ترجمات أدبية

ليودميلا أولتسكايا: أليسا

بقلم: ليودميلا أولتسكايا

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

في الوقت الذي بلغت فيه الحياة الكمال، بدأت مرحلة الكهولة. وآخر لمسة غالية التكلفة كانت حوضا صغيرا للاستحمام، وتم تركيبه بعد الكثير من التفكير والبحث. البعض رشح لها إضافة دوش، ولكنها رفضت تماما حماما عموديا له باب: ما الفائدة من ماء ينسكب على رأسك؟. الافضل أن تستلقي في ماء دافئ مع وسادة مطاطية تحت رأسك، وقدماك الناعمتان تركلان باسترخاء كرتين بلاستيكيتين صلبتين...

تنتمي أليسا لسلالة نادرة من البشر. وتعرف عن يقين ماذا تريد وما لا تريد في جميع الظروف.

في عمر مبكر، ورثت دمها المختلط - نصف بلطيقي، والنصف الآخر بولوني - من أمها. ولذلك كانت كل عواطف أليسا باردة، أما الخوف من السقوط تحت سلطة إنسان آخر كان أقوى من بقية المخاوف التي تمر بها المرأة: كالعزلة، والطفولة، والجوع. وقد توجب على أمها، مارثا، التي تزوجت من جنرال في الجيش قبل الحرب، وهو الزواج الذي أثمر عن أليسا، أن تدفنه، وهي في زهرة شبابها. وفي ما تبقى لها من عمر، كانت دائما مشبوبة العاطفة، ولذلك عانت كثيرا، لدرجة المرض النفسي. وكانت جاهزة دوما لأن تضع تحت قدمي حبيبها، كل شيء تمتلكه، بما في ذلك الشقة التي تركها لها الجنرال. بعد انفصال مارثا عن آخر عشيق، انتحرت بطريقة عشوائية تماما: ذهبت إلى مصففة شعرها ومشذبة أظافرها،  ثم ألقت نفسها تحت عجلات القطار. بالنسبة لأليسا، شل سلوك أمها الجنوني أي إمكانية للتضحية العقيمة وغير المثمرة بالذات.  حضر جنازة مارثا عدة عشاق سابقون، ومن ضمنهم الأخير، الذي هجرها، وبالتالي تسبب لها بالضربة القاصمة. ألقوا على تابوتها المغلق جبلا من الزهور، أما أليسا البالغة عشرين عاما، بمحياها غير الناضج تماما، ووجهها الشاحب، فقد استنكرت وشعرت بالخزي، من حساسية أمها المفرطة، وأقسمت لنفسها أنها لن تكون ألعوبة  بيد هذا المجتمع المتوحش. وبرت بوعدها. ولم تكن حياتها زهدا مضنيا،  ولكن تخللتها علاقات نادرة وغير هامة، جعلت منها ندا للآخرين في الحياة العملية. عملت مهندسة ديكور، وكانت سعيدة بأدائها، ومتأكدة أن أحدا في مكتبها لا يمكنه رسم خط واحد أفضل منها. وحوالي نهاية القرن العشرين، ظهرت الكومبيوترات، فوضع كل المصممين، وحتى أفضلهم، أقلامهم جانبا، واجتهدوا بإتقان البرنامج الذي يقدم التعليمات الدقيقة:"ارفع القلم، اخفض القلم، عين النقطة...". ولكن عند هذا الحد اختارت أليسا التقاعد. واستمرت أجمل أوقاتها أكثر من عشر سنوات: كان تقاعدها صغيرا، ولكنها وجدت طريقة ممتازة لتدعمه بإضافات جانبية - فقد كانت لثلاث مرات أسبوعيا، من العاشرة حتى وجبة منتصف اليوم، ترافق الأطفال في نزهات في الحديقة. بعد ذلك تحررت وشعرت بالسرور. أحيانا تزور المسرح، وغالبا تذهب إلى الحفلات الموسيقية، واكتسبت المزيد من الأصدقاء، وخصصت حياتها للمرح والرخاء، حتى جاء يوم غير متوقع، وغابت عن وعيها، وسقطت جوار الكنبة في الشقة. استلقت هناك لبعض الوقت، ثم استفاقت وأدهشتها الزاوية الغريبة التي فتحت عليها بصرها: كوب مكسور وسط ماء مسفوح، قوائم الكرسي المقلوب، والبساط الأحمر والأزرق الممدود أمام وجهها. نهضت بسرعة. شعرت بالألم في كوعها. فكرت قليلا واستدعت الطبيب. قدر الطبيب ضغطها ووصف لها بعض الحبوب. كل شيء في الظاهر كما كان في السابق. باستثناء أمر واحد: بدأت أليسا منذ ذلك اليوم تفكر بالموت. لم يكن لديها أقارب تأنس لهم. فالأوكرانيون والبولونيون اختفوا منذ عهد بعيد وغابوا عن الصورة، فقد كرهوا السلطة السوفييتية التي يمثلها الجنرال المرحوم. أما أقارب الجنرال فقد كرهوا مارثا وابنتها أليسا، ولأسباب لا يتذكرها أحد...

بلغت أليسا الرابعة والستين. ولكنها بصحة قوية، باستثناء تدهور لياقتها وهو ما ذكرها فجأة بلا محدودية الحياة: ولكن السؤال هو: ماذا لو أصابها المرض؟ أو أصبحت طريحة الفراش؟. ومن يمكنها أن تعتمد عليه؟. لم تقدر أليسا على النوم. وأنفقت عدة ليال حافلة بالقلق، ثم خطر لها حل ذكي. وهو بسيط جدا: إذا غلبها مرض لا يطاق، يمكنها أن تسمم نفسها. ويمكنها تحضير سم فعال مسبقا، والأفضل حبوب النوم، ثم تناولها، بعد ذلك لا تستيقظ أبدا، وبلا أي استعراضات بليدة، كما كانت تفعل أمها في وقتها. وبطريقة آنا كارنينا فعلا!.  تناولي الحبوب ببساطة - ولا تستيقظي. وبهذه الطريقة، كما توقعت، تجنبي مرارة الموت...

حينما تبادرت لذهن أليسا هذه الفكرة، قفزت من السرير، وفتحت الدرج الذي تعلم أنه يحوي علبة بورسلين بيضاء، للاحتفاظ بالمساحيق وأدوات التجميل، وهو من بقايا أمها. وبوسعها أن تضع الحبوب في العلبة، وتحتفظ بها قرب السرير، وحينما يحين الأوان - تتناولها.

ليس الآن، ولا في الغد. ولكن حان وقت التفكير. أولا عليها أن تجد طبيبا موثوقا، ليكتب لها وصفة الحبوب بالكمية اللازمة. وهذه ليست مهمة سهلة، ولكنها واردة.. بعد نوبة الإغماء، تابعت أليسا حياتها المعتادة، واستمرت بمرافقة أرسيوشا وغلوشكا للتنزه. وهما طفلان لطيفان يعيشان في المبنى الذي تقطنه، وأمهما، امرأة حسنة النشأة والتربية، وليست مستهترة وفظة، تقوم بتدريس الموسيقا، وفي المساء تهتم بالولدين. أنفقت أليسا أمسياتها في الحفلات والمسرح، كالسابق، ولكنها لم تنس فكرة الطبيب الماهر. وفي إحدى الأمسيات دخلت بحوار مع واحدة من رواد المسرح. تكلمتا حول مختلف المسائل، وتبين أن شقيق المرأة طبيب. وبالصدفة يهودي. وهكذا. ربما صحت الأقاويل المتداولة حولهم - شريرون، مجرمون ييتعملون السم للقتل... وباختصار طلبت أليسا من صديقتها الجديدة أن تعرفها بشقيقها من أجل استشارة طبية.

بعد أسبوع جاء الأخ أليكساندر يفيموفتش. وهو رجل هزيل القوام وحزين، وعلى وجهه تعبير ينم عن التساؤل. واعتقد أنه مدعو لزيارة طبية خاصة، ولكن أجلسته أليسا على الطاولة، وقدمت له الشاي. غلبه القليل من التحير، كانت المريضة حسنة التربية، وذات مظهر جذاب جدا. ولم يسبق لامرأة من هذا النوع أن دخلت مجال حياته. والحق يقال مر وقت طويل منذ آخر مرة قابل بها امرأة. وهو يهتم بالنساء المريضات من زاوية طبية صارمة. وقد مرت عليه سنوات وهو أرمل، ويعاني من العزلة، ورفض الاستماع لتلميحات أقاربه عن الضرر المتوقع من حياة الوحدة. تم ترتيب الطاولة بأناقة، أكواب الخزف الصيني فوق غطاء طاولة كتاني رمادي اللون، السكاكر مستوردة، وصغيرة، وليست مثل الدب الروسي الثقيل الذي يتخبط في غابة الصنوبر.  كانت أليسا فيدوروفنا نفسها، مثل أكوابها وسكاكرها، بهية الطلعة، ذات شفتين رقيقتين ولا تعرفان الابتسامة. وشعرها الأشقر الخفيف مربوط إلى الخلف بنعومة. سكبت له الشاي وأخبرته بمشكلتها مباشرة:"أريد حبات تنويم قوية، بكمية تكفي لأنام إذا تناولتها ولا أستيقظ".

فكر ألكسندر يفيموفيتش قليلا، وتناول رشفة من الشاي، وسأل:"هل تعانين من ورم؟".

قاات: "كلا. أنا بصحة جيدة. أريد أن أكون سليمة ومعافاة حينما أموت. وفي اللحظة التي أقرر فيها ذلك. ليس لي أقارب يمكنهم رعايتي، ولا توجد لدي أدنى رغبة للتسكع بين المستشفيات، وأنا أعاني وأتبول في سريري. أحتاج لحبوب النوم لأتمكن من تناولها حالما أتخذ قراري. ببساطة أنا أشتري لنفسي ميتة سهلة. هل هذا أمر سيء؟".

"كم عمرك؟". سألها الطبيب بعد تفكير طويل، سؤالا طبيا.

"أربعة وستون".

قال:"تبدين معافاة جدا. لا أحد يخمن أنك أكثر من خمسين".

"أعلم. ولكنني لا أريد منك أن تجاملني. أخبرني بشكل قاطع إذا كان بمقدورك أن تصف لي الدواء اللازم بجرعة كافية...".

انتزع الطبيب نظارته، ووضعها أمامه، وفرك عينيه.

"أحتاج لأن أفكر. كما ترين المهدئات لا توصف أصلا إلا بحالات خاصة... والموضوع مسألة قانونية".

قالت أليسا فيدوروفنا بجفاء:"ولكن سوف أدفع لك مبلغا جيدا".

"أنا طبيب. والموضوع بالنسبة لي مسألة أخلاقية أولا. وأعترف هذه أول مرة في حياتي أواجه بها طلبا من هذا النوع".

انتهيا من الشاي. وافترقا، ووعدها الطبيب أن يفكر وأن يخابرها لينقل لها قراره.

وحان دور ألكسندر يفيموفتش بالأرق. ولم تغادر رأسه، هذه المرأة الرفيعة والضعيفة والتي لا تشبه من قابلهن في حياته. كانت بعكس زوجته رايا المرحة ذات خصلات الشعر المنفوش والمجعد باستمرار، وذات القميص الذي يكشف عن صدرها الضخم، والصخابة، وعالية الصوت... كان فراق رايا مؤلما،  بعد أن نهشها سرطان العظام، وبعد نوبات من الألم المتوحش الذي لم يخففه المورفين. 

وطيلة أسبوع لم يتوصل إلى قرار وهو يفكر يوميا بمخابرة أليسا المدهشة. كما أنه لم يجد حلا للمشكلة الأخلاقية التي عرضتها لها. امرأة محترمة وصادقة ومباشرة.  من الأسهل لها أن تشتكي من الأرق، وأن تسأل عن حبوب للنوم، فيصفها لها، ثم توفر  عشر أو عشرين جرعة - من سيهتم؟ ثم تتناولها دفعة واحدة  وتسقط بالنوم الأبدي.

وتم لقاء غير مخطط له في محفل بليتنيف الموسيقي، في استراحة بعد عزف "الجميلة النائمة" لشايكوفسكي وقبل سوناتا لشوبان. لم تتعرف أليسا عليه أولا، ولكنه عرفها - فورا. كانت في البار وبيدها كأس ماء، وتبحث حولها عن كرسي شاغر.  انحنى لها أليكساندر يفيموتش من مسافة بعيدة. نهض ودعاها إليه، فجلست في كرسيه الشاغر...

بعد الحفلة رافقها إلى بيتها. وبينما كانا يستمعان للموسيقا، كان المطر ينهمر. انتشرت البرك في عرض الشارع، وجلس شايكوفسكي البرونزي في كرسيه البرونزي في بركة صغيرة من ماء المطر. تناول الطبيب ذراع أليسا فيدوروفنا. كان ذراعها خفيفا وصلبا - كما كانت رايا حينما رافقها أول مرة بعد حفل التخرج في الجامعة. تقدم وهو مفتون بهذا الإحساس المنسي المؤنس. فكرت أليسا: هذا رجل لا يريد شيئا مني، وأنا من أتوقع خدمة منه.

تكلما حول بليتنيف، وذكر لها يودينا، وأشار أنه منذ وفاتها، أصبح بليتينوف أفضل من يمثل نمط الموسيقي الذي يمنح نفسه الحق، بتوفير رؤية جديدة للكلاسيكيات. وأدركت أليسا فيدوروفنا أنها كانت تتكلم مع رجل يفهم الموسيقا جيدا، مثل المحترفين، وليس مستمعا سطحيا مثلها. قادها إلى بيته، ووجد في أعماق الباحة المعتمة وبلا صعوبة الملحق المكون من طابقين، والذي زاره قبل أسبوع. كان لديه إحساس ممتاز بالمكان، سواء في الغابة أو المدينة: ووجد بسهولة مكانا سبق له أن مر به. فتوقفا أمام المدخل. وكانا على وشك الوداع  ولكنها لم تستطع تكرار الطلب الذي دعته من أجله قبل أسبوع.

تبع ذلك صمت غريب، وأنهاه بسؤال غريب عنه.

قال:"أنا جاهز يا أليسا فيدوروفنا لتسهيل طلبك، ولكن أريد أن نعالج هذه المشكلة لاحقا حينما" - وعانى بوضوح ليجد الكلمات المناسبة ثم تابع: -"حينما تنضج الظروف. وحتى ذلك الوقت سأعتبر صحتك من مسؤولياتي".

وافقت. لم يسبق لأحد أن قام برعايتها، وهي لا تسمح بذلك!. ولكن طاب لها أن تسمع ذلك. قدمت له يدها الخفيفة والصلبة وأمسكت بقبضة الباب. كان الدهليز معتما.

"اسمحي لي...". وتبعها في العتمة الرطبة. في الظلام تحسست أول سلمة وكادت أن تتعثر. ولكنه أنقذها من الخلف.

وهكذا بدأت علاقة غرامهما - عادا إلى أيام الشباب بعد لمسة بالصدفة، تبعتها أول قبلة في المدخل، واشتعلت نار غير متوقعة، وحلت الثقة التامة بالرجل الذي وصل إلى روح أليسا.

ومنحته أليسا ثقتها أكثر مما تفعل الصبايا - ولكن لم تأتمنه على حياتها إنما على موتها. وهكذا بدأت أسعد سنوات حياة أليسا. لم يقلق أليكساندر يفيموفتش شرنقة العزلة الهادئة التي نسجتها أليسا والتي تشعر فيها بالأمان. وبطريقة مدهشة ضاعف من هذه الحماية. وكأنه وفر لها غطاء من الأعلى. وأثار أليكساندر يفيموفتش اهتمام أليسا خصوصا بقدرته على التنبؤ برغباتها المفاجئة. ودون أن يسأل أي سؤال عما تفضل، أتى لها بالتفاح الأخضر والجلاتين الوردي، والكراميل المخطط المحبب لها، والليلك القرمزي وليس الأبيض، وجبنة كوسترومسكي الخاصة. كل شيء تفضله.

كانت أليسا دوما حساسة للروائح، وكل الرجال الذين أقامت معهم علاقة فيما مضى، كانت تفوح منهم رائحة المعادن، أو التبوغ، أو رائحة حيوان، إلا هذا العاشق الكبير بالسن كانت له رائحة خفيفة من صابون الأطفال والذي يغسل به يديه قبل وبعد فحص أي مريض. وهو الصابون المحبذ عند أليسا بالمقارنة مع كل الروائح العطرية الصناعية الأخرى...

عاش أليكساندر يفيموفتش كل حياته بجوار امرأة قوية وحالمة، ذات احتياجات هائلة، لم يجهده الرغبات المشتركة والنوعية والمختلفة، التي اكتشف لأول مرة، أنها ممكنة، وهو بقرب امرأة، وسوف يتحرر من سلطة النساء، التي ليس لها نهاية. وأليسا المحافظة، والمتماسكة حتى في أكثر اللحظات حميمية، كانت تشع بامتنان صامت. وشعر وهو في نهاية عقده السابع، أنه ليس موظف خدمة استهلكت حياته، ولكنه واهب كريم للمتعة. وكانا في لحظات العاطفة الرقيقة يتناديان فيما بينهما بألقاب المراهقة، أليك. 

عمل أليكساندر يفيموفيتش لعدد من السنوات كطبيب أعصاب في عيادة تابعة لنادي المسرح الروسي، وحسب كلام مرضاه، كانت لديه ارتباطات كثيرة. صحب أليسا في أيام العمل إلى أفضل عروض هذا الفصل في الصالة، ولكن في أيام السبت كان يأتي إلى بيتها لتناول وجبة مساء يحيط بها جو عاطفي. ولأول مرة في حياتها لم تطبخ لنفسها فقط...

تبدلت الحياة، وانحدر العمر، وبقي شيء مزعج واحد: من مكان بعيد حامت فكرة ملحة مفادها أن هذه السعادة غير المخطط لها لن تستمر.  وعلمت أليسا أنه عاش بعد وفاة زوجته مع ابنته مارينا الشابة والعزباء، والتي كانت معتلة الصحة وغير سعيدة تماما. أما آنيا الأكبر بالعمر، وهي معافاة وسعيدة، فقد كانت مع زوجها وابنيها اللذين بلغا السن القانونية للمدرسة، وذلك منذ فترة طويلة. وطيلة الشتاء كان الاثنان يلتقيان مثل مراهقين مغرمين، وفي الصيف ذهبا بعطلة للاستجمام معا، وخرق ذلك خطة الابنة الصغيرة، التي اعتادت أن تمضي الصيف مع أبويها. لكن ألكسندر يفيموفيتش لم يخبر أليسا بهذه المشكلة المقلقة مع ابنته. اشترى تذكرتين إلى كوماروفو، وفي وسط الصيف، حينما خبت أضواء الليالي البيض، ولم تعد حرارة بطرسبورغ الباردة مرهقة، وصلا إلى "بيت الإبداع".

أقاما في غرفتين منفصلتين كل منهما قبالة الأخرى من الممر، وارتاحا لتبادل الزيارات المسائية. قال أليكساندر يمفوفيتش ضاحكا بعد أن فتحت له أليسا الباب حينما دق عليه دقات منغمة:"أنت وأنا يا أليك مثل أولاد مدرسة يختبئون من عيون والديهما". ابتسمت أليسا بالمقابل بغموض: أول علاقة حب بطيء نشأت بعد وفاة أمها بخمس سنوات، وبعد زواج زميلاتها وصويحباتها بأزواج، وإنجاب أطفال ومعاشرة عشاق، وحصل بعضهن على الطلاق، وتزوجن مجددا. ولم تكن لديه فكرة محددة كيف يمكن للمراهقين إخفاء غرامهم عن آبائهم. أما مارثا أمها فلم تفكر أبدا في التستر على علاقاتها أمام أليسا. وكانت علانية، وعانت أليسا من العواطف المتقلبة. وكل ما كان ينقص أليسا في صباها انهال عليها في عمر متأخر، فارتبكت قليلا من وضعها كخليلة، ولا سيما في أوقات الصباح، حينما يهبطان إلى مطعم الفندق، الممتلئ تقريبا بأزواج مسنين مضى وقت مديد على زواجهم. بعد الإفطار يقومان بنزهات طويلة، وأحيانا يفوتهما الغداء ويعودان قرابة المساء. وكانت هذه أول مرة لهما في الأراضي الفنلندية سابقا. وكانت خبرتهما بتاريخها وجغرافيتها محدودة، ولذلك تجولا عشوائيا، وعبرا بالكثبان الرملية وبلغا شاطئا رمليا تتخلله الصخور والجلاميد، المنسية على الشاطئ، منذ العصر الجليدي، ثم تابعا إلى بحيرة بايك، حيث كان الاستحمام،  مبهجا جدا بالمقارنة مع خليج فلندا، الذي جلله هلام بني. 

وعند البحيرة قابلا واحدا من أصحاب أليكساندر يفيموفتش، وهو ممثل ومريض سابق، عاش في لينينغراد وكان من قدماء تلك الأنحاء. وكان يجلس مع سنارة الصيد المرتخية وبأمل عقيم غير واعد بأي صيد، إما سمكة شبوط، أو على الأقل فرخ سمك، وكان مسرورا برؤية الطبيب. وحالما سمع أن الطبيب وأليسا هنا لأول مرة، تطوع ليقودهما في أرجاء كيلوماكي Kellomäki   السابقة. تجول معهم في أرجاء القرية لمشاهدة البيوت الفنلندية القديمة، تلك التي لم تفكك وتنقل إلى فلندا حينما أصبحت الأرض لروسيا، وقادهما إلى بيت شوستاكوفيتش، وإلى كوخ أخماتوفا  والذي تم ترميمه وطلاؤه بلون أخضر منعش، وإلى بيت الأكاديمي كوماروف غير المعروف، وبيت الأكاديمي المشهور لافلوف... وبعد ثلاثة أيام من التجوال برفقة هذا الدليل المجاني، انفصلا عنه، وتجولا في غابة واسعة، وجمعا التوت البري والعنب البري الحامض...

توالت الأيام الأربع والعشرون، وفي خلال تلك الأيام الطويلة والليالي القصيرة، أصبحا متقاربين كأنه مضت عليهما  أعداد كبيرة من الحياة المشتركة. وبعد العودة إلى موسكو، تقدم أليكساندر يفيموفتش لخطبتها. لزمت أليسا الصمت لفترة طويلة، ثم ذكرته بطلبها، الذي لم يحققه أبدا. وكان قد نسي الموضوع. حبوب النوم...

"أليسا، أليسينكا، لماذا؟ لماذا بحق السماء الآن؟".

قالت أليسا مبتسمة:" الآن وحالا".

"أنا لا أفهم".

"لأن هذه الحال أوشكت على نهايتها.. وأريد أن أحضر نفسي".

كان يعلم أن النقاش مع أليسا غير مجد.

قال:"هذا جنون. لكنني سأنفذ".

أخرجت أليسا علبة بورسلان من الدرج وقدمته إلى ألكساندر يفيموفتش. وقالت له:"ضعها هنا".

تحرك ضميره، ولكن ما باليد حيلة.

"حسنا. حسنا. ولكن لنتزوج أولا. ثم سأضعها هنا- هدية الزواج".

ضحك، ولم يحصل ولا على ابتسامة بالمقابل.

"هذا الزواج - ما هو إلا مسخرة؟ ماذا ستقول ابنتاك عنا؟".

قال:"هذا لا يهم ولو قلامة ظفر" وغرق بأفكاره. بالنسبة للصغيرة، غير المستقرة، بنفسيتها المضطربة، ستكون صدمة حقيقية...

في الخريف، بعد أول ذكرى لتعارفهما، بلغ ألكسندر يفيموفتش السبعين.  نظم حفلة شاي متواضعة في مكان العمل، وتلقى من زملائه حقيبة جلد طبيعي، وكانت تختلف عن سابقتها بالرقم المدون على الشارة الفضية - "70" بدلا من  "60". أقام للأصدقاء والعائلة حفل عشاء في مطعم المرساة. لم ترغب أليسا بالمجيء. ولكنه ألح - فهذه أفضل مناسبة لمقابلة ابنتيه. وتابع أليكساندر التقدم بترتيباته، وتابعت أليسا التراجع. قدمها لأصدقائه المقربين، وزميلي المدرسة كوستيا وأليونا، وتلميذاه المحلل النفسي طوبولسكي، وطبيب التوليد بريتسكير. وكانت عائلته آخر الجماعة. 

بعد القليل من التردد، دعا ابن عمه، الذي قدمهما بدوره،  ثم موسيا تورمان، أقرب صديقات زوجته المرحومة. كانت خطوة غير مريحة، ولكنها استراتيجيا بريئة. كان يجهز نفسه على جبهة واسعة. تلكأت أليسا في الخلف  وكانت متهيبة حتى آخر لحظة، وفي النهاية وافقت أن تحضر هذا الاستقبال، ثم أعلنت رفضها. وسبق لها أن اعتادت أن تكون ملكة: ولم يكن يهمهما أن تكون محترمة ممن حولها أولا- والملكات لا تشعرن بهذا الاتكال على آراء الآخرين. ولكن ها هي قلقة وتشعر بالانزعاج من نفسها.

وأخيرا تدبر أليكساندر يفيموفتش إقناعها، قبل ساعة من مغادرته البيت:"أنت تعنين الكثير لي، ولا يمكنني إخفاؤك. ثم يجب أن أجهز الجميع...".

وهكذا استسلمت له.

وجاؤوا بتوقيت واحد. وفي حوالي السابعة وعشر دقائق جلسوا جميعا حول الطاولة.  أعلن ألكساندر يفيموفيتش باعتزاز:"أقدم لكم أليسا فيديروفنا". وقدم الضيوف لها كلا بدوره، آنيا وزوجها وحفيديهما مارينا وموسيا تورمان. كانت أليسا مثالية، وهي تعلم ذلك. وثيابها الحريرية بلون التبغ كانت مشدودة على الخصر النحيل  بحزام جلدي، وكان خصرها هو الوحيد بين بقية السيدات الشبيهات بالبراميل. عقدت الدهشة ألسنة الضيوف قليلا، حتى البنتين، مع العلم أنهما تلقتا تحذيرا بدعوة والدهما لصديقته.  جلست موسيا تورمان هناك صامتة - نظرت الى هذه الانسانة بعيني رايا المرحومة، وشعرت بالاستفزاز. 

همست إلى آنيا:"لا يوجد شيء يهمك". ولكن انيا لم تقلل منها.

"لماذا يا خالة موسيا. هذه امرأة لافتة. وقوامها...".

شخرت موسيا: “القوام. القوام. إنها غشاشة. وتعرض نفسها، فقط ضعي كلامي في ذهنك وتذكريني".

بدأ النادل بسكب الشمبانيا، ورفع كوستيا صديق أليكساندر كأسه. بدأ كوستيا الأشيب المنتفخ الوجنتين والممتلئ، بالكلام.

كانت بينه وشاشكا معرفة تعود إلى سبع وستين عاما، من سبعين عاما، ووصل التعارف لدرجة عدم تمييز الحدود بين أفكارهما أحيانا، وهو لا يعلم من يبدأ بالكلام، ومن يبدأ بالتفكير، وكانا أكثر من صديقين وأكثر من أخوين، وطيلة عمره، كان كوستيا يتبعه ولم يصل إليه...

وهناك المزيد من الكلمات، وكلها للمديح وكانت مرحة إلى حد ما. وفي النهاية قال يسعده أن يشاهد بجانب شيشكا أليسا الساحرة، التي أتت إلينا من أرض العجائب. تكرمت أليسا بابتسامة باردة...

بعد شهر سجلا زواجهما بهدوء وأريحية. ووفى أليكساندر يفيموفتش بوعده: ملأ علبة البورسلان بحبوب بيض صغيرة، ووضعه على الطاولة بجانب حزمة من أوراق الكتابة، والمغلفات، وتذاكر قطار الأنفاق المنتهية. وبخفة مدهشة جاء إلى شقة أليسا، ولم يبدل أي شيء، بالعكس، حرص على صيانة كل شيء، كان معلقا بحبل أو مربوطا بشريط لاصق. وثبت جزءا مختلا من ثريا، واستبدل المحراق الذي لا يعمل منذ عهد بعيد، ولم تشعر أليسا أن معارفه الطبية تشمل كل شيء يلمسه. ودون أي عناية إضافية بدأ النبات الموجود على إفريز النافذة بالإزهار - وهذا شيء لم يحصل في السابق. 

لم يكن الشريكان يشكوان من علة صحية حتى قبل الزواج، وأصبحا بشكل واضح كأنهما أصغر بالعمر.  قال الزوج ضاحكا: "عاودت دورة الهرمونات فعلها".

وفي مستهل الربيع، وقع حادث غير ملحوظ وغير مناسب: أصبحت الابنة الأصغر لألكسندر يفيموفتش مارينا، والتي بلغت حوالي الأربعين من عمرها، حاملا. كان لديها عيب بالولادة - شق في الشفة واللثة (شفة الأرنب)، ثم تخلفت ندوب على وجهها بعد عمل جراحي ناجح. وهو ما شوه روحها أكثر من مظهرها. ومنذ أيام الطفولة، تجنبت كسب الصديقات، واختارت مهنة قارئة مخطوطات، وسمح لها ذلك بكسب صداقات مع النصوص فقط.

أدهش والدها هذا الحمل. ولكن سره أيضا، وأدرك أنه لن يترك ابنته وحدها، ولكن مع طفل بمقدوره أن يملأ عالمها كله، والذي كانت تعتبره عدوا لها. وافقت أليسا بحركة غامضة حينما أخبرها: أنها تفكر بالحمل بطريقة خاصة، ولكنها لا تشعر بالرغبة في الإعلان عنها لزوجها.  على الأقل كانت أفكارها منذ عهد بعيد قد فقدت الاهتمام بكل الموضوعات. وحينما أخبر أليكساندر يفيموفتش أليسا بالنبأ، كان الحمل قد وصل لشهره السادس وتم استيعابه في بطنها البدينة، ولكنه لم يكن واضحا لاي عين متفحصة. كانت مارينا بدينة ومترهلة مثلها منذ أيام صباها. وحينما اقترب وقت الولادة، رتب الوالد أمور ابنته، وكانت كبيرة بالنسبة لأول ولادة، فنقلها إلى مستشفى نساء جيد في شارع شابولوفكا، حيث كان طالبه السابق بريتسكير رئيس القسم. وبالنظر لعمر مارينا ووزنها، تقرر إجراء عملية قيصرية. وتحدد موعد العملية في صباح الثلاثاء. انتظر ألكسندر يفيموفتش مكالمة من الجراح، الذي أخبره أن كل شيء على ما يرام - المولودة بنت بلا أي عيب، وعلى الأقل بلا شفة الأرنب. ولا يزال ألكسندر يفيموفتش يتذكر الرعب الذي مر به حينما خرجت زوجته من المستشفى مع ابنة صغيرة، لها حفرة مثلث مفتوح من الفم حتى الأنف. تنهد باطمئنان. وقال لأليسا:"علي أن أذهب إلى المستشفى".

جهزا علبة طعام للأم الجديدة:"عيران، حليب، حلويات، وقطعة من الجبنة. ثم غادر البيت وواتاه الحظ: شاهد ورود هيانسيث جديدة وجميلة - تفضلها أليسا - قد وصلت للتو إلى بائع زهور بالجوار، فاشترى باقة كبيرة لابنته وللممرضات. لفت البائعة الباقة بورق الهدايا. وخرج إلى الشارع المهجور الذي يغمره هدوء ما بعد الغداء، ومعه الزهور وكيس الزهور البلاستيكي. كان هناك حشود قليلة تنتظر الحافلة. وقف على مبعدة ليحمي الهيانسيث الجميلة من الناس المتدافعين حينما وصلت الحافلة.

ثم ارتطمت سيارة سوداء كبيرة تسير بسرعة عالية في منتصف الشارع، مع سيارة أخرى سوداء وكبيرة مثلها، فانحرفت نحو الرصيف. ضربت عمود إنارة، وأوقعت ثلاثة أشخاص كانوا في طريقها، ومن بينهم شخص يحمل باقة زهور مات فورا...

اتصلت أليسا في المساء ببريتسكير. فقال إن كل شيء على ما يرام فيما يخص مارينا وطفلتها، ولكن ألكسندر لم يحضر. أجرت أليسا عدة اتصالات. وبعد خمس عشرة دقيقة، تم إخبارها أن زوجها في المشرحة. وأنهم أنفقوا كل اليوم في محاولة للعثور على عائلته، ولكن لم يرد أحد من البيت. وهكذا انتهى الموضوع. "نعم، نعم، كنت أتوقع شيئا من هذا النوع". وعلبة البورسلان موجودة في الدرج... بدأت أليسا في الصباح التالي من المستشفى - أخذت الحليب، والعيران، والجبنة إلى مارينا. ثم توجهت إلى المشرحة. تأجلت الجنازة بسبب الفحص الجنائي. وأخبرت مارينا بموت والدها بعد ثلاثة أيام فقط. تعرضت لانهيار عصبي، فحملها البروفيسور طوبولسكي، صديق ألكسندر يفيموفتش، إلى مصحة كاشجينكو. وبقيت المولودة في المستشفى في الوقت الحالي.

ولم تتمكن آنيا، أخت مارينا الكبرى، من حضانة المولودة - لأن زوجها لا يحب مارينا، ورفض الموضوع. بعد أسبوعين، أخذت الجدة أليسا فيدوروفنا الطفلة من المستشفى. وكان لدى أليسا إحساس أن سعادتها مع ألكساندر  يفيموفتش لن تستمر، ولكن إحساسها لم ينبئها بأي شيء حول المولودة الجديدة.

عاشت البنت في عربة قرب سرير أليسا. ولم ترغب أليسا بالانتقال إلى شقة زوجها، مع أنها أوسع. وهناك كل شيء غير نظيف، وكان حوض الاستحمام، مع زخارفه المشققة، فظيعا، ولكن هنا الحوض جديد، وأبيض ولماع. أعفيت مارينا من المصحة النفسية بعد ست شهور. ولكن كيف يمكن الثقة بأهلية هذه المرأة المترهلة والمهملة والمضطربة نفسيا على ألكساندرا الصغيرة؟.

كانت العلبة بالمواد المهدئة في الدرج، ولكن لم يكن بمقدور أليسا، الاستفادة من هدية زوجها ليوم الزفاف بعد الآن. أحيانا يكون هذا نظريا أمرا ممكنا... ولكن إذا نضجت الظروف.

***

....................

* الترجمة من الروسية: ريشارد بيفير ولاريسا فولوخونسكي.

* منشورة في النيويوركير  عدد 3 نيسان 2023.

* ليودميلا أولتسكايا Lyudmila Ulitskaya  كاتبة روسية معاصرة. حصلت عام 2014 على جائزة الدولة التقديرية من النمسا للأدب الأوروبي الحديث.  من أهم أعمالها: الخيمة الخضراء الواسعة، لغز كيوكوتسكي، ميديا وأبناؤها، وغير ذلك...

في نصوص اليوم