدخان.

ظنت أنها سمعت صوتًا خارجًا، حكًا خفيفًا. ربما كانت الرياح تضرب مصراعي النافذة.

لم تجد متعة في عناقه، ولا حتى شرارة منها.

في النهاية تكورت على السرير، تضحك ضحكة مكسورة على نفسها وعلى الفراغ في صدرها. لابد أنه ظن أن هذا رضا حقيقي، لأنه غرق في نوم هانئ وسلمي بينما كانت هي ممزقة بجانبه.

كانت النوافذ مغطاة بصقيع أبيض شبحي، واقتربت من الزجاج، ترسم أشكالًا بأصابعها. بالخارج، لم تستطع رؤية شيء. لا النجوم، ولا الأشجار، فقط الثلج المخيف. مرة أخرى، جاء الصوت، خشخشة خفيفة—فتجهم وجهها.

عوى ذئبٌ خارج النافذة مباشرة.

التفتت جوديث لتوقظ ناثانييل، لكن شيئًا ما أوقفها. ظنت أنها تسمع همهمة تعرفها. هل كان الغريب بالخارج أيضًا؟

اقترب الصوت، وتكرر العواء، لكنه كان أبعد قليلاً الآن؛ حتى ظننت أن الذئب عند الباب.

تحركت نحو المدخل، والبرد يعض جسدها بينما تضع أذنها على الباب.

وقفت جوديث ساكنةً تستمع مرة أخرى.

ارتفع العواء، مما جعل الألواح الخشبية تحت قدميها تهتز.

حدقت في ناثانييل، الذي كان لا يزال نائمًا، إما مسحورًا أو ببساطة منهكًا. كانت البندقية عند المدخل، لكنها لم تكلف نفسها عناء أخذها.

شدت الباب بقوة. هبت الرياح على بشرتها؛ وتطايرت الرقاقات وتشابكت في شعرها الأسود.

دخل الظلام السائل بأسنان تلمع بيضاء كالثلج - ظلامٌ يمتلك عيونًا كالزئبق، تشبه حد السكين. انحنت بعض الشموع واهتزّت، كما لو كانت تحاول الفرار من ذاك المخلوق الهائل،

الذي قرعت مخالبه الأرض بإيقاع جليدي..

لحظة، فكرت في الصراخ صرخةً حادةً غبيةً، لإيقاظ الصياد.

لكن الظلام ابتسم لها، ابتسامة باردة كالجليد، مكونة من مجموعة من الأسنان المسننة التي يمكنها أن تحطم العظام بعضة واحدة.

عرفته الآن.

لطالما علمت أن عشيقها سيأتي من وراء الغابة. أغلقت الباب برفق خلفه، وأشارت إلى السرير حيث وجبة دافئة تنتظره

(النهاية)

***

.........................

الكاتبة: سيلفيا مورينو-جارسيا/ Silvia Moreno-Garcia : روائية وكاتبة قصص قصيرة ومحررة وناشرة مكسيكية-كندية. وُلدت مورينو-جارسيا في 25 أبريل 1981 ونشأت في المكسيك.  وكان والداها يعملان في محطات إذاعية.  انتقلت إلى كندا عام 2004. حصلت مورينو-جارسيا على درجة الماجستير في دراسات العلم والتكنولوجيا من جامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر عام 2016. وتعيش حاليًا في فانكوفر.لها أكثر من عشر روايات وأكثر من مجموعة قصصية، وتعد كاتبة غزيرة الإنتاج.

 

بقلم: آلي سميث

ترجمة: صالح الرزوق

***

حان منتصف تشرين الأول، ولا زالت الأوراق خضراء على الأشجار. هذه عطلة نهاية الأسبوع. السبت. يومها ننهض متأخرين. هبطت إلى الأسفل بالبيجاما، وذهبت إلى الغرفة الأمامية لأحمل بعض البرتقال، وأحضر القليل من العصير. فتحت الباب. كانت الغرفة الأمامية مزدحمة بالأطفال. صدمني ذلك نوعا ما، لأننا بدون أولاد، وكان هناك كثير منهم، وكلهم بحوالي ثماني أو تسع سنوات، ويشغلون المقعدين والكنبة. الولد الذي منحني ظهره كان في منتصف المكتبة، يضع قدمه الصغيرة بنعلها على الرف الثاني، بينما الثانية على ذراع الكنبة، وقد مط نفسه على عرض واجهة لوحة القوارب كما لو أنه يريد أن يخفف ثنياتها، وجلس البقية بهدوء وبرزانة مثل حلي من الذهب. وكان عدد آخر  يراقب شاشة التلفزيون المغلق كما لو أنه سيعمل تلقائيا في أي لحظة، ولا يجب تفويت فرصة متابعة البرامج. غادرت من فتحة الباب وأغلقته. وقفت خارجه لحظة. ثم فتحته ثانية. كانوا جميعا هناك. الذي استند على رفوف المكتبة كان يرقد الآن أمامها وعلى طول ظهرها. ذقنه على يده، يراقب التلفزيون المغلق مثل البقية. ويتدلى من قمة إطار صورة القارب شريط سميك فضي المظهر، ماذا كان؟ يبدو من مادة صناعية. ويلمع بضوء شمس الخريف. أغلقت الباب ثانية.

صعدت إلى الطابق العلوي.

قلت: ممتلئ بماذا؟.

قلت: أعتقد أن أحدهم يرتب زينة عيد الميلاد.

ارتديت رداء رسميا. وتجولت حول غرفة النوم بحثا عن ثياب أرتديها. هبطنا كلانا إلى الطابق الأدنى، وفتحنا الباب، ووقفنا على عتباته.

قلت: من هم؟.

ظهرت بجانبي. وعبرت الغرفة.

قلت: مرحبا للجميع.

ردد الأولاد بصوت رخيم: مرحبا.

تفحصت أرجاء الغرفة. كل الصور على الجدران لها إطار مغلف بالمعدن. ويمر من بينها معدن مثبت بشريط لاصق على زر النور. وقفت عند طاولة القهوة وشغلت التلفزيون بالتحكم.   

قالت البنت ذات الرداء الصوفي من تحت خوذة ركوب الحصان: موافقة على ما فعلت. 

قالت البنت ذات ثياب الباليه: شكرا جزيلا.

كان هناك هاتان الاثنتان، ذات ثياب ركوب الحصان والأخرى بثوب الباليه، ومعهما صبي وبنت بثياب روبن هود غريبة مع أطراف مزركشة بإفراط، كأنها أسمال كرتونية. وهناك صبي يشبه البنات أو لعله بنت تشبه الصبيان، يصعب أن تقرر، بالجينز ومعطف من الشاموا حتى الخصر، وبجيوب من الشاموا لها شكل التفاح. وهناك طفلة منذ البداية عند خطاف الصورة، وترتدي شيئا مثل ثياب فرقة الخنافس في شريط "سيرجانت بيبر"، وتجلس القرفصاء على ظهر الكنبة، وتقص أجزاء من ورق مقوى أبيض ومطوي بمقص المطبخ. وبلورات الثلج تسقط من المقص بشكل مثلثات، وتستقر وراء الوسائد.

رائحة الغرفة خانقة وحلوة. ملت قليلا على الباب المفتوح فقاومني الباب. ربما هناك وراءه شخص آخر، ولعله أكثر من شخص. صبي خشن المظهر دفع بنتا رقيقة الهيئة. فدفعته إلى الخلف بقوة مضاعفة. أحد بقية الأطفال طلب منهما أن يتوقفا. كنت أشير إليك. تراجعت إلى الخلف وتغلغلت بينهم وتابعت في الغرفة وتركناهم يستقرون على فيلم جون واين، فيلم كان فيه جون عجوزا، وله عصابة على عينه. 

أغلقت الباب. وقفنا في الجانب الآخر من الصالة قليلا، صامتين. أمكننا سماع جون واين من ورائه يقول: لم أطلق النار على أحد ولست مضطرا لذلك.

جلست في المطبخ عند الطاولة. وأنت على الطاولة جالسة وساقاك تتدليان فوق الأبواب.  

قلت: ماذا يجري؟

قلت: ليس عندي أي فكرة.

قلت ذلك باستسلام. وركلت الأبواب بساقيك.

قلت: ألا يوجد في ذلك الفيلم مشهد عن جحر حية؟.

قلت: رافق البنت مع أنها مديرة مدرسة نوعا ما. ثم هبط على سفح الهضبة نحو الصبيان الأشرار ويداه في الهواء. تذكرين؟. وضع زمامه في فمه وتابع على السفح نحوهم. أعاد تلقيم بارودته وهو يمضي، وتقريبا ألقاها في الهواء، ثم لقمها مجددا وهو يجري بحصانه - شيء مدهش؟ هل تتذكرين؟.

قلت: كلا. كيف دخلوا؟ ألا يجب مخابرة الشرطة أو البلدية أو جهة ما؟.

قلت: انظري. أنت تعرفين ذلك الكتاب.

قلت: أي كتاب؟.

قلت: الكتاب الذي كنت أقرأ فيه الأسبوع السابق. الأسبوع المنصرم. الذي طلبت منك أن تستمعي لأجزاء قرأتها وتحسست منها.

قلت: الكتاب الممل عن سيكلوجيا الاهتمام بالذات.

قلت: الذي قلت عنه إنه سخيف.

قلت: الذي عنوانه "أطلق طفلك الباطني".

قفزت مبتعدة عن الطاولة. اهتزت كل موجودات المطبخ.

قلت: سأعود بعد دقيقة. أنا ذاهبة لأعلمهم كيف يستعملون جهاز التحكم. في حال لم يعجبهم برنامج الحيات.

ألا يعرفون سلفا؟ أليس الأولاد في هذه الأيام يولدون وهم ملمون بالتكنولوجيا؟.

انغلق باب المطبخ. وحين ذكرت كلمة "ملمون" كان المطبخ فارغا.

***

كانوا هناك في وقت الغداء. وفي توقيت الغداء سمعت، من وراء الجدار، أغنية تعلمك كلماتها كيف تحتفظ بالروح المعنوية إذا ضعت في الغابة. وفي توقيت الغداء، حينما قرعت باب غرفتي الأمامية، كما لو أنني غريبة في بيت شخص آخر، ثم فتحته ودخلت، رأيتك بوضع الجلوس أمام الموقد. وحولك الأولاد.

شيء لطيف.

ثم لاحظت أنه تتدلى من النور الكبير في الغرفة الأمامية بلورات ثلج من الورق المقوى بشكل مصيدة من خيوط حمراء براقة ملتفة حول نفسها.

لم يتمكنوا من الوصول وتحقيق ذلك. لا بد أنك قدمت لهم العون.

رأيتني أخيرا.

قلت: هل سيتناولون الغداء؟.

قلت للغرفة: هل أنتم يا شباب بحاجة للغداء؟.

رددوا بتهذيب وفق الأخلاق القديمة: كلا. شكرا لك.

حينما وقفت واقتربت مني، صنعوا نصف دائرة حول التلفزيون الذي يبث. كانوا يستمتعون بأوقاتهم بتقليب المحطات. كان الأمر كأنهم لم يشاهدوا هذا العدد من المحطات. تابعوا التعبير عن دهشتهم. وبدا أنهم مستمتعون بالإعلانات أكثر من غيرها. وحينما انتهت فترة الإعلانات وبدأت البرامج مجددا، قلبوا المحطات باهتمام بحثا عن إعلانات إضافية، وكلما باشر الإعلان الذي يذكر عيد الميلاد، إعلان عن الكنبات، كانت كل الغرفة تتألق بالاهتمام. 

قلت: لا يمكن أن يكون كلهم أبناءك (قلت بهدوء. لم أرغب بتحريضهم). أعني، أن ذلك يشبهك، لكن ماذا عن البقية؟.

أشرت لاثنين بثياب روبن هود.

قلت: أولاد في الغابة.

تمثيل كنت أؤديه حينما كنت بحوالي العاشرة، في المسرح المحلي، ويحتل دور الراوي أو الحطاب رجل من باسيل بروش، وواحدة من تلك الأخوات، الأخوات نولان، كما تعلمين، وهي زوجته. وكانت مغنية جيدة.

انفجر أولاد التمثيلية بالغناء.

في الغابة، في الغابة، لا تبدو الأشياء جيدة.

حينما لا ترى الغابة ولكن الأشجار.

لا تخف، لا تخف، لأنك معي وأنا هنا بجانبك.

أن تضيع في الغابة كالنسائم.

همست ذهبت سبع مرات.

وهذا جعل مني ممثلا.

وجعل والدتي ساخطة.

وأنشد الأطفال: لا تفكروا حتى بالتنظيف. فنحن نحوم حيثما نكون.

وبدأت بالدمدمة. ثم انضممت لي. كانت الكلمات معروفة لك.

معا سنحتفظ لأنفسنا بالأمل. وسيكون الأمل رفيقنا حتى نصل إلى البيت.

أشرت إلى البنت التي ترتدي التوتو - ثياب الراقصة، ثم إلى البنت بثياب المهر. كانتا جالستين على الأرض أمام الموقد، ومعهما اثنتان أخريان،  وتنتقيان منحوتات خشبية صغيرة من علبة كرتون منهكة، لتضعاها حول مهد صغير وفارغ فوق الموقد.

تنهدت.

قلت: ماذا يمكنني أن أقول؟ كنت طفلة متعددة المواهب.

أشرت لمن ترتدي الجاكيت العسكري البراق، التي كانت تهتم بالديكور. كان لها قبعة طويلة مع غطاء يعلوها. وكانت قد أخذت السوط من بنت المهر، وبدأت تحركه بمهارة في الفضاء فوق القلعة. 

قلت: هل كنت تعملين مع فرقة نحاسية أيضا؟.

قلت: لا. ليس لدي أي فكرة. لكن انتظري. أنا أعلم. أعلم من قد تكون. كانت كيتلين بطلة  أكروبات، وأعتقد أنها اعتادت على -

قلت: كيتلين؟ مثل كيتلين طليقتك؟.

قلت: حصلت على جملة من الميداليات، وربحتها حينما بلغت الحادية عشرة، وفي أحد الأيام عرضت علي -

قلت: أنت تتقمصين طفولة طليقتك؟.

قلت: كانت جيدة. وهي لا تزال كذلك حتى في الثلاثينات. في أحد الأيام كنا معا وأخرجت عصاها وخرجت إلى ممشى بيتها و -

قلت: والآن ها هي هنا في بيتي؟.

قلت: بيتنا. كلا. استمعي. كانت جيدة فعلا. ورتبت للعرض هناك في الممشى وخرج كل الجيران من بيوتهم وصفقوا لها.

ولاحظت ملامح وجهي.

قلت: حسنا. يصعب علي أن أطلب منها أن تنصرف. أليس كذلك؟. وتبدو أنها مهمة جدا لحركة الجماعة. أقصد لا أعلم فعليا إن كان بيت كيتلين. ماذا لو أنه بيتي أيضا؟ لنقل ماذا لو أن طفولتها ببساطة أثرت بأحد من -

قلت: ليس هي فقط. أريد منك أن تطلبي منهم أن يغادروا جميعا.

سقط وجهك. ثم نظرت مباشرة نحوي وقمت بهز رأسك هزة خفيفة.

قلت: كلا؟.

وقفت بكامل قامتك وكتفيك، بيأس، والتحدي في عينيك. 

تجاهل الأولاد التلفزيون ودخلوا في نوبة قوقأة حول الصبي الذي يسعى لعراك مع البنت.  وكان كلاهما، الصبي والبنت، يتبادلان المسيح الصغير المنحوت من الخشب بالدور، من يد إلى يد كأنه فأر صغير، أو حشرة مقدسة.

دفعتك عن الطريق، وانحنيت وحملت علبة الورق المقوى القديمة والمهترئة. كان في أسفلها عدة أشكال مطلية، الملوك الثلاث، ويبدو كأنها باقية حتى النهاية. غادرت الغرفة بخطوات منتظمة. وكنت أخشخش بالملوك وأنا أمر بالمطبخ. فتحت الباب الخلفي. وذهبت إلى الطرف البعيد من الحديقة، رفعت العلبة عاليا في الهواء فوق سور الجيران، وفوق المكان الذي كوموا فيه كومة الأعشاب. ثم جعلت أعلاه أسفله. فسقط الملوك.

وقلت: اتبعوا تلك النجمة، لا يوجد ما يمنع.

ثم أفلت العلبة الفارغة بعد ذلك فوق السور.

عدت إلى البيت. وقفت في الغرفة الأمامية. نظرت لما وراءك. ونظفت حنجرتي لأقول: حسنا. تعالوا جميعا. وشكرا لمجيئكم. ولكن حان وقت الانصراف.

لم يتجاوبوا.

قلت بصوت جهوري قدر الإمكان: هيا. اجمعوا أشياءكم. وتأكدوا أنكم تحملون كل شيء أتيتم به.

لا جواب. ثم ضحكة جماعية خفيفة جدا.

قلت: ألا تسمعونني؟.

أحدهم ردد ورائي: ألا تسمعونني؟. واندلعت في الغرفة الضحكة المكتومة.

قلت: حان وقت أن تغادروا جميعا.

حان الوقت لتغادروا جميعا. رددت من كانت ورائي صوتي بنفس النبرة والذي يدل على الإصرار التام.

وانفجرت الغرفة بزعيق فوضوي. التفت لأنظر. كانت سوداء وصغيرة جدا، وأنيقة الملبس، بثياب مدرسية نظيفة، مع أنه يوم السبت. وكانت تجلس وراء الباب وعلى ما يظهر أنه لوح صغير أسود، كأنه صندوق مقوى أو حقيبة - الحقيبة التي نحتفظ فيها بالأدوات الموسيقية.

هززت رأسك.

قلت: لا فكرة عندي على الإطلاق من أين جاء.

****

استيقظت، تقلبت في السرير، شخيرها الخفيف بجانبي، كان صباحا باكرا من يوم سبت، في منتصف تشرين الأول، والأوراق في الخارج لا تزال خضراء. والحرارة في ذلك اليوم 20 درجة، بعد نهوضنا، وتناول الإفطار، نعمنا بيوم خريفي هادئ،  يوم خريفي ذهبنا خلاله بالسيارة إلى الغابة، التي نحمل بطاقة عضويتها، ولذلك بمقدورنا إيداع السيارة في الموقف الخاص بالمجان (حسنا لقاء رسم عضوية سنوي يبلغ 25£ ويدفع مقدما). تجولنا مع بقية الناس في دفء هذا ليس موسمه، ولدى عودتنا في تلك الليلة، جلسنا أمام التلفزيون، وشاهدنا المشاهير في ذلك العام يتعلمون الرقص ومعهم بعض الناس الذين يظهرون في هذا الموسم، بعضهم يمكنه الغناء وبعضهم لا يغني، وكانوا يقدمون الأضحيات السنوية، ويضحون بأنفسهم تحت أضواء ألبرت سبير، والتي كنت تقولين عنها دائما إنها العامل X

ثم في منتصف أحد الإعلانات امتلأ رأسي بموسيقا الفلوت.

حل الصيف. ارفع صوتك بالغناء يا وقواق. وعزفت أيضا نسخة من "وسط المدينة" لبيتيولا كلارك، بالفلوت في فرقة عيد الميلاد المدرسية، وتبعها "طير الثلج"، و"أعلنه على سفح الجبل"، و"في منتصف الشتاء الكئيب"، ولكن بنغمة مختلفة وغير معتادة. وطيلة هذه السنوات نسيت أنني تعلمت فيما مضى العزف بالفلوت.

خفضت صوت التلفزيون.

قلت: هل سمعت هذه النسخة من "في منتصف الشتاء الكئيب".

دندنت بكلماتها.

قلت: كلا. ولكنها جميلة.

ثم رفعنا الصوت كما كان.

مرت الأسابيع. تجمعت الإعلانات في التلفزيون وتحولت إلى قصص. بنت بليدة صغيرة ترتدي ثيابا من فترة الخمسينات، وتعيش في الوقت الحاضر، حضرت البسكويت للمدرسة، بمعونة من بنت جميلة تعمل في المتجر وولد صغير ساعد بطريقا إلكترونيا ليجد حبيبته. وتسلق بعض الرجال المتقابلين في الخنادق، الوحل، ولعبوا كرة القدم  وتبادلوا الشكولاتة فوضعوها في جيوب بعضهم البعض. كانت الإعلانات عن شراء أشياء في المتاجر (غاليبولي، فيردون، يبريس، سومي. مائة وثمانون ألفا، سبعمائة وخمسون ألفا، ثمانمائة وخمسون ألفا، مليون).

مرت برامج دراما خريف - وشتاء، كلها كانت فقط عن قصات شعر ما بعد الحرب العالمية الأولى، ومشاهد جنس عنيفة، وأفعال متوحشة تفرض على النساء والبنات، ولكن دون استفزاز، لأن القسوة كانت تأتي من شباب كنا نعلم بالتأكيد أنهم أشرار. كانت  غيليان أنديرسون بوجهها المكتئب، تبدل بذة الشرطة.  ويبدو أنها أخذت وقتا طويلا لفك أزرار القميص. ربما كان قميصا بعدد غير معتاد من الأزرار، أو لعل بذة الشرطة مزودة بأزرار أكثر من الثياب العادية. ذهبت لتجفيف بعض الأكواب في المطبخ، وبعودتي كانت لا تزال مشغولة بالطرف الأمامي. ولد صغير تعرض للسرقة، وكان أبواه يتخبطان مكسورين بحثا عنه. كل حلقة تقترب قليلا من اللغز، ومن التابو الذي حصل له فعلا. كانت الحكاية مشوقة جدا. ومن المقرر عرضها طيلة هذه الفترة حتى عيد الميلاد.

ثم جاء يوم الجمعة الأسود. ثار الناس في كل المملكة المتحدة بحثا عن تلفزيونات بنصف السعر المعتاد. في الولايات المتحدة، كان الناس مهتاجين لأجل أشياء تتعدى التلفزيونات، ووقف الشرطة المسلحون بصف وهم يلوحون بدروعهم تحت كلمات معلقة على عرض الشارع وهي: تحيات العيد، وكانت تلمع بلون معدني كالنار.

(كل الوقت كانت بجانبي، وشعرت بذلك، قليل من الضغط، شيء بحجم ذات صغيرة فارغة).

كان رجل يصيح في أخبار المساء: حصلت على وقتك.. وحان وقتنا. وقتك انتهى.

تجاهلته. وعدت عبر المطبخ وحدقت بالعتمة المخيمة على الحديقة. الأشجار فوق سور جيراننا عارية ومعلقة بمطر هذه الليلة. الأغصان كالألماس. ولكن لم أشاهد غيري في الانعكاس الضوئي على النافذة. 

(كان الملوك في السماد العضوي. ولا بد أنهم تحت طبقة عميقة من الأوراق. والطلاء على عماماتهم يقشر حتما، وربما تآكلت وجوههم. وتحولت الهدايا في أيديهم إلى رقائق من الخشب).

لقد عبرت.

قلت: ما الموضوع؟.

قلت: الموضوع؟ لا شيء.

عدت معك. جلسنا على كنبتنا معا لنشاهد "دورية الحدود" أو أي شيء بعدها.

***

..................

* آلي سميث Ali Smith  روائية إسكوتلاندية معاصرة. حازت عام 2014 على جائزة غولدسميث التي تقدم بالتعاون مع جريدة نيو ستايتمان.

 

بقلم: كلير جيا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت بكين تعجُّ بالأمل. طوال خريف ٢٠٠٧، كانت "ليان" و"وينيو" تمران بجوار القرية الأولمبية تحت الإنشاء بالحافلة  وهما في طريقهما إلى المدرسة، وشيئًا فشيئًا كانتا تشاهدان ارتفاع ملعب حفل الافتتاح، تلتحم أجنحته المعدنية معًا لتصبح على شكل عش الطائر المنحني. كل لوحة إعلانية ومحطة حافلات كانت تحمل صورًا لرياضيين مبتسمين يحتسون "باد لايت" ويقودون "بنتلي"، بينما تتصارع العلامات الغربية على جذب الانتباه في شوارع المدينة الصينية: "ليو تشانغ" بزي نايكي، و"تشانغ ينينغ" بزي أديداس. سينتزعون الذهب مدعومين برفاهية أمريكية، تاركين الأمريكيين الأصليين في البرد القارس.

أحست "ليان" بحماس المدينة، وحولته إلى طاقتها في تقديم طلبات الالتحاق بالجامعات. مثل رياضية أولمبية، ستكون ممثلة لبلدها في الخارج؛ ستعود بالميدليات الذهبية، وسط حسد وإعجاب كل من تركتهم خلفها.

في المقابل، وقعت "وينيو" في الحب. بدأ ذلك في سنتهما الثانية. كان الحبيب ذلك الفتى المتمرد في الصف، يتدلّى على عينيه، يرفض ارتداء الزي المدرسي، ويظهر بدلاً منه بملابس فضفاضة بألوان صارخة.. بينما كانت ليان تحدق في المرآة، تتدرّب على تعبيرات وجهها، وتصقل مهاراتها استعدادًا لمستقبلها، كانت وينيو تتسلل من حصص التحضير الدراسي بشكل متكرر لتنفّذ مقالب طفولية مع حبيبها الجديد. تراجعت درجات "وينيو" في الترتيب. تحولت سرقات المتاجر الصغيرة في طفولتهما إلى تحدٍ أكثر صلفًا. فجأة، لم تعد "ليان" شريكة "وينيو" الرئيسية في المشاكسة؛ فقد أصبح صديقها أكثر جرأة. بل إنه كان يسرق أشياء أكبر وأخطر — أحذية، ملابس، مشغلات إم بي ثري — دافعًا "وينيو" إلى تحد جديد. أصبحت الآن هي المُتأثرة بدلًا من المؤثرة. وعندما تسببت حماقات الصبي في فصل "وينيو" للمرة الأولى في شتاء سنتهما الثانية، واجهتها "ليان" وتوسلت إليها أن تعيد ترتيب أمورها:

- لماذا تربطين نفسك ب مثل هذا الأحمق؟

أجابت وينيو بحدة وغضب:

- هو أذكى فتى قابلته في حياتي. مقدر له العظمة. يمكنه أن يكون أي شيء يريده. انتظري فقط. فقط لأنه لا يغوص في الكتب ليل نهار مثلك، لا يعني أنه ليس بنفس ذكائك. بل أذكى على الأرجح. وهو لا يحتاج إلى الذهاب إلى أمريكا الغبية ليثبت ذلك.

صرخت ليان:

-  وماذا عن حلمنا؟

ردّت وينيو ببرود لاذع:

- أي حلم؟ كان ذلك مجرد لهو.

لكن في النهاية، لم تكن "ليان" هي من ذهبت إلى "أمريكا الغبية.

في صباح بارد من ديسمبر خلال سنتهما الأخيرة، ظهرت "وينيو" عند باب "ليان" تحمل كوبين من الآيس كريم، يبدوان وكأنهما يتحدّيان قسوة الشتاء ببرودهما القاطع.  كانت ليان منهمكة في كتابة مقال للالتحاق بجامعة هارفارد. "لماذا هارفارد؟" لم لا؟ لطالما رغبت في الإجابة. إنها أفضل جامعة في العالم. من منا لا يرغب بالأفضل؟ فتحت الباب وهي غارقة في أفكارها، والعبارات الإنجليزية لا تزال تتدلى على شفتيها.عادت إلى مكتبها بينما ألقت "وينيو" بنفسها على السرير، وأمسكت مجلة بيد بينما تمسك بكوب الآيس كريم  باليد الأخرى. ثم، ومن دون تمهيد، قالت وينيو بجملة واحدة سريعة غيّرت كل شيء:

- سأنتقل للعيش في  كاليفورنيا.

لم تستطع "ليان" فهم ما تسمعه. استدارت وفمها مفتوحًا على اتساعه.

- صديق أبي يعيش في سان خوسيه، لذا سيدخلوني في مدرسة ثانوية هناك. أليس هذا مثيرًا يا ليانليان؟

قالت ذلك  وكأنها اكتشفت للتو أن فرقتهما المفضلة ستأتي إلى المدينة، أو أن مقهى الشاي المفضل لديهم أصبح يقدم نكهة الليتشي. ليس بنبرة من يخبر صديقته المقربة أنها ستنتقل إلى الجانب الآخر من العالم.

- ظننتُ... ظننتِ أنكِ تكرهين أمريكا...

كان هذا كل ما استطاعت "ليان" قوله.

هزت "وينيو" كتفيها:

- لمجرد أنكِ تحبينها لا يعني أنني أكرهها.

قلبت صفحة المجلة وأخذت قضمة باردة من الآيس كريم. كاد أن يسيل السائل الأبيض أن يسيل على أغطية وسائد ليان النظيفة. قالت وينيو ببرود:

- لن يسمحوا لي بتقديم امتحان القاوكاو. فُصِلتُ من المدرسة مرات كثيرة. فطلب والدي من صديقه أن يساعدني، واتضح أن لديهم غرفة إضافية في منزلهم، وهكذا كان الأمر..

أجابت ليان بصوت خافت، وكأنها تردد صدى كلمات لم تستوعبها تمامًا:

-  هكذا إذًا... حسنٌ، هذا أمر جيد على الأقل...

لقد كان هذا ما تخشاه على وينيو دومًا: أن تنحدر درجاتها إلى حدّ تغلق فيه الأبواب كلها في وجه مستقبلها. لكنّ ما لم تكن تتوقعه هو أن الطريق الوحيد المتبقي سيقودها إلى أمريكا.

اعتدلت وينيو في جلستها وقالت، بابتسامة خفيفة:

- ربما ننتهي كلتانا في كاليفورنيا! نشتري قصرين على شاطئ البحر!

قالت ليان بصوت أقوى، تحاول مجاراة حماسها:

-   نعم، بالتأكيد!

لكنّ شعورًا غريبًا كان يجلدها من الداخل، كريح باردة تهبّ من حيث لا تدري.

كان رحيل وينيو بدافع الضرورة؛ حلمها، محاولتها الأخيرة واليائسة. عادت إلى كتابة مقالها، وفكت غلاف الآيس كريم  بسرعة. شعرت بطعمه حامضًا في فمها.

بعد أسبوعين، وقفت "ليان" في غرفة "وينيو" تشاهدها وهي تحشر الملابس الداخلية والقمصان والفوط الصحية في حقيبتها. كانت وينيو تخشى ألّا تجد فوطًا صحية في كاليفورنيا — فبحسب ابنة عمّها الكبرى، الأمريكيات لا يستخدمن سوى السدادات القطنية.  كان في تصرفات وينيو توتر محموم، طاقة متخبطة. ارتدت أفضل فستان لها لرحلة الطائرة. كان من المفترض أن تغادر إلى المطار خلال ساعة، لكنها لا تزال في حيرة: هل تأخذ معها حذاء المطر أم لا؟. سألت :

- هل تمطر كثيرًا في سان خوسيه؟

سألت، دون أن توجّه السؤال لأحد بعينه.لم تكن أيٌّ منهما تعرف الجواب. ظنت ليان أن وينيو ربما خائفة، لكنها بدت منشغلة بتفاصيل تافهة - كالسدادات القطنية، والمطر - ولم تستطع ليان أن تجد الشجاعة الكافية لتسألها عمّا يدور في داخلها. سألت "وينيو" مرة أخرى، مثبتة عينيها في عيني "ليان":

- أراكِ في كاليفورنيا، أليس كذلك يا ليانليان؟  ستانفورد ستخطفك فورًا.

ردت ليان، وقلبها يخفق بقوة.

- بالطبع!.

حاولت وينيو أن تحشر دمية دورايمون القماشية في الحقيبة، لكنها قفزت مجددًا إلى الخارج، رافضة أن تنضغط.استدارت وينيو وقدّمت دورايمون إلى ليان، عيناها الكرويتان بالأبيض والأسود تحدّقان بها بثبات.قالت:

- اعتني بها.

في النهاية، نصحت "ليان" "وينيو" أن تترك حذاء المطر. لم يكن هناك مساحة كافية في الحقيبة، ويمكنها دائمًا العودة لأخذه لو تبين أن سان خوسيه مدينة موسمية ممطرة. لكنها لم تكن كذلك، ولم ترَ "ليان" صديقتها مرة أخرى.

لم تأتِ رسائل الرفض في سربٍ كما في كوابيسها، بل تسللت واحدة تلو الأخرى في مظاريف نحيلة، تقرض حلمها شيئًا فشيئًا. همست لنفسها مثل تايتانك والجبل الجليدي الخفي"، لم تكن هناك تفسيرات، فقط اعتذارات مبتذلة بأن عدد المتقدمين المؤهلين كان كبيرًا هذا العام.

طوال ذلك الربيع، كانت تفكر في وينيو، وهي تتحول بثبات إلى "فتاة كاليفورنيا".

ذهبت "وينيو" للعيش مع صديق والدها، الذي كان لديه ابنان. غارت "ليان" من أن “وينيو" حصلت على أخوين جاهزين، وكانت "وينيو" ترسل لها أخبارًا عن تصرفاتهما الغريبة، وألعاب الفيديو الصاخبة التي يحبانها ، وقمصان "المتحوّلون" التي كانا يرتديانها باستمرار.

أرسلت “وينيو" ملاحظاتها المباشرة عن الأشجار الغريبة، والمتاجر الضخمة، وعصا الزبدة المقلية التي جربتها في مكان يسمى "المعرض". في البداية، ردت "ليان” بحماس، ضاحكة مع "وينيو" على غرابة التقاليد الأمريكية. تبادلت الفتاتان عبارات الاشتياق، وأخذت "وينيو" تعد الأيام على أحر من الجمر حتى تلتحق بها "ليان" في كاليفورنيا.

كان صديق والد "وينيو" يأخذها في جولات بالمدينة لتذوق عينات الشوكولاتة من متجر "جيرارديلي"، وليتمشيا على جسر "جولدن جيت".  بينما كان حلم "ليان" ينهار، زاد اقتناعها بأنهما قريبًا ستجولان معًا في سان فرانسيسكو.

عندما جاء الرفض الأخير من "بيركلي"، شعرت "ليان" بالراحة تقريبًا. لن يكون هناك "هي ووينيو" في كاليفورنيا، ولن ينقسم حلمها الأمريكي بينهما. الآن، يمكنها أن تكرس نفسها كليًا لامتحان "القوكاو". ستجلس مع آلاف زملائها، تتعرق في فصلٍ حارٍ في يونيو، وستتفوق عليهم جميعًا. ستسلك الطريق التقليدي، الطريق الذي كان متوقعًا منها دومًا أن تبرع فيه. ستلتحق بجامعة من الدرجة الأولى في وطنها، ولن يلومها أحد.

وفعلت ذلك بالضبط. اجتازت امتحان القبول في جامعة بكين للمعلمين، إحدى أعرق الجامعات في البلاد. بينما دخلت "وينيو" جامعة حكومية في كاليفورنيا، وقد أرسلت لها ليان رسالة تهنئة.

لكن ببطء، أصبحت رسائلهما متباعدة. تحولت أخبار "وينيو" من كاليفورنيا فجأة إلى تباه مفرط، وكبرياء زائف، كأنها تلقّي بوجه "ليان" بكل المغامرات التي لن تسنح لها أبداً. وفي النهاية، توقفت "ليان" عن الرد. التقت برجل ذكي وطيب. حصلت على وظيفة مرموقة في شركة أمريكية قبل حتى تخرجها. ألهمت عشرات الطلاب الذين يحملون أحلامًا مثل أحلامها. تناقشوا في الأدب والسينما والسياسة والتاريخ. بينما عاد أصدقاء آخرون من أمريكا يحكون عن العنف المسلح والعنصرية ونظام صحي معطل. لم تكن تلك أرض أحلامها. أقنعت نفسها أن أمريكا كانت أنسب لـ"وينيو" منذ البداية: أرض بلا قيود أو خجل، مكان لا يحترم التقاليد أو الأعراف. كانت ساذجة لأنها ظنت يومًا أنها مناسبة لها؛ أمريكا كانت دومًا لـ"وينيو"، الفتاة التي سرقت وصرخت وتمردت لأنها لم تكن راضية أبدًا عما منحته لها الحياة. أما "ليان" فاستطاعت أن تكون سعيدة. ستكون سعيدة. لذا ركزت على مسارها الخاص: مهنة، زوج، شقة فاخرة.

وبالفعل، بعد اثني عشر عامًا، حققت كل هذا تقريبًا. لم تكن بحاجة إلى عودة "وينيو" المدوية لتذكيرها بأمنية دفنتها منذ زمن بعيد.

التقت رجلًا ذكيًا وحنونًا.

حصلت على وظيفة ذات راتب مرتفع في شركة أمريكية حتى قبل تخرجها.

أثّرت في العشرات من الطلاب الذين حملوا أحلامًا تشبه أحلامها.

كانوا يتحدثون عن الأدب، والسينما، والسياسة، والتاريخ.

كما عاد أصدقاء آخرون من أمريكا ومعهم حكايات عن العنف المسلح، والعنصرية، ونظام رعاية صحية منهار. لم تكن أمريكا أرض الأحلام.

أخبرت نفسها أن أمريكا كانت دائمًا أنسب لوينيو: بلد بلا قواعد، بلا خجل، مكان لا يقدّس التقاليد أو الأعراف.

كانت ساذجة حين ظنت أن ذلك المكان قد يلائمها يومًا؛ أمريكا كانت دومًا لوينيو، تلك الفتاة التي سرقت، وصرخت، وتمردت، لأنها لم تكتفِ يومًا بما منحها إياه العالم.

أما ليان، فبإمكانها أن تكتفي. كانت ستكتفي. لذا ركّزت على طريقها: الوظيفة، الزوج، الشقة الفاخرة في ناطحة سحاب. وبالفعل، بعد اثني عشر عامًا، كانت قد حققت كل ذلك تقريبًا.ولم تكن بحاجة إلى عودة وينيو العاصفة إلى حياتها، لتذكّرها بأمنية دفنتها منذ زمن بعيد.

***

...................

* مقتطف من رواية الرغبة (Wanting) للكاتبة كلير جيا.

الكاتبة: كلير جيا /Claire Jia كاتبة من ولاية إلينوي. ظهرت أعمالها في عمود الحب الحديث (Modern Love) بصحيفة نيويورك تايمز، وفي ذا رامبس (The Rumpus)، وريداكتريس (Reductress)، وغيرها من المنصات. تكتب أيضًا للتلفزيون وألعاب الفيديو، بما في ذلك لعبة We Are OFK الفائزة بجائزة بيبودي لعام 2024. تعيش جيا حاليًا في لوس أنجلوس مع صديقاتها.

 

بقلم: فرجينيا فاينمان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما أخبرتني أمي أن خالتي كلوديا قادمة من المكسيك، شعرت بالتوتر. كان الزلزال الأخير قد أثّر عليها، وكانت بحاجة لرؤية عائلتها. أكلتُ كثيرًا تلك الليلة. تقريبًا كل البيتزا. لم تلاحظ أمي ذلك، ولم تلحظ عدد المرات التي ذهبتُ فيها إلى الحمّام وعدتُ، وفي النهاية قلتُ لها:

- أتخيّل أنهما لن يناما هنا، صح؟

أجابت وهي ترمش

- لا... ـ ـ أعني، نعم، هي وحدها... العم لن يأتي.

هدأت، لأنني في النهاية كنت أحب خالتي، وكنت أشعر بالأسى لأنها تأثرت كثيرًا بالزلازل، وربما أيضًا لأنني، رغم مرور ألف عام، كنت في قرارة نفسي ما زلت أترقّب اعتذارًا. شيئًا ما.

كانت ستبقى أسبوعًا. فقلت لأمي ألا تقلق، وأنني سأجهّز وجبة ترحيب خفيفة: مخبوزات، وقُصاصات محشوة بالحليب المكثف المحلّى والكاسترد، أشياء غير متوفرة لديهم هناك.أومأت أمي موافقة.وقالت لي:

-  يالها من فكرة لطيفة ـ

كانت الخالة كما هي دائمًا. بشعر أشقر طويل، رغم أنها كانت الآن امرأة كبيرة في السن.

قالت لي، رغم أنني أيضًا كنت سيدة كبيرة في السن. وربّتت على رأسي قليلاً :

- أدريانيتا ـ أنتِ دائمًا هنا.

جلسنا. فرشتُ مفرش الطاولة المصنوع من نسيج جوز الهند، وأحضرتُ أيضًا المفارش التي كنت قد طرزتها عندما كنت صغيرة في المدرسة. قالت أمي إنها لا تتناسب مع المفرش.

قلتُ لها:

-   فكّرت في ذلك، لكنني رغبت في وضعها.

نظرت إليّ قليلاً، لكنها تركتها. وذهبت إلى المطبخ.

كانت الخالة تمرّر يدها فوق تطريز الزهور البارزة، الزرقاء والبرتقالية، وتنظر عبر النافذة الكبيرة. عادت إليّ بنظرها، مركّزة عليّ:

-    أدريانيتا، أما رغبتِ يومًا في العيش بمفردك؟

-  بلى ـ

بدأت أضع القطع المحشوة بالحليب المكثف في طبق، جميعها مصطفّة باتجاه واحد ـ.   أضفت:

- لكنني لم أستطع. كنت خائفة.

قالت، وقد أومأت برأسها مرارًا:

-  طبعًا، هذا مفهوم.

- أليس كذلك؟ كنت أريد. حتى إنني أحببت مرة. لكن بعدها بدأت تنتابني نوبات هلع. وهكذا أصبح الأمر صعبًا.

قالت الخالة:

-   طبعًا.

- ربما لو كنت فعلت، لكان لي زوج... وأولاد، لكن لا بأس، أنا مرتاحة.

- نعم، عزيزتي ـ

كانت تبتسم وتنظر إليّ.

جاءت أمي. قدّمت الشاي لنا نحن الثلاثة، وسألنا الخالة عن حالها. كانت في حال سيئة جدًا. لم تعمل صفارات الإنذار الخاصة بالزلازل لأن الزلزال لم يأتِ من البحر، بل من تصدّع في الأرض. شعرت هي بالاهتزاز وبدأت تنزل عبر السلم. اتّضح أن المقاول كان فاسدًا، والسلم لم يكن مثبتًا، بل مستندًا فقط. كان أول ما انهار. لحسن الحظ كانت قد خرجت إلى الشارع.

- الذي عانى أكثر هو العم.

نظرت إلى أمي.

-  العم !

تابعت خالتي بعينين شاردتين ـ بقي وحده في الأعلى. السلم كان قد انهار بالفعل، ولم يكن يعرف كيف ينزل. المصاعد ممنوعة. ثم اهتزّ المبنى من جديد، لعشرين ثانية إضافية، وكان العم ما يزال في الأعلى. ثم اضطر إلى الانتظار حتى وصل أفراد الإنقاذ، لأنه كان من الخطر النزول وحده، كما أن القوانين لا تسمح...

قلتُ:

- عشرون ثانية؟

- نعم،  مسكين العم ...

- فقط عشرون ثانية؟

نظرت إلي أمي. تنهدت وكأنني أضحك.

- مسكين العم بسبب عشرين ثانية؟

قالت الخالة وعيناها دامعتان

- نعم ـ ـ، أترين؟ مسكين...

جمعت الصحون بسرعة. مسحت كلًّا منها بمنشفة ورقية بقوة قبل غسلها. فتحت الماء على أقصى درجة حرارة، وبدأت أفرك الصحون جيدًا بالإسفنجة والصابون. دخلت أمي.

- أخذتها لتنام القيلولة، يجب أن ننزل بطانية، أنتِ أطول...

-  أمي، ألم تتحدثي معها؟

- نعم، لكنها متعبة جدًا.

- ليس الآن. قبل ذلك.

- قبل الزلزال؟

- لا، عندما كلمتك، عندما كلمتك عن العم.

فتحت أمي عينيها كبيضتين مسلوقتين وأغلقت الباب الذي يفصل المطبخ عن غرفة المعيشة.

- أنا...

بقي فمها مفتوحًا قليلًا، ثم نظرت إلى صنبور الماء وقالت:

- أغلقيه إذا انتهيتِ.

-   قلتِ لي إنك أخبرتِيها، وإنها بكت. قلتِ إنك أخذتيها إلى حانة وأخبرتيها، وإنها بكت.

-  لمّحتُ لها.

-  كيف؟

- أننا كنا نثق به، وأننا تركناك معه ليعتني بك.

- و... لا شيء غير ذلك؟

جفّفت أمي يديها، رغم أنها لم تكن قد بللتهما، بمنشفة مطبخ وخرجت. قالت شيئًا عن الزمن، وأن الزمن قد مضى.قلت لها:

–    لقد أخبرتك عندما تذكّرت!

لكن أمي كانت قد أغلقت باب المطبخ عند خروجها.

تركت الماء يجري. ثم أغلقت الصنبور بغضب.

كانت الخالة جالسة على الأريكة تنظر من النافذة الكبيرة. كانت قد ارتدت روبًا منزليًا لأمي، لونه أزرق سماوي. تدخّن ببطء شديد، والدخان يبقى قريبًا منها. قلت لها:

-  صباح الخير، هل ترغبين في شرب شاي الماتيه ؟

-  نعم، يا حبيبتي، صباح النور.

أحضرت الأعشاب وبدأت أجهز الشاي.

- ما أجمل أظافرك يا خالتي.

- نعم .

مدّت يدها الحرة وأبعدتها قليلًا لتنظر إليها .

- هناك يعرفون كيف يعتنون بها جيدًا.

-   تعلمين، البارحة، عندما ذكرتِ العم...

- نعم.

- ظننت أن أمي قد تحدّثت معكِ. منذ زمن. قبل أن تسافرا.

كانت الخالة تبتسم ووجهها محاط بالدخان. كانت تهز رأسها بالإيجاب.

-  حسنًا، إذًا هي أخبرتكِ. بما حدث. عندما كنت صغيرة.

-  نعم، كنتِ جميلة جدًا.

- عندما كان العم يعتني بي.

أمسكت الخالة بيدي وبقيت تمسكها. كانت يدها دافئة وناعمة، وشعرت برغبة في البكاء.

-  لا تتصورين كم كان صعبًا عليّ أن أخبرها، خالتي، ثم...

- هل ترغبين في أن تعملي أظافرك مثلي؟ توجد هنا مانيكورة جاءت من المكسيك.  لقد أعطتني بطاقتها حين أكون في بوينس آيرس. إنها رائعة.

–   لا...

سحبت يدي منها برفق.

-  ستبدين رائعة بها.

ركّزت في تحضير الشاي، لكن غيمًا خفيفًا غطى عينيّ. مسحت عينيّ. واصلت الخالة التدخين والنظر من النافذة الكبيرة.

ذهبت إلى المطبخ وفتحت علبة المخبوزات المتبقية من أمس. أكلتُ الكرات المحشوة بالحليب المكثّف، واثنتين من القطع بالكاسترد، و تشوروس محشوة. تركتُ قطعة مربعة، نصفها كاسترد والنصف الآخر جيلي السفرجل. أردتُ أن أترك شيئًا. أكلتُ جزء الكاسترد فقط. ثم ثم جيلي السفرجل. وتركت القطعة الصغيرة في المنتصف. لففتها. ثم فتحت العلبة مجددًا وأكلت القطعة الصغيرة أيضًا. رميت الورق في سلة المهملات. دخلت الحمام وأغلقت الباب. قالت الخالة:

- هذا أستور، كلبٌ لطيف. في بيت الكلاب، أطلقوا عليه اسم والدورف أستوريا، هل يُعقل؟ لقد غيّرنا اسم بيت الكلاب. لحظة، انتظري، ريثما أجد الكلب الذي أردتُ أن أُريكِ إياه.

كانت جالسة أمام حاسوب أمي المحمول، تحرّك الفأرة بصعوبة فوق مفرش قماش جوز الهند، قالت لها أمي:

–  إنه يتجعّد، سأجلب لكِ شيئًا.

بدأت الخالة تبحث بينما كانت تقول:

- ها هي، ها هي. هذه "ديلي".

كانت أمي تمشي ويداها ممدودتان، تنظر إلى الأسفل وإلى الجانبين. بقيتُ واقفة في مكاني؛ فكادت أن تصطدم بي.

–  ماما.

-  آه، ألا تعرفين أين يمكن أن أجد شيئًا أضع عليه الفأرة حتى لا تتعطل بسبب المفرش؟ لوحًا صغيرًا، أو...

- لا، لا أعرف .

وتحركتُ لأستلقي على الأريكة.

كانت الخالة تقول:

-  في المزرعة أطلقوا عليها اسم "ديليريو" (هذيان). نحن غيّرناه. العم هو من اقترح "ديلي"، حتى تظل تستجيب. ديليريو – ديلي، ليس فرقًا كبيرًا.

قلتُ من مكاني على الأريكة.

- خالتي، ألا تعلمين أنه لا يجب شراء الحيوانات؟ من الأفضل تبني تلك التي في الشارع.

عادت أمي من المطبخ بلوح تقطيع ووضعته تحت فأرة الخالة. قالت إن كل الحيوانات طيبة، وكلها تستحق الحب. وإن كل شخص يفعل ما يراه صائبًا. فذهبتُ إلى الحمام من جديد.

ظلت الخالة عدّة أيام وهي ترتدي ذلك الروب الأزرق السماوي. كانت تدخن كثيرًا، وتقول إن السرير يتحرك تحتها أثناء الليل، كما حصل وقت الزلزال. وأنها هي والعم لم يتمكنا من النوم بسلام منذ ذلك الحين. كانا يتناولان الحبوب. حتى أستور وديلي كانا في حال سيئة.   وكان الخال يعطيهما زهور باخ لتهدئتهما. وكانا يصعدان إلى السرير معهما، لكن إذا تحرك غصنٌ في الخارج، كانا يبدآن في النحيب.

في تلك الليلة كانت الخالة تقطع الخضار في المطبخ.

- يسلّيني هذا. مثل المسلسلات. وأنتِ بما أنكِ تبقين في البيت كثيرًا، فستعجبكِ. ألم تقرئي شيئًا لفلورنسيا بونيلي؟ تمزج الحب بعلامات الأبراج، بالعاطفة، بالرومانسية.

-  لا، لا أحب هذه الأشياء.

كانت تقطع الجزر إلى شرائح رقيقة جدًا. أنهت واحدة وأخذت أخرى وبدأت بتقطيعها بنفس الطريقة.

-  مرة وقعت في الحب، خالتي. هل تذكرين عندما قلتِ لي؟

كنتُ أنظر إليها، لكنها كانت تنظر إلى الجزرة .

- هل تذكرين عندما سألتيني؟ وقلت لكِ إنني مرة أحببت؟ كان شابًا يعمل في كشك على بُعدين من هنا، كنت أراه عندما أذهب للتسوق.

-  نعم.

-  بدأنا نتحدث. أحيانًا كنت أبقى في الكشك أساعده، أو أستمع إلى الراديو معه.

كانت الخالة تقطع الجزر إلى شرائح متقنة. وكان وجهها يشبه من يستمع إلى موسيقى كلاسيكية. قالت لي:

-  كم هو جميل، أدريانيتا

ودَفعت الشرائح بسكينها إلى قدرٍ أمامها.

–  ذات يوم قبّلني.

- جميل، حبيبتي .

وبحثت عن مزيد من الجزر.

- بدأ جسمي كله يرتجف. وانغلق حلقي. وأصبح كل شيء حولي أسود.

-  نعم، هذا من شدة العاطفة. هذا ما أقوله لكِ عن الروايات، أنها ستعجبكِ.

-  لم أستطع أن أتنفس، وكأنني على وشك الإصابة بنوبة قلبية. كنت أختنق.

اقتربت الخالة بيدها من طبق الجزر لتتابع تقطيعه، لكنني سبقتها وأمسكت به. أخذت كل الشرائح. قالت لي

–  هذا للمرق...

- كنت أعتقد أنني سأموت. لم أكن أستطيع التنفس.

-  أعطيني إياها، حتى أطبخ.

-  كنتُ أريد تقبيله، لكن لم أستطع...

وقفت العمة ممسكة بالسكين في يدها، تنظر إلى الجزرة التي كنت أقبض عليها. بقوة.

-  قلتُ له إن كان يمكنه أن ينتظرني قليلاً... إنني عندما كنتُ صغيرة، حصلت لي مشكلة.

- هل تعطيني الجزر؟

- قلت له إنني عندما كنت صغيرة، حصلت لي مشكلة.

اقتربت مني.

-    هل تعطيني إياها، أدريانيتا؟

أعطيتها الجزر.

لم أرغب في أكل شيء من اليخنة. انتظرتُ حتى ذهبا للنوم ورميتُ ما تبقى. صنعتُ خليطًا من الحليب المجفف والمربى والماء، وأكلتُه من العلبة. ثم أكلتُ عدّة أرغفة خبز بالجبن، وبعدها فتحتُ علبة أخرى من الحليب المجفف. أضفتُ إليها ماءً وسكرًا، وأكلت الخليط حتى أصبتُ بتسارع في نبضات القلب. بعدها ذهبتُ إلى الحمّام.

بدأت الخالة تتحسن. أصبحت ترتدي ثيابها، وتنام طوال الليل. في أحد الأيام جهزت حقيبتها وقالت إنها مستعدة، وإنها ستعود إلى المكسيك. أخرجت وشاحًا حريريًا ورديًا بنفسجيًا ولفته حول عنقي.

- يليق بكِ جدًا.

قالت أمي:

- يليق بها جدًا  وتحتاج لشيء أكثر أنوثة.

حمل كل واحدة منّا حقيبة، ورافقناها إلى الأسفل حتى وصول سيارة الأجرة. بدأت تشكرنا. قالت إنه لولا دعم العائلة لما كانت تمكنت من تجاوز الأمر. نحن كنّا ملاذها، مصدر عاطفتها، حبلها الذي يربطها بالأرض. تذكرت أمي علبة حليب الدُّلسي دي ليتشي من ماركة شيمبوتي التي أرادت أن تهديها لها. يبدو أنها كانت تخبئها عني. طلبت أن نصبر ثانيتين حتى تصعد وتحضرها. وعندما أُغلِق المصعد، سارعتُ بالكلام.

- خالتي، أريد أن أقول لك شيئًا.

- نعم، حبيبتي، لا تتصورين كيف أثر فيَّ الزلزال. لا زال صداه يتردد في رأسي.

- عندما كنتُ صغيرة، أنتما كنتما تذهبان إلى العمل...

كان  هناك رجل يطرق زجاج باب العمارة. ركضت الخالة إليه. ثم استدارت وقالت لي إنه سائق سيارة الأجرة. حملتُ الحقيبتين إلى الباب. الرجل حمّلهما وألقى إحداهما فوق الأخرى في صندوق السيارة.

-  اسمعيني .

حاولت إيقافها.

صعدت إلى السيارة وأغلقت الباب. وصلت أمي وفي يدها علبة حليب شيمبوتي، وناولتها للخالة من النافذة. أبعدتُ يد أمي، وأدخلتُ رأسي داخل السيارة، وأمسكتُ بيدي الخالة. قالت الخالة:

- حبيبتي، من وقت الزلزال وأنا ضائعة.

أغلق سائق السيارة صندوقها بعنف.

- كان العم يقول لي إنني حبيبته.

–  مسكين العم… حاله مثل حالي.

-  قال إنني حبيبته، هل تفهمين؟

- بالكاد نستطيع التركيز، بالكاد نتحدث.

وعندما بدأت السيارة تتحرك، قالت لي إنها سترسل له تحياتي.

***

........................

الكاتبة: فيرجينيا فاينمان/ VIRGINIA FEINMANN  (بوينس آيرس، الأرجنتين، 1972)   صدرت لها رواية بعنوان كل أنواع الأشياء الممكنة (Mulita، 2016)، ومن المقرر صدور كتابها التالي عن دار Emecé. تم تحويل العديد من قصصها القصيرة جدًا إلى برامج إذاعية، ومسرحيات، وعروض سرد شفهي.

قصة: فرانز كافكا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كنت في حيرة شديدة: كانت تنتظرني رحلة عاجلة؛ مريض بحالة خطيرة كان في انتظاري في قرية تبعد عشرة أميال؛ عاصفة ثلجية شديدة كانت تملأ الفراغ الواسع بيني وبينه؛ كان لدي عربة، خفيفة، ذات عجلات كبيرة، تمامًا كما يلائم طرقنا الريفية؛ وقد ارتديت معطفي المصنوع من الفرو، وحملت حقيبة الأدوات بيدي، ووقفت جاهزًا للرحيل في فناء الدار؛ لكن الحصان كان مفقودًا، الحصان. حصاني الخاص نفق الليلة الماضية، نتيجة للإرهاق الشديد في هذا الشتاء القارس؛ وكانت خادمتي تجوب القرية الآن، تحاول استعارة حصان؛ لكن الأمر كان ميؤوسًا منه، كنت أعلم ذلك، وكنت أقف هناك بلا جدوى، يغمرني الثلج أكثر فأكثر، وأصبح عاجزًا عن الحركة. عند البوابة ظهرت الخادمة، وحدها، تلوّح بالفانوس؛ بالطبع، من الذي سيعير حصانه الآن لمثل هذه الرحلة؟ مشيت مرة أخرى في أرجاء الفناء؛ لم أجد أي حل؛ وبانزعاج وتشوش، ركلت بقدمي باب الزريبة المهترئة التي لم تُستعمل منذ سنوات. انفتح الباب وتحرك على مفاصله يفتح ويغلق. انبعث منه دفء ورائحة تشبه رائحة الخيول. تمايل فانوس إسطبل ذو ضوءخافت معلق بحبل في الداخل. ثمة رجل منحني داخل الحظيرة المنخفضة أظهر وجهه المكشوف بعينين زرقاوين.

"هل أُعِدُّ الجياد؟"

سأل وهو يزحف على أربع ليخرج. لم أعرف ما أقول وانحنيت فقط لأرى ما يوجد أيضًا في الإسطبل. وقفت الخادمة بجانبي.

"لا يعرف المرء ما يخبئه بيته من أشياء، "

قالت ذلك فضحكنا نحن الاثنان. صاح الرجل:

"هيًا، أيها الأخ، هيًا أختي!"

ثم ظهر حصانان، حيوانان ضخمان قويان، يتقدمان الواحد خلف الآخر، بأرجل ملتصقة بأجسادها، ورؤوسها المُشَكَّلة بدقة تنحني مثل الجمال، لا تخرج من فتحة الباب إلا بقوة التواءات جسديهما، ملأته بالكامل. لكنهما سرعان ما وقفا منتصبين، بقوائمها الطويلة، تبعث من جسديهما أبخرة كثيفة. قلت:

"ساعديه، "

فأسرعت الخادمة المُستعدة لتناول لجام الخيل إلي الرجل. لكن بالكاد وصلت إليه حتى ضمها وضغط وجهه على وجهها. صرخت وفرت إليَّ؛ ظهرت على خد الخادمة آثار صفين من الأسنان محفورة باللون الأحمر. صرخت غاضبًا:

"أيها الحيوان! أتريد أن تذوق السوط؟

لكني تذكرت فورًا أنه غريب؛ لا أعرف من أين أتى، وهو يساعدني طواعيةً بينما يعجز الجميع. وكأنه يعرف أفكاري، لم يتأثر بتهديدي، بل التفت نحوي مرة واحدة، وهو منشغل بالخيل. قال بعد ذلك:

"اصعدا، كل شيء جاهز. "

لم يسبق لي أن قدت عربة بخيول بهذا الجمال، كما لاحظت، فصعدت فرحًا. قلت:

"لكنني سأقود أنا، فأنت لا تعرف الطريق، "

أجاب:

"بالطبع، لن أصحبك، سأبقى مع روزا. "

"كلا!"

صرخت روزا وركضت إلى المنزل، وكأنها تشعر مقدَّرًا بحتمية مصيرها؛ سمعت صوت سلسلة الباب تُغلق والتي وضعتها للحماية؛ سمعت القفل ينغلق؛ ورأيتها في الممر ثم وهي تندفع عبر الغرف تُطفئ كل الأضواء كي لا يُعثر عليها. قلت للرجل:

"ستصحبني، وإلا سألغي الرحلة، مهما كانت ملحة. لا يخطر ببالي أن أدفع الخادمة ثمناً للرحلة. "

"هيًا!"

صفق سايس الاسطبل بيديه؛ فانطلقت العربة كأنها خشبة في تيار الماء؛ ما زلت أسمع باب منزلي ينكسر ويتحطم تحت ضربات الحطاب، ثم امتلأت عيناي وأذناي بطنين متواصل يخترق كل حواسي. لكن ذلك لم يدم إلا لحظة، لأنه، وكأن فناء مريضي انفتح أمام بوابة منزلي مباشرة،

وصلت على الفور؛ وقفت الخيل بهدوء؛ توقف تساقط الثلج؛ أضاء القمر المكان؛ هرع والدا المريض خارج المنزل؛ تتبعهما أخته؛ كادوا يرفعونني من العربة؛ لم أفهم شيئًا من كلماتهم المضطربة؛ في غرفة المريض، كان الهواء بالكاد قابلًا للتنفس؛ موقد الحطب المُهمَل ينفث دخانًا؛ قررت فتح النافذة؛ لكني أردت أولاً رؤية المريض.

كان الفتى نحيلا، لا يعاني من الحمى ولا البرد ولا الدفء، بعينين خاويتين وبدون قميص، عار تقريبا، نهض الفت تحت الفراش، تعلّق بعنقي، وهمس في أذني:

"دكتور، دعني أموت. "

نظرت حولي؛ لم يسمعه أحد؛ كان والداه واقفين بصمت، منحنين إلى الأمام، ينتظران حكمي؛ وأخته قد أحضرت كرسياً لحقيبتي الطبية. فتحت الحقيبة وأخذت أبحث بين أدواتي؛ كان الفتى يمد يده باستمرار من السرير نحوي، ليذكّرني برجائه؛ أمسكت بملقط، فحصته على ضوء الشمعة، ثم وضعته جانبًا. فكرتُ بسخرية، نعم، في مثل هذه الحالات، تتدخل الآلهة، ترسل الحصان المفقود، وتضيف، بسبب العجلة، حصانًا ثانيًا، وتمنحني، زيادة على كل ذلك، سايس الخيل" —

عندها فقط تذكرت روزا من جديد؛ ماذا أفعل؟ كيف أنقذها؟ كيف أخلّصها من تحت هذا السايس، وأنا على بُعد عشرة أميال منها، والحصانان الجامحان أمام عربتي؟

الآن فقط تذكرت روزا مرة أخرى؛ ماذا أفعل، كيف أنقذها، كيف أُبعدها عن ذلك السايس، وأنا على بعد عشر أميال منها، وأمام عربتي حصانان جامحان؟ تلك الخيول التي أفلتت عُقُدها بطريقة ما؛ والنوافذ، لا أعرف كيف، انفتحت من الخارج؛ يخرج كل حصان رأسه من نافذة، دونما اكتراث بصرخات العائلة، ينظر إلى المريض. فكرت، "سأعود فورًا، " وكأن الخيل تُطالبني بالرحيل، لكني سمحت للأخت، التي ظنت أن الحرارة أذهلتني، أن تنزع عني معطفي. أُحضر لي كأس من الروم، والعجوز يربت على كتفي، كأن تخلّيه عن كنزه يبرر هذه الألفة. هززت رأسي؛ في أفق أفكاره الضيق سأشعر بالغثيان؛ ولهذا السبب فقط رفضت أن أشرب.

تقف الأم عند السرير وتشير لي؛ اتبعتُها ووضعت رأسي على صدر الفتى، الذي ارتعد تحت لحيتي المبتلة بينما صهل أحد الخيول بصوت عالٍ نحو سقف الغرفة. تأكد لي ما أعرفه: الفتى سليم، فقط دورته الدموية ضعيفة قليلًا، وقد أغرقته الأم القلقة بالقهوة، لكنه سليم والأفضل انتزاعه من السرير بدفعة. لستُ مصلحًا للعالم، فتركته مستلقيًا. أنا موظف لدى الدائرة الصحية، وأؤدي واجبي إلى أقصى حد، حتى الحد الذي يكاد يكون مفرطًا. براتب ضئيل، إلا أني كريم ومستعد لمساعدة الفقراء.

لا يزال عليّ أن أقلق على روزا، ثم ربما كان الفتى محقًا، وربما أرغب أنا أيضًا في الموت. ما الذي أفعله هنا، في هذا الشتاء الذي لا نهاية له؟ لقد نفق حصاني، ولا أحد في القرية مستعد لإعارتي حصانه. اضطررت لاستخراج فرسي من حظيرة الخنازير؛ ولو لم يكونا، بالصدفةً، حصانين، لوجب عليّ السفر بخنازير! هكذا الأمر.

وأومأت برأسي للعائلة. هم لا يعرفون شيئًا من هذا، ولو عرفوا، لما صدّقوا. كتابة الوصفات أمر سهل، كتابة الوصفات الطبية أمر سهل، لكن التواصل مع الناس في كل ما عدا ذلك صعب. حسنًا، ها قد انتهت زيارتي، لقد أزعجوني مرة أخرى دون داعٍ، وهذا أمر اعتدت عليه. جرس الليل يُعذبني بطلبات من كل أنحاء الدائرة، لكن أن أضطر هذه المرة إلى التضحية بروزا أيضًا، تلك الفتاة الجميلة التي عاشت في بيتي سنوات دون أن ألاحظها تقريبًا — هذه التضحية كبيرة جدًا، ويجب أن أبررها لنفسي بتعقيدات ذهنية مصطنعة، لكي لا أنفجر في وجه هذه العائلة، التي، حتى لو أرادت بكل حسن نية، لا يمكنها أن تعيد لي روزا. / ويجب أن أبررها لنفسي بحيل ذهنية ما كي لا أنقض على هذه العائلة، التي حتى لو أرادت بأحسن نية، لا تستطيع إعادة روزا لي.

ولكن حين أغلقت حقيبتي ولوّحت بطلب معطف الفرو، وكانت العائلة مجتمعة، الأب يشمّ الكأس التي في يده ويشمّ رائحة الروم، والأم، التي قد يكون خاب ظنها بي – نعم، ما الذي يتوقعه الناس؟ – تعضّ شفتيها باكية، والأخت تلوّح بمنشفة ملطخة بالدم بشدة، شعرتُ أنني، في ظل هذه الظروف، مستعدّ، بشكل ما، لأن أُقِرّ بأن الفتى قد يكون مريضًا حقًا. أتجه إليه، فيبتسم لي وكأني أحمل له ألذ حساء! — آه، الآن يصرخ الحصانان؛ يبدو أن الضوضاء، بتوجيه من قوى أعلى، مُعدة لتسهيل الفحص — وهنا اكتشفت: نعم، الفتى مريض بالفعل. في جانبه الأيمن، عند مفصل الورك، انفتح جرحٌ بحجم راحة اليد، وردي اللون بتدرجات متعددة، غامق في العمق، فاتح عند الحواف، ذو ملمس ناعم، مع تجمعات دم غير متساوية، مفتوح كمنجم على سطح الأرض. هكذا يبدو من بعيد. أما عن قرب، فالمشهد أكثر إثارة للاشمئزاز. من يستطيع رؤية هذا دون أن يصفر من الدهشة؟

ديدان، بسمك إصبعي الصغير وطوله، وردية بطباعها، ومرشوشة بالدم أيضاً، تتلوى في عمق الجرح، مثبتة برؤوسها البيضاء وأرجلها الكثيرة، تخرج نحو الضوء. يا ولدي المسكين، لا أمل في شفائك. لقد اكتشفت جرحك الكبير؛ هذه "الزهرة" في جنبك ستودي بحياتك.

العائلة سعيدة، تراني منهمكاً في عملي؛ تنقل الأخت الخبر للأم، والأم للأب، والأب لبعض الضيوف الذين يدخلون على أطراف أصابعهم، وهم يمدون أذرعهم لتحقيق التوازن، عبر ضوء القمر الساطع من الباب المفتوح. يهمس الولد باكياً، مأخوذاً تماماً بالحياة التي تعجّ في جرحه:

"هل ستنقذني؟"

هكذا أهل قريتي: دائماً يطالبون الطبيب بالمستحيل. لقد فقدوا إيمانهم القديم؛ القسيس يجلس في بيته يمزق ثياب القداس واحداً تلو الآخر؛ بينما يتوقع الجميع من الطبيب أن يحقق المعجزات بيده الجراحية الرقيقة! حسناً، كما تشاؤون: أنا لم أتطوع لهذا؛ إذا كنتم تستخدمونني لأغراض مقدسة، فسأسمح بذلك أيضاً. ماذا أريد أكثر من ذلك، أيها الطبيب الريفي العجوز، بعد أن سُلبَت مني خادمتي! وها هم يأتون - العائلة وشيوخ القرية - ليجرّدوني من ملابسي؛ وتقف جوقة مدرسية بقيادة المعلم أمام المنزل، يغنون لحناً بسيطاً جداً بكلمات تقول:

" جردوه من ثيابه فيشفيكم،

وإن لم يُشفِكم فاقتلوه!

إنه مجرد طبيب، مجرد طبيب. "

ثم جردوني من ثيابي، فوقفت وأنا أعبث بلحيتي، ورأسي منحنٍ، أنظر إلى الناس في هدوء. كنت مستعداً تماماً، متفوقاً عليهم جميعاً، وظللت كذلك رغم أن ذلك لم ينفعني بشيء. إذ أخذوني من رأسي وقدمي وحملوني إلى السرير. ألقوا بي بجوار الجرح عند الحائط. ثم خرج الجميع من الغرفة؛ وأُغلِق الباب؛ واختفى صوت الجوقة؛ وحجبت السحب ضوء القمر؛ دثَّرني الفراش الدافئ؛ وتمايلت رؤوس الخيول كالأشباح في فتحات النوافذ.

سمعتُ صوتًا يهمس في أذني:

" أتعلم؟ ثِقتي بك ضئيلة جدًّا. أنت مجرد غريب مطرود من مكان ما، لم تأتِ على قدميك. بدل أن تساعدني، تضيّق عليَّ فراش موتي. وما أشد رغبتي في اقتلاع عينيك!"

قلت:

"صحيح إنها مهانة. لكنني طبيب. ماذا عساي أن أفعل؟

"صدقني، الأمر ليس سهلاً عليَّ أيضًا. "

"وهذه هي الأعذار التي يجب أن أكتفي بها؟ آه، لا بد لي من ذلك، دائمًا يجب أن أكتفي بالقليل. لقد وُلدت بجرح جميل؛ كان ذلك كل ما أملك. "

قلت:

" يا صديقي الشاب، خطؤك هو أنك لا ترى الصورة كاملة. أنا الذي زرت كل غرف المرضى في هذه النواحي، أقول لك: جرحك ليس بالسوء الذي تظن. مِن صنع ضربتين بفأس، بزاوية حادة. كثيرون يُقدِّمون جنوبهم، ولا يسمعون حتى صوت الفأس في الغابة،

فما بالك باقترابها منهم!"

"أحقًا هذا ما تقول، أم أنك تخدعني في هذياني؟"

"حقًا، خذها كلمة شرف من طبيب القرية الرسمي. "

فأخذها، وسكت.

لكن الآن حان الوقت لأن أفكّر في خلاصي. ما زال الحصنان ثابتين في مكانهما.

جمعت ملابسي، ومعطف الفرو، وحقيبتي بسرعة؛ لم أرغب في تضييع الوقت في ارتداء الملابس؛ فإذا أسرعت الخيول كما فعلت في الذهاب، فقفزتي من هذا السرير إلى سريري الخاص ستكون مضمونة.

انسحب أحد الخيول من النافذة طائعًا، رميتُ الحزمة في العربة، لكن الفراء طار بعيدًا،

لم يُمسك به إلا كمٌّ عالقٌ بخطاف. جيد بما فيه الكفاية. قفزتُ على صهوة الحصان. الأحزمة مرتخية، حصان بالكاد مربوط بالآخر، العربة تترنّح وراءهما والمعطف آخر ما تبقى، يجرّه الثلج.

قلت:

"انطلقا!"

لكن الانطلاق لم يكن نشيطًا؛ سار الحصنان ببطء كالعجائز، عبر صحراء الثلج، بينما ترددت خلفنا أنشودة الأطفال الجديدة، الخاطئة:

"ابتهجوا أيها المرضى،

فقد ألقي بالطبيب في فراشكم!"

لن أعود إلى بيتي أبدًا بهذه الطريقة؛ ممارستي الطبية التي كانت مزدهرة، ضاعت؛ خلفني خليفة يسرقنيلكن عبثًا، فهو لا يمكنه أن يحلّ مكاني، وفي منزلي يعيث السايس القذر فسادًا؛ روزا ضحيته؛ لا أريد حتى أن أتخيّل ذلك.

أنا، العجوز العاري، اترنح معرّضاً لصقيع أتعس العصور، بعربة أرضية وخيول ليست من هذا العالم. بينما معطف الفرو يتدلّى خلف العربة، لكنني لا أستطيع الوصول إليه أبدًا، ولا أحد من هذا القطيع المتنقل من المرضى يحرك إصبعًا لمساعدتي. خُدعت! خُدعت! لقد أجبتُ نداء جرس الليل المضلل مرة واحدة - ولا سبيل لإصلاح ما حدث أبداً.

(النهاية)

***

..................

المؤلف: فرانز كافكا (3 يوليو 1883 - 3 يونيو 1924) كاتب تشيكي يهودي كتب بالألمانية، رائد الكتابة الكابوسية. يُعدّ أحد أفضل أدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة تُصنّف أعماله بكونها واقعيّة عجائبية. عادةً ما تتضمّن قصصه أبطالاً غريبي الأطوار يجدونَ أنفسهم وسطَ مأزِقٍ ما في مشهدٍ سرياليّ، يُعزى ذلك للمواضيع النفسية التي يتناولها في أعمالِه مثل الاغتراب الاجتماعي والقلق والذعر والشعور بالذنب والعبثيّة. أكثر أعماله شُهرةً هي رواية المسخ، والمحاكمة، والقلعة. وقد ظهر في الأدب مصطلح الكافكاوية رمزاً إلى الكتابة الحداثية الممتلئة بالسوداوية والعبثية. ولد كافكا في 3 يوليو 1883 في براغ التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية لعائلة ألمانية من الطبقة الوسطى تنحدر من أصول يهودية أشكنازية. عمل موظّفاً في شركة تأمين حوادث العمل، مما جعله يُمضي وقت فراغه في الكتابة. على مدار حياته، كتب كافكا مئات الرسائل للعائلة والأصدقاء المقربين، بما في ذلك والده، الذي كانت تربطه به علاقة متوترة وسيئة. خَطب بضعة نساءٍ لكن لم يتزوّج أبداً. توفي عام 1924 عن عمر يناهز الـ40 بسبب مرض السل. نشر خلال حياته بعض الكتابات، تشمل الكتابات المنشورة مجموعة قصصية تحت اسم تأمل وأخرى بعنوان طبيب ريفي، وقصص فرديّة هي المسخ التي نُشرت في مجلّة أدبية ولم تحظَ باهتمام. نُشِرت باقي الأعمال بعد موته على يد صديقه المقرب ماكس برود، الذي لم يستجب لطلب كافكا بإبادة كل كتاباته.

بقلم: وينج تيك لوم

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أولا: قصيدة (حملة النقالات)

عند بلوغنا منتصف

الطريق

الواقعة أسفل التل

اكتشفنا بأن رفيقنا المحمول

على نقالة الجرحى

قد فارق الحياة

فأنزلناه

ودحرجناه

بعيدا عن الشجرة المهشمة

على مضض

رغم رغبتنا في إعادة جثمانه

إلى الوطن

ليتسنى لنا إخلاء

أحد جرحانا

في طريقنا نحو أعلى التلة

لقد آلمنا الأمر

ولكن لا يهم

فقد انتقل رفيقنا

إلى العالم الآخر

و كان لابد لنا

أن نواظب على الأمر

***

ثانيا: (قصائد هايكو)

(1) - قميصي مخضب بالدم

كأنه دم شخص غيري

ما زلت على قيد الحياة

***

(2) - نلجأ إلى استخدام خوذهم

لم تزل الخوذة التي بحوزتي تسرب الماء

ثقب رصاصة نظيف

***

(3) - أجفف قدمي المبللة

المتورمة

آن لي أن أقلم أظفارها

***

.......................

- وينج تيك لوم: شاعر أمريكي من أصل آسيوي. ولد عام 1946 في (هونولولو) في هاواي. خريج جامعة (براون) 1969 ويحمل شهادة في الهندسة. حاصل على شهادة الماجستير في اللاهوت 1973. نشر معظم أعماله الأدبية في مجلة (نيو يورك الفصلية). منح عدة جوائز أدبية في الولايات المتحدة الامريكية، منها جائزة ديسكفري ذا نيشن 1970 وجائزة الكتاب الأمريكي 1988 وجائزة إليوت كايدز للأدب 2013.من مؤلفاته (شرح النقاط المشكوك فيها 1987، مذابح نانجينغ – 2012). للاطلاع على المزيد من شعر الحرب العالمي ينظر (قبلة أخيرة قبل الذهاب إلى الحرب: مختارات من شعر الحرب العالمي) للمترجم، مطبعة بشوا، أربيل – العراق 2022. 

شعر: عزت گوشه گیر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما يُرَشُّ الدَّمُ

على الباب، على الجدار، على التربة، على الهواء،

تكون السذاجةُ

هي أن نرى فقط طَرَفَ أنوفنا.

سنينَ طويلةً في زنازين أبراج إمبراطوريّاتِ الخرسانة،

وراء الأبواب الموصَدة،

قُلوبُ البشر والمباني

مثل فراشاتٍ في شرانقَ

مُثَبَّتةٌ بدبابيسَ على خرائطَ جدرانٍ.

الإمبراطورياتُ

تعرِفُ جيدًا صوتَ كلِّ ساعةٍ،

لحظةَ شروق الشمس،

تواضعَ الغروب،

وغموضَ الليل،

وتعرِفُ كيفَ تحَقنِ بأيِّ دواءٍ

لتحوِّلُ الفراشاتَ إلى خفافيش.

*

عندما يُباع جوهرُ الإنسان الداخلي

بِحَفْنَةٍ من ذهبٍ،

بِسيارةٍ،

بِفيلا،

وبِدَلوٍ مملوءٍ بالكريمة والشوكولاتة،

فالإمبراطورياتُ تعلمُ

أنها بهذا الشكلَ

قد مزجتِ الخوفَ

بِرغبةِ الهيمنة.

يا للسذاجةِ أن نعتقدَ

أننا بحاجةٍ إلى مُنقِذٍ

لنرى طيرانَ الحمامِ،

أو نسمعَ زقزقةَ العصافيرِ،

أو نشمَّ عبقَ الياسمينِ الأزرقِ،

أو نُقبِّلَ شعرَ مَن نحبُّ،

أو نتذوَّقَ رغيفَ خبزٍ طازجٍ

في هواءٍ غيرِ مُحتلٍّ!

فنستندَ في راحةٍ زائفةٍ

إلى أكتافِ مَنْ

حلموا لسنواتٍ بدوسِ قصائدِ شعرائنا،

واغتصابِ بيتِ أسطورتنا،

والسيطرةِ على الجذورِ المدفونةِ في أعماقِ ترابنا.

ما هي الجذورُ؟

ما هي إلا لحمٌ ودمٌ وعظمٌ

لآبائنا وأمهاتنا وإخوتنا،

دمُ الأشجارِ والديناصوراتِ والكلابِ والقططِ،

دمُ الطيورِ،

الممتزجُ ببعضه،

في رطوبةِ سوائلِ أجسادهم

التي انتصرتْ على الغزاةِ في حروبِ القرونِ والألفيات،

أو هُزمتْ في مواجهتهم.

نحنُ نُمجِّدُ الذين صمدوا،

ونحفظُ دماءهم.

بتكريمِ حكمتهم وقوتهم نستمدُّ العزةَ.

لذلكَ نحفظُهم في الذاكرةِ دوماً،

ونردِّدُ:

"قويٌّ مَنْ كانَ عالماً، بالعلمِ يُشبَعُ القلبُ الفتى!"

أحياناً ننسى أن ناصرَ خسرو، شاعرَ القرنِ الخامس، قال:

"حينَ تمسكُ السيفَ، لا تستطيعُ قتلَ الناس...

رأى عيسى في الطريقِ قتيلاً مُلقىً،

فأُخذَتْهُ الدهشةُ، وَعضَّ على إصبعهِ،

وقال: 'مَنْ قتلتَ حتى تُقتَلَ هكذا بائساً؟

سيأتي مَنْ يقتلُ قاتلكَ!'"

أولئكَ الذينَ وقفوا على الأرضِ

قهرُوا ريحَ السلطةِ والعواصفَ

بأغصانهم وأوراقهم،

فهم يعرفونَ ما تعنيهِ الشجرةُ،

وما تعنيهِ الريحُ والعاصفةُ!

وقد طردوا الريحَ،

وطردوا العاصفةَ،

بقوةِ أغصانهم المكسورةِ.

يا لسذاجتنا!

نسينا أن نقرأَ الشعرَ،

شعرَ عظمائنا،

وشعرَ مجهولينا،

الذينَ شاركونا أفكارَهم ورحلاتِهم

بلا طلبِ مجدٍ أو ثناءٍ.

نسيناهم بسهولةٍ!

ونسينَا حِكَمَنا!

وما أعظمَ قولَكَ:

"ما الفرقُ بينَ الحميرِ والزعفرانِ؟!"

بدونِ الشعرِ،

الإنسانُ الجشعُ يمزقُ الآخرَ بلا رحمةٍ

لأجلِ رغيفِ خبزٍ،

أو طبقِ أرزٍ،

أو دلوِ كريمةٍ وشوكولاتةٍ،

أو أيِّ شيءٍ يتلهَّفُ عليه!

ما أفظعَ أن يمزقَ الإنسانُ الجشعُ صدرَ آخرَ،

وينتزعَ قلبَه من جسدِه،

ليأكلَه نيئاً،

فقط ليسمعَ

خطواتِ غرباءَ على أسفلتِ شوارعِ أرضٍ

رَضِعَ فيها الحليبَ

من ثديِ أمٍّ أرضعتْهُ،

أو شربَ حليبَ البقرِ والغنمِ والماعزِ

من زجاجةِ الرضاعةِ،

وتعلَّمَ المشيَ،

ونطقَ بلغاتٍ: "مرحباً.. سلاماً!"

مَنْ يُمْكِنُهُ أنْ يُفَتِّحَ ذراعيهِ

لِوُلاةِ الأمْرِ

الذينَ يُجيبونَ على تَحِيَّاتِهِ بِكَلِماتٍ غريبةٍ

بِاسْتِعلاءٍ: "سَلامٌ.. سَلامٌ!"

لِأَجْلِ رَغيفِ خُبزٍ،

أَوْ صَحنِ أرُزٍّ،

أَوْ دَلوٍ مِنْ كريمةٍ وَشوكولاتةٍ،

أَوْ فيلا،

أَوْ.. مَاذا أَعلَمُ! لِأَيِّ شَيءٍ يَهْفو قَلْبُهُ!

"فُرُوغ"ُ الحَيَّةُ الَّتي تَنامُ تَحْتَ التُّرابِ

قالَتْ قَبْلَ سِنينَ:

"أَنا أَعرِفُ أَسرارَ الفُصولِ،

وَأَفْهَمُ لُغَةَ اللَّحَظاتِ،

الْمُنْقِذُ نائِمٌ في القَبْرِ."

ما أَحْمَقَ الحَياةَ حينَ يَكونُ الإِنسانُ تابِعاً فَحَسْبُ،

ويَنتَظِرُ مُنْقِذاً

ليَكونَ صَوتَهُ الزَّائِفَ!

مَنْ هُوَ المُنْقِذُ؟

إِلّا ذاكَ الَّذي يَكونُ في اللِّسانِ صَديقاً،

وفي الفِعلِ،

يَحْبِكُ حَبْلَ المِشْنَقَةِ!

"فُرُوغ"ُ العَظيمةُ قالَتْ:

".. هَذا العالَمُ كَعُشِّ الأَفاعِي،

وَهُوَ مُمْتَلِئٌ بِأَصْواتِ خُطُواتِ قَوْمٍ

يُقَبِّلونَكَ بَينَما

يَحْبِكُونَ حَبْلَ إِعدامِكَ في أَذْهانِهِمْ!"

يا لِلسَّذاجَةِ أنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَستَطيعُ

أَنْ يُسْكِتَ أَصْواتَ كُلِّ أُولئكَ

تَحْتَ التُّرابِ وَفَوقَهُ،

كُلَّ أُولئكَ المَسْجونينَ خَلْفَ الأَبْوابِ المُوصَدَةِ،

كُلَّ الأَطْفالِ بِلا أَيْدٍ وَلا أَرْجُلٍ،

كُلَّ النِّساءِ وَالرِّجالِ وَالعُجُزِ،

كُلَّ الجِياعِ وَالمَشْدودينَ بِالبَرْدِ وَالحَرِّ،

المَلْدُوغينَ بِالعَقارِبِ وَالحَيَّاتِ،

أَنْ يَحْبِسَهُمْ في صُنْدوقٍ وَيُقْفِلَهُ بِإِحْكامٍ!

فَما هُوَ الصَّوْتُ إِذاً،

هذا الَّذي يَتَسَرَّبُ خارِجاً

ويَعْصِفُ في أَعْماقِ الرِّيحِ؟

وما هِيَ الأَحْلامُ؟

وما النَّوْمُ؟

وما الكَوابيسُ؟

وَالأَحْلامُ جانِباً،

ما البَصَرُ؟

ما التَّخَيُّلُ؟ ما الفَنُّ؟

ما الكَلِمَةُ؟ ما الغِناءُ؟ ما الأَلْحانُ؟

يا لِلسَّذاجَةِ أَنْ يُغَرِّقَ الإِنسانُ رَأْسَهُ في الثَّلْجِ

أَوِ التُّرابِ أَوِ الهَواءِ أَوِ الماءِ

لِكَيْ لا يَرَى الحَقيقَةَ!

ما قُدِّرَ أَنْ يَحْدُثَ،

سَيَحْدُثُ.

وَالصَّمْتُ وَالدَّهْشَةُ،

وَالصُّراخُ وَالاسْتِنْكارُ،

هِيَ بَدايَةُ رَدِّ فِعْلِ الإِنسانِ!

*

خِيارُ الضَّغْطِ،

وَالتَّشَتُّتُ وَالتَّرَكُّزُ،

وَانتِشارُ الحادِثَةِ،

قَانُونٌ فِيزِيَائِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ فِي حَيَاتِنَا اليَوْمِيَّةِ!

حِينَ يَحمَرُّ اللِّسَانُ فَجْأَةً،

تَتَفَرَّقُ الجُزَيئَاتُ المُتَرَاكِزَةُ،

فَتَنْتَشِرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ،

وَتُطرَدُ مِنْ نُقطَةٍ فِي العَالَمِ إِلَى نُقطَةٍ أُخرَى.

هَذَا هُوَ بِدَايَةُ التَّحَوُّلِ.

بِدَايَةُ الدَّمَارِ.

وَالدَّمَارُ لَا قَرْنَ لَهُ وَلَا ذَنَبَ!

الدَّمَارُ هُوَ الدَّمَارُ!

هُوَ أَنْ يُذْرِيَ اللِّسَانُ الأَحْمَرُ الأَخْضَرَ فِي الرِّيحِ!

هُوَ أَنْ تَصِيرَ رُوحُكَ بِلا قِيمَةٍ.

وَأَنْ لَا تَكُونَ أَنتَ سِوَى أَدَاةٍ!

*

أستطيعُ أن أتحدثَ ساعاتٍ

عن أناسٍ وقفوا منذ ألفياتٍ

أقوياءَ كأشجارِ السيكويا الألفية،

يترنّمونَ بالشِّعر.

ولكنّها قد تكونُ سذاجةً إن فتحتُ فمي لأتحدثَ عن المستقبل.

لا أرى المستقبلَ القريبَ سهلاً.

ويخبرني حدسي

أنّ في ثنايا جسدِ العالم،

هناكَ من يعيدُ ولادةَ "جنينِ الدين"،

ذاك الذي نُقِعَ لسنواتٍ في الخلِّ والملح.

وحروبٌ صليبيةٌ جديدةٌ في الطريق.

وفي هذه اللحظات،

يتضايقُ قلبي كصماماتِ القلبِ المتشنِّجة،

حزناً على قبيلتي،

على إخوتي وأخواتي، وأطفالِهم وأحفادِهم،

على كلِّ تلك العظامِ تحت التراب

التي كانت تمشي وتأكلُ وتتشاجرُ وتحبُّ قبلَ إعدامها...

على كلِّ تلك العيونِ التي مزَّقها الرصاصُ المعدني،

وتلك الوجوهِ الباسمةِ التي أذابها الحمض،

على كلِّ مَنْ هم قبيلتي..

وهنا، في هذا الجزء من العالم،

أشتاقُ أيضاً إلى ماركس،

إلى سيمون دي بوفوار ومارجريت أتوود،

وأسترجعُ فجأةً في ذهني روايةَ "حكاية الجارية".

إذا سلبوني عينيَ وأذنيَ ولساني وفضولي،

فما عسايَ أكونُ إلا جثةً شبهَ حيةٍ على التراب،

تحتضرُ كدجاجةٍ مذبوحة!

يا لسذاجةِ الظنِّ بأن "مارييت"،

صديقتي المسيحية الفلسطينية التي فقدت أخبارها منذ سنوات،

ربما تذكرني هذه الأيام!

إن تذكرتني حقاً،

فستغرقُ في شعورٍ متناقض.

ربما أخبرتها خلال صداقتنا التي دامت بضع سنوات،

قبل أكثر من عشرين عاماً،

أنّي حين كنتُ في الخامسة عشرة،

امرأةٌ فلسطينية مهاجرة

طلبت مني ماءً في طريق المدرسة،

لرضيعها الملفوف بخرقة سوداء،

في حرّ شهر مايو في خوزستان.

قالت: "ماء.. ماء"،

بشفتين يابستين كتربة الطريق المتشققة بين الأهواز والخرمشهر.

وربما أخبرتها أني في الأيام الأولى للحرب العراقية الإيرانية،

في شهري سبتمبر وأكتوبر،

تركتُ ابني الصغيرَ في أزقة طهران،

لأعالجَ جرحى الحرب في المستشفيات الميدانية بشادكان والأهواز.

كان ابني يناديني في الأزقة،

مرتعباً،

وحيداً،

مذعوراً.

كنت أسمع صوته تحت النخيلِ المقطوعة الرؤوس،

بين أصوات النساء والفتيات العربيات

اللاتي كنّ يخاطبنني بعيونهنّ بالعربية.

وربما أخبرتُ "مارييت"

أنّي كلما سمعتُ ابني ينادي: "ماما"،

أتناثرُ ألفَ قطعةٍ من شعوري بالذنب!

ربما أخبرتها...

دمُ عشتار يجري في عروقي

هدوءاً.. ذعراً..

وأحفادُها العربُ عبر ستة آلاف عامٍ

يتناغمونَ معَ قلبي.

يَحْتَلُّونَ تحتَ جفوني.. فوقَ عينَيَّ.

ربما أخبرتُها

كم أفهَمُ ألمَ كونها فلسطينية.

ولا أدري إن كانت في غزة أم في القدس،

حيّةً أم ميتةً.

لكنني أعلمُ أنني لم أخبرها

كيفَ علقَ ألمُ تلكَ المرأةِ الفلسطينيةِ المسلمةِ

في عظامي إلى الأبد.

لا أدري إن كانت أختي الكبرى

وأطفالُها وأحفادُها

أحياءٌ أم أموات.

ولا أدري إن كانت أختي الصغرى

حيّةٌ أم ميتة.

ولا أدري عن إخوتي الأربعة،

ولا عن كل أبناء العمِّ والخالةِ والعمةِ والخال،

ولا عن قبيلتي كلها،

ولا عن أصدقائي،

ولا عن جيراني،

ولا عن كل أناسِ الحاراتِ والشوارع،

ولا عن شعبي..

أحياءٌ هم أم أموات.

شعبي..

الذي اسمُ كلِّ فردٍ فيهَ: إيران.

التاسع عشر من يونيو عام 2025

***

...........................

الشاعرة: عزت گوشه گیر/ Ezzat Goushegir: كاتبة مسرحية، وقاصة، وناقدة سينمائية، وشاعرة. حصلت على شهادة في الكتابة المسرحية والأدب الدرامي من كلية الفنون الدرامية في طهران، وعلى درجة الماجستير في الفنون الجميلة من قسم المسرح بجامعة آيوا.نُشر لها حتى الآن أربعة عشر كتابًا باللغة الفارسية، من بينها مجموعات قصصية مثل: تلك المرأة، تلك الغرفة الصغيرة والحب، ووفجأة صرخ النمر: امرأة؛ وتلك المرأة التي ودّعت دون أن تقصد. كما نشرت مجموعة شعرية بعنوان الهجرة إلى الشمس، ومجموعتين من المسرحيات بعنوان التحوّل وحمل مريم.وقد قُدمت أعمالها المسرحية من قبل فرق مسرحية مختلفة، من بينها مسرحية حمل مريم التي فازت بجائزة "ريتشارد مايباوم"، وكذلك مسرحية من وراء الستائر (المستوحاة من حياة قرة العين)، والتي فازت بجائزة "نورمان فلتون".وحاليًا، تقوم عزت گوشه‌گیر بتدريس كتابة القصة والشعر الكلاسيكي في جامعة ديبول في شيكاجو – إلينوي. 

بقلم: آلي سميث

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

في غيابك أتخيلك.

عائدة إلى البيت بعطلة عيد الميلاد، من أجل تلك السخافات التي تكرهها حتى الآلهة، باستثناء أنها ليس سخافات أبدا، لأنك بدون ذلك الهراء المستمر.. الأمان والدفء والاستقرار.

تقولين في داخل رأسي: مستقرة. ها نحن نبدأ. ولذلك ستكون قصة عيد ميلاد.

نظرت من الجزء الأعلى، الجزء الذي يسمح بالرؤية، وهو نافذة الحمام. كان صباحا مشرقا في منتصف فصل الشتاء. الوقت باكر. السماء صافية ليلة أمس، وكما أرى، كل أسطح الأكواخ والمرآبات، وكل أسطح العليات والاستوديوهات، وأسطح البيوت، بيضاء يغطيها الجليد. الأشجار راكدة وعارية من الأوراق. والأعشاب رقيقة وهشة في الحدائق الخلفية. ولكن نعم، هي جميلة.

قلت لي: يظهر عليك الكثير من هيئة عيد الميلاد.

الناس، الحشود، والمرأة المسكينة على الحمار، منهكة، وعلى وشك أن تضع مولودا؟.

النجمة، الرعاة، الملوك؟. هذا العام؟ أعياد ميلاد سعيدة بعد حقيقية، أعياد ميلاد بيضاء (سوبرمانية)، وخمس وستون مليون شخص يعبرون عالما بلا شواغر في فنادق أعياد الميلاد، مع أمنية عيد ميلاد سعيد منا جميعا لثماني عائلات من سوريا! (لهذا السبب العديد من اللاجئين تأخذهم هذه المدينة ذات سقوف بيوت عيد الميلاد الأبيض، وعليهم أن يتلاءموا مع التعليمات، ويكونوا لاجئين مستحقين قبل قبولهم، مهما كان معنى ذلك). بعيدا في معلف بلا سرير من أجل حلب، ولكنه عيد ميلاد فيس بوك سعيد، عيد ميلاد يو تيوب، وعيد ميلاد غوغل. أخطار موت تويتر الفصلية المرحة انطلقت فعلا. في الليلة السابقة على عيد الميلاد، روح عيد الميلاد، عيد ميلاد صغير بهيج، في منتصف شتاء مخيف. رياح جليدية. أنين. حديد. حجر. أوراق العشب تبرق قدر ما تشاء. ويحصل ذلك بسبب البرد، وهذا كل شيء.

في هذا التوقيت من العام المنصرم شاهدنا معا السنة القديمة تنصرف، ورحبنا بالجديدة فتناولنا الشمبانيا وأطلقنا الألعاب النارية كالعادة. وبدأنا مع السنة كائنات بشرية، والآن ننهيها مثل شيء ينتمي لأحد طرفي الفاصل العريض جدا والذي جعل الوادي الكبير يبدو مثل شيء يمكن التحكم به. شكرا 2016 لهذه التجديدات التي يتخذها الفلك. هذا عام مؤخرة الحصان.

غادرت البيت. ولم أكلف نفسي عناء إقفاله مرتين.

لن أهتم إذا اقتحمه أحد.

في طريقي إلى العمل اندلعت أغنية عيد ميلاد من تسجيلات باوند لاند. أغنية تجمع بينغ كروسبي مع دافيد بوي. بوي مات ورحل، ولكنه ها هو بكل حال، موجود في هاي ستريت، لم أكن أحب هذه الأغنية كثيرا، لأنها دائما تجعلني أفكر بقصيدة توماس هاردي. وفيها يلقى بجثمان الصبي هوج قارع الطبل المشارك بحرب مرت عليها عهود، على ضريح، ودون تابوت. ميت وشاب ولا شيء فوقه سوى كواكب تلمع بعيون غريبة. هوج المسكين. يمكنه أن ينتهي من بوي، أمير النظرات العجيبة، والعارف بغربتنا، والرجل الذي جعلنا جميعا غرباء ولكن حقيقيين، في فيلمه عن القزم الضاحك، حينما قدم برنامج "أفضل الأغاني الشعبية"، وكان قاسيا وملونا ومضحكا وغريبا وجعل فتاة من مدرسة أمك تدخل بنوبة صرع، وتنقل إلى المستشفى. بوي الحامل لخط متعرج على وجهه جعل بطريقة ما شارعي، وكل شارع في الضواحي، بألوان الآخرين، حافلا باحتمالات مجهولة، وأغنيته عن الفتاة ذات شعر الجرذان، الذاهبة إلى السينما، جعلتنا نرى أين نحن حقا - كأن ستارة الصالة القديمة المغبرة المتحركة التي تغطي عيوننا قد ارتفعت ببساطة.

نسيت أن بوي سجل تلك الأغنية، ومع بينغ كروسبي من بين جميع الآخرين.

أعادتني، وأنا في الطريق إلى العمل، في هذا الصباح من كانون الثاني، إلى الوقت الذي انفصلت به عن أولى حبيبة، كان ذلك في عيد ميلاد عام 1982، الهواء بارد ومنعش،

وسقوف المدينة التي كنا نعيش فيها، بيضاء يتخللها علامات سوداء خلفها ذوبان الجليد حول المداخن. استأجرت معها شقة صغيرة رطبة ومتجلدة فوق متجرين بطابقين، متجر للرقائق وآخر للتسجيلات، وكانت تفوح من متجر الرقائق روائح الدسم بغض النظر عن الوقت من يوم العمل، أما متجر التسجيلات فقد كان يعزف ويكرر على ما يبدو، وطيلة الوقت كنا منفصلتين (كل الوقت نواصل الصمت سواء صاعدتين أو هابطتين على السلالم المغطاة بالموكيت، أو إحدانا جالسة في المكان الخاص الوحيد هناك، وراء باب موصد لمرحاض خارجي مكانه على منعطف السلم، ودائما تلاحظ أن أحدهم صنع في وقت ما دائرة رمادية محترقة خلفها ثقب حريق سيجارة على الستارة المعلقة على الباب الخلفي)، وتأتي أغنية بوي وبينغ با.. روم.. با.. بوم.. بوم، مع الأغنية الأخرى، والتي يعزفها الشاب مالك المتجر طيلة الوقت، وهي: حصان بلا اسم للفرقة المعروفة باسم أمريكا.

لم تعجبني معزوفة بوي/كروسبي، وقل إعجابي بها لأنه تعين علي أن أسمعها باستمرار حين لا أكون سعيدة، مع أن اتجاه فرقة "أمريكا"، يميل للقديم منذ عام 1982، وهناك أغنية جعلتنا نتفق، كلتانا، معززة الشعور بالتباهي قليلا - بلحظة نادرة، بومضة ضوء، مثل شق في بساط متسخ، ومن خلاله أمكننا أن نكون متحضرتين أمام بعضنا البعض، أقصد بين تمزيقها للصفحات الأخيرة من كتبي (وهو أسوأ ما تضمره لي، وبين أسوأ ما أستطيع أن أضمره لها - الأمر الذي جعل متجر التسجيلات في الأسفل، تحت شقتنا، يبدو عمليا جيدا تماما. لكن بوي وكروسبي وغناؤهما معا، ما اعتبرناه حينها من المسلمات، كان بوضوح طرفة، انحراف، ومن الظاهر أن بوي يلوم عيد الميلاد، ويرى أنه علامة بلا معنى. أخيرا انفصلنا. ومنذئذ لم أبدل أسلوبي بالاستماع لأي من الأغنيتين ثانية.

في هذا الصباح أذرع بخطواتي شوارع عيد ميلاد بائسة، وذلك بعد أكثر من ثلاثين عاما، وربما استغرقت ثلاثين عاما لأستوعب ذلك، ولكنني أسمع شيئا غير متوقع، شيئا مثيرا، في أغنية أرى أنها بديهية مستقرة فينا، ولا أبذل أي جهد للانتباه إليها، كان بوي يفتتح الأغنية بينما يتابعها كروسبي، وفي غضون ذلك يبدأ ذلك الجزء المتوائم والمحلق، ويخلف كلاهما الأغنية وراءهما، أو يتخللها غناء أغنية مختلفة.

جميل.

ثم تذكرت شيئا نسيته منذ فترة بعيدة، وتعبرني الذكرى، كما أفترض، إذا جاز القول، مثل مرور الأشباح. كنت في بواكير سنوات المراهقة، في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة. تموز. حر في الخارج. أمي تقرأ أخبار الهاي لاند وهي على طاولة الإفطار. طوت قفا الصفحة الأولى نصفين وقدمتها لي.

قلت: ماذا؟.

قالت: عن أصدقائك. أليس كذلك؟.

كانت صورة لبناتنا. بنات المدرسة كما اتضح لي. وكلهن من صفوف أعلى من صفي. تلك هي شونا. وتلك جانيس. عرفتهما فقد كان بيننا تحيات وسلامات. وأعرف اثنتين إضافيتين. وكن واقفات في الصورة بحلقة صغيرة وعلى ما يبدو في حقل فارغ. ودون أي ابتسامة. تراجيديا بنات تفكرن بحصان. ذكرت الصحيفة قبل أسبوعين أن البنات ذهبن إلى مزاد وإحداهن (شونا جايلز، 16) اشترت حصانا بنقود وفرتها من عملها في يوم عطلة السبت في حانة "كاسل سناك".

وكنت أعلم أنها توفر لتتمكن من شراء حصان في أحد الأيام. وكل من عرفها يعرف هذا عنها. وكنت أعلم أن حانة "كاسل سناك" تدفع لمن يعمل هناك مبلغا سخيفا فعلا لقاء ساعات عمل طويلة. وذكرت الصحيفة أنها ذهبت إلى ساحة المزاد لترى كيف يبدو، لأنها لم تشاهد مزادا ولأنها ذات يوم ستشتري حصانا توفر المال لأجله. وقررت بقية البنات مرافقتها. أول حصان ظهر أمام جمهور مواشي يوم الجمعة كان رماديا، هزيلا ومسكينا، نحيفا، عجوزا، القوائم متعبة، الظهر محني، عين سوداء والثانية ضبابية. ولكن حالما رأته، ولاحظت أن الجزار المحلي يساوم عليه، ولا يوجد مشترون آخرون، رفعت شونا يدها في الهواء.

سألها منظم المزاد عن عمرها. وسألها هل هي متأكدة مما تريد. ونصحها أن لا تتابع. ولكنها رفعت يدها في الهواء. وتركتها مرفوعة حتى هزمت عرض الجزار بخمسين بنسا كاملة.

جلست في المطبخ أقرأ الصحيفة وأفكر، أين ستحتفظ بحصان؟. فهي تعيش في حي مثل حينا. وهم مثلنا، عائلتها، لا يمتلكون شيئا من قبيل حقل أو ما شابه. وكل ما لديهم لدينا مثله، ولا يمكننا إيواء حصان، ولا حتى أي حصان صغير، حتى في حديقة خلفية من مساكن البلدية.

ذكرت الصحيفة: أن مزارعا في السوق، عرض عليها استعمال حظيرة صغيرة مجانا على أرضه حتى تجد مكانا، فأقرضتها بقية البنات بعض نقودهن لتدفع لشخص يمكنه تسليم الحصان في المزرعة. وغادرن جميعا، وشاهدنها من البوابة وهي تقود حصانها الجديد العجوز فوق الوحل والأعشاب.

ثم بعد شرائه بأسبوع بالضبط، ذكرت الصحيفة أن شونا ذهبت إلى المزرعة للاطمئنان على حصانها، ولكن كانت الحظيرة فارغة. ثم شاهدت قوسا رماديا على الأرض. وتبين لها أنه حصانها الميت مرميا على جانبه في وسط الحظيرة.

وقال المزارع لأخبار هاي لاند أن هذا متوقع وحتمي. وكل من لديه منطق وشاهد الحصان توقع ذلك. وهذا ما أشعر به للأوانس. كان ذلك هدرا للنقود. ونقلت الصحيفة أنه تكفل بالتخلص من بقايا الحصان.

نظرت إلى الصورة ثانية. كانت صورة البنات على ما أفترض مأخوذة في الحظيرة الفارغة حاليا، ما لم يكن الصحافيون قد نقلوهن إلى حقل قديم من أجل الصورة لتبدو مثل الحقل الذي مات فيه الحصان.

أعدت الصحيفة لوالدتي.

قلت: ولكنهن لسن صديقاتي.

كان الوقت في شهر تموز. كن محظوظات. لأننا لو كنا نداوم في المدرسة حينما نشرت الصحيفة الخبر، ستمر البنات بكل تأكيد بوقت سيء لعدة أسابيع. ومع ذلك انشغل الناس بهن لفترة طويلة. وحالما يحين وقت المدرسة بعد خمس أسابيع من الآن، سيمحو النسيان الحكاية.

كأنك تضرب حصانا ميتا بالسوط.

قضية صغيرة وتافهة.

وبدأت أفكر: كن حينها بنات حلوات.

راهنت البنات الحلوات بكل نقود يوم السبت على حصان عجوز، ولكن ضاع كل شيء حينما دقت الساعة المشؤومة.

عندما أعمل أعلق معطفي على مسند الكرسي، وأحمل أحد الكومبيوترات المحمولة، وإحدى السماعات، وأتسلل إلى دورة مياه السيدات، وأغلق على نفسي في المكان المخصص لذوي العاهات، وأضع السماعة في أذني، وأفتح صفحة البحث الخاصة على الشاشة.

في دورة مياه السيدات عام 2016، كان بوي عام 1977 تقريبا، غير واضح، متهكما، رقيقا، من فصيلة الهررة، الجميلة والمؤنثة. وحوله جو مشحون قليلا، وتمثيلي. وكروسبي عام 1977 تقريبا كان كبيرا بالعمر كما نتوقع، والخطوط مرتسمة على وجهه كأنه طوي عدة مرات. وكان تقريبا مهذبا بشكل مبالغ به، وصغيرا على نحو غير متوقع، وصدره نحيف.

نهاية قرن تلتقي مع قرن آخر. هل كان بوي يعرف شخصا تتكرم عليه بقرش؟ هل سمع كروسبي أي شيء عن الأبطال؟.

تبع الواحد الآخر على طول طريق عيد الميلاد الإنكليزي التقليدي، مرورا بشجرة عيد الميلاد حتى البيانو. وتبادلا في الطريق كلاما جاهزا. بوي قال لبينغ إنه يعيش في نهاية الشارع. وأخبره بطرفة عن الطابق الأعلى والأسفل، وقال له إنه غالبا يأتي إلى هنا لاستعمال البيانو حينما يكون سيد البيت غائبا. وتظاهر أنه لا يعرف من هو بينغ. وتظاهرا أنهما يقلبان أوراق نوطة موسيقية على البيانو. واختارا أغنية. وهي "الطبال الصغير".

لاحقا، وعلى ما يظهر، أخبر بوي شخصا يجري معه لقاء، أنه أقام العرض لأن أمه تحب بينغ كروسبي. وحينما وصل إلى الأستوديو، وأخبروه أنه عليه أن يغني "الطبال الصغير"، انسحب بالحال تقريبا. وقال إنه يمقت فعلا تلك الأغنية، ولن يغنيها. ولمنعه من مغادرة الأستوديو، حينها، أضافوا لها عدة سطور جديدة. وحينما عزفوا الإضافة أومأ بالموافقة. ثم تمرنا وسجلا الأغنية كلها بحوالي ساعة من الوقت.

على كل طفل أن يفهم، وأن يهتم، وأن يمنح الإنسان، كل الحب الذي بالإمكان.

مات كروسبي بعد أقل من خمس أسابيع من الحفل. وعرض الاسكتش في عيد الميلاد، عام 1977، هناك في أمريكا، وهنا في المملكة المتحدة.

وأطلقت الأغنية في عيد الميلاد، بتسجيل منفرد، بعد خمس سنوات، عام 1982.

كانت غير متوقعة. وتشبه المستحيل. وتفوقت على نفسها. وأصبحت الأغنية القديمة كأنها جديدة.

نزعت السماعة من أذني. وأعدت الشاشة إلى الصفحة الرئيسية. غادرت مقعد دورة المياه. غسلت يدي. وضعت الكومبيوتر تحت ذراعي وعدت إلى المكتب.

كان الجميع متعبين. وأنا أمر بالطاولات ابتسم معظمهم لي فابتسمت بالمثل.

****

هذه قصة عيد ميلاد، في خاتمة المطاف. ثنائية. وبجزئين، فقرة للصيف وفقرة للشتاء.

هل تصغين لي؟ هل تسمعينني؟.

أحدها عن الدماثة اليائسة. حصان هدية.

وها هي الثانية: كان عيد ميلاد في الجنة. جرس الباب يدق. نظف بينغ كروسبي يديه في الصالة ثم ذهب ليفتح الباب.

كان دافيد كروسبي هناك على العتبة المثلجة وذراعاه ملفوفان حوله مثل كل من يشعر بالبرد، ولكن كان تمثيل الفيلم في أيلول عام 1977. والجو غير بارد على الإطلاق.

هذه كذبة.

هذا تزييف.

هذا تمثيل.

وكلاهما جعلانا ندرك ذلك، وهما يعلمان بالأمر أيضا.

ثم غنى لنا كلاهما أغنية عيد الميلاد.

***

..............................

* آلي سميث Ali Smith روائية إسكوتلاندية تجريبية. من جيل ما بعد الحداثة.

بقلم: دورثي أليسون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في نُزْهة في مزرعة خالتي، المرة الوحيدة التي تجمّعت فيها العائلة بأكملها، طاردت أنا وأختي بيلي الدجاج إلى حظيرة المواشي. اندفعت بيلي مباشرةً عبر الباب المفتوح وخرجت منه مجدداً، بينما توقفتُ أنا، مأخوذةً بظلّ يتحرّك فوقي. ابن عمي تومي، ذو الثماني سنوات مثلي تماماً، كان يتأرجح تحت أشعة الشمس بوجهٍ أسودَ كحذائه - الحبل المشدود حول عنقه يمتدّ نحو السقف المشمس للحظيرة، مشهدٌ يخطف الأنفاس ويقشعرّ له الأبدان. ألم يكن يسبقنا في الجري؟ اقترب أحدهم من خلفي. بدأ أحدهم بالصراخ. أمسكتْ بي أمي برأسي وحوّلتْ نظري بعيداً.

أنا وجيسي عشاقتان منذ عام الآن. تحكي لي قصصاً عن طفولتها، عن والدها الذي يذهب يومياً إلى الجامعة، وعن والدتها التي كانت تخيط كل فساتينها، وجدتها التي كانت تفوح منها رائحة خبز الشبت والفانيليا. أنصت إليها وفمي مفتوح، غير مصدّقةٍ لكنني متعطّشة، تتألم روحي للحكاية الخيالية التي تظنّ أنها حياة الجميع.

" وبم كانت تشبه رائحة جدتك؟"

أكذب عليها كما أفعل دائماً، كذبةً مسروقةً من كتاب. "كرائحة الخزامى"، بينما تتقلّب معدتي لذكرى العرق الحامض والنشوق.

أدرك فجأةً أنني لا أعرف حقاً كيف تكون رائحة الخزامى، ويتملّكني خوفٌ للحظة أن تسأل شيئاً آخر، سؤالاً قد يفضحني. لكن جيسي انزلقت لتعانقني، وتضع وجهها على أذني، ، وتهمس:

"كم هو رائع أن تكوني جزءاً من عائلة كبيرة بهذا الشكل."

أعانقها بدوري وأغمض عينيَّ. لا أستطيع النطق بكلمة واحدة.

وُلدتُ بين أبناء وبنات العم الأكبر سنًّا والأصغر سنًّا، في فجوةٍ زمنية بين دفعات الأطفال، ولهذا كنت دائمًا خارج الدائرة، أراقب فقط. ذات مرة، قبل موت تومي بزمن طويل، دُفعتُ إلى خارج المنزل وجلستُ على الدرج بينما كان الجميع واقفًا يُنصت إلى ابنة عمي باربرا.كانت صرخاتها تتصاعد وتنخفض في الجزء الخلفي من البيت. أحضرت ابنة عمي كورا دلاءً مملوءة بخرقٍ دامية لتحرقها. ركض بقيّة أبناء العم للّهو بالشرر أو لنبش النار بعصيّ خشب الدوغوود. أما أنا فجلستُ على الشرفة أؤلف كلمات على وقع الصيحات من حولي. لم أكن أفهم ما الذي يجري.بعض أبناء العم الأكبر سنًّا كانوا يفهمون، ملامحهم الغريبة كانت تتشقق بضحكات أغرب.كنت قد رأيتهم وهم يُساعدونها على صعود السلالم، والدم الكثيف ينهمر على ساقيها.وبعد وقت، صار الدم على الخِرَق خفيفًا، مائيًا، ورديًا تقريبًا.رمت كورا الخِرَق في النار، ووقفت ساكنة وسط الدخان الكريه الرائحة.

قال راندال وهو يمرّ إن هناك طفلًا سيُولد، كبيضة مكسورة تُرمى مع الخِرَق، لكن لم يكن هناك شيء. راقبت المشهد بدقة، ولم أر شيئًا سوى الدم، يتناقص بيأس، والبيت يغرق تدريجيًا في الصمت. ساعات من الصراخ تحولت إلى أنين واهن، مكتوم تحت سحابة الدخان. خرجت خالتي رايلين إلى الشرفة، وكادت تسقط فوقي، لم ترني، لم تر شيئًا. راحت تضرب أحد أعمدة الشرفة بقبضتيها حتى تركت فيه حفراً بحجم المفاصل في الطلاء المتقشر، تضربه كأنه يملك إحساسًا، تسبّه وتسبّ نفسها، وتلعن كل طفل في الفناء، تئن بصوت مرتجف صاعد وهابط: "اللعنة، اللعنة على تلك الفتاة... بلا عقل... اللعنة!"

لديَّ هذه الصور التي أعطتني إياها أمي – مطبوعاتٍ بُنيَّة مُلوَّثة لساحات ترابية عارية، وشُرُفاتٍ من الألواح الخشبية، وصفوفٍ لا تنتهي من الأطفال – أبناء العم، والأعمام، والعمات؛ ألغاز. اللغز هو كم منهم لم يعد أحد يتذكرهم. أعرضهم على جيسي دون أن أذكر من هم، وعندما تضحك على الأسنان المكسورة، والملابس الممزقة، والتراب، أشُدُّ أسناني على ما لا أريد أن أتذكره ولا يمكنني نسيانه. كنا كثيرين لدرجة أننا كنا بلا عدد، ومثل شراغيف الضفادع، إذا اختفى واحد منا بين الحين والآخر، فمن كان ليهتم؟

كانت لديَّ جدةٌ عظيمة من طرف أمي أنجبت إحدى عشرة ابنةً وسبعة أبناء؛ وجدتي أنجبت ستة أبناء وخمس بنات. كلُّ واحدٍ منهم أنجب ستة على الأقل. وبعضهم أنجب تسعة. ستة في ستة، أحد عشر في تسعة. استمروا يتكاثرون كجدول الضرب. ماتوا ولم يُفتقدوا. أنا من عائلة ضخمة ولا أستطيع أن أحكي نصف قصصهم. وبطريقة ما، دائمًا ما بدا الأمر وكأنهم قتلوا أنفسهم: حوادث سيارات، بنادق صيد، حبالٌ متربة، صراخ، سقوط من النوافذ، أشياء بداخلهم. أنا قمة هرم، أنزلق للخلف تحت ثقل الذين جاءوا بعدي، ولا يهم أني مثلية، التي لن تنجب أطفالًا .أحكي القصص فيخرج الأمر مضحكًا. أشرب البوربون وأُجبر نفسي على الإطالة، وأحكي كل تلك القصص القديمة المضحكة. دائمًا ما يبدو أن هناك من تسألني: "مَن كان ذلك؟" أُريهم الصور فتقول:

"ألم تكن هي تلك التي في قصة الجسر؟"

أُخفي الصور، أشرب المزيد، ودائمًا ما يجدها أحدهم، ثم يقول:

"يا للهول! كم كان عددكم بالضبط؟"

لا أجيب.

كانت جيسي تقول: "لديكِ هذا الانجذاب الغريب نحو العنف. لديكِ كل هذه القصص المروعة." قالتها بفمها الناعم، وذقنها الذي لم يُصفع قط، وأنا أحب ذلك الذقن، لكن حين قالت جيسي ذلك، ارتجفت يداي ولم أرغب في شيء بقدر ما رغبتُ في أن أحكي لها قصصًا مروعة. صنعتُ قائمةً وقلتُ لها: تلكَ فقدت عقلها – وضربت أخاها الصغير بقضيب معدني؛ هؤلاء الثلاثة شقّوا أذرعهم، ليس عند المعاصم بل عند العروق الأكبر قرب المرفق؛ أما هي، فقد خنقت الشاب الذي كانت تضاجعُه وأُرسلت إلى السجن؛ وتلكَ شربت الغسول الكاوي وماتت تضحك بلا صوت. في عامٍ واحد، فقدتُ ثمانية من أبناء عمومتي. كان العام الذي هرب فيه الجميع. أربعةٌ اختفوا ولم يُعثَر عليهم أبدًا. واحدٌ سقط في النهر وغرق. وواحدٌ صُدم وهو يطلب توصيلةً شمالًا. وواحدٌ أُطلق عليه الرصاص وهو يعدو عبر الغابة، بينما غريس، الأخيرة، حاولت السير من غرينفيل إلى غرير لسببٍ لا يعرفه أحد. سقطت من الجسر العلوي على بُعد ميلٍ من مستودع سيرز آند روبك، وبقيت هناك تموت من الجوع والحر والعطش.

فيما بعد، وأنا بين النوم واليقظة، وجدتُ يديّ تحت ذقن جيسي. تقلبتُ بعيدًا، لكنني لم أبكِ.أنا بالكاد أسمح لنفسي بالبكاء.

في أغلب الأحيان، كنا نتعرض للاغتصاب، أنا وأبناء عمومتي. وكان ذلك نوعًا من المزحة أيضًا.

'ما هي العذراء في كارولاينا الجنوبية؟'

" فتاة في العاشرة تستطيع الركض بسرعة.'"

لم يكن الأمر مضحكًا بالنسبة لي وأنا في سرير أمي مع زوج أمي؛ ولا لابنة عمي بيلي في العليّة مع عمي؛ ولا لوسيل في الغابة مع ابن عم آخر؛ ولا لداني مع أربعة غرباء في موقف سيارات؛ ولا لـبامي، التي وصلت قصتها إلى الصحف. قرأتْها كورا بصوت عالٍ:

مرارًا وتكرارًا على يد أشخاص مجهولين." وبقوا مجهولين، لأن بامي لم تنطق بكلمة بعد ذلك.ثقوب، وجروح مفتحة، وكدمات، ورضوض. سمعتُ كل الكلمات... كلمات كبيرة، كلمات صغيرة، كلمات مُروعة لدرجة لا تُصدَّق.

"ميتة بفعل فاعل."

والقضيب لا يزال بداخلها...

مقشة المكنسة، وغصن الشجرة، ومسدس الشحوم...

أشياء، أشياء لا تُعقَل...

زجاجات ويسكي، وفتّاحات علب، ومقصات العشب، زجاج، معدن، خضروات...

تقول جيسي:

" لا يُعقل، لا يُعقل. لديكِ موهبة في الكلمات."

أتوسل إليها:

"لا تتحدثي .. لا تتحدثي."

وهذه المرة، احتضنتني بصمتٍ مُبارك.

أخرجتُ الصور، حدّقتُ في الوجوه. أيّها كنتُ؟ أعلم أن الناجين يكرهون أنفسهم، من فرط حبّهم الشديد لأنفسهم، لا يفهمون أبدًا، ويتساءلون دائمًا: "لماذا أنا وليس هي، وليس هو؟" هناك غموضٌ كبيرٌ في الأمر، وقد كرهتُ نفسي بقدر ما أحببتُ الآخرين، وكرهتُ حقيقةَ بقائي. بعد أن نجوتُ، هل يُفترض بي أن أقول شيئًا، أو أفعل شيئًا، أو أكون شيئًا؟

كنتُ أحب ابن خالتي "بوتش". كان له رأسٌ كبيرٌ عجوز، وشعرٌ أشقر خفيف، وعينان واسعتان زائغتان. كل أبناء خالتي كانوا كذلك، لكن رأس بوتش كان الأكبر، وشعره الأبهت. أما أنا، فكنت الوحيدة ذات الشعر الداكن. بدا بقية العائلة كنسخ باهتة من بعضهم، بدرجات مختلفة من الأشقر، لكن لاحقًا تحول شعر الجميع إلى البني أو الأحمر، ولم أعد أبدو مختلفة كثيرًا. لكن بوتش وأنا كنا مميزين – أنا لأني كنت سريعةً وسوداء الشعر، وهو بسبب ذلك الرأس الكبير والأفعال المجنونة التي كان يفعلها.كان بوتش يتسلق خلف شاحنة عمي لوسيوس، يفتح خزان البنزين ويمد رأسه فوقه، يتنشق بعمق، يختنق، يتقيأ، ثم يعاود التنفس. كان الشعور يغوص فيك حتى يُنمّل أصابع قدميك. تسلقتُ خلفه وجربتُ ذلك بنفسي، لكني كنت صغيرةً جدًا على أن أتحمله طويلاً، فسقطت على الأرض بثقل، أشعر بالدوار وأنا أضحك. أما بوتش فكان يستطيع الصمود، يغمس يده في الخزان ويخرج كفًا مجوفًا مليئًا بالبنزين، يستنشق بعمق ويضحك. ثم ينزل بخفة، يتأرجح من مقبض الباب، يترنح وهو يضحك، تفوح منه رائحة البنزين الكريهة.

لكن أحدًا رآه ذات يوم. أحدهم ألقى عود ثقاب.

" سأعلمك الدرس."

وهكذا، بكل بساطة، انتهى قبل أن تفهم.

أستيقظ في الليل وأنا أصرخ: "لا، لا، لن أفعل!"

مياه قذرة ترتفع في مؤخرة حلقي، لغة سائلة من رعبي وغضبي.

"عانقينى. عانقيتى."

تتدحرج جيسي فوقي؛ يداها تمسك بعظام وركي بقوة.

تكرر:

"أحبك. أحبك. أنا هنا"

أحدق في عينيها الداكنتين، حائرة، خائفة.آخذ نفسًا عميقًا، وأرسم ابتسامة باهتة على وجهي.

أضحك، وأتدحرج بعيدًا عنها.

"هل خدعتكِ؟"

تلكمني جيسي بمزاح، وأمسك بيدها في الهواء.

"حبيبتي"،

تهمس، وتلتف حولي، وتغمض عينيها.

أرفع يدي أمام وجهي وأراقب المفاصل، والأظافر وهي ترتعش، وترتعش.

أراقبها لفترة طويلة بينما هي نائمة، دافئة وساكنة بجواري.

فقد جيمس بصره.

أحد الأعمام ألقى الكحول محلي الصنع على وجهه.

تسلقت لوسيل من النافذة الأمامية لمنزل العمة رايلين وقفزت.قالوا إنها قفزت. ولم يقل أحد لماذا.

كان العم ماثيو يضرب الخالة رايلين.تعهد التوأم مارك ولوك بمنعه، جرّاه إلى الفناء ذات مرة، يرميانه بينهما ككيس رخو من الحبوب.صرخ العم ماثيو كخنزير يُساق للذبح.

أدخلت أختاي إلى سقيفة الأدوات لأحفظهما، لكنني بقيت أراقب. خرج الصغير بو مسرعًا من المنزل، قافزًا من الشرفة، مباشرة بين ذراعي والده. بدأ العم ماثيو يلوح به كمنجل، يطارد الولدين الكبيرين، ورأس بو يصطدم بأكتافهما، وأفخاذهما. بعدها، زحف بو في التراب، والدم يسيل من أذنيه ولسانه متدلٍ من فمه، بينما نجح مارك ولوك أخيرًا في إسقاط أبيهما. مر وقت طويل قبل أن أدرك أنهم لم يخبروا أحدًا بما حدث لبو.

حاول راندال أن يعلمني ولوسيل المصارعة.قال:

" ارفعي يديكِ".

كانت ساقاه متباعدتين، وجذعه يهتز لأعلى وأسفل، ورأسه يتحرك باستمرار. ثم لمعت يده تجاه وجهي.رميت بنفسي إلى التراب، وبقيت ساكنة.التفت إلى لوسيل، لم يلاحظ أنني لم أقم.

لكمها وهو يضحك.لفت يديها حول رأسها، وانحنت حتى لامست ركبتاها حلقها. صرخ.

" لا، لا!"

"تحرّكي مثلها".

التفت إليّ:

"تحرّكي".

ركلني.تكومت كالكرة، وتجمدت.

" لا، لا!"

ركلني مرة أخرى.تأوهت، ولم أتحرك.التفت إلى لوسيل.

" أنتِ".

أسنانها كانت تصطك، لكنها بقيت ساكنة، ملفوفة على نفسها كشرائح اللحم المقدد.

صاح.

" تحرّكي!"

لكن لوسيل فقط ضمت رأسها بقوة وبدأت تنتحب. تمتم راندال، وهو يمشى بعيدًا.

"أولاد العاهرة"، لن تنجحا أبدًا في شيء".

وقفنا ببطء، محتارتين، تنظر إحدانا إلى الأخرى. كنا نعرف.إذا قاومت، سيقتلونك.

كانت أختي في السابعة من عمرها. كانت تصرخ. حملها زوج أمي من ذراعها اليسرى، أدارها إلى الأمام والخلف. فانخلع المفصل.تعلقت الذراع بشكل مرتخٍ. واستمرت في الصراخ فحسب. لم أكن أعلم أنه يمكن كسرها بهذه الطريقة.

كنت أجري في الرواق. وكان خلفي مباشرة.

"ماما! ماما!"

أطبقت يده اليسرى - كان أعسراً - على حنجرتي، ودفعتني نحو الحائط، ثم رفعني بهذه الطريقة. ركلت، لكنني لم أستطع الوصول إليه. كان يصرخ، لكن الضجيج في أذني كان شديداً لدرجة أنني لم أسمعه.

"أرجوك يا أبي. أرجوك يا أبي. سأفعل أي شيء، أعدك. أي شيء تريده يا أبي. أرجوك يا أبي."

لم يكن بإمكاني قول ذلك. لم أستطع الكلام بسبب قبضته على حنجرتي، لم أستطع التنفس. استيقظت عندما سقطت على الأرض. نظرت إليه.

"إذا عشت طويلاً بما يكفي، سأقتلك بحق الجحيم."

رفعني من حنجرتي مرة أخرى.

"ما خطبها؟"

"لماذا تلاحقك دوماً؟"

لم يكن أحد يريد إجابات حقاً.

زجاجة فودكا كاملة ستقتلك عندما تكون في التاسعة من عمرك والزجاجة من حجم الكوارت. كان ابن عم ثالث هو من أثبت ذلك. تعلمنا ما يمكن لهذا وأشياء أخرى أن تفعله. كل عام كان هناك شيء جديد.

" أنت تكبرين. فتاتي الكبيرة."

كان هناك مورفين في الخزانة، ودواء باراجوريك لأسنان الطفل، وويسكي، وبيرة، ونبيذ في المنزل. جيني أحضرت إلى البيت مادة إم دي إيه، وبي سي بي، وحمض (إل إس دي)، بينما جلب راندل الحشيش، والسبيد، والميسكالين. كل ذلك كان يُخفف من حدة الأمور، ويقتل الوقت.

كانت السرقة وسيلة لقتل الوقت أيضا. أشياء نحتاجها، وأشياء لا نحتاجها، بدافع التحدي، أو الغضب، أو الحاجة. "أنت تكبر"، كنا نقول لبعضنا. ولكن عاجلاً أم آجلاً، سيقبض علينا جميعاً. ثم جاء دور "متى ستتعلم؟".وعندما نُقبض علينا، تحدث الكوابيس. "يائس مثل الخنزير البري" كان تشخيص الرجل في مزرعة المقاطعة حيث أُرسل مارك ولوك في سن الخامسة عشرة. حلقوا رؤوسهما، وقطّعوا شحمة أذنيهما.

" ما مشكلتك يا فتى؟ ألا تستطيع تحمله؟"

أما جان، فقد أُلقي القبض عليها في السادسة عشرة وأُرسلت دار رعاية الفتيات في مقاطعة جيسوب، حيث تم تبني الطفلة، وقامت بقطع معصميها بزنبرك السرير.

أُلقي القبض على "لو" في السابعة عشرة واحتُجز في مركز الشرطة وسط المدينة، واغتُصبت على أرضية زنزانة الاحتجاز.

"أأنت صبي أم فتاة؟"

"على ركبتيك، يا صغير، هل تستطيع تحمله؟"

أُلقي القبض على "جاك" في الثامنة عشرة وأُرسل إلى السجن، وعاد بعد سبع سنوات بوجه خالٍ من التعبير، لا يفهم شيئًا. تزوج فتاة هادئة من خارج البلدة، ورُزق بثلاثة أطفال في أربع سنوات. ثم عاد جاك إلى المنزل ذات ليلةً من مصنع النسيج حاملاً إحدى تلك المقابض الكبيرة لآلة المغزل عالية السرعة. استخدمها لضربهم جميعًا حتى الموت، ثم عاد إلى العمل في الصباح.

تزوجت ابنة العم ميلفينا في الرابعة عشرة، وأنجبت ثلاثة أطفال في سنتين ونصف، وأخذتهم الرعاية الاجتماعية جميعاً. هربت مع ميكانيكي سيرك، وأنجبت ثلاثة أطفال آخرين قبل أن يتركها من أجل بهلوان دراجات نارية. أخذتهم الرعاية الاجتماعية أيضاً. لكن الطفل التالي كان مصاباً باستسقاء الرأس، طفلاً صغيراً "برأس مائي" تركوه معها، وكذلك الثلاثة الذين تبعوه، حتى ذلك الذي كانت تكرهه بشدة - الذي أنجبته بعد سقوطها من الشرفة ولم تتذكر من أبوه. سألتها:

"كم طفلًا لديكِ؟"

أجابت:

"أتعني الذين عندي، أم الذين كانوا لي؟ أربعة، أو أحد عشر."

****

حاولت عمتي، التي سُميتُ على اسمها، أن تذهب إلى أوكلاهوما. كان ذلك بعد أن فقدت أصغر بناتها وأخبروها أن "بو" لن يصبح أبدًا "طبيعيًا". حزمت البسكويت والدجاج البارد والكوكا كولا؛ والكثير من الملابس الفضفاضة؛ و"كورا" وطفلها الرضيع "ساي"؛ وأصغر أربع بنات. انطلقوا من "جرينفيل" في الظهيرة، على أمل الوصول إلى أوكلاهوما بحلول نهاية الأسبوع، لكنهم لم يصلوا إلا إلى "أوجستا". وهنال انهار الجسر تحتهم. قال عمي.

" قضاءٌ وقدرٌ"

زحفت عمتي و"كورا" إلى خارج النهر، وظهرت اثنتان من البنات بين الأعشاب، تصرخان بصوت عالٍ بما يكفي ليتم العثور عليهما في الظلام. لكن إحدى البنات لم تخرج أبدًا من تلك المياه المظلمة، و"نانسي"، التي كانت تحمل "ساي"، وُجدت ما زالت ملتفة حول الرضيع، في الماء، تحت السيارة. قالت عمتي:

" قضاءٌ وقدرٌ، لدى الرب حس فكاهي لعينٌ جدًا."

أنجبت أختي طفلها في سنة سيئة. قبل ولادته، كنا قد تحدثنا عن الأمر. سألتها:

"هل أنتِ خائفة؟".

أجابت، غير مدركة قصدي، متحدثة بدلًا من ذلك عن الخوف الآخر.

"سيكون بخير .. أليس لدينا تقليدٌ في إنجاب الأطفال غير الشرعيين؟"

كان بخير، طفلٌ صغيرٌ قويٌ قبيحٌ تقليدي بتلك الخصلة البيضاء التي تميز الكثيرين منا. لكن بعد ذلك، جاءت تلك السنة البائسة مع إصابة أختي بالتهاب الجنبة، ثم التهاب المثانة، وبدون عمل، بدون مال، واضطرارنا للعودة إلى المنزل مع زوج أمي قاسي العينين. كنت أعود لرؤيتها، من عند المرأة التي لم أستطع الاعتراف بأني كنت معها، وأحمل ابن أختي الهش للغاية وأضمه، أهزه، وأهز نفسي.

ذات ليلة، عدت إلى المنزل لأسمع صراخًا — الطفل، أختي، لا أحد آخر هناك. كانت واقفة بجانب السرير الصغير، منحنية، تصرخ بوجه أحمر.

"اصمت! اصمت!"

مع كل كلمة، كانت قبضتها تضرب الفراش قرب أذن الطفل.

"لا تفعلي ذلك!"

أمسكت بها، جذبتها للخلف، محاولة أن أفعل ذلك بألطف ما يمكن كي لا أكسر غرز جراحتها. كان ذراعها الآخر مضغوطًا على بطنها ولم تستطع المقاومة أبدًا. استمرت في الصراخ.

"ذلك الوغد الصغير لا يتوقف عن الصراخ. ذلك الوغد الصغير. سأقتله."

ثم استوعبت الكلمات، ونظرت إليّ بينما استمر ابنها في البكاء وركل قدميه. بجانب رأسه، كان الفراش ما زال يحمل أثر قبضتها.

"أوه لا"، أنت، "لم أكن لأصبح هكذا. لقد وعدت نفسي دائمًا."

بدأت تبكي، تمسك ببطنها وتنتحب.

"لسنا مختلفين. لسنا مختلفين."

تلف جيسي ذراعها حول بطني، وتضغط بطنها على ظهري. أسترخي بين ذراعيها.تسألني:

"هل أنت متأكدة أنكِ لا تستطيعين إنجاب الأطفال؟ أود حقًا أن أرى كيف سيكون أطفالك."

أتصلب، وأقول:

" لا أستطيع إنجاب الأطفال. لم أرغب بالأطفال أبدًا."

فتقول:

" مع ذلك، أنتِ جيدة جدًا مع الأطفال، لطيفة جدًا."

أفكر في كل المرات التي انقبضت فيها يداي إلى قبضتين، عندما كدت أفقد السيطرة. أفتح فمي، أغلقه، لا أستطيع الكلام. ماذا يمكنني أن أقول الآن؟ كل المرات التي لم أتكلم فيها من قبل، كل الأشياء التي لم أستطع إخبارها بها، الخجل، وكراهية الذات، والخوف؛ كل ذلك يقف بيننا الآن — جدار لا أستطيع هدمه.

أودُّ أن أستدير وأتحدث معها، وأقول لها... "في رأسي نهرٌ من الغبار، نهرٌ من الأسماء يتكرر بلا نهاية. يتصاعد هذا الماء القذر في داخلي، كل أولئك الأطفال يصرخون بحياتهم في ذاكرتي، فأصبح شخصًا آخر، شخصًا حاولتُ جاهدة ألا أكونه." لكنني لا أقول شيئًا، وأعلم، كما أعلم أنني لن أنجب طفلًا أبدًا، أن صمتي هذا يُديننا، وأنني لا أستطيع الاستمرار في حبك وكرهك بسبب حياتك الخيالية، لعدم سؤالك عما ليس لديك سبب لتتخيله، بسبب تلك البراءة ذات الذقن الناعمة التي أحبها

تضع "جيسي" يديها خلف رقبتي، تبتسم وتقول: "أنتِ تروين أطرف القصص."

(تمت)

***

........................

الكاتبة: دوروثي أليسون / Dorothy Allison (11 أبريل 1949 – 6 نوفمبر 2024) كاتبة أمريكية نسوية ركزت كتاباتها على الصراع الطبقي، والإساءة الجنسية، وإساءة معاملة الأطفال، والنسوية، وقد اشتهرت بروايتها السير ذاتية الأكثر مبيعًا:"ابنة غير شرعية من كارولاينا" (Bastard Out of Carolina.ومجموعة قصصية قصيرة بعنوان:نفاية (Trash ( وُلدت دوروثي أليسون في الحادي عشر من أبريل عام ١٩٤٩ في غرينفيل، بولاية ساوث كارولينا، لأمٍّ تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، تُدعى روث جيبسون أليسون. عاشت طفولةً صعبةً اتسمت بالفقر والاعتداء الجنسي والجسدي والعاطفي. تخرجت من المدرسة الثانوية، ثم حصلت على درجة البكالوريوس من كلية فلوريدا المشيخية (كلية إيكارد حاليًا) بدعم من منحة الاستحقاق الوطنية. حصلت على درجة الماجستير في الأنثروبولوجيا من المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك.وقصة (نهر الأسماء) المترجمة اليوم هي القصة الأولى من تلك المجموعة نفاية / Trash( الطبعة الثانية 2002 )

بقلم: ليزا ثورنتون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كنا نشاهد الشرائح المعروضة على جدار غرفة المعيشة عندما تمطر أو لا يكون هناك شيء جيد على التلفزيون. كان والدي يقلب الصور بإبهامه، ينتقل بجهاز العرض من ذكرى إلى ذكرى. كانت أخت أمي المتوفاة تَظهَر في الصور مع الجميع أمام شجرة الكريسماس الخاصة بجدّيَّ. كان ابن عمي الذي وجدوه مُعلقًا في الكافتيريا واقفًا خلفي، ويداه على كتفي.

كانت اللقطات من كيب تاون مليئة بالرياح والرمال. قصب يهب هنا وهناك خلف والديّ وأختي، عندما كانت رضيعة ولم أكن قد ولدت بعد. كنت أحب أن أنظر إلى عائلتي قبل أن أكون فيها. كنت أحاول أن أتبين: هل كانت أمي متعبة قبل مجيئي؟ هل كان أبي لا يزال شجاعًا آنذاك - هل كان يثق بصوته؟ هل كانت أختي مليئة بعدم الأمان، أم أنني أنا من جلب ذلك لهم؟

ضحكنا على صورة أختي وهي تجلس على البطانية الخضراء التي أحضرها والدي من الجيش. تلك التي كنا نلف بها الدمى ونحن نحملها عبر عواصف خيالية ونهرب من اضطهاد خيالي، ونجلس عليها لمشاهدة الألعاب النارية بجانب البحيرة. شعرتُ بخدشها الصوفي على مؤخرة ساقيّ بينما كانت تومض على الجدار.

امتدت ساقا أختي الصغيرتان أمامها على البطانية، ومفاصل ركبتيها كخرزات بلاستيكية من السبعينيات بألوان الأحمر والأصفر والأزرق الزاهية، وخيوط قبعة الشمس مربوطة بإحكام تحت ذقنها. ارتفعت الكثبان الرملية خلفها. تخيلت أمي منزوية، ذراعها على أهبة الاستعداد في حال بدأت صغيرتها البكر في السقوط

كان أبي يردد في كل مرة تتضح فيها هذه الصورة: "يا إلهي، ها هو ذا" ، "ها هو الرجل تحت البطانية." برز حذاء كونفيرس أسود من القماش الأخضر، تركه أبي بلا شك، وهو يركض نحو الأمواج. كانت الزاوية التي التُقطت بها الصورة تجعل الحذاء يبدو وكأن هناك رجلًا ممددًا تحت الرمل، تحت البطانية، تحت أختي. قدم واحدة فقط ظاهرة. كانت أمي تضحك. "آه، ذلك الذي دفنّاه!" "ذلك الرجل على الشاطئ."

وكانت أختي تبتسم لصورتها العملاقة بخديها الورديين، وكنت أغمض عينيّ نصف إغماضة لأزيد من هذا الشعور: ذلك الذي اجتاحني عندما فكرت في عائلتي تقتل شخصًا على الشاطئ، غريبًا، وتدفنه تحت أختي. تحت بطانيتهم المفروشة. عندما أفكر في عائلتي تضحك على جريمتها بعد سنوات، أمي تقضم حبّات الفشار من أكبر وعاء في البيت، وأبي يقهقه وهو ينتقل إلى الصورة التالية.

(تمت)

***

....................

الكاتبة: ليزا ثورنتون/ Lisa Thornton: كاتبة وممرضة. لها أعمال في مجلات SmokeLong Quarterly وBending Genres وHippocampus وPithead Chapel وغيرها من المجلات الأدبية. رُشِّحت لجائزة باث للقصص القصيرة وجائزة بريدبورت للقصص القصيرة. فازت بجائزة WestWord في فئة القصص القصيرة عام ٢٠٢٣، ورُشِّحت لجائزة Pushcart وجائزة Best of the Net. ليزا خبرة في الصحافة المحلية، وحاصلة على بكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة ولاية كولورادو، وبكالوريوس في التمريض من جامعة لويزيانا في لافاييت. تعمل كمحررة مساعدة في قسم القصص القصيرة في مجلة JMWW،

 

بقلم: لوسيل كليفتن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

أ لن تحتفلوا معي

بما قمت بتشكليه

كنوع من انواع الحياة؟

لم يكن عندي نموذج أحتذيه.

بعد ان ولدت في بابل

ليس بيضاء وايضا امرأة

ما الذي شاهدته يتكون سوى ذاتي؟

انا الذي خلقتها

هنا فوق هذا الجسر

بين ضوء النجوم والطين،

احدى يديّ تمسك

بالأخرى بقوة؛

تعالوا واحتفلوا معي بأن كل يوم

يحاول شيء ان يقتلني

ويفشل.

***

..........................

* لوسيل كليفتن (1936-2010) شاعرة أميركية من مواليد مدينة نيويورك. يتميز شعرها باحتفائه بالتراث الأميركي الأفريقي، وبتناول قضايا المرأة وحقوقها ومساواتها مع التركيز على الجسد الأنثوي. نشرت أول مجموعة شعرية لها بعنوان (زمن حسن) عام 1969 أدرجتها صحيفة نيويورك تايمز ضمن قائمها لأفضل عشرة كتب لذلك العام. نشرت بعد ذلك مجموعتها الثانية بعنوان (أخبار جيدة عن الأرض) عام 1972 ثم (امرأة عادية) في 1974 توالت بعدها مجاميعها الشعرية التي كان آخرها بعنوان (أصوات) عام 2008 ، فضلا عن تأليفها مجموعات قصصية عديدة وكتبا في أدب الأطفال. حازت كليفتن على جوائز عديدة ورشحت مرتين لنيل جائزة البوليتزر.

في نصوص اليوم