ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

قصة:  ساندرا سيسنيروس

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

اسمي بالانجليزية يعني الأمل. بالإسبانية يعني الكثير من الحروف. يعني الحزن، يعني الانتظار. إنه مثل الرقم تسعة اللون الموحل. إنها الأسطوانات المكسيكية التي يعزفها والدي صباح يوم الأحد عندما يحلق ذقنه، أغاني مثل البكاء.

لقد كان اسم جدتي الكبرى والآن أصبح اسمي. لقد كانت أيضًا امرأة حصان، ولدت مثلي في عام الحصان الصيني - والذي من المفترض أن يكون حظًا سيئًا إذا ولدت أنثى - لكنني أعتقد أن هذه كذبة صينية لأن الصينيين، مثل المكسيكيين، لا يفعلون ذلك. لا يحبون أن تكون نساؤهم قويات

جدتي. كنت أتمنى أن أقابلها، امرأة جامحة، جامحة جدًا لدرجة أنها لن تتزوج. حتى ألقى جدي الأكبر كيسًا على رأسها وحملها بعيدًا. كما لو كانت ثريا فاخرة. هكذا فعل جدى الأكبر معها.

وتقول القصة إنها لم تسامحه أبدًا. لقد نظرت من النافذة طوال حياتها، بنفس الطريقة التي تضع بها العديد من النساء حزنهن على مرفقهن. أتساءل عما إذا كانت قد حققت أفضل ما حصلت عليه أم أنها آسفة لأنها لم تستطع أن تكون كل ما أرادت أن تكونه. اسبيرانزا. لقد ورثت اسمها، لكني لا أريد أن أرث مكانها بجوار النافذة.

في المدرسة يقولون اسمي بشكل مضحك كما لو كانت المقاطع مصنوعة من القصدير وتؤذي سقف فمك. لكن في الإسبانية، اسمي مصنوع من شيء أكثر ليونة، مثل الفضة، وليس سميكًا تمامًا مثل اسم أختي - ماجدالينا - وهو أقبح من اسمي. ماجدالينا التي يمكنها على الأقل العودة إلى المنزل وتصبح نيني. لكني دائمًا إسبيرانزا.

أود أن أعمد نفسي تحت اسم جديد، اسم أشبه بشخصيتي الحقيقية، الاسم الذي لا يراه أحد. إسبيرانزا  بدور ليسندرا أو مارتيزا أو زيزى إكس. نعم. شيء مثل زيزى إكس، اسم مناسب .

***

...........................

المؤلفة: ساندرا سيسنيروس / Sandra Cisneros . ساندرا سيسنيروس شاعرة، وكاتبة قصة قصيرة، وروائية، وكاتبة مقالات، تستكشف أعمالها حياة الطبقة العاملة. ولدت ساندرا سيسنيروس في 20 ديسمبر 1954 في شيكاغو، إلينوي. تخرجت من جامعة لويولا - شيكاغو ثم حصلت على الماجستير من جامعة أيوا.اشتهرت بروايتها الأولى: المنزل فى شارع مانجوThe House on Mango Street، التي تتحدث عن شابة لاتينية تبلغ سن الرشد في شيكاغو، باعت أكثر من مليوني نسخة. حصلت سيسنيروس على العديد من الجوائز لأعمالها الابداعية ، بما في ذلك زمالة مؤسسة ماك آرثر وميدالية تكساس للفنون. تعيش في سان أنطونيو، تكساس. وهي واحدة من سبعة أطفال والابنة الوحيدة، وقد كتبت بشكل مكثف عن تجربة لاتينيا في الولايات المتحدة. تقول فى إحدى المقابلات عن تجربتها فى الكتابة : ."كان الأمر كما لو أنني لا أعرف من أنا. كنت أعرف أنني امرأة مكسيكية. لكنني لم أعتقد أن الأمر له علاقة بالسبب الذي جعلني أشعر بالكثير من عدم التوازن في حياتي، في حين أن الأمر يتعلق بكل شيء. "افعل ذلك! عرقي، وجنسي، وصفي! ولم يكن الأمر منطقيًا حتى تلك اللحظة، وأنا جالس في تلك الندوة. وذلك عندما قررت أن أكتب عن شيء لا يستطيع زملائي الكتابة عنه. "

مقطع من رثائية الشّهيد شكري بلعيد للشّهيد العلَّامة حسين مروّة:

ترجمة: زهرة الحواشي

***

قم يا حسين العلم

بغداد نائمة على عرشها المستطاب

وحمدان نادى على فقراء البلاد

أن اجتمعوا

هذا خمر الخليفة من تعب الموت في يدكم

حلّوا مراكبكم للصّباح الجديد

مدّوا الأيادي التي تعبت من جُباة الخليفة والبرلمان

دمي صولجان

فاجمعوا دمكم واتبعوني

أنا الرّاية البلد الأرض والقادمون

أنا الفاصل ما بين حبّكم و الجنون

وأنتم بداية حزن المساء

حين السّنون تخون

قم يا حسين العلم

افتح نوافذ تاريخنا المغلقه

وارفع أوراقك والقلم

سمِّ البلاد بأسمائها

وأظهر المستتر

لطّخ لحيّ الظّلام بآثامهم

وانتصر للرّعاع الذين بنَوا مجدنا

وانتضوا سيفهم للصّراع

وفسّخ تفسّخ كلّ البلاطات والطّبقات

التي اشترت بدمانا الجواري

ومالت على وجهنا الجمجمهْ

فأقمنا الصّباح

على الجسد المقبره

ونادى المنادي

ها أنّ حمدان يأتي على فرس من غضب

يلمّ شتات العرب

وذاكرة المتعبين على الأرصفه

ويصرخ في أمّة النّفط والأقنعه

"أنا القرمطيّ و أنت حسين امتدادي

أنا القرمطيّ و كلّ البلاد بلادي

أنا القرمطيّ أشعتُ النّخيل

وخيل الصّحاري

ونوّارة بالجليل

وأرض السّواد

على الفقراء"

فدوّن بكراسك والقلم

قم يا حسين العلم !

***

............................

من ديوانه: أشعار نقشتها الرّيح على أبواب تونس السبعة.

 

من الادب الكردي: لطيف هلمت .. إلى غسان كنفاني والشعراء الذين أعرفهم ولا أعرفهم

***

عندما أتانا المسيح

نكرناه،

وعلى الصليب صلبناه ..

ثم أقمنا له تمثالا

في بيعة المدينة،

وكتبنا على الاف الألوف

من الحيطان،

وبالكلمات الكبيرة :

مات محب عظيم ...

مذ ذلك اليوم،

ونحن نحيي ذكراه

في فاتحة كل سنة

جديدة،

ونحكي للأطفال

ملحمته،

ولكن ألف مسيح يصلب

كل يوم،

فتغدق العطايا

على القتلة

أبطال هذا العصر

وقد غاصت مخالبهم

في الدماء .. !

***

............................

* أجيز نشر هذه الترجمة من قبل الشاعر خطيا في 18 / 7 / 1983. عن (من الشعر الكردي الحديث – لطيف هلمت: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق2001  .   

بقلم: لويز غليك

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

حياة قروية

الموت والشك اللذان ينتظرانني

مثلما ينتظران كل الناس،

الظلال التي تخمنني

فتحطيم كائن بشري يمكن ان يستغرق وقتا،

عنصر التشويق ينبغي المحافظة عليه—

في ايام الآحاد آخذ كلب جارتي للنزهة

كي تتمكن من الذهاب الى الكنيسة لتصلي من اجل امها المريضة.

ينتظرني الكلب في المدخل.

صيفا وشتاء نتنزه على الطريق نفسه،

في الصباح الباكر، في اسفل الجرف.

احيانا يبتعد الكلب عني- للحظة او لحظتين،

لا استطيع ان اراه خلف بعض الأشجار. انه مزهو بذلك،

هذه الحيلة يمارسها بين حين وآخر، ويتخلى عنها مرة أخرى

متفضلا عليّ -

بعد ذلك اعود الى منزلي كي اجمع حطبا.

احتفظ في ذهني بصور من كل نزهة:

النعناع ينمو على جانب الطريق؛

في اوائل الربيع، يطارد الكلب الفئران الرمادية الصغيرة

لذلك يبدو ممكنا لوهلة

ان لا نفكر بتماسك الجسد في ضعفه،

بعلاقة الجسد الكمية بتحول الفراغ،

والصلوات تصبح صلوات من اجل الموتى.

منتصف النهار، توقفت اجراس الكنيسة. ضوء مفرط:

لا يزال الضباب يغلف الحقل، لئلا تستطيع ان ترى

الجبل على مسافة بعيدة، يكسوه الثلج والجليد.

حين يظهر ثانية، تعتقد جارتي ان دعواتها تستجاب.

ثمة كثير من الضوء مما يجعلها غير قادرة على السيطرة على سعادتها -

عليها ان تتفجر لغة. تصرخ قائلة: مرحبا،

وكأن ذلك افضل ترجمة لها.

انها تؤمن بالعذراء بنفس الطريقة التي اؤمن بها بالجبل،

ولو انه في حالة واحدة الضباب لا ينقشع ابدا.

الا ان كل شخص يخزن أمله في مكان مختلف.

أحضّر حسائي، اصب قدح نبيذي.

انني متوترة مثل طفل مشرف على المراهقة.

قريبا ستحسم حقيقتك على نحو مؤكد،

شيئا واحدا، فتى ام فتاة. ليس الأثنين بعد الآن.

ويتفكر الطفل: اريد ان ادلو بدلوي فيما يحدث.

ولكن الطفل ليس لديه دلو البتة.

حين كنت طفلة لم اتنبأ بهذا.

فيما بعد، الشمس تغرب، الظلال تتجمع،

الشجيرات الواطئة تصدر حفيفا كأنها حيوانات استيقظت توا لتبدأ ليلتها.

في الداخل، ثمة ضوء النار فقط. يخبو ببطء؛

الآن اثقل قطعة حطب فقط ما زالت

تومض بين رفوف الآلات الموسيقية.

اسمع الموسيقى تنساب منها احيانا

حتى وهي في صناديقها المقفلة.

حين كنت طيرا، كنت اعتقد انني سأصبح انسانا.

ذلك كان الفلوت. والبوق يجيب.

حين كنت انسانا، صرخت كي اكون طيرا.

بعد ذلك تتلاشى الموسيقى. والسر الذي تودعه فيّ

يتلاشى ايضا.

من النافذة، يتدلى القمر فوق الأرض،

عديم المعنى لكنه ممتلئ بالرسائل.

انه ميت، لقد كان ميتا دائما،

لكنه يتظاهر بكونه شيئا آخر،

محترقا مثل نجم، وعلى نحو مقنع، فتشعر احيانا

ان بامكانه فعلا ان يجعل شيئا ينبت فوق الأرض.

فلو كان ثمة صورة للروح، فأظن انها تلك.

اتنقل عبر الظلام كأنه امر طبيعي عندي،

كأنني كنت من قبل عنصرا فيه.

هادئا وساكنا يبزغ النهار.

في يوم اقامة السوق اذهب الى السوق بخـَسـّي.

***

.....................................................

لويز غليك (1943-2023): شاعرة أميركية من مواليد مدينة نيويورك. تلقت تعليمها في كلية سارة لورنس وجامعة كولومبيا. شغلت منصب شاعر الولايات المتحدة للفترة 2003-2004 ونالت أعمالها جوائز عديدة توجت بفوزها بجائزة نوبل لعام 2020. من عناوين مجموعاتها الشعرية: منزل الهور (1975)؛ انتصار أخيل (1990)؛ السوسنة البرية (1992)؛ الحياة الجديدة (1999)؛ بوابة العالم السفلي (2006)؛ حياة قروية (2009).. نترجم قصيدتها هنا بمناسبة رحيلها عن عالمنا في 13 من الشهر الجاري.

قصة قصيرة بقلم: راندا جرار

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تضاجع بحارًا، بحارًا تركيًا، الصيف الذي تقضيه في إسطنبول .عندما تعود إلى منزلها في ويسكونسن، يستغرق الأمر ثلاثة أيام لتعترف لزوجها.

يقول أن هذا لا يزعجه، وتقول له أنه يزعجها، وأنه لا يزعجه. يسألها إذا كانت تفضله أن يكون ذلك النوع من الرجال الذي ينزعج من اللحظات العابرة، فتقول له نعم، إنها تفضل أن يكون هذا النوع من الرجال. أخبرها أنه يعتقد أنها تزوجته لأنه على وجه التحديد من نوع الرجل الذي لا يركز على اللحظات العابرة، لأنه نوع الرجل الذي لا يحمل ضغينة. أخبرته أن حمل الضغينة وإثارة بعض الغضب بشأن ممارسة الجنس مع بحار ليس هو الشيء نفسه. وهو يوافق على أن حمل الضغينة ليس مثل إثارة بعض الغضب بشأن ممارسة زوجته الجنس مع  بحار، لكنه يضيف أن زوجته، وتحديدًا زوجته، لن تتركه أبدًا من أجل بحار، وليس بحارًا تركيًا. ويقول إنها في الواقع لم تتركه من أجل البحار التركي. إنها هنا. فلماذا يغضب؟

الآن تغضب وتسأله لماذا يعتقد أنها لم تفكر في تركه من أجل لبحار. بالإضافة إلى ذلك، تقول إنها والبحار يشتركان في هوية ثقافية إسلامية، وهو أمر لا تشاركه مع زوجها. تسأله إذا كان يفكر في ذلك.

يقول إنه لم يفكر في الأمر، وأنه حتى لو فكرت في تركه من أجل البحار التركي، كان ينبغي عليها أن تقرر عدم القيام بذلك. وهي تتقبل فكرة أنها والبحار التركي كان لديهما رابط قوي لأنهما مسلمان من الناحية الثقافية، لأنه، كما يقول، لا يستطيع أن يتخيل ما الذي كان يمكن أن يكون مشتركا بينها وبين بحار تركي.

كثير! صرخت في وجهه. كان لديها الكثير من القواسم المشتركة مع البحار التركي.

يريد زوجها أن يعرف ما هو الشيء المشترك بينها وبين البحار التركي.

ولم يكن بينها وبين البحار التركي شيء سوى أنها انجذبت إليه وانجذب إليها وأمضيا ليلة في غرفة غير مكيفة في كاراكوي بجوار برج جلاطا .

وفي الصباح، استيقظت على صوت طيور النورس وهي تحوم حول البرج، وتدور حوله جائعة وبصوت عالٍ. وكان البحار التركي قد سمع صوت طيور النورس أيضًا. ثم غادرت. كان هذا هو كل ما يجمعهما حقًا: الهوية الثقافية، والجنس، وطيور النورس.

تحكي لزوجها هذه القصة. يسألها ماذا تريد منه أن يقول. طلبت منه أن يقول إنه غاضب لأنها مارست الجنس مع بحار تركي. أخبرته أن يقول إنه يتمنى لو مارس الجنس معها في غرفة غير مكيفة بالقرب من برج جلاطا. تقول له أن يصرخ بها.

زوجها يرفض أن يقول أي شيء من ذلك. رفضه هادئ، وليس غاضبا.

عندما تراه يحدق بها بهدوء، ويرفض أن يقول أيًا من هذه الأشياء، تفهم أن هذه هي طريقته للانتقام منها لمضاجعة البحار التركي.

وهي تدرك أيضًا أن افتقاره إلى العاطفة، وإحساسه بالمنطق، هو أحد الأسباب التي جعلتها تضاجع البحار التركي، وهو أيضًا سبب عودتها إلى المنزل.

***

.................................

المؤلفة: رندا جرار/ Randa Jarrar كاتبة أمريكية، ولدت رندا جرار في شيكاغو عام 1978 لوالدة مصرية ويونانية ووالد فلسطيني. تربت بين الكويت ومصر حتى حرب الخليج الثانية عام 1991، عندما انتقلت عائلتها إلى الولايات المتحدة مجددا، واستقرت في منطقة نيويورك وهي عمرها 13 عام. درست جرار الكتابة الإبداعية في جامعة سارا لورانس، وحصلت على شهادة ماجستير الآداب من جامعة تكساس في أوستن في دراسات الشرق الأوسط، وماجستير الفنون الجميلة هي مؤلفة كتاب، خريطة المنزل، الرواية الحائزة على جائزة هوبوود وجائزة الكتاب العربي الأمريكي كما حصلت على لقب أفضل رواية من قبل مجلة بارنز ونوبل ريفيو، وكتاب (أنا، محمد علي) (ساراباندي، 2016). تقوم راندا جرار بالتدريس في برنامج الماجستير في الفنون الجميلة في جامعة ولاية كاليفورنيا في فراسنو.

بيتر هاندكه*

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

حينما كان الطفل طفلا،

كان يمشي ويداه إلى جانبه،

كان يريد أن يكون المجرى جدولا

والجدول نهرا،

وأن تكون هذه البِركة بحرا.

*

حينما كان الطفل طفلا،

لم يكن يعرف أنه كان طفلا،

وبالنسبة إليه، كان لكل شيء روح

وكلّ الأرواح روح واحدة.

*

حينما كان الطفل طفلا،

لم يكن لديه رأي في أيّ شيء،

لم تكن له أيّ عادة

غالبا ما يجلس متربّعا

وينطلق جريا،

وله خصلة شعر متمردة،

ولا يفعل سوى تصنّع الحركات حينما تأخذ له صورة

*

حينما كان الطفل طفلا، كان زمن الأسئلة التالية:

لماذا أنا هو أنا وليس أنت؟

لماذا أنا هنا وليس هناك؟

متى يبدأ الزمان وأين ينتهي المكان؟

أليست الحياة تحت الشمس سوى حلما؟

ما أراه، وما أسمعه وأحسّه، أليس مجرّد ظاهر لعالم ماثل أمامي؟

هل يوجد الشرّ فعلا مع أناس هم حقا الأشرار؟

كيف يمكن أن يكون أنا الذي هو أنا، لم أكن قبل أن أصير كذلك،

وأنه يوما ما أنا الذي هو أنا لن أكون ذاك الأنا الذي أكونه؟

*

حينما كان الطفل طفلا،

كان يُكره على أكل السبانخ والبازلاء، والأرز بالحليب

ومخفوق الكرنب.

ولكنه الآن يأكله دون أن يكون مكرها.

*

حينما كان الطفل طفلا،

كان يكفيه التفاح والخبز غذاء،

وكان الأمر كذلك دوما.

*

حينما كان الطفل طفلا،

تسقط حبات التوت في يديه كما تسقط لوحدها،

وتضجره حبات الجوز الطازجة

وهكذا هو الحال دوما .

*

ومن على كل جبل، كانت له الرغبة في جبل أكثر علوّا،

وفي كلّ مدينة، كانت له الرغبة في مدينة أكبر

وهكذا الحال دوما.

ومن على الشجرة، يمدّ يده إلى الكرز، متحمّسا

كما هو اليوم أيضا،

كان يخشى الغرباء وما يزال كذلك،

ينتظر تساقط الثلج أول مرّة ومازال ينتظره،

*

حينما كان الطفل طفلا رمى بالعصا على شجرة، مثل رمح،

وما تزال الشجرة تهتزّ لذلك.

***

.......................

* بيتر هاندكه: كاتب وسينمائي ومترجم وشاعر نمساوي ولد سنة 1942، تحصل على جائزة نوبل للآداب سنة 2019

 

 

بقلم: لطيف هلمت

بنيامين يوخنا دانيال

***

إن هي إلا لحظات

و يأتونك كالذئاب،

فيجعلون من غرفتك المتواضعة

الأركان

غابة شاسعة

لورود الدم ...

إنهم سيقدمون على صبغ

أحذيتهم

في أعماق جراحك،

و لسوف يحرقون

لسانك

بسكين من نار ..

***

إنهم لك بالمرصاد

أشبه بالشبكات الجائعة

التي لا تغمض لها عين،

فتجوب البحار

و تجوب البحار،

بحثا عن السمك ...

***

أعلم إن أقدموا على قطع

يدك

لكفت يدك المقطوعة عن كتابة

الشعر،

و إن اقتلعوا لسانك،

لسوف لن تهطل الأغاني

من ثغرك،

و سوف لن تحوم

من حوله

أطيار الكلمات ...

و أعلم أيضا

إنهم إن أقدموا

على جز رقبتك

سوف لن تثقل عناقيد

الحلم الخضراء

رأسك المقطوع ..

و لكن هيهات أن تموت

الشمس في عينيك،

و إن زرعوا فيهما الظلام

و هيهات أن يمسك الوجل

بتلابيب قلبك ..

هيهات .. هيهات أن يستطيعوا

اجتثاث وطنك من قلبك ..

قلبك المفعم بالشعر !!

***

من الادب الكردي

لطيف هلمت

.............................

- أجيز نشر هذه الترجمة من قبل الشاعر خطيا في 18 تموز 1983. عن (من الشعر الكردي الحديث: لطيف هلمت.. قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001 .

قصة: كوزالي مانيكافيل

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

سألتقي بك في الحافلة. سأفكر في أغنية بولفيلي للمطربة آسيا عندما تصعد من الخلف وتضع يدك فوق يدي. لن أدرك ما تفعله حتى تكون يدك على حلمة ثدي وأنت تهمس "عاهرة مثيرة" في مؤخرة عنقي. سأستدير فجأة إلى الوراء وهذا سيجعل الناس تعتقد أنه قد سقط مني شيء ما. سيجر رجل عجوز قدميه جانبًا، بينما يشير صبي يحمل حقيقة ظهر إلى قرط مكسور على الأرض ويقول: " هناك .. هناك". سيكون لك وجه مصقول وأسنان بيضاء ويدان نظيفتان. وهذا سيجعلني أعتقد أنه لا يمكن أن تكون أنت. سأبحث عن رجال داكني البشرة وقذرين بعيون حمراء. لكنني سأكون مرعوبة جدًا من رؤية أي شيء. فقط عندما تنزل من الحافلة و تلوح بيدك عند ذلك سأدرك أنه أنت. في العمل سأستمع إلى أحد ما يقول أن الصحف لا تكتب إلا عن حالات الاغتصاب بسبب الجاذبية الجنسية، وسيقول آخر أن دلهى تقدم حوافز نقدية للرجال لكى يغتصبوا النساء، سيضحك الجميع على هذا، وسأضحك معهم بينما تطن أغنية بولفيلي داخل رأسي.

-----

كل صباح ولمدة شهر كامل، ستركب الحافلة، لتدفع يدك في خصري أوتمسك بمؤخرة فخذي. وستقوم كالعادة بقرص حلمة ثدي وتقول: " عاهرة مثيرة" سأحاول الانتقال إلى الأمام أو إلى حافلة أخرى. سأحاول غزك بالدبابيس أو الفرجار أو أقلام الحبر، سأحاول طعنك في قدميك أو خدش يدك أو ضربك فيما بين فخذيك ولكن لن يحدث شيء من هذا. في كل مرة يبدأ هذا، سأقول لنفسي إنها مجرد حافة المقعد أو حقيبة يد عمتي أو خيالي. وعندما لا يكون بإمكاني قول هذه الأشياء لنفسي، سأنظر عبر النافذة وأغنية بولفيلي تطن في رأسي و أفكر أنك على حق، لا بد أن أكون عاهرة لأنني أسمح بحدوث هذا. خلال الشهر المقبل، سأصاب بقرحات وبقع من الأكزيما على وجهي وذراعي، سأتوقف عن ارتداء القمصان والجينز والسلوار ذي الأكمام القصيرة والصنادل المفتوحة، على الرغم من أن هذا لن يفيد، سيخبرني الأصدقاء أنني أعاني من نقص في الفيتامينات ويجب على أن أهتم بنفسي بشكل أفضل، سأتناول مكملات غذائية متعددة، ولكن ذلك لن يغير من الأمر شيئًا أيضًا.

*

سأحلم بك، سأسير في مبنى مزدحم بجدران تبتلع الأطفال الصغار وسيضحك الناس ويسحبون الأطفال بينما تؤدي أغنية بولفيلي في الخلفية. ستكون محاطًا بفتيات يشاهدنك وأنت تفتح شرنقة متربة وتسحب منها فتاة عارية من شعرها، سيصفقن لك عندما ترخيها فوق فمك وتغني أغنية: " جوما تشوما دي دي " . سأحاول أن أدعوك إبن الزانية، وألقي بالزيت المغلي في وجهك وأدفس كعبي في عينيك المتقرحتين، لكن كل ما سأقدر عليه هو التصفيق معهن.

*

بعد شهر سوف ينتهي كل شيء، ستختفي وسأصاب أنا بالذعر في كل مرة أرى فيها أحدًا يشبهك، ستنتشر على وجهي وذراعي ندوب من أثر الأكزيما لكن القرحة ستشفى. سأجعل النشيد الوطني نغمة رنين على هاتفي. سأحب مشاركة منشور شخص ما على الفيس بوك يقول فيه: " لن تحدث معظم حالات الاغتصاب لو أن الفتيات احتشمن في الملبس، فنحن لسنا الغرب" سأقوم بتثبيت دوباتا على الكورتا. سأكف عن الحديث إلى الرجال في العمل ولن أركب الحافلة. سأقول لنفسي ليست مشكلة كبيرة. وسأنسى كل شيء يومًا ما، في بعض الأحيان سيجعلني أشعر بتحسن.

(تمت)

***

................................

المؤلفة : كووالي مانيكافيل /  Kuzhali Manickavel كاتبة هندية تكتب بالإنجليزية. ولدت في وينيبيغ، مانيتوبا، كندا وانتقلت إلى تشيدامبارام، تاميل نادو، الهند في الثالثة عشرة من عمرها. تعيش حاليًا في بنغالورو، كارناتاكا. لها مجموعتان من القصص القصير مشهورتان: الحشرات مثلك ومثلي تمامًا باستثناء أن البعض له أجنحة و الأشياء التي وجدناها عند تشريخ الجثة.

بقلم: فيفيان لودفورد

ترجمة: صالح الرووق

***

أحيانا يأتي زبون قبل موعد الإغلاق بست عشرة دقيقة، ويتوجب على الفراشة أن تعتني به في كل الأحوال. في هذا اليوم دخلت امرأة أمريكية - شابة وجميلة ومن الواضح أنها سائحة، وإلا ما كانت في نانجينغ رود على الإطلاق - كان الوقت 11:44 بعد الظهيرة، وطلبت ساعة مساج كاملة لتدليك جسمها. وبدأت الفراشة تخبرها أنهم يغلقون بتمام منتصف الليل، ولكن جاء جيري بابتسامته البيضاء والعريضة التي تغطي وجهه، وقال بإنكليزيته المتعالية: "من فضلك، من هذا الطريق"، ثم تقدمها في الممر. تنهدت الفراشة، واستبدلت ثيابها، وعاودت ارتداء البذة. فهي لا تمانع ذلك. أن تبقى هنا وهي تدلك الظهور أفضل من العودة إلى الشقة، والجلوس في الظلام، بينما المدلكة الأخرى تدخن وتقلب في هاتفها حتى تسقط بالنوم. كانت تكره العزلة. كل تلك الغرف الصغيرة المتكومة على طول ممر ملتف وضيق. ويتوجب على الفراشة أن تمر بكل واحدة منها، وتتفحص كل سرير وغرفة، حيث يختبئ الكثير من الأشباح في الظل المخيم. كانت الفراشة تعلم وهي تطفئ وراءها الأنوار أن الظلام سيبتلعها عما قريب.

وجيري الآن في إحدى الغرف الخلفية، يشطف وينظف بصوت مسموع. كان يوم ثلاثاء، والعمل بطيء. المدلك الآخر رحل برفقة السيد وونغ. حملت الفراشة آخر منشفتين نظيفتين من الرف، ومدت يدها في علبة الغسالة بحثا عن منشفة مستعملة، تبدو لها معقولة. ثم أخذت علبة سراويل صغيرة تستعمل مرة واحدة وزجاجة زيت ياسمين طازج، وحملت كل شيء على صينية إلى الغرفة 23. وتمنت أن لا تحاول الأمريكية تبادل الكلام معها. ليس لأن الفراشة لا تعرف اللغة الإنكليزية - فقد درستها بما يكفي في المدرسة، وتأكد جيري أنها تعرف العبارات الأساسية لتتعامل بها مع الزبائن: الانعكاس، التدليك بالأصابع، النسيج العميق، الضغط كبير؟. والأهم ليس لدينا تدليك خدمة جنسية هنا. حينما وصلت إلى الغرفة، سألت الأمريكية مباشرة بنبرة خفيفة وبلغه صينية مثالية، إن كان بمقدورهم رفع درجة تيار مكيف الهواء قليلا. ردت الفراشة: "طبعا". وبعد أن ضغطت جهاز التحكم الخاص بوحدة التكييف الموجودة في الأعلى، سألت بهدوء أشد: "كيف تأتى لك أن تتكلمي بلغة صينية جيدة؟". في غضون ذلك تعرت الأمريكية وارتدت سروالا يستعمل لمرة واحدة، واستلقت ووجهها إلى أسفل، على طاولة التدليك. سكبت الفراشة زيت الياسمين وبدأت بالتدليك كأنها تعجن.

درت الأمريكية اللغة الصينية في المدرسة، ولكن أيضا كانت أمها من تايبي. فكرت الفراشة: شيء معتاد. وفكرت كم كانت هذه التايوانية جميلة وممتلئة بالنشاط لتختلس زوجا أمريكيا. وماذا كانت تفعل في شنغهاي؟. طبعا كانت تدرس. التاريخ واللغة - الماندارين. لفصل واحد فقط.

قالت الفراشة بنعومة: "لا بد أنك ذكية". ضحكت الأمريكية قليلا - بصوت رنان ومرتفع - ثم تنهدت بعمق على طاولة التدليك، حينما ضغطت الفراشة على عمودها الفقري.

في ذلك الصباح تلقت للفراشة رسالة نصية. وتعرفت على الاسم فورا. وشعرت بمعدتها تسقط منها. كتب الرجل لها: "شون -ي. أنا هونغزي. هل كلمت وينسي مؤخرا؟".

ما أن قرأت الفراشة اسمه، حتى علمت بوجود خطأ. ولكنها لم ترد. تركت هاتفها حوالي ساعة وهي مستلقية في الفراش، تنظر بعينين فارغتين بالسقف حتى نهضت البنت الأخرى، ثم اغتسلت، وارتدت بذتها، وقادت السيارة إلى السبا، وهناك تناولت إفطارها المكون من حليب الصويا والكعك المحلى المقلي - وهو شيء نادرا ما تتذوقه. وبعد أن انتهت من إفطارها المشبع، شعرت بسعادة الامتلاء والعافية، نظفت الذرات الدسمة من فمها، ثم كتبت الرد.

"كلا. ماذا حصل؟".

جاءها رد هونغزي فورا: "وينسي رحلت. غادرت قبل يومين".

سألت الفراشة: "وماذا جرى؟. ماذا فعلت؟".

لم يرد هونغزي على السؤال بشكل مباشر. ولكن أرسل سلسلة من الأسئلة الجديدة، وكل منها أطول وأكثر حنقا من سابقه. "هل قالت شيئا؟ هل تبادلت معها الكلام في الشهور القليلة المنصرمة؟ هل قالت شيئا عن رحيلها أو هل تكلمت عن مكان يمكن أن تستقر فيه؟".

وردت الفراشة بصدق: "كلا". وهكذا توقف هونغزي عن التعليق.

لم تكلم الفراشة وينسي منذ ما ينوف على عام، ويعود ذلك إلى ما قبل مغادرة سونغيانغ. وطبعا فكرت بصديقتها، وتكلمت معها بواسطة "وي شات" لعدة دقائق - عن زهور الباحة الخلفية، الإبريق الناعم ذي النقوش الفنية، وصورة شخصية مع زوجها الجديد وهو يبتسم ابتسامة ناصعة في مركز المدينة المضاءة. وكانت الفراشة تحب الصور، وغالبا ما تعلق عليها، أو ترسل سلسلة زهور وردية اللون. ولكن بعد شهور دون استجابة، أصبح ذلك شيئا لا يطاق، ثم توقفت عن التواصل مع وينسي. وحينما غادرت الفراشة في النهاية سونغيانغ وانتقلت إلى شنغهاي ألغت اسم وينسي من هاتفها، وتخلصت من احتمال وعذاب متابعة ما استجد في حياة صديقتها القديمة المزدهرة.

تقابلتا قبل عامين، في المطعم السيشواني حيث بدأت الفراشة عملها بعد الانتهاء من المدرسة الثانوية. وجاءت وينسي بعدها بثلاث شهور، وأتت لتعيش مع خالتها بعد أن رحلت من بيت أبيها في بكين. فقد رفضت أن تتعارف مع الرجل الذي اختاره لها.

قالت وينسي لها في أول ليلة جمعتهما في ذلك المطعم: "كان بدينا ومنفرا ورائحته مثل سمك ميت". كان رأساهما وذراعا كل منهما متلامسين وهما تنظفان الطاولات والكراسي. وتابعت: "لماذا يجب أن أتعارف معه مع أنني أعلم مسبقا أنني لن أقترن به؟. هذا هدر للوقت". كان لون وينسي ناعما وحليبيا، وأطرافها طويلة، وقامتها مستديرة وتريح النظر، وشعرها ورموشها سوداء، وهو ما يذكر الفراشة بعجل رقيق. كما أنها قادمة من عائلة جيدة - عاش أبوها في الريف قبل ان يعمل في معمل لإنتاج أجزاء المركبات، وكانت أمها تدير منصة لطعام الإفطار قبل أن تتوفى بسرطان الصدر منذ عدة سنوات. ويشاع أن دم وينسي مختلط، وأن جدها الأول قس فرنسي، ولكن من يستطيع أن يتأكد. وبغض النظر عن ذلك يبدو من الواضح أن الزواج الجيد قد يحسن من أوضاع عائلتها على نحو ملحوظ.

كشفت وينسي نفسها. وأثبتت أنها شرسة وغير متوقعة. وحينما يكون الزبون متهورا أو لا يطلب ما يكفي من الطعام، تهمله وينسي علنا. وإذا رد بعجرفة تشتمه عليه مع إجابة مهينة: "النظرة تكلف ألف يوان، أيها التافه". ثم تتابع طريقها، بهدوء وتعمد، كما لو أن شيئا لم يحصل. وفي كل مرة كانت الفراشة تتعجب من ذلك وتخشى على صديقتها الجديدة. لم تكن الفراشة قادرة على كشف نفسها هكذا، وحينما تشاهد غضب وينسي دون تستر تشعر بالقلق. ولكن إذا شعرت وينسي بأي شيء قريب من ذلك القلق، لا تعلن عنه. كانت تسير في العالم كما لو أنه مدين لها، دون أن تطرف عينها أمام رغبتها.

لاحظت الفراشة في غرفة التدليك كيف كان جسم الأمريكية ناعما، ومؤخرة رقبتها مسمرة وطرية. حقيبة جلدية رقيقة في الزاوية، ولفاح حريري يتدلى على كرسي. وهي تخفض يديها، تدلك العضلات ببطء، كما تعلمت، تخيلت الفراشة عشاق المرأة، والطريقة التي يلمسونها بها. وأمكن الفراشة أن تتحرى أصغر شق في أعضائها السرية، وكانت تبدو، كما يمكن للفراشة أن تقول، ناعمة ومضغوطة بأناقة. كيف يكون شعور الرجل وهو يخترق هذا الشيء؟. هل الجنس لديهم أكثر تمدنا؟. أجمل؟. أم أنه مرتبك كما هو الحال مع جيري حين تستسلم له كلما ضجرت أو أكثرت من الشراب أو كانت وحيدة؟.

تعلمت في مدرسة ابتدائية أن الجسم يرمم نفسه كل سبع حتى خمس عشرة سنة. والآن حتى جلدها يتوالد: وفي غضون أسابيع سيكون غشاء جسمها جديدا. تخيلت الفراشة، في غرفة التدليك، أنها تطوي نفسها لتكون صغيرة بما يكفي حتى تتمكن من التسلل إلى رحم البنت. وستنتظر فيه تسعة شهور، ما يلزم من وقت لتعيد خلق كل خلايا جسمها. ولو توجب عليها وفعلت ذلك - ستنتظر مطوية في الظلام اللزج والدافئ لشهور، أو عقود. وحينما تظهر ستبدو بالضبط كما هي الآن، ولكنها نظيفة من كل شيء وضمنا ذاكرتها. ولكنها ستتذكر أساسيات الجمع والطرح، طبعا، وحتى بعض الموضوعات الأكثر تعقيدا مثل الضرب والتقسيم. وسيمكنها القراءة، وكيف تنظر يمينا ويسارا قبل أن تعبر طريقا مزدحما، وكيف تحضر وجبة خفيفة من الأرز والخضار. ولكنها ستنسى كل الخصوصيات. ستكون معارفها كلها قد انفصلت عنها، كما لو أنها برنامج، دون أي سياق معقد. ستتحول إلى إنسانة بسيطة، وستتقدم في العالم مثل سمكة صغيرة، وضعيفة مثل اليوم الذي ولدت فيه.

وفر لها جيري عملها. وذلك بعد عام من رحيل وينسي. كانت الفراشة تنظف في أحد الأيام الطاولات حينما لاحظها جيري وقرر أن يصنع منها نجمة. عموما هذا ما قاله، قبل أن يحملها على دراجته النارية في أعقاب الانتهاء من عملها. ليقودها إلى مسكنها، وهو مجرد فراش مستأجر ممدود على الأرض. وطلب منها أن تحزم أمتعتها، ولم تكن كثيرة، ووعدها بغرفة في شقته وبألف يوان في الأسبوع، مقابل تدليك الظهور. وأخبرها أن تختار لنفسها أي اسم إنكليزي تريده. ثم قال لها: "لماذا لا تطلقي على نفسك اسم فراشة؟". وغمزها وهو يقول: "فهي شيء جميل مثلك".

لم يخبرها أحد من قبل إنها جميلة، ولا حتى وينسي. ولم تشعر أن أحدا يهتم بها على الإطلاق. كان لونها باهتا ولكنه ليس أبيض، وهي ناعمة ولكن ليست نحيلة. وربما لو توفرت لديها النقود، والوقت لتطلي وجهها بمطريات معطرة، وتجعد شعرها، وتكسي نفسها بثياب غالية الثمن، لأمكن القول عنها إنها جميلة. ولكن كانت الفكرة تختفي لحظة ترى شكلها المهمل في المرآة. وكانت معنية أساسا بالتخلص من حروق أصابعها وساعديها بسبب الزيوت التي تتطاير من المقلاة، والرائحة التي تفوح من ثيابها بسبب الدهون الدسمة، مهما حاولت تنظيفها. بعد ساعة من لقائهما، كانت قد تربعت على مؤخرة دراجة جيري، والريح تلطم وجهها وشعرها، وبودونغ تلمع من بعيد. وتبين لها أن تدليك الظهر لا يكسبها ألف يوان في الأسبوع، كما أن الفراشة لم تكن خبيرة. كان في شقة جيري عدة غرف صغيرة، وكلها محجوزة بوعود مماثلة، ولذلك شاركت الفراشة غرفة مع بنتين أخريين، وكلتاهما من ووهان. كما أنها لم تكن شقة جيري - ولكنها ملك للسيد وونغ، وكان يعيش في مكان آخر، ومن المفترض أنه يقطن في بيت من ثلاث طبقات، خارج المدينة. ولكن ما أن باشرت الفراشة العمل، حتى كسبت بعض النقود، بما يكفي لتعيش. وكانت المدلكات الأخريات رقيقات معها، إنما لم يكن هناك مهرب من بعض الإشكالات، لا سيما بوجود عشر بنات في شقة واحدة. غير أن الفراشة لم تورط نفسها ولم تفكر بخطة. وكانت ببساطة وطيلة أربع سنوات تنجرف ببطء مثل أعشاب البحر بانتظار فرصة أخرى تكتشف موهبتها، وتحملها معها بعيدا. في بداية عهد صداقتهما، فكرت الفراشة - أولا بحذر، ثم بهمة أكبر، وسمحت لنفسها أن تطبق فكرتها - أنها وجدت وينسي شريكة معقولة، وأنه بمقدورهما إنفاق سنوات العمر وهما تنجرفان معا في مهب الريح. كانت وينسي تكره الانفراد بنفسها، وغالبا ما طلبت من الفراشة أن ترافقها حتى لو أن الرحلة لدقائق - مهمة عاجلة إلى مستودع في الأسفل، استراحاتها (الطويلة والمتعددة) في الخارج هناك. وكانت وينسي تحب أن تتمشى بتمهل في المخزن القريب، وهو مكان زارته الفراشة لمرة واحدة من قبل، وسريعا ما جرتها وينسي معها، وتقريبا كل ليلة. معا كانتا تتجولان بين عروض الثياب وأدوات المنزل التي تغطي الأرض كأنها حظيرة للماشية، وكانت وينسي تتنقل في المكان كأنها تمتلكه، ثم تتنهد وتتأوه كلما قلبت بين يديها الملاعق الوردية الصغيرة وحقائب وأقواس الرأس المصنوعة من الجلد الصناعي. وكانت الفراشة تحب رؤية يدي وينسي وهي تتحرك بين الأشياء، مثل سمكة تسبح، وتعرف ماذا تلمس.

في بعض الليالي كانتا تتجولان دون هدف في أزقة المدينة، وتمران تحت غسيل العائلات، وخلال رائحة نفاذة وأصوات نساء طاهيات ورجال يدخنون أمام المداخل. كانت حياتهما تترك علامة في الليل المظلم. وأحيانا تتسلل وينسي إلى باحة مجمع شقق ساحرة، وتترك الفراشة واقفة بقلق عند البوابة. ثم تناديها: "ارجعي". وسريعا ما تيأس من إقناع وينسي، الجالسة قرب بركة أو بين أزهار الحديقة. وتسألها وينسي: "هل أنا جميلة؟. هل أبدو أنني من سكان المكان؟". ولا يسع الفراشة إلا أن تبتسم لصديقتها، صديقتها الجميلة التي تبدو وكأنها فعليا تعيش هناك، يمكنها أن تعيش في أي مكان وتجعله لها، وهكذا كانت ممتلئة بالحياة والجمال.

وظهر هونغزي بالتدريج، ثم كله. أخبرت الخطابة والد وينسي فقط أن هونغزي يحضر لدرجة الدكتوراه في الفيزياء في مينيسوتا، وقد تعب من حياة العزوبية. وقفت الفراشة ووينسي خارج المطعم بعد وقت الإغلاق، وكتفا كل منهما محدودبان بسبب البرد. قالت وينسي: "أنفه مسطح وهو مضجر وربما لديه خازوق في مؤخرته. ولكن أعتقد أنه يمكنني أن ألهو بعقله لعدة أسابيع". وامتصت برتقالها بنهم، وكانت تقضم الحز بأسنانها.

طيلة الشهور التالية القليلة سخرت الفراشة ووينسي من هونغزي، ومن رسائله الطويلة التي يكتبها بإخلاص كل صباح. كان يستعمل عبارات لم تسمع بها الفراشة، مثل "أبذل جهدي أكون نسخة من نفسي، وأتوقع من شريكتي أن تفعل ذلك أيضا". وحينما ردت عليه وينسي في إحدى المرات ببساطة بكلمة "ليلتك طيبة"، رد هونغزي مع إضافة رموز بشكل النقود: "صحبة، يمكننا رفع طاقتك لحدها الأقصى ~$".

هذه الرسائل، التي كانت وينسي تقرأها بصوت مسموع للفراشة وهما بجلسة مشتركة، وتشخران وتعولان بالضحكات، جعلت اافراشة تشعر بالحرج من هونغزي وأيضا بحمايته لها. كانت تتخيله بثيابه الفضفاضة الرمادية، في المختبر أو في المكتبة وراء كومة من الكتب الثقيلة، ويطبع بإخلاص رسائله التي تظهر على شاشة منخفضة الإضاءة، مقتنعا أن التكنولوجيا ستنقلها عبر الصحراء والجبال والبحر إلى سونغجينغ، وهو على ثقة تامة أن وينسي موجودة هناك، خلف شاشة أخرى، وتستقبل كلماته. وفي الليل يستلقي في غرفته الباردة في مينيسوتا، ويفكر بوينسي التي تجتهد لتحسن من وضعها كما نصحها.

ولكن كان لوينسي تفكير آخر. كررت: "رفع طاقتك لحدها الأقصى". وكان صوتها ثاقبا كأنه لطفل اعتادت على تقليده.

قالت للفراشة: "بالتأكيد لديه طموح".

التفتت إلى الفراشة وهي تحضن وجهها بيديها: "يريد أن يستعبدني".

وصاحت: "شون- يي*. عديني إذا وقعت بالحب مع شخص مثل هونغزي أن تقطعي رأسي فورا. أو عنفيني أولا. واتركي لي فرصة لاستعادة نفسي. وذكريني أنني روح حرة".

قالت الفراشة: "طبعا. أنت امرأة عصرية. ولن ينال منك أي رجل في مينيسوتا".

صاحت وينسي بتهكم: "تحتل النساء نصف السماء". ثم صرخت وهي تلقي برأسها إلى الخلف: "امرأة عصرية". كان حلقها أبيض ورفيعا. وجيب البلعوم الرقيق والصغير ينبض تحت جلدها، وكأنه مبتل بالضوء. وتابعت وينسي ردها. حينما أرسل لها وينغزي النقود لتداوم في حصص تعلم اللغة الإنكليزية لم تفعل. ولكن وعدته. كذبت واحتفظت بالنقود لشيء أهم. ثم أضافت اسمها إلى الحصص، وضبطتها الفراشة عدة مرات تتمرن على اللغة أثناء الاستراحات، وكانت تنكس رأسها على دفتر ملاحظاتها، وشفتاها ترتجفان بنعومة وهي تدمدم، ثم تقارن كلامها بالدفتر، ثم تكرر ما هو مكتوب. ولم تجرؤ الفراشة على مقاطعتها. وطبعا هناك بنات أخريات. ودائما من أماكن نائية. تذكرت الفراشة إحدى زميلات المدرسة الابتدائية - بنت بوجه ممتلئ ومستدير وذات ضحكة كصفير القطار. كانت تضحك بطريقة جميلة. ومع أنها أصغر منها كانت ضخمة. وغالبا منقطعة الأنفاس، وكان في المدرسة سلالم تغطي متاهة من ست طبقات. وكانت الفراشة تحب أن تلحق بها وهي هكذا - ورأسها يتوج السلالم الأخيرة، بجمجمة بيضاء تلمع فيها خطوط زيتية. وخداها أحمران مصبوغان بالدم وملتهبان بالحرارة. وشبهتها الفراشة بحيوان مزرعة، كبير وناعم، ومكشوف وضعيف رغم حجمه الضخم. وكانت الفراشة تمنع نفسها من مد يديها ولمسها، ثم القبض على ذراعيها البيضاوين، واحتوائها. ولم تكونا صديقتين - وبالكاد تبادلتا الكلام - ولكن كانت الفراشة تتابعها، وحزنت جدا وبالسر لأنها لم تنضم لهن في المدرسة الإعدادية. وكانت تمتلك الدمى أيضا. وهي من البلاستيك وبأطراف متحركة، بجسم وردي وصلب. وكانت البنات الأخريات تحلمن بسيناريوهات طبيعية - أمير يخطفهن ويتزوج بهن أو تاجر ثري يدعوهن لجولة تسوق في المدينة - أما الفراشة كانت تضع خططها بالسر: البنات تسبحن في بحيرة كنغاي، وتلعبن لعبة المطاردة، ثم تنطوي الواحدة على الأخرى في الماء، أو يجبرهن عم فقير على النوم معا في سرير مزدوج، ووجه الواحدة قبالة الأخرى. أو تشد وثاقهن عصابة على قضبان القطار، وهن بوجوه مبلولة، ومتعانقات قبل مرور لحظاتهن الأخيرة في هذه الحياة. وإذا لاحظت أمها أحلامها لم تكن تواصل ذلك . ولكن في أحد الأيام عادت الفراشة إلى البيت واكتشفت أن دماها غير موجودة. قالت لها أمها: "انتهى وقتها". وفهمت الفراشة معنى هذا الكلام.

حينما وصلت الفراشة أول مرة إلى شانغهاي، كان كل شيء يبدو بوفرة. أحبت المدينة. وأحبت كا يفور فيها من طاقات ونشاط، وطريقة الشعور بكل شيء كأنه مصغر نفسه، والشعور أن كل شيء لاحق يجب أن يتفوب على أي شيء سابق وأن يستمر حتى يبلغ هذه النسخة الجديدة منه. وأحبت مرأى أماكن مثل نانجينغ رود: منصة أساور الأحجار الكريمة ولفاحات الحرير والقيشاني، وبائعي الشارع الذين يحملون معهم كل شيء من العقارب المقلية حتى أصابع الزعرور المحلى التي أكلتها في طفولتها. وأحبت حوض الماء: أعمدة الفولاذ والغرانيت، والأبنية التي تعلو فوق ما تبقى في الليل، بشكلها المنذر والساطع. زارت في أول أسبوع لها هناك حوض الماء بمعدل مرة كل ليلة لتتأمل الماء الأسود، والمدينة التي ترفض أن تستسلم للظلام. وكانت تمكث ساعتين أو ثلاثا، وتطلق سراح أنفاسها، وتنظر إلى المباني والناس المحيطين بها - السياح بشكل أساسي، متحدين بمشاهد من مراحل حياتهم. رجل يأكل فقط أغلى اللحوم النيئة، مقطعة ورقيقة ومغطاة بالبصل. وآخر يدخل في برج نهر بيرل حيث يوجد فندق مهيل. كان ينام وحده في غرف مختلفة تحت أغطية حريرية سوداء، وفي شرابه رقائق من الذهب. وامرأة كانت زوجة دبلوماسي. وتستحم بالحليب كل ليلة لتحتفظ بجلدها ناعما وأبيض، وبعد كل حمام، ومنعا للإسراف، بسبب ذكائها وحسن تدبيرها اللذين سمحا لها بالصعود إلى هذا المقام منذ البداية، كانت تغذي كلابها بهذا الحليب. تخيلتهم الفراشة، عشرة أو اثني عشر كلبا من نوع سبانيال بلون كريمي، يمتصون الحليب الدافئ والكثير بشراهة، والذي له لون جلودهم. وتلبد لسانها من جراء هذه الفكرة. كان جيري يسخر منها. ويقول لها: "أنت لست إلا سائحة". ويكون قد عاد أدراجه، وبدأ ينفض رماد سيجارته على الأرض. كانت البنات الأخريات تستلقين على أي شيء مستو لمشاهدة الدراما في التلفزيون وإرسال الرسائل بهواتفهن.

تساءلت الفراشة إذا كان للأمريكية أبوان، وماذا يعملان. فكرت: ربما طبيبان، أو أستاذان في الجامعة. وكل واحد فيهما يحتل غرفة نوم خاصة به، تشرف على حديقة أمامها. كان لبيت وينسي في مينيسوتا سورا أبيض قصيرا، وشجرة كمثرى قزمة في الباحة الخلفية. كتبت لها وينسي: "كأنها حكاية خرافية. الطقس شديد البرودة هنا، أبرد من بكين. ولكن الحياة البرد ليست مشكلة. يصلب البرد عودك. فالهواء هنا نظبف جدا. ولن تصدقي كيف أن رائحته ذكية طيلة الوقت". تذكرت الفراشة عدة رسائل أخرى، ذات نغمة حزينة. مرة كتبت لها وينسي: "الحال لا نفع منه. ولن أتحسن. يجب أن أموت". سألتها الفراشة لماذ، ردت وينسي إنها لا تريد الكلام حول هذا الموضوع، وكل شيء جيد الآن، ولكن كيف حياتك في سونغجيانغ؟ هل هناك إشاعات إضافية في المطعم؟. وفي مرة أخرى أرسلت وينسي إلى الفراشة سلسلة من الرسائل الصوتية وكل منها أطول وأكثر اضطرابا من سابقتها. وكانت وينسي تهمس بكلمات تخرج من فمها خشنة وقاسية. قالت: "أشعر أنني ميتة. أحيانا أشعر أنني ملتصقة بالأرض. أخاف من الكلام أو الطعام أو النهوض. وأخاف من الخروج، للرد على الهاتف".

اعتبرت الفراشة شعورها أنه استجابة مناسبة بشكل محدود - ما شعرت به هو أسف صادق، ولكن كيف ساءت الأمور، كانت تبدو جيدة، جدا، وهل بمقدورها أن تفعل شيئا؟. ولكن طبعا ليس بيدها شيء - تعلم الفراشة منذ البداية أن رسائلها ستكون فارغة - وفعلا ماذا يمكن أن تفعله لصديقتها في مينيبوليس، البعيدة عنها ستة آلاف ميل؟.

لم ترد وينسي، لكن بغضون الشهور القليلة التالية، بدأت ترسل على نحو متواتر - صورة ىغروب الشمس أو برج مينيبوليس، أو أزهار القرع في حديقة خضرواتها، وحسب كلمات التعريف، كانت تزرعها من أجل ابنها المستقبلي، لتتمكن من توفير الفاكهة والخضار العضوية لعائلتها. وردت على رسائل الفراشة عدة مرات بكلمة "مرحبا" ثم أضافت بعض المعلومات المختصرة عن شؤون حياتها، ولكن دائما كان الرد سطحيا. وتابعت وينسي عادة مزعجة وهي انتقاد حياة الفراشة، وحضها باستمرار على اكتشاف خطة لتحسين ظروفها. وسألت في ثالث أو رابع رسالة: "ما هو هدفك؟. هل تريدين حقا أن تعملي في ذلك المطعم طيلة حياتك، وأنت تنجرفين مع التيار ومع أعشاب جافة؟". وماذا بمقدور الفراشة أن تفعل سوى استلام تلك الرسائل، والاستماع لصوت وينسي - صوت يبدو مألوفا وغريبا تماما بنفس الوقت، كانت نبرتها هي نفسها، ولكن الترابط بين الكلمات ليس هو، ولاحظت وجود وقفات وتنغيمات في أماكن غير مألوفة - وهي تكرر نفس الكلام، حتى توقفت عن مراسلتها. وقبل التوقف عن تبادل التسجيلات، تابعت الفراشة الاطلاع على موقع وينسي، وأحيانا كانت تبدي إعجابها بصورة، أو تعلق على صورة، ولكن لم تفعل وينسي المثل على صفحة الفراشة، ولم تتوقف عند صور البازلاء التي زرعتها الفراشة في برطمان أو عند صورة حساء النودل اللذيذ، أو في إحدى المرات، الأرنب المستسلم لقدره والذي وجدته على قارعة الطريق - وتوقعت أنه ميت والتقطت صورته، وجهزت نفسها لترثيه في صفحتها، ولتكتب عن ما بدا لها أنه دم لوث مخالبه، ولكن حينما اقتربت منه، نهض من رقاده، وقفز باتجاه ظلام الليل.

يوم أخبرت وينسي الفراشة أنها عائدة إلى بكين لتقابل هونغزي لأول مرة، أمطرت السماء مطرا غزيرا. أمضت الفراشة يومها بتنظيف آثار وحل ومخلفات الزبائن، وتجفيف الماء اذي تجمع في ثقوب في الأرض.

سألتها: "وماذا سيحصل بعد هذا اللقاء؟".

"لا أعلم. أعتقد إذا أعجبته سنتزوج وسأرافقه إلى أمريكا".

"تعلمين أنه معجب بك".

نظرت وينسي إلى الأرض وقالت: "ربما بدل رأيه". كانت عيناها جميلتين جدا وهما منكستان بهذه الطريقة، مثل عيني ظبية. وأضافت: "ولن أتأثر بذلك. هو يريد أن يجعلني أفضل. وهو ذكي. أضيفي لذلك بهذه الطريقة سيعيش أبنائي في أمريكا. ويمكن لوالدي أخيرا أن يتقاعد ويعيش معي في بيت مناسب".

وتطورت الأمور بعد ذلك بسرعة. وبسرعة عادت وينسي إلى بيت والدها في بكين، والتقت بهونغزي وجمعت أشلاء حياتها. ثم انتقلت إلى مينيسوتا، وحطت الرحال في مدينة تسمى مينيبوليس، وكان كل شيء يبدو بحالة ممتازة ونظيفا ورقيقا - حتى الحيوانات هناك، العصافير والسناجب والجراء، كما كتبت وينسي، كانت مهذبة، وتأكل لقيمات صغيرة من يد البشر. آخر مرة رأت فيها الفراشة صديقتها كانت خلالها واقفة على رصيف محطة القطار، جاهزة لرحلة بكين التي يبلغ طولها اثنتي عشرة ساعة، وكانت تبدو أشبه ببنت صغيرة في معطفها الفضفاض، وضائعة بين حقائبها.

حينما انتهى الوقت لم تغادر الفراشة الغرفة مباشرة. وانتظرت لعدة دقائق إضافية لتدليك ظهر الأمريكية ثم ساقيها بضربات طويلة وحذرة، لتتأكد أنها لن تنبهها من رقادها. كانت حقيبة المرأة بموضعها في الزاوية، وجلدها كان طريا ومتماسكا. وحينما مدت الفراشة يدها إلى الداخل الحريري لم تصدر أي صوت. بعد ذلك أيقظت الفراشة الأمريكية قبل أن تغادر الغرفة وتسمح لها بارتداء ثيابها. في الردهة الخارجية بدأت الفراشة بطباعة الفاتورة. واستغرقت الوقت اللازم لإنجازها، ولكنها عمليا لم تكن مهتمة بالنقود. كان جيري والسيد وونغ يقتطعان منه وهذا شيء طبيعي. مقابل بذات العمل والإيجار والتدفئة والوجبات الرسمية. وما تبقى يضاف إلى الحسابات الشخصية لكل بنت، ويدفعانه مضطرين إذا طلبته البنات فقط. باغت صوت ما الفراشة. وحينما رفعت نظرها، أدهشها رؤية الأمريكية واقفة أمام باب الردهة بكامل ثيابها. قالت لها شيئا ما بإنكليزية سريعة، ولكن هزت الفراشة رأسها وهي مرتبكة. كررت الأمريكية كلامها، ولكن بعد أن يئست تكلمت بالصينية.

قالت: "جزداني اختفى".

"ماذا تقصدين؟".

"اختفى جزداني. كان معي حينما أتيت، والآن لا أستطيع أن أجده".

تفتح الرعب مثل زهرة في صدر الفراشة، وفاض منه على أطرافها كأنه ماء حار. قالت ببطء: "أنا لم أستولي عليه".

ردت الأمريكية بسرعة وهي تدنو من الفراشة: "كان معي حينما دخلت من الباب". وفتحت حقيبتها، وعرضت المحتويات على الفراشة. علبة علكة، وأنبوبة قديمة لطلاء الشفاه، وبعض الفواتير المطوية بإهمال. وقلبت أيضا جيوب معطفها. لا يوجد جزدان. ولم يكن بمقدور الفراشة أن تفكر بأي شيء تفعله أفضل من حركة من رأسها، مع ابتسامة عصبية. ثم قالت: "لم يأخذ أحد هنا جزدانك. كنت معي طيلة الوقت"، قالت الأمريكية: "ولكن سقطت بالنوم".

وزادت عدوائيتها. وأضافت: "هو من جلد أزرق لماع. والآن لا أجده".

طلبت الفراشة من الأمريكية أن تلزم الهدوء، ريثما تتصل بمديرها، وهو سيهتم بكل شيء. استدارت الفراشة بظهرها نحو الباب، وطلبت رقم هاتف جيري، وهي تصلي لربها كي يرد. ثم أخبرته، وزاوية عينها على الأمريكية، بوجود مشكلة، وهي بحاجة لوجوده في السبا بأسرع وقت ممكن. كان صوت جيري مرهقا ولكن لحسن الحظ ليس حانقا، وقال إنه سيأتي بغضون خمس عشرة دقيقة، ثم أغلق الخط.

قالت الفراشة: "سأستغل الوقت وأبدأ بالتنظيف. سيحضر رئيسي حالا. وسيصحح كل شيء". بدأت الأمريكية بالجدال، وعبرت الغرفة بإثر الفراشة حتى بلغتا الصالة. ولكن عندما انتبهت لظلام وعدم ترحيب البناية بالناس، توقفت، وبدا عليها علامات التفكير، ثم عادت إلى الردهة. وقالت: "سأنتظره هنا".

وافقت الفراشة، وابتسمت بوهن، واختفت في الظلام. وتوجهت مباشرة إلى إحدى الغرف الخلفية، واستلقت حتى سمعت دمدمة ثاقبة تأتي من دراجة جيري النارية حينما توقف بها في الخارج. ما أن سمع جيري ما تريد الأمريكية أن تشتكي منه حتى ألقى يديه في الهواء بشكل مسرحي. وقال بلغة إنكليزية صاخبة: "متجري مفتوح منذ خمسة عشر عاما ولم يتعرض أحد للسرقة فيه. لا أحد". ثم أخذ الفاتورة التي طبعتها الفراشة من قبل وقدمها إلى الأمريكية، وقال لها بنفس النبرة التي يلوم بها الفراشة إذا أكثرت من الإنفاق: "هذه هي فاتورتك. أنت مدينة بمبلغ ثلاثمائة يوان. أو أربع وثلاثين دولارا. ومعك حرية اختيار العملة".

رفعت الأمريكية صوتها. وقالت: "كلا. أنت لم تفهمني. محفظتي اختفت. اختفت. ولا يوجد معي نقود ". وحملت حقيبتها وأفرغت محتوياتها على الأرض.

قال جيري: "هذه ليست مشكلتنا".

تحركت الأمريكية باتجاه الباب، ولكن سبقها جيري، وسد المدخل. وأوشك أن يقبض على ذراعها، ثم تردد، وتراجع إلى الخلف وكرر كلامه بإصرار: "أنت مدينة بثلاثمائة يوان. وسأستدعي الشرطة".

ثم ابتسم وباعد ما بين ذراعيه أمامه. قالت: " هيا. اتصل بهم. ليس لدي شيء أخفيه".

وقفت الفراشة في الزاوية خلال الحوار، وبصمت تمنت لو أمكنها أن تدخل بالجدار لتختفي. وتقدمت ولمست يد جيري وقالت بإلحاح وهدوء: "دعها تذهب. الأفضل أن تخسر بعض النقود. وأن لا تمر بمشكلة مع الشرطة".

تنحى جيري مرغما، ولكن ليس قبل أن يشتم الأمريكية قائلا: "سائحة لعينة تافهة". شهقت الأمريكية، وجمعت أشياءها من الأرض، وأسرعت بالخروج، وهي تقبض على محفظتها بقوة.

التفت جيري إلى الفراشة بعد أن غادرت وقال: "سأخصم المبلغ من حسابك". وافقت الفراشة. وهو ما توقعته. قال: "هيا معي لأعود بك إلى البيت". ونظر إلى دراجته في الخارج. رفضت الفراشة دعوته. كان عليها أن تغلق. وهناك مناشف يجب أن تغسلها. وزجاجات زيت يجب أن تعيد ملأها. فكر وهو يجرها نحو الباب: "يمكن أن تفعلي ذلك في الغد". لكنها رفضت ويئس جيري بسرعة، كان متعبا ولا يمكنه الجدال. وبعد أن غادر، ارتدت الفراشة سترتها، وكانت رقيقة جدا في برد الليل، وأغلقت البناء. وهي تسير في نانجنغ رود، كانت واجهة المتجر مزدحمة وساطعة، وتشع بالحبور. دخلت إلى أول مخزن واجهته - مخزن هدايا كبير وصاخب على طراز شطائر وحلويات شنغهاي. كان حافلا بالسياح الذين ينقبون بشراهة في علب المجوهرات الكريمة الرخيصة ومنحوتات القصب. توجهت الفراشة إلى الحلويات: معجنات بالسكر ونكهة الورد، سكاكر بشراب فستق الصنوبر، وأصابع بذور السمسم مع العسل. اختارت أربع أو خمس علب مختلفة من النوع المفضل لديها، ثم دفعت ببطاقة ائتمان المرأة الأمريكية. ولكن حالما وصلت إلى ثالث متجر، لم تقبل البطاقة. لم يكن قد تبقى نقود، لكن الفراشة لم تحزن. تناولت الحلويات التي ابتاعتها، وهي تمشي عائدة إلى البيت على طول ضفاف الحوض المائي. وهي تمشي شعرت بهاتفها يهتز ويرتطم بأضلاع صدرها. لم يتوقف منذ غادرت السبا. أخرجته من معطفها، ومدت يدها به. ولاحظت أن الجهاز سجل تسع مكالمات وردت من هونغزي مع عدد أكبر من الرسائل. هل هذا دليل على الرغبة؟. حاولت الفراشة أن لا تقرب الجهاز منها كثيرا، ومسحت عداد المكالمات من الشاشة. ثم ألقت به في النهر.

في آخر رسالة "وي شات"، أرسلتها وينسي قبل عام، كتبت: "كلما فكرت بك يغمرني الحزن. كل شخص تعرفت عليه في الصين يعيش حياة صغيرة من هذا النوع. ألا تعلمين أنه يوجد الكثير من الاحتمالات المتنوعة هناك؟. وألا تعلمين أنك لن تحصلي على أي شيء ما لم تمدي يدك وتغتصبينه".

وأرادت الفراشة أن تقول لها: ألا تعلمين أنه كان بمقدورنا أن ننعم بالسعادة ونحن نتابع حياتنا معا؟.

كانتا في حالة كفاية. ويمكن للفراشة أن تلاحظ ذلك الآن. كل تلك الأيام المضيئة الطويلة انتهت بسواد الليل. الضحكات المشتركة، والأيدي المتماسكة ولهفة الأنفاس والجسد والمطر، كان العالم واسعا ورحبا بينهما. مضى على ذلك فترة طويلة كما يبدو، ولكن يمكن للفراشة أن تستعيد ذاكرتها القديمة بسرعة وتضعها في مقدمة ذهنها، حتى تكون مثل طبقة رقيقة تغطي العالم الذي تراه أمامها. وهذا كل ما أرادته، والآن هي تتذكر أمورا كثيرة - مداعبة جسم وينسي الحريري بلسانها، وكيف كان فمها ناعما وطريا، مثل ثمرة ناضجة. وكيف سمحت في غضون لحظات وجيزة بعد ذلك للفراشة أن تعانقها - أن تلمس وجهها، وتناديها يا عزيزتي. وكيف قفزت فجأة في أعقاب ذلك، ورأت طيات معدتها وهي تنحني لترتدي ثيابها، ثم البرد والقشعريرة المباغتة في غيابها. وكيف مدت الفراشة يدها، في اليوم التالي في المطعم، لتلمسها، فارتجفت وينسي كأنها تحترق. وأنهت وينسي رسالتها الأخيرة، كانت طويله ومكتوبة وليست صوتية، بفكرة مقلقة وغريبة جدا، ولم تتفهمها الفراشة بعد أول قراءة. ورد فيها: "سيعيش أولادي في أمريكا. هنا المدارس جيدة، ويعلمون الأطفال الإبداع منذ وقت مبكر. وسيصبح أولادي معماريين أو جراحين أو رجال أعمال، أو شيئا آخر لا يرقى علمنا له حتى الآن، فالعالم في أمريكا مفتوح. وأنا أريد أن أتحرر منك، لأركز على مستقبلي عوضا عن أن تجريني إلى الماضي. من فضلك لا تتصلي بي بعد الآن".

وقفت الفراشة في شنغهاي على الرصيف، تنظر إلى الماء الأسود حيث ألقت هاتفها، وباشرت بالتهام السكاكر دون تمييز. في الغد ستشتري غيره. وستبتاع شريحة، وتحصل على حساب جديد. في النهاية ستزحف لتخرج من جسمها الذي ولدت فيه، وتتحول إلى امرأة من اختيارها. ولكن الآن يمكنها أن تنتظر. دست الفراشة يدها في كيس السكاكر، واختارت قطعة طرية ثم أخرى صلبة، وسمحت للقوامين المختلفين أن يمتزجا معا في فمها. كان الوقت متأخرا ولكن كان حولها أناس يتجولون: سياح بدينون ومخمورون يضحكون وهم على الممشى. نساء بأثواب وبالكعب العالي. بنات صغيرات تتمسكن بأمهات سمراوات من الريف ويبعن الورود. على الطرف الثاني من الشارع أمكن الفراشة أن ترى رجلا يساوم بصوت مرتفع على مروحة ورقية قائلا: "هذا كثير. هذا كثير". وتابع الجدل مع البائعة، وهي واحدة من عدة نساء يمشين على الرصيف، ويحملن علب التذكارات الثقيلة التي تتدلى من حبل ملفوف حول عنقها. وكانت شريكته، وهي بنت شقراء رقيقة، تقف خلفه، وتضحك وتجره بعيدا، وهو يتابع نقاشه مع البائعة. نظرت الفراشة إلى الرجل، بسترته الصوفية، وحذائه المريح للنظر. لو قابلته في طريق مزدحم، ولو كانت وحيدة، ولو أنها أصغر بالحجم والعمر، إنسانة يمكنها أن تتسلل بسهولة أكبر، لربما انتشلت منه جواز سفره وهاتفه من جيبه. ولو أنه رجل كبير، أو أنها امرأة أكبر أو أصغر بالعمر، لكانت الأمور أوضح، وإن كانت محتاجة وجريئة جدا، ربما أوقفته، وأشهرت سكينة طويلة، وطالبته بما يحمله من أشياء ثمينة. وإذا كانت فعلا شجاعة وحانقة، وإذا شعرت أنه يستحق ذلك، لطعنته حتى تتدلى أحشاؤه أمامه مثل المرق. وستتلوث من جراء ذلك، طبعا - سيتسخ شعرها وثيابها - ولن يحتاج الأمر أكثر من هراء كأنه غسل طعام أو تراب. هل يتسبب مصدر الفوضى بالقلق؟. والنتيجة دائما واحدة: تحمل البرد، صب الماء، وحك الجسم، ثم تعودين للظهور، نظيفة وطازجة، حتى تتلوثين ثانية. استسلم الرجل على الرصيف وأعاد المروحة وألقاها في علبة المرأة، ثم ضحكت صديقته وانصرفا معا. شتمتهما البائعة بخشونة. ثم بدلت اتجاهها لتقترب من مجموعة سياح آخرين، وأعلنت عما لديها بصوت مرتفع وبناتي. كانت شنغهاي تغوص تحتهم بمعدل عشر ميليميترات تقريبا سنويا. وسيتسارع ذلك في السنوات المقبلة كلما زاد بناء الأبراج ودفع المدينة لمسافة أعمق في المحيط. في كل مكان الأشياء تتبدل. في بكين سقطت امرأة على الرصيف في حفرة مياه تغلي. وبكى زوجها على شاشة التلفزيون، وهو يحمل ابنتهما البالغة من العمر سبع شهور. أرسل الناس روابط، وكتبوا تعليقات عن مدى أسفهم. ثم لم يحدث شيء. باستثناء تغطية الحفرة. في ذلك الشهر نفسه، اختفت ممثلة بعد اتهامات بالغش في الضرائب. واستمر الحال طيلة سنة، قبل أن تظهر في صباح أحد الأيام، مضعضعة وشاحبة، في شارع مزدحم في مدينة عاشت فيها في أيام صباها. وعلى الفور أتت إليها الصحف ومحطات التلفزيون. هل اعتقلتها الحكومة؟. هل حقا أنها اختلست من البلاد عشرات الملايين من الدولارات؟. وهل أجرت جراحة تجميلية لفكها ليبدو أصغر أم أنها ببساطة فقدت وزنها؟. منحت لجميع الصحافيين والمصورين اهتمامها الذكي بالتساوي. ولكن لم ترد على أسئلتهم إلا بجواب متكرر مع تبدل قليل بالنبرة والنغمة ودرجة الصوت أو دون أي تبدل إطلاقا: "بلا سياسة الحزب والدولة الحكيمة وحب الشعب لن يكون لدينا جمال وهناء كما أنا الآن".

في الجانب الآخر من البلد، خرج مليونا متظاهر إلى الشارع، يحملون الإشارات والرموز ويرتدون قمصانا خفيفة، ويطلقون شعارات حمراء، ومعهم مظلات للاحتماء من حر الشمس. ثم جاءت الدبابات، وأطلقت عليهم النار وقنابل الغاز المسيل للدموع ليعودوا إلى بيوتهم. عاد المتظاهرون يرتدون أقنعة الغاز والنظارات والخوذ، مع جعب محشوة بالأطعمة، وتعرضوا لإطلاق النار وقنابل الغاز مجددا، وألقي القبض عليهم، وأجبروا على العودة إلى البيت. وفي الشقق التي كانت فوقهم، جهز الناس الإفطار، ومارسوا الحب، وغسلوا الأطفال في الحمامات. وتشاحنوا وتصالحوا وتشاحنوا مجددا. رجل يرتدي معطف مطر أصفر، نشر رايتين حمراوين كبيرتين، وقفز من مجمع تسوق. وكتبت امرأة على جدار عتبة السلم، بقلم أحمر وأرسلت صورة ذلك عبر إنستغرام. ثم قفزت من بناء شقتها. امرأة أخرى قفزت في اليوم التالي، وتبعها رجل آخر بعد ثماني عشر يوما. علمت الفراشة بالقليل من ذلك لاحقا، وهي تتصفح الحكايات والأخبار في هاتفها الجديد، خلال الاستراحة من العمل، وحين كانت في طريقها إلى العمل، أو في الليل وهي تحاول أن تنام. وكانت الأخبار مدعومة بصور جديدة من زملاء العمل وأقارب بعيدين ومشاهير تتبعهم: كانت تشعر بوخزة الألم أو الانفعال مع كل خبر، ثم كان شعورها يتبدل إلى غيره وهي تنتقل إلى خبر آخر. أما ما تعرفه عن ؤقين وبالتفاصيل هو حياتها الحاضرة - الحياة الممتدة أمامها مباشرة عن موضوعات محسوسة وصغيرة. كانت تشعر بالنسمة الباردة والرطبة تلفح وجهها، وضيق بذتها، وشعرها الزيتي والمجدول. آلمتها قدماها. وشعرت بشيء رطب في سروالها الداخلي، وضعت أصبعها لتتفحصه: كان هذا موعد حيضها الشهري.

في تلك الليلة، تعرقت الفراشة على الفراش الرقيق بين بنات من ووهان، وارتجفت في نومها. بالعادة تنام دون أن تحلم، بعمق ودون منغصات مثل الرضيع. في تلك الليلة اهتزت الفراشة. قبضت على الجزدان بقوة تحت وسادتها وحلمت بكل الأشياء التي ابتاعتها، وولدت بشكل إنسانة مختلفة تماما.

*ياعزيزتي

***

....................

* فيفيان لودفورد Vivian Ludford كاتبة أمريكية. تحمل إجازة في الأدب المقارن من جامعة برينستون.

* ترجمة صالح الرزوق / عن ناراتيف الأمريكية.

روبار ديسنوس

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

صوت، صوت قادم من بعيد جدّا

لا يرنّ في الآذان

صوت مثل طبل، من وراء حجاب

يصلنا مع ذلك بوضوح.

رغم أنه يبدو منبعثا من قبر

لا يتحدّث إلاّ عن الصّيف وعن الربيع.

يملأ الجسد غبطة،

ويضيء الابتسامة على الشفاه.

*

أَسمعه. ليس إلاّ صوتا بشريا

يخترق ضجيج الحياة ومعاركها،

قصف الرعد وهمس الثرثرة.

*

وأنت؟ ألا تسمعه؟

إنه يقول " سيكون الأسى قصير المدى"

إنه يقول " اقترب الموسم الجميل".

ألا تسمعه؟

***

...................

* روبار ديسنوس "وطن" ( 1936-1940)

 

في ذكرى رحيل الشابي:

ورغم ألم الذّكرى رفرفت روحه ثمّ حطّت على كتف القلب منّي.. وتخليدا لفكره التّنويري وإجلالا لرغبته فقد قمت بترجمة قصيدته البديعة: صلوات في هيكل الحبّ

***

Prière au temple de l'amour

Exquise tu es !

Comme l'enfance

Comme les rêves

Comme une mélodie

comme une aube d'été

*

Comme un ciel étoilé

comme une nuit enlunée

Comme les roses

Comme le sourire

D'un nouveau-né

*

Quelle douceur !

Quelle splendeur !

Quelle tendresse !

Quelle fraicheur !

*

Et cette pureté

Qui te révère en Diva sacrée

Une rose idillyque

Qui pousse en plein rocher

*

Que pourrais- tu être ?

Vénus qui revient en pavanant

Semer la joie et l'amour

Dans ce monde malheureux

Ou l'ange qui accourt

Parsemer la paix d'antan

*

Une fresque

D'un artiste ingénieux

Belle mystérieuse

En liturgique tabou

Une aurore magique

Pour guérir mes chagrins

Embellir ma vie

et luire dans mon destin

Tu es le zeste des roses

Dansant le plein printemps

Annonçant l'existence

En sublimes chansons

Marchant aux pas mélodiques

Aux rythmes lyriques

Me ressuscitant vers la vie

Aprés mon triste déclin

*

Me défonçant d'amour

Je devins rossignol

Tu me ressuscites

Aprés mes déceptions

Vers l'art de la vie

Et ses vastes dimensions

*

Aprés m'être de tout dégouté

Tu es la chanson des chansons

Du dieu des chansons

Tu es la jouvence adorée

Ornée de tous les charmes

Tu es la saveur des arômes

Une beauté dansant l'âme

Enivrée des mélodies

Débordant de musique

Parfumée de mille rythmes

*

Tu es la splendeur de la vie

Et l'aube radieux du printemps

Tu es douceur de l'aube fier

Tu es l'attrait du printemps

Tu es renaissance de la vie

*

Tes yeux scintillent

De tous ces charmes

Tu es chants , rêves

Faste magique et fantaisie

Tu débordes l'ordinaire

Tu es ma confession

Mon éternité et mon sanctuaire

*

Ô fille des lumières!

Je suis seul à bénir ta splendeur

Laisse-moi alors vivre cette ardeur

De l'art de la beauté

De l'inspiration et de la pureté

*

Tel un moine sollicitant son Dieu

Pour la paix de son âme épuisée

Aie pitié de mon être  abimé

Délivre-moi de mes lourdes peines

Détache mes liens

Eclaire mon obscurité

*

Réchauffe mon coeur refroidi

Pour retrouver mon bonheur perdu

Je chanterai avec toi l'espoir

Je chercherai de nouveau ma gloire

*

Ô belle rose !

Si tu savais combien j'ai changé

Tout un monde sublime en moi se crée

Des astres lumineux

Qui luisent dans mes cieux

*

Un printemps ivre

comme les rêves juvéniles

D'un poète heureux

Un paradis égayé

Que l'automne ne peut approcher

*

Des rossignols féeriques

En harmonieuses mélodies

Des châteaux aux couleurs du crépuscule

Aux sourires de l'aurore

Des nuages doux qui parsèment

Le ciel en fragrance de fleurs

Et une vie poétique qui est

Mon eden éternel

*

Tout cela grâce au charme fascinant

De tes yeux et ton éclat divin révéré

Ne détruis dons pas mon paradis

Ne ruine pas mes espoirs

Grâce à toi je retrouve ma vie

Même le  Dieu dans sa grandeur

Tolère aux prosternants

Poème de Aboulkassem Echebbi

Traduction de Zohra Hawachi.

***

.........................................

* من مجموعة: شعراء من تونس.. شهداء في سبيل تونس.

ابو القاسم الشابي أو بلڨاسم الشابي كما يحلو لي أن أسمّيَه رحل عنّا وهو في ريعان شبابه وأوج عطائه (25سنة)، ذلك النّبيّ المجهول الذي كان فكره يتدفّق بالثورة ويبشّر بالتنوير  حاملا  شعلة الإنعتاق تماما مثل الطّاهر الحدّاد في تلك الفترة العصيبة ، مستنكرا على أقفاص الجهل والنّمطية الجوفاء تصلّب فكرهم ودحرهم للذّكاء والعقل وليس أدلّ على ذلك من قصيدته النّبيّ المجهول التي لم تحظ بعد بسبر أغوارها والتغلغل في مراميها.

رحل بلڨاسم الشّابي وفي قلبه حسرة على عدم إتقان اللغة الفرنسية مثل صديقيه الحليوي والبشروش وهو المتأثّر مثلهما بالمدرسة الرومنطيقية .

 لم يترك له المرض الفرصة ليقتحم لغة بودلار ولامارتين الذين كان معجبا بهما فيبدع ويتألّق .

 

بقلم: كارولين فورشيه

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

 ***

القصيدة المفقودة

انني ابحث عن قصيدة قرأتها قبل سنين. ظننت ان كافافي كتبها، لكنني قرأت كل اعمال كافافي مرة أخرى ولم استطيع ان اجد هذه القصيدة. لا اتذكر العنوان، ولكن ثمة طريق في القصيدة، وجسر ومدينة قرب البحر. ثمة ارواح عديدة واشتهاءات وتين وعفاريت وصمت خيالي، وعبارات خفية لها علاقة بلقاءات سرية. يقال ان القصيدة كتبت على صفحات حلم غير مقتطعة. في احدى نسخها، تنمو اشجار الزيتون في الدخان الا ان الجسر يبقى شاخصا. في أخرى تنفقد المدينة نفسُها، ولا يوجد طريق. اذاً فهي قصيدة حرب، ولهذا السبب فانها لا توجد في الأعمال الكاملة لكافافي.

***

...............

كارولين فورشيه: شاعرة ومحررة وناشطة في الدفاع عن حقوق الإنسان من مواليد ديترويت بولاية مشيغان الأميركية عام 1950، نالت شهادتها الجامعية في العلاقات الدولية والكتابة الإبداعية ثم عملت في التدريس الجامعي وظهرت مقالاتها في أبرز الصحف الأميركية. سافرت عام 1977 إلى اسبانيا لتترجم أعمال الشاعرة النيكاراغوية / السلفادورية كلاريبيل أليغريا في منفاها هناك، بعد ذلك سافرت إلى السلفادور لتعمل في الدفاع عن حقوق الإنسان خلال الحرب الأهلية هناك. نشرت أول مجموعاتها الشعرية بعنوان (تجميع القبائل) عام 1976 فنالت جائزة جامعة ييل للشعراء الشباب التي تمنحها مطبعة الجامعة. أصدرت مجموعة ثانية بعنوان (البلد الذي بيننا) عام 1981 كما حررت أنطولوجيا شهيرة بعنوان (ضد النسيان: شعر الشهادة في القرن العشرين) عام 1993 تتضمن قصائد اختيرت لأنها تشكل شهادات عن حالات اضطهاد وعنف وانتهاك سياسية وعقائدية مختلفة. من مجموعاتها الأخرى (ملاك التاريخ) 1994 و(ساعة زرقاء) 2003.

الشاعر سيجبيورن اوبستفلدر (1866- 1900)

رائد الحداثة في النرويجي

ترجمة من النرويجية: سهيل الزهاوي

***

الضباب المُعتم يخيم فوق الأشجار،

فوق المروج.

فغدتْ الأشجار بلا الوان،

واختفى اخضرار المروج.

هذا اللهب المتوقد من الفانوس،

يبدو وكأنه

بؤبؤ العين الصفراء في الظلام.

بدا بؤبؤ العين الصفراء يتسع بغرابة.

لا أحد يضحك او يتنهد في ممرات المنتزه

انا أسْعُلُ.

يبدو سعالي كأنه قرقرة الاشباح.

انا أسير..

كانت خطواتي تشبه خطوات الاشباح

ولكن،

في احلك ممرات المنتزه،

هناك المصابيح قد انطفأتْ

زانية مختبئة بين الأشجار،

وعلى الدكة الوحيدة تجلس هناك.

شَدَّتِ اللِّثَامَ عَلَى خدها الأبيض

اللِّثَامُ يغطي خديها البيضاوين

لِّثَامُ أسود...

عيناها تتلألأ بغرابة من وراء اللِّثَامِ

*

انتابني شوقٌ هائجُ بالفرحِ الليلي

بلِقاء إنسان في ظلام جوف الليل،

جلستُ بصمت،

عن خدها أزحتُ اللثام بهدوء.

قربْتُ عيني من عينيها،

وروحي لامستْ روحها.

*

بعض أوراق الاشجار تتساقط بصمت.

اضع اذني على قلبها برفق،

وانفجرتُ في البكاء،

وأسكبُ دمعي على قفازاتها الباردة.

البكاء، البكاء،

لا اعرف لماذا أبكي.

*

وهي لم تبتعد عني.

بدأتْ تمسحُ عينيَ بحذر.

وأمسكتُ يديها بهلع شديد،

وطلبت منها أن تخبئني تُخبئني، تُخبئني.

*

الضباب الداكن غشى فوق الأشجار، على النفوس

لاتزال الأوراق خالية من الألوان،

واختفت الخضرة من الأعشاب.

ولكن في الضباب الداكن،

الأوراق السوداء تساقطت بصمت.

والمجهولة تجلس على المقعد الوحيد،

في الحلكة الدامسة تختبئ.

ووجه المريض تُخفي في صدرها الدافئ.

عيناي الخائفتان أخفتهما بيديها الناعمتين

لا تجد أحدا يسمع تَنَهَّدَاته من الألم، إلَّا الله

لا تجد أحدا يسمع همسات مواساتها، إلَّا الله

***

The Ghost City

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar)

***

I stare at the arranged letters; I devour them. I listen to the voices of the consecutive words; I articulate them. I trace the meanings of the flowing phrases; I comprehend them. Wonder overtakes me for what happened and how it happened. I cast a questioning glance through the dusty window, but I perceive nothing but yellow sand dunes, stretching endlessly, to the end of the horizon, where they merge with the cheek of the setting sun, making it pale. Simultaneously silent and articulate dunes emanating the essence of the desert with all its hidden secrets and its deep-rooted history, buried in the heart of time, lost in the depths of strangeness. I turn my face to my American wife, standing in front of me, and staring at me. I explain to her what I have realized. Astonishment shines in her eyes, and she says:

- Wow, that's amazing! Now I don't regret the trip.

She had tried to dissuade me from that journey, arguing:

- You throw yourself into danger when you roam the desert. For what? Just to find the city from which your grandfather emigrated to America. And what good is that to you? In practical terms, how useful is the past? We are rapidly approaching the threshold of the twenty-second century, and you are a product of your time. Look forward, look up at the high stars. Don't look back, don't stare down at the mud.

When her words and pleas hit the wall of my firm determination, she changed her mind, decided to accompany me on my journey, and began to help me prepare for it.

Being specially equipped for the desert, our electric car, which was pulling a supply cart attached to it, was moving on the sand like a frightened fugitive lizard. The hum of its engine was fading into the complete silence of the space around us. The sun was shedding its bright golden rays over the undulating desert in front of us. The thirsty sand guzzled them up, leaving nothing in the bottom of the cup, except a mirage that our eyes glimpsed, rising and falling like the water of a remote lake.

The information on the car's computer screen, next to the steering wheel, was pointing to the fact that we were coming closer to our destination, but we couldn't figure anything out. We haven't seen any ruins or remnants. We almost raised the banner of despair on the fatigue pole, when there appeared on the far horizon before us, sky-high sand-colored pillars that challenge the sky. We thought, at first glance, they were immense orderly ghosts, like a row of mythical creatures, coming from other planets. Then they soon appeared to us in the form of high-rise buildings, the more we approached them the taller they seemed.

Finally, we were embraced by the first street of the city. Large, luxurious streets, and big, lavish buildings. An existing city with all its buildings and facilities, unaffected by any earthquake or flood. But it is deserted and empty, there is no human, no animal, and no plant. Some of its doors and windows were  swaying in the light wind causing them to squeak, thus sowing terror and obsession in our souls. On the roads, the glass of some of its shattered windows was scattered, mixed with the piles of sand that had gathered here and there. There were empty spaces between the buildings, which must have once been parks, or parking lots. We stayed for a long time, apprehensive of a human or an animal coming out of a door.

We penetrated the city centre heading to its western neighborhoods where abandoned luxury residences proliferated. We parked in the middle of the Main Street, landed on foot and walked on the sand-covered sidewalk, along the doors. Some of them were locked, others closed, and  still others were wide open. All of them bear copper or wooden pieces with the name of the resident inscribed on them. Most of the names are feminine, such as (Hessa's Villa) and (Jewel's Villa 2). We slowly and sadly approach some houses to take a look. At every turn, there is a gasp and a surprise. Behind every door, there is a secret that does not reveal itself to history. And on every piece of luxury furniture, there goes a chill of sorrow.

Suddenly, I froze in place. I started staring at the piece that was attached to one of the doors, not believing my eyes. It had our family name. I was amazed at the fact that it differed from the names of other houses. I remembered what my father used to say to me when I was young, sometimes as a reproach:

- Always do things your own way. Don't do what all people do. That's how your grandfather was!

My wife's voice reached my ears, interrupting the reminders of my childhood:

- What's the matter with you? Why are you so dumbfounded?

- We've reached our destination. I can't believe it.

We entered the house, and we found all the furniture, even the curtains which were quivering in the breeze on the windows, as if my parents had left it that morning, were it not for the sandy cover that settled on the beds and the walls. My heart being filled with nostalgia, we moved from one room to another. Its palpitations increased so that it was burning with love. Then we climbed the stairs to the top floor.  There I found my grandfather's library with its elegant shelves and its leather-bound books, in the middle of which was his desk on which he wrote most of his books, for which my father taught me Arabic. On the right side of the desk was his diary. I caught the embers of nostalgia with my heart, and opened the front page, with trembling fingertips, as a child opens his first book in school.  I began to turn its pages, staring at the compact letters, and astonishment was shining on my face:

April 20, 2021

Our economy is as stagnant as a putrid swamp.

May 25, 2021

The oil we produce is the only commodity in the world whose price is constantly falling, thus violating all economic principles. For forty years, the price of a barrel has been in constant decline, falling from more than one hundred and twenty dollars to less than one dollar!

June 3, 2021

 Alternative energy sources make our oil an undesirable commodity, something trivial and worthless, a dirty material that hands avoid. It is the coal of the twenty-first century.  Even in our country, we can't take advantage of oil. All the machines, engines and cars that we import are not powered by oil at all.

June 30, 2021

Foreign workers and employees are leaving the country massively, not to spend the summer vacation with their families, but forever, because of the low wages they haven't been paid for months. Ten years ago, we sought to expel foreign workers who did not have a valid residence permit. Today, it is difficult for us to recruit the necessary workers and technicians. The money that was attracting them to the city ran out, so they left it. As for us, our roots are palm roots that hit far into the depths of the soil. We simply cannot travel with the wind like lichens.

July 25, 2081

Many people had to spend the night in the open in order to get some sleep. Today, the temperature has reached more than fifty degrees Celsius. The  air conditioners of many buildings are out of order,  because they haven’t been maintained. The cement boxes, called apartments, have become intolerable pieces of hell.

July 30, 2081

The young people who flocked to the city during its prosperous days, coming from nearby oases and distant villages, hoping for a better life, have begun to return  home. The city could no longer offer them their dreams on a golden platter, so they abandoned it. As for us, we will not turn our backs on our city. We were here when our houses were built out of clay 50 years ago, we stayed here when they turned into residences of alabaster and cement, and we will be guarding in our positions, even after the alabaster has crumbled and the cement has been crushed. What grieves us is the drought that has afflicted our minds. None of us has come up with any acceptable alternatives.

August 20, 2081

What I feared has happened. The water that comes in from the desalination plant started decreasing, and then it was cut off three or four days a week. Now we resort to storing water in household tanks as a precaution.

September 15, 2081

Quite predictably, the taste of water has changed a lot. We drink sea salt in our coffee, and sugar can no longer soften its taste. But what's even worse is that we're out of water for longer and longer periods. There's not enough water to drink, let alone watering the city's withered shrubs. They are dying in place. It's the collapse of the new Marib (Ma'rib) Dam.

October 10, 2081

Hundreds of apartments have been left empty by their residents; dozens of buildings are completely closed, no one can rent apartments or buy them even at the lowest prices. The housing crisis that our press handled at length forty years ago has become a painful old joke.

November 30, 2081

There are no more foreign workers in the city that can leave. There are no remaining immigrants who have not returned to their oasis or village. Therefore, it was  time for its native people to leave. I heard that our friend Abdullah and his family left last week, without trying to sell his house or furniture and without saying goodbye. But we are staying here. Our roots are inextricably linked with our soil.

December 31, 2081

Our neighbor Abdul Majeed and his family left the city by car just before dawn. He couldn't bear to see our eyes bidding farewell. The drought and lack of services to which he was accustomed became simply intolerable to him. Therefore, he chose to wrap himself in the blackness of the night outside the city.  Nonetheless, we will stay, and our roots will stretch to the depths looking for a drop of water. Let the yellow leaves fall from the tops of the branches.

January 5, 2082

There have been frequent rumors about the possibility of a final disconnection of water from the seawater desalination plant.  The wells that are still on the outskirts of the city do not  satisfy out water requirements. The ghost of thirst looms over us at the beginning of the New Year.

February 1, 2082

A month ago, my pen's supply dried horribly, because the only remaining daily newspaper stopped publishing on the last day of the past year.  I used to think that I was writing to satisfy a personal need, a desire to express my feelings, or to escape from my stifling reality to a more spacious imagined world.  But I found out today that I was writing to communicate with others. When the bridges of communication with them were cut off, I refrained from writing, or rather it refrained from me. I only write down my intimate diary from time to time. Who do I write to? Tomorrow the wind will blow my papers, and the sand will obliterate my words.

February 18, 2082

My older brother confided to me today that he and his family members are determined to leave before the disaster strikes. He advised me to accompany him, saying that despite my persistence, the worm of anxiety sucks blood from my face, that fear dances on my lips and fingers, and that I must get out of the kingdom of fear and anxiety. I replied that the palm fronds may vibrate with the wind, but their roots are fixed in the depths. He said: "We'll see" and walked away.

February 20, 2082

All I have left is the diary. It's my only recourse. I turn to it to escape the silence. I take refuge in it from the solitude that suffocates me, the solitude imposed by drought, the solitude by which the desert strangles me, the solitude resulting from the fading of social life in this dying city. I broadcast in my diary things of no value, trivial things that never change the fate that awaits us. Nonetheless, they give me an opportunity to gossip with myself, and compensate me for a friend and comrade. They make me reflect on my feelings and behavior, so that I feel that I am still alive.

March 21, 2082

What a mockery of fate!  Drought's monster has invaded our city, riding the steed of spring. The water from the seawater desalination plant was completely cut off. Thus, the dryness of our taps combines with the dryness of our souls.

April 22, 2082

The townspeople leave it in groups, like migratory birds. It is the season of migration in all directions.

May 5, 2082

The temperature continues to increase, and the water we draw from the remaining two wells is about to run out. And summer is just around the corner.

June 6, 2082

The few remaining families in the city gathered in our street, and chose the accommodations that suited them there. We called it Al-Somoud (Endurance/steadfastness) Street.

July 1st, 2082

Most of the steadfast people are now talking about heading abroad for the summer vacation. It's just an excuse. But I can't give up the cradle of memories.

July 8, 2082

Only our family remained on Al-Somoud Street. It is a solitary prison whose bars are wide open to the desert, and our determination is carried by a rocket launched to the frontiers of surrender.

July 11, 2082

What is the benefit for a palm to dig roots into the depths of the soil when its trunk is broken, and when it is falling to the ground? Dehydration overlooks us with his shabby face, from all sides.

July 14, 2082

Drought exhausts the last drop in the last well. Drought drinks the blood of my heart. Drought dries out the ink of my pen. I'm leaving.

مقطوعتان جديدتان

للشاعر الروسي سيرغي يسينين

ترجمة إسماعيل مكارم

***

حباتُ ريابينا أينعتْ

Покраснела рябина

لقد أينعت حَبّاتُ ريابينا، (1)

وها هو الماءُ يزدادُ زرقة ً.

أما القمرُ فهو فارسٌ ساهٍ،

فقد سَقطَ المقودُ من يديهْ.

*

ها هو الظلامُ من جديد يخرج من الأجمة

كأنه طائر التمّ الأزرق.

وقد حمل على جناحيه

بقايا عظامٍ صانعة المعجزات. (2)

*

موطني.. انت يا وطني الحبيب،

إني عرفتك فلاحاً أزليا ومحاربا،

أراكَ اليوم تقف مثل صفصافة على ضفة الفولغا،

وقد أطرقتَ، مطأطئ الرأس.

*

انهض يا موطني. لقد جاء وقت التعافي،

ها قد زاركَ المخلص.

إنّ عينَ قوس قزح،

ترتاح لرؤية أغنية طائر التمّ .(3)

*

إن ضحية َ يوم الأفولِ ،

أصبحت عن كل الذنوبِ تكفيرا.

هاهي رياحٌ جديدة قد هبّتْ،

وستجلبُ معها الثلوجْ .

*

هناكَ أشياءٌ كثيرة ٌ تتخمرْ،

وتنضجُ أكثر فأكثر...

سأذكرُكَ بالخير يا موطني ايام المطرْ،

أنا . يسينين.سيرغي.

كتبت في عام 1916

***

هيهات أن يُمحى هذا الحزنُ

Этой грусти теперь не рассыпать

هيهات أن يُمحى هذا الحزنُ

بضحكاتِ الماضي الرّنانة .

انتهى موسِمُ اِزهار شجَرةِ الزيزفون البيضاءْ،

انقضت ساعاتُ الفجر التي وشحتها أغاني العَندليبْ.

*

حينها كان كلّ شيء جديدا للنظرْ،

وفي الفؤادِ تجمعتْ مَشاعِرُ جَمّة ،

أما اليومَ حتى الكلِمَة الطيّبة

نلفظها كمَخلوق عجيبٍ ومُرّ .

*

تلكَ الأبعادُ التي تعوّد عليها البَصرْ

لم تعد جَميلة ً في ضوءِ القمَرْ.

تلك الوديانُ ,والمنحدراتُ والجذاميرْ

جَعلتِ المُتسع َ الروسيّ باكيا حَزينا.

*

كلّ ما هو مَريض، غيرُ معافى، ووضيع ،

وَصَفحة ُ الماء ذي اللون الرّمادي.

كلها أراهُا قريبة الى قلبي وتستدعي مَحَبتي،

لأجلها أبكي. . ويُسمَعُ بُكائي .

*

هنا عزبة تكسّر بابُها.

وهناك غنمة تثغو، وفي العَراءْ

حِصانٌ ضَعيفٌ يُلوّحُ بذيلِهِ النحيلْ،

مُحدِقا الى تلك البركةِ الحزينة ْ.

*

هذا ما نُسميه نحن ُ وَطناً،

هذا ما يَجْعَلُ الناسَ في هذا الوطنْ

يَشربونَ في السنين العِجافِ ويَبكونْ ،

مُنتظرين بابتِسامة ٍ أيامَ السّعادةِ القادِمَة.

*

لذا لا أحدٌ يُمكنه أن يمحوَ

هذا الحزنَ بضحكاتِ الماضي.

انتهى موسِمُ اِزهار شجرةِ الزيزفون البيضاء،

انقضتْ ساعات الفجر التي وَشحتها أغاني العَندليبْ.

1924

***

..................

هوامش ومراجع:

1) ريابينا: شجيرة تنبت في غابات روسيا وتعطي ثمرة عندما تنضج حباتها في أيام    الخريف يصبح لونها احمر. وقد سماها المترجمون الروس في المعجم حبة غبيراء. لذا حافظتُ على الاسم الروسي داخل النص لجمال الشطر.

2) مثلما يوجد تقليد عقدي أو ايماني بأن زيارة ضريح الصالحين أو القديسين في أحد المساجد أو الكنائس لدينا في المشرق يمكن أن تساعد في خلق المعجزات. فإن الروس والسلافيين عامة يعتقدون بأن بقايا عظام الصالحين والقديسين أيضا يمكن أن تصنع المعجزات.

3) هناك خطأ شائع لدى المترجمين من الروسية أن كلمة

)Лебедь                            (

بالروسية تقابلها كلمة (بجعة) بالعربية. وهذا ليس كذلك. هذه الكلمة تعني بالعربية إوزة عراقية، أو طائر التم ّ بتشديد الميم. إذ ان طائر البجع شكله ليس جميلا ولا ترتاح لرؤيته العين. في حين إن الإوزة العراقية هي جميلة المنظر طويلة العنق وانثى هذا الطير وذكره يخاتاران شريك حياة طوال العمر. فعندما تسمع من يقول شاهدت في مسرح البلشوي (أوبرا بحيرة البجع) كن على يقين أنه يخطئ في الترجمة والأصح بحيرة طائر التمّ أو بحيرة الإوزة العراقية (المترجم).

** تمت ترجمة النصين من الأصل الروسي.

 

بمناسبة اليوم العالمي للترجمة:

قصيدة الرفيق الشهيد شكري بلعيد

مرفوقا بترجمتي.

***

قليلا من الوقت

حتى أرتب مملكتي

فأنا متعب

وبي شغف لجنون المساء

قليلا من الوقت

ها أنذا

‏أستعد لأن تفتحي الباب

أو تدخلي كغزال الصحاري

على وحدتي

المهلكة

قليلا من الوقت

حتى يمد دمي راحتيه

ويجمع عمر النساء

قليلا من الوقت

يا وردة سرقت فرحي

اختفت في تفاصيلها الخائفة

سوف أنشدك في العذاب

وأنشدك في حضور الغياب

وأنشدك في مسيرة عمر الخراب

وأهجو جنوني على حافة الوقت

يا وردة ذابلة

قليلا من الوقت

كي أغسل الروح من لحظة خائنة

قليلا من الوقت

كي أزرع الموت في دهشتي

وأسمي دمي ملكا

من جديد

وأذرو إلى الريح

امرأة هالكة

قليلا من الوقت

حتى أرتب مملكتي

ها هنا جسد الخريف

هناك قرنفلة مائلة

وهنا نهدها ينحني

ثم يغادر دمع النزيف

على شفة حالكة

قليلا من الوقت

وحدي أرتب

أسطورتي المقبلة

****

....................

نص شهيد الوطن شكري بلعيد

من ديوانه: أشعار نقشتها الريح على أبواب تونس السبعة

***

Un peu de temps

pour que j'aménage mon royaume

Je suis fatigué

et j'adore la folie du soir

Un peu de temps

voilà que je me prépare à ce que tu ouvres la porte

que tu entres comme une gazelle du désert

franchir la solitude dans laquelle je péris

Un peu de temps

pour que mon sang s'étende

et rassemble la vie des femmes

Un peu de temps

Ô rose qui a volé ma joie

En se cachant dans ses détails avec peur

Je te chanterai dans ma galère

dans mon absence

dans mon parcours en ruine

Et je marquerai ma satire en folie au bord du temps

Ô fleur fanée

Un peu de temps

Pour que je m'ablue de ma trahison

un peu de temps

pour que j'assassine ma surprise

et que j'élise mon sang

de nouveau Roi

et vanne au vent

une femme crevée

Un peu de temps

Pour que j'aménage mon royaume

voici le corps de l'automne

voilà un oeillet décliné

et voici son sein qui s'incline

et quitte l'hémorragie

sur un bord  assombri

je tracerai seul

ma prochaine légende

Texte du martyr tunisien Chokri Belaid.

Traduction de Zohra Hawachi .

أنطونيو أورتونيو

ترجمة: لوكاس لينديز

ترجمة عن الإنجليزية : د. محمد عبدالحليم غنيم

***

 عندما كنت في التاسعة من عمري، استأجر لى والدي عاهرة. عاهرة، نظريا أو قل مجازاً، كانت في التاسعة من عمرها. لقد نسيت الملابس، والألعاب، والطعام، وكل ما كانت حياتي عندما كنت في التاسعة من عمري، لكنني لم أنس العاهرة.

 لم تنم فابيانا معي. أو بالأحرى نامت معي ولا أكثر. أصر والدي على أن ننام معًا وتأكد من أننا قبلنا تحت الأغطية. لم نحاول أبدًا خلع ملابسنا - كم كان يؤلمني عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري أن أتذكر فابيانا ولا مبالاتي تجاهها - وكنا بالكاد نجرؤ في إحدى الليالي على ضم شفاهنا في شيء من الكرم أن نسميه قبلة.

 تأتي فابيانا إلى المنزل أيام الجمعة، في وقت العشاء، وحقيبة ظهر مليئة بالملابس على كتفها وفيلم في يدها. قضينا عطلات نهاية الأسبوع في منزلي. ونمنا واستحمنا في الحمام، لكننا لم نستحم معًا أبدًا. كيف أتذكر ذلك، وأنا أعذب نفسي عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، وأداعب كل قطرة على جدران الحمام حيث لم أكن معها من قبل .

  قال والدي إنه ليس لدي ما يكفي من الأصدقاء، وقد بذل جهدًا كبيرًا لتقديمي إلى فابيانا. في الواقع، كان لدي أصدقاء، لكن والدي لم يستسلم أبدًا للسماح لي باللعب مع أطفال الخدم، ولم يكن ليسمح لي أبدًا بالنوم مع أحدهم. قال لي: "لا أريدك أن تعتقد يا جاكوبو أن الخدم يلعبون معك بدافع الصداقة". "إنهم يلعبون معك لأنني أدفع لهم .

 علمت أن فابيانا كانت عاهرة من زميلة في المدرسة. كان موريسيو يبلل فراشه طيلة سنوات حياته التسع؛ لقد بلل أسرة أبناء عمومته وإخوته، والمستشفيات، والمعالجين، والأصدقاء، والفنادق من موناكو إلى تلاكسكالا. لذلك قرر والديه تجربة فابيانا. لقد كان مدفوعًا بالأمل في أن يتمكن ابنهما، الذي أصابه الخوف بسبب وجوده الغريب في السرير، من السيطرة على نفسه. لم يفعل ذلك، على الأقل ليس في البداية. خلال الليالي القليلة الأولى لهما معًا، كانت فابيانا مسؤولة عن إيقاظه عندما شعرت أنها أصبحت مبللة، وساعدته في تغيير الملاءات. ولم يخرج من فمها أي عتاب أو شكوى. ربما لهذا السبب، توقف موريسيو عن التبول بعد بضعة أشهر. قال صديقي: "فابيانا لديها شيء يساعد الناس". "لهذا السبب قام والداي بتوظيفها من أجلي." سأل موريسيو ابن عمه المراهق عما وصفوه بالمرأة التي تم تعيينها للمساعدة. فكر ابن العم في الأمر للحظة، حتى أنه لجأ إلى القاموس. واختتم كلامه قائلاً: "عاهرة". لذلك كانت فابيانا عاهرة .

  كان من المنطقي إذن أنه إذا كان والدي قد طلب خدمات فابيانا، فذلك لأنه اعتقد أنني أعاني من مرض ما لا يقل خطورة عن سلس البول الذي يعاني منه موريسيو. سواء كان لدي أصدقاء أم لا، لم يكن هذا هو الأمر الذي أقلقه: حتى أنه كان عليه أن يتقبل أن قضاء فترة ما بعد الظهر في لعب كرة القدم مع أطفال الخدم جعلني طفلاً عاديًا. حتى لو كان عليه أن يدفع ثمنها. إذن، ما هي المشكلة التي كان من المتوقع أن تعالجها فابيانا؟

 قبل أن يتم حل اللغز، أو قبل أن يجعل تأثير فابيانا المفيد من الحل نقطة خلافية، أصيب والدي بنوبة قلبية وتوفي. "لا تتوقف عن إحضار الفتاة"، تمكن من إخبار عمي قبل وفاته. كان عمي، إلى حد ما، مثاليًا. لقد راقب ميراثي وكان مسؤولاً عن زيادة أصولي العينية باستثمارات حكيمة ومدروسة جيدًا. عندما بلغت من العمر ما يكفي لإدارة هذا الأمر، كان من الواضح أنني لن أضطر أبدًا إلى دراسة مهنة منتجة أو البحث عن وظيفة. ومع ذلك، عندما توليت الوصاية، قرر عمي أن حقيقة قيامي بمعاشرة فتاة - وفتاة مستاجرة - أمر غير مقبول. وهكذا توقفت فابيانا عن زيارة المنزل. كنت أراها أحيانًا في حدائق الحي – كان منزلها على بعد أمتار قليلة من منزلي – برفقة صبي يبدو وكأنه حقيبة مليئة بالاضطرابات النفسية. كلما التقت نظراتنا، ابتسمت فابيانا. ربما كانت غير سعيدة لعدم توفر الوقت الكافي لوضع حد لمشكلتي، مهما كانت.

  وبعد سنوات قليلة، باعت عائلة فابيانا منزلها وأثاثها واختفت. وعلقت مدبرة المنزل بأن والد الفتاة لا بد أنه ارتكب بعض الجرائم، لأن اثنين من رجال الشرطة جاءا إلى الحي بعد التحرك المفاجئ للسؤال عنهم .

 كل ما بقي لي من فابيانا هو قلم ذو ألوان زاهية كانت قد نسيته في غرفتي في آخر ليلة لنا معًا. لسنوات، كنت أتخيل أن أبحث عنها، وأن أتوجه إليها وآخذها بعيدًا عن المصاب بجنون العظمة أو فرط النشاط أو الفصام الذي تصادف وجوده معه وأقول لها: "هذا هو قلمك". في سن الرابعة عشرة، كان خيالي يتضمن قبلة طويلة تصالحية. عندما بلغت سن الرشد وانتهت حضانة عمي، قمت بتعيين محققا سريا لتعقب فابيانا. كان المحقق شرطيًا سابقًا غليظاً وكان حارسًا شخصيًا لوالد موريسيو. لقد زرع أملي ويأسي بمهارة كبيرة. لمدة ثلاث سنوات، جعلني أعتقد أنه يقترب من فابيانا كل يوم، وأنها، التي أصبحت نوعًا من الجاسوس الماكر والمراوغ، تمكنت دائمًا من الهروب في اللحظة الأخيرة. في أحد الأيام، قمت بتعيين محقق آخر، يدعى سانتا مارينا، والذي اخترته عشوائيًا من دليل الهاتف، لضرب الأول. دخل مكتب الآخر ذات ليلة وضربه بشدة لدرجة أنه أصابه بتلف في الدماغ. أحضر لي سانتا مارينا ملف فابيانا الذي جمعه المحقق الأول، وبعض الملاحظات عن اختفاء العائلة - وهو أمر كنت أعرف عنه أكثر مما يعرفه - وبطاقة عمل نصها: "مجلة كاراس. فابيانا أوروتيا، مساهمة. كانت البطاقة لامعة بما فيه الكفاية بالنسبة لي لكي آمل أن العنوان ورقم الهاتف مازالا صحيحين .

 قضيت بضعة أيام في تحديد ما إذا كنت سأطلب الرقم الموجود على البطاقة أم لا. كنت أرتجف أثناء النهار وأرتعش في الليل. حلمت بالمشهد الذي سلمت فيه القلم وعدّلته بعشرات التنويعات الملحمية أو الجنسية أو العاطفية. أخذ سانتا مارينا الحرية في التحقيق مع عائلة فابيانا وقدم لي تقريرًا: توفي والداها بسبب استنشاق الغاز بعد فترة وجيزة من اكتشاف أنهما قد رفعت دعوى قضائية ضدهما من قبل زوجين أجنبيين زعما أنهما أعطياهما قرضًا كبيرًا. "كانا في طريقهما لفتح مستشفى. لكن تم سحب الأموال من البنك وهربت العائلة”. حدثت الوفاة بعد أشهر من رحيلهما عن الحي .

  في تلك الليلة تناولت العشاء مع عمي في مكتبه وأخبرته بالأمر. وقال بصوته الأجش عادة:

  - لقد كانا زوجين غريبين . لقد استأجرا ابنتهما للقيام بأشياء غريبة مع المرضى. ربما لا تتذكر، لكن والدك استأجرها لفترة من الوقت وكانت تأتي إلى منزلك كل يوم جمعة.

 لذلك اعتقد والدي أنني مصاب بنوع من المرض. -

 نظر إلي عمي دون انزعاج

 . لا. لقد اعتقد أنك بحاجة إلى المزيد من الأصدقاء-

  لقد طلبت من سانتا مارينا أن يتصل بها من أجلي. وإلى جانب ذلك ، حاولت سماع صوت فابيانا عبر الهاتف. كانت كاراس مجلة عن المحتمع والنميمة المجتمعية ، وقام سانتا مارينا، الذي قدم نفسه على أنه سكرتيري، بدعوتها للحضور لرؤية الحديقة اليابانية الجديدة في منزلي، والتقاط بعض الصور "وربما الدردشة مع السيد الشاب" .

 لقد أمضينا فترة ما بعد الظهر بأكملها في البحث عن النباتات والخيزران، وانتهى بنا الأمر بشراء الكيمونو للخدم. شعر سانتا مارينا بالحرج قليلاً، فاخترع نوعًا من الالتزام المسبق وامتنع عن حضور المقابلة. ووعد قائلاً: "سأحاول المرور عليها لاحقاً ومتابعتها عندما تغادر "

  لقد أمضينا فترة ما بعد الظهر كلها في البحث عن النباتات والخيزران، وانتهى بنا الأمر بشراء الكيمونو للخدم. شعر سانتا مارينا بالحرج قليلاً، فاخترع نوعًا من الالتزام المسبق وامتنع عن حضور المقابلة. ووعد قائلا:

  - سأحاول المرور بعد ذلك، وسأقوم بتوصيله عندما تغادر.

 كانت فابيانا مذهلة، أكثر بكثير مما بدت عليه في خيالاتي عن الاستحمام وتخيلات القلم. رأيتها خلف ستارة المكتب، بينما دعتها مدبرة المنزل- التي كانت غير مرتاحة ومقيدة بملابسها الكيمونو- للدخول.

  قالت مدبرة المنزل، كما تم الاتفاق عليه مسبقًا: "سوف يرحب بك السيد الشاب في مكتبه عندما تنتهي من التقاط صور للحديقة". ألقت فابيانا نظرة على النموذج الشرقي – الذي تم الانتهاء منه بطريقة بشعة، على الرغم من جهود سانتا مارينا لإضفاء لمسة جمالية عليه – واتجهت نحو المكتب. أخذت نفسًا عميقًا ونزلت لمقابلتها، ممسكًا بالقلم في يدي مثل الصليب.

  - فابيانا.

  - جاكوبو. هذا قلمي .

  لم أستطع إنكار ذلك. قدمته لها مع تنهيدة. كلمات من خيالي علقت بين أسناني .

  - هذا قلمك .

  - جاكوبو. لقد تغيرت كثيرًا!

  - هذا قلمك و ...

كنت أتساءل دائمًا عما حدث لك. -

  - هذا قلمك و ....

  - جاكوبو !

  كان فمها رطبًا مثل جدران الدش. مرت في ذهني صورة والدي وهو يتجسس علينا كما كان يفعل تحت البطانيات ليتأكد من أننا نعانق بعضنا البعض. لقد تحملت فابيانا عبئى بسعر معقول جدًا، وهو خصم من أحد الأصدقاء.

  في الصباح، طلبت من سانتا مارينا تفكيك الحديقة اليابانية. بدا منزعجا. أخبرني أن المحقق الأول استخدم أموالي لدفع ثمن عشرات الليالي من النوم مع فابيانا. قلت:

 - إذا انتهى الأمر بأموالي في يديها، فقد تم استخدامها بشكل جيد.

  ثم جادلت :

  - وماذا يمكنني أن أفعل للرجل إذا كنت أنت قد حولته بالفعل إلى خضروات؟

  عرضت عليه راتبًا ثابتًا ليرافق فابيانا ويخبرني بأنشطتها. رفض طلبي، لكنه أوصى بزميل كفء. تصافحنا مثل الجنرالات المنتصرين، ثم سار نحو الباب محملاً بأواني الزهور والخيزران.

  صعدت إلى المكتب في الطابق العلوي وجلست في انتظار قدوم يوم الجمعة.

(تمت)

*** 

..................

المؤلف : أنطونيو أورتونيو/ Antonio Ortuño / روائي وكاتب قصة قصيرة مكسيكي ولد في (جوادالاخارا )عام 1976 لأبوين مهاجرين إسبان، وكان، بهذا الترتيب: طالبًا متميزًا؛ وعاملا في شركة مؤثرات خاصة، ومدرسا خاصا. تم اختيار روايته سيكرس هيدز (2006) من قبل الصحافة المكسيكية كأفضل رواية أولى لهذا العام. ووصل كتابه الثاني، الموارد البشرية (2007)، إلى نهائيات جائزة هيرالدي. كما نُشرت مجموعته القصصية "الحديقة اليابانية" في ذلك العام. صدرت مجموعته "السيدة الحمراء" عام 2010. في أكتوبر 2010، أدرجت مجلة جرانتا البريطانية أورتونيو في قائمتها لأفضل الكتاب الشباب باللغة الإسبانية، واختيرت روايته "الخط الهندي" كأفضل رواية لعام 2013 . نشر روايته ميجيكو في عام 2015 ولاقت استحسانًا كبيرًا من القراء والنقاد على السواء ، وتميز أورتونيو كواحد من المؤلفين المكسيكيين الرائدين في عصره. وقد تُرجمت كتاباته إلى عدة لغات. أحدث رواياته "الراسترو" صدرت عام 2016 . وقد أشاد النقاد فى كتاباته عامة بحضور روح الدعابة السوداء لديه، وخفة الحركة والدقة في نثره وقدرته على استكشاف تناقضات شخصياته.

قصة: شيماماندا نجوزي أديتشي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في العربة الهادئة جلسنا بعيدًا عن بعضنا البعض. لقد ركبنا دائمًا العربة الهادئة، لكن اليوم بدا الأمر وكأنه هدية: سبب لعدم التحدث. يرتدي جوناثان سترته العنابية ويحتضن جهازه اللوحى. الشمس ضعيفة، الصباح غائم. كنت أنظر في المجلة التي بين يدي، وأتنفس بعمق شهيقًا وزفيرًا، تنفسًا إراديًا ومتعمدًا، ومدروسًا، واعيًة بذاتي. التنفس - هدف سهل للغاية للسخرية، وكثيرًا ما يوصف بأنه الدواء الشافي لأمراضنا الحديثة. لكنه عملى. لقد ساعدني في طرد شعوري بالملل، حتى ولو للحظات قصيرة. كيف يحدث هذا؟ كيف تستيقظ ذات صباح وتبدأ بالتشكيك في حياتك؟

تحول جوناثان فى مقعده. نظرت إلى الصحيفة لتجنب المحادثة الهامسة.

قال لي ذلك الصباح وهو يدهن قطعة من الخبز المحمص بالزبدة:

- هناك شيء ما يدور في ذهنك.

التزمت الصمت، ووضعت الموسلي ببطء في فمي، ولم يقل شيئًا أكثر من ذلك. لماذا لم يسألني سؤالا؟ لماذا لم يسأل "ما الذي يدور في ذهنك؟" كان السؤال أكثر شجاعة من التصريح. سؤال أجبر على الحساب. لكن جوناثان تجنب الأسئلة المباشرة لأنها كانت تحتوي على عنصر المواجهة. لقد وجدت كراهيته للمواجهة أمرًا محببًا ذات مرة. لقد جعلته شخصًا يزدهر بالسلام، وبالتالي فإن الحياة معه ستكون نوعًا من السعادة المستمرة.

وعندما كان يطرح الأسئلة، بدا أنها دائمًا للبحث عن الطمأنينة بدلاً من الحصول على المعلومات. كان سؤاله الأول لي، بعد وقت قصير من لقائنا منذ سنوات، كان عن الخدم. لقد ذكرت السائقين ومساعدي المنازل في طفولتي في لاغوس، وتبع ذلك سؤاله: كيف كان شعورك حيال كل ذلك؟ ولأن الخدم كانوا غرباء عنه، فقد أصبحت العلاقة معهم مسألة أخلاقية. أخبرني أنه عندما تمكن لأول مرة من تحمل تكاليف عمال النظافة البولنديين الأسبوعيين لشقته في لندن، كان يختبئ في الغرفة الاحتياطية أثناء التنظيف، وكان يشعر بالخجل الشديد من دفع المال لشخص ما قام بتنظيف مرحاضه.

لكي يسأل جوناثان "كيف كان شعورك حيال كل ذلك؟ « لم يكن الأمر يتعلق حقًا بما أشعر به، بل يتعلق بالقواعد الأخلاقية التي كان من المفترض أن أتبعها. كان علي أن أقول: "شعرت بالفزع. لقد قلقت على سلامتهم. لكن الحقيقة هي أنني لم أشعر بأي شيء لأن تلك كانت الحياة التي عرفتها. لو سألني "ما رأيك؟ في ذلك الصباح، وإذا قلت: "أتساءل عما إذا كانت هذه هي الحياة التي أريدها وما فاتني في السنوات التي قضيناها معًا،" فلن يكون لديه إجابة لي. لأنه لم يكن من المفترض أن أفكر بمثل هذه الأشياء وكان من الظلم القيام بذلك. ثمة خطأ؛ إن كوننا نفكر أحيانًا في ما ليس من المفترض أن نفعله، ونشعر بما نتمنى ألا نفعله، كان شيئًا لم يتمكن جوناثان من فهمه.

وعبر الممر، جاء صوت عال. رجل أمريكي مسن يتحدث عبر الهاتف، لهجته مميزة، ووجهه محترق باللون الأحمر كما لو أنه جاء للتو من إجازة. وفي صمت العربة الرطب، بدت كلماته غير طبيعية، وكأنها قادمة من مكان آخر. التفت جوناثان وتنهد، ثم التفت مرة أخرى. التفت رجل وأدار عينيه. هزت امرأة رأسها.

لماذا لم يخبر أحد هذا الأمريكي أنها العربة الهادئة؟ لقد خمنت، بسبب شخصيته المخادعة، أنه لا يعرف شيئًا عن ذلك. جلس جوناثان بالقرب من الأمريكي، كل ما كان عليه فعله هو مد يده عبر الممر، والإشارة إلى الرجل، وقول شيء ما بصوته المعتدل. لكنه لن يفعل ذلك. تحرك جوناثان وتنهد وتحرك مرة أخرى لكنه لم يقل شيئًا.اعتقدت أنه كان لطيفا مرة واحدة. كنت سأضايقه بشأن الطقوس الإنجليزية المتمثلة في العدوان السلبي، والتي يمكن إثارةها بسهولة بوجود أمريكي.

إن المميزات التي أذهلتني في البداية فيما يتعلق بجوناثان أصبحت فجأة ضربات مقصودة لإثارة غضبي. وكانت حساسيته نقطة ضعف. ما اعتقدت أنها براءته كانت الآن سذاجة منغمسة في الذات. لم يحدث شيء. لم يرتكب جوناثان أي خطأ، ولم أقابل أي شخص آخر. لقد استيقظت في صباح أحد الأيام فقط وشعرت بالتراجع. بدأت أجد صعوبة في التخلص من شعور مرعب بشيء ضائع، هدر هائل، تاركًا حدادًا باهتًا على أشياء ذهبت إلى الأبد.

توقف القطار في إحدى المحطات ورأيت زوجين يركبان العربة. كان اهتمامي بهما فوريًا. لقد جذبا الانتباه: بدا الرجل يابانيًا، ذا وجه شاحب ملفت للنظر وشعر أسود طويل أعطاه مظهرًا مثقفا، كانت المرأة إيطالية، سمراء، وكان كحلها ملطخًا قليلًا بالقدر المناسب من الجهد. انبعث منهما نوع من البريق الذي لا يمكن التخلص منه، كانت ملابسهما الأنيقة فضفاضة ولكن عن قصد، بدت حقائبهما باهظة الثمن. استقرا أمامنا وشعرت بإثارة لم أفهمها، وكأن اختيارهما للجلوس معنا يقول شيئًا مرغوبًا فيه عنا، بالنسبة لى. يبدو أن ثمة رائحة خفية تنبعث كليهما. كانا يضعان نفس العطر. وهذا ما أعجبني لأسباب لا أعرفها. حقيبة يدها على الطاولة، مصنوعة من الجلد السميك، وحرف معدني أنيق. كانا ينبضان بالدفء والحيوية. تجنب جوناثان النظر للأعلى. ابتسمت لهما. نظرت المرأة إلى عيني لبضع ثوان، وكان تعبيرها منفتحًا وفضوليًا ومتلهفًا تقريبًا. متلهفة على ماذا؟

كانت كلتا يديهما تحت الطاولة. هل كانا يمسكان بأيديهما؟ لقد بدوا وكأنهما يشعران بالأشياء حقًا، ويلمسان عواطفهما. لقد أضاءت حياتهما وهجا فى داخلي. حاولت أن أتخيل منزلهما، مليئًا بالألوان، وأزهارًا كثيفة في مزهريات متنوعة، ولوحات جريئة، ربما تتكئ على الجدران بدلاً من تعليقها.

من المحتمل أنهما كانا يقولان أشياء لبعضهما البعض في السرير ويصدران أصواتًا لبعضهما البعض، بلا وعي. سوف ترمي ذراعيها فوق رأسها. يسترخى جسده في شهوانيته. ودار بينهما شجار قصير وحاد، حول غيرتهما وشرب الخمر، فصرخا في وجه بعضهما البعض ثم تصالحا بالعاطفة. شعرت فجأة أن حياتي مع جوناثان، برضاها وسلامها، كانت في الواقع غيابًا للمشاعر الحقيقية.

انحنت المرأة وسألت في همس مبالغ فيه:

- منذ متى وأنت متزوجة؟

حدقت فيها. نظر جوناثان إلى الأعلى حينها وتخيلته، لاحقًا، في المنزل، وهو يقول كم كان أمرًا شنيعًا أن يطرح شخص غريب تمامًا مثل هذا السؤال الشخصي.

كان من الطبيعي تمامًا أن تسأل هذه المرأة الجذابة هذا السؤال في القطار. كان الرجل يراقبني أيضًا، وكان تعبيره مشابهًا لتعبيرها. لقد كانا متشابهين حتى في توقعاتهما.

- من فترة طويلة جدًا.

قلت مستغربة نفسي، راغبة في تقليد سلوكها الواثق والمبهج، ولأنني كنت أشعر بالتوتر، جاء صوتي أعلى مما أردت، خاصة بالنسبة للعربة الهادئة.

كان جوناثان ينظر إلي. كنت أتوقع أن تبتسم المرأة، ولكن لدهشتي كان وجهها غائمًا، في حزن غريب.

- كيف عرفت أننا متزوجان؟

سأل جوناثان المرأة فالتفتت إليه متفاجئة. كان جوناثان يتحدث، ويطرح جوناثان سؤالاً مباشرًا، وليس بهذه الهمس المبالغ فيه الذي كان يهدف إلى إظهار أنه يتبع قواعد النقل الهادئ.

هزت كتفيها، وأشارت نحونا، وكأنها تقول إن الأمر واضح.

- لأننا لا نتحدث؟

كنت أرغب في السخرية، لإبقائهما مهتمين بي، ولإيقاف انزعاجي المذعور المتزايد.

قال الرجل، ووجهه غائم مثل وجه المرأة:

- يجب أن يكون من اللطيف أن نكون مرتاحين مع بعضنا البعض.

فهمت بعد ذلك ما هو هذا التعبير. الشوق. لقد نلنا إعجابهما.

بدا لي هذا في البداية غير مناسب إلى حد أنني كدت أضحك، ثم صار الأمر جادا مما جعلني فجأة أشعر بأنني أصغر حجمًا، وبلا وزن الوزن تقريبًا.

هل أعجبا بنا لأنهما كانا هما أنفسهما يحزنان على شيء ما؟ هل أخطأت في قراءتهما منذ البداية؟

- إنه أفضل صديق لك.

قال لي الرجل وهو يشير إلى جوناثان ثم ينظر إلى المرأة، وكأنه يختتم مشهدًا لم يكتمل بعد. أضاف:

- وهي أفضل صديق لك." أنتما تقولان لبعضكما البعض الحقيقة. أنتما تثقان ببعضكم البعض

وقفة صمت طويلة. اعتقدت أن جوناثان انتهى من هؤلاء الأشخاص الغريبين. عاد إلى آيباده. تدفقت الدموع على وجه الرجل. كانت عينا المرأة كبيرتين ومبللتين. شعرت بأنني محاصرة ومرتبكة فيما يتعلق بهما ومع ذلك فأنا مسؤولة عنهما.

قلت أخيرا:

- نعم.

تذكرت كيف كنت أستلقي بجوار جوناثان، أشاهده وهو نائم، وشفتاه مفترقتان قليلًا، وكيف كنت ألمس رقبته بلطف وأقول: "أتمنى ألا يحدث له شيء على الإطلاق". ولم أخبره قط بعدد المرات التي فعلت فيها ذلك.

(تمت)

*** 

...................

المؤلفة: شيماماندا نجوزي أديتشي / Chimamanda Ngozi Adichie نشأت شيماماندا نجوزي أديتشي في نيجيريا. تُرجمت أعمالها إلى ثلاثين لغة وظهرت في منشورات مختلفة، بما في ذلك مجلة نيويوركر؛ جرانتا. صحيفة فاينانشيال تايمز؛ و زويتروب. فازت روايتها نصف شمس صفراء بجائزة. Orange Broadband. ووصلت إلى المرحلة النهائية لجائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية. فازت روايتها الأولى، الكركديه الأرجواني، بجائزة كتاب الكومنولث وجائزة هيرستون/رايت ليجاسي. أحدث كتاب لها هو الشيء حول رقبتك. حصلت على زمالة مؤسسة ماك آرثر لعام 2008، وهي تقسم وقتها بين الولايات المتحدة ونيجيريا.

***

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar)

***

While the moon was at its fullest, I found myself staring at it from a gap in the tent erected in the open. It returned my gaze and increased its glow and closeness to the earth, until it touched the horizon with its circular edge. I found myself, while the silence of the desert was sharpening my senses, seeking to discover its silver color and meditating on its golden blush, as my pupils turned as it did along with it. My eyes immersed in it, dove deep into its depth, and merged into it. I became addicted to its rays swaying towards me, gently washing my face, bathing my body, pouring into my eyes, and seeping from them into the depths of my being, so that the strands of light radiated through my joints without a sound or a groan. I was stunned by its brightness and numbed by its light, as it penetrated softly and melted into me like a sugar block in warm water. I felt a calmness in my senses, a relaxation that rocked my body, like a child about to sleep in its swinging cradle.

At first, I thought I was staring at a flat, radiant surface, but little by little I began to discern terrain and shadows like tattoos on the face of the moon. Then, in the middle of the moon or in front of it, I saw an animal moving a little bit, and then halting. I did not really know whether that animal was  in the moon itself, or whether it was standing on the earth’s horizon. That animal started moving towards me. I could discern a beautiful head, topped with two small horns, and wide eyes in the middle. Attached to it was a shriveled body with thin legs. It was a gazelle slowly and hesitantly moving towards me. The moon was framing it from behind, until it covered most of it. It began approaching me little by little, then it stopped in front of my tent, looking at me. Our eyes met in silence.

For three days I had not tasted any significant food in that vast barren desert, which is devoid of any plant, animal, or anything else except for sand dunes that spread as far as the eye could see like high waves on the surface of the sea. My food has run out and the water is running out too. I had only consumed drops from time to time, to keep my lips wet but hardly reaching my  tongue. My car was no longer worth a grain of  salt, after it stopped moving  because it ran our o fuel. My tent, which was erected in the middle of the desert, as a mourning folded flag, was not able to protect me from the scorching sun that melted everything under it, turning it into powdered sand. Thus, anxiety swooped down on me like an eagle plucking the frightened birds of hope in me. The venom of fear began to creep in my limbs.

Deep within me blew the wind of nostalgia for the city, its streets, cafes, gardens, and fountains. I wondered to myself how, every now and then, I was bored with the hustle and bustle of the city and yearned for the silence and vastness of the desert. This is how I have always been. My whole life is a continuous series of contradictions. I feed the cup of desire with longing, then in one moment I spill it on the carpet of boredom; I soar on the wings of hope to the heights of joy, then soon fall in shards to the slopes of misery; I sing the sweetest love songs, and suddenly cry bitterly out of abandonment and deprivation.

The hours ran slow and heavy like a frightened shrunken turtle. My eyes got tired from staring at the desert that surrounded me in all directions, its sand dunes acting like impenetrable fortresses. Under the weight of a hunger that was biting me fiercely, and a thirst that was drying me up like a piece of beef jerky, my mind wandered in a mirage of premonitions and visions. I ruminated my fear and chewed on my anxiety. From a small grave-like sandy knoll, my father's ghost rose with his white shroud, riding his black horse and wearing his rifle, as if on his way to hunting. Instead of his spoiled hawk, a black owl settled on my father's shoulder. His greyhound limped with one of its amputated legs, as it turned toward the horse, whose eyes had been scooped out. When my father approached me, he stopped his horse, bent down on me, extended his hand to me, lifted me up from the ground and seated me behind him on the horse, just as he used to do when I was young, then he returned from where he had come. His horse started diving into that sandy grave. I felt the sand particles enter my nose and choke my breath.

I looked at the gazelle standing in front of me. Her beautiful eyes remind me of my beloved's dark eyes. They both have the meanings of love and sympathy. And it has the same neck gesture as well. However, this gazelle is my only hope of holding out for a while until some help arrives or a caravan passes. I shyly stared at her in bewilderment. Oh my God, how much I need her blood to quench my thirst! And how delicious her flesh is! I turned to the rifle lying on the floor of the tent. I remembered that it, too, was not worth a grain of salt, as it had become just a piece of hard wood and cold iron after I ran out of ammunition, because of my repeated, unsuccessful attempts to hit that damned lizard. It was passing me by like lightning and then disappearing into one of its many burrows in the heart of the dunes. I kept shooting like crazy at the sand. In every attempt, I got nothing but a huge thunder that was quickly absorbed by the sand. I kept repeating in a loud, tense voice: “My situation is a real bear.”

I glanced anxiously at the upright gazelle in front of me. I fancied that some invisible force had led it to save me. I looked at her again with a look of disappointment and apology. I felt my taut dagger on my empty belly. I have to catch her first. I slowly extended my hand toward her mouth, as if I was offering her something to eat. It must have been hunger that drove her towards my tent. It brought her head close to my hand smelling my empty palm. I got up cautiously, she flinched, backed away briskly, and then stopped. I slowly stepped forward towards her. I approached her, extending my hand towards her. She retreated again and I followed her until we were far away from the tent and in the middle of the open.

Our eyes met once more. I only saw its eyes this time. There came to my attention an intense redness, covering them, and hiding that broken, tender look. Instead, I perceived a hard, suspicious look. My eyes slid from its eyes to the rest of its face. I was surprised and frightened at the same time by the sight of sharp fangs revealing the jaws. Soon, a faint, intermittent howl came forth, warning of evil. Before I could gather my confused thoughts, I felt sharp claws digging into my chest and stomach, and voracious fangs extending to my face. In the flood of terror that swept through me by surprise, things got mixed up in my mind. The only thing that was certain to me, however, was that I fell to the ground on my back, and on top of me was a ferocious wolf about to rip my face apart with its sharp fangs. I let out a shriek of terror that tore apart the silence of the night, after which the wolf retreated a little, getting ready to pounce on me in a new decisive attack.

In the midst of my turmoil, my trembling fingers stretched out to my dagger. I grabbed it from its sheath, and then I held it with both hands, and I propped it on my chest, as if I were sheltering in it. In that moment, the wolf swooped in on me, with a huge leap, and the dagger blade sank into its chest. I was in a state of rage, screaming, as I plunged the dagger, more and more, into its body. Hot blood poured out of it, covering my entire face, bursting into my mouth, and quenching my thirst.

***

نص مسرحي:

الفنّــان

ريمون ديفوس*

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

على بحر خياليّ، بعيدا عن الشاطئ

يبحث فنّان عن المطلق

يلعب دور غرقى متطوّعين...

هو هنا، واقف، على  لوح

يتأرجح على الموج.

*

البحر مائج واللوح بال.

يكاد يسقط في أيّ لحظة.

مصفرّ اللون خوفا ويصيح:

- كم هو رائع!

إنها أفضل مهنة في الدنيا!

وليُطَمْئِن نفسه، بدأ يغنّي

أمّي، القوارب الصغيرة

التي تجري على الماء

هل لها سيقان؟

ثمّ صوت ارتطام، يسقط في الماء !

لقد أعيد إلى قسوة  واقع الخيال.

هو، من يرى نفسه بعدُ في أعلى ملصق الإعلان،

ها هو يرى نفسه بعدُ في أسفل  قائمة المفقودين الأعزّاء!

*

يريد أن يصرخ:

- رجل في البحر!

وأنه، فنّان

وأنه يمارس أجمل مهنة في الدنيا،

يصرخ:

- ويستمرّ العرض!

يركب لوحه البالي .

ويواصل بحثه عن المطلق

غناء:

أمّي، القوارب الصغيرة

التي تجري على الماء

هل لها سيقان؟

ثم صوت ارتطام !

يسقط على الماء

تتقاذفه الأمواج مثل قارورة في البحر،

في داخلها رسالة استغاثة.

يريد أن يصرخ:

- قارورة على البحر!

لكن هو القارورة

وأنه فنّان

وأنه يمارس أجمل مهنة في الدنيا. يصرخ:

- الماء حسن!

ناقع قليلا لكنه حسن!

يصعد من جديد على لوحه البالي...

لم يعد يعرف تماما جهة الشمال .

كان يعتقد أنه على بحر بذات الاسم

بحر الشمال ...إنّه يتسوّل ...

دائم البحث عن المطلق!

(غناء:)

أمي، القوارب الصغيرة

التي تجري على الماء

هل لها سياق؟

ثم يسقط على الماء.

والجمهور، الذي ظلّ هادئا على الشاطئ،

يتساءل ما إذا لم يكن الفنان بصدد

مخادعته.

يقول لنفسه:

" لكن، متى سيغرق؟"

يدرك الفنان ذاته فجأة

بأنّ اللوح الذي

يركبه للمرة الألف

يتجه فخذه إلى الجانب الأيمن من القارب

أي أنّه يتجه إلى الجهة التي سيسقط منها!

يريد أن يصرخ:

النساء والأطفال أوّلا!

لكن بما أنّه وحيد على القارب، فقد كان يصرخ:

- أنا القائد على متن القارب!

وقد يضيف:

- بَعْدَ الإله!

لكن، مثلما هو في الخيال، لن يحدث أن نتقابل مع الإله!...

(الإله موجود، يقينا... لكن في الواقع!)

الخيال، بالنسبة إلى الإله، هو بصر للعقل!

الخيال، يتجاوزه!

يعلم الفنان أنه لا ينتظر شيئا من السماء.

لذا، بدل أن يصرخ: - بَعْدَ

الإله !

يصرخ:

- بعدي، الطوفان

وبينما لوحه

قد أحاط به الماء من كل جانب،

وكان يغرق في الماء،

لم يخطر في باله سوى:

" إنقاذ الوصفة!"

قام بإعلان إشهاري:

- سيداتي سادتي،

إنّ اللّوح البالي الذي

كان لي شرف الغرق من عليه آخر مرّة

أمامكم، كان تحت رعاية

وزارة الثقافة!

ويغرق مع الدّعم!

اختفى في الأمواج

ثم ظهر جافّ الثياب ...

يغمره الماء حتى الحزام...

ساقاه تلمس قاع البحر.

صاح الجمهور حينئذ:

- ها! ها!

لقد غَرِق في كأس ماء!

من البديهي، أنّ البحر الخيالي الذي

ركبه الفنان دون حذر

كان في مستوى خياله.

ينقصه العمق.

بحر متوسط المدّ منخفض.

بحر ذي عمق منخفض!

بحر لا يستحقّ غرقا هائلا! ...

عندها، وحتى لا يغرق الفنان

في الحرج

سبح على اللوح

سبح على اللوح البالي.

كان يريد أن يصرخ:

- لوح على البحر !

لكن بما أنّه الدفّ

وأنّه، فنّان

وأنه يمارس أجمل مهنة في الدنيا.

يصيح:

- أنا " قارب " الميدوسا  لوحدي

وبالإمكان هذه المرّة

أن يوجد فيه  ناجون!...

يقول الجمهور، وهو المذهول إلى حدّ اللحظة:

" عرض رائع...

لا يوجد ناجون!

هذا واعد...

يسمح بتصوّر نهاية سعيدة!"

إذن، وبعد أن صرخ الجمهور:

- مرّة ثانية

صرخ:

- للمرة الثالثة ! للمرّة الثالثة !

وكانت المعجزة!

أمام جمهور مندهش

يصل الفنان المتحوّل إلى الشاطئ

ماشيا على الأمواج...

ويغرق في الحشد!...

***

de Raymond DEVOS,  L’artiste

Sur une mer imaginaire, loin de la rive…

L’artiste en quête d’absolu,

Joue les naufragés volontaires…

Il est là, debout, sur une planche

Qui oscille sur la mer.

La mer est houleuse et la planche est pourrie.

Il manque de chavirer à chaque instant.

Il est vert de peur et il crie:

– C’est merveilleux !

C’est le plus beau métier du monde !

Et pour se rassurer il chante

Maman les p’tits bateaux

Qui vont sur l’eau

Ont-ils des jambes ?

Et plouff, il tombe à l’eau !

Il est rappelé à la dure réalité de la fiction.

Lui, qui se voyait déjà en haut de l’affiche,

Il se voit déjà en bas de la liste de ces chers disparus !

Il a envie de crier:

– Un homme à la mer !

Mais comme l’homme, c’est lui

Et que lui, c’est un artiste

Et qu’il exerce le plus beau métier du monde,

Il crie:

– Et le spectacle continue !

Il remonte sur sa planche pourrie.

Il poursuit sa quête de l’absolu.

(Chanté

Maman les p’tits bateaux

Qui vont  sur l’eau

Ont-ils des jambes ?

Et plouff !

Il retombe à l’eau.

Il est ballotté comme une bouteille à la mer,

A l’intérieur de laquelle

Il y a un message de détresse.

Il a envie de crier:

– Une bouteille à la mer !

Mais comme la bouteille, c’est lui,

Et que lui, c’est un artiste

Et qu’il exerce le plus beau métier du monde. Il crie:

– L’eau est bonne !

– Un peu fraîche mais bonne !

Il remonte sur sa planche pourrie…

Il a complètement perdu le nord.

Il se croit sur la mer du même nom,

La mer du Nord… Il fait la manche…

Toujours la quête de l’absolu !

(chanté: )

Maman les p’tits bateaux

Qui vont sur l’eau

Ont-ils des jambes ?

Et il retombe à l’eau.

Le public, qui est resté sagement sur la rive,

Se demande si l’artiste n’est pas en train

De l’emmener en bateau.

Il se dit:

« Mais alors, quand est-ce qu’il se noie ? »

L’artiste, lui, s’aperçoit, soudain

Que la planche pourrie sur laquelle

Il est remonté pour la énième fois

Donne de la gîte sur tribord !

C’est-à-dire qu’elle penche du côté où il va tomber !

Il a envie de crier:

– Les femmes et les enfants d’abord !

Mais comme il est tout seul, il crie:

– Je suis le maître à bord !

Il ajouterait bien:

– Après Dieu !

Mais comme dans l’imaginaire, Dieu, on ne risque pas de le rencontrer !…

[Dieu existe, certes… mais dans le réel !]

Pour Dieu, l’imagination c’est une vue de l’esprit !

La fiction, ça le dépasse !

L’artiste sait qu’il n’a rien à attendre du Ciel.

Alors au lieu de crier:

– Après Dieu !

Il crie:

– Après moi, le déluge !

Et tandis que sa planche,

Qui fait eau de toutes parts,

S’enfonce dans les eaux,

Il n’a plus qu’ne pensée:

« Sauver la recette ! »

Il fait une annonce publicitaire:

– Mesdames et messieurs,

La planche pourrie sur laquelle j’ai eu

L’honneur de sombrer pour la dernière fois

Devant vous ce soir était sponsorisée

Par le ministère de la Culture !

Et il coule avec la subvention !

Il disparaît dans les flots

Et il réapparaît aussi sec…

Il a de l’eau jusqu’à la ceinture…

Ses deux pieds touchent le fond de la mer.

Alors le public:

– Ha ! Ha !

Il s’est noyé dans un verre d’eau !

A l’évidence, la mer imaginaire sur laquelle

L’artiste s’est embarqué imprudemment

Est à la hauteur de son imagination.

Elle manque de profondeur.

C’est une mer à marée basse.

Une mer de bas-fonds !

Une mer indigne d’un grand naufrage !…

Alors l’artiste, pour ne pas sombrer

Dans le ridicule…

Il fait la planche !

Il fait la planche pourrie.

Il a envie de crier:

– Une planche à la mer !

Mais comme la planche, c’est lui

Et que lui, c’est un artiste

Et qu’il exerce le plus beau métier du monde.

Il crie:

– Je suis le radeau de la Méduse à moi tout seul

Et il se pourrait que cette fois-ci

Il n’y ait pas de survivants !…

Le public, imperméable jusque là, se dit:

« C’est un spectacle cool…

Pas de survivants ?

Cela promet…

Cela laisse entrevoir une fin heureuse ! »

Alors, après avoir crié:

– Bis !

Il crie:

– Ter ! Ter !

Et c’est le miracle !

Devant le public médusé,

L’artiste transfiguré regagne la rive

En marchant sur les flots…

Et il se noie dans la foule !…

.............

* ريمون ديفوس: ممثّل ومسرحي وفكاهي وعازف موسيقى وكاتب فرنسي معاصر . عرف باشتغاله في مسرحياته (عروضه الفكاهية) على " اللعب بالكلمات" .

المصدر:

https://www.youtube.com/watch?v=SGPXwNz5wyw

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar)

***

A small boat on which my life depended and to which my existence hangs.

It was no different from  all the other boats. There was nothing special about it; it was just a small blue boat. A rowboat, without oars, moored in the sandy bay on the beach, protected by a rocky sea-shore from the  intermittent restless waves of the sea. Nevertheless, it was constantly swayed by the waves that flowed under and around it, but it did not leave its place, thanks to the heavy anchor that  held it in that spot. It may appear smaller or larger due to the ebb and flow. As the tide rose, most of it became covered with water, until only its edge remained visible, but in low tide, the water receded until  it was completely visible.

I can't remember when I first saw that boat there. It  had been in that part of the bay ever since I  began living in this house overlooking this secluded beach. It first caught my eye when I was watching the setting sun in its last moments, its disc sinking little by little into the depths of the sea, at the far horizon, and then completely fading away, except for a few scattered red spots that stained the clear blue sky. The boat was located between me and the setting sun. The transformations of the light were reflected on it, so the side facing me seemed darker, and there appeared something of the white color with which its inside was painted, in harmony with the whiteness of the waves when they hit the rocky sea-shore, or when they embraced the shore to fall into its arms.

At first, I thought it was a fishing boat, but that beach was devoid of fishermen, and I did not see anyone approaching it. It was never removed from its place, as far as I remember. Perhaps it was a recreation boat that someone had put there to have a picnic on holidays, I thought. However, despite my frequent sitting on the balcony of the house overlooking the sea, I had not seen anyone getting on that boat or approaching it.

As time passed, I became accustomed to seeing the boat, just as I was used to seeing the shore's rocks and sand, which no longer constituted an obstacle to my sight, or, as I was accustomed to hearing the roaring of the waves, which ceased to captivate my hearing. The blueness of the boat began to somehow blend in with the blueness of the sea, until it became like a wave among the waves of the sea, and its lines became just infinitesimal drops, tightly attached to each other, like drops of sea water.

Gradually, I no longer noticed the boat, and I no longer paid any attention to it, as if it wasn't there at all. But one day something happened that rekindled my interest in the boat, and its presence took on such a special meaning to me, that whenever I woke up in the morning, I  would run to the veranda of the house to make sure it was in its place. Before going to bed in the middle of the night, I would go back to the balcony to take one last look at it. During the day, I used to observe it a lot.  Sometimes, I imagined that it was responding to my thoughts or my looks, as if its movements, horizontal at times, vertical at other times, were symbolic signs with comprehensible connotations.

I even suspected that there were spiritual connections between me and the boat, though my mind did not find any acceptable logic in these speculations. How can a spiritual relationship be established between a person and an inanimate object? It is just a set of static wooden planks that had long ago been cut off from trees and that were tightened by solid steel nails. The swaying of the boat was only a tangential movement caused by the waves, not a spontaneous movement due to some rational will. Despite my logical reasoning, a strange feeling gripped me that my existence depended on the presence of that boat in that spot.

I do not know how feelings arise, and I do not know to what extent they are true or false, but that feeling that I had is a real one, put into words, which I uttered in my loneliness. I often used to say: “My existence depends on that boat.” Then I thought: But its existence, too, depends on me. If I had not seen it in that isolated, uninhabited beach, it would not have existed. It is as if I were echoing that absurd line of logic that philosophy students study-- a tree fell in the forest without anyone near it--Did it or did it not make a noise?

What drew my attention to the boat, the first time, was my friend the painter Khalid, or rather his strange behavior. Two years ago, Khaled suggested that he share the residence with me in this house, following the advice of his doctor, who explained to him that the fresh sea air would reduce the asthma attacks that he was suffering, and that wide open spaces would allow him to walk and breathe the air, which would relieve the arterial occlusion disease in his heart. I accepted his suggestion, because I thought that his living with me in the house would ease the severity of my loneliness, in addition to building upon the bonds of affection that have bound us together for many years.

Khaled was taciturn, spending most of his time on the balcony of the house, meditating a lot, gazing at the sea, reading a book, or moving his brush with small, careful strokes on a piece of cloth fixed to the easel. His drawings were dominated by scenes of the sea, the beach, waves and clouds, in predominantly dark colors. His scenes were devoid of the sun. He told me one day: “I'll draw that boat before it leaves.”

I said: - “It's always there, and I look forward to seeing your drawing of it.”

Days, weeks, and months slipped by without Khaled drawing the boat

Khaled often sat on the balcony, more meditating than painting or reading. At first, I thought he was contemplating the sea, staring at its waves, looking forward to the sunset, or following the movement of the clouds in the sky. But later it seemed to me that he was staring at the boat, as if his eyes had been tied to it by invisible wires, or as if he was thinking about something that worried him and filled him with fear. I thought to myself that he might fear death because of his advanced age and his difficult health condition. I laughed at his fears inside myself, because I fully believe in predestination. Death is not related to human health. How many a young person passed away while in full physical strength, and how many patients outlived their doctors and their visitors!

Khaled didn't tell me much about the boat, except to indicate his intention to paint it, so I didn't ask him why he was staring at it, as I feared I might be mistaken. Besides, he was taciturn and very thoughtful, and I was afraid to interrupt his chain of thoughts.

One day, Khaled finished drawing a scene in which the rocks of the gulf in which the boat is anchored appear when the waves hit them, so that their drops fly and turn into a pyramidal curtain of white grains, but the boat did not appear in that painting. When he had finished putting the finishing touches on that painting, he hung it on the wall and gently pulled me back a little, while contemplating the painting and said to me: - “What do you think of it?”

I said in a tone that I tried to make it sound sincere and natural: - “Really great, but missing the boat.”

He remained silent and did not comment, so I did not continue the discussion on the subject.

One day, Khaled completed a painting in which successive thick black clouds seemed to move quickly towards the bay, as frightening warplanes pouncing one by one on the rocky sea-shore near the beach, exactly on the spot where that boat was anchored. The painting was designed so that the viewer appeared to be under the aerial attack. But the boat itself was not shown in that painting. Khaled put the painting on the table, leaning against the wall. He asked:

- “Is the perspective clear?”

- The movement of clouds and waves is perfectly clear, as if one were in the eye of the storm.  But you forgot the boat.

He hesitated a little before saying: - “I will draw it one day.”

From time to time, Khalid felt signs of a heart attack; a pain in the chest that quickly spread to the jaw and left shoulder, a rise in the palpitations of the heart, a difficulty in breathing. He rushed to take a pill, laid on his back on the couch in the balcony; I rushed to call his doctor, and then I gently massaged his chest.

I passed by him one day. He was lying on the sofa in the balcony. He was staring at the sea and so he did not notice that I was near him. I heard him say as if he were talking to someone: “I will leave the day you leave, or you will leave the day I leave!” At first, I thought he was addressing me, but when he added: "Your painting is of no use. The original will leave and the image will remain", I, then, realized he was talking to the boat.

I quietly withdrew without him knowing I was there, and I thought to myself: “He must be sensing that death is approaching, which makes him an easy prey for obsessions. Therefore, he makes his life dependent on the presence of the boat in the bay.” This reminded me about a story by the American writer O. Henry that concerns a poor girl who was betrayed by her lover, so she fell ill to the point of death. She did not even have the price of medicine, so her neighbor, the old painter, volunteered to buy her the medicine. While she was in her bed, she watched the autumn wind playing with the leaves of a tree branch in the street leaning against the window of her room and causing them to fall one by one, until there was only one leaf left in the branch resting on the glass of her window. While hallucinating because of fever, the girl was repeating that the days of her life were falling like those leaves fell from the branch, and that she would die when the last leaf  fell. But, when she opened her eyes in the morning,  she saw the sun shining warmly through the window. The leaf remained in its place and had even grown greener and more lustrous. Little buds had opened beside it, and her hope for her life returned to her. She did not know that her old neighbor, the painter, had spent part of the night in the rain and wind drawing the leaf and buds on her window panes, and that at dawn he had fallen dead from the cold.

I, too, thought of a way to ensure that the boat would remain in the bay, so that hope would blossom in the soul of my friend Khaled, for the continuation of the heartbeat depends on the pulse of hope in the soul. I didn’t know what to do to ensure the boat would stay anchored in the bay. The boat is there and I don't know its owner. Furthermore, I'm not good at painting on the water.

Thus, months passed. One morning, Khaled was late getting out of bed, as I finished making breakfast, and he didn't join me at the usual time. I put the tray on the table on the balcony and went to his room. He was still in his bed. I didn’t hear his breathing. I approached him, placing my hand on his wrist. It was horribly cold. He must have died of a heart attack that struck him at night, without me being able to save him or even support him at the last moments. He avoided bothering others, and he has left this world without disturbing anyone.

Trying to pull myself out of the clutches of sadness and astonishment, I spontaneously hurried to the balcony and looked out over the bay. Surprisingly, I did not see the boat there. The boat was gone. The disappearance of the boat astonished me, and put a little apprehension in my heart.

In the evening when I returned from the burial in the cemetery, a boat was in its usual place.

****

...................................

* ترجمة لقصة: القارب للقاص علي القاسمي من كتاب: آوان الرحيل

  This short story is(القارب)  a translation of by Ali Al-Kasimi. It is the tenth in the short story collection Time to Leave, under translationآوان الرحيل .

بقلم: لارا فابنيار

ترجمة: صالح الرزوق

***

الشيء المميز بفودكا الفجل الحار أنها تجعلك تنسين أن ما تشربينه هو فودكا. اللون المخضر ورائحة القش تجعل الذهن يشعر كأنك تمتصين الأعشاب كما في حمام بخار، كما أن الطعم حاد جدا ويرشحك للشعور كأنك تشربين مشروب طاقة. نعم. مشروب طاقة. وينتابك الإحساس بالنشاط والقوة وأنت تنتهين من جرعة بعد جرعة. أنت مبتهجة مع الجميع، ولكن مع نفسك أولا، نفسك الذكية والفاتنة والعجيبة، وتعتقدين أن الجميع متاثرين بك بالمقابل، حتى لاحظت فجأة أنك مخمورة تماما ولا يمكنك التحكم بنفسك - حركاتك، أو كلماتك، أو ضحكتك الجنونية التي تلوي فمك وتلهب عينيك - وكل جسمك ينكمش وتريقين الشراب على طبقك، وركبتيك، وصدرك. ثم لاحظت أن هذه ليست حفلة كبيرة، والحاضرون هم خمس بالغين يبدو أنهم محترمون وفي أواسط أعمارهم، وتحلقوا حول طاولة في هذه الشقة الأنيقة في أبير ستريت سايد. وأن زوجك مارك يحدق بك مرعوبا، وصديقه سيرغي محمر الوجه، لأن شخصيتك الفاتنة والذكية كانت طيلة ساعتين تسخر منه وتنتقده. وحاول المضيفون صرف نظرهم، مع أنهم كانوا مخمورين مثلك. وكان الدواء الوحيد لذلك، طبعا، المزيد من فودكا فجل الخيل الحار، ولكن ليكن الله بعونك إن رأيت أن الزجاجة قد فرغت.

سألت هيلينا:" هل انتهت؟". وأخذت الزجاجة الفارغة مني وهزتها بقوة، كما لو أن الاهتزاز سيعيدها ممتلئة بقوة السحر. قال أليكس: "لدينا المزيد. سأودعها في المجمدة". وكان صوته مكتوما، لأن وجهه مدفون في فراء هرة كبيرة رمادية كان يحضنها معظم الأمسية. كان أليكس قد حلق لحيته حديثا، وتساءلت إن كان انجذابه لفراء الهرة بسبب فقدان شعر لحيته. قفزت قطة أخرى،  نحيلة ورمادية، إلى حضن هيلينا. وهناك قطة ثالثة في موضع ما، ولكن تلك تفضل الاختباء وتمرير الوقت تحت إحدى  قطع المفروشات الأنيقة. قالت هيلينا: "لا تعتقدوا من فضلكم أننا جماعة مهووسة بالقطط. فهي قطط عمي. توفي عمي وعمتي بفاصل أيام بينهما. والسباقة كانت عمتي. وكنا نساعد عمي بالجنازة لكنه توقف دون إنذار عن الرد على الرسائل. وتبين أنه مات أيضا. هل يمكنكم تخيل ذلك؟".

كان بمقدورنا تخيل ذلك، ولكننا لا نريد، ولذلك تبع كلامها صمت ثقيل. رأيت عدة قطرات فودكا متبقية في قعر كأس مارك، وتمنيت أن أشربها. ولكن مارك منحني نظرة إنذار. جلس قبالتي على الطاولة، ولكن بدا كأنه بعيد عني، بمسافة كواكب تفصله عني. ولكن غالبا ما أشعر بذلك حين نكون بصحبة الآخرين. وهذا الشعور يرعبني، لأنه يدفعني للاعتقاد أن التقارب الحميم العميق الذي يربطنا معا في البيت مجرد وهم يتبخر حالما نخرج، وبغياب تلك الحميمية لا نتمكن من الإحساس بالاستقلال أو الثقة بالذات، ونشعر أننا مكسوران ومهملان، وغير مرتاحين ونفتقد للحماية.  لأتغلب على رعبي، رفعت كأس مارك، ووضعته فوق وجهي حتى سالت آخر قطرة وتدحرجت في فمي المفتوح.  كان سيرغي جالسا بقربي. وأمكنني رؤيته من خلال الزجاج السميك. كان أطول وأضعف من كل الموجودين في حفلة العشاء. وكان وجهه محمرا، وكأسه يغطيها الضباب، وساقاه الطويلتان جدا مطويتان بشكل عجيب تحت الطاولة. وبدا غير مرتاح ومكشوفا، مثلي، وبضوء المخاوف التي أعاني منها، توقعت أن غياب الحب يتسبب بهذه الحالة. وكان يبدو هكذا منذ اختفاء داريا.   تهربت منه، وسقطت عيناي على الدفتر المفتوح فوق وسط الطاولة، وكان ملوثا بالزيت، ولا يصلح للكتابة إلا بصعوبة. كان الخط بيد هيلينا، أما الأفكار فتعود بالغالب لي ولمارك. كان الهدف من لم الشمل هذا مساعدة سيرغي لإطلاق قناة يوتيوب، وبها يمكنه إلقاء محاضرات عن الفن. كان سيرغي في روسيا مؤرخا فنيا، ومتعصبا للفن فعلا، وكان محبا للنحت، وبالأخص نحت الخشب. وكان يستمتع بالسفر لأماكن بعيدة، بحثا عن آثار فنية قديمة، وغالبا برفقة طلابه المخلصين، الذين يكتب لهم ويعلمهم ويلقي عليهم أحاديثه. غير أن يوتيوب أمر مختلف.  لم يكن سيرغي متيقنا أن لديه كاريزما قوية تؤهله لمواجهة الشاشة. ولكن تؤمن فدريكا صديقته الجديدة أن معنوياته كافية: فحضوره مريح وغير منفر، وكل ما يحتاجه أن يتغلب على الشعور بانعدام الأمان، وأن يتعلم كيف يروج لنفسه.  وكانت فكرة دعوتنا لتقديم المعونة تعود لفدريكا. وفي النهاية أنا ومارك صحافيان، لكن يمتلك أليكس  وهيلينا شركة تجارية ناجحة. وكانت متأكدة أن أربعتنا معا سنقدم مهارات مثالية لاكتشاف أفضل طريقة لنروج بها لسيرغي.

خططت فدريكا للإشراف على الموضوع، ولكن توجب عليها إلغاءه في آخر دقيقة حينما قدم إليها صديق فرصة فاصل غنائي لا يمكنها رفضه. وكان تخلفها عن الحضور خسارة. فهي على الأقل أصغر بعشرين عاما من بقيتنا. وهناك شيء جاد حيالها. أو ربما كان ذلك بفعل عمرها. كلنا لدينا أطفال، ومعظهم تقدموا بالعمر، ومع ذلك نفكر بهم كصغار. ولربما قضينا نحبنا من العار لو شاهدنا واحد منهم نتصرف بهذه الطريقة. ولو تواجدت فدريكا، لن أشرب حتى أفقد رشدي، وهذا مؤكد. قال مارك وهو يمد يده إلى الدفتر والقلم: "هل نتابع؟".

قالت هيلينا: "نعم. أين كنا؟".

"كتب سيرغي. ما هو عنوان آخر كتاب لك يا رجل؟".

قال سيرغي: "الغابة السيبيرية".

سألت بصوت مكتوم:"سيبيرية ماذا؟".

قال سيرغي:"الغابة السيبيرية". وتابع شرح أسباب تفوق الغابة السيبيرية على أشكال الغابات الأخرى. بالأخص بتولا سيبيريا. من الواضح أنها تستطيع أن تنمو في أكثر المناخات عدائية، وهو ما يجعل منها شيئا مناسبا للحفر على الخشب، لأنها ناعمة وقاسية جدا.

عويت أقول: "خشب سيبيري؟ خشب سيبيري قاس؟ هل هذا بورنو؟ هل وضعت يا سيرغي كتابا فاحشا؟".

انضمت هيلينا فورا وغردت تقول:"خشب استثنائي وصلابة فائقة. أعطني بعض الخشب الاستثنائي".

وقف إيفان أليكس ليضحك، واهتز مع قطته، فقد كانت لا تزال بين ذراعيه.  كنت مغشيا علي من الضحك وأسقطت من الشوكة في حضن سيرغي قطعة من سمك الرنجة. التقطها وألقاها على طرف صحنه. ارتعشت ركبته المبقعة من الرنجة. وكانت فدريكا قد نصحته بتقصير شعره جدا، وبدا به مثل ولد مدرسة أرعن. وبهذه الحالة كنت أنا السبب. وشعرت بعدم الراحة فجأة.

قال لي مارك: "هيي، لماذا لا تذهبين وتستلقين؟".

نهضت بصعوبة وتحركت نحو كنبة صغيرة بجوار النافذة.

قال أليكس: "انتظري. سأمنحك وسادة إضافية. تلك مغطاة بوبر القطة".

ولكن كنت قد تمددت ولا أجد الضرورة للحركة. وكنت لا أزال أسمع الآخرين، ولكن على الأقل لا أراهم، ولا يمكنني تفسير تعابير التذمر مني والتي انطبعت على وجوههم.

قالت هيلينا: "اسمع. هل صحيح أن لك ست زوجات؟ أعتقد أن أحدهم ذكر ذلك".

كنت أعلم من هو القائل. فهو أنا.

قال أليكس: "ست زوجات يا صاح؟. اللعنة".

بدأ سيرغي يتكلم قائلا أن هذا يعتمد على المقصود بمعنى زوجة، لكن رفعت صوتي من كنبتي قائلة: "كلا. لقد أحصيناهن.. وهن بالإجمال ست نساء".

أعجبني إحصاء عدد نساء أليكس، فهذا جعلني أشعر بزيادة الأمان لأنني رابع زوجة لمارك. ولست السادسة. كانت داريا سادس زوجات سيرغي. وهي صديقة قديمة لمارك، واحدة من سلسلة طويلة من الأصدقاء والمعارف الذين مروا بحياتي بعد زواجي بمارك. ولكن لم أقابلها إلا بعد عام على زفافنا، لأنها كانت حينها تعيش في أوروبا. ولكن كلمني مارك عنها كثيرا، ودائما بمزيج غريب من الحنين والتحير، كأنها شخصية من حكاية أو أسطورة، امرأة سمحت لها فتنتها الفائقة لتحصل على ما تريد، ولكنها دائما تفسد كل شيء في النهاية. قابل مارك داريا أول مرة قبل حوالي عشرين عاما، في بوسطن، خلال حفلة مهاجر جديد جاء من الاتحاد السوفياتي السابق. وكانت مركز الاهتمام، مع أنها ليست حكيمة ولا جميلة على نحو خاص. ولكن هي طويلة جدا - وتعلو بقامتها على بقية الضيوف كأنها شجرة وحيدة في وسط البرية. ويقال إن جد داريا أرستقراطي من رومانيا وانتهى به الأمر في سيبيريا، وكان والداها نحاتين مشهورين - وتلقى أبوها جائزة فنية سوفييتية هامة. ويشاع أن الأب مجنون ومقرف، وتسبب بهرب داريا من البيت حينما بلغت السادسة عشرة فقط. وبعد سنوات قليلة أتت إلى الولايات المتحدة بمفردها، وتدبرت قبولا في هارفارد. ثم انضمت لبرنامج دراسات مشهور عن فن الخشب في إحدى الجامعات.  وانجذب مارك إلى داريا. ولكن لم يمتلك الجرأة للتحرش بها. وكانت زوجته (الثانية) قد هجرته حديثا، وذهبت الى رجل آخر، وحملت ابنتها معها، وكان لا يزال متأثرا من ذلك. وحسب ما يذكر تبادل مع داريا عدة كلمات. ولذلك استغرب حينما اتصلت به بعد أسبوع واحد، لتطلب منه أن يأتي إلى المستشفى ويقلها بسيارته. وكانت قد خضعت لعملية ومن غير المسموح لها أن تقود سيارة. (لم يخبرني مارك ما هي العملية، ولكن يحتاج الشفاء منها لحمية معقدة). وتساءل لماذا اتصلت به من بين الجميع، واعترفت داريا أنها لم تكن مكالمتها الأولى. قالت وهي تتنهد: "كما ترى تبين لي أن معظم الناس أصدقاء للطقس المعتدل".

قابل مارك داريا في ردهة المستشفى، ورافقها إلى سيارته، وساعدها للركوب.  ثم سألها إلى أين يتوجب عليه أن يقودها. فأخبرته إنها حاليا غير مستقرة في شقة، وسألته إن كان بوسعها أن تقيم في بيته حوالي يومين. ومنحته ابتسامة دافئة وغريبة وبائسة جعلت قلبه يذوب.  وأقامت داريا في بيت مارك حوالي شهرين تقريبا. منحها خلالها غرفة نومه، ونام هو على كنبة في غرفة المعيشة. وكان يهتم بغسل ثيابها، ويأتي لها بلوازمها من البقالية، ويطهو طعامها، وفي الليل يساعدها في واجباتها المنزلية بعد أن يكون قد أضناه عمله الطويل. أردت أن أعلم إذا مارسا النكاح، ولذلك سألت هل وصلت علاقتهما لدرجة رومنسية في مرحلة ما. رد مارك إن هذا لم يحصل. وكلاهما لم يكن راغبا. أو بالاحرى إنه ألمح لها أنه متاح وذلك بعد أسبوع أو اثنين من مكوثها عنده. ولكنه فعل ذلك بدافع التهذيب، وليس لشيء آخر. ولم تقبل عرضه أبدا. ولم يقترب من الموضوع مجددا. كانا متوائمين. وبعد أسبوعين تعافت داريا بما يكفي لتعتني بواجبات الطهي. وكان يعود إلى البيت ليجد بانتظاره رائحة حساء شهية. كانت نباتية  وتعرف كيف تنتقي الخضار، وغالبا تستعمل مكونات لم يسمع بها مارك من قبل، مثل اللفت الألماني أو لفت طوكيو  أو الهندباء. سألته عن بناته واستمعت له باهتمام ملحوظ، وكلمته عن أحلامها ببناء عائلة وبيت حسب مخطط وضعته مسبقا، يضم باحة خلفية وحديقة خضروات. وسيعتنون جميعا بتلك الحديقة كفريق واحد - هي وزوجها المدهش و اللامع والوسيم، وأبناؤهما الكثيرون. وستعتني هي وزوجها بتربية الأولاد ليكونوا نباتيين، ولا يسع أحد أن لا يكون نباتيا؟. اعتقد مارك أن فانتازيا داريا سخيفة ومزيفة. كما لو أنها لا تعلم كيف تكون العائلة، أو كيف تعيش، ولا بد أنها كونت أفكارها من كتب الأطفال المصورة.

بعد خمس أسابيع، تعافت داريا تماما، وعادت لمتابعة حصصها في الجامعة، ولكن لم تستعجل البحث عن مكان خاص بها.  ولم يضايق مارك صحبة داريا، ولكنه كان يقابل بعض النساء، وكان يرغب بأن يتمكن من دعوة نساء إلى بيته. وأخيرا سألها هل خططت للمغادرة. بدا أنه فاجأها، ولاحظ أنه آلمها، وكأنها لم تتخيل أنه عمليا يريد منها أن ترحل، فتناسى الموضوع. وكان من الممكن لهذا التعايش أن يستمر إلى الأبد لو أنه لم يكن لمارك زوجة ثانية. وقد أخبرته فجأة أنها ارتكبت خطأ فادحا وستعود إلى بيتها مع بناتهما. وخشي أن يبلغ داريا بذلك، وقلق من ردة فعلها. لكن حينما أخبرها أخيرا أدهشته داريا وهي تزغرد فرحا. وبدا أنها سعيدة حقا لأن مارك سيستعيد أسرته، حتى لو ترتب عليها أن تغادر. وأبدى مارك استعداده لمساعدتها بالانتقال إلى بيت جديد، لكن قالت داريا إنها سترتب أمرها بنفسها. وذهبت لتتصل بعدد من معارفها، وسرعان ما حصلت على دعوة مؤكدة لتعيش مع إحداهن.

قاد مارك داريا إلى بيت متواضع في شارون. فتحت لهما الباب امرأة قصيرة زرية الهيئة يحيط بها عدة أطفال وكلاب تعوي.  وظهر أنها لا تعرف داريا على نحو جيد. ووقفت داريا وهي تستند على عمود الشرفة، وكانت شاحبة ومبتسمة، ولكن المرأة لم تبتسم لها. وبدا لمارك أن الشخص الطويل يبدو مقهورا ومكشوفا، وأكثر عرضة للمحن من الأشخاص معتدلي القامة. حمل حقيبة داريا إلى غرفة مظلمة ومزدحمة بالأشياء في مؤخرة المنزل، وحينما عاد وجد داريا تجلس على سجادة مهترئة في غرفة المعيشة، وتحاول يائسة أن تلاعب الأطفال والكلاب بلعبة مشتركة. 

قالت داريا للمرأة البائسة: "أولادك رائعون". وألقت نظرة اعتذار للكلاب، وسارعت تردف أن الكلاب رائعة كذلك. ابتسمت لها المرأة لأول مرة.

أقامت داريا أربع شهور هناك. ومن الواضح أن ذلك كان أسلوبها الخاص. فهي موهوبة بكسب أشخاص يقدمون لها خدمة، كتوفير المسكن والطعام وقيادتها بالسيارة إلى مكان ما. 

سألت: "هل هي إنسانة ذات نهج ما؟".

قال مارك: "كلا. على الإطلاق. لأصحاب المشاريع استراتيجية طويلة الأجل. لكن داريا متسرعة".

من السهل عليها عقد صداقات. ولكنها تخسرها بنفس السهولة. بعد فترة كانت المشكلة أنها تختبر حبك وحدود طاقاتك، وتتصرف كأنها مخدوعة إن لم تستجب لمطالبها بسهولة. ولا تقبل أي شيء أقل من الحب غير المشروط، حب من النوع الذي يتوقعه معظم الناس من ذويهم. خذ على سبيل المثال ضيافتها في العائلة المقيمة في شارون. بعد شهرين اشتكت من زحمة وحرارة غرفتها، وأعلنت أنها لا تناسب مريضة شفيت حديثا من عمل جراحي خطير، وطلبت تبديل غرفتها مع أحد أفراد العائلة. ولم تكن النهاية سعيدة.

قال مارك: "كنت محظوظا لأنها لم تستقر عندي سوى ثماني أسابيع. وهي فترة لا تكفي لتلعب لعبتها".

وعلى ما يبدو أنها تتبع نفس الأسلوب في حياتها المهنية. كانت تبرع بمقابلاتها، وتحصل على عمل محترم بإثر الآخر، ولكن سرعان ما تصر على دفع أي مشروع تعمل عليه نحو أقصى ما يمكن، وهي مشكلة متصاعدة بالضرورة، وينتهي الأمر بالاستقالة أو الطرد. وبعد عدة سنوات، أصبحت لها سمعة، وتراكمت عليها ديون، ولم يبق أمامها حل غير مغادرة الولايات المتحدة والبحث عن عمل في أوروبا. وهناك كررت نفس الدورة الشقية، وفي الختام سافرت إلى روسيا، حيث لم يسمع أحد شيئا عن ماضيها المقلق. وحيث منحتها الشهادة التي حصلت عليها من هارفارد موقعا ممتازا.

سألت: "وماذا عن حياتها الغرامية؟ هل كانت متقلبة أيضا؟".

قال مارك إنه يفترض ذلك، ولكنه لا يعلم عنها شيئا يذكر. وكانت داريا إما متحفظة جدا حولها، أو أنه ليس لديها ما يقال.

وأضاف: "من يعلم؟ بعض الناس غير محظوظين بالحب".

استفزني كلامه. كانت حياتي الغرامية، بعكس مارك ومعظم بقية اصدقائنا، باردة بلا أحداث أيضا. وأساسا كان بحياتي رجلان فقط، زوجي السابق ومارك. وهذا لا يعني أنني لست محظوظة بالحب. أليس كذلك؟. ما أفهمه من ذلك كما أعتقد أنني أنظر للحب بجدية لا يعرفها الإنسان العادي.

قلت: "ربما معايير داريا عالية جدا. ولا يمكنها الاستمرار مع أحد".

تنهد مارك قائلا: "بالتأكيد. أنا أوافقك".

ثم بعد عام من تلك المحادثة، اتصلت داريا بمارك لتخبره أنها وجدت أخيرا الحب الذي تبحث عنه كل حياتها. وأنها ستتزوج بأطول وأوسم وألطف وأذكى وأجمل رجل على الإطلاق.

شعرت بالمبالغة.

وقد قالت لمارك إنها قابلت سيرغي حينما كان يعمل على شيء عن والدها. وطلب منها الإذن لاستعمال صور قديمة: ويريد أن يكلمها، أولا عن أبيها، ثم عن طفولتها في سيبيريا. وبعد ذلك عن عاطفة حب سيرغي للمنحوتات الخشبية، وعن حبها للأشجار. وسألها عن شجرتها المفضلة، قالت البتولا السيبيرية. ولم يتمكنا من إنهاء المكالمة. ولم يستنزفا مخزون كلامهما. لم يأخذ كل منهما فرصته ليشبع من الآخر. وذلك هو الحب الحقيقي. حينما لا يسعك أن لا تكونا معا كل الوقت.

أعاد مارك التفكير بمحادثاته، واعتقد أن تعريف داريا للحب كان أبسط وأفضل تعريف سمعته في حياتي. وهذا كل شيء. لا يمكن لأي منهما أن يأخذ كفايته من الاخر. لا يمكن لأي منهما ألا يكون برفقة الآخر. حتى يحصل ذلك بالصدفة.

قالت داريا إنها ستقترن من سيرغي في الولايات المتحدة. وأنهما سيرحلان من هنا إلى الأبد. وكانت كارهة لروسيا في كل الأحوال - ولم يكن يريحها سياسات بوتين ولا نقص جودة الطعام النباتي. وكانت الخطة أن يستقرا في مدينة نيويورك. بسبب شركات التصميم الراقية والمتاحف، وكانت متاكدة أنها ستحوز على الاهتمام وتحصل على فرصة في شركة  تشجير وكتابة تاريخ الفنون.  وكانت قد وجدت مكانا ليقيما فيه - فقد قبل أحد أساتذتها  سابقا استضافتهما في غرفة نوم لا يحتاج لها. ووعدت أن تزورنا حالما تستقر هي وسيرغي.

قلت لمارك: "من المؤسف أن داريا لا يمكنها إغرائي. فأنا لست عرضة بسهولة للإغراء. ولدي وعي خاص تجاه ذلك".

قال مع ابتسامة: "سنرى".

مع ذلك كنت متشوقا جدا لرؤية داريا. وتابعت التفكير بشقتنا الصغيرة في الطابق الخامس، وحاولت أن أقرر إن كانت مناسبة بما فيه الكفاية. جاء زواجي من مارك نتيجة غرام هبط علينا مثل زوبعة، دون أن نخطط له ودون أن نتوقعه، واقتلع حياة كلينا من جذورها. تركت أنا ومارك كل شيء نمتلكه لآبائنا السابقين، ولم يكن بوسعنا الحصول إلا على شقة موحشة وداكنة، ثم أثثناها بأرخص المفروشات من إيكيا. وكان لها شكل يعزي قلب الأعزل: شرفة في الأعلى تواجه أبراج مبنى إلديرادو.  وكنا أنا ومارك فخورين بشرفتنا على نحو هزلي، كما لو أنها ابن أنجبناه. وقررنا أن لا نجرب إنجاب طفل. فقد كان مارك مسنا جدا، وأنا لم أكن أريد إلحاق الضرر بشعور ابنين لي.  كان أحدهما في الجامعة، والآخر على أعتابها، ولكنهما كانا ضعيفين. وأردت أن يعرفا مع أنني هجرت أباهما من أجل رجل آخر، لن أستبدلهما بأبناء آخرين.  وهكذا بطريقة ما كانت شرفتنا هي أقرب ما يكون لابن نعتني به معا. وجعلناها حية بالحب الذي غمرناها به. أحضرنا مفروشات متواضعة تصلح للحدائق ليمكننا تناول وجباتنا هناك. وجهزنا فيها حديقة خضروات وأعشاب وبندورة صغيرة. وطلبنا شجرة كرز محدودة الحجم، فوصلتنا في وعاء ضخم من الغضار. وكنا نتوقف على السلالم لنلتقط أنفاسنا ونشتم ونحن نحمل كل شيء إلى الأعلى حتى الطابق الخامس. والآن ونحن ننظر إلى الخلف على ماضي حياتنا، لا يسعني إلا التفكير بلعبة "بناء بيت" بطريقة صبيانية وبريئة، لا تختلف عن فانتازيا الحياة العائلية المشتركة بين داريا ومارك.

جاءت داريا إلى مسكننا بمفردها. واعتذرت عن سيرغي، الذي أخره اجتماع في متحف ميتروبوليتان مع شخص مهم. وتوجهت فورا إلى شرفة السطح ووقفت هناك وامتدحت المنظر. كانت قامتها وملامحها الرائعة جذابة حقا، بالإضافة لشكلها وابتسامتها الغامضة. وبدت كأنها أم وابنها وقد التحما معا، فقد كانت عاطفية وضعيفة في وقت واحد. وصدمني ذلك، ولكن لم أشعر بالقلق حينما منحتني اهتمامها. وسألتني أسئلة عن عائلتي. وامتدحت عملي. وأعربت عن إعجابها بالطعام النباتي الذي هيأته، وسألتني عن طريقة تحضير حساء القرنبيط المتبل. لم يسألني أحد من قبل عن وصفة أي وجبة. ثم بعد كأس أو اثنين مالت نحوي وهمست لي إنها تعتقد أنني ومارك منسجمان أكثر من انسجام مارك مع زوجاته السابقات. ولكن داريا لم تقابل الزوجة رقم 1، ومن الظاهر، أن الزوجة رقم 3 تافهة، ورقم 2 كارثة بكل معنى الكلمة، فقد هجرت مارك من أجل رجل آخر مرتين وليس مرة فقط. ثم أعلنت أن سيرغي اقترن قبلها بست زوجات ولكن هي لم تتزوج قبله وهذا أول زواج لها.

سألت: "هل تصدقين أنه تزوج قبلي خمس مرات؟".

قالت ذلك وهي تضحك، ولكن لاحظت أن ماضي سيرغي يربكها.

قال مارك: "أنا أعرف هذه الأشكال. من المتفق عليه أن يقولوا لا للمرأة ولا يمكنهم الالتزام بامرأة واحدة".

نبهني كلامه. وأسرعت بالمجادلة.

قىت: "لا. هذا ليس الصواب. بعض الرجال لا يلتزمون بزواج غير مثالي ويفضلون الاستمرار بالبحث عن شقيقة روح حقيقية".

سألت داريا: "هل بوسعي أن أعانقك؟". وحينما عانقتني أدهشني قوتها الفيزيائية الصرف التي عبرت بها عن امتنانها. عانقتها بالمثل بنفس القوة تقريبا.

وحينها شاهدت تكشيرة مارك. وعلمت لماذا. اعتقد أنني غراب أمام ثعلب داريا. ذلك كان امتنانها قد غمرني. وهذا يدل على سذاجة تسمح لي بالسقوط تحت سحرها. كما كان هو، وكما حصل للجميع. ولكنه مخطئ. ربما داريا ساحرة مشهورة، ولكن هذا لا يعني أنها لم تحبني بصدق وإخلاص. ألم أكن محبوبة؟. وحتى لو أنني عرضة لإغواء داريا لماذا لا أحبها بصدق، بغض النظر عن كل شيء؟.

تأخر سيرغي حوالي ساعة ونصف الساعة. وليعوض عن ذلك التهم السلالم نحو شقتنا ووصل بأنفاس لاهثة ومحمر الوجه، وكان يطلق تعليقات واحدة بعد الأخرى. كان يشكو من الشوارع، والأبنية، والزحام، والناس. والكهرباء والفن. كان المتحف مذهلا، ولا سيما المنحوتات الخشبية التي قدمها شعب أسمات. كانت تشكيلاته تأخذ الألباب - كانت كأنها جذور أشجار تنمو من جسم إنسان في الهواء لتربطه بأسلافه الذين تنمو جذورهم من أجسامهم في الهواء، أيضا، لتربطهم بالماضي السحيق، وكانت تكرر ذلك بلا نهاية. وهي طريقة ذكية لتعبر عن استمرارية الحياة، ولتشير إلى الخلود.  في لحظة ما توجب على سيرغي رفع نظاراته ومسح العدسات، وتصورت أن بخار حماسته الفائقة غلفها بالضباب. ثم نظر إلى أعلى وشاهد برجي إلديرادو التوأم أمامنا تماما، كانا ضخمين، مذهلين، ويسبحان في ضوء ذهبي.

قال سيرغي: "آه يا إلهي. ربما المشهد من سطحك أجمل ما في مدينة نيويورك".

وحان الآن دور مارك ليكون مصدوما من الفتنة ولأنظر له بتقطيبة على وجهي.

لم يكن سيرغي وسيما كما أوحت لنا داريا - برأيي كان مارك أجمل منه، إذا كنا موضوعيين - ولكنه مليء بسحر رومنسي. سحر من فترة مختلفة. قامته، نحافته، شعره الغزير، وكلامه المتدفق - كلها تصنع منه بطلا كيشوتيا. في الواقع هناك شيء كيشوتي بداريا أيضا. وهما واقفان على السطح معا، وذراع كل منهما تحيط بالآخر، وعيناهما تتفحصان برجي إلديرادو. كان من الواضح أنهما منسجمان.

الشيء الوحيد الذ رأى سيرغي أنه مخيب للآمال كانت الوجبة التي يسكبها. قال: "آه. أنتما نباتيان أيضا". وبدا ضجرا ومغدورا به، مثل طفل تلقى زوجا من الجوارب كهدية في عيد الميلاد. قال مارك لدينا بعض السلامي في الثلاجة، فاشتعل وجه سيرغي للحظة، ثم حول نظره إلى داريا يطلب إذنها. قالت: "حسنا. لكن فقط القليل منه". وأضافت بهمسة متآمرة: "لا يمكن للرجال أن يكونوا مثاليين في الليل. ولا يزال أمامنا رحلة طويلة".

كان زفافهما جميلا. بميزانية منخفضة لكنها مؤثرة حقا. مؤثرة جدا حتى  أنني ندمت لأني صممت أن أتزوج في بلدية المدينة. تبادل سيرغي وداريا المواثيق أمام مرفأ وليامسبيرغ، وكان يحيط بهما حشد من أصدقاء داريا، فقد اختاروا أن ينسوا أزماتهم السابقة معها كرمى لهذه المناسبة. وتكون لدي انطباع أن عددا قليلا من الضيوف يعرفون بعضهم بعضا. والشيء المشترك بينهم أنهم سمحوا لداريا أن تقيم بضيافتهم في وقت من الأوقات. وكان أفضل رجل وضيف الشرف هما آخر مضيفين لها.

كان يوما مشمسا قاسيا من شهر تشرين الأول. كانت الشمس في عيني كل الوقت، ولم أجد نظارتي الشمسية، ولذلك تابعت وضع يدي فوق وجهي لأوفر ستارة حامية. وكانت داريا ترتجف بثوبها الكريمي الفضفاض. وهكذا خلع سيرغي سترته السوداء، وعلقها على كتفيها. ولكنه بدأ يرتعش بدوره، فخلع أحد المدعوين سترته وقدمها إلى سيرغي. وهكذا حصلت داريا على سترة واسعة جدا، وحصل سيرغي على سترة قصيرة جدا. ورأيت أن الأمر كله سخيف ومؤثر .

كانت ميشيل منظمة العرس سيدة عجوزا صغيرة الحجم استضافت داريا حينما وصلت إلى الولايات المتحدة. قرأت ميشيل بصوت ممتلئ خطابا من قرطاس بأوراق مجعدة تخفق مع الريح.  ثم تقدمت فيدريكا حفيدة ميشيل، وكانت حينها مراهقة مزاجية وضخمة، وأنشدت أغنية "راقصني حتى نهاية الحب" لليونارد كوهين، وهي خيار داريا وسيرغي. وكان المفترض أن يرافقها على الغيتار زميلة في الدراسة، واعتذرت في آخر دقيقة، ولذلك غنت فدريكا منفردة، فبدت الكلمات خشنة ومنفرة قليلا.

سألت مارك: "ألا تعتقد أنه يفهم منها المعنى غير المقصود؟". ولكنه كان مشغولا جدا بطعامه.

تخيلت اثنين يرقصان على سطح شقة غادرة، مثل قمة جرف سطح، ويقتربان بالتدريج من الحافة دون أن ينتبها لها، حتى قام أحدهما بتلك الخطوة  الأخيرة غير المحظوظة، ليسقط كلاهما في الهاوية. وقامتاهما لا تزالان منحنيتين بوضع آخر رقصة لهما.

سألت آليكس وهيلينا من الكنبة التي أستلقي عليها: "هل تعلمان أن سيرغي قابل فدريكا في زفافه؟".

قالت هيلينا: "كلا. ماذا؟". كان أليكس يهز رأسه فقط ومارك ينظر نحوي متنبها. كان يكره كلامي حين يكون مباشرا ومن هذا النوع. لكن قررت أن أتجاهله.

نهضت قليلا واتكأت على الوسادات، ليمكنني رؤية الجميع. قلت: "لقد غنت 'راقصني حتى نهاية الحب'.

اكد سيرغي بقوله: "نعم. هذا صحيح. كانت خطيبتي تبحث عن من يغني لنا بالمجان، واقترحت المشرفة على زفافنا حفيدتها. وتلك كانت فدريكا".

كم من الغريب أن يتبدل كلامه إلى هذه الدرجة. كان بعكس حماسته السابقة. ولو توجب وصفه كان بطيئا ومحسوبا. وتساءلت هل هذا التغير حصل خلال زواجه بداريا أم بعد أن انفصلت عنه.

قالت هيلينا مع تنهيدة: "لفدريكا صوت جميل. هل ستكون هي الزوجة رقم 7؟".

قال سيرغي: "لا أعتقد أنه ستكون هناك سابعة".

لم يتوفر لهيلينا ولا أليكس فرصة لمقابلة داريا، لأننا صادقناهما منذ فترة قريبة، بعد العودة للحياة إثر نهاية الوباء، وكانت تشبه حركة الطبقات الأرضية.  بعض أصدقائنا اختفوا جغرافيا، وبعضهم ابتعدوا إيديولوجيا. فالدوائر الاجتماعية غيرت حدودها المألوفة، وضاقت، وتوسعت، واندمجت، وتكسرت. وفقدنا القليل من الأصدقاء وكسبنا غيرهم، ومن بينهم أليكس وهيلينا. وقابلا سيرغي من خلالنا، في بيتنا - ليس القديم بشرفته العالية، ولكن في شقتنا الجديدة العملية، والتي انتقلنا إليها بعد أن رفض مالكها أن يجدد الإيجار. ونظرت لهذا الانتقال على أنه إنهاء لطور رومنسي من زواجنا. وما تبعه فترة مقلقة وغير مستقرة يمكن أن تقود لتشكيل روتين مريح ورقيق، ولكن أيضا يمكن أن تؤشر على بداية النهاية.

استمر زواج سيرغي وداريا ثماني سنوات، وبعض الناس رأى أن ذلك معجزة.  كانت النقود إحدى المشاكل. مشكلة كبيرة. لم يتمكن سيرغي من الالتحاق بعمل. كانت داريا تحصل له على مواعيد مع شخصيات هامة، ولكن لم ينفعه ذلك، لأن لغة سيرغي الإنكليزية لا تتحسن مهما بذل من جهود - أو كما قالت داريا لأنه ببساطة لم ييبذل كل ما بوسعه.  وكان دخله الوحيد يأتي من مقالاته القليلة التي ينشرها في مجلات فنية. أما بالنسبة لها فقد كانت تجد وتفقد الأعمال بسهولة. وتابعا الحياة المشتركة في شقق الأصدقاء، عدة شهور هنا، وعدة شهور هناك. وتلك الإقامات كانت نادرا ما تنتهي على ما يرام، وكنت في سري أشعر بالسرور لأن شقتنا ضيقة جدا ولا يمكن استضافتهما. وفشل علاج مشكلة الإنجاب كانت أزمة إضافية.  جربا كل شيء. ولا أنسى وجه داريا بعد كل محاولة. لم يكن حزنا ولكن ما هو أسوأ - فراغ رمادي ويأس.  أما سيرغي فقد كان شيئا آخر. جلس بمكانه، متماسكا ومهتما، وهو يعانق داريا بذراعيه، مع قليل من الشعور بالراحة. قبل داريا لم أكن على دراية عملية بهذا الألم. كنت قد أنجبت اثنين وكانا صغيرين جدا. وكنت في خضم صراع الأمومة في تلك الفترة ولا يمكنني ملاحظة المعاناة التي يتسبب بها العقم. أنفقت ساعات أناقش مع أمهات شابات أخريات القيود التي نشعر بها. ومن الأسهل عليك إحصاء مصاعب إنجاب طفل،  لكن يصعب أن تتكلم عن ضروراته. ماذا يجعله ضرورة؟. ليس الشعور بالرضا، كلا، ولكنه أيضا يجلب الشعور بالامتلاء - نهاية الفراغ بسبب الرعاية،  أو الامتلاء بالقلق،  الامتلاء بالعاطفة، الامتلاء بالحب الكبير، مع التأكيد أن ذلك كان تقريبا لا يختلف عن الألم، ثم الامتلاء بشيء ثقيل وحقيقي يجعلك تشعرين بالجمود، وليس انعدام الوزن. تشعرين أنك هناك. ذلك ما كانت داريا تريده بكل قواها - أن تشعر أنها ذات جذور، وموثقة الرباط بأمان. وبعد كل محاولة فاشلة، كان يمكن لداريا أن تستمر في الفراش لفترة طويلة جدا. ثم تنتقد سيرغي بلسانها، وتتابع الهجوم عليه لعدة أيام - وأحيانا لأسابيع. 

"سيهرب". كلنا توقعنا ذلك بعد كل محاولة لا تقود لنتيجة. وأنا أيضا توقعت ذلك. ولكن رغبت أن يثبت لي أنني مخطئة. وأردت أن أرى الحب وهو ينتصر في خاتمة المطاف. وكنت أريد ذلك لأجل داريا ولأرفع من معنوياتي شخصيا.

وربحت الجائحة الجولة. ليس المرض نفسه - فكلاهما لم يكن مصابا - ولكن نظام الحياة الجديد الذي أتت به الجائحة.  قبل بداية انتشار كوفيد بوقت قصير، حصلت داريا على فرصة عمل غير متوقع في إيسلندا، من بين كل الأماكن. وأرادت أن يرافقها سيرغي، ولكن محاميه الذي يتابع موضوع هجرته نصحه أن لا يغادر الولايات المتحدة، ما دام ينتظر أوراق الجنسية الأمريكية. فقررت داريا أن تسافر وحدها. كان عملا مؤقتا، على كل حال، وسافرت لست شهور فقط. ورتبت لسكن سيرغي مع ميشيل، السيدة العجوز التي رعت زفافهما. ولم تكن تعلم أنه بعد أسابيع قليلة سيتوقف العالم - ستغلق المكاتب، وتتمزق الجامعات، ويعود الطلاب إلى مسقط رأسهم ليتابعوا الدراسة بالإنترنت - أو أن فدريكا، والتي كانت تدرس الموسيقا في جامعة بيركلي، ستعود لتسكن مع جدتها.  وفي أول عدة شهور، كان داريا وسيرغي يتكلمان بالزوم، وكانا يتناقشان بكل تفاصيل حياتيهما. واتصلت داريا في أحد الأيام حينما كنت أنا وسيرغي ومارك في نزهة في المنتزه. وتخلى عن سريته، وأمكننا سماع كل كلمة. أخبرها سيرغي أنه اقترض من ميشيل الدراجة وعبر بها جسر بروكلين إلى مانهاتن، وكانت الشوارع خالية جدا، فتابع بطريق متعرج حتى الزقاق الخامس. وأخبرته داريا أنه عليها أن تذهب إلى المتجر رغم عاصفة ثلجية، وكنا حينها في نيسان. وأضافت تقول: بالرغم من المناخ المتوحش الإيسلانديون شعب رائع ومريح.    ولأول مرة في حياتها لم تواجه الأزمات في العمل. قال سيرغي: "ذلك الشعب معتاد على اندلاع البراكين باستمرار. وهم مجهزون على نحو منقطع النظير  للتعامل مع إنسانة مثلك". ضحكت داريا. وكانت واحدة من تلك المحادثات بالزوم والتي أخبر بها سيرغي داريا أنه موجود الآن مع فدريكا.

وسمعت أنا ومارك عن انفصال سيرغي عن داريا. وحاولنا أن نتصل بها عدة مرات، كل على حدة ومعا، ولكنها لم ترد.  ولم ترغب بالكلام مع أحد. حتى أنها ألغت حساباتها بالتواصل الاجتماعي.  أخبرنا بعض الأصدقاء أن الشركة الإيسلندية عرضت على داريا وظيفة دائمة وقبلتها، ولكن لم نحصل على أي معلومات أخرى عنها.

"أنت. كيف حالك؟". فتحت عيني ورأيت مارك يركع قرب الأريكة. مرر أصبعه على خدي. وفجأة تلاشت المسافة  الشاسعة التي تفصل ما بيننا. لم يكن بعيدا عني بأكوان كثيرة - كان هنا، قربي تماما. معي. ولي.  لم يعد يدهشني أن الاتصال الفيزيائي المجرد يستطيع أن يفعل ذلك. كانت تعابيره رقيقة واستفزازية قليلا. وكان يدرك ما يرعبني، وكان يحاول أن يعلمني أنه ليس علينا أن نخاف من ذلك. ليس بعد، على الأقل.

سألني: "هل تريدين أن تعودي إلى البيت؟".

أومأت.

أبعد القطة الرمادية عن قدمي، وساعدني للنهوض. وحاول أليكس وهيلينا أن يحتجا. قالا: "هل أنتما راحلان؟ ماذا؟ الوقت باكر. كلا. لدينا زجاجة أخرى. ولا بد أنها بردت الآن بما فيه الكفاية".

ولكن أجبنا كما يفعل بقية الناس دائما في هذه الحالات - إنه علينا أن نستيقظ باكرا في الصباح القادم.

استغرقنا وقتا طويلا لارتداء لفاحتينا، وقبعتينا، ومعطفينا، وشد رباط بوطينا الشتائيين. ثم طلبت هيلينا أن ننتظر، وجهزت حزمة حلويات لنا. ثم قرر أليكس أن يخبر مارك طرفة طويلة فعلا. استمر سيرغي جالسا في كرسيه عند الطاولة، ينقر من طبقه  قطعة ملتوية من البطاطا.

كنا عمليا قد بلغنا الممر بانتظار المصعد الذي يصر، وحينها جاء سيرغي وخرج من الباب، وبدأ يعرج باتجاهنا.

أوضح قائلا: "ساقي نامت قليلا".

تأهبنا من أجله. كنا نعلم أنه سيسأل إن كنا قد سمعنا من داريا، لانه كان يستفسر عنها كلما اجتمعنا.

قال مارك: "لا. لا شيء يا صاحبي".

هز سيرغي رأسه، وعاد يعرج إلى الشقة.

ولكن كنت أعلم شيئا عن داريا، شيئا لن أعلن عنه. كنت قد وجدت بالصدفة مقالة عنها في مجلة إلكترونية. حسنا، لنكون صادقين تماما، كنت أبحث في غوغل عن داريا كل أسبوعين. وبالعادة أرى اسمها مرة أو مرتين، ولكن في هذه المناسبة رأيت مقالة طويلة تتكلم عن مشروع جديد عن "بستانية أمريكية مجتهدة" أزمعت على غرس أشجار في المرتفعات الإيسلندية  الرحبة والعقيمة. وشاهدت صورة لداريا وسط بحر من الرماد البركاني، وكانت تركع على شجرة ضعيفة. وكان رأسها مائلا، وابتسامتها الحذرة تؤكد أنها تعلم أن بعض الناس قد يعتقدون أن مغامرتها سخيفة، مثل طفل "يزرع" عصا في الرمال. ومع ذلك كانت ستفعلها.

رأيت شيئا ملهما في إصرارها على متابعة محاولاتها، بينما معظم الناس سيصيبهم اليأس على الأرجح. وينسحب نفس الكلام على إمكانية محافظتها على الأمل، مهما كان ذلك عبثيا وبلا طائل. احتفظت بتلك الصورة في هاتفي. حتى أكثر الحيوات سعادة تقود حتما إلى الفجيعة، سواء توقعتها أم لو تتوقعها. وآمل، حين يكون لي علاقة، أن تساعدني صورة داريا على الصبر والتحمل.

***

..........................

* الترجمة من النيويوركير. عدد 11 أيلول  2023.

لارا فابنيار Lara Vapnyar كاتبة أمريكية من أصل روسي. لها أربع روايات. ذكريات المتاهة 2006، رائحة الصنوبر 2014، لا زلت هنا 2016، اقسمني بالصفر 2019.  ومجموعتان من القصص: يوجد يهود في بيتي 2003، بروكولي وحكايات أخرى عن الطعام والحب 2008.

ترجمة صالح الرزوق

قصة : ايمي سيلفربيرج

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

وفقا لزوجي، يسيل لعابي في الليل. يسيل لعابي بغزارة، حتى يجف اللعاب ويتحول إلى بقع بيضاء في زوايا فمي، يسيل حتى تبقى بقع مبللة على وسادتى. أخبرني بينما أرتدي ملابسي هذا الصباح، وهو يفرد سرواله الكاكي. يذكرني كل ليلة قبل أن يغلق الباب الأمامي. ولكن كيف يكون وجهي جافًا تمامًا في الصباح؟

وفقا لأمي، هناك نوعان من الناس في العالم: أولئك الذين يرتدون ملابس للعشاء وأولئك الذين لا يفعلون ذلك. عندما أكون وحدي، أتناول الطعام عارية على المنضدة، مرتديًة جلدي وعظامي. وأنا أرتجف من الجبن والبسكويت..

وفقا لطبيبتي النفسية، لا ينبغي أن أكون مسؤولة عن سعادة الآخرين. أسأل: وماذا عن حزنهم؟  تفكر للحظة، والساعة تدق، وأصابعها تقرع الطبول. تقول: فقط إذا كنت سببًا في ذلك.

وفقًا لجاري، فإن الشجرة التي تتدلى فوق سياجي وتتساقط أوراقها على سطح سيارته هي شجرة رماد كاليفورنيا. هذا غير صحيح. هذا غير صحيح. إنها في الواقع خشب حديدي صحراوي. ومازلت أرفض تقليمها.

وفقًا لابني، سنندم أنا ووالده على عدم الاستثمار في موسيقاه. يجلس على طاولة المطبخ وأقبل أعلى رأسه. رائحة ملابسه محترقة بسبب بقائها في المجفف لفترة طويلة. يقول لي أنه شخص بالغ. قول،قل لى مرة أخرى، وأنا ما زلت أقبل رأسه.

فقًا لطبيب أسناني، من السهل حل مشكلة الطحن الليلي. قد يكون واقي الفم هو كل ما أحتاجه. يقول لي: ضعى أسنانك على هذا الشكل، عضى عليها وأمسكى بها. أقول بصوت مكتوم وفمي ممتلئ. "آسفة، هل سيؤدي هذا إلى سيلان اللعاب؟"

وفقا لزميلي، يجب أن يكون لديك مهارات الكمبيوتر. أنا أفتقر إلى الجين التقني. ويقول إن هذه المواقع ستستمر معك أو بدونك. ادخلى أو ابقى في الخلف. أخبرته أنه من الأفضل أن أبقى هنا - من غيرك سيسيطر على الحصن بينما البقية منكم مفقودون ويدورون في الفضاء الإلكتروني؟ يهز رأسه ويفتح الشاشة. يقول حظا سعيدا.

وفقا لأختي، يجب أن نأخذ إجازة. إنها تريد الذهاب إلى هاواي أو إلى مكان ما في المناطق الاستوائية. أو يمكننا أن نكون مغامرات، كما تقول، ونذهب إلى أوروبا.. تقف وقدميها على مقعد نافذة مطبخي، ويتدفق الضوء من خلال شعرها. لقد تم للتو إعادة تنجيد وسادة المقعد. تقول، ليس من الضروري أن تتقنى أي شيء سوى اللغة الإنجليزية. أعلم، أقصد أنني ذهبت إلى لندن في أحد أيام الدراسة الجامعية. بدا لي كل ذلك الهواء الكثيف المليء بالدخان استوائيًا. يقدم الفندق الشاي والفطائر الصغيرة كل يوم. مهلا، أقول لها، دعينا نجرب ذلك.

وفقا لشريكتي في لعبة التنس، عليك مهاجمة الكرة. وتقول إن الترقب هو السبيل الوحيد. إنها لا تدرك أنني أتوقع ذلك في كل مرة. المشكلة هي أنني أميل إلى إصدار الأحكام الخاطئة.

وفقًا لزميلتي في الكلية، كنت متوحشًة في ذلك الوقت. قالت: إنه أنت، لقد شجعتينا جميعًا. نتناول الغداء في شرفة المقهى. أعتقد أنه من الغريب التحيز الذي تتخذه الأشياء عند سردها. أخبرته أنني أتذكر الأمر بشكل مختلف: كنت دائمًا مقتنعًا بالأشياء ووافقت على مصلحة المجموعة. تضحك صديقتي وتقول : شهيد سكران؟ أوه من فضلك.

وفقا لابنتي، فإن العالم يؤكد على الأشياء الخاطئة. المال مثلا والمظاهر والجمال. قالت: أنت تفعلين ذلك أيضًا، أحيانًا تكونين مشوشة. قمت بمسح شعرها بظهر يدي. وقلت لها أعتقد أنك جميلة جداً،  تقول انظرى، ها أنت تفعلين ذلك مرة أخرى.

حسنا، يقول زوجي. أنت لا يسيل لعابك دائمًا. لكن في بعض الليالي تفعلين ذلك بالتأكيد. يمكنك الاعتراف بذلك، أليس كذلك؟ أعترفى بذلك.

- لا تتذكرين الأشياء بوضوح دائمًا.

(النهاية)

***

..................

المؤلفة: إيمي سيلفربيرج / Amy Silverberg كاتبة وممثلة كوميدية مقيمة في لوس أنجلوس. تعمل حالياً على مجموعة قصصية. وستصدر روايتها الأولى (First Time, Long Time) في عام 2024. وهي حاصلة على درجة الدكتوراه في الكتابة الإبداعية والأدب في جامعة جنوب كاليفورنيا، حيث تقوم بالتدريس. نشرت قصصها فى معظم المجلات المشهورة مثل جرانتا والنيويورك وغيرهما. ظهرت قصتها القصيرة "الضواحي!" في أفضل القصص الأمريكية القصيرة، تكتب إيمي أيضًا للتلفزيون.

قصة: مارسيلا كاربجو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

تقلبت في سريرها محاولة تجنب الضوء الداخل عبر النافذة وحضنت الوسادة التي كانت تتوسدها منذ قليل، ثم دفعت الملاءة بعيدا لتحرر قدميها، وإذا بزوجها يقف في مدخل الغرفة، قائلا:

- لقد استيقظت الآن.

- تقريبا...

همست وكأنها تحدث نفسها كان يمكن أنام للأبد

دخل وجلس على حافة السرير، فأصدر السرير صوتا مزعجا:

- هل يمكن أن تصنعين لي شايا؟

- من فضلك ضع الماء في الغلاية على النار وأنا سأكمل عمله.

- مزاجك سيئ.

التفتت مرة أخرى تجاه الضوء القادم من النافذة، هذا الذى الضوء نبهها إلى أن هناك حركة ونشاط خارج السرير، وخارج المنزل.

- أنا متعبة!

- لقد نمت ساعتين كاملتين.

- أنا متعبة

كررت ذلك فى حسرة.

دخل إلى المطبخ واستطاعت هي أن تسمع صوت صب الماء في الغلاية، و وشوشة إشعال عود الكبريت، بعد ذلك فتح زوجها التلفزيون، وسمعت حوارا بالإنجليزية وضحكات جمهور في الاستديو، وبعد قليل بدأ البراد في الصفير.

نبهها قائلا:

- الماء جاهز.

تمددت في السرير ثم جلست وهي ما زالت ممسكة بالوسادة بين ذراعيها، استمر البراد فى الصفير، ضمت الوسادة بقوة إلى صدرها، وقالت:

- أرجوك أطفأ النار.

توقف الصفير، شكرا لك يا رب، فكرت، كان على وشك أن يقودني إلى الجنون، بحثت عن نعالها تحت السرير، ونهضت. توجهت إلى الحمام وغسلت وجهها، فكرت: كان ينبغى أن آخذ حماما، ينبغى أن آخذ حماما الحمام كى أبكى فى سلام، مشت بخطوات متثاقلة إلى المطبخ، كان معتادا على مشاهدة برامج الضحك من حين إلى آخر، تساءلت:

- ما نوع الشاي؟

- بالنعناع.

أجاب دون أن ينظر إليها.

صبت الشاي في الكوبين ثم جاءت وجلست بجواره، مركزة عينيها على الشاشة.

- اشتريت ورقة يانصيب اليوم.

- ماذا؟

سأل فى شرود، ومن ناحيتها لم تجب، فأضاف:

- متى السحب؟

- غدا، مليونان!

- لكنهم يخصمون جزءا كبيرا منها للضرائب، لا أعتقد أنك تصدقين أنك تكسبين المليونين، أليس كذلك؟

قال ذلك وهو يأخذ رشفة من الشاي مصدرا صوتا مزعجا أثناء الشرب، سألت نفسها " منذ متى وهو يضايقني بهذا الصوت؟ " في البداية لم تلحظ ذلك، لكن سرعان ما أدركت الأمر. والآن يثير فزعها وسخطها، رجل سخيف إنه ليس خطؤها، إنه يقوم بهذا الصوت دائما كلما شرب الشاي، لقد بدأ يفعل ذلك منذ اثنتين وعشرين سنة مضت.

(2)

- أرجوك أوقف هذا الصوت أثناء شربك!

نظر إليها في دهشة لثوان، ثم همس:

- مزاجك منحرف!

- أنا مكتئبة!

استمر يتابع التلفزيون وكأنه لم يسمع شيئا، وبعد دقائق ضحك مرة أخرى متجاوبا مع الضحك في الاستديو، لماذا كان يجب أن تسير الأمور هكذا؟ لماذا لا يجب ان تتغير كثيرا؟

- منذ عدة أيام وأنا مكتئبة.

قالت ذلك وكأنها تذكره وتذكر نفسها

انتهى برنامج الضحك، فأخذت الكوبين الفارغين إلى حوض الغسيل، ثم عادت لتجلس بجواره من جديد، أما هو فغير القناة على فيلم وثائقي عن مكان ما بجوار البحر، عن مدينة من مدن الصيادين، إنه مكان بديع، فكرت في نفسها:هل تستطيع أن تعيش هناك، مكان بارد، يرتدي الناس المعاطف الثقيلة والشيلان ويحاولون حماية أنفسهم من الرياح، إنها على استعداد لأن تدفع أي شيء لكي تسير بجوار البحر، شاعرة بالبرد ثم تعود لتأخذ كوبا من القهوة الساخنة، قهوة بالقرفة، نعم هي تستطيع أن تعيش هناك بهذه الطريقة، في منزل خشبي مثل ذلك المنزل الذي تراه الآن على الشاشة بجوار البحر، ثم يكون لديها كمنجة. وفي الأيام المشمسة تجلس بجوار الشباك وتعزف على الكمنجة، وبعض النوت الموسيقية منذ متى لم تعزف، ولم تقم بأي شيء عى الاطلاق؟ قرون. في الأيام الباردة تعد الخبز أو تشرب القهوة في المطبخ، وهى تقرأ شيئا، يمكنها أن تأخذ الأكواب الفخارية التي أحضرتها معها من أورجواي، هذه الأكواب ستكون جيدة ومناسبة لمطبخها الجديد، حيث البحر والطقس البارد.

من المؤكد أن زوجها لن يهتم بالأكواب، فلم يسبق له أبدا أن لفت انتباهه للأشياء في المنزل، فيما عدا بعض الاسطوانات، ربما تستطيع أن تأخذ معها بعض الاسطوانات أيضا، بعض اسطوانات موسيقى الجاز، وهو كذلك لن يفرط في اسطوانات الجاز، لكن أين يمكنها أن تشغلها؟ لديهم جهاز تسجيل واحد فقط، التلفزيون؟ نعم. يمكنها أن تأخذ التسجيلا الصغير، ذلك الموجود في حجرة النوم ولكن المشكلة ستكون في كيفية عمل هذا الجهاز في هذا المكان؟

(3)

حول القناة عن البرنامج مرة أخرى عندما كانا يشاهدان مدخل البيوت الخشبية في المدينة الصغيرة، كانت على وشك أن تعترض ولكنها اكتشفت أن ليس لها القدرة الكافية على فعل ذلك، وبدلا من ذلك بدأت تتفحص المطبخ بعناية، مثمنة كل لوحة مائية على الحائط، وكل رف،و علبة التوابل والأطباق والأوانى، لقد أحبت الأوانى النحاسية، عندئذ بدأت تفكر كيف سيكون شكل المطبخ لو أخذت كل ذلك بعيدا: فراغات المسامير على الحائط مع مستطيلات من التراب، و الطلاء المتلاشي يشكل الأشياء التي اعتادت أن تكون في مكانها، وسيعاد تنظيم الأشياء على الأرفف من جديد. وهو سيموت، ولكن لا أحد يموت لهذا السبب، حاولت أن تقنع نفسها، ولكنها شعرت بالحزن، أما هو فغير القناة التلفزيونية هذه المرة على مباراة في كرة القدم، أشعلت سيجارة.

- أما زلت مكتئبة؟

لم ترد، فقال:

-  إذن كان يجب ألا أتكلم معك، عندما تكونين على هذه الحالة من الأفضل ألا أتحدث معك.

- لماذا؟

- لماذا ماذا؟

- لماذا من الأفضل ألا تتحدث معي؟

قالت ذلك بإصرار، فلم يرد عليها توسلت إليه تقريبا:

- أريد أن أعرف لماذا من الأفضل أن...

- لأنك ستقولين الأشياء التي يمكن أن تؤلمنى.

رجل مسكين، فكرت، إنه جبان، على الأقل، ذلك الشيء الأكثر صدقا الذى قيل بينهما منذ مدة طويلة، وقفت وهي تتنهد، غسلت الكوبين ووضعتهما في الفوطة لتنجففهما ثم فتحت الدولاب وتأكدت إذا ما كان هناك آثار غبار متبقية:

-  هل تود أن أعد لك كعكا بالليمون؟

-  عظيم!

قال ذلك وهو يبتسم.

(النهاية)

***

....................

تعريف بالمؤلفة:

ولدت مارسيلا كارباجو (Marcela Carbajo) فى الارجنتين حيث تعيش الآن ودرست في مدرسة الآداب بجامعة بيونس أيريس كما أخذت العديد من الدراسات في اللغة والسميولوجيا. وهى تعمل الآن محررة لعدد من مواقع الإنترنت والمجلات الأدبية

قصة: عزت كوشجير

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لم يسبق لأية زهرة عباد الشمس أن أدارت وجهها بعيدًا عن الشمس، باستثناء هذه الزهرة الموجودة في زاوية ساحة السجن. يستند وجهها إلى الحائط، وينحنى ساقها الضعيف نحونا. سقطت البذرة في ساحة السجن من منقار حمامة عندما سمعت صوت  سياط  المعذب من غرفة الاستجواب. تنهدت الحمامة، فسقطت حبة عباد الشمس التي خرجت من فمها في ساحة السجن الفارغة. بدت البذرة مهجورة وغير راغبة في الازدهار. فضلت البذرة أن تظل عقيمة. كانت البذرة مكتئبة. لكن قطرات المطر اخترقت جسدها وهمست بألحانها الصادقة:

- إذا بقيت عقيمًا، فسوف تتحولين إلى تراب، وهذا كل شيء! ستكون هذه نهايتك!

اكتسحت هذه الكلمات بؤس بذرة عباد الشمس. نمت تحت السماء الخالية من الشمس وأزهرت بتلاتها الصفراء. والآن تتكئ زهرة عباد الشمس الضعيفة على الحائط، عابسةً. تدير وجهها نحونا لنتخيل الشمس في بتلاتها الذهبية. فنهمس لها: أنت انعكاس الشمس! لكن زهرة عباد الشمس الممرورة والمستاءة تعيد وجهها إلى الحائط مرة أخرى. لم تتخيل زهرة عباد الشمس أبدًا أنها ستولد وتنمو في هذه الفناء الكئيب والمحاط بالإطارات، وتموت في صمت.

أرسم وأطرز صورة  زهرة عباد الشمس العابسة التي تواجه جدارا على قطعة قماش بيضاء حفاظاً على ذكراها، وجعلها خالدة. يمر طائر من خلال نافذتنا الضيقة في السماء. ألوح له بالمنديل المطرز مثل العلم لأعلم الطائر أن زهرة عباد الشمس المنعزلة لدينا تنتظر أن يلتقطها منقاره وينشرها عبر الحقول المشمسة الشاسعة...

يرى الطائر المنديل الأبيض. ثم يراه طائر ثان وثالث. يرانا جيش من الطيور، كل واحد يطير، كل واحد يأخذ بذرة. كل واحد يطير مرة أخرى إلى السماءحاملا بذرة.

لربما ستدير زهرة عباد الشمس الآن وجهها الشاحب بلا عيون نحونا! لربما سترسم البسمة على شفتيها غير المرئيتين!

(النهاية)

***

........................

المؤلفة: عزت كوشجير/ Ezaat Goushegir. ولدت الكاتبة عزت السادات كوشجير في إيران عام 1952. حصلت علي شهادة البكارليوس في المسرح والاَداب الدراسية من كلية الفنون المسرحية بطهران , هاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1986 حيث حصلت فيها علي شهادة الماجستير من جامعة اَيوا قسم المسرح. تعمل عزت كوشيجير كاتبة مسرحية وناقدة سينمائية وشاعرة نشرت أربعة كتب باللغة الفارسية ، ضمت كل مجموعاتها في القصة القصيرة: المرأة والحجرة والحب ـ فجأة بكي النمر ـ الهجرة إلي الشمس ديوان شعر. ولها ( التحويل ـ حمل مريم) مسرحيتان. وقد حصلت بعض مسرحيات عزت كوشجير علي جوائز عالمية في المسرح. وهي فوق هذا عضو فعال ونشط تشارك بإبداعها في عدد من المجلات الأدبية المعروفة ، حيث نشرت كتابتها في إيران وفرنسا وكندا وألمانيا. وتقوم الاَن بتدريس مادة الكتابة المسرحية في جامعة دي باول في شيكاغو.

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar)

***

When my friend, Sidi Muhammad, passed away, I felt loneliness surrounding me on all sides, and I had no way to escape from it. For, before his death, whenever I felt depressed and alienated, as if I were engulfed in a black cloud, I hastened to his apartment without any prior appointment. He used to cheerfully and happily open the door to me, greet me warmly and enquire about my health. Then he headed to the kitchen, put the kettle on the stove to make tea, and filled a plate with Moroccan  desserts: Kaab al-ghazal (crescent shaped cookies known as gazelle ankles), al-mahnashaʼ (baklava), al-qataif (filled puff pastry), and then we  moved everything from the kitchen to the living room, and we started talking over mint tea with dessert. After an hour of his sweet talk, which was full of anecdotes, I would feel relieved, as if the frustration which had weighed down my soul had been swept away little by little, until my heart was as light as air. I would get up to leave in order to go back to my work, at which time, he would get angry, because I did not stay with him long enough, or as he used to say, "Soon greeted and soon departed."

As for today, after death has taken his life, I do not know where to go when I feel alienated and lonely, and I do not know in whom to seek refuge. Sidi Mohamed was my only friend and my only refuge in this city. It is true that I have many good acquaintances  here, but I never felt the same type of familiarity towards any of them that I felt with Sidi Muhammad. I could not reveal the secrets of my heart, my pain, my hopes, and the burdens of my soul to them. As for Sidi Muhammad, I used to think of him as one of my family. We used to reassure and comfort each other. There was complete understanding between us. Perhaps our similar circumstances facilitated that communication between us. We were raised in two conservative families, educated in similar schools, specialized in similar subjects, and pursued the same profession.

While visiting him in the hospital in the final days of his life as he struggled with that dreadful disease with rare courage, I did not know what to say to him for I had used up all the words of hope and all the good news. Whenever I found him alone in his room, we would exchange looks, being at loss for words. I would feel tears flowing from my depths to my eyelids, so I would hurry out of the room and I call: "Where is the nurse?" to hide my tears from him, lest I make him sadder. Perhaps  my sadness was a form of selfishness, for I was expecting the loneliness and alienation that would befall me after his departure.

One evening, I found myself standing at his bed, my lips muttering verses from the Qur’an, and swallowing the saltiness of my tears. I surrendered to God. And I comforted myself, saying, death is inevitable, and all people come to it. But I still felt lonely, even when I was surrounded by dozens of people.

I did my best to forget him , since a whole year has passed since his death, but his image remained  fresh in my eyes, his figure was in my heart, and his voice filled my ears. I was afraid that I would get depressed, just as I had read around that time, that the Lebanese writer, May Ziadé, became depressed after the death of her parents and after the death of the writer Gibran Khalil Gibran, whom she loved by correspondence. That is why I left the city on vacation for a few weeks on the seashore, hoping that its vast surroundings would accommodate the sorrow that overwhelmed my soul, or perhaps that its waves would wash away the sadness that ran through my heart. There I trained myself to take my mind off the tragedy of my friend Sidi Mohamed. I drowned myself in thinking about other things, such as cultural projects that require many hours of mental preparation. After constantly thinking about the future, instead of the past, I congratulated myself on my success and went back to town.

That night, I managed to close my eyes quite effortlessly, without suffering the torment of sleeplessness that I was accustomed to in that bed. While I was reading in “Abu Musa's neighbors” novel by the Moroccan writer Ahmed Al-Tawfiq, drowsiness began to weigh down my eyelids. I fell asleep and the book fell aside.

That night I also had a joyful dream. I saw myself walking in a wide green meadow, with many streams in which clear water flowed, and in which poplar, linden, willow, and oak trees spread, and in their shade roses, carnations, and jasmine blossomed. Sparrows, nightingales, and other birds were flying from tree to tree, chirping and singing. At the end of the meadow there appeared to me an elegant palace with green domes, and a low white wall, upon which ivy bushes climbed. In the middle of it was a blue wooden door left ajar.

I went to the palace. I got close to its door. I entered. I was astonished by the view of its garden, its Moorish Andalusian style, the springs flowing from its rocks, and the fountains in its middle. It reminded me of the Generalife Garden in Alhambra (Granada, Spain). I continued walking until I came to a pool of great beauty and splendor, and to a table on whose edge, my friend, Sidi Muhammad, was sitting - to my astonishment and joy at the same time.

As soon as he saw me, he got up cheerfully, as usual. We hugged, happy to meet. He started asking me about my health. I reassured him. Then I asked him foolishly if he needed something that I could do for him there. He hesitated for a moment, then said: “Yes, please. Could you compile my separate articles about Morocco, and publish them in one book?” Enthusiastically, I promised him that I will, saying: “Rest assured, I promise.” I was so excited that I slammed my fist on the table in front of him, confirming my promise. Consequently, the cup of tea in front of him shivered on the table with a rattle like a bell.

The phone was ringing in the living room. I woke up. I went to the  phone with the dream still fresh in my mind. I started blaming myself, saying: “Why did I promise my friend Sidi Muhammad that I would collect his articles, which are scattered in his personal library in his house in Chefchaouen, his house which I cannot bear to see again and which I have avoided entering since his death.” Sadness would kill me if I went there.

I picked up the phone and said:

- Yes?

- You don't know me, sir, but I know you. My name is Al-Kharshaf. I and some of my colleagues, among the old students of Professor Sidi Mohamed, collected his articles about Morocco that were written in English , and we translated them into Arabic with the intention of publishing them in a book to honor his memory. We kindly ask you to help us review the translation.

- I will gladly do so. Thank you. Thank you, really.

بقلم: فيليب تيرمان

ترجمة: صالح الرزوق

***

كيف تعري كل دقيقة انبعاثنا،

حتى نتساءل ماذا أو من سمح لنا أن نشهد

زوال هذا الضباب، وهذه المياه، وهذه الوردة،

يعني أن نتساءل لماذا على يمامة النهار

أن تنظر إلى الخلف نحو الغصن

الذي قفزت منه لتحلق، حين تكون السماء بعيدة

جدا أمامها، أو أن نفكر كيف أن

ظل شجرة يخلص للشجرة،

حتى يخيم الظلام ويختفي

كلاهما في شيء أكبر،

في ذلك المكان المحجوز وراء الأضلاع، والذي

نودع به كل إنسان نحبه

طيلة ما تبقى لنا من حياة. والآن

الزنبقة البيضاء منقوعة بالمطر

ونحن نستيقظ ونتوجه إلى حبنا، هكذا

يتشكل العالم، بالحدوث

وبالتخطيط، وتلك الشمعة التي تحترق

تصبح اثنتين على زجاج النافذة. لذلك دع

أرواحنا تشبع بالجمال، والحقيقة،

هذا هو حال الروح، ما أن تدخل حتى تتابع إلى الأمام

مع الحياة. ونحن نعيشها مثل طائر يدخل

من نافذة ويغادر

من نافذة.

حياتنا تطلب الإذن

للروح كي تغني، بصوت رخيم، وحتى الأبد.

***

..................

فيليب تيرمان Philip Terman شاعر أمريكي معاصر. محرر مجلة "جسور" الثقافية التي تصدر في بنسلفانيا عن مركز جسور للثقافة والفن. عمل بالتدريس في براغ، وعدة جامعات في الولايات المتحدة.  من أهم أعماله: أيامنا المكسورة، بيت الحكماء، آياتنا، هذه كل القبيلة، ذلك التفاني الجنوني. حرر أيضا ترجمة قصائد مختارة للشاعر الراحل رياض الصالح الحسين، واشترك مع سكوت ماينار بتحرير ونشر مختارات مترجمة  من الشعر الشبابي السوري.

ترجمة: صالح الرزوق

للشاعر الفرنسي لامارتين

(1790- 1869)

ترجمة شعريّة عن الإنكليزية والألمانية

د. بهجت عباس

***

أحيّيكِ يا غاباتُ يا جوهرَ الدّهرِ

مُتَـوّجةً بالباقيات من الخُضْـرِ

وأوراقُـكِ الصفراءُ من بعد نضرةِ

على العشبِ ملقاةٌ وذابلةُ الثغــرِ

أحيّـيـكِ أيّـاماً تبـقّـتْ جمـيلــةً

سترحل عن قرب وتُمعن في الهجرِ

وإن ّحـداداً للطّـبـيــعة مُـؤْلـمٌ

تُسَرُّ له عيني، يضيق به صدري

*

أسير بخَطْـواتٍ هي الحُـلْـمُ كلّـه

على دربيَ المهجور في منتهى الحذْرِ

أودّ أرى ذي الشمسَ آخـرَ مـرّةٍ

وقد خَفـتَـتْ أضواؤها دونما سترِ

وإنّي أرى بالكاد ضوءَ شحوبها

على قدمي في عَـتْـمة الغاب إذْ يسْري

*

وفي كلّ أيام الخريف وعندما الـ

طبيعةُ يسري الموت فيها ويستشري

أرانيَ مجذوبـاً لإغــراء نظرة

مستّرةٍ تعني الوَداع على الفوْرِ

وداعَ صديق كان أمسِ بصحبتي

لآخِرِ بَسْماتِ على شفة تجري

*

كذا أتهيّا كيْ أغادرَ عالمي

وأبكيَ َ أيّامي الطِّـوالَ على الهدْر

وأحلاميّ اللاتي اختفيْـنَ بسرعة

أعود إلى الماضي فيجتاحني فكري

وأرنــو بِعَـْيـنَيْ حـاسدٍ لعطـائـه

فلمْ أحظَ َمنه بالنعيم مدى عمري

*

فيا أرضُ، يا وديانُ، يا شمسُ، نورها

حياةً، ويـا مـا للطبيعة مـنْ سحرِ

اراني مديـناً عند قبـري بدمعـةٍ

لَكُـنَّ، سيبقى سحـرُكم أبدَ الدهـرِ

يَكون نسيمُ الأرض عذباً وضوؤها

نقيّاً وتبدو الشمسُ في حلّةٍ تغري

لمن ودّع الدنيا ولم يبقَ ما به

سوى نفَسٍ يدنو إلى حافّة القبرِ

*

سأشربها حتّى الثمالـة، ربّمـا

أرى قطرةٌ من شَهْدِها باطنَ القعر؟

فمن هذه الكأسِ الحياةَ شربتُــها

خليطَاً بكأسٍ تمزج الشَّهدَ بالمرّ

*

لعلّ الغــدَ الآتـي يُعـيـد سعـادةً

فأحظى بها بعد القنوطِ من الأمر؟

عسى أنْ أرى في الجمْع روحاً نَكِرْتُها

تَجاوَبُ مَعْ روحي، تشدّد من أزريِ؟

*

يودّع زهرُ الروض عند سقوطه

حياةً وشمساً بالوفير من العطر

وعند مماتي الروحُ بعد انتهائها

تبثّ زفيــراً لحنُه ذو شجاً غَـمْـرِ

***

أيلول (سبتمبر) 2023

....................... 

.......................  

الخريف

القصيدة نثراً

(المثقف - 30 أيلول / سبتمبر 2015)

تحيّـاتٌ، أيتها الغاباتُ المتوَّجةُ بالأخضر المستديم !

الأوراقِ المصفـرَّةِ على العشب المتنـاثر!

تحيّـاتٌ، أيتها الأيام الأخيرة الرائعة ! حِدادُ الطبيعة

يُـثيـرُ ألمي ويُمَتِّـعُ عينـيَّ .

*

أسير بخطواتٍ حالمة في طريق مهجـور،

وأريد أن أرى ثانية، ولآخـرِ مرةٍ،

هذه الشمسَ المتضائـلةَ والشّاحـبةَ والتي لا ينفـذ

نورُها الواهنُ إلى ظلام الغابات عند قدميَّ إلاّ بالكاد!

*

أجلْ، في أيام الخريف هذه، عندما تموت الطّبيعة،

أجد إغراءً عظيماً في نظراتها المتستِّرة،

وَداعَ صديق، والبسمةَ الأخيرةَ الصادقةَ

من الشِّفاه التي سيغلقها الموتُ إلى الأبد .

*

هكذا أتهـيّأ لأغادر أمدَ عمري،

أندب الأملَ المُحتضَر لأيامي الطَّوال،

وأنظر إلى الوراء مرة أخرى، وبأعين حاسدة

أفكر مَـليّـاً بعطاياها التي لم أنعُـمْ بهـا قطّ.

*

يا أرضُ، يا شمسُ، يا وديانُ، ويا طبيعةً رائعةً جميلة،

أنا مدين لكم بدموع على حافّـة قـبري ؛

يُشَمُّ الهواء عذباً ! الضياءُ جِـدُّ نقـيٍّ !

والشمسُ جميلة للمُحتضَـر !

*

الآن أريد أن أشربَ حتى آخـرَ قطرةٍ

من خمر كأس الزَّهرة التي تمزج الرّحيق بالمرارة !

عند قعــر كأس الحياة التي شربتُ

ربما تكون ثمّةَ قطرةٌ من عسل معتدل المذاق.

*

ربما يدّخر لي المستقبل في مستودعه

قبضةً من سعادة، لأملٍ بائسٍ؟

ربما تكون بين الحشد روح أُهملَـتْ

تتـفهّم روحي وتتجاوب معـها ؟

*

تسقط الزَّهـرةُ فتمنحُ الريحَ عِطرَها،

إلى الحياة، وإلى الشّمس ناطقةً وَداعَـها الأخيـرَ؛

سأموت ؛ وروحي في لحظة انتهـائهـا

ستعطي صوتَ نغمةِ ناقوسِ موتٍ هادئٍ شجيٍّ .

...........................

* من كتاب (مختارات من الشعر العالمي بلغة مزدوجة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2009) 

.............................

English

Autumn

Alphonse de Lamartine

Greetings, forests crowned with remaining green!

Yellowing foliage on the sparse grass!

Greetings, last gorgeous days! nature's mourning

Evokes my pain and gratifies my eyes!

I walk the lonely path in dreamy steps,

And want to see again, for the last time,

This waning sun and pale whose feeble light

Barely pierces the woods' dark at my feet!

Yes, in these autumn days when nature dies,

In her veiled looks I find a great allure,

A friend's farewell, and the very last smile

From the lips that death will forever close!

Thus ready to leave the span of my life,

I mourn of my long days the dying hope,

And look back once more and with envious eyes

I mull over its blessings ne'er enjoyed!

Earth, sun, valleys, and fair and sweet nature,

I owe you tears at the edge of my tomb;

The air smells so sweet! The light is so pure!

To the dying the sun is beautiful!

Now I want to drink until the last drop

This chalice that mixes nectar and bile!

At the bottom of life's cup that I drank,

Perhaps there was a drop of honey mild?

The future may well hold for me in store

A return of happiness, forlorn hope?

Perhaps among the crowd one soul ignored

Would understand my soul and would respond?

The flower falls and yields its perfume to the wind,

To life, and to the sun, saying its last farewell;

I'll die; and my soul at the moment it expires

Will sound a quite mournful and melodious death knell.

................

German

Herbst

Alphonse de Lamartine

Heil dir Wald gekrönt mit dem Reste des Grünen,

Dessen gelbes Laub, auf dem Rasen verstreut ist!

Heil euch Ihr letzten schönen Tage! Traurige Natur

Passend fürs Leiden doch angenehm zum Blick!

Ich folge mit träumendem Schritt dem einsamen Weg,

Ich mag noch einmal zur letzten Zeit

Diese bleichende Sonne sehen, deren weiches Licht

Mit Schwierigkeit zu meinen Füssen das Dunkel durchdringt!

Jawohl, in diesen Herbsttagen, wo die Natur ausatmet,

Finde ich größere Anlockung in ihrem verschleierten Blick.

Dies ist der Abschied an einem Freund, das endgültige Lächeln

Der Lippen, die der Tod auf immer schließen wird.

Folglich, bereit den Horizont des Lebens zu überqueren,

Und die langen Tage der verschwundenen Hoffnung darüber zu weinen,

Kehre ich nochmals und mit neidischem Blick zurück,

Um seine Güte darüber nachzudenken, die mir aber nicht gefallen hat!

Erde, Sonne, Täler, schöne und süße Natur

Werde ich ihnen eine Träne schulden, wenn ich zum Grabe komme;

Ob die Luft dufte, oder das Licht rein sei,

Zum Sterbenden, hat die Sonne die Schönheit?

Jetzt möchte ich bis auf den letzten Tropfen,

Diesen Kelch des Leidens austrinken, der Nektar und Galle mischt!

Vielleicht am Boden dieses Bechers, woraus ich vom Leben trank,

Würde es einen Tropfen Honig geben, der übrigbleibt?

Vielleicht wird die Zukunft für mich erneut

Eine Rückkehr auf Vergnügen sorgen, wenn die Hoffnung verloren ist?

Vielleicht in einer Menge würde eine Seele, die ich unbeachtet lasse,

Meine Seele verstanden haben, und erwidern?...

Die Blume liefert den Duft an den Zephyr, wobei sie die Blätter verliert;

Zum Leben, zur Sonne, sagt man Lebewohl;

Und ich? Ich sterbe; und meine Seele, wenn sie aufgibt,

Wird wie einen traurigen und wohlklingenden Ton seufzen.

Übersetzung: © David Paley

French

L'automne

Alphonse de Lamartine

Salut ! bois couronnés d'un reste de verdure !

Feuillages jaunissants sur les gazons épars !

Salut, derniers beaux jours ! Le deuil de la nature

Convient à la douleur et plaît à mes regards !

Je suis d'un pas rêveur le sentier solitaire,

J'aime à revoir encor, pour la dernière fois,

Ce soleil pâlissant, dont la faible lumière

Perce à peine à mes pieds l'obscurité des bois !

Oui, dans ces jours d'automne où la nature expire,

A ses regards voilés, je trouve plus d'attraits,

C'est l'adieu d'un ami, c'est le dernier sourire

Des lèvres que la mort va fermer pour jamais !

Ainsi, prêt à quitter l'horizon de la vie,

Pleurant de mes longs jours l'espoir évanoui,

Je me retourne encore, et d'un regard d'envie

Je contemple ses biens dont je n'ai pas joui !

Terre, soleil, vallons, belle et douce nature,

Je vous dois une larme aux bords de mon tombeau ;

L'air est si parfumé ! la lumière est si pure !

Aux regards d'un mourant le soleil est si beau !

Je voudrais maintenant vider jusqu'à la lie

Ce calice mêlé de nectar et de fiel !

Au fond de cette coupe où je buvais la vie,

Peut-être restait-il une goutte de miel ?

Peut-être l'avenir me gardait-il encore

Un retour de bonheur dont l'espoir est perdu ?

Peut-être dans la foule, une âme que j'ignore

Aurait compris mon âme, et m'aurait répondu ? ...

La fleur tombe en livrant ses parfums au zéphire ;

A la vie, au soleil, ce sont là ses adieux ;

Moi, je meurs; et mon âme, au moment qu'elle expire,

S'exhale comme un son triste et mélodieux.

قصة: جورج هيم

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

استلقى الرجل الميت وحيدًا وعارياً على قطعة قماش بيضاء، محاطًا بجدران بيضاء كئيبة، في رصانة قاسية في غرفة تشريح واسعة بدت وكأنها ترتجف من صرخات التعذيب اللامتناهي .

غمره ضوء الظهيرة وأيقظ البقع الميتة على جبهته. استحضر لونًا أخضر متوهجًا من بطنه العاري، انتفخ جسده مثل كيس من الماء.

بدا جسده وكأنه كأس قزحي الألوان لزهرة عملاقة، نبات غامض من غابات هندية بدائية وضعها شخص ما بخجل على مذبح الموت.

انتشر اللونان الأحمر والأزرق الرائعان على أطرافه، وفي الحرارة، انفتح الجرح الكبير تحت سرته ببطء مثل ثلم أحمر، وانطلقت رائحة كريهة.

دخل الأطباء. رجال ودودون يرتدون معاطف المختبر البيضاء المهترئة والحواف المطلية بالذهب. اقتربوا من الميت وراقبوه باهتمام وكأنهم في مؤتمر علمي.

أخرجوا من خزائنهم البيضاء أدوات تشريح، أقفاص بيضاء مليئة بالمطارق، مناشير بأسنان حادة، أضابير، ملاقط بشعة، سكاكين ذات أسنان كبيرة ملتوية مثل مناقير النسور التي تصرخ دائمًا من أجل اللحوم.

شرعوا فى عملهم القاسي. كانوا مثل الجلادين البغيضين، والدم يتدفق على أيديهم وهم يتعمقون أكثر في الجثة المتجمدة وينزعون أحشائها، مثل الطهاة البيض ينزعون أحشاء أوزة. حول أذرعهم، أمعاء ملفوفة، مثل ثعابين صفراء وخضراء، وبراز يقطر على معاطفهم، وهو سائل ساخن فاسد. ثقبوا المثانة، كان البول البارد يتلألأ مثل النبيذ الأصفر. سكبوه في أوعية كبيرة، وكانت تفوح منه رائحة أمونيا نفاذة ولاذعة. لكن الرجل الميت نام. سمح لهم بصبر بسحبه وشد شعره. نام.

ومع دوي قصف المطارق في جمجمته، استيقظ في داخله حلم، بقايا الحب، مثل شعلة أضاءت في ليلته الخاصة .

خارج النافذة الطويلة امتدت سماء واسعة مليئة بالغيوم البيضاء الصغيرة التي سبحت مثل الآلهة الصغيرة البيضاء في ضوء ذلك العصر الصامت. وانطلقت طيور السنونو عالياً عبر السماء الزرقاء، وارتجف الريش في شمس يوليو الدافئة.

تدفق الدم الأسود للرجل الميت عبر العفن الأزرق على جبهته. في الحرارة تبخرت إلى سحابة رهيبة، وزحف اضمحلال الموت فوقه بمخالبه المرقطة. بدأ جلده يتقشر. تحولت بطنه إلى اللون الأبيض مثل ثعبان البحر تحت أصابع الأطباء النهمة، الذين وضعوا أذرعهم حتى المرافق في اللحم الرطب .

شق التحلل فم الرجل الميت. بدا وكأنه يبتسم. كان يحلم بنجوم جميلة، ليلة صيف عطرة. ارتجفت شفتاه المتعفنتان كما لو أنهما قبلتا قبلة قصيرة.

كيف أحبك.لقد احببتك كثيرا هل اقول كيف أحبك بينما كنت تمشين عبر حقول الخشخاش، وأنت نفسك زهرة من اللهب، ابتلعت المساء بأكمله. والفستان الذي انتفخ حول كاحليك كان موجة من نار في غروب الشمس. لكنك وضعت رأسك في النور، والشعر لا يزال يحترق، ملتهبًا بقبلاتي.

لذا مشيت، واستدرت لتنظرى إلي وأنت تبتعدين، ويتمايل الفانوس في يدك مثل وهج وردة ملقاة في الشفق بعد فترة طويلة من رحيلك .

أراك مرة اخرى غدا. هنا، تحت نافذة الكنيسة، هنا، حيث يسقط ضوء الشموع عليك، مما يجعل شعرك غابة ذهبية، وتنتعش أزهار النرجس البري حول كاحليك، بحنان، مثل القبلات الرقيقة.

سأراك مرة أخرى كل مساء في ساعة الغسق. لن نفترق أبدا. كيف أحبك! هل يجب أن أخبرك كيف أحبك؟

وارتجف الميت فرحًا على طاولة الموت البيضاء، فيما كسرت الأزاميل الحديدية في أيدي الأطباء عظام صدغه.

(النهاية)

***

............................

المؤلف: جورج ثيودور فرانز أرتور هايم (30 أكتوبر 1887 - 16 يناير 1912) كاتب ألمانى. اشتهر بشكل خاص بشعره، حيث يعد ممثل التعبيرية المبكرة. نُشر ديوانه الشعري الأول: اليوم الأبدى / Der ewige Tagعام 1911 وقد لاقى استحسانًا كبيرًا وكان هيم أيضا كاتبًا مسرحيًا وكتب أيضًا رواية واحدة.آمن هيم بفكرة "المدينة الشيطانية" التي كانت ترمز إلى نبذه للرومانسية في خضم صعود الصناعة والأنظمة القمعية. ومع ذلك، فقد عاش حياة جامحة وعاطفية، مصحوبة بالاكتئاب والقلق. في عام 1910، كان يحلم بوفاته غرقًا، وبعد ذلك بعامين سقط على الجليد أثناء التزلج. وقصة "تشريح الجثة " (1913) قصيدة نثرية أكثر منها قصة في خياله المضيء، وقد وصفت هذه القصة بأنها واحدة من أفضل حكاياته.

رابط القصة:

https://spurleditions.com/blog/2016/12/1/the-autopsy-heym

للكاتب الدَنماركي هانس اندرسن

ترجمة الدكتور زهير شليبه

من الدَنماركية مباشرة

***

كان يا ما كان في قديم الزمان، كان هناك أميرٌ فقيرٌ. كان يملكُ مملكة، لكنها صغيرة جدا، و مع ذلك كانت كافيةً ليتمكن من الزواج، وهذا ما كان يريد.

وكان فعلا لديه ما يكفي من الشجاعة ليتجرأ على طلب يد إبنة القيصر: هل تريدينني؟ ولكنه تجرأ على ذلك بالتأكيد لان إسمه كان واسع الإنتشار ومعروفا، وكان هناك مئات الاميرات اللواتي سيوافقن بإمتنان، ولكن لنرى هل وافقت إبنةُ القيصر هذه.

وعلينا أن نصغي الان:

نَمَتْ على قبر والد الامير شجرةُ وردٍ، آه، يا لها من شجرةِ وردٍ جميلةٍ، كانت تزهرُ وردةً جوريةً واحدةً فقط كلَّ خامس سنة، ولكنها كانت وردةً ذات عطرٍ شذيٍّ للغاية لدرجة أن المرء لمجرد أن يشمَّها ينسى كلَّ أحزانِه وهمومِه، وكان عنده أيضا عندليب يغني غناءً عذبا وكأن كلَّ الالحان ِ العذبة قد سكنت في حنجرته. وقد تقرر أن تأخذ الاميرةُ الوردةَ والعندليب، ولهذا وضع كلٌّ منهما في علبةٍ فضيةٍ كبيرةٍ و تمَّ إرسالهما إليها.

سمحَ القيصرُ لهم بحمل العلبتين أمامه والدخول إلى القاعة الكبيرة حيث كانت الاميرةُ تَلعبُ لعبةَ "جاء الغريب" مع وصيفاتها اللواتي لم يعملن شيئا آخر، وعندما رأت العلبتين الكبيرتين الفضيتين وفيهما الهديتان، صَفَقَت بيديها فرحاً.

" كنتُ أتمنى أن تكون الهدية قطوطة " قالت الاميرة، "ولكن جاءتني وردةٌ جميلةٌ".

"آه، كم هي مصنوعة بشكل دقيق" قالت الوصيفات كلّهن. " إنها ليست كذلك فحسب " قال القيصر، "بل إنها جميلةٌ أيضاً!"

ولكن الاميرة تلمستها وهمّت بالبكاء.

" آه، بابا "، قالت الأميرةُ " هذه ليست صناعية، هذه حقيقية! "

" آه " قالت الحاشيةِ كلّها " هذه حقيقية! "

" دعونا قبل كل شيء نرى ما في العلبة الاخرى قبل أن نَغضبَ " قالَ الابُ، وهنا ظهر العندليبُ من العلبة، وغنّى بشكل جميل للغاية، لدرجة أن المرء لم يستطع أن يقولَ شيئا عنه.

Superbe! Charmant! قالت الوصيفات بالفرنسية، لانهن كن يتحدثن الفرنسية، لكن الواحدة منهن أسوء من الاخرى.

" كم يذكرني هذا العصفور بصندوق موسيقى الملكة المرحومة " قال مرافقٌ قديمٌ " أها، نعم! هو نفس النغم، نفس الأداء!"

" نعم! " قال القيصر وبكى مثل طفلٍ صغيرٍ.

" لا أصدق أنه حقيقي " قالت الاميرة.

" نعم أنه عصفور حقيقي! " قال الذين جلبوه.

" طيب، إذن دعوا العصفور يطير،" قالت الاميرة، ولم ترغب ولا بأي حال من الاحوال أن تسمح للامير بالمجيء.

إلا أن الامير لم ييأس، لطّخَ وجهَه بالأسود والبُنّي، طَعجَ القبعةََ على رأسه وطرقَ بابَ القيصرِ.

" طابَ يومُك، أيها القيصر" قالََ، " ألا يمكن أن أجدَ لي عملا ً هنا في القلعة؟. "

" نعم، يوجد هنا الكثير من الذين يطلبون العمل! " قال القيصر " ولكن دعني أرى " " ولكني محتاج لشخص يعتني بالخنازير! لانه لدينا الكثير منها ".

وهكذا عُيّن الامير مربياً لخنازير القيصر. حصل على حجرةٍ صغيرةٍ سيئةٍ في حظيرةِ الخنازير، وكان عليه أن يعيش فيها! ولكنه بقي يعمل طيلة النهار، وعند المساء صنعَ قِدراً جميلاً صغيرأً، ُعلّقَتْ حوله أجراسٌ صغيرةٌ، وعندما يغلي ماء القدر ترنُّ ألأجراسُ الصغيرةُ بشكلٍ جميلٍ ويُعزفُ اللحنُ القديمُ.

آه يا يا عزيزي أوجوستين،

كلُّ شيءٍ ضاع، ضاع، ضاع! "

ولكن أمهرَ ما تفنّنَ به تجسَّدَ في أن المرء عندما يضع إصبعَه في البخار المتصاعد من القدر يستطيعُ مباشرةً أن َيشمَّ كلَّ طبخة حُضّرت في كلِّ مدخنةٍ من مداخنَ المدينةِ. أَنظر، إنه امرٌ يختلفُ حقا عن تلك الوردةٍ الجورية.

وهنا جاءت الاميرةُ تَتَمَشّى مع جميع وصيفاتها، وعندما سمعت اللحنَ بقيت واقفةً وقد بدت مستمتعةً جدا، إذ كان بمقدورها هي أيضا عزف:

" آه يا عزيزي أوجوستين " كان هذا هو اللحن الوحيد الذي إستطاعت عزفه ولكن بإصبع واحد.

" هذا هو ما يمكنني عزفه! " قالت، "لابد وإنه مربي خنازير متعلم! إسمعي! إذهبي إليه و إسأليه كم كلفة هذه الالة. وكان على إحدى الوصيفات أن تهرعَ إليه، لكنها لبست قبقابها أولا.

" كم تريد مقابل هذا القدر؟ " قالت الوصيفة.

" أريدُ عشرَ قبلاتٍ من الاميرة " قالَ مربيّ الخنازير.

" يا ساتر يارب " قالت الوصيفةُ.

" نعم، لا يمكن أن يكون السعر أقلّ من ذلك! " قالَ مربيّ الخنازير.

" ها، ماذا يقول؟ " سألتْ الاميرة.

" هذا ما لا أستطيع حقا ُنطقَه! " قالت الوصيفةُ " إنه لأمرٌ فضيعٌ! ".

" إذن فيمكنكِ أن تهمسي لي!" وهَمَسَت لها بما قال.

" إنه غير مؤدَّب! " قالت الاميرةُ وإنطلقت حالاً، ولكنها عندما مشت قليلا رنّت الاجراسُ في غاية الجمال:

" آه، يا عزيزي أوجوستين

كل شيء ضاع، ضاع، ضاع!

" إسمعي "، قالت الاميرة، " إسأليه فيما إذا كان ُيريدُ عشرَ قبلاتٍ من وصيفاتي!"

" لا، شكرا! " قال مربيّ الخنازير، " عشر قبلات من الاميرة "، أو أحتفظُ بالقدر."

" ياله من أمر مزعج! قالت الاميرة، " لكن عليكن إذن الوقوف حواليّ لكي لا يتمكن أحد من أن يرى شيئا! "

ووقفت الوصيفات حواليها ونشرنَ بدلاتِهنَّ وعندها حصل مربي الخنازيرعلى القبلاتِ العشر بينما أخذت هي القِدرَ.

ويا لها من متعة! كان على القدرِ أن يغلي طوال الليل والنهار، لم تكن هناك مدخنة في المدينة إلا وعرفوا ما يُطبخ في بيتها سواء كان بيت َ رجلٍ إسكافي أو نبيلٍ. وأخذت الوصيفاتُ يرقصنَ ويصفّقنَ بأيديهنَّ.

" نحنُ نعلمُ من سيأكلُ اليوم الشوربةَ الحلوة وعِجّة الدقيق! نَعلمُ من سيتناولُ العصيدةَ والكفته! يا له من أمر مشوِّقٌ! " " مشوِّقٌ للغاية! " قالت مسؤولة مخزن المطبخ.

" نعم، ولكن أطبقنَ أفواهكنَّ فأنا إبنةُ القيصر التي تقرر!"

" ليحفظنا الرب! " قال الجميع.

أمّا مربي الخنازير، أي الأمير، فلم يعرفوا عنه شيئا آخر أكثر من أنه كان بالفعل مُربِّيَ خنازيرٍ، لم يتركْ يوما يمرّ بدون أن يأتي بحركة ما، فقد صنعَ خرخاشةً، عندما يدوّرها تعزفُ كلَّ ألحان رقصات ألفالس وهوبساير والبولكا، التي يعرفُها المرءُ من إبداع العالم.

"ولكن هذا مدهشٌ suberb! " قالت الاميرةُ! حينما مرّت في طريقها به "، " لم أسمع في حياتي أبداً أروعَ من هذه الموسيقى! إسمعي! إذهبي إليه وإسأليه عن سعر هذه الالة، لكني لا أقبّلُ! "

" يريدُ مائةَ ُقبلةٍ من الاميرة! " قالت الوصيفةُ، التي كانت عندَه وسألته.

" أعتقدُ أنه مجنونٌ! " قالت الاميرةُ ومشت لكنها توقفت بعد مسافةٍ قصيرةٍ. " على المرء أن يشجّعَ الفنَّ! " قالت " أنا إبنة القيصر! قولي له سيحصلُ على عشر قبلاتٍ مثل يوم أمس، أما الباقية فسيحصلُ عليها من وصيفاتي.

" نعم، كما ترين، إذا كان لا بد منه! قالت الوصيفات.

" هذا هراء " قالت الاميرة " وإذا أقدرُ أنا على تقبيله، فيمكنكنَّ أنتنَّ ايضا ذلك! تذكّرنَ بأني أنا أعطيكنَّ المأكل والمسكنَ وأجوركنَّ " وهكذا كان على الوصيفة أن تذهبَ إليه مرةً أخرى.

" مائةُ قبلةٍ من الاميرة "، قالَ مربيّ الخنازير "وإلا ليحتفظ كلُّ واحد منّا بحاجته ".

" قِفنَ حواليّ!!! " قالت إبنة القيصر، ووَقفَ جَميعُ الوصيفاتِ حواليها وقَبّلَهَا.

" ماهذا الحشد المتجمع هناك عند حظيرة الخنازير! " قال القيصر، الذي طلعَ إلى الشرفة، فركَ عينيه ولبسَ نظارتيه،

" إنهن الوصيفات، وراء ذلك، عليّ أن أنزل إليهن!" – ورفعَ مؤخرتي فردتي حذائِه لأنه إعتاد دعسِهما بقدميه عند إستخدامه كنعال.

يالها من إنطلاقة!

حالما نزلَ الى الباحة، تمشى القيصر بهدوء شديد حيث الوصيفات مشغولات بِعَدِّ القبلاتِ حتى يتمَّ كلَّ شيء بصدقٍ بحيث لا يحصل مربيّ الخنازيرعلى قبلاتٍ أكثر ولا أقل، الوصيفاتُ لم يلحظن القيصرَ إطلاقاً. وقفَ القيصرُ على أطراف أصابعِ قدميه.

" ماهذا! " قال القيصر عندما رآهما يقبّلان بعضُهما بعضا وضربَهما على رأسيهما بنعاله في اللحظة التي حصلَ فيها مربيّ الخنازير على قبلته السادسة والثمانين. " يا إلهي! " قال القيصرُ من شدة غضبه، وطلب طرد الأميرة ومربي الخنازير من مملكته.

وقفت الاميرةُ خارجَ المملكة باكيةً، بينما راحَ مربيّ الخنازير يهينها والمطر ينزلُ مدراراً.

" آه يا لي من إنسانة عاثرة الحظ! " قالت الاميرة، لو أخذتُ الاميرَ الجميلَ! آه، كم أنا تعيسة! "

وإنزوى مربيّ الخنازير خلفَ شجرةٍ، ليمَسحَ عن وجهه اللطخاتِ السوداءَ و البُنّيةَ، رمى أسمالَه الرثَّةَ وظهرَ لها بِزيّ الامير الجميل للغاية لدرجةِ أن الاميرةَ إنحنت أمامَه.

" أنا بدأتُ أحتقرُكِ، يا هذه! " قالَ الاميرُ. " لم تريدي أميرا صادقاً!

لم تفهمي معنى الوردةِ الجوريةِ والعندليبِ، لكنك ُتقبّلين مربيَّ الخنازير مقابلَ لعبةٍ، والان يمكنكِ أن ترتاحي جداً! –"

وذهبَ إلى مملكته، أغلق البوّابةَ خلفه بإحكامٍ كي تبقى هي في الخارج تغني:

" آه يا عزيزي أوجوستين،

كلّ شيء ضاع، ضاع، ضاع "

***

كُتبت في عام 1842

قصة: كاثى فيش

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان يود أن يصنع لها الفطائر من التوت والعسل. وكانت تود أن ترفع حاشية تنورتها. وتعد له النار. وكان يود أن يصنع لها بطاقة، يرسم على مقمتها صورة، لأشجار وعصفور أرجواني. وكانا ينظران إلى بعضهما البعض في نهاية اليوم ويقولان الآن ماذا يجب أن نفعل؟ يجب أن نكون أصدقاء إلى الأبد ونمسك أيدي بعضنا البعض ونخبر بعضنا البعض عندما يكون لدينا شيء عالق بين أسناننا ونتداول الحكايات ونقول، لقد أخبرتني بهذا من قبل ولكني أحب سماعك تقول ذلك، لذا أخبرني بذلك مرة أخرى. وعليك أن تفك ربط حذائي الرياضي عندما أشعر بالتعب وسأرتدي الروب الزبرجدى الحريري عندما تطلب منى ذلك .

(تمت)

***

....................

المؤلفة: كاثى فيش/ كاتبة امريكية معروفة اشتهرت بكتابة القصة القصيرة جدا، لها أربع مجموعات من القصص ورواية قصيرة، تقوم بتدريس الكتابة الابداعية فى جامعة ريجيس في دنفر، كولورادو .

بقلم: جاك بريفار

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

"نعتقد أنه من السهل

أن لا نفعل أيّ شيء

الأمر صعب بالأساس

صعب كثيرا جدّا

يجب أن نمضي الوقت

إنه عمل شاق

يجب أن نمضي الوقت

إنه عمل هائل

من الصباح إلى المساء

لا أفعل شيئا

لاشيء

آه! يا له من شيء مضحك

من الصباح إلى المساء

أن أفعل نفس الشيء

لا شيء

لا أفعل شيئا

لديّ الوسائل!

آه! لها من حكاية حزينة

كان بإمكاني الحصول على كلّ شيء

لو أردت ذلك

كنت سأحصل عليه

لكن لم تكن لي رغبة في شيء

لا شيء."

***

جاك بريفار " حكايات" 1946.

............................. 

Jacques PRÉVERT : IL FAUT PASSER LE TEMPS

On croit qu’il est facile

De ne rien faire du tout

Au fond c’est difficile

C’est difficile comme tout

Il faut passer le temps

C’est tout un travail

Il faut passer le temps

C’est un travail de titan

Du matin au soir

Je ne faisais rien

Rien

Ah! quelle drôle de chose

Du matin au soir

Du soir au matin

Je faisais la même chose

Rien

Je ne faisais rien

J’avais les moyens!

Ah, quelle triste histoire

J’aurais pu tout avoir

Oui, ce que j’aurais voulu

Si j’avais voulu

Je l’aurais eu

Mais je n’avais envie de rien

Rien

(...)

***

Jacques Prévert - Histoires, 1946

Jacques PRÉVERT

Source : Humanité .fr

IL FAUT PASSER LE TEMPS

 

قصة: دانيال أ. أوليفاس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

اسمي آمنة. ليس آنا. ليس آنا. لكن آمنة. مثل فقدان الذاكرة. كان اسم الجدة آمنة. كانت بيضاء اللون، أصلها من ولاية نيفادا. تزوجت من جدي الذي كان من خاليسكو بالمكسيك. التقيا عندما انتقلت الجدة إلى لوس أنجلوس قبل فترة الكساد الكبير. أرادت الجدة الابتعاد عن والدها. أنا لا أعرف لماذا. كانت تبلغ من العمر ستة عشر عامًا فقط. رأيت صورة لها عندما كانت في ذلك العمر تقريبًا. بشرة بيضاء جميلة وناعمة مثل فستان الساتان الخاص بدميتي المفضلة. صغير الحجم . ولم يتجاوز وزنها التسعين. أصابع طويلة رقيقة طويلة جدًا بالنسبة لجسدها الصغير. الجدة تقف متكئة على كرسي خشبي. لا ابتسامة. فقط هذا التحديق. وكأنها تراني حتى قبل ولادتي وحتى قبل أن تقابل جدي وأنجبا ماما. عيون فاتحة اللون تبدو داكنة وتتلألأ من الظل، وتعرف أن أفكارها وذكرياتها كبيرة جدًا بالنسبة لجسدها الصغير. ولباسها يشبه فستان الزعنفة ولكنه ليس جريئًا جدًا. مكتوب بالحبر الأبيض على الصورة سانتا مونيكا، كاليفورنيا، 4 سبتمبر 1927. وعلى ظهرها بالحبر الأزرق الباهت مكتوب "آمنة هال". كتابة مختلفة عما هو في الوش.

لقد حدثتني أمي مائة مرة كيف التقت الجدة بالجد. حصلت الجدة على وظيفة في غسل الملابس لزوجة عمدة لوس أنجلوس. لقد كانت محظوظة نوعًا ما. لقد قامت بالغسيل مع امرأة أخرى، مكسيكية. إيزابيل. كانت إيزابيل تتحدث الإنجليزية بشكل جيد، وإلا لما تمكنت من الحصول على الوظيفة. وجميلة مثل جدتي ولكن بشرتها داكنة. هناك صورة مضحكة. الجدة وإيزابيل. الجلوس في نموذج حرف تى . إنهما تفعلان كل شيء. تمسكان بمؤخرة رؤوسهما بيد واحدة واليد الأخرى على وركهما كما لو كاوا تحاولان إغواء رجل. تبتسمان ابتسامات كبيرة. ربما انفجرا في الضحك الخارج عن السيطرة بعد التقاط الصورة. لا أعرف من أخذها. وماما لا تعرف من يملك السيارة أيضًا. ربما رئيس البلدية. من يدري. أسرار صغيرة. تمتلك إيزابيل حواجب سميكة مثل اليرقات، وشفاه ممتلئة، وأنف مسطح. أسرار صغيرة. تمتلك إيزابيل حواجب سميكة مثل اليرقات، وشفاه ممتلئة، وأنف مسطح. عظام عالية وشعر أسود طويل مضفر مثل خيط سميك. مظهر هندي جدا. عن عمر الجدة. جميل. تقول مامي إن إيزابيل قُتلت في العام التالي. عام 1928. قُتلت في الشارع ليلاً بسكين. ولم يتم القبض على أحد. لكن في هذه الصورة لا تظهران سوى السعادة السخيفة الخالصة للشابات مع مستقبل مشرق ينتظرهن بصبر، مثل كلب ودود، في غضون سنوات قليلة.

على أية حال، قدمت إيزابيل جدتها إلى نادٍ يذهب إليه معظم المكسيكيين. كان يسمى وقت اللعب. يقع في الشارع الثاني والشارع الرئيسي في وسط المدينة. ليس هنا بعد الآن. الآن هناك مبنى الدولة. مبنى ولاية رونالد ريغان. المدعون العامون يعملون هناك. ولحزب الشعب الجمهوري أيضًا مكتب هناك. المبنى حديث وجديد ويشبه سفينة التايتنك. يوجد في الأعلى نوافذ كبيرة تشبه الكوة. تم بناؤه في أوائل التسعينيات. على أية حال، كانت الجدة تذهب إلى هذا النادي مع إيزابيل. إنهما صغيرتان جدًا، لكنهما يرتديان ملابس أكبر سنًا. وهما جميلتان لذا دخلا. تقول مومي إن الجميع كان يحدق في الجدة لأنها المرأة البيضاء الوحيدة هناك. لكن لا بأس. لا مشكلة، قالت لى مامي. مجرد فضول حول هذه المرأة الشابة الجميلة ذات البشرة البيضاء جدًا. يأتي الرجال ويطلبون من الجدة الرقص. معظمهم لا يستطيع التحدث باللغة الإنجليزية بشكل جيد. وإيزابيل تطردهم بعيدًا. الجدة تريد منهم جميعا أن يبقوا. كلهم وسيمون . تقول إيزابيل: من يريد كل شيء يخسر كل شيء. أما الشخص الجشع فلا يبقى له شيء. اختر بحكمة تقول إيزابيل. بعد أن قالت هذا، رجل يمشي. يتحدث الإنجليزية بشكل جيد. اختر بحكمة تقول إيزابيل. بعد أن قالت هذا، يقترب الرجل. يتحدث الإنجليزية بشكل جيد. معتدل البنيه. يمشط شعره الأسود المموج إلى الخلف.. وسيم في بنطال مطوي عالي الخصر وقميص أبيض لامع. شارب رفيع مثل قلم الرصاص. الجدة لا تستطيع التحدث. مجرد التحديق في هذا الرجل الجميل. فرانسيسكو. خباز. لديه متجر خاص به للخبز الحلو في شوارع نورماندي والبندقية. لم يعد هناك بعد الآن. عمره اثنان وعشرون عاما. وهم يرقصان. أغنية رومانسية. أتمنى أن أعرف ما هى حتى أتمكن من شرائها. إنهما يتحركان وكأنهما يرقصان على نفس الأغنية معًا طوال حياتهما. تزوجا في العام التالي في وسط مدينة سانت فيبيانا. قبل أن تُقتل إيزابيل. روت مامي هذه القصة عدة مرات. لكني أحب الاستماع إليها.

لذلك حصلت الجدة والجد على شقة صغيرة بالقرب من متجر الحلوى. بالقرب من نورماندي. تلك الشقة لا تزال هناك. رباعية بعمودين من الخشب الأملس وشرفة اسمنتية مزدوجة للشقتين في الأسفل. درجات خشبية في الخلف ترتفع بشكل مستقيم ثم تنقسم مثل النهر إلى بابين مختلفين للشقق الأخرى. وقد تم بناؤها حديثًا في ذلك الوقت. يبدو المنزل مهيبًا في الصور. لكنه الآن تعرض للخراب ويجلس متدليًا تحت شمس لوس أنجلوس الحارة. طلاء رمادي متصدع. تم لصق العشب الاصطناعي على الشرفة والخطوات الأسمنتية. رديئ. ولكن في ذلك الوقت، لا بد أنه كان قصرًا لأجدادي. على الرغم من أن هناك أشخاصًا آخرين يعيشون هناك الآن، إلا أنني أمشي في بعض الأحيان. وأنا أحدق فيه محاولًة أن أجعله يبدو مثل الصور التي أرتني إياها مامي. ماذا لو تمكنت من الصعود وكانا هناك، شابان ومتزوجان حديثًا. وأود أن أقول، الجدة والجد، هذا أنا. آمنة. حفيدتك. سبعة عشر وامرأة تقريبا. لكنهما لن يعرفاني. لأنهما لم يعرفا قط أنني ولدت. ماتوا في عام 1979. في غضون شهر من بعضهما البعض. أولا، ماتت الجدة. سرطان الثدي. وبعد أسابيع قليلة من جنازتها، توقف قلب الجد. كل هذا حدث قبل ثلاث سنوات من ولادتي. لذا، كما ترى، فإنهما لن يعرفاني. سأكون مجرد طفلة نحيفة داكنة اللون بعينين زرقاوين تميلان إلى الخضرة ، مثل جدتي، وشعر أشقر قصير مصبوغ وعدد لا يحصى من الندوب والوشم. سيقولون أنني كنت في المنزل الخطأ. ربما سأنزل إلى الشارع وأجد المكان المناسب.

وعندما ماتا، تركا وراءهما أربعة أبناء بالغين وأحد عشر حفيدًا. كان ذلك قبل ولادتي، كما قلت. لكن حتى معي، لا يزال لديهما أحد عشر حفيدًا، لأن أخي الأكبر، أومبرتو، توفي قبل بضع سنوات. الموت ليس ذلك بالضبط. لقد أخذ حياته. شنق نفسه بملابسه الداخلية في السجن. إنه أمر مضحك لأنهم أخذوا منه رباط حذائه لكنه لا يزال يجد طريقة للقيام بذلك. خلال فصل الصيف، بعد أن تركنا بابى وانتقل إلى فلوريدا، كان أومبرتو يراقبني عندما تذهب مامي إلى العمل. في الصيف الأول الذي كان عليه أن يراقبني فيه، تجاهلني كثيرًا. كنت ألعب بمفردي في الحديقة أمارس لعبة الزواحف الزاحفة وسأصمم هذه الثعابين والحشرات ووجوه الوحوش الرائعة باستخدام جميع أنواع المادة اللزجة الملونة. وبعد ذلك سيطهون الطعام في تسع دقائق بالضبط . أشاهد مؤقت البيض الذي على شكل حبة الطماطم حتى يرن ويوقظني من غيبتي. بفارغ الصبر، قمت بسحب القوالب المعدنية باستخدام ملقط بلاستيكي صغير قبل أن أفعل ذلك، ثم قمت بتبريدها بالخرطوم مع إصدار صوت هسهسة عندما يضرب الماء البارد المعدن الساخن. رائحة المطاط المطبوخ الساخن تتصاعد من أنفي وقلبي يدق بقوة. وأسحب مخلوقاتي أو رؤوس الوحوش بأظافري وأضعها في علبة سيجار. سوف تتلألأ كومة إبداعاتي الصغيرة في الشمس مثل المجوهرات المطاطية. الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر. ثم أغلق الجزء العلوي من صندوق السيجار وأهزه لأسمع صوت حشرجة العقارب والكوبرا ورؤوس دراكولا وهي ترتد وتحتك ببعضها البعض بجوانب الصندوق.

مصنعي الصغير للزواحف الزاحفة يبقيني مشغولة لمدة أسبوع تقريبًا ويبقى همبرتو بعيدًا عن طريقي أيضا. ولكن بعد ذلك قرر الاعتناء بي. لقد جعلني أبقى في المنزل بعد مغادرة مامي في الصباح. ثم يسألني أسئلة بكلمات لا أفهمها. ويضحك هذه الضحكة الغريبة. وبعد ذلك يصبح الأمر خطيرًا جدًا. يبدأ في لمسي. وكل يوم يلمسني أكثر فأكثر ويخلع سراويلي الداخلية للقيام بذلك. ثم يبدأ بوضع الأشياء بداخلي. أولاً: أصابعه. ثم الأشياء. مثل ساق باربي ثم الملعقة ثم قلم الرصاص. بقلم الرصاص، بدأت أنزف وأصرخ. ماما تعود إلى المنزل في وقت مبكر من ذلك اليوم. رأت هامبرتو يفعل ذلك بي بالقلم الرصاص فصرخت مثلي وصفعت هامبرتو بقوة على رأسه فيسقط مثل قطعة من الورق المقوى. مامي تأخذني وتسرع بى إلى المستشفى. يجب أن نستقل الحافلة لأنه ليس لدينا سيارة. وأنا أبكي وهي تبكي. الناس يشاهدون. الجو حار في هذه الحافلة. وفوق ذلك الحافلة مزدحمة. وتهمس ممرضة الطوارئ في المستشفى بشيء للطبيب وتأتي الشرطة. كان عمري تسعة أعوام وكان هامبرتو في الثالثة عشرة عندما حدث هذا. لقد أخذوه بعيدًا ولن أراه مرة أخرى حتى جنازته. اكتشفت لاحقًا أنه بعد أن أخذوه بعيدًا، كان يدخل ويخرج من السجن ويعيش حياة غريبة عندما كان في الشوارع. سارع. وعندما شنق نفسه كان وزنه مائة واثنين وعشرين رطلاً. لقد جفل. وعندما شنق نفسه كان وزنه مائة واثنين وعشرين رطلاً. وطوله خمسة أقدام وعشرة. رأسه محلوق. عيناه تشبهان عيني. ذهبت إلى جنازته لكن مامي رفض الحضور. أما بابى فحضر من فلوريدا من أجل ذلك. أنا سعيدة لأنني ذهبت. يعانقني بابى ويقبلني على خدي. يقول مي هيجا. لقد اشتقت إليك كثيرا. لكن لا أستطيع أن أكون في لوس أنجلوس قولى مرحبا لأمك. ثم يغادر وكل ما يمكنني فعله هو التركيز على رائحة التوابل الحادة التي علقت بجانب وجهى حيث قبلني. مازالت مامي تعمل. طاهية في كافتيريا مبنى رونالد ريغان. سفينة التايتنك. لقد انتهيت تقريبا من المدرسة الثانوية. هذا جيد. لكنني أتجول في الفصول الدراسية وكأنني تحت الماء. إنها حركة بطيئة نوعًا ما، وتصبح أصوات الأطفال والمدرسين الآخرين مكتومة ويصعب فهمها. أحيانًا أجلس في الفصل ويظل اسمي يتردد في ذهني.

مازالت مامي تعمل. طاهية في كافتيريا مبنى رونالد ريغان. سفينة التايتنك. لقد انتهيت تقريبا من المدرسة الثانوية. هذا جيد. لكنني أتجول في الفصول الدراسية وكأنني تحت الماء. إنها حركة بطيئة نوعًا ما، وتصبح أصوات الأطفال والمدرسين الآخرين مكتومة ويصعب فهمها. أحيانًا أجلس في الفصل ويظل اسمي يتردد في ذهني. آمنة. آمنة. آمنة. حتى النهاية لم يعد يبدو مثل اسمي بعد الآن. يبدو وكأنه شيء غريب وبعيد. شيء يحترق ويلمع مثل المسامير الفضية التي تسري لأعلى ولأسفل شحمة أذني اليسرى. وأنا أحبه وأتساءل عما إذا كانت جدتي أيضًا تكرر اسمها مرارًا وتكرارًا في رأسها. وإذا فعلت فهل تغير وأصبح شيئا آخر؟ شيء مختلف تماما؟ شيء أفضل؟

(تمت)

***

............................

المؤلف: دانييل أ. أوليفاس/ Daniel A. Olivas  دانيال، حفيد المهاجرين المكسيكيين، نشأ بالقرب من وسط مدينة لوس أنجلوس. حصل دانيال على شهادته في الأدب الإنجليزي من جامعة ستانفورد ودرجة القانون من جامعة كاليفورنيا. يقيم بمنزله مع زوجته وابنه في وادي سان فرناندو. وقد ألف أكثر من اثنى عشر كتابا ، آخرها : "كيف تواعد مكسيكيًا طائرًا: قصص جديدة ومجمعة" (مطبعة جامعة نيفادا، 2022) وهو أيضا كاتب مسرحي وعضو في نقابة المسرحيين،ويمكن قراءة مسرحياته في موقع: New Play Exchange . .

قصة:  توني ليندسي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يقع المنزل أسفل المبنى فى الجانب الآخر من الشارع بالقرب من مقر شركة البيلى بويز. في المنزل رأى الأم في حمالة صدرها وسراويلها الداخلية. وفي الرابع من يوليو رمشت له الابنة. المنزل هو المكان الذي يذهب إليه الأولاد الأكبر سنًا فى البيلي بويز عندما يريدون الحصول على بعض المتعة.

يبلغ الآن من العمر خمسة عشر عامًا، ويقول الأولاد الأكبر سنًا في المنزل إن الوقت قد حان ليحصل على بعض منها. يقولون أنه إذا لم يذهب للحصول على المتعة  فسيبدأون في وصفه بأنه مثلي الجنس.

عندما يطرق باب المنزل، تجيب الأم مرتدية قبعة ورداء قصير من الصوف الأبيض، بالكاد يغطي الرداء صدرها المنتفخ. عندما نظر إلى أعلى من صدرها، رأى أسنانها الأمامية مغطاة بالفضة، لكنها لا تبتسم.

تبدو إنها متعبة. قالت له:

- اذهب إلى الغرفة الخلفية. سأرسل تاشا إلى هناك.

يمر عبر الغرفة الأولى ويرى ساعي البريد في الحي ممددًا على سرير غير مرتب. هناك شعر مستعار أشقر ممزوج بالأغطية المتلبدة وساعي البريد. عندما يصل إلى الغرفة الخلفية، يجد الباب مفتوحا. يدخل إلى غرفة النوم الصغيرة ذات اللون البيج التي لا تحتوي على نوافذ ولا يوجد بها سوى سرير للأثاث. يجلس على السرير المغطى بملاءات بنية بدون وسادة بينما تدخل الفتاة تاشا الغرفة.

ترتدي قميصًا ورديًا طويلًا وقدماها عاريتان. قميصها الوردي مزين بدمى الدببة البنية والبيضاء. تنظر إليه وتتنهد. تغلق الباب الملون بالماهوجني خلفها. تتجه نحوه وتجلس بجانبه على السرير.

- أتمنى أن يكون لديك المال. كما تعلم، أنا لا أفعل ذلك عادة مع الأولاد المتخلفين مثلك الذين لا يستطيعون التحدث وما إلى ذلك. وآمل أن تفهم أن مجرد عدم قدرتك على التحدث لا يعني أنك تحصل على خصم. إنها دائمًا عشرون دولارًا، وليس خمسة عشر، أو عشرة، يجب أن يكون لديك العشرون كاملة. هل لديك عشرون؟ تسأل وهي تنظر إلى وجهه بينما تلم شعرها على هيئة ذيل حصان.

لدي لاري العشرون دولارا، لكنه يفكر فيما قاله له آرون حارس المنزل الليلي. "حاول أن تحصل عليه بعشرة أو خمسة عشر دولارًا بقدر ما تستطيع".

قال له آرون أن يعطيها ورقة بقيمة عشرة دولارات أولاً. وإذا اشتكت يتطلب منه إضافة خمسة. إذا رفضت الخمسة عشر دولارًا، عندها فقط يكون عليه أن يعطيها العشرين دولارًا كاملة.

مد يده إلى جيب بنطاله الكاكي الذي أصدرته الدولة وأخرج ورقة نقدية بقيمة عشرة دولارات. ووضعها على السرير بينهما.

يشاهدها وهي تنظر إلى الورقة النقدية. تبدو عيناها متعبتين مثل عيني والدتها. تقول:

-  هذه ليست سوى عشرة دولارات فقط. انظر، لهذا السبب لا أفعل ذلك معكم أيها الأولاد المتخلفون حقًا. قلت عشرين وليس عشرة. يجب أن يكون لديك عشرون دولارًا. ساذج، ألا يعلمونكم أي شيء في ذلك المنزل؟ التكلفة عشرين دولارا.

تبدو صغيرة وجميلة المظهر، لكنها تتحدث إليه بقسوة وصوت عالٍ جدًا. تنهض من السرير الصغير المغطى بملاءات بنية وتعود إلى الباب.

عليك أن تذهب إذا لم تكن معك العشرون دولارًا كاملة.   –

ينظر إلى وجهها المتصلب غير المبتسم، ويسحب ورقة نقدية بقيمة خمسة دولارات من جيبه ويضعها فوق العشرة. كلا الورقتين متفتتتان لكنهما جديدتان، وعلى الملاءة البنية تبدو الأوراق الخضراء المجعدة مثيرة للإعجاب فى نظره.

بخمسة عشر دولارًا، يشتري عادةً ثلاث علب كاملة من بسكويت أوريو، ولترًا من مصاصة الفراولة، وكيسًا من رقائق رافلز مع الصلصة. خمسة عشر دولارًا تمثل كثيرًا في عالمه. يبدل نظره من النقود إليها.

- هل هذا هو كل ما لديك؟

تسأله من الباب وذراعاها متقاطعتان على صدرها وعيناها تجهدان لرؤية فئة الورقة النقدية التي وضعها على السرير.

يومئ برأسه نعم.

- تسك!

تمصمص شفتيها، وتتنهد، وتفتح ذراعيها.

- إنهم يحتفظون بكل أموالكم هناك في ذلك المنزل، أليس كذلك؟

يومئ برأسه نعم مرة أخرى.

يفهم لاري ذلك، لكنه غير متأكد من موافقته.هذا الأسبوع لن يتناول بسكويت أوريو، أو مصاصة الفراولة، أو رقائق رافلز مع الصلصة، لأن الأولاد الأكبر سنًا في الحى قالوا إن الوقت قد حان لكي يتوقف عن كونه عذراء. بعد أن يتخلى عن عذريته، كانت خطته هي العودة لشراء بسكويت أوريو، وحلوى الفراولة، ورقائق رافلز مع الصلصة.

شاهدها وهي تسحب قميصها الوردي الطويل من فوق رأسها.

يرى جسدها العاري ويفكر: الثدي! ينهض من السرير، ويمد ذراعيه في اتجاهها، ويلوي أصابعه. نصحه هارون أن يفرك حلمتيه قبل تقبيلهما.

تسير نحوه من الباب.

- حبيبي، هل تفهم أنه عليك النزول لرؤيتي في كل مرة تحصل فيها على المال؟

لم تعد تتحدث معه بقسوة، وأحب أن تناديه بالطفل. وهي تقف أمامه عارية. يرى شعرا هائشا وأثداء.الشيئان اللذان يتحدث عنهما الأولاد الأكبر سنًا في المنزل دائمًا. هي وعريها قريبان بما يكفي للمسه، لكنه لا يفعل ذلك لأن عينيه تبتعدان عن عريها إلى الخمسة عشر دولارًا على الملاءات البنية.

تسقط يداه إلى جانبيه. عندما ينظر للأسفل إلى الأوراق النقدية، لا يرى عشرة وخمسة. يرى ثلاث عبوات من الأوريوس والفشار بالفراولة وكيسًا من رقائق رافلزمع الصلصة.

يفكر لارى في مدى قرمشة حبات الأوريو الطازجة ومدى جودة نكهة الفشار بالفراولة التي تغمر رقائق البسكويت.

قالت له وهى تداعب خده:

- سوف يعجبك ما نفعله يا حبيبي.

تفوح رائحة المبيض من أصابعها، مما يجعله يتذكر أن اليوم هو يوم السبت، يوم الغسيل، وليلة مشاهدة الفيلم.

إذا أعطاها الخمسة عشر دولارًا، فكل ما سيتبقى له هو خمسة دولارات من أموال يوم الغسيل، مما يعني أنه سيتعين عليه مشاهدة الفيلم الليلي، (غزاة السفينة المفقودة) بدون وجبة العشاء الخفيفة والسناكس.

يخطو إلى جانبها وأصابعها المداعبة والثدي المكشوف وشعرها الهائش. ينحني نحو الملاءة البنية ويلتقط دولاراته الخمسة عشر.

تسأل وهى تشم إبطيها :

- ما الامر يا حبيبي؟

يهز رأسه لا. يعيد لاري الخمسة عشر دولارًا إلى جيب بنطاله الكاكي ويهرب من الغرفة الصغيرة ذات اللون البيج والملاءة البنية.

لم يتوقف عن الركض حتى وصل إلى المتجر الذي يقع على بعد شارعين. عندما يصل إلى هناك يرى لافتة بيع زرقاء كبيرة لبسكويت أوريو ملصقة على نافذة المتجر، ويبتسم من الأذن إلى الأذن. فماذا لو كان لا يزال بكرا؟ ما الضير فى ذلك ؛ فهو بكر سيتناول وجبات خفيفة في ليلة السينما.

(تمت)

***

....................

المؤلف: توني ليندساي/  Tony Lindsay. كاتب أمريكى روائى وناقد، من سكان شيكاغو الأصليين، وحاصل على درجة البكالوريوس من جامعة إلينوي شيكاغو ودرجة الماجستير في الفنون الجميلة من جامعة ولاية شيكاغو. قام بالتدريس في جامعة ولاية شيكاغو، وكلية ساوث سوبربان، وكلية ويستوود. له ست روايات ومجموعة قصصية واحدة.

بقلم: إليزابت بارت براونينغ

(1806–1861)

ترجمة: آسيا رحاحليه

***

كفى! قلبي وأنا متعبان.

نجلس هكذا بجانب شاهد القبر

ونتمنى أن يكون هذا الاسم المنحوت لنا.

الطحلب، برقّة، يعيد طبع

الكتابة الصلبة لسكّين البنّاء

فيما حياة السماء الحُلوة تجدّد حياة الأرض

التي تعبنا منها، قلبي وأنا.

*

أنت ترى أنّنا متعبان، قلبي وأنا

تعاملنا مع الكتب، وثقنا بالرجال،

وفي دمائنا غرق القلم

كما لو أن مثل هذه الألوان لا يمكن أن تطير.

مشينا مستقيمين للغاية نحو نهاية القدر،

أحببنا بشكل مفرط لكي نحافظ على صديق

و في النهاية نحن متعبان، قلبي وأنا

*

كم نشعر بالتعب، قلبي وأنا!

ويبدو أننا بلا جدوى في العالم؛

أوهامنا عن عيون الرجال

رمادية ومُسدلة بلا مبالاة

صوتنا الذي أثارك جدا،

سيتركك تنام ؛ دموعنا نديّة فقط

ماذا نفعل هنا؟ قلبي وأنا؟

*

متعبان جدا، متعبان جدا، قلبي وأنا!

لم يكن هكذا في ذلك الوقت القديم

عندما جلس 'رالف' معي تحت الزيزفون

لمشاهدة غروب الشمس من السماء.

سيدتي العزيزة، تبدين متعبة، قال لي؛

ابتسمت له، وهززت رأسي:

نحن الآن متعبان، قلبي وأنا.

*

متعبان جدا، متعبان جدا، قلبي وأنا!

على الرغم من أن لا أحد

الآن يأخذني تحت ذراعه ليطوّقني بشدّة

ويقبلني بدفء حتى ينتهي كل نفَس سريع بتنهيدة

أوه.. تعبٌ سعيد.

الآن، نحن لوحدنا، نتكئ على حجر المقبرة

غير مبتهجين ولا مقبّلين، قلبي وأنا.

*

منهك القوى قلبي، وأنا

لنفترض أنّ العالم لكي يغرينا جلب لنا تيجانا

مكسوّة بأحجار كريمة ناعمة

من القوى والملذات؟

دعه يحاول.

نحن بالكاد نهتم بالنظر حتى لطفل جميل،

أو سماء الله الزرقاء،

نشعر بالتعب الشديد، قلبي وأنا.

*

ومع ذلك من الذي  يشتكي ؟ قلبي وأنا؟

بلا شك في هذه الأرض الوفيرة

هناك غرفة صغيرة

للأشياء البالية: احتقرها، اكسرها، ارمها

وإن كان، قبل أن تصبح الأيام قاسية

كنّا محبوبين، ومستعملين

-  بما فيه الكفاية –

أعتقد، أنّنا نجحنا، قلبي وأنا.

***

قصائد مترجمة للشاعر الروسي الكبير

سيرغي يسينين

Сергей Есенин

ترجمة: إسماعيل مكارم

***

بلادُ المَسرّة، ذاتُ اللون السّماويّ

«Голубая да веселая страна…»

لقد ضحيتُ بشرفي لأجلِ الأغنية.

أيتها الرّيحُ البحرية، ليكن هبوبُكِ خفيفا −

ألا تسمعين كيف البلبلُ يخاطبُ الوردَة؟

**

ألا تسمعينَ، ها هي الوردة تتمايلُ وتنحني –

سَيكون لهذه الأغنية صدى في القلبِ.

أيتها الريح البحرية، ليكن هبوبُكِ خفيفا −

ألا تسمعين كيف البلبلُ يخاطِبُ الوردَة؟

**

أنت − طفلة ٌ، لا أحد يجادلُ في ذلك،

وأنا ... ألستُ أنا شاعرا؟

أيتها الريحُ البحرية، ليكن هبوبُكِ خفيفا –

ألا تسمعين كيف البلبلُ يخاطبُ الوردَة؟

**

أيتها الغالية ُ هيلا، سامِحيني.

كثيرة هي الورود التي نصادفها على الدرب،

كثيرة هي الورود التي تتمايلُ وتنحني،

وردة وٌاحدة فقط، هي التي تبتسم ويتملكها الوَجْدُ.

**

دَعينا نبتسمْ معا، أنتِ وأنا .

لأجل ديارنا الغالية الجَميلة.

أيتها الريح البحرية، ليكن هبوبُكِ خفيفا –

ألا تسمعين كيف البُلبلُ يخاطِبُ الوردةَ؟

**

بلادُ المَسرَة، ذات اللون السَّماويِّ.

نعم قدمتُ حياتي كلها لأجل الأغنيةِ،

ولكن لأجل هيلا، في ظلال تلك الأغصان

ها هو البلبلُ يعانِقُ الوَردَة.

ربيع 1925

***

هذا اللونُ الأزرقُ السّاحرُ

«Несказанное, синее, нежное…»

هذا اللونُ الأزرقُ الساحرُ...

ها هو موطني هادئ بعد تلك الرّعود، والعواصف،

وروحي حقلٌ واسعُ المدى،

يتنفسُ عَبقَ العَسَل ِ والورود.

**

لقد خمدتْ جمرتي، اشتغلت الأعوام شغلها،

وما قد حدثَ وانقضى لن أطالبَ بعودته،

سَهمُ العمر مرَّ كعربة خيل روسية جامحة

جابتِ بلادَنا كلها

**

عرفتِ الأنحاءُ كلها عَجاجَ خيلهم وضجيجَ السّنابكِ

ثم غابوا كأنَ ذلك حدثَ بإشارةٍ من الشيطان.

اليومَ هنا في ديرالغابة هذا

يُسمَعُ حتى كيفَ تسقط الوريقة الصّغيرة.

**

أصوتُ الجُلجُل هذا؟ أم هو الصّدى البعيدُ؟

كل هذا يملأ الصّدرَ بهدوء.

قفي أيتها الروح، لقد عَبرنا وإياك

ذلك الدّربَ الهائجَ، وما قد قدّرَ لنا

**

سندرسُ بتأمل ما قد رأيناه..

ما حَدثَ، وما جَرى في البلادِ،

سوف نسامحُ من أهاننا بمرارة

بذنب آخرين أو بذنبٍ مننا.

**

أتقبّلُ كلّ الذي كانَ وما لم يكن،

ولكن مع الأسف، أن يحصلَ هذا في العام الثلاثين –

كانتْ طلباتي في سنّ الشباب قليلة،

إذ حَشرتُ نفسي في دخان الحانة.

**

لا عَجَبَ بذلك فشجيرَة البلوط، التي لم تثمر بعد

تنحني كما العشبة في الحَقلِ...

آه إنها مرحلة الشباب، إنه الشبابُ المُتحَمّسُ،

الشبابُ الذهَبيُّ، النزقُ.

1925

***

هذا البيتُ المُتواضِعُ

Низкий дом с голубыми ставнями

يا بيتنا المتواضع بتلك الدرف بلونها السّماويِّ،

لن أنساكَ أبدا .. لن أنساكْ، −

ليس من زمن بعيد

انقضت فيك تلك الأعوامُ في مرحلةِ العتمة.

**

حتى يومنا هذا أرى في المنام

حقلنا، والمروجَ، والغاباتِ،

حيث قد غطاها ذلك الدّمورُ الأغبرُ

من سماواتِنا الشّمالية الفقيرة.

**

لا أتقنُ لغة التعجّبِ

ولكن لم أرغبْ أن أضيعَ في الأبعاد النائية،

غير أنّي ربما أحتفظ في صدري دائما

بتلك الرّقةِ الحزينة للروح الرّوسيةِ.

**

كم أحببتُ طيورَ الغرنوق الغبراء

وأصواتها الفريدةَ في تلك الأبعاد القاحلة،

إذ أنها لم تجدْ في تلك الحقول الواسعةِ

حباتِ القمح، التي تغنيها من جوع.

**

رأت فقط أزهار شجرةِ البتولا،

وأشجارَ الصفصاف المعوجّةَ العارية،

ووصل إلى مسامِعِها صَفيرُ

قطاع الطرقِ القاتِلَ، المُخيفْ.

**

حاولتُ أن لا أحبّ،

ولكن لم أجدْ إلى ذلك سَبيلا،

تحت هذا لغطاء السَّماويّ من الدّمور البَسيط

غالٍ عليَّ كثيرا هذا النّواحُ.

**

لذا مثلما الأيام تمُرُّ

هذه الأعوامُ غيرُ الفتية...

يا بيتنا المتواضع بتلك الدّرف بلونِها السّماويِّ،

لن أنساكَ أبداً.. لن أنساكْ.

1924

***

على متكأ الشباك زهور

«Цветы на подоконнике…»

الزهور على متكأ الشباكِ،

زهورٌ.. زهورْ

تعزفُ على هارمونيكا

هل تسمعين، أنتِ، هل تسمعين؟

تعزف على هارمونيكا

وماذا في ذلك؟

تعجبني شامتان

على الجبين الجميل

آه كم أنت ناعمة..

قاسٍ أنا..

أقبّلُ بخشونة

اللّونَ الأحْمرَ على شفتيكِ

لماذا تتملصين منّي أيتها الصبية اللعوبُ؟

تريثي..لا تهربي ..

قفي أيتها الرّوح التعبة،

اِنسي.. اِنسي..

**

كم هي غبية

كما غيرها.. ومثل تلكَ.

لذلك تبقى سنيغوروتشكا (1)

من دنيا الأحلام.

1924

***

........................

هوامش ومصادر:

1) سنيغوروتشكا في الأسطورة الروسية هي حفيدة الشيخ موروز، وهما معا يقدمان الهدايا للأطفال عند قدوم رأس السنة الجديدة، صورتها دوما جميلة بل رائعة.

2) ملاحظة: تم ابقاء عناوين القصائد بالروسية لتسهيل عمل الباحث .

1.Сергей Есенин. Собрание сочинений в двух томах Том 1. Москва. Советская Россия.1991 г.

2.Сергей Есенин. Собрание сочинений в двух томах Том 2. Москва. Советская Россия. 1990 г.

قصة: يوفى زلكو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

رن الهاتف مرتين قبل أن يدرك يوجين أنه كان يغفو على سريره بدلاً من المذاكرة. قفز مسرعا نحو الهاتف على أمل ألا يوقظ والدته. سقط كتابه في حساب المثلثات من على السرير وارتطم بالأرض.

- نعم؟

قال ذلك، مازال صوته  مشوشًا من أثر النوم.

قال الصوت في ذعر:

-  يوجين.  ستفعل ذلك مع الأصلع مرة أخرى .

أغلق يوجين الهاتف. ثم كان هناك طرق على الحائط. قالت والدته من الجانب الآخر:

-  يوجين، "كم مرة يجب أن أقولها؟ إنها بعد العاشرة.

فتح يوجين درج مكتبه بجوار النافذة. أخرج التلسكوب الصغير والحامل ثلاثي القوائم. في العام الماضي، في عيد ميلاده السادس عشر، أرسل له والده المنظار بالبريد. كان والده يرسل إليه دائمًا أشياء لا علاقة لها باهتماماته. لقد كان تلسكوبًا رخيصًا، أشبه بالمنظار أكثر منه إلى  تليسكوب يمكن استخدامه لرؤية النجوم.

وجه  يوجين التليسكوب نحو شقة السيدة يوفجيني عبر الشارع، إلى نافذة شقتها الاستوديو. كانت السيدة يوفجيني والرجل الأصلع يقبلان بعضهما البعض على أريكتها بجوار النافذة. كان الرجل الأصلع يرتدي سترته الجلدية البنية وسرواله الأسود. كان ممتلئ الجسم قليلاً وبدا صغيراً بجانب السيدة يوفجيني. كانت الأشرطة الرفيعة لفستان السيدة يوفجيني الأصفر قد ازلقت بعيدا بالفعل، وكانت يدا الصلع تغطي ثدييها الخارجين من الفستان. كان التلسكوب جيدًا بما يكفي بالنسبة له لرؤية حلمتى ثدييها الداكنتين على بشرتها الشقراء، لكن يدى الرجل الممتلئة ظلت كانت تعترض طريقه. بدأ يوجين يشعر بعدم الارتياح.

كان لدى السيدة يوفجيني لوحة ضخمة غير مكتملة على جدار شقتها الاستوديو. في البداية، اعتقد يوجين أنها كانت غير مكتملة عمدا - جبل نصف مرسوم، مخطط لرجل وامرأة بعيون ولا شفاه. ولكن ذات مرة، بعد فترة طويلة من نوم ضيفها، رآها يوجين وهي تحمل بالتة الالوان  في يدها، مستخدمة اللونين الأحمر الداكن والأزرق على اللوحة.

كانت هناك هذه اللوحة الصغيرة أيضًا على الحائط وغالبًا ما كانت تنظر إليها أثناء لياليها التي لا تنام فيها، وهي تقف عارية أمامها وفي يدها سيجارة. ربما كانت صورة فوتوغرافية أو قصيدة، لم يستطع يوجين معرفة ذلك من وجهة نظره، كل ما كان يعرفه أنه مهما كانت، كان هناك ما يكفي لإبقائها تحدق بها لساعات.

بينما كان الرجل الأصلع يخلع سترته. ألقت السيدة يوفجيني بكعبها العالي على الأرض. نادرًا ما تبتسم أو تضحك: عرف يوجين أنها لم تتحدث حتى من خلال التلسكوب. وكانت تحدق في الأشياء لفترة أطول بكثير من الشخص العادي.

لم يحب يوجين أيًا من الزائرين الذكور - بدلاتهم الفاخرة والطريقة التي ينظرون بها إليها كما لو كانت لعبة يمكنهم تجميعها وتفكيكها كما يحلو لهم - لكنه بشكل خاص لم يعجبه هذا الرجل الأصلع ذو اليدين السمينتين واللتين تميلان إلى الخشونة.

حركت السيدة يوفغيني الرجل بلطف إلى جانبها ووقفت. كان طولها ستة أقدام تقريبًا وهزت ردفيها، وأسقطت الفستان على الأرضية الخشبية الصلبة. سحب يوجين نفسه بعيدًا عن التلسكوب. قام بفكه من الحامل. أعاد التلسكوب إلى الدرج وقفز إلى السرير. أغمض عينيه وحاول التفكير في اختبار الرياضيات الذي سيؤديه صباح الغد.

ضغط يوجين وسادته على وجهه. كان علم حساب المثلثات أفضل من الهندسة البسيطة — حساب الجيب وجيب التمام، وظل الزاوية عندما يقترب من تسعين درجة. لكن أساتذته لم يفهموا سبب انخفاض درجاته. لم يفهم أصدقاؤه سبب استمرار مرضه وأنه كان  دائمًا متعبًا.

لم تفارق مخيلتخ  صورة السيدة يوفجيني وهي تهز ردفيها لتحرير جسدها من الفستان. وضع يديه في سرواله. لقد كان ما بداخله صلبا  بالفعل. باستخدام حساب المثلثات، حسب أن شقة آنا يوفجينى كانت على بعد أربعة وثلاثين مترًا بالضبط من شقته، دون الحاجة إلى الاقتراب من المبنى.

دعك يوجين نفسه وفكر في كيف أن السيدة يوجيني تمسك بيد زائرها في وقت من الأوقات وتقوده بهدوء إلى السرير،على بعد بضعة أقدام خلف الأريكة. كانت تسير فى ببطء، وردافاها المتماسكان يواجهان النافذة. لكن يوجين لم يستطع إنهاء خيالاته - لقد كان مرعوبًا من الشعور بعد ذلك، ربما كان هناك خطأ ما معه، لكم شعر بالخسة والوحدة في النهاية. كان من السهل الحصول على هزة الجماع في أي وقت كان يفكر فيها.  قفز من السرير. عاد إلى مكتبه. وضع تلسكوبه على الحامل، وألقى نظرة خاطفة عليه. كانت السيدة يوفجيني مستلقية عارية على الأريكة وإحدى ساقيها مرفوعة على ظهر الأريكة. كان الرجل عارياً إلا من جوربيه بينما ركبتاه على الأرض يقبل جسدها وظهره المشعر على مرأى من الجميع.

ارتعش جبين السيدة يوفجينى وعيناها تحدقان من النافذة نحو السماء. لكن رأس الرجل الأصلع الغبي ظل يعيق الطريق أمام يوجين   أبقى يوجين إحدى يديه في سرواله لكنه لم يحركها. كان يشعر بآلام في  معدته، و صداع في جانبى رأسه. لم يعد يريد أن يفعل ذلك بعد الآن.

ألقى يوجين التلسكوب على الأرض وضرب رأسه بالمكتب. كان لابد من تغيير الأمور. ربما حان الوقت لفعل الشيء الوحيد الذي فى إمكانه القيام به. تم وضع الخطة في الغالب - لقد أخذ المال من صندوق الأحذية أسفل سرير والدته، وكان مستعدًا للتخلي عن التلسكوب، وكان يائسًا بما يكفي لرؤية الباقي. ضرب يوجين رأسه على المنضدة مرة أخرى.

طرقت والدته على الحائط من الغرفة الأخرى. وقالت:

- حاول أن تنام!

استلقى التلسكوب على الأرض بجانب المكتب ونظر يوجين إليه كما لو كان يتوقع أن يتحرك. أعاده  إلى الدرج مرة أخرى، وهو يعلم أنه سيخرجه مرة أخرى قبل الصباح.

***

عند منتصف الليل، كانت السيدة يوفجيني مع الأصلع فى سريرها، وكان يرقد فوقها. أزاح شعرها جانبا وصفعها عدة مرات. ضغطت بطنه الثقيل على جسدها وأمسكت بكتفيه المشعرين ونظرت إلى السقف وهي تنتظر أن ينتهي.

في الثالثة صباحًا، بعد نوم الأصلع بمدة طويلة، وقفت السيدة يوفجيني بجانب اللوحة الصغيرة على الحائط ودخنت سيجارة وهي تنظر إليها بتمعن. مسحت عينيها عدة مرات، ربما كانت تبكي، لكن إذا كان الأمر كذلك، فقد كان البكاء قليلاً.

في الرابعة صباحًا، جلست السيدة يوفجيني عارية على الأرض بجوار النافذة، في وضع ملتف، و هى ما تزال تدخن، وتنظر إلى السماء. في الخامسة صباحًا، نامت السيدة يوفجيني على الأريكة بمفردها.

***

كانت الساعة تشير إلى السادسة  من مساءً  اليوم التالي عندما حمل يوجين التلسكوب والحامل ثلاثي القوائم بإحكام في كل يد بينما كان يضغط على أذنه على الباب الخشبي غير المصقول رقم 512.

كان مبنى شقة آنا يوفجينى في الداخل محبطًا أكثر بكثير مما كان يتوقع. على الأقل منزله لم تكن له تلك الرائحة العفنة. كانت السجادة ذات لون أخضر متسخ و قد جعلتها أضواء الفلورسنت تلمع بشكل فج.

كانت يدا يوجين متعرقتين، مما يجعل من الصعب الإمساك بالحامل ثلاثي القوائم. كان يعاني من صداع متفاقم في المنطقة المحيطة بصدغيه. وكان حلقه جافًا ووجد صعوبة في البلع. لقد كان بحاجة حقا إلى النوم.

كانت السيدة يوفغيني في المطبخ، وسمع أصوات القدور والمقالي، تخيل شوكة تضرب على وعاء بينما تعد بيضها المخفوق في المساء. كانت ترتدي ثوبها القطنى الأصفر المزركش، وكان يعلم ذلك دون الحاجة إلى رؤيتها. لقد كان لديها ساعة قبل أن تبدأ في الاستعداد للمساء. حك أذنه بالباب، محاولًا أن يتخيل المشهد  كيف كانت تمشي وهي تتكئ على الطاولة، وما إذا كانت تدعك عينيها من الإرهاق.

كان يوجين قد جهز بعض الأشياء ليقولها لها، ولكن ما الذي يمكن أن يخرج من فمه؟ دائما ما يكون مضطربا عند  التحدث إلى الناس تحت أية ضغوط     في كل مرة يناديه المعلم، بغض النظر عن مدى معرفته بالمادة، فإن كل ما يدور في ذهنه يتسرب ولا يبقى  سوى أم أم، ثم:  "لا أعرف. آسف."

ولكن ما الذي كان ينتظره في المنزل - ليلة أخرى بلا نوم في الخزي والوحدة؟ إنه يفضل أن يموت في ردهة الطابق الخامس المتعفن فى مبنى آنا يوفجيني. تحسس يوجين المال فى جيبه. وضغط شفتيه معًا وفصل بينهما عدة مرات، للتأكد من استعداده للقدرة على الكلام.

سمع المزيد من أصوات المطبخ. تخيلها مع الخبز المحمص، وربما أنتهت من تجهيز البيضتا، وربما تشرب كوبًا من الحليب.

طرق يوجين الباب. توقفت الأصوات في الداخل. فتحت السيدة يوفجيني ضلفتى الباب والسلسلة مازالت بينهما. كانت أطول منه بمقدار رأسها ونظرت إلى الأسفل، وركزت على يوجين، في محاولة للتعرف عليه ولكن دون جدوى. أسفل عينها كان ثمة كدمة صغيرة، خضراء قليلاً وبالكاد يمكن ملاحظتها. لكن يمكنه أن يشم رائحة عطرها بالفعل. إنه عطر الإبيراج الفاخر.

قالت:

- ليس لدي أية نقود. كانت كلماتها بطيئة.

أضافت:

- ولا أريد أي شيء..  آسفة.

وأغلقت الباب بقوة.

ومع ذلك أذهله الطريقة التي تحركت بها شفتاها الممتلئتين ببطء شديد كما لو كانت لا تزال تتعلم اللغة، والطريقة التي تحركت بها عيناها بسرعة كبيرة قبل كلماتها،وانتشارعطرهافى المكان.

كان يعرف العطر لأنه قابلها ذات مرة في مكتب البريد وتذوقه جيدًا. ثم ذهب مباشرة إلى المحل وادعى أنه  بيريد شراء زجاجة عطر لصديقته - كما لو كان لديه صديقة في يوم من الأيام. عندما صادف هذه الرائحة البرتقالية الحادة اشترى واحدة أصغر حجما وأخفىاها تحت سريره.

طرق مرة أخرى. هذه المرة، استخدم الحامل الثلاثي القوائم للطرق بقوة على الباب.

قالت السيدة يوفجيني من خلف الباب:

- أووف! ماذا الآن؟

ثم فتحت الباب فى النهاية.

كانت ترتدي روبها الأصفر، وهى تمسك بكوب كبير من الحليب. يمكن ليوجين أن يقول  أنه حليب كامل الدسم.

كانت يدها على وركها وأدارت عينيها - كانت امرأة منزعجة، قالت:

- ألا يمكنك أن تصدق أننى معدمة ؟ وفوق ذلك متعبة؟

كانت جفونها ثقيلة وتساءل عما إذا كانت دائما هكذا.

أنزل يوجين الحامل الثلاثي القوائم. جلس مقرفصا لحمله. قال:

- أنا لا أبيع.  هل يمكن أتحدث إليك؟

انحنت السيدة يوفجيني إلى الأمام ونظرت في كلا الاتجاهين من الردهة، ثم عادت إلى يوجين الذي كان ما زال جالسًا.قالت:

-  أنا لا أساعد العذارى في الخامسة عشرة من العمر.

وجهت كل أصابعها نحو يوجين. أضافت:

-  إذا كان ذلك هو الموضوع.

وقف يوجين وأومأ برأسه وقال:

- لا لا لا..  من فضلك.. أنا في السابعة عشرة من عمري، وهذا ليس بيت القصيد، ثم رفع التلسكوب وأضاف:

- أنا جار لك.

***

ظل التلسكوب على طاولة المطبخ لبعض الوقت قبل أن يتحدث أى منهما. كان يوجين ميتا من العطش لكنه كان يخشى أن يطلب شيئا. وكانت هى قد انتهت من شرب كوب الحليب وكانت في منتصف سيجارة، تنفض رمادها في كوب زجاجى فارغ متموج الألوان فوق المنضدة.

قالت وقد دفعت التلسكوب تجاهه، وهى تلمسه فقط بأطراف أصابعها:

- هكذا إذن. كنت تراقبني .

ثم  نفثت  الدخان في وجهه وأضافت:

- هل كان ذلك جيدا معك ؟

قال: - لا.

غطى عينيه بيديه.واستنشق رائحة العطر، ودخان السجائر، والخبز المحمص المحترق، وتخيل صورة أظافر السيدة يوفجيني المشذبة بعناية، ثم أضاف:

- أعني، الأمر مختلف عن ذلك.

قالت:

-  أوه ؟

فتح عينيه وشاهد الدخان يتصاعد في الهواء فوق سيجارتها. ثم دفع بالتلسكوب تجاهها وقال:

- لا يمكنني المشاهدة بعد الآن. لهذا أريد أن أعطيك هذا.

قالت:

- أنا لست عالمة فلك، في حال لم تقضِ وقتًا كافيًا في مراقبة مهنتي.

اتكأت على الطاولة بمرفقيها، وكشفت قليلا عما بين ثدييها من خلال الروب. أراحت ذقنها على يديها المثنيتين  ونظرت إلى يوجين باهتمام. لم يلاحظ يوجين أن عينيها كانتا رماديتين. ولم تكونا خضراوين كما كان يعتقد، لكنهما كانتا رماديتين فاتحتين. عندما كان طفلاً، اعتقد يوجين أن كونك مصاب بعمى الألوان يعني أنه لا يمكنك رؤية أي شيء بنفس لون عينيك. ضحكت والدته منه عندما حاول أن يشرح لها ذلك.

لم يستطع يوجين النظر إلى السيدة يوفجيني لفترة طويلة. كانت مرتاحة بطريقة جعلت يوجين غير مرتاح، كما لو أنه لم يكن موجودًا. تساءل عما إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لزوارها أم أن الأمر معه  هو فقط - و ما مدى شعوركوأنت أقل أهمية من منفضة السجائر الزجاجية على الطاولة.

أطفأت السيدة يوفجيني السيجارة في المنفضة الزجاجية. ذهبت إلى الحوض وملأت كوبًا من الماء وعادت إلى الطاولة. دفعت الكوب نحو يوجين. أخذ الماء فى جرعات كبيرة وبصوت عالٍ حتى انتهى.

قالت:

- ولماذا لا يمكنك  مشاهدة  المزيد بعد الآن؟

أخذ يوجين الحامل ثلاثي القوائم من فوق الطاولة. دفع الرافعة حتى انفتحت في أرجلها الثلاثة الصغيرة. كان يبلغ ارتفاعه نصف قدم فقط. قال :

- أنا فقط. إنه فقط...

ضغط يوجين ساقيه معًا مرة أخرى. قال:

- أنت كذلك. أنا كذلك...

أشعلت السيدة يوفجيني سيجارة أخرى وأسقطت عود الثقاب في المنفضة الزجاجية. كان الأمر جنونيًا - التحدث مع هذه المرأة شخصيًا. نظر إلى الشق المظلم بين ثدييها.

ثم قال لها:

- أنت لا تعرفين كيف سيكون الحال بعد ذلك.

فتحت  السيدة يوفجيني عينيها على أقصى اتساعهما وحركت يدها بالسيجارة جانبا للحصول على رؤية أفضل. بدت شفتاها وكأنهما على وشك قول شيء ما، لكنهما لم يفعلا

قال يوجين:

- وحيدة هكذا.

عندما سأل والده منذ عدة سنوات عما إذا كان يؤمن بالله، قال والده لابنه البالغ من العمر تسع سنوات:

- أعتقد أننا نموت وحدين.

ثم أضاف والده بعد ثوانٍ:

- لماذا الوجه المثير للشفقة؟ أقول لك كما هو الحال، نحن وحدنا.

وربت على رأس يوجين، وذهب إلى العمل. في الليل، كان يوجين لا يزال يفكر فيما قاله له والده. لم يفهم، لكنه شعر بأنه قريب، كل تلك اللحظات في غرفة نومه المظلمة، كانت متصلة بطريقة ما.

شاهد يوجين الاحتراق البطيء لسيجارة السيدة يوفجيني. أخذ نفسًا عميقًا، محاولًا الحصول على بعض الدخان السلبي. ضغط على الحامل الثلاثي بقوة لمنع ذراعه من الارتعاش.

قال يوجين:

-  لا أستطيع أن أصدق أنني في نفس الغرفة مع السيدة يوفجيني.

حدقت في ذراعه المرتجفة. كان الأمر كما لو أن ذراعه كانت جزءًا من لعبة ألغاز ولم تكن متأكدة من رغبتها في حلها. أو ربما نظرت إلى ذراعه كما لو كانت حشرة على الطاولة. أو ربما لم تكن تعرف كيف تساعد. حركت السيدة يوفجيني يدها ببطء حتى أمسكت بمعصمه. بقيت يدها الدافئة هناك، ومنعت ذراعه من الاهتزاز. خفت قبضته على الحامل ثلاثي القوائم.

قالت:  "آنا" وهي تمسك معصمه بإحكام.

كانت بضع ثوان من الهدوء. مع السيجارة في فمها، تمتمت، "أنا ذاهبة إلى الحمام." ثم أسقطت السيجارة المشتعلة في المنفضة الزجاجية  وغادرت الغرفة. "آنا"، قالها يوجين بعد رحيلها. كان هناك مكان دافئ على معصمه حيث كانت يدها.

مد يوجين يده إلى جيبه ووضع يده على لفافة الأوراق النقدية. تم عقدها بشريط مطاطي. 145 ورقة نقدية  من فئة الدولار الواحد. انتظر عودة آنا. سيجارتها اشتعلت ببطء في المنفضة الزجاجية. شاهد أثر أحمر الشفاه الصغيرة على عقب السيجارة. فقط أحمر بالكاد. التقط يوجين كوب الماء الفارغ ورشف آخر قطرة.

كان يأمل أن يحصل على فرصة لرؤية هاتين اللوحتين في غرفتها الرئيسية. في المطبخ، لم يكن هناك سوى مجموعة من الثقوب بحجم الأظافر في الجدران كما لو كانت هناك زخارف ذات يوم.

احتفظت والدة يوجين هذه اللوحة ليسوع بجانب ثلاجتهم. لم تتحدث أبدًا عن الدين، ولم يسأل هو بدوره أبدًا، لكنه عرف من الطريقة التي نظرت بها إلى تلك اللوحة أن هناك شيئًا ما هناك. تساءل عن آنا، ربما كانت تؤمن بشيء ما. كل ما عرفه يوجين أنه لا يحب أن يكون يسوع في المطبخ أثناء تناول الإفطار، ربما كان من المفترض أن يكون التوهج حول رأسه باعثا على الراحة، لكن يوجين لم يستطع تجاهل الدم المتساقط من يديه وقدميه. وتلكما العينان.

عادت آنا من الحمام وكان وجهها مبللًا كما لو كانت قد غسلته للتو. لا يزال بإمكان يوجين  رؤية الكدمة الصغيرة تحت عينها. ربما باق ثلاثين دقيقة فقط قبل وصول الزائر. أخرجت آنا السيجارة المشتعلة من المنفضة وأخذت نفسا منها.

أخرج يوجين لفة النقود من جيبه وأسقطها على الطاولة.

زرت آنا عينيها وحدقت في اللفة الخضراء. قالت:

- لقد قلت لك أننى لا أريد..

قال يوجين:

- لا. انها ليست التي....

دفع يوجين الحامل ثلاثي القوائم والتلسكوب إلى جانب بحيث لا يوجد شيء في طريق المال. ثم أضاف:

- لقد سرقت هذا المال من أمي.

سعلت آنا وهى تخرج بعض الدخان، وقالت:

- ماذا؟

قال يوجين:

- إنها ليست لها، لقد تم إرسالها بالبريد من والدي. أنها لي. إنها من أجل الكلية.

دفعت آنا كرسيها للخلف واستمرت في التحديق في المال، كما لو كانت تستطيع اكتشاف شيء ما بلابتعاد عنه قليلا.

قال يوجين:

- إنه لا يكفي للكلية، ولا يكفي لأن تتقاعدى.

نظرت آنا إلى يوجين عند ذكر تقاعدها. كانت مرتبكة تماما. وبطريقة جيدة، اعتقدت. لقد أولته المزيد من الاهتمام.

أمالت آنا كرسيها إلى الأمام مرة أخرى. استنشقت بعض الدخان. قالت:

- إذن لأى شىء هو كاف؟ تلسكوب أفضل من هذا؟

حرك يوجين يده بجانب لفة النقود ونقرها بأصابعه حتى تدحرجت إلى آنا، وعندما تدحرجت من على الطاولة، مدت يدها وأمسكت بها. قال يوجين:

- يمكن أن تشتري بها ستائر.

وقف الاثنان عند النافذة ينظران إلى الخارج. وكانت هى ق  تركت النقود على طاولة المطبخ.أشار يوجين عبر الشارع. وقال:

- تركت مصابيحي مضاءة حتى يمكنى أن أراك.

وضعت يدها على الزجاج ونظرت إلى غرفته - كانت في نفس ارتفاع غرفتها بالضبط.

قالت:

- لماذا الستائر بعد أن  سلمتني سلاحك السري؟

قال:

- ليس من أجلى.. هناك بول وكريستوف وليف.

أشار يوجين إلى العديد من الشقق في مبناه، فى الأعلى وفى الأدنى. كان يعلم أن أصدقاءه ذهبوا من أجل مباراة كرة القدم الكبيرة في المدرسة.

لم يبد أن آنا مندهشة من حقيقة وجود آخرين يراقبونها - لقد توقع يوجين أن يكون هذا هو الجزء المحرج. قالت:

- يجب أن أتقاضى نقودًا. هناك ما هو أهم من التلصص عن المضاجعة.

التفت يوجين إلى آنا. لقد كانت الطريقة التي قالت بها "المضاجعة"، كانت سهلة للغاية ورائعة.

نظر يوجين حوله فى  الاستوديو- بخلاف المطبخ وما كان يعتقد أنه الحمام، كانت هناك تلك  الغرفة الوحيدة في الشقة، ذات السقف الذى يبلغ ارتفاعه عشرة أقدام. وكانت هناك أريكة سوداء، وسرير بملاءات سوداء، وكتب كبيرة مجلدة عن الرسامين ملقاة على الأرض، ومقعدان متهالكان بالقرب من الحائط، وعلى الحائط نفسه كانت هاتان اللوحتان- الكبيرة والصغيرة.

قالت:

- لا أستطيع أن آخذ نقودك. أنا أحب انكشف هكذا. أنتم الأولاد يمكنكم  مشاهدة كل ما تريدون.

ثمم فتحت ذراعيها فى وضع من تقف عارية، لكن الروب الأصفر غطاها جيدًا. باستثناء قدميها النحيفتين، ويديها، وأظافرها المشذبة بعناية، الظل الداكن بين ثدييها، ورقبتها، وعينيها الرماديتين، الكدمة تحت عينها.

أولاد. كان يكره الطريقة التي استخدمت بها تلك الكلمة. بعد بدء الاتصال بينهما، لم يكن لديها من سبب لتدعوه بالولد.

سار من وراء الأريكة، باتجاه هذه اللوحة العملاقة التي لطالما تساءل عنها. عندما اقترب، أدرك أن رؤية ما يحدث عن قرب كان أصعب من رؤية ما يحدث من الجانب الآخر من الشارع. كانت الجبال ضبابية من اللون الأخضر والرمادي. كان الشكل غير المكتمل للرجل مجرد سلسلة من الخطوط الحمراء والبرتقالية الحادة التي اندمجت معًا. بدا الغضب على جبين الرجل وكأنه بقع برتقالية. والمرأة التي ليس لها فم لا تشبه المرأة على الإطلاق. كانت مجرد خطوط صفراء مموجة. بدا الأمر وكأنه درس هندسة قد حدث خطأ. قال:

-  إنه لأمر مدهش.

أمكنه سماع  وقع خطوات قدمي آنا العاريتين وهي تتجه نحوه وقال:

- لا يمكنك حتى رؤية الشخصين يتشاجران.

ثم وضع يده بالقرب من جبين الرجل وكاد يلمسها وأضاف:

- يمكنك الشعور به فقط.

امتدت يد آنا الدافئة مباشرة إلى كتفه - جزءعلى قميصه، وجزءعلى عنقه. فاحت رائحة البرتقال الحادة لعطرها. وهى تقول من ورائه:

- إنت أقوى ملاحظة من الرجال الذين يأتون إلى هنا.

لم تكن اللوحة الصغيرة،التي لم يستطع يوجين رؤيتها من غرفة نومه، لوحة على الإطلاق، بل كانت رسمًا بالقلم الرصاص كان من الصعب جدًا تحديدها حتى من موقعه المتميز، على بعد خمسة أمتار. لقد كان رسمًا تقريبيًا، وأسلوبًا مختلفًا تمامًا. أراد أن يلقي نظرة فاحصة، ولكن قبل أن يتمكن من الذهاب إلى هناك، أمسكت آنا بيده، أمسكت بها بقوة، وسحبته بعيدًا عن الحائط، كما لو أن الرسم الصغير يحتوي على شيء محرم على يوجين.

قادته آنا إلى السرير، السرير ذى الملاءات السوداء حيث أخذت جميع زوارها في نهاية الليل. خففت قبضتها عنه وقالت بصوت هادئ:

- أخبرني المزيد عن وحدتك.

***

أغلق يوجين عينيه بمجرد قالت له أن يفعل ذلك. كان مستلقيًا على السرير وكانت آنا بجواره على السرير.انخفضت المرتبة حول خصره بسبب ثقل وزنها. لكن الاثنين لم يتلامسا.

قالت له:

- أتريد الحديث عنه؟

كان تنفسها بطيئاً وهادئاً

قال:

- نعم .

لكنه لم يتكلم. حاول إبطاء تنفسه، لكنه استمر في التنفس.

قالت:

- لا بأس.  يمكنك أن تقول الكثير أو القليل. يمكن أن تكون فوضويًا أو نظيفًا.

لم يكن يعرف ما تعنيه بالفوضى. هل أرادت أن تسمع عن تخيلاته الجنسية؟ أم أرادت أن تسمع حديث والده عن الموت وحده؟ ماذا لو كان منتصبا أمامها؟ هل كانت ستلمسه؟

من المؤكد أنها كانت ستضحك على خياله حول نومهما عاريين في الحديقة العامة، وجسدها مغطى بعصير بذور الرمان الصغيرة المثيرة، وكيف كان يلعقها، وجسمها ملطخ باللون الأحمر من العصير.

وضع يوجين يديه على سرواله لتغطية انتصابه، ثم ألقى نظرة خاطفة عليها. وكان ذلك عندما رآها: السيدة يوفيني تنظر إلى ساعتها. استدار يوجين إلى الجانب الآخر من السرير. جلس ووجهه في الاتجاه الآخر. ذهب انتصابه بأسرع ما بدأ.

كانت يدها على كتفه، حاولت شدّه نحوها. سألت:

- ماذا؟

- لم أقصد أي شيء.

نفخت وراء اذنه بفمها وقالت:

- يوجين. ألا تحب ذلك ؟

تحدثت إليه وهى تضحك معه بلطف بصوت خفيض. لكنه أهمل يدها.

اعتاد والده أن يفعل ذلك عندما كان يعيش مع يوجين - كان يلقي نظرة على ساعته بينما كانا يلعبان في الحديقة، في منتصفهما يلعبان كرة القدم. كان يفكر دائمًا في شيء آخر. عندما لاحظ يوجين، أنه سيصاب بألم حقيقي في المعدة.أو كاذب حتى يتمكنا من العودة إلى المنزل و هناك يمكن أن يلعب يوجين بمفرده.

حدق يوجين في الجدار الفارغ. قال:

-  هل سيأتي الأصلع الليلة؟

- ماذا؟

قالت ذلك وامحت بالتأكيد ابتسامتها الساخرة من وجهها على الفور.

شدد يوجين قبضتيه وقال وهو دائخ قليلا :

-  أليس لديك شيء أفضل لتفعلينه ؟ بدلا من مضاجعة هذا الوغد.

نهضت من السرير. خرجت من الغرفة وقدماها العاريتان تصفعان الأرض ببطء.

نظر يوجين في أرجاء الغرفة أثناء ذهابها. هاتان اللوحتان - لماذا لم تصبح رسامة أو تعلم الرسم أو تدرس علم النفس أو شيء من هذا القبيل. بالطريقة التي رسمت بها تلك الخطوط على اللوحة، ربما كانت تعرف الهندسة أو علم المثلثات. كان هناك توتر في معدته. في هذه المرحلة، كان بإمكانه أن يجعل نفسه يتقيأ بعقله فقط – لقد اعتقدت والدته أن معدته ضعيفة.

حول يوجين وجهه عندما عادت بسيجارة فى يدها. جلست آنا في نفس المكان حتى عادا إلى الوراء. كانت ثمة  رائحة لعطرها البرتقالي. صوت نفخ دخانها ينفث من رئتيها رائحة الدخان.

قالت:

- مرشد مهني آخر لدي.أستطيع أن أعتمد على نفسى.

- لا يمكنك إخفاء تلك الكدمة تحت عينك.

كانت قبضتا يوجين قويتين وكان يضرب بهما على صدره مع كل جملة يقولها:

-  يضربك. يشد شعرك. أنت تكرهين ذلط  ألاحظك. وحدك طوال الليل.

أصيب يوجين بالدوار بعد التحدث وجعل نفسه يتنفس ببطء أكثر. قال بصوت خافت:

- أنا أكره ذلك.

امتصت القليل من دخان السيجارة ثم قالت:

-  ربما حان الوقت لكى تذهب.

كان عقب سيجارتها قد وصل وجهها، ضغطت بإبهامها على إحدى عينيها وبالسبابة على الأخرى،  وطرف السيجارة يحترق بالقرب من شعرها. خفف يوجين قبضتيه، وجعل آلام معدته تختفي من خلال التظاهر بأنه يستطيع رؤية خيوط العضلات الفردية تتخلى عن بطنه.

قال:

- لماذا تفعلين  ذلك؟

قالت وكانت هذه هي المرة الأولى التي ترفع فيها صوتها:

- ألم تسمعني؟  أريد منك أن تخرج.

تمشى يوجين حول السرير. دفعت آنا أصابعها على عينيها ودعكتهما بقوة كما لو كان الصداع يضغط عليهما. ستكون الليالي أكثر عزلة الآن لأنه لم يكن لديه أية وسيلة للدخول إلى غرفة نوم آنا. لم يكن يريد أن يؤذيها. لم يكن يريد أن يزيد الأمر سوءًا. كانت تدعك عينيها ورأسها إلى أسفل. كانت السيجارة تحترق بشكل رهيب بالقرب من شعرها.

اقترب وجين منها ي وسحب السيجارة من بين أصابعها دون أن يلمسها. قال:

- كوني حذرة.

سحب نفسا طويلا من السيجارة، بالضبط حيث كان أحمر شفاهها،. لقد أبقى حلقه طليقا حتى لا يضطر إلى السعال. طعمها مختلف عن السجائر التي اعتاد على تدخينها خلف المبنى مع كريستوف. كانت هذه أسهل، لكنه شعر بالوخز في الداخل. عندما زفر، تفاجأ بعدم خروج الكثير من الدخان.

كان من المريح أن تكون السيجارة في يده. شعر بأنه أكبر سنا، وشعر أنه أقوى. قال:

- أنا آسف.

كان من السهل أيضًا قول ما كان يفكر فيه. أضاف:

-   دعني أبقى.

رفعت أصابعها عن عينيها. قالت آنا على الأرض:

-  لدي أسباب. قد لا تكون مقنعة، لكن لدي أسباب .

نظرت إلى يوجين، كانت عيناها حمراوين لكنهما لم تكونا مبتلتين. كانت ابتسامتها مرتجفة ومدّت يدها نحو السيجارة، ووضعت يدها على يده لبضع ثوان، ممسكة بالسيجارة، ثم سحبت السيجارة بعيدًا.

استنشقت الدخان بشكل طبيعي مثل الهواء. كانت عيناها تتحركان بسرعة، وتلقيان نظرة خاطفة على وجهه وجسمه. كان منظرها جميلاً برموشها الطويلة وهي ترفرف. أراد أن يلمس بأصابعه عظام وجنتيها، وبشفتيه أراد أن يضغط عليها على تلك الكدمة.

نظرت خلفه للحظة إلى الحائط مع اللوحات، ثم نظرت إليه مرة أخرى. ما زالت لم تتفهم هذا اللغز معًا. كان ذلك عندما كان هناك طرق على الباب، كانت هناك نقرتان ثقيلتان من مفاصل كانت بالتأكيد أكبر وأقوى من يوجين أو آنا. عندما وقفت آنا، بدت أطول من أي وقت مضى. نظرت إلى ساعتها، وأخذت نفثًا من الدخان، ثم مسحت يدها على السرير، وتخلصت من التجاعيد.

في المرة التالية التي طرق فيها الباب، كان الصوت أعلى. قالت آنا:

- أووف !

كلتا ذراعيها ارتفعتا في الهواء. تمسح عينيها تحسبا لأى بلل. يتمايل جسدها وهي تحبك الروب حوله.

بقدر إعجاب يوجين بالروب الذي يرتديه، لن يسعد زائرها أنها لم تكن ترتدي الفستان الأسود القصير مع الحمالات الرفيعة أو البلوزة الحمراء التي تكشف عن ظهرها بالكامل تقريبًا. ولم يكن وجود صبي يبلغ من العمر ستة عشر عامًا في منزلك أفضل دائمًا لضبط الحالة المزاجية.

سرعان ما انتقلت نظرة آنا من المطبخ إلى النافذة الكبيرة إلى اللوحتين إلى  يوجين.  فكر يوجين في قصة الخيال العلمي التي كان عليه أن يقرأها للمدرسة، القصة التي تسافر فيها العائلة في مركبة فضائية ويمكنهم الانتقال عبر الفضاء بطريقة تجعلك، إذا نمت، تشعر وكأنها مرت بضع ثوان. الماضي، ولكن إذا كنت مستيقظًا، ستشعر تلك الثواني الخمس وكأنها أبدية، وعندما تخرج من الجانب الآخر، ستموت تقريبًا من الإرهاق. أراد يوجين أن تستمر هذه اللحظة مع آنا إلى الأبد.

بدلاً من السير نحو الباب، جلست آنا على السرير. وكانت الضربات عالية جدًا لدرجة أن يوجين تساءل عما إذا كانت مشكلة في ذهنه. نفضت رمادها على الأرض لوحت بيدها نحو الباب.

قالت آنا بصوت منخفض:

-  دع الأصلع يطرق كما يريد.

***

خبطت آنا على السرير عدة مرات لجعل يوجين يجلس بجانبها وأطاع. وضعت يدها على رأسه ونكشت شعره الفوضوي - وهي حركة كرهها عندما كانت تفعلها والدته، لكن وهو جالسً هنا بجوار آنا كان على استعداد أن يسمح لها بمواصلة القيام بذلك طوال الليل.

قالت:

-  أراهن أنك سميتهم جميعًا.

أغمضت عينيها لبضع ثوان ثم فتحتهماا ببطء شديد لدرجة أن تألم يوجين وهو يراقبها.

بدأ أرقها يتفاقم. أصبحت تلك الليالي الطويلة أطول من المعتاد، بينما كنت تدخن بجوار النافذة.

توقفت الطرقات على الباب. وكانت يد آنا على ساقه - لم يكن يوجين يعرف كم من الوقت مضى ويدها هناك. لم يشعر وكأن شخصين قد التقيا للتو، لم يكن مجرد صبي يبلغ من العمر ستة عشر عامًا مرتبكًا مع تلسكوب بجانب امرأة متعبة لديها موعد مع  زائر غريب. كان الأمر أشبه بشخصين مرا بعوالم كاملة معًا، كما لو كانا ينتقلان عبر الفضاء.

وضع يوجين يده فوق يدها، وأمسك بها واستمتع بهذه الثواني الخمس حتى رفع يده عن حجره ومشى إلى الرسم.

***

كان هذا الرجل النحيل ينظر إلى نفسه في مرآة الحمام، يصل حوض الحمام إلى خصره. كان صدره مشعرًا، وشعرًا فوضويًا على رأسه، وشفتاه حزينتان، ومحجرا عينيه كبيران جدًا لدرجة أن يوجين كان يعتقد أن رأس الرجل ما هو إلا جمجمة عارية لرأس إنسان حي.

لابد أنه كانت هناك مرآة خلف المرآة لأن صورة الرجل المنعكسة بدت أصغر وأصغر فوق االصورة الكبرى له.

كان هناك عقد حول رقبته، لكنه كان يضع يده حيث قد يتدلى رمز أو قلادة. وكانه يخفيفها، كان الأمر كما لو أنه لا يريد حتى أن يتم رسمه وتساءل يوجين عن سبب اهتمام الرجل برسمها على الإطلاق.

تصاعد  دخان آنا من خلف يوجين، عابرا أذن يوجين، متجاوزًا خده باتجاه اللوحة.

قال يوجين وهو يشعر بدفءأذنه من أنفاسها:

-  أين هو؟

قالت آنا وقد زاد دخانها المتصاعد حوله:

- في المستشفى.

لم يكن لدى يوجين نقص في الأسئلة التي أراد طرحها، ولكن بدلاً من ذلك، كانت هناك فترة طويلة من الصمت بينهما. وكأنه انعكاس بعد انعكاس لهذا الرجل الذي يختبئ وراء مليون مرآة.

وأخيراً، قال يوجين للسيدة يوفجيني:

-  شكرًا لك على هذه الليلة.

أدار رأسه لينظر إليها من جديد، بيد أن عينيها مركزتان على رسم حبيبها.

قال يوجين:

-  ربما من الأفضل لك الاتصال بالأصلع، الوقت متأخر.

نظرت  آنا فى ساعتها وتنهدت:

- أعتقد أنه ينبغى أن أفعل.

***

خرجت آنا من الحمام ببلوزتها الحمراء وملابسها الداخلية الحريرية الحمراء، تمشط شعرها الأشقر كما لو كانت قد تراكمت عليه مئات العقدة من زيارة يوجين.. لم يكن  فخذاها صلبتين كما كان يتخيل، وكانتا شاحبتين جدا بل وأجمل مما كان يتصور. لم يستطع التحرك من مقعده وشاهدها تمشي عبر الغرفة وهي تمشط شعرها. قالت:

-  خذ نقودك.

توقفت عن تمشيط شعرها وسارت نحو يوجين، كل خطوة بقدميها النحيفتين العاريتين. قالت:

- والتلسكوب أيضًا .  سأحتاج إلى الصديق  الليلة.

ذهبت قبلتها إلى منتصف جبينه تماما وتركت شفتيها هناك لعدة ثوان. كانت شفتاها باردتين من أثر ماء الحوض. أما هو فكان وجهه حارًا ولم يكن يعرف كيف يودعها، أمسك يدها وربت بها برفق على فخذها العارى. أبعد يده عن فخذها كما لو كان يخشى أن تحترق.

ثم كانت هناك ابتسامتها، الابتسامة التي كان يحلم بها، لا شيء واضح، لكنها كانت موجودة حول العينين وفي الخدين وبالقرب من المعابد – سر بين اثنين.

عادت لتسلك بالمشط عقد شعرها. وبينما كانت تخطو مبتعدة، رأى البقع البنية على باطن قدميها العاريتين.

أخذ يوجين التلسكوب - لم يكن يعتقد أنه يستطيع البقاء طوال الليل دون رؤية آنا من النافذة. ربما كانت تلوح له الآن أو تحاول أن تقول شيئًا من مسافة أربعة وثلاثين مترًا.

لكنه ترك النقود على المنضدة. جعلها منتصبة مثل برج صغير في وسط المنضدة. كان يعلم أنها لن تقبل أمواله أبدًا، لكنها على الأقل ستضمن له لقاء آخر مع آنا يوفجيني.

(النهاية)

***

.....................

المؤلف: يوفى زالكو/ Yuvi Zalkow كاتب قصة وروائى أمريكى، حصل على ماجستير في الفنون الجميلة من جامعة أنطاكية. يعيش يوفي زالكو مع زوجته وطفله وقططه الغاضبة في بورتلاند بولاية أوريجون.

.

بقلم: الشاعرة الرومانية رادميلا بوبوفيج

ترجمة من الرومانية: توفيق التونجي

***

أفكار كثيرة والأفكار والسطور

نتحدث بهم، ونشارك بهم

نقوم بإعداد سرير الألواح الخشب

في وقت مناسب توأم مع الموت

كأنها لن تأتي

كيف ستكون حالات كثيرة

لكننا نعد أخطاء الآخرين

نحب الثرثرة حتى في نومنا

**

قررت أن أعدّ الفراشات

مهما كانوا، كي لا اتركهم

أتريد التخلص من حماقتي؟

هل أمزق الصعداء من حلقي؟

حقا الباب مفتوح

تدخل منها الفراشات واحدة تلو الأخرى

لقد وقعوا وسط الدبكة المحرمة

أتبعهم ولكن الى متى

صدى أفكارنا

سيتحدث إلينا بالإشارات

لتلد أجنحة خضراء وزرقاء

طويلة في حقل البرسيم

لنقبل الخلود

مع بداية الطيران الأخير

ما هي خيبة الأمل؟

لنواصل التحديق في أفواههم

حتى ننسى السمع في الحفر

خلال الأشواك - رائحة طفل

بدلاً من ذلك، نستمر في  الإساءة

تغلبنا الخطوة غير الضرورية

مثل التماثيل المفقودة

من لعبة إله آخر

على لوحة الزمن الصامتة

أنصت الي، أنت لا تعرف من أنا؟

***

.................

الشاعرة في سطور:

الشاعرة من مواليد أغسطس 1972، في فلوريشوايا فيتشي، منطقة أونغيني، جمهورية مولدوفا. تخرجت من

.1991-1996 – الجامعة الحكومية لجمهورية مولدوفا، كلية الآداب

حصلت على العديد من الجوائز:

جائزة اتحاد كتاب مولدوفا، 2008

جائزة المعرض الدولي للكتاب من المكتبة الوطنية لجمهورية مولدوفا ، 2012 

جائزة اتحاد الكتاب المولدوفيين 

لعام 2013 (الممنوحة من وزارة التربية والتعليم)

2023 - جائزة قسطنطين ستير في مجال الأدب لعام 2022

وجوائز اخرى

قصيدة للشاعر الروسي سيرغي يسينين

تحت عنوان: رسالة إلى إمرأة

ترجمة إسماعيل مكارم

***

رسالة إلى امرأة

Письмо к женщине

أنت تذكرين،

لا شك أنك تذكرين كل شيء،

كيف وقفتُ،

واقتربتُ من الجدار،

بينما كنتِ قلقة تقيسين أرض الغرفة

وتتفوهين بكلماتٍ قاسية

موجهةً لي.

**

وقلتِ:

حان الوقتُ كي ننفصل،

فقد أنهككِ

نمط الحياة الطائشة هذا،

وعليك أن تتدبري أمرَكِ بنفسك،

أما مصيري -

فهو الإنزلاق نحو الحضيض.

**

حبيبتي

أنت ما أحببتني يوما.

وما دخل إلى يقينك يوما أنني بين الناس

كنت مثل فرس أعياها التعب

إذ قيد تْ بقسوةٍ من قبلِ فارسها.

**

وما عرفتِ

أنني في وسط هذا الدخان الكثيف،

في هذه البيئة التي قلبت تربتها العاصفة

كنت أتألم، وأعاني، ولا أفهم -

إلى أين يأخذنا هذا المصير القاسي.

**

وكنت دوما لا ترينني

وملء عينكِ عيني

فالأمور الكبرى ترى عن بعد.

عندما تثور مياه البحر،

يكون مصيرُ السفينة صعباً.

**

كوكب الأرض – سفينة !

أراد فجأة أحدنا

لأجل حياة جديدة، ومجد جديد

أن يقود السفينة بكل قوة وعظمة

مباشرة إلى وسط العواصف .

**

من مننا على ظهر السفينة الكبير

لم يسقط ، لم يتقيأ، ولم يشتم ؟

من بقي شديد الحيل وبروح قوية قلائل،

قلائل مننا بقوا شديدي الحيل أثناء دوارالبحر.

**

حينها أنا،

في ظل هذه الغوغاء الهمجية،

بسبب معرفتي لطبيعة العمل،

نزلت إلى عنبر السفينة،

كي لا أرى ضعف الناس وإقياءهم.

العنبر ذاك -

كانت الحانة الروسية.

وانحنيت على الكأس،

كي لا أحزن على أحد،

و أحترق

في جنون مخمور.

**

حبيبتي

لقد نلتِ العذابَ بقربي،

شاهدتُ الحزنَ

في عينيك الذابلتين،

إذ أني أمامَكِ وباستعراض غريب

ضيَّعتُ عمري في ضجيج الفضائح.

**

ولكنك لم تدري،

أنني وسط هذا الدخان الكثيف،

في هذه البيئة التي قلبت تربتها العاصفة

كنتُ أتألم، وأعاني،

كوني لا أفهم

إلى أين يأخذنا هذا المصير القاسي.

**

اليوم وبعد مرور السنين،

أنا في عمر مختلف.

وأشعر وأفكر بطريقة أخرى.

أقول وأمامي كأسُ العيد:

الثناءُ والمجد لقائد السفينة!

**

وها أنا اليوم

تغمرني مشاعر رقيقة.

وتذكرتُ حالكِ البائس.

والآن

لدي الرّغبة أن أخبرك،

كيف كنتُ

وماذا حدث لي !

**

حبيبتي !

يسرني أن أقول:

أني نجوت من السقوط من جرف عالٍ.

اليوم في بلاد السوفييتات

أنا نصيرٌ متحمس.

**

لقد صرتُ اليوم،

غير ما كنت بالأمسِ.

وكان من الممكن أن لا أسبب لك ذلك الألم

كما كان يحدث في الماضي.

لأجل  راية الحرية

لأجل راية العمل الكريم

مُستعدٌ أنا للسير حتى بحرالمانش.

**

سامحيني...

أنا أعرف أنك اليوم سيدة أخرى –

وتعيشين

مع زوج عاقل، ومتزن،

بعيدا عن القلق والإرتباك،

وأنا شخص

لستُ لازما لكِ.

**

أرجو لك العيش

كما تشاء النجوم،

تحت خيمة المظلة الجديدة.*

سلامات  لك،

أحد معارفك،

الذي يذكرك دوما

سيرغي يسينين.

1924

***

.....................

* ليس من الغريب أن ينظر الأدباء والباحثون في إرث يسينين، ليس من الغريب أن ينظروا إلى نتاجه في عامي 1924- 1925 أنه خير ما دونه قلمه. فإذا قرأنا قصائد الشاعر يسينين في هذه الفترة نجد أنها أكثر جمالا ونضجا وروعة .

عطفا على ما كنا قد نشرناه في (صحيفة المثقف) الغراء عن الرسالة – القصيدة، نود اليوم تعريف القارئ بقصيدة هامة من إرث الشاعر وهي تحت عنوان (رسالة إلى امرأة). في عام 1924 قام الشاعر بعد عودته من رحلته إلى أوروبا وأمريكا بصحبة زوجته أيسادورا دونكان، وبعد إنفصاله عنها، وعودته الى الوطن قام بكتابة قصيدته هذه . المرأة المقصودة هنا هي زوجته السابقة، وأم أولاده السيدة زينَئيدا رايخ.

أذ أنها بعد طلاقها أصبحت زوجة المخرج المعروف فسيفولود ميرخولد. المخرج ميرخولد قد تكفل باعالة اولاد زينئيدا رايخ من يسينين: تانيا وكونسطانطين.

في القصيدة مرحلتان: الماضي، حيث الواقع  الإجتماعي الصعب، بسبب تلك الظروف التي رافقت الحرب الأهلية، وعدم الإستقرار، وفقدان البوصلة لكثير من الناس. والحاضر، حيث حصل تغيير في رؤية الشاعر لدوره وموقفه من الثورة. وفي القصيدة موضوعان:  موضوع الحب والأسرة، وموضوع الثورة، وموقف الشاعر من التغييرات الإجتماعية.

.....................

هوامش ومصادر:

* عبارة (تحت خيمة المظلة الجديدة) المعنى هنا مجازي يُقصد به العيش ببيت الزوج الجديد.

1.     Сергей Есенин. Собрание сочинений в двух томах.

Том 1. 1991.

2.     Сергей Есенин. Собрание сочинений в двух томах.

Том 2. 1990

لشاعر ألمانيا الكبير غـوته

(1749-1832)

ترجمة شعرية: د. بهجت عباس

***

إنّما الروح كماءٍ من سماء الكون يأتي

وإليها عائداً يصعد في شوقٍ وصمتِ

وعليه العودُ للأرض اضطراراً أيَّ وقتِ

**

ومن العلياء نـبعٌ فــي نقــاءٍ ينـفـجــرْ

غامرٌ جَريانُـهُ جانبَ صخــر منحدرْ

وبلطف يكتسي أمـواج غـيـم منـتـشرْ

**

وبتَرحابٍ جميـلٍ وحجابٍ مــن ضبابِ

وخريــرٍ هادئٍ يبـدأ مـهـلاً بانسيابِ

نحو وديان وأعماق سهول وشِعابِ

**

عندما ينتصبُ الصَّخرُ لصدِّ الانحــدارِ

مُزبداً يُرغي بسخطٍ دونما أيّ اصطبارِ

يُكمل السَّيْـرَ ببطءٍ نحـو ذيّاك القَـــرارِ

**

زاحفاً في فَرشِه الممتدّ في الوادي الخصيبِ

وهـــنا فـي بـركة شفّـافـــة بـعـد المغـيـبِ

تُـنعـشُ الأنجـمُ سيمــاها بلا أيّ رقــيـــبِ

**

وحبيب الموجة الفتان ريحٌ صَرصَرٌ حين تثورُ

تُطلقُ الأمـواج ذات الزَّبْـدِ مـن قــاعٍ يمــــورُ

**

هي روحُ المرء، كم تحسَبُها تُشبهُ ماءْ!

ومصيرُ المرء، كم تحسَبُه مثلَ هواءْ!

***

15/8/2023

.....................

Gesang der Geister über den Wassern

Johann Wolfgang von Goethe (1749-1832)

Des Menschen Seele

Gleicht dem Wasser:

Vom Himmel kommt es,

Zum Himmel steigt es,

Und wieder nieder

Zur Erde muss,

Ewig wechselnd.

**

Strömt von der hohen,

Steilen Felswand

Der reine Strahl,

Dann stäubt er lieblich

In Wolkenwellen

Zum glatten Fels,

Und leicht empfangen

Wallt er verschleiernd,

Leisrauschend

Zur Tiefe nieder.

**

Ragen Klippen

Dem Sturz entgegen,

Schäumt er unmutig

Stufenweise

Zum Abgrund.

**

Im flachen Bette

Schleicht er das Wiesental hin,

Und in dem glatten See

Weiden ihr Antlitz

Alle Gestirne.

**

Wind ist der Welle

Lieblicher Buhler;

Wind mischt vom Grund aus

Schäumende Wogen.

**

Seele des Menschen,

Wie gleichst du dem Wasser!

Schicksal des Menschen,

Wie gleichst du dem Wind!

في نصوص اليوم