ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

قصة: ريموند كارفر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كنت في السرير عندما سمعت البوابة. استمعت بعناية. لم أسمع أي شيء آخر. لكن سمعت ذلك. حاولت إيقاظ كليف. كان فاقد الوعي. لذلك نهضت وذهبت إلى النافذة. قمر كبير يغيب فوق الجبال المحيطة بالمدينة. لقد كان قمرًا أبيض مغطى بالنجوم. يمكن لأي أحمق أن يتخيل وجهًا هناك.

كان الضوء كافيًا بالنسبة لي لرؤية كل شيء في الفناء: كراسي الحديقة، وشجرة الصفصاف، وحبل الغسيل المعلق بين العمودين، وزهور البتونيا، والأسوار، والبوابة المفتوحة على مصراعيها.

لكن لم يكن أحد يتحرك. لم تكن هناك ظلال مخيفة. كل شيء كان تحت ضوء القمر، وكنت أستطيع رؤية أصغر الأشياء. كمشابك الغسيل المعلقة على الحبل على سبيل المثال.

أضع يدي على الزجاج لأحجب القمر. نظرت أكثر قليلا.  استمعت. ثم عدت إلى النوم.

لكنني لم أستطع النوم. ظللت أتقلب. فكرت في الباب المفتوح. كان الأمر أشبه بالتحدي.

كانت تنفس كليف مزعجا للغاية.. كان فمه مفتوحًا على مصراعيه وذراعاه تحتضنان صدره الشاحب. كان يحتل نصف السرير الخاص به ومعظم مساحتي،

لقد دفعته ودفعته. لكنه تأوه فقط.

بقيت لفترة أطول حتى قررت أنه لا فائدة منه. نهضت ولبست حذائي الرياضي. ذهبت إلى المطبخ وأعدت الشاي وجلست على طاولة المطبخ.   دخنت سيجارة من سجائر كليف غير المفلترة.

كان الوقت متأخرا. لم أكن أريد أن أنظر إلى الوقت. شربت الشاي ودخنت سيجارة أخرى. وبعد فترة قررت أن أخرج وأغلق البوابة.

لذلك لبست رداءى .

لقد أضاء القمر كل شيء: المنازل والأشجار، والأعمدة وخطوط الكهرباء، والعالم كله. نظرت حولي في الفناء الخلفي قبل أن أغادر الشرفة. جاء نسيم صغير وجعلني أغلق رداءي.

توجهت نحو الباب.

كان هناك ضجيج على الأسوار التي تفصل منزلنا عن منزل سام لوتون. ألقيت نظرة حادة. كان سام متكئًا وذراعاه على السور، وكان هناك سوران يمكن الاتكاء عليهما. وضع قبضته على فمه وسعل سعالا جافًا. قال سام لوتون:

- ليلة سعيدة يا نانسي .

قلت:

- سام، لقد أخافتني. ماذا تفعل؟

- هل سمعت شيئًا؟

قلت:

- سمعت البوابة تفتح .

فقال:

لم أسمع شيئا. لم أر أي شيء أيضًا. ربما كانت الريح.

كان يمضغ شيئا. نظر إلى الباب المفتوح وهز كتفيه. كان شعره فضيًا في ضوء القمر وقد ارتفع  فوق رأسه. كنت أرى أنفه الطويل، والتجاعيد على وجهه الكبير الحزين.

فقلت وأنا أقترب من السور:

- ماذا تفعل يا سام؟

قال:

- هل تريدين رؤية شيء ما؟

قلت:

- سوف آتي .

سمحت لنفسي بالخروج وواصلت المشي. كان الأمر مضحكًا عندما كنت أتجول في الخارج مرتديًا ثوب النوم والروب. فكرت في نفسي أنني يجب أن أحاول أن أتذكر ذلك، وأنا أتجول في الخارج بهذه الطريقة.

وقف سام بجوار منزله، وكان يرتدي بيجامته فوق حذائه البني والأبيض. كان يحمل مصباحًا يدويًا في إحدى يديه وصندوقًا يحتوي على شيء ما في اليد الأخرى.

كان سام وكليف صديقين. ثم في إحدى الليالي شربا. كان لديهما كلمات. والشيء التالي هو أن سام بنى سورا ثم قام كليف ببناء سور أيضًا.

كان ذلك بعد أن فقد سام ميلى، وتزوج مرة أخرى، وأصبح أبًا مرة أخرى في وقت قصير جدًا. كانت ميلي صديقة جيدة حتى وفاتها. كانت في الخامسة والأربعين فقط عندما فعلت ذلك. سكتة قلبية. لقد أصابتها عندما كانت قادمة في سيارتهما. واصلت السيارة سيرها ومرت عبر الجزء الخلفي من المرآب.

قال سام وهو يربط بنطال البيجامة ويجلس في وضع القرفصاء:

- انظرى إلى هذا.

وأشار بمصباحه إلى الأرض.

نظرت ورأيت بعض الأشياء الدودية ملتفة على قطعة من التراب.

قال:

- القواقع .

تابع وهو يمسك بعلبة تشبه أياكس :

- لقد أعطيتها جرعة من هذا . وقال وهو يعالج كل ما كان في فمه:

- إنها تتولى المهمة .

أدار رأسه إلى جانب واحد وبصق ما قد يكون تبغا.

- يجب أن أستمر في القيام بذلك فقط لأقترب من مواكبة هذه الأحداث.  وضع المصباح على جرة مملوءة بالأشياء. وقال :

- لقد ألقيت الطعم وكل فرصة أتيحت لي أخرج إلى هنا بهذه الأشياء. انتهى الأوغاد. جريمة ما يمكنهم القيام به. انظر هنا.

نهض. أمسك بذراعي ونقلني إلى شجيرات الورد الخاصة به. أظهر لي الثقوب الصغيرة في الأوراق.

قال:

- البزاقات .في كل مكان تنظرين إليها هنا ليلاً.

أضاف:

- أضع الطُعم ثم أخرج وألتقطها . اختراع فظيع، البزاقة. أحفظها فى تلك الجرة هنا .

وجه شعاع المصباح إلى تحت شجيرة الورد .

حومت طائرة في سماء المنطقة. تخيلت الناس الموجودين عليها وهم يحدقون في الأرض.

قلت:

- سام، كيف حال الجميع؟

قال وهو يهز كتفيه:

- إنهم بخير.

مضغ ما مضغه.وقال:

- كيف حال كليفورد؟

قلت:

- كما هو الحال دائمًا.

قال سام:

- في بعض الأحيان عندما أكون هنا للبحث عن القواقع، سأنظر في اتجاهك.

ثم تابع وهو يسحب نفسا عميقا :

- أتمنى أن نكون أنا وكليف أصدقاء مرة أخرى. انظرى هناك الآن. هناك واحدة هناك. أراها؟ هناك حيث يوجد ضوء مصباحى .

وجه سام الشعاع إلى التراب تحت شجيرة الورد. وقال :

- شاهدى هذا.

طويت ذراعي تحت ثديي وانحنت إلى حيث كان يسلط الضوء. توقف الشيء عن الحركة وأدار رأسه من جانب إلى آخر. ثم كان سام فوقها بصندوق المسحوق الخاص به، ثم رش المسحوق عليها.

قال:

- أشياء لزجة .

كانت البزاقة ملتوية في هذا الاتجاه وذاك. ثم تجعدت واستقامت. أمسك سام بمجرفة ، وغرف البزاقة فيها، ثم ألقاها في الجرة.

قال سام:

- لقد استقلت، كما تعلمين .اضطررت. لفترة من الوقت كان الأمر سيئًا للغاية لدرجة أنني لم أتمكن من التمييز بين الأعلى والأسفل. ما زلنا نحتفظ به في المنزل، لكن لم يعد لدي الكثير لأفعله به بعد الآن.

أومأت. نظر إلي واستمر في النظر.

قلت:

- من الأفضل أن أعود .

قال:

- بالتأكيد. سأواصل ما أفعله، وبعد ذلك عندما أنتهي، سأعود أيضًا.

قلت:

- ليلة سعيدة يا سام .

قال:

- اسمعى.

توقف عن المضغ. ودفع بلسانه إلى مكان ما  خلف شفته السفلية. وأضاف :

- بلغى كليف تحياتى .

قلت:

- سأخبره أنك قلت ذلك يا سام.

مرر سام يده خلال شعره الفضي كما لو أنه يجعله يسكن مرة واحدة وإلى الأبد، ثم استخدم يده للتلويح.

في غرفة النوم، خلعت الروب وطويته ووضعته قريبا منى. دون النظر إلى الوقت، تحققت للتأكد من أن ذراع الساعة خارج. ثم ذهبت إلى السرير وغطيت نفسي بالبطانيات وأغمضت عيني.

عندها تذكرت أنني نسيت إغلاق البوابة.

فتحت عيني واستلقيت هناك.  هززت كليف قليلاً. قام بتسليك حلقه. ابتلع.ثمة شى توقف وتقطر فى صدره

لا أعرف. لقد جعلني أفكر في تلك الأشياء التي كان سام لوتون يسكب عليها البودرة.

فكرت للحظة في العالم خارج منزلي، ثم لم تعد تراودني أية أفكار باستثناء فكرة أن علي أن أسرع وأخلد إلى النوم.

***

..............................

(تمت)

المؤلف: ريموند كارفر / Raymond Carver  (25 مايو 1938 - 2 أغسطس 1988)  كاتب قصة قصيرة وشاعر أمريكي. وعند ترشيح كارفر لجائزة بوليتزر للرواية عام 1989، خلصت لجنة التحكيم إلى أن "إحياء القصة القصيرة في السنوات الأخيرة يُعزى إلى حد كبير إلى إتقان كارفر للشكل."

بقلم:  إرنستو رينيه رودريغز

ترجمة:  صالح الرزوق

***

وصل روغيليو إلى باريس في الفجر. كان في سيارة وبرفقته ثلاث بنات، اثنتان للاهتمام بالمقود. ويا لها من مهمة لسابينا وجيني، فهما لم تقودا سيارة لمسافة طويلة كهذه. ولكن قادتا ببراعة فولكسفاغن موديل 1990، وفي بعض المناسبات تجاوزت السرعة 150 كلم بالساعة. في الرحلة القادمة من برلين، وخلال عبور الحدود بين ألمانيا وفرنسا، لم ينحسر الشك بإمكانية إلقاء القبض عليهم، فروغيليو يحمل فيزا انتهت صلاحيتها في ألمانيا. وإن لم يكن السبب هذه الشبهات، لوقع الاختيار على طريق أقصر، يمر من بلجيكا:  والمعضلة هي نقطتا التفتيش.

توقع روغيليو أن يخرج سالما من المشكلة، كان نور البنات ساطعا  وينبئ بالثقة،  ومع ذلك كن متأكدات أنه يتعين عليهن التفكير بحيلة بأسرع ما يمكن. وقبل عدة أميال من الحدود في ساربروكين جاء أول اقتراح:  أن يخبئوا روغيليو في صندوق السيارة. لكنه كان يشعر أنه غريب، مثل شيء قديم على حصان دمية. ولكن برزت أفكار بديلة ولم تكن أي منها قابلة للتطبيق. اقترحت أسترايد، ثالث بنت، إيقاف السيارة. كانت قد سافرت مع روغيليو بالمقعد الخلفي، وإن كانت فعلا تتقن القيادة، فهي محرومة من موهبة التعامل مع الطريق السريع. 

توقفوا في محطة وقود بعد حلول الظلام. وفي الكافتيريا وهم يأكلون البيتزا، خطر لسابينا فكرة. قالت: "وجدتها". وأشارت لرجلين يقفان عند الكونتور. قالت: "ألا يبدو لكم مثليا؟". وافق الجميع بهز رؤوسهم قائلين: "نعم". "إذا علينا أن نساعد روغيليو على ارتداء ثياب نسائية". اتتزعت جيني قرطيها وقدمتهما له. قالت: "خذهما. أعتقد أنهما بحجم مناسب". قال: "ليس القرطين فقط. القليل من أحمر الشفاه والمساحيق فكرة طيبة للتأثير بأول موظف يمد رأسه من النافذة عند الحدود". وتذكرت أسترايد أنها حضرت مشاهد مماثلة في العديد من الأفلام،  ومعظمها بظروف مأساوية. والأفضل الاستماع لكلام روغيليو، والبحث في السيارة عن ثياب ومكياج نسائي واستعمالها.

في حمام السيدات جهزن روغيليو بعدة أشكال حتى وصلن لأنسبها. وشعرن بالراحة جميعا. وحينما نظر روغيليو إلى  نفسه بالمرآة قال:  "شيء سخيف. ببساطة شيء سخيف".

قالت جيني بتحمس: "ولكنك شيء ثمين لنا".

تساءل روغيليو ببعض الارتباك: "ثمين؟".

كررت جيني وهي تخفض صوتها: "اعذرني حقا، لكن أنت ثمين".

قالت سابينا: "معنا لست مضطرا للتنازل. وهي محقة. شكلك رائع".

نفخت أسترايد بمكر: "عليك أن تكون ممتنا لنا".

قال روغيليو وهو يرمق نفسه مجددا بالمرآة: "بأي طريقة من الطرق أنا غير قادر على حركة واحدة بهيئة فزاعة الطيور هذه".

قالت أسترايد: "بالعكس. أعتقد أنك ستحصد عددا كبيرا من المعجبين".

وحذرت جيني بقولها: "نحن نتكلم عن عبور الحدود فقط".

قال روغيليو: "حسنا. لا بأس. هذا عمل جيد. ولكنني غير معتاد على تبديل شخصيتي لدرجة راديكالية".

قالت جيني: "قبل أن تندم، هذا الشكل يستحق صورة. سأبحث عن كاميرا". وعلى الفور غادرت الحمام. 

في نفس الوقت حرصت أسترايد وسابينا على تشجيع رودريغو للخروج، وهذا أفضل طريقة لكسر الجليد.

عندما عادت جيني، طلبوا من امرأة التقاط صورة لهم عند باب الحمام، على أن تظهر إشارة حمام للسيدات وراءهم.  وبما أنها كاميرا إلكترونية، يمكنهم كتابة مناسبة التقاطها على الشاشة. وظهروا بشكل ثلاث بنات بسيطات وجميلات مع عارضة أزياء مهمة. مر رجلان وتقريبا أطلقا صفرة إعجاب.

حين وصولهم إلى الحدود، أدهشهم أن الناس حولوا منطقة المراقبة إلى مركز استجمام، ومخيمات، أو ما يشبه محطة سفريات. وبلا حراس في أي مكان، أما مواضع الحراسة الألمانية والفرنسية فقد كانت كتابات الغرافيت تغطيها بلغات مختلفة، والأبواب والنوافذ مخربة تماما. ولكن من باب الحرص احتفظ رودريغو بتنكره.

تعليمات للمهاجرين إلى سويسرا: 

هناك نقطة  على خريطة هذا البلد ("غير المتاح") ويجب وضعها بعين الاعتبار. بالعكس من بقية المناطق السويسرية المحاذية لإيطاليا وفرنسا والنمسا، الصعوبة الوحيدة هي النهر. لمن لا يتقن السباحة، يوجد برج - يعود للقرون الوسطى. ولكن للوصول على المرء أن يشق طريقه عبر ألمانيا، إلى  جنوب غرب سويسرا:   حيث الغابة السوداء.

حسنا. لا يوجد ما هو أفضل من عبور جسر "المعجزات" الصغير بدراجة. وإذا أمكن أن تلبس ثياب دراج أولمبي، وبالأخص بقميص بلا ياقة من قمصان الفريق السويسري. وتبين أنه على جهتي الجسر،  ستجد بلدتين صغيرتين وعمليا تؤازر الواحدة الأخرى. إحداهما في ألمانيا وطبعا الثانية في سويسرا. ولكن عند مدخل كل طرف تجد عبارة -  Cuidado   احذر. Achtung  انتبه. وهذا هو حال نقاط الحدود التي تعمل عملها.  من جهة أخرى، يوجد تفاصيل تشبه النكتة، أو اللغز والميزة، فالقريتان في الواقع تحملان نفس الاسم:  وهو رينفيلدين.  وفي نفس الوقت مهما كانت وجهة نظرك ومقاربتك أنت تخضع لفروض تحددها جنسيتك  ومحبة الآخر ورغبته بها. والآن احذر جيدا:  لا يجوز احتجاز أحد ولا يترتب على أحد واجب  تقديم جواز السفر. فهو بغيض.

والموضوع بهذا الشكل:  إذا قررت أن تهاجر وتمر من هذا الجسر الممدود فوق نهر راين تين تين لا تتردد. وتذكر أنك ستواجه قبل بدايته ... ونهايته، حسنا.. حظا طيبا يا رفاق.

الطريق السريع الفرنسي، بعكس الألماني، يوفر حزمة من صناديق الدفع الأوتوماتيكية. لا تتجاوز أحدها حتى يظهر الآخر. هذه المقاطعات أرهقت السيارة. كانت سابينا وراء المقود، وهي أكثر من تحسس من المشكلة، وبالأخص حينما تضغط على الفرامل، وتصيح: "اللعنة. واحد منها يكفي". وما يدهش أنها انتهت. ولكن اوقفتهم دورية. صاحت سابينا بتألم: "هذا كل ما نحتاج له. لم يبق إلا أن نتحول الى فيلم هوليوودي". ودون إطفاء المحرك، وقفت بالسيارة على بعد عدة أمتار من الدورية. ولكن أخذت الشرطة وقتها للخروج من السيارة.

قالت أسترايد: "اسمع يا روغيليو. مهما حصل اسمك الآن آنا رينفيشتاين".

توسل روغيليو: "من فضلك هل يمكن أن تكرري اسمي؟".

هجأته أسترايد:  "بكل سرور. ر-ي-ن-ف-ش-ت-ا-ي-ن. كما أنك أبكم ونسيت أوراقك في برلين".

قال روغيليو: "أنا أبكم. ولا يمكنني الكلام".

قالت أسترايد: "طبعا استعمل الإشارة. وإحدانا ستترجم لهم".

قالت جيني: "نعم. ولكن إذا ساء الوضع وقررت الشرطة تعقب أسرارنا، كيف نتصرف؟".

قالت سابينا: "حسنا. بعدها نطلب اللجوء".

قال روغيليو: "لا. ليس اللجوء. فكرة الهجرة تزعج الفرنسيين تماما. وسيرحلونني. وسيتهمونك بتهريب مهاجرين".

قالت أسترايد:  "حسنا يا روغيليو. إذا اكتشفوا أمرك، أنت متحول. وهذا كل شيء".

وذكرته جيني: "ولا تنس أن تبقى أبكم".

"لا تقلقي. أنا لا أتكلم الفرنسية".

قالت سابينا: "وأنا لا أعرف أكثر من عبارة ماشي الحال".

قالت جيني: "وأنا أيضا. باريس. أحبك". قالت أسترايد: "وأنا، أحب عبارة واحدة. هل تودون سماعها؟".

قالت سابينا: "أعتقد بمقدورك أن تنتظري لوقت أفضل، فالشرطة قادمون إلينا". وكانت قد رأتهم بالمرآة الصغيرة.

عندما أصبح الحراس على بعد عدة خطوات، قالت سابينا: "تمسكوا جيدا واخفضوا رؤوسكم". ودون تعليق، اتبع الجميع التعليمات. وفكرت سابينا إننا الآن سنتصرف كما يجري في الأفلام. وضغطت على بدال السرعة.

كانت الدورية لبعض الوقت وراء الفولكسفاغن وكان عناصرها يحاولون اللحاق بهم، أو يحاولون ضبطهم. وأسرعت سابينا كالمجانين ودون إضاءة. ورغم أن ضوء الدورية يرى لمسافات أبعد، ألح الجميع على سابينا أن تسرع إلى الطرف الآخر من الطريق السريع، ولكنها فعلت العكس، وأبطأت وتوجهت إلى ممشى الغابة. وهناك انتظروا حتى ابتعدت سيارة الدورية. وبعد عودة كل شيء إلى طبيعته، عادت سابينا بحذر إلى الطريق، وأشعلت المصابيح، وتابعت الرجلة. واصلت أسترايد نومها. وتقريبا جنت جيني، مستمتعة ببعض الشوكولا. أما روغيليو فوضع نظره على الخطوط البيضاء المرسومة على الإسفلت. ولأول مرة لزموا السكون. بعد قليل التفتت جيني. ودون أي كلمة ثبتت نظرتها على وجه روغيليو. ولم يكن يتوقع أن تنطق باي كلمة.

سألت جيني: "هل صحيح أنكم جميعا شمعة في السرير؟"

صاح روغيليو: "شمعة؟. مر وقت طويل لم أسمع  بهذا التعبير".

"نعم. شمعة..".

"مر وقت منذ سمعت هذا التعبير، ووقت أطول منذ سمعت ألمانية تستعمله".

"ليكن بعلمك.. زرت هافانا".

"وعليه تعرفين الجواب مسبقا".

"لا أحب أن أكون من خنازير غينيا".

"من؟".

"حسنا. من المشاغبات".

"أنت مثلا".

"ربما".

"لا يبدو أنك كوبي".

"هل هذا لأن رأسي أحمر؟".

"لا علاقة لذلك بعرقك، ولكن أشير لأسلوبك بالحياة".

"أريد تفاصيل".

"في بلدك الناس منفتحون ومعبرون. ومع الأجانب اجتماعيون جدا. لكنك مختلف".

"ربما لأنني محاصر بالأجانب. الإنسان يتأثر بغيره. وهذا يشبه انكسار الذات".

"لا أعتقد ذلك. أنت غريب على السياق".

"من فضلك يا جيني. كلامك يشبه زيارة العيادة النفسية".

"اعذرني. لم أتعمد ذلك. أنا أنتقل من شمعة في السرير لأكلمك عن الانطباعات، وأنني لم أكن محظوظة. .. انس ما قلت، يمكننا تبديل موضوعنا".

"نعم. ربما هذا أفضل".

سألت جيني: "هل تعبت؟".

رد روغيليو بهدوء: "قليلا، ولكن بما أنني هنا، لا أود أن يفوتني أي لافتة تدلنا على الطريق إلى باريس".

قالت جيني: "كما تعلم، هناك فيلم فرنسي  يحاول تجنب حماقات الغزل بين رجل وامرأة بالتركيز كليا على إشارات المرور:  باريس 70، 50، 10 كم". ولم تنتظر تعليقه وعادت إلى وضعها السابق.

استشارتهم سابينا بما يخص الموسيقا، فقد كانت أسترايد تغط بنوم عميق ولا يمكنها الاستماع لشيء. نهضت جيني ووضعت شفتيها في أذن سابينا. وقررت الاثنتان عزف شريط غواراشا. في البداية قطبتا ملامحهما دلالة على أن اتفاقهما كان عبثيا ومتسرعا، ثم  انفصلتا. وجاء من جهاز التسجيل أول كلمات الأغنية: 

En la luna se pue etá un me quizá, do me también, pero sin comé no se pue etá.

(ربما يمكنك أن تراني على القمر. وأنا أراك أيضا. ولكن لا يمكن ذلك بدون واحد مثلك).

كان روغيليو يعرف الكلمات. وبالإضافة للابتسامة، لم يمكنه التوقف عن الحركة. وكأن جيني سمعت أفكاره، فأخرجته من ذكرياته. قالت له: "كيف تتخيل باريس؟". وقدمت له قطعة شوكولا. شكرها.  واستغرق وقتا ليضعها في فمه، وليرد عليها.  هي وحدها من زار باريس من بين الثلاثة حين كانت طفلة.

قال روغيليو: "حاولي أن تفكري بالموضوع. قصفونا بالعديد من صور المدينة ومن عدة زوايا، ولم يتركوا إلا القليل للتخيل".

مرت لحظة صمت.

ثم تابع روغيليو: "لا تقلقي. إذا أدركنا هذه الحقيقة، ربما، يبقى لدينا احتمالات لا تحصى للتخيل".

"أنا لا أفهمك. إلى أي نوع من الاحتمالات أنت تشير؟".

قضم روغيليو الشوكولا ورد قائلا: "شيء يشبه ذلك".

"عن خيالك أم باريس".

أوشك روغيليو أن يجيب "بكليهما"، ولكن في آخر لحظة، بدل رأيه وقال "عن لامارك 18".

"وماذا يعني؟".

"محطة الممثلين في الفيلم الذي كنت تتكلمين عنه قبل لحظات".

قالت جيني: "أنت تغش  أنت تعرف الفيلم".

قاطعتها سابينا، واقترحت استراحة قصيرة، وأن تتكفل جيني بالمقود. ولم يكن لدى روغيليو أي رغبة ليشرح أنه غير مسؤول عن هذا الفخ، ولكن القصة، في كل الحالات، هي التي جهزته.

انطلق صوت روغيليو الداخلي: 

كان محظوظا تماما لأنه لاقى هاته البنات. وهن دافئات للغاية. أثناء استغراق الإنسان بتدبير سيارة يمر بكل أنواع الإحباطات وأشكال الشخصيات التي لا علاقة لك بها. ولكن عموما وبلغة غير دبلوماسية، يضعون فيك الجلد الذي يحملونه في تلك اللحظة. عموما يمكن للعكس أن يحصل. وهناك حالات تستحق عمليا المتابعة، ولكن غيرها... ماذا يمكنك أن تصنع سوى أن ترتجلها؟.

على مشارف برلين تخلصت من رباط بوطي لأتمكن من تعليق حرف K  حول رقبتي. وهو حرف مطلي بلون أصفر مثبت على لوح من الورق المقوى. وهي حزمة من صديق اعتاد، دائما بسبب الضرورة والهواية، أن يعتمد على السيارات المارة. وحسب كلامه هذا يعني أن يحملوني إلى  مدينة كاسيل أو  كارلسروه. ونصحني أن أطلي على الطرف الثاني من العلبة حرفا آخر. وطبعا يجب أن تكون إشارة تدل على الأمنيات الطيبة. اخترت حرف "هــ"، وهو أول صوت من اسم مسقط رأسي، وعموما أمامنا مدينتان تبدآن بهذا الحرف:  هانوفر وهايدلبيرغ. وفي لحظة ظهور البنات كنت على وشك إشهار حرف هــ، أو بالأحرى، التبديل ما بين الحرفين. وكان اتجاه البنات إلى باريس، ومع أنني أردت أن أجرب حظي، وأعمل في مقهى باريسي بصفة منظف أطباق، بالنسبة لي، وفي الواقع  لم أكن أجد فرقا بين كافة الاحتمالات. وكمت قد عزمت أن أستعين بأول قمر صناعي يحط على الأرض، ويعلن أن وجهته هافانا. حسنا. كل الدروب تقود إلى هافانا في النهاية. أليس كذلك؟.

استيقظت أسترايد وأعلنت أنها بحاجة لقليل من الروم، وأنه علينا إحضار زجاجة من جيب السيارة إن أمكننا، وأنها تشعر بالتجمد. وقدمت لها سابينا هذا المعروف. وحينما أنهت أسترايد شرابها، الذي كانت تتشوق له، ودون تردد، قلدها الجميع. في الواقع حينما فتحت جيني وسابينا بابيهما، تدفق الهواء البارد. نظرت جيني إلى ساعتها ولاحظت أنهم كانوا على الطريق لتسع عشرة ساعة. قالت سابينا إنها حاولت أن تنام، وأنها لا تفضل الموسيقا، لأن التبدل الحاد بالأصوات على الأرجح يوقظها. شرب روغيليو كوب روم آخر وارتاح على حضن أسترايد التي انطوت على نفسها وغطت نصفها بملاءة السرير. وبحركة صغيرة، قدمت له جزءا منها، وكان ممتنا لذلك. لم يكن  روغيليو يريد أن ينام، ولكن كان من المستحيل أن يتحاشى الإرهاق من هدير المحرك المستمر.

توقفت صديقاتي (حسنا، في هذه اللحظة، لم يكن صديقاتي) فجأة كما يحدث في الأفلام، على بعد أمتار من الشخص الذي يحمل حرف ك. انفتح باب السيارة الخلفي، ومن بقية النوافذ، أخرجن أذرعهن وأشرن إلى  اللافتة.  "ادخل ماذا تنتظر". ثم محاذرا الرياح، ببساطة بدأت أركض. كان المرور بحرف ك في واحدة من المدن شيئا غير متوقع، وشكرا لحرف ك، أو ربما رؤيتهن له فقط - كان مضحكا جدا لهن رؤيتي مع هذه اللافتة المدلاة من رقبتي - لم لا يقبلنها؟. صحبة رجل يحمل حرف ك على الطريق ليس أمرا سيئا. بعكس سابينا، قادت سابينا بمزيد من البطء. عموما لم تغادر المعبر السريع على الطريق السريع. فكر روغيليو بها وهم يقتربون من أحد أطراف فرانكفورت، ولا أحد، حسنا ربما جيني، لاحظ المدينة. قلق بنفس طريقة الأطفال وقال: "أوف. ماذا في ذلك؟". وضع أصبعه على جبينه، بشكل 8 تقريبا، وأضاف: "هذه حماقة". حصل ذلك بالأمس حينما خيم الليل. فكر: "غريب". هل ما حصل الأمس ممكن، أو اليوم، على الطريق السريع؟. ربما غدا؟. كيف يمكن لنيويورك أن تظهر في ألمانيا؟. قالت جيني "مثل نموذج مصغر". كأنها تدين ما حصل. ربما مثل هذه الصورة التي أخذتها لجندي، تحت المطر الغزير، وهو يقبل جنديا آخر عند تقاطع الشارع 41 و42  في هافانا. وأوقفا حركة المرور. من النادر أن ترى شيئا استفزازيا وعزيزا، افترضت جيني أنهم وصلوا في الفجر إلى باريس، وشعرت أنها تقترب من حالة شعرية وزادت السرعة.  ربما لأنها لا تريد إيقاظ سابينا لتستلم المقود.  بالمقارنة توجب علي متابعة الحركة، مصرا على جيني أنه بتلك الدراجة  وكاميرتها الرقمية، يمكن أن تختبر إحساسا آخر بالمدينة، مدينة مهاجرة مثل هافانا. والآن أراها بوضوح، ألا تفهمون أنني كوبي من كوبا ولست من فلوريدا. على الأقل ليس ضروريا متابعة جر حرف ك معك. هن يتكلمن إسبانية ممتازة. اضف لذلك كنت اعلم انني قريب، ولكن لم أقترب من البيت الذي عشن فيه. مشيت ثلاث مرات حول هذه الحارة دون نتيجة. أردت استئجار غرفة في بيت، حتى لو ليوم. ولكن يجب أن لا أبدو كوبيا، ولا حتى لكوبي من فلوريدا، إذا أردت استئجار شقة. سيكون مثيرا للشبهات ولن يسمحوا لي بالاستئجار. من الأفضل إخفاء الدراجة في مكان ما وتقديم نفسي على أنني ألماني:  Guten Tag! Ich bin Otto aus Berlin

مرحبا. أنا أوتو من برلين.

ثم أظهرت صورة محطة الوقود. أولا لم يتعرفوا عليهن، ولا سيما وأنا بالتنكر المفرط بشكل عارضة. ولكنني بدلت اللغة، مزيج من الإنكليزية والإسبانية، شيء يشبه الأنغلو إسبانية:  "صديقاتي Ellas ser  جيني وسابينا وأسترايد. صديقاتي Ellas estar  ليوم واحد في بيتك. صديقاتي أخبرنني hablar يمكنني que yo poder  استئجار غرفة هنا  aquí porque   لأن المكان مناسب وممتاز y es lindo".

طبعا كل شيء واضح كالماء. وآمل أن ينجح. المشكلة أن ترى البيت لمرة واحدة. العنوان الذي حصلت عليه منهن بقي في الفولكسفاغن، ولكنهن أخبرنني أنه من السهل إيجاده. بيت في الزاوية. لون العظام. وعلى كل طرف من الباب الأمامي يوجد مدخلان مغطيان بحديقة كثيفة كالجنة. يمكن أن يكون البيت على طرف النهر هذا أو ذاك. في كل هافانا كولي هي أفضل حي. التصميم غير المناسب لشوارعها، ومهابة أبنيتها وعشبها الكثيف، يجعل منها مكانا ساحرا، تقريبا هادئا وصامتا كالسحر الذي لا مثيل له.

أضف لذلك أنهن كن قادمات من شيء ما لن تعترفن به أمامي. كلمنني فقط عن استبدال لوحة رخصة السيارة، وأن على إحداهن مغادرة البلد.  كل شيء أنيق ومرتب. وأنهين الكلام بجوقة واحدة: "مارأيك بي يا صديقي". قلت لهن:  "مكسورات". بقي علي عدة دقائق لدخول المدينة، حينما ابتلعت السيارة سحابة مفاجئة واجهتهم. لم تتمكن جيني من التحكم بالفرامل. ولا أنا، ثم أمطرت، هذه الدراجات الصينية تفقد مكابحها بسهولة، والأسوأ في حالة هبوط منحدر،  مثل هذه السفوح المنحدرة نحو جبل من السيارات المتوقفة عند إشارة حمراء. لا أعتقد أنني سأنجح بالوصول إلى جسر ألمينداريس في وقت تبديل الضوء. يا لها من صدفة - قبل أو ربما في وقت تحرك السيارات بمسار ملتو على طول لسان الإسفلت، ونهايته سيارة جيب. انعطفت الفولكسفاغن وضربتها مجددا سيارة أخرى، وأخرى، حتى ارتطمت بالأسوار التي كتب عليها "أهلا بكم في مدينة النور".

***

.........................

* الترجمة من الإسبانية  جاكلين لوس

* إرنستو رينيه رودريغز Ernesto René Rodriguez- كاتب كوبي. شاعر وقاص. ومحرر بمجلة سرية معارضة للنظام. له أفلام فيديو خاصة.

للشاعر الكردي لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

سئلت:

عم تبحث؟

قلت:

أبحث عن بحر

ضل طريقه في فؤادي

- لا نفهمك

ما الذي تقوله؟

+ ماذا

إني لم أقل شيئا بعد.

أقول:

إني أبكم

لو قدرت على الكلام

لصرخت بملء فمي:

هذه مدينة نائمة

هذه مدينة

ميتة.. !

***

.....................

- لطيف هلمت: شاعر وأديب كردي معروف غزير الإنتاج. يكتب بالكردية والعربية. ولد في عام 1947 في قضاء كفري – العراق. له اسهامات في حقول القصة القصيرة والكتابة النقدية والفلكلور والترجمة الشعرية وادب الأطفال. من اعماله: شعر تلك الفتاة خيمة مشتاي ومصيفي، الله ومدينتنا الصغيرة، التأهب لولادة جديدة، العاصفة البيضاء، الكلمات الحلوة ورد ورد، نشيد الفقراء، اجمل قرية، تلك الرسائل التي لا تقرأها امي، فلسطين وطن غسان كنفاني، الرسالة التي تنتهي ولا تنتهي، عش آخر، الطفل والمطر، الطفل والعصفور، قلوب من الزجاج (بالعربية)، المدن الحدية (بالعربية).

* أجيز نشر هذه الترجمة وغيرها من قبل الشاعر خطيا في 18 / 7 / 1983.

بقلم: بابلو راموس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تقول، وظهرها لي، ورأسها في حوض المطبخ، بينما تنتهي من شطف شعرها:

- هذه هي الحال.دون أن تدرك، مرت الأيام.

تلف منشفة حول رأسها كعمامة، تستدير، تأخذ كوب المتة من على الطاولة وترتشف عبر الماصة حتى يصدر الصوت الذي ينبهها بأنها بحاجة إلى إعادة تعبئته. تفعل ذلك وتعطيني إياه. أحاول تجنب لمس يدها، لتجنب كسر السحر الذي لولاه ربما لم أتمكن من الوصول إلى منزلها.

تقول:

- يا للحرج، أمسكت بي وأنا أغسل شعري، أحياناً أرى تلك الفتاة من سانتياج و ديل إستيرو. هل تتذكرها؟ كانت تواعد التوركو. أتساءل ماذا حدث للتوركو. "

تجلس. أفترض أنه بينما تتحدث عن أمور غير مهمة، تبحث عن ذلك الطفل الذي كنت عليه قبل خمس عشرة سنة. بالتأكيد تعتقد أن شيئاً ما يجب أن يبقى: علامة، بعض بقايا الضوء الخفي من مكان ما. أو ربما تحاول تجميع نفسها، لاستيعاب صدمة زيارتي. أجلس وأنا ما زلت لا أعرف كيف وصلت إلى هنا. كيف أنه في هذا المساء ركبت القطار، وقطعت الشوارع من المحطة إلى منزلها ومعي علبة من الفطائر، طرقت الباب –بعد كل هذه السنوات– وقلت لها أنني جئت لأشرب بعض المتة.

كانت ترتدي فستاناً واسعا مزيناً بالزهور. كان خط العنق مبللاً والمقدمة مغلقة تماماً بالأزرار. كانت متوترة. جالسة على الجانب الآخر من الطاولة، لم تتوقف عن الكلام لحظة، والآن تميل إلى الأمام وتبحث عن فطيرة في العلبة المفتوحة. أستطيع أن أرى شكل ثدييها لأن الضوء القادم من النافذة يجعل فستانها شفافاً. أفكر: كان يمكن أن تكون أمي وأتذكر أنه في وقت ما تمنيت لو كانت أمي، بل وأخبرتها بذلك.

- الأم تيريزا .

أقول. لكنها لا تسمع، أو تتظاهر بعدم السمع.

تقول:

- انظر ما زلت مجنونًا، أليس كذلك؟

ثم تسألني ما الذي دفعني للمجيء، وأين كنت. تريد أن تعرف ماذا حدث لحياة الفتى الذي كان يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا ويعتقد أن العاهرة كانت نوعًا من آلهة الأولمب.

تقول:

- الوقت يطير، كنت تريد أن تكون موسيقياً أو طبيباً. لا تبدو كأي منهما. كنت تريد أن تكون مغنيًا أيضًا. كم كنت تجعلني أضحك، هل تذكر؟ كانت لديك ردود مضحكة.

أقول:

-  تزوجت. ثم انفصلت، دي ابن اسمه أليخاندرو .

الآن تعطيني إبريق الماء الساخن لأعبئه. أسكب بعض المتة على جانب ورقة الفطائر وأضبط الماصة. في صمت، أراقبها وهي تفرك رأسها بالمنشفة. تهز شعرها الأشقر من جانب إلى آخر، ثم تمشطه بيدها، وأصابعها متفرقة لتشكل مشطاً. تقوم تيريزا بهذه الأشياء بحماس شديد، كما لو أن الحركات المفاجئة ستساعدها على التفكير بشكل أفضل، وتساعدها على استيعاب السؤال الذي يشمل كل الأسئلة الأخرى التي لا بد أنها تدور في رأسها. تتوقف. تتنهد بشيء من التعب وتقف . تقول:

- لا بد أنك بحاجة إلى امرأة.

أفكر في المغادرة. لست متأكدًا لماذا أتيت، لا أعرف لماذا جئت، ولكن بالتأكيد ليس لإهانة نفسي أو إهانتها هي. فجأة أشعر بالخوف، أشعر بالحزن.أقول:

- سأذهب إلى الجنوب؛ من أجل عمل حقيقي، كما تعلمين.

تقطع تيريزا قطعة الورق التي شكلت فيها قطعة صغيرة من العشب الرطب هالة خضراء، وتلف العشب، وتذهب به إلى سلة القمامة التي بجانب الحوض وترميه. لا أعرف إن كانت تصدقني. ربما أعرف أنها لا تصدقني.

- مرحبًا، حدثني عن طفلك. قلت أن اسمه أليخاندرو؟ قل لي: هل يشبهك؟

أقول:

- إنه يشبه والدته.

صمتت ولا بد أن يكون لصمتها علاقة بنبرة صوتي الهادئة، بالكلمات العادية التي نطقتها للتو. ربما لاحظت بالفعل أنني أحتقر نفسي، طريقتي البائسة في التفكير، وفي التعامل مع العالم؛ لأنني أفتقد إلى الثقة، دائماً أشك في الآخرين وأعتقد أنهم يخفون نوايا سرية لا يجرؤون على الكشف عنها.

تقول تيريزا:

- كنت جميلًا، كما تعلم،أعني الطريقة التي كنت عليها، الشخص الذي كنت عليه، الأشياء التي قلتها.

تقترب مني من الخلف، تضع ذراعيها حول رقبتي وتداعب صدري. تتكئ على ظهري، تضغط جسدها على جسدي. أبقى جالساً. أشعر بها تبتعد وأستدير في الكرسي. إنها تفتح فستانها. ليس بسرعة، ولكن أيضًا ليس ببطء شديد لدرجة تترك مجالاً للشك. إنها على وشك فك الزر الأخير وأخشى أن هذا الفعل وحده سيحزن العالم إلى الأبد. لا أقول شيئاً ويجب أن تسيء تفسير صمتي. تتحرك يديها إلى خصرها، وبانفتاح فستانها، تتيح لي رؤية ثدييها العاريين، وسروالها الداخلي الأسود الضيق، وساقيها الجميلتين. ها هي تيريزا، ها هي الآن، واقفة بجانبي، تعرض نفسها، مجرد شبح في الظلام.

أقول:

- تيريزا !

لا أرغب في التحديق في جسدها، وأنظر إلى عينيها حيث تشرق الشمس، من خلف الجدار في الساحة الخالية على الجانب الآخر، تصبغ المطبخ بلون برتقالي مصطنع، وتضيء شعرها المبلل الذي تفوح منه رائحة شامبو برائحة التفاح، ووجهها البولندي، اليهودي، وابتسامتها الوحشية تحت ملامح أنفها الدقيقة. أبقى ثابتًا، وذراعاي متدليتان بجانبي. أخيراً تبتعد بنظرها.

تستدير وهي تغلق فستانها:

–هل تتذكر الأسطوانة التي أهديتني إياها؟ هل تتذكر أم لا؟

تقول وهي توليني ظهرها:

- مازالت أحتفظ بها، في ظرف. كان ذلك عندما بدأت بتعلم الإنجليزية. كنت مستمرًا في ترجمة الأغاني. أحيانًا أرغب في أن أتذكر. إنه كالشوكة، هذا الشعور بعدم القدرة على التذكر.

تدخل إلى الغرفة وأعلم أنها تجمع قواها لكي تستطيع النظر في وجهي عندما تعود. لا أستطيع أن أنكر براعتها في ذلك. الآن تخرج، ومعها ظرف بداخله الأسطوانة، ونظرتها ثابتة في الهواء. تقول:

– كانت تتحدث عن شخص يبكي على شيء تافه .

تضيف مؤكدة:

- أتذكر ذلك: شخص يبكي على شيء تافه جدًا

أقول:

– لأن السماء زرقاء تجعلني أبكي.

- نعم، بالضبط. يا لها من راحة أن أتذكر أخيراً، أليس كذلك؟ لأن السماء زرقاء، تجعلني أبكي، يا له من شخص غريب. يا لها من حماقة كبيرة.

(تمت)

***

.....................

الكاتب: بابلو راموس/ PABLO RAMOS: كاتب، وشاعر، وموسيقي من أفيلانيدا، مقاطعة بوينس آيرس. حصلت مجموعته القصصية "عندما يمر الأسوأ" على جائزة الصندوق الوطني للفنون لعام 2003 (الأرجنتين) وجائزة كازا دي لاس أمريكاس لعام 2004 (كوبا). كما نشر مجموعة من القصائد (ما مضى قد مضى) والعديد من الروايات.

بقلم: أرنولف أوفيرلاند

ترجمة: سهيل الزهاوي

***

ما هٰذا اللَهَبُ المُتَوَهِّجُ؟

فِي هٰذا اليَوْمِ البارِدِ.

كَأَنَّهُ شُعْلَةٌ حَرارِيَّةٌ انبثقت مِنْ الدَمِ

إِنَّهُ رايَتُنا، رايَةُ نَصْرِنا،

تُرَفْرِفُ فَوْقَ البِلادِ!

رايَتِي،

مِنْ أَيْنَ لَكَ هٰذا اللَوْنُ؟

الدَمُ جَعَلَنِي أَحْمَرَ!

اِسْتَقَيْتُ لَوْنِي مِنْ دِماءِ إِخْوَتِكَ،

لٰكِنْ أَجِبْنِي، كَيْفَ كانَ الأَمْرُ فِي ذٰلِكَ الحِينِ؟

رِفاقِي،

فَقَدُوا حَياتَهُمْ

لَمْ يَرِدْ رِفاقِي أَنْ يَكُونَ مُقَيَّداً بِالسَلاسِلِ،

حَقّاً، أَطْلَقَتْ النارَ عَلَيْهِمْ.

هٰذِهِ قِصَّتُنا بِاِخْتِصارٍ:

مُحارَبَةُ العُبُودِيَّةِ.

لٰكِنْ لا يُمْكِنُ لِأَيِّ جِدارٍ سِجْنٌ أَنْ يَخْنُقَ حُرِّيَّتَنا!

اِنْدَلَعَ رَبِيعُنا مِنْ الأَرْضِ الصَخْرِيَّةِ

وَفِي سَقِيفَةٍ مِنْ الرَصاصِ،

ضَرَبَتْ أَسْوارُ المَتارِيسِ التُرابِيَّةِ

وَحَرَّرَتْ مَدِينَةُ لِينِين

رايَتَنا،

غَرِقْتُ فِي الوَحْلِ،

سالَتْ الدِماءُ فِي مَجْرَى المِياهِ،

لٰكِنْ لا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ إِخْمادها، تَوَهُّجَها المَحْمُومَ!

فِي وَسَطِ الدُخانِ وَالنارِ.

كُلَّما سقطت تَنْهَضُ مُجَدَّداً.

عَلَيْكَ أَنْ تَجْمَعَ الناسَ وَالأَرْضَ

إِلَى النَصْرِ فِي كُلِّ مَكانٍ

يا رايَةَ حُرِّيَّتَنا الشابَّةَ،

اِنْطَلَقَ وَاِنْبِرْ وَأَعْلِنَ عَنْ نَفْسِكَ،

فِي غَمْرَةِ العَواصِفِ،

وَدَوَّى صَوْتُ السِلاحِ.

قُدْنا فِي المَعْرَكَةِ مُجَدَّداً

فِي يَوْمِنا هٰذا!

***

.....................

* العَلْمُ الأَحْمَرُ / أرنولف أوفيرلاند، مِنْ مَجْمُوعَةِ: الجَبْهَةُ الحَمْراءُ: قَصائِدُ / أرنولف أوفيرلاند. - أوسلو: تَيْدُنْ، 1937 ترجمة من النرويجية

 

قصة: آر. كي. نارايان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان الناسك يرتجف دائمًا عندما ينظر من نافذته وذلك لأن المنزل فى الوجهة المقابلة من الشارع كانت تحتله امرأة فاحشة. في وقت متأخر من المساء، كان الرجال يأتون ويقرعون بابها - بعد الظهر أيضًا يحدث الشىء نفسه، إذا كان هناك احتفال أو عطلة. في بعض الأحيان، كانوا يتسكعون في حرم منزلها، يدخنون، ويمضغون التبغ، ويبصقون في الحوض - يرتكبون كل آثام العالم. وفقًا للنسك الذي كان يسعى جاهداً الالتزام به حاول الناسك أن يعيش حياة التقشف والتخلي عن الأسرة والممتلكات وكل وسائل الراحة. وجد هذا المسكن المكون من غرفة واحدة مع بضع أشجار جوز الهند وبئر في الفناء الخلفي مناسبا للغاية، وكان الشارع الضيق مليئًا بالأطفال: أحيانًا كان يدعو الأطفال ويجلسهم حوله ويعلمهم دروسًا أخلاقية بسيطة وآيات مقدسة. كان قد علق على الجدران بعض صور الآلهة مقطوعة من الكتب القديمة، وجعل الأطفال يركعون أمامها قبل أن يطلقهم بعيدا وقد فاز كل منهم قطعة من الحلوى.

اتبعت حياته اليومية نمطًا لا يتغير مثل الطائر. ينزوى عند حلول الغسق ويستلقى على الأرض العارية، تحت رأسه قطعة من الخشب كوسادة. يستيقظ في الرابعة من نومه قبل صياح  الديك في ناصية الشارع، ويستحم في البئر، ويجلس على جلد الغزال للتأمل. في وقت لاحق يشعل موقد الفحم ويخبز بعض أرغفة الشباتي للإفطار والغداء ويطهو بعض الأنواع من الخضروات والأعشاب، متجنبا البطاطس والبصل والبامية وما شابه ذلك من الخضروات التي قد تحفز الشهوات الحقيرة.

حتى في أعمق حالة تأمل، لم يسعه سوى سماع صرير الباب عبر الشارع بينما غادر أحد العملاء بعد ليلة من الفجور.قمع بصرامة كل شهوات الفم وعاقب جسده بعشرات الطرق. إذا عن لك أن تسأله عن السبب، فسيكون في حيرة من أمره ولن يعرف كيف يشرح ذلك.

لقد كان نقيضًا للرياضي الذي نفخ عضلاته وشاهد صدره المتسع أمام المرآة.على العكس من ذلك،احتفظ ناسكنا بالسيطرة الدقيقة على نحافته وشعر بالرضا عن نفسه لمثل هذا الإنجاز. لقد كان يتبع تعليمات معلمه السابق دون أدنى شك ويأمل في تحقيق التحرر الروحي الكامل.

بعد ظهر أحد الأيام، عندما فتح النافذة لمسح الغبار من على حافة النافذة، لاحظها واقفة على عتبة بابها، تراقب الشارع. اندفع الدم إلى صدغيه، تأمل ملامح وجهها، ملامح محفورة لكنها غارقة في ثنايا من الدهون. ومع ذلك، كانت تمتلك، جسدا مغريا؛ كان ساعدها يشبهان الوسادة وربما يجذب هذا أولئك الذين يطوقون الذراعين من الرجال. وبمجرد أن يبدأ في التحليق حول جسدها، لن تعود نظرته إلى المرساة - والتي يجب أن تكون عادةً طرف أنف المرء، كما أوصاه معلمه وتعاليم اليوجا.

كانت وركاها ضخمتين، وكان فخذاها ممتلئين مثل سيقان الموز، كانت كلها مخلوقا شبيها بالفراش يمكن للزبون أن يسترخى عليه طوال الليل دون الحاجة إلى أية قطعة من الغطاء - "وحش فظيع! تجسيد للشر ". شعر بالغضب فجأة. لماذا بحق السماء يقف مثل هذا المخلوق هناك ويدمر ورقة اللحاء الأخيرة: كانت كل المزايا التي اكتسبها بشق الأنفس تتسرب مثل الماء فى الغربال. من الصعب القول ما إذا كانت الذراعان والثديان أو الوركان هي التي أغرت الرجال وأفسدتهم... قال بصوت خافت:" ادخلى  أيتها الشيطانة،لا تقفى هناك!" استدارت فجأة ودخلت وأغلقت الباب خلفها. شعر بالانتصار، رغم أن أمره وطاعتها كانا من قبيل الصدفة. أغلق النافذة بإحكام وتراجع إلى أبعد ركن من الغرفة، وجلس على جلد الغزال، وظل يردد: "أوم، أوما، راما، جاياراما": كان لصوت "رام" قوة خاصة به – ويقال إنه يحد من الأفكار الشاردة والانحرافات. كان لديه معرفة عميقة بالتعاويذ ومدى تأثيرها. كرر " سري راما..."،  لكنها كانت بمثابة دواء مخفف وضعيف للحمى الشديدة. إنها لا تؤثر. وكرر "سري راما، جاياراما...." بحماسة يائسة، لكن التأثير لم يدم حتى لثانية واحدة. شردت أفكاره دون أن يلحظ، وسأل نفسه: من هو ذلك الرجل الذي كان يرتدي قميصًا منقوشًا و يضع قطعة قماش حريرية على كتفه، الذي نزل على الدرج الليلة الماضية عندما ذهبت إلى السوق؟ رأيته في مكان ما... أين؟ متى؟... آه، لقد كان الخياط العظيم في شارع السوق... مع الرجال والنساء العصريات يتجمعون حوله! ترزى محترف كان عضوًا في ناديين أو ثلاثة أندية... وكان يختلط بالمسؤولين ورجال الأعمال، - وهكذا قضى أمسيته، مسترخياً على الفراش البشري! ومع ذلك، سمح له الأشخاص العصريون بلمسهم بشريط قياسه! التلوث، لا شيء سوى التلوث ؛ الحياة الشريرة.  صرخ في الغرفة المنعزلة، "راما! راما! " كأنما يصرخ فى شخص ضعيف السمع. في الوقت الحاضر أدرك أنه كان تمرينًا عديم الجدوى. بالطبع كان راما أفاتارًا مثاليًا،  لكنه كان وديعًا ولطيفًا حتى إذا ما تم استفزازه إلى أبعد الحدود،عند ذلك كان يقتحم ويقضي على فاعل الشر دون أن يترك أثراً، حتى لو كان وحشًا مثل رافانا. على الرغم من ذلك، كان في العادة متسامحًا، لذا فإن تكرار اسمه لم يجلب سوى السلام والهدوء، لكن المناسبة الحالية تتطلب إجراءات صارمة. يجب أن تساعد تعويذة الإله سيفا. ألم يفتح عينه الثالثة ويحوّل إله المحبة إلى رماد،عندما وجه الأخير سهمه نحوه بمكر بينما كان يتأمل؟ تخيل ناسكنا الإله ذا الشعر المتلبد والعينين الناريتين، وتلى بصوت عالٍ: " أوم ناماسيفايا"، وكانت تلك القاعة المنعزلة تدوي بصوته الأجش.. توقفت أفكاره الثرثارة القذرة لبعض الوقت، لكنها الآن عادت إلى الحياة مرة أخرى وركضت خلف المرأة. لقد فتحت بابها على الأقل ست مرات في المساء.هل نامت معهم جميعًا في نفس الوقت؟ توقف  ليضحك على هذه الفكرة، توقف ليضحك على هذه الفكرة، وأدرك أيضًا أن تأمله في الإله الصارم قد انتهى. قام بضرب صدغيه بقبضته، مما أدى إلى تألمه ولكن  هذا زاد من تركيزه. "أوم ناماسيفايا.. " لاحظ جزء من عقله صرير باب المنزل المقابل. لقد كانت ثعبانًا التف حول الجميع لتدميرهم - كبارًا وصغارًا ومتوسطي العمر، وخياطين وطلابا (كان قد لاحظ قبل أيام قليلة طالبًا جامعيًا شابًا من نزل ألبرت ميشن يقف على بابها) وأيضا محامين وقضاة (لم لا؟)... لا عجب أن العالم أصبح مكتظًا بالسكان- مع مثل هذا الضغط من الاحتياجات الأساسية لكل فرد! يا إلهى " شيفا"،يجب القضاء على هذه المرأة. سيواجهها يومًا ما ويطلب منها المغادرة. يقول لها:" أيتها البائسة الخاطئة، التي تنشر المرض والقذارة مثل المجاري المفتوحة: فكرى في التلوث الذي انتشر حولك- من خياط في منتصف العمر إلى طالب بكالوريوس فى العلوم - أنت هنا لتدمير الإنسانية. توبى عن خطاياك، احلقى رأسك، غطِى خصرك العريض بقطعة قماش من الخيش، واجلسى عند بوابة المعبد وتوسلى أو تغطى بالسارى بعد الصلاة من أجل حياة أنظف على الأقل أثناء الولادة التالية... " وهكذا كان حواره مع نفسه، يفكر فى المرأة التى لم تفارق عقله طوال ليله البائس الفقير؛ وهو مستلق على الأرض العارية.

استيقظ قبل الفجر، اتخذ قراره. سيغادر على الفور، ويعبر بستان نالابا ويصل إلى الجانب الآخر من النهر. لم يكن بحاجة إلى سقف دائم. كان يكفيه أن يطوف ويستريح في أي معبد أو هيكل أو في ظل شجرة بانيان: يتذكر قصة قديمة كان قد سمعها من معلمه منذ فترة طويلة... تم إرسال عاهرة إلى الجنة عندما ماتت، بينما منتقدها، هو نفسه- المصلح الصالح وجد نفسه في الجحيم. وأوضح أنه بينما أخطأت العاهرة بجسدها فقط، كان منتقدها فاسدًا عقليًا، حيث كان مهووسًا بالعاهرة وأفعالها ولا يمكنه التأمل في أي شيء آخر.

قام ناسكنا بتعبئة صندوقه المصنوع من الخوص بممتلكاته القليلة- صورة نحاسية للإله، ومسبحة، وجلد غزال، ووعاء صغير من النحاس الأصفر. أمسك صندوقه في يده وخرج من المنزل وأغلق الباب خلفه برفق. في تلك الساعة وسط عتمة الشفق، تحركت شخصيات غامضة – بائع حليب يقود بقرته، وعمال يحملون العتلات والعصي، ونساء يحملن السلال وهن في طريقهن إلى السوق. بينما توقف لإلقاء نظرة أخيرة على المأوى الذي كان يغادره، سمع صرخة حزينة "سواميجي" من المنزل المقابل، ورأى المرأة تقترب منه ومعها صينية محملة بالفواكه والزهور. وضعتها عند قدميه وقالت بصوت منخفض وجل:

- أرجو أن تقبل نذري. هذا يوم ذكرى وفاة والدتي. في هذا اليوم أصلي وأطلب بركة القديسين.اغفر لي...

هجرته في هذه اللحظة كل السطور والكلمات التي كان يتدرب عليها من أجل المواجهة؛ نظر إلى شكلها المترهل، والهالات السوداء تحت عينيها، وشعر بالشفقة عليها. وبينما كانت تنحني للسجود، لاحظ أن شعرها كان مصبوغًا بشكل عشوائي وأن الفرق الموجود في المنتصف اتسع إلى رقعة صلعاء تتدلى من فوقها ضفيرة ذابلة من زهور الياسمين.لمس الصينية بطرف إصبعه كرمز للقبول، ونزل في الشارع دون أن ينبس ببنت شفة.

(تمت)

***

.....................

المؤلف: آر. كي. نارايان / R. K. Narayan ( 1906- 2001م )هو راسبورام كيشنازوامى آيار نارايانسوام  أو آر. كى. نارايان. أشهر الروائيين الهنود الذين يكتبون باللغة الإنجليزية. ولد هذا الراوئي الكبير في 10 أكتوبر 1906 في مدراس أو تشيناي الحالية. كتب معظم قصصه في بلدة مالجويدى الخيالية بجنوب الهند. توفى عام 2001م.ولعل يتبادر الى الذهن السؤال التالى: هل قرأ يوسف إدريس هذه القصة فى نصها الأصلى قبل أن يكتب قصته المشهورة: أكان لا بد «يا لي لي» أن تضيئي النور؟ المنشورة ضمن مجموعته الشهيرة أيضا بيت من لحم. والإجابة القاطعة لا لأن يوسف إدريس نشر قصته   عام 1971 م على حين نشر كاتبنا الهندى قصته عام 1985 م. ولا يمنع هذا من دراسة القصتين دراسة نقدية مقارنة.

القصة منشورة على موقع:

https://xpressenglish.com/

وهذا رابط النشر:

https://xpressenglish.com/our-stories/house-opposite

 

قصة:  شيلا هيتي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لدي حورية البحر في برطمان اشتراها لي كويلتي في مرآب للبيع بخمسة وعشرين سنتًا. تردد حورية البحر هذه طوال اليوم: " أنا أكرهك، أنا أكرهك، أنا أكرهك"، لكنها في برطمان، وطالما لم أفتح الغطاء فلن تخرج لتقتلني.

أضع البرطمان الصغير على حافة النافذة، خلف السرير مباشرةً، بجوار رأسي مباشرةً، وبهذه الطريقة عندما أنظر للأعلى في منتصف الليل وأنظر إلى الوراء قليلاً، يمكنني أن أراها تسبح في بركة صغيرة مظلمة من فضلاتها وقيئها ويمكنني أن أبتسم.

"مرحبا حورية البحر! كيف حالك هذا المساء الجميل؟ " أستطيع أن أقول، وأحيانًا أفعل. " "أوه، كم هو محزن أنك جميلة جدًا، وصغيرة جدًا، ومحبوسة هناك لدرجة أنك لن تتمكني أبدًا من الخروج من هذه الزجاجة، ها ها ها! "

ذات مرة ذهبت في رحلة مع الفصل وأخذت حورية البحر معي من أجل المتعة. سافرنا إلى شلالات نياجرا وقلت لنفسي: "حسنا، جميل، ربما سأحملها فوق السور لإخافتها قليلاً، حتى تعرف مكانها"، وفكرت أيضًا في السماح لها بالسقوط في الماء وأن تطير بعيدا عن حياتي. لكن عندما وصلنا إلى هناك نسيتها في حقيبة غدائي البنية، مع شطيرة الجبن الساخنة، تحت مقعدي في حافلة المدرسة الصفراء. لكن الرحلة إلى هناك هزتها بشكل جيد، وكذلك رحلة العودة أيضًا، وكان ذلك كافيًا بالنسبة لي.

قمت ذات مرة بإقامة حفلة ودعوت جميع صديقاتي، سبع فتيات، للعب والنوم في منزلي، وبعد أن اتصلنا بكل الأرقام التي يمكن أن نفكر فيها، وبعد أن طلبنا البيتزا مرتين وحضرنا جلسات تحضير الأرواح حتى أصبحنا مجانين تمامًا، قلت لنفسي: " أوه، لماذا لا أحضر حورية البحر للتباهى؟ يمكنهن النظر إليها، ويمكنهن الاستمتاع بها، وسنكون قادرات على رميها ذهابًا وإيابًا مثل كرة قدم صغيرة حقيقية " ولكن بعد ذلك، سقطت إيما في النوم، ثم ويندي وكارلا والآخريات، بقيت حورية البحر مغلق عليها في الخزانة حيث وضعتها بعد ظهر ذلك اليوم .

ذات مرة،عندما اعتقدت أنها بحاجة إلى القليل من الانضباط، دحرجت زجاجتها البائسة أسفل كيلر هيل في الوادي. وفي مرة أخرى رميتها بعمق في حمام سباحة أعز صديقاتي.

يبدو الآن أنها تقدمت في السن. حتى أنني رأيت شعرًا رماديًا يوم الجمعة، وقد انتشرت التجاعيد في جميع أنحاء بشرتها، وبقدر ما أحببتها من قبل، فأنا أحبها أقل الآن. كنت أفكر في ما يجب أن أفعله بها، لكنني أعتقد أنني سأبقيها هناك لفترة من الوقت. على الأقل حتى أشعر بالسعادة مرة أخرى.

(النهاية)

***

.....................

المؤلفة: شيلا هيتي /Sheila Heti كاتبة كندية. ولدت شيلا هيتي في 25 ديسمبر 1976 في تورنتو، أونتاريو، كندا. والداها من المهاجرين اليهود المجريين. وشقيقها هو الممثل الكوميدي ديفيد هيتي. أراد والدها تسميتها على اسم وودي آلن لكن والدتها عارضته  بشدة. التحقت شيلا هيتي بمدرسة سانت كليمنت في تورنتو. ثم درست الكتابة المسرحية في المدرسة الوطنية الكندية للمسرح (تركت البرنامج بعد عام واحد)، ثم تاريخ الفن والفلسفة في جامعة تورنتو.

قصة:  سوزي احتشام زاده

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

ملأت البنتان أوراقهما، وجددتا جوازي سفرهما، وحجزتا التذاكر، وحزمتا حقائبهما، وسافرتا عبر العالم إلى منزل والديهما في شمال طهران.

لقد كانتا سائحتين في بلادهما. لاحظ الوالدان ذلك في كل محادثة تجريها الفتاتان بالفارسية الفصحى، وفي إيماءاتهما الجديدة التي بدت وكأنها منسوخة من برنامج تلفزيوني أمريكي، وفي كل طلب يقدمانه ليأخذناهما إلى السوق أو التشيلو كابابي كما لو كانت هذه السمات العادية للحياة اليومية لقد أصبحت الحياة في بلادهما غريبة بالنسبة لهما.

لقد تعجبتا من الفاكهة الطازجة من بستان جدهما، معلنتين أنها ليست مثل أي فاكهة تذوقتاها من قبل، على الرغم من أنهما أكلتا الفاكهة من هذه الأشجار نفسها طوال طفولتهما.

ذهبتا في رحلات تسوق وعادتا بأشياء عادية: هدايا تذكارية مصنوعة للأجانب، ومزهريات طينية وأباريق شاي عادية ومفارش مائدة رخيصة مصنوعة في المصانع، يغلفانها بعناية وتخزنانها بمحبة في حقائبهما كما لو كانت كنوزًا ثمينة.

خلال النهار، كانتا تقودان سياراتهما في شوارع طهران، وتنظران من النافذة إلى الحي الذي كانتا تعيشان فيه ذات يوم، وإلى زاوية البقالي حيث اشتريتا ذات يوم الألعاب والحلويات والبطاريات، وإلى جدران المدرسة التي كانتا قد اشتروها ذات يوم. حضرها.

لقد تفاجأتا بالمجاري المفتوحة التي تصطف على جوانب شوارع طهران، وبالأجواء التي كانتا تدوسان عليها بشكل عرضي كل يوم من حياتهما الصغيرة. لقد صُدمتا عندما لاحظتا الآن، كما لو كان لأول مرة، أن الحطام يطفو في الجبس وأن الماء بداخلها كان نتنًا.

لقد أطلقوا اللافتات في الشوارع وفي واجهات المتاجر والشعارات المرسومة على الجدران في محاولة للإثبات، ربما لأنفسهم أكثر من أي شيء آخر، أنهم لم يصبحوا أميين بلغتهم الأم.

بعد ظهر أحد الأيام، أثناء وجودهما في المدينة، تم القبض على البنتين من قبل شرطة الأخلاق "خشت الإرشاد" التي جابت شوارع المدينة بسيارات رينج روفر ذات اللون الزيتوني بحثًا عن مخالفات لقواعد اللباس. الضابط الذي أوقفهما كان امرأة ترتدي الشادور الأسود الثقيل. لقد كانت كاهار، إحدى "الأخوات" اللاتي كن عضوات فخورات في اللواء.

اقترب الكهار من الابنة الصغرى أولاً. أخرجت يدها مرتدية القفاز من تحت الشادور ومدت إصبعها السبابة نحو المثلث الذي يبلغ طوله ثلاث بوصات بين عقدة حجاب الابنة والزر العلوي  لرداءها، ولامست الجلد برفق. قالت: "يا أختي، صدرك ظاهر".

بعد ذلك، حولت الكهار انتباهها نحو الابنة الكبرى. استخدمت أصابعها مرة أخرى، ودفعتها هذه المرة نحو وجهها ووضعتها على أحمر الشفاه الباهت الذي كانت تضعه الابنة الكبرى. وبصوت يرتجف من الغضب قالت لها: أحمر الشفاه هذا هو دم الشهيد.

شددت الأخت الصغرى حجابها، ورفعت الكبرى ظهر يدها إلى فمها ومسحت شفتيها. لقد وعدتا بأن تكونا أكثر احترامًا في المستقبل، وبناء على ذلك أطلقت الكهار صراحهما.

وأخبرتا والدتهما بالحادثة بمجرد عودتهما إلى المنزل، وانفجرتا في الضحك أثناء حديثهما. لقد عاشت الأم مع جماعة جشت الإرشاد لسنوات عديدة ولم يكن لديها سوى الازدراء لمفاهيم المجموعة المتخلفة حول اللياقة الأنثوية. ومع ذلك، فقد أزعجتها رؤية بناتها يسخرن من شيء أصبح حقيقة من حقائق الحياة في بلدهن؛ شيء كان عليها أن تتعامل معه يوميًا. تخيلت بناتها يخبرن أصدقاءهن في كاليفورنيا بالحادثة، وكان رد فعلهن جميعًا عليه متعجرفًا وسخريًا ومبهجًا.

وفي كل ليلة خلال زيارتهما التي استمرت ثلاثة أسابيع، كانت البننان تجلسان مع والديهن في غرفة المعيشة ويشربان العرق، وهو الكحول الذي اشتراه والدهن بشكل غير قانوني من الرجال الأرمن الذين أحضروه إلى الباب الخلفي في وقت متأخر من الليل مخبأة في حاويات غير شفافة. وأمهما، التي لم تشرب العرق في حياتها قط، وكانت تشعر بالقلق من تناول زوجها لهذه المادة الخسيسة، صُدمت عندما رأت ابنتها يشربان العرق. لقد أصيبت بصدمة أكبر عندما أعلنتا أن العرق هو أفضل مشروب شربتاه على الإطلاق، على الرغم من أنه تم تقطيره في أقبية قذرة من زبيب غير مغسول.

كان والدهما في الغالب مستمعًا صامتًا أثناء محادثاتهما، التي كانت غالبًا حول أماكن أو مواضيع لا يعرف عنها شيئًا. وفي بعض الأحيان، عندما كانت ابنتاه  يتذكرتا طفولتهما ، كان يتدخل لتعديل ذكرياتها. وعندما تحول الحديث إلى السياسة أو التاريخ الإيراني، نظرت إليه ابنتاه باهتمام حقيقي وتوقعات على وجوهيها. وقد قدم المعلومات التي طلبتاها. المعلومات التي شعر أنهما تريدان تخزينها في أدمغتهما لاستخدامها لاحقًا. ولكن حتى عندما حثتاه أكثر، لم يتمسك بنفس الطريقة التي كان يفعلها عندما كانتا أصغر سناً.

خلال النهار، كانتا تلتقطان الصور الفوتوغرافية، وتخرجان هواتفهما المحمولة كل بضع دقائق ويلتقطان الصور. تساءل الوالدان  ماذا كانتا تصوران؟ لم يتمكنا من العثور على نمط في موضوع الصور، ولا قافية ولا سبب وراء رغبة ابنتيهما  في تخليد تلك المشاهد المحددة.

قامتا بتصوير حركة المرور. صورتا واجهات المحلات، والمخابز، وأكشاك الفاكهة بأهرامات الكرز والسفرجل والرمان، وأكوام السبزي، ومحلات الجزارة حيث يستقر الذباب على جوانب لحم البقر.

قامتا بتصوير الجداريات على الجدران: "أبطال" الثورة الإسلامية الملتحين يبدون صارمين ومتحديين؛ وجوه الشهداء مطلية بألوان سريالية وأعينهم متجهة إلى السماء؛ التصوير الصارخ للمذبحة التي يُفترض أن سببها "الشيطان الأكبر" المسمى أمريكا وتابعتها الشريرة إسرائيل.

قامتا بتصوير جوانب المباني الملطخة بالضباب الدخاني ولافتات الطرق واللوحات الإعلانية. وقامتا بتصوير العربات التي تصطف على جانبي الشوارع وبائعي السجائر وبائعي البطيخ وبائعي السلع البلاستيكية الرخيصة وهم يبيعون منتجاتهم في الحر الحارق.

التقطت الصور بهواتفهما المحمولة، لكن البنتان قررتا أنهما ترغبان في الحصول على مطبوعات. عندما عادت الصور من المتجر، جلست البنات في غرفة المعيشة مع والديهن وقامتا بتمريرها. ولسبب ما لم يفهمه الوالدان، جعلت الصور ابتيهما  تضحكان. إحدى الصور التي وجدوها مضحكة بشكل خاص تصور نافذة واجهة متجر لبيع الملابس.

عندما جاء دورها لتنظر إلى هذه الصورة، تساءلت الأم في البداية عن الشيء المضحك في هذه الصورة. تفحصته عن كثب ورأيت خلف النافذة قمصانًا معلقة عليها حروف إنجليزية ملتوية وغير نحوية. وعلى الجزء الأمامي من أحد القمصان، كان هناك رسم كاريكاتوري لطفل صغير ذي خدين ورديين يرتدي قبعة وردية كبيرة. أسفل الرسم الكارتوني كانت هناك كلمات AMERICAN GIRL. وكان على قميص آخر عبارة "أنا آلة حب إيرانية" مكتوبة بأحرف بيضاء متصلة داخل قلب أحمر ساطع. وكانت هناك كلمة "جامعة" مزخرفة على الجزء الأمامي من قميص آخر.

وتناقلتا المزيد من الصور، واستمر المرح. ولكن عندما وصلت إحدى الصور إلى يدي الأم، وقفت وغادرت الغرفة. كانت صورة لافتة مكتوبة بخط اليد معلقة على عمود هاتف خشبي. أعلنت اللافتة عن كلية للبيع.

وبعد ثلاثة أسابيع، حزمت البنتان حقائبهما بكنوزهما الجديدة ووضعتا كاميراتهما في حقائبهما وارتدينتا ملابسهما الإسلامية استعدادًا لعودتهما إلى الولايات المتحدة. كان من المقرر أن تغادر الرحلة الساعة 4:00 صباحًا، مما يعني أنه كان عليهما مغادرة المنزل الساعة 1:00 صباحًا. خوفًا من التأخر، لم يحاول الوالدان حتى النوم. لقد كانت عيونهم دامعة أثناء القيادة إلى المطار، لكن ابنتيهما  كانتا في حالة دوار، متعجبتين من حجم حركة المرور في المدينة حتى في هذه الساعة الشريرة، متوقعتين اللحظة التي تصعدان فيها أخيرًا إلى الطائرة وتتمكنتا من تحرير أنفسهما من حجابهما. تتحدثان بحماس عما سيفعلانه بمجرد عودتهما إلى "المنزل".

احتضن الوالدان كل واحدة منهما عند نقطة التفتيش الأمنية وأخبروهما بأصوات مرتجفة أن تكونا آمنتين وأن تتصلا كثيرًا. وبمجرد اختفاء ابنتيهما عن الأنظار، ذرف كلا الوالدين الدموع الهادئة.

جفت دموعهما أثناء عودتها من المطار. تبادلا بضع كلمات فقط مع بعضهما البعض، وأدارا المفتاح في باب الشقة، وخلعا أحذيتهتما وغرسا أقدامها في السجادة، وقاما بتوصيل السماور وأعدا الشاي، ثم جلسا ونظرا من النافذة إلى السماء الرمادية فوقهما. إلى طهران التي كانت الآن مخطّطة بأشعة ضوء الصباح الأولى.

***

......................

القصة من كتاب "زان" * لسوزي احتشام زاده.. حقوق الطبع والنشر © 2024 لسوزي احتشام زاده.

الكاتبة:  سوزي احتشام زاده/ Suzi Ehtesham-Zadeh: كاتبة ومعلمة ومحررة إيرانية أمريكية تعيش في وودستوك، جورجيا. ولدت احتشام زاده في واشنطن العاصمة لأب إيراني وأم أمريكية. انتقلت إلى إيران في سن الخامسة ونشأت في طهران في عهد الشاه. عادت إلى الولايات المتحدة للالتحاق بجامعة ستانفورد، وعندما بدأت الثورة الإسلامية تختمر بعد وقت قصير من تخرجها، عادت إلى إيران وألقت بنفسها فيها. حصلت لاحقًا على درجة الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة بوسطن.

* تعني كلمة زان بالفارسية امرأة.

 

قصة: أنخيل زاباتا

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد كنت منهكًا في تلك الليلة، لكن العلامة الحمراء على كتف كونشا بدت لي وكأنها هيكي، وهذا ما أخبرتها به.

- هل تعني ذلك؟

سألت وهي تشير إلى العلامة دون أن ترفع عينيها عن الكتاب.

- نعم، كونشا.

- قل لي يا ألبرتو، هل أنت غبي أم ماذا؟ من ماذا سأحصل على هيكي؟

- ربما لأنك ضاجعت شخصًا ما يا كونشا. على حد علمي، تأتي هذه العلامات من التعرض للضرب أو العض، أو أشياء من هذا القبيل.

- أنت من يستحق الضرب يا ألبرتو.هيا،اذهب إلى النوم، لماذا لا تفعل ذلك ، أمامك يوم طويل غدا ؟ أليس كذلك؟

لفترة من الوقت حاولت اتباع نصيحة كونشا. وضعت نظارتي بجانب المنبه، وأطفأت المصباح الليلي وذهبت للنوم. ولكنني لم أستطع. ظللت أفكر في الهيكي. قالت لي: "اذهب إلى النوم". وعلى الرغم من أنني كنت متعبًا ونصف نائم وما إلى ذلك، فقد لاحظت أنها استغرقت وقتًا طويلاً لتقلب صفحة في الكتاب الذي أخذته معها إلى السرير، في حين أنها عادة ما تقرأ بسرعة كبيرة.

لذلك لم يكن هناك أية فائدة من محاولة النوم ووقفت مرة أخرى. كنت أنا وكونشا على وشك الاحتفال بمرور ستة أعوام على زواجنا. لقد مررنا بفترات صعود وهبوط بالطبع، لكن لا يمكنك القول أن علاقتنا لم تكن جيدة. اعتقدت أننا كنا زوجين جيدين، ولم نكن أقل جودة من الأزواج الآخرين الذين نعرفهم، على الرغم من أننا لسنا أفضل أيضًا. في الأشهر الأخيرة، كانت كونشا أكثر برودة قليلاً من المعتاد. أو ربما حدث الكثير. على أية حال، أرجعت ذلك إلى طبيعتها المتقلبة بعض الشيء. لقد تركت الأمور تحدث. هذا ما فعلته. والآن كانت هناك علامة على كتفها. وأي جهد للنوم كان غير ضروري.

بعد فترة من الوقت، استدارت كونشا ووضعت الكتاب على الطاولة بجانب السرير وأطفأت الضوء. حاولت مرة أخرى:

-  كونشا.

- ماذا؟

- لا شيء: من أعطاك الهيكي؟

- أي هيكي، ألبرتو؟

- العضة الذكورية الموجودة على كتفك يا كونشا. لأنني شبه متأكد من أن العلامة الحمراء كما قلت من قبل، هي علامة هيكي .

- أخبرني يا ألبرتو، هل خططت لإبقائي مستيقظة طوال الليل ؟

- لا، كونشا.

- حسنا ، هل يمكننا أن نتحدث عن ذلك غدا ؟

- حسنا، أنا لا أعرف. لا أعرف إذا كان بإمكاننا ترك الأمر حتى الغد، لأن الهيكي أمر خطير. كيف يمكنني النوم وأنا أعلم أنك مستلقية بجانبي وكأن شيئًا لم يحدث بينما لديك هيكي لا أجد له تفسيرا في منتصف كتفك؟

- ألبرتو.

-  ماذا؟

-  هذه الكدمة على كتفي ليست هيكي، حسنًا؟

- حسنا، يبدو الأمر كذلك. يبدو وكأنها هيكي.

قالت وهي تقوم بتشغيل الضوء من طاولة سريرها مرة أخرى:

- لقد بدأت تغضبني . ماذا يحدث؟ ماذا يجب أن أظهر لك حتى أقنعك؟  دعنا نرى، ننظر إليها بعناية: هل تبدو لك مثل هيكي أم لا؟

جلست على السرير،وأشعلت المصباح المجاور للسرير، وأعدت وضع نظارتي. ثم قمت بفحص كتف كونشا المنمش لفترة طويلة.

اعتدلت وأشعلت الضوء ولبست نظارتي. ثم قمت بفحص كتف كونشا المنمش لبعض الوقت.

قالت:

- حسنًا؟

-  نعم.

-  ما الأمر؟

-  ربما لا يكون هيكي.

-   هل يمكننا أن نترك ذلك الآن؟

-  نستطيع.

-  أتعدني؟

-  وعد.

- هل تشعر بالبرد؟ هل تريد مني تشغيل التدفئة؟"

- لا، بقدر ما أشعر بالقلق ليست هناك حاجة.

- هل هدأت؟

قلت لها:

- نعم .

لكنني لم أقصد ذلك. أنا فقط لم أرغب في الجدال، لأنه عن قرب ومع النظارة، كانت العلامة الحمراء على كتف كونشا تبدو تمامًا مثل الهيكي.

كان الوقت منتصف الليل تقريبًا وكان علينا الاستيقاظ مبكرًا في الصباح. استلقينا في الظلام لبعض الوقت، محاولين النوم. لسبب ما، لم أخلع نظارتي. لم أخلع نظارتي وأردت التدخين حقًا. بحذر شديد، نهضت من السرير، بحثت عن السجائر في جيوب بنطالي، استلقيت مرة أخرى، أشعلت السيجارة وأخفيت نهايتها بيدي اليسرى، حتى لا توقظ الشرارة كونشا.

كنت ما أزال مرهقًا، ربما أكثر من ذي قبل، لكنني كنت أعرف أن كونشا كانت مستيقظة لأنني سمعتها وهي تبتلع لعابها. وأوضح أحد الأطباء هذا في فيلم وثائقي رأيته ذات مرة. عندما ينام الناس لا يبلعون اللعاب. اتضح أن هذا هو الحال. وأوضح الطبيب أن هذه آلية فسيولوجية. لذا فإن كونشا لم تكن نائمة، وبدا لي أنه من الأفضل ترك الحديث عن الأمور.

قلت لها:

- كونشا، لقد وعدتك سابقًا بأنني سأترك الأمر لأنني لم أشعر برغبة في الجدال .

صمتت.ولكنني سمعتها تلهث في الطرف الآخر من السرير ولم أعلم هل أستمر أم لا.

فقلت:

- لكن أعتقد أنه من الأفضل أن نوضح الأمر، لأن العلامة الموجودة على كتفك هي علامة هيكي.

هذا ما قلت لها.

ثم حدث شيء غريب. أو ربما ليس غريبًا جدًا على كل حال. ما حدث في تلك اللحظة هو أن كونشا بدأت في البكاء. هكذا فجأة. من دون نبس شفة. كنا على وشك الاحتفال بمرور ست سنوات على زواجنا، وحتى تلك اللحظة لم أرها تبكي قط. لم أرها حتى الآن. لقد سمعتها للتو. لكنها كانت تبكي من مكان عميق لدرجة أنها بدت وكأنها سوف تنقسم إلى نصفين.

واصلت التدخين دون أخلع نظارتي، على الرغم من أنني لم أشعل الضوء أيضًا. ثم، دون تفكير ( لا أعرف إذا كانت فكرة: ربما كانت مجرد دافع)، مددت يدي اليسرى في الظلام ووضعتها على كتف كونشا. انكمشت بعيدًا عن يدي، وطوت ساقيها نحو صدرها، واستمرت في البكاء في وضع الجنين على الطرف الآخر من الفراش.

ثم تحدثت كونشا معي بأسرع ما يمكن:

لاحقًا، عندما تمكنت من التحدث، قالت كونشا:

- أنا آسفة جدًا يا ألبرتو. أنا آسفة. آسف جدا. أعلم أنك لن تسامحني، لا يمكنك أن تتخيل مدى أسفي.

كانت تبكي وهي تتحدث، لكن بعد فترة، قالت لي أيضًا، وهي أكثر هدوءًا:

- بصراحة، لا أعرف إذا كنت آسفة حقًا.

هذا ما قالته لي بالضبط .

جلست على حافة السرير وقدماي على الأرض ومرفقاي على ركبتي. كان شهر فبراير وكانت ألواح أرضية غرفة النوم متجمدة. ومازلت أرتدي نظارتي ، لكني لم أعد أشعر بالتعب.

كانت قدماي باردتين ، هذا كل ما في الأمر.

للحظة خطر ببالي أن أقوم وأشعل التدفئة.

خطرت لي الفكرة ولكني لم أنفذها.

اعتقدت أنه من الأفضل ألا أفعل شيئًا.

(تمت)

***

.......................

* المؤلف: أنخيل زاباتا/Ángel Zapata  كاتب ومدرس ومترجم وناقد إسباني، متخصص في القصص القصيرة والنظرية الأدبية والسريالية. ولد أنخيل زاباتا في مدريد عام 1961. أستاذ في مدرسة الكتاب، وهو مؤلف كتاب "ممارسة رواية القصص" (1997)، "النوايا الحسنة وقصص أخرى" (2001)، "الفراغ والمركز". ثلاث قراءات حول القصة القصيرة (2002)، الحياة الغائبة (2006)، المادة المظلمة (2015)، ضوء العاصفة (2018). وقد عرّف زاباتا نفسه بأنه كاتب سريالي، ولكن بضمير ماركسي واضح. نُشرت أعماله الأدبية والنقدية في مختارات مختلفة. وقد ترجم للمؤلفين الفرنسيين مثل لويس جانوفر وميشيل كاروج، فضلا عن أعمال حول السريالية. وهو عضو في المجموعة السريالية La Llave de los Campos والمجموعة السريالية في مدريد. زاباتا أستاذ الكتابة الإبداعية، وسرد القصص، والتحليل النفسي المطبق على الكتابة، وله مشاركات في مراكز مرموقة مثل ورشة الكتابة في مدريد، وورش عمل فوينتيتاجا للكتابة الإبداعية، ومدرسة الكتاب في مدريد.

تكشف كتاباته عن دين مستحق وليس أكثر من مجرد تأثير، لمؤلفين ومفكرين مثل أندريه بريتون، وأنطونين أرتو، وجورج باتاي، ورولاند بارت، وجاك لاكان. على أية حال، تحقق قصص أنخيل زاباتا شخصيتها الخاصة التي لا لبس فيها - الحدس، اللاوعي، بعض الغنائية والفكاهة اللاذعة - تشكل انجرافًا يمكن التعرف عليه - مما يجعلها نقاطًا مرجعية للقصص المعاصرة، على قدم المساواة مع الأساتذة الذين هم الأكثر تأثيرًا على هذا النوع في السنوات الأخيرة، مثل ريموند كارفر، جي دي سالينجر أو كويم مونزو. حاز أول كتابين قصصيين له، "النوايا الحسنة وقصص أخرى" و"لا فيدا غائبة"، على احترام النقاد مثل ريكاردو سينابر،  سانتوس سانز فيلانويفا،  بيدرو إم دومين،  مانويل مويانو  وفيسينتي لويس مورا.

 

بقلم: إليانور كاتون

ترجمة: صالح الرزوق

***

قالت شارون: “انظري إلى تلك العلامات المائية التي تركتها القهوة على فنجاني من الداخل. انظري إلى ذلك التاريخ. هذه خريطة لكل الأسابيع والسنوات التي امتصها هذا المكان مني. انظري إليها. خطوط الضغط الجوي لحياتي المهدورة والشقية".

لوحت فنجان قهوتها بقوة لتؤكد على أقوالها. وقالت: “وأمحوها يوميا". سألت وهي تستدير نحو طاولة المبيعات: “هل أعطوك  رقمك المعرف هناك؟ ما هو اسمك". توجه شارون نظرة مباشرة أو ابتسامة، ولكن ليس الاثنتين معا. وكان التأثير غير مريح.

بحث البائع المضارب في جيبه عن معرفه وقال “ريتشارد". كانت له لكنة أسترالية وتبين أن حظه "بائس". طبعت شارون الكلمة، وابتسمت للنور المثبت فوق رأسه. حصل على فاتورته. وابتلعت شارون ابتسامتها وراقبته وهو يغادر.

قالت بعد إغلاق الباب: "يا إلهي، يا لها من حفرة كالجحيم. أتمنى لو أنني ميتة". نظرت لي مستفهمة.

قلت: “وأنا أيضا. أتمنى لو أنني ميت كذلك".

قالت شارون: “لا أصدق أننا لا نزال هنا. سنتان ونحن هنا".

قلت فقط لأظهر روحي الرياضية: “ولا أنا أصدق ذلك. لماذا لم نمت من الضجر؟".

الموضوعات المفضلة عند شارون هي الكلام عن الضجر والمرض. وبالأخص الذي له أعراض كثيرة. وهي تحب الأعراض مثلما يحب بعض الناس الكلمات المتقاطعة. الأعراض من اختصاصها.

قالت صباح هذا اليوم بعد أن توقفت امرأة عن طلب البراغي القوية وعازلات الماء  والنسيج المضغوط: "نعاني من الجوع العصابي. أراهنك بخمس دولارات. ماذا تقولين عن شفاه جافة ومفاصل أصابع خشنة وخطوط سود تحت العينين". ولكن مضى على ذلك ساعات. استهلكنا الموضوع الآن. قلت: “عشر دقائق ثم ندخن". جلست مع شارون على الكرسي بجوار علبة النفايات ودخنا. لوح لنا المعماريون بأيديهم وهم يدخلون ويخرجون من موقف السيارات بسياراتهم الصغيرة. كان لهم جميعا لون أصفر كالتبغ، بسبب حروق الشمس القرمزية والرمادية. ثم سحبت شارون لفافتها من فمها وقالت: “ما هذا؟".

التفت لأنظر إلى جهة إشارتها. رأيت  شجيرات ورد قديمة قرب علبة الهاتف، وكلها دهنية ومبقعة وتحتضر، وهي مزروعة وراء البوابة حيث تغادر الشاحنات الطريق الرئيسي وتنعطف إلى الداخل. تحت الشجيرات لاحظت وجود جثة.

قالت شارون: “هذا كلب بلا رأس". امتصت سيجارتها بنهم وأضافت: “لنذهب ونخبر المسؤول. آه يا إلهي، كلب بلا رأس".

لوحت إلى أحد النجارين وسريعا ما غادر الجميع من المتجر وانهمكنا كلنا بالنظر إلى الجثة المطروحة تحت أشجار الورد. قاد هاميش الجرافة. وخرجت الموظفات من المكتب لأخذ نظرة. جلسنا القرفصاء وبدأنا نتعجب. ولكن ليس عن مقربة. واحتفظنا بمسافة خمس أو ست أمتار. في النتيجة الجثة هي جثة.

تساءل الجميع فيما بينهم: "من يقدم على قطع رأس كلب؟. لا بد أنه إنسان مريض!". ظللنا عيوننا بأيدينا لرؤية أوضح، وتأملنا الكومة المغطاة بشعر قصير والمتيبسة، والملوثة عند مكان  الرأس المقطوع.

قال غلين وهو عامل في المغسلة للتنظيف والتجفيف: “علينا أن نتصل بقسم حماية وتربية الحيوانات". وحمل شريط القياس المثبت بحزامه وجر الشريط عدة مرات ثم أفلته ليعود إلى غطائه البلاستيكي. قال: "سيأتون بشاحنة. سيحضرون ويأخذونه". وقفنا هنا لحظة إضافية، أنا وشارون نمتص سيجارتينا حتى النهاية. قالت شارون بشيء من الاندفاع: “أتساءل كم مضى عليه هناك". قال غلين: “أنا أتعاطف مع الكلاب". وكان صوته حزينا، كما لو أنه اكتشف للتو أن العالم لم يخلق بعد. وجر شريط القياس بحركة سريعة وقال:”انا محب للكلاب". أخبرتنا مديرية حماية وتربية الحيوانات أنهم قادمون هذه الساعة.

انتهت فترة التدخين وعدت برفقة شارون إلى الداخل، وانغمسنا وراء طاولة الخدمة، منصتان زرقاوان صغيرتان تحيطان بالمدخل الرئيسي. عبثنا بمطاطة فيما بيننا وابتسمنا للمضاربين الصغار وهم يتوافدون.  يحبون أن تقوم النساء على خدمتهم. فهذا يمنحهم شيئا يتفاءلون به. وأوسعت من ابتسامتي ولكنهم تعلقوا بشارون أكثر مني.

قلت: “أعتقد أنه مات أولا ثم قطعوا رأسه. أفترض أن هذا سهل الأمر عليهم". قالت شارون: “ضجرت من حكاية الكلب". وتنهدت بعمق.

اقتربت امرأة عجوز وقالت: “أين المغاسل". قالت شارون وهي تنظر لمنطقة العيب في المرأة وتشير دون تركيز بيد واحدة: “الممر 4. الزنك على اليسار. والآلة على اليمين". زحفت المرأة مبتعدة وتنهدت شارون وقالت:"لدى شارلي في المكتب التجاري ست تعليمات صارمة". وتخلت عن اللهو بالمطاطة وبدأت ببناء برج من أنابيب غراء، وكومتها على الطاولة حتى بدأت ترتعش وتتمايل.

"من أخبرك بذلك".

انهار برج شارون. تخلصت من أنابيب الغراء بحركة عصبية وقالت: “كأننا نعمل في مدفن. كيف يمكننا تحمل ذلك لصيف كامل؟. أوشكت على الجنون".

قلت: “من يمكنه قطع رأس كلب؟ من يمكنه أن يفعل ذلك؟ أريد أن أعرف".

كان صوت المرأة التابعة لحماية وتربية الحيوانات مضطربا على الهاتف. قالت: “كلب بلا رأس. هذا  يعني وجود نشاط لعصابة، شيء متوحش. هذا خطير. كلب بلا رأس شيء خطير. سنرسل شاحنة حالا". وحينما كانت تغلق الخط سمعوها تصيح: “أنت يا مارلين".

وصلت الشاحنة حينما كانت شارون في الطابق الثاني تنظف غرفة الشاي. أسرعت أجري إلى موقف السيارات لاستقبالهم كما يجب، قبل أن يكسب الفرصة غيري. كان الفريق مكونا من بنت شابة ذات شعر قصير وأساور جلدية حول معصميها. قالت: “دعونا نرى هذا الكلب المقطوع الرأس". وفركت راحتيها معا وصفقت مرتين. تحركنا باتجاه الشجيرات. كان الوقت في أواخر ما بعد الظهيرة، والعمل قليل. وهناك عدد محدود من الشاحنات في موقف السيارات، والشمس براقة وذهبية وهي تغوص وراء الألواح الخشبية وفوق الجسر وأسلاك الترام. على المنصة وراءنا كان غلين يكنس المغسلة، ويهيج سحابة صغيرة من غبار الإسمنت الأبيض التي انتشرت  على الإسفلت باتجاه المجاري.

اقتربنا من شجيرات الورد وتقدمت بنت حماية وتربية الحيوان منها، ودفعت حفنة كبيرة من الأوراق والأغصان جانبا، لتتمكن من أخذ نظرة أفضل من الكلب المقطوع الرأس. تمهلت في الخلف وشاهدتها تتوغل في النبات المريض والدهني، وتكافح قليلا مع الأوراق التي ترتد إلى الخلف وتلطم وجهها. تشكلت غمامة من الذباب وتفرقت مثل دخان. توقفت. ثم وهي تمد ذراعيها الثابتتين إلى الأمام، صاحت المرأة: "تعالوا وانظروا إلى هذا".

تقدمت، وأنا أمشي بقدم خفيفة ومتوازنة، ونظرت إلى الكلب الذي فقد رأسه، وهو متكوم على جانبه بين علب مسطحة وأوراق وصناديق رقيقة فضية مقطعة إلى شراذم قذرة ونصف مطمورة في التراب.

لم يكن كلبا كما توقعنا. كان قطة، كتلة ضخمة خشنة الشعر، ملوثة بدم مبهم على جانب الرأس. وعيناها مفتوحتان. كانت ميتة.

قلت: “آه". وهذا كل ما أمكنني التفكير به وقوله هذه اللحظة.

قالت المرأة: “أفترض أنكم لم تقتربوا تماما. لمسافة تسمح بالرؤية الواضحة".

قلت: “لم نرغب بذلك". تراجعت إلى الخلف عدة خطوات، وحركت رأسي لأحد الجانبين، ونظرت ثانية إلى القطة، لم تكن قطة ميتة بلا رأس، ولكن قطة عادية ميتة تستلقي على جانبها، تحت شجيرة الورد.

قلت: “آه. انظروا – إذا وضعتم رؤوسكم هكذا، يبدو طرف جبينها مسطحا ومقطوعا. هل لاحظتم؟ تبدو أشبه بكلب بلا رأس لو فعلتم ذلك".

أفلتت المرأة الشجرة، وتراجعت عدة خطوات. قلدت زاوية نظري ووقفنا كلانا لحظة، نميل قليلا وأحد الكتفين إلى الأسفل، ونحن نطرف بنظرنا.

قالت المرأة بعد فترة صمت: “نعم. أرى ذلك. أعتقد أن رأس القطة أصغر بكثير من رأس الكلب. فهي بلا ذلك الفك المتطاول". قلت فورا: “نعم. لا يوجد فك متطاول  ولا سواه". استقامت المرأة بوقفتها وحكت وجهها. وبدا عليها التعب. قالت: “ما لا يمكن أن أفهمه أن كلبا بلا رأس يشحن أعصابنا. أعني أن كلبا بلا رأس شيء فظيع. علينا الاتصال بالشرطة خشية أن يكون دليلا على شيء ما. ولكن قطة ميتة لا تعني شئيا. قطة ميتة مجرد قطة ماتت. ربما تلقت صدمة على الطريق وألقاها أحدهم من فوق السور. شيء طبيعي". وكنت أرد بهز الرأس باستمرار.

قالت المرأة بصوت ينم عن الشقاء التام: “يجب أن أعود إلى المكتب برفقة قطة ميتة. قطة أخرى فقط للفرن. اللعنة".

أنّت الشاحنات فوقنا وهي تعبر الجسر قادمة من مكان مجهول. تمسكت المرأة بأساور جلد المعصم الملتفة حول رسغها. ثم تنهدت وصفقت مجددا وقالت: "هل بمقدوري أن أحصل على كيسين بلاستيكيين لالتقاطها بهما؟".

أحضرت إليها كيسين من البلاستيك، من النوع الرقيق المستعمل للخضار وعليهما شعارنا البراق الأزرق مطبوعا على جانب واحد. جلست القرفصاء وهي تغلف قبضتها بكيس وحملت القطة من أطرافها. كانت لها رائحة نتنة.  تراجعت عدة خطوات. ألقت القطة في الكيس، كيفما اتفق، ثم غلفته بكيس آخر. فقط لمزيد من التأكيد. حينما وقفت، وهي تمسك حمالتي الكيس  البلاستيكيتين الرقيقتين  وتباعد بينهما، خرجت ساقا القطة الخلفيتان من فم الكيس، باتجاه السماء. لسبب ما اعتقدت أن ذلك شيء غريب، أن تضع رأسها في الكيس أولا. ولم أبرر ذلك.

قلت لغلين وأنا أعود إلى المتجر عبر المصبغة: "كانت قطة. قطة ضربتها سيارة. ولها رأس. ولكننا لم نلاحظه بسبب زاوية نظرنا".

قال غلين: “كانت قطة؟ كانت قطة. جيد. حسنا. طيب". ثم انسحب وهو يكنس.

حينما عدت إلى الداخل، شارف الوقت على الإغلاق. كانت شارون تعد الغلة، نظرت نحوي، ويداها مليئتان بقطع العشر سنتات وقالت: "تلك المرأة سحاقية". وكانت تتكلم بصوتها المتميز كأنها تشخص مرضا. أضافت: “أراهنك بخمس دولارات أنها سحاقية. أنا أعرف ما أقول؟".

***

..................

إليانور كاتون Eleanor Catton روائية من نيوزيلاندا. لها ثلاث روايات. حازت على البوكر عام 2013 عن روايتها "الكواكب المضيئة". ولها عدد من السيناريوهات والقصص المتفرقة.

قصة: ماتياس كانديرا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان ذلك أثناء رحلة عبر الغابة عندما حدث ما حدث لزوجتي.  حيث حل غروب شمس أخضر قوى، وهو من الغروب الذي يتباهى به المرء أمام الزوار. ("كانت الشمس في ذلك المساء مذهلة، أليس كذلك؟ لقد كنا مرعوبين.") على أية حال، انزلق قاربنا بهدوء فوق النهر. كنت ألقي نظرة على ساعة جيبي كل دقيقة. إنها هواية.

- أيها الأولاد، انظروا إلى هؤلاء النمل يأكلون مواطنًا على الشاطئ هناك!

أجاب أطفالي:

- نعم يا أبي، نحن نراهم .

الحقيقة هي أنني لا أعرف إلى أين كنا متجهين، لكنني وعدت نفسي بأمسية سعيدة بصحبة لوريتا والولدين البدينين. نحن الأربعة معًا، نستمع إلى صرخات قردة البابون المنبعثة من الغابة، مما يسمح لأنفسنا، ربما، بالشعور بالقليل من الخوف (عقدة صغيرة في المعدة يمكن التعامل معها)، عندما حل الليل ولم نكن قد خيمنا بعد. عند الغسق، وهو الوقت المفضل لدي في اليوم، ربما رأينا زوجًا من بؤبؤين ناريين يطارداننا في الظلام خلف صف من الأشجار.  كان من الممكن أن نشعل النار. كان بإمكاننا الاستمتاع بالتجربة كعائلة.

سألتُ زوجتي ببراءة، بينما كنت أداعب صدرها بشهوة في حركة دائرية:

– هل تحب الوحوش يا عزيزتي؟ هل تستمتعين بوقتك؟

لكن لوريتا لم تجب. جلست على جانب القارب، وكانت تحدق بشدة، وبرغبة حقيقية، في النهر، وأفكارها بعيدة. بالنسبة لي يبدو الأمر جيدًا تمامًا، لأنه حتى المرأة تحتاج إلى الاستلقاء من وقت لآخر.

نسيت الأمر على الفور وقلت بعد ذلك:

- انظروا. ذات رؤوس متقلصة تستقبلنا هناك من بعيد. كونوا مهذبين يا أطفال. اجمعوا أيديكم معًا، سأعد إلى ثلاثة.

وهذا كل شيء، أكثر أو أقل. لا شيء غير طبيعي. على الرغم من أنني أتذكر أنه بينما كان القارب يتحرك على طول النهر، بالقرب من الضفة، كنا نسمع أحيانًا كتلًا من الأشجار تهتز، كما لو كان هناك شيء ضخم يكمن في أحد الممرات الداخلية ولن تتمكن الغابة من إيقافه لفترة طويلة . اشتكى أبنائي كثيرًا من البدلات الرسمية التي أجبرتهم على ارتدائها. لكن يجب أن أقول أنه بهذه الوضعية، والوقوف مثل السفراء، كانوا يتعرقون بغزارة ويطردون البعوض الذي حاول لدغهم من الخلف، قد مُنحوا احترام الذات النموذجي لشخص موجود في العالم بقدمين على الأرض، ويشرب المارتيني الجاف ويترك زيتونه نظيفًا ولامعًا. الآن أعلم أنني فعلت الصواب. أتذكر أنه قبل وقت قصير من قيام لوريتا لتخبرنا بذلك، سألني ابني الأكبر عما إذا كان بإمكانهما القفز في الماء والاقتراب من التماسيح. طفلاي، رغم أنهما يعانيان من السمنة، لديهما أفكار خطيرة.

قال وهو يبدو بوجه الزواحف المسكينة.:

- أبي، هل تسمح لنا بالقفز في الماء حتى يتمكن أحد تلك التماسيح الرائعة من تقبيلنا؟

- لا. أنا لا أسمح بذلك.

صرخ  الولدان  في نفس واحد:

- من فضلك يا أبي. من فضلك!

- لقد قلت لا. انظرا إلى الغابة، كم هي رائعة.

ثم رأيت، في غمضة عين، حركة لوريتا الأنيقة. رأيتها وهي تصعد بثبات على القارب، وتشد بقوة شعيرات رأسها الأحمر، وتضبط عنق فستانها الأبيض بدقة، وتلقي علينا بنظرة جنون وغربة.أعلنت:

- لا أستطيع أن أتحملك .

اجبت:

- ماذا قلت يا ملاكي؟

– لا أستطيع أن أتحملك. لم اعد احتمل. أريد الحياة.

ثم غاصت لوريتا بسلاسة في الماء وبدأت بالسباحة في اتجاه النهر. في مثل هذه المناسبات، من الممكن تمامًا السيطرة على شعور المرء بالذعر. على سبيل المثال، قد يشعر المرء بسهولة برغبة في ضرب رأسه بالحائط حتى تتحطم جمجمته بشكل سليم. ليس انا. في تلك اللحظة كنت أفكر في كل ما لم أعرفه عنها. ببساطة، لم أكن أعلم أنها تستطيع السباحة. في نزهات أخرى، لا أعلم، إلى شاطئ البحر أو إلى حمام السباحة الشبحي الذي يملكه جيراننا في بالتيمور، لم تبد لوريتا أبدًا أي اهتمام بالسباحة. لقد أكلت الزيتون الأسود فحسب، وصنعت قطعًا من الورق على شكل غسالات من أجل المتعة، لكنها لم تفكر للحظة في النزول إلى الماء.  شاهدتها بذهول وهي تقطع النهر بسرعة كبيرة، مثل بطلة أولمبية، تصعد وتهبط بحرية لا تقهر حتى فقدناها من بعيد.

- سوف تصابين بالبرد يا ملاكي.

صرخت بعبثية، معتقدا أنها ستعود.

لم يحدث سوى بضعة أشياء أخرى جديرة بالذكر في رحلة بعد الظهر. أعترف أنني شعرت بالارتباك والاكتئاب. لقد توقفت ساعة جيبي دون سبب واضح (وهو أمر سيئ بما فيه الكفاية)، واستمرت الأشجار في الاهتزاز أثناء سيرنا. بدأنا نجد ملابس لوريتا تطفو في اتجاه مجرى النهر. قطع من فستانها الأبيض، والتي قمنا بتخزينها بسرعة في مقدمة القارب. رسائلها الأخيرة لعائلتها. ظننت أننا سنجد في أي لحظة جدولًا من الدماء يطفو على طول النهر، وهي علامة ما على أن لوريتا قد تم التهامها أو أنها هي نفسها أخذت جزءًا من رقبة أحد حيوانات النهر. ظننت أنني وأبنائي على الأقل سنكون قادرين على لمس دماء لوريتا العذبة في الماء وشمها للمرة الأخيرة. ومن شأن ذلك أن يكون لطيفا. ربما كان ذلك بمثابة الخطوة الأولى نحو الاكتمال. على أية حال، لم يحدث شيء من ذلك، وسرعان ما اصطدمت بصخرة الواقع. اهتزت كتلة أخرى من الأشجار الصفراء بعنف. التقطت أنفاسي عندما رأيت حيوانًا ضخما يبلغ طوله خمسين قدمًا يمزق صخرة، ويركل قطعتين من جذوع الأشجار المتعفنة، ويتقدم نحو الأفق، وزوجتي — وأنا متأكد تقريبًا، لأنها كانت عارية — ممسكة بقبضته بحنان. كانت لوريتا تعطيه الأوامر وتشير بذراعها إلى مكان بعيد عن الأنظار. حسنًا، بدا القرد العملاق، إن لم يكن سعيدًا، فهو على الأقل مطيعًا.

صرخ طفلاي دون أن يفهما أي شيء على الإطلاق:

– قرد، قرد! يجب أن تراه أمنا. قرد!

كان علي أن أقول لهما أن يصمتا. مشيت نحوهما ونظرت في أعينهما (بالجدية التي نظر بها إليّ أحدهما ذات مرة) ثم عدلت ربطتي عنقهما. ثم فعلت نفس الشيء مع رابطة عنقي . شعرت أنه من واجبي أن أتحدث إليهم بصوت واضح.

- احترام الذات يا أطفالي. احترام الذات قبل كل شيء.

شعرت بعجز غير مألوف يغلفني عندما قلت هذه الكلمات. أضفت:

-عندما تشير، نرفع نحن الثلاثة أيدينا إلى الأفق ونتخيل، بصعوبة بالغة، أننا نحمل كأس مارتيني جاف وأن الشمس والغابة تنعكسان في الكأس. هذا كل ما تبقى لنا."

وبعد ساعة، أنزلنا القارب إلى الشاطئ؛ لأول مرة كنا وحدنا في الغابة وفي العالم كله. تساءلت متى سأتمكن من شرح الوضع لطفليّ. وتساءلت أيضًا عما إذا كانت لوريتا مختبئة في كهف عمره آلاف السنين، في الظلام، تجلس وساقاها متباعدتان في راحة يد القرد وتضع قواعد حياتهما معًا. لا أتذكر متى حان الوقت لإشعال النار، لكنني طلبت من طفلي الصغيرين أن يتصرفا كما يحلو لهما.

– هيا، اذهبا لاصطياد شيء كبير. بهذه الطريقة يمكنكما الترفيه عن أنفسكما لبعض الوقت وتتركان بابا وشأنه.

صرخا فى فرح:

- جيد!  هل يمكننا التخلص منه؟

وافقت:

- يمكنكما ذلك،ولكن بدون  الكثير من الضوضاء.

لقد أرخيا رابطتي عنقهما بارتياح، ولمعت أعينهما (ذكروني للحظة بأسوأ الحيوانات) وزحفا إلى الغابة دون مزيد من اللغط. وعندما كانوا بعيدين، أشعلت النار بالأغصان الجافة التي احتفظنا بها في القارب. وفي غضون دقائق قليلة، اشتعلت النيران الخضراء الرقيقة أمامي ، ووجدت نفسي أحدق في النار بحزن لم أعرفه من قبل حتى الآن. حتى أنني فكرت في القفز في النار والاختفاء. كنت لا أزال معجبًا بها عندما شعرت فجأة بضجة في الغابة.

تمتمت:

- طفلي . كفى لعباً مع الوحوش الجارحة. تعاليا  هنا.

من بعيد. سُمع زئير ناعم، واضح، يمر كالطاعون بين الفروع والممرات والصخور الزرقاء. كان الزئير ضخمًا ومألوفًا في نفس الوقت لدرجة أنني شعرت بالذعر وأمسكت بعصا حادة ووقفت على أهبة الاستعداد. بالكاد أستطيع الوقوف على قدمي. وسرعان ما أدركت أنه لم يكن القرد. لا شيء من ذلك. كانت لوريتا، تزأر في الليل الأزرق من مكان مجهول.

وازداد صوت الزئير المرعب.

بعد ساعات قليلة، قبل أن يعود أولادي إلي وننام ونعانق بعضنا البعض، قررت بحماقة أن أوقع على إحدى الأشجار. أخرجت سكيني ونحتت اسمي واسم زوجتي وأنا أرتجف. ثم حبست الأسماء في قلب، وفي الأسفل، منحنيًا رأسي حتى لا يتمكن أحد من رؤية الدموع في عيني، كتبت التاريخ الذي كان بالفعل وسيظل إلى الأبد كأي تاريخ آخر.

***

.........................

المؤلف ماتياس كانديرا /Matías Candeira (مواليد 1984) كاتب روائي إسباني. ولد في مدريد. يعمل كصحفي مستقل ويقوم أيضًا بتدريس الكتابة الإبداعية. حصل على درجة البكالوريوس في الاتصال والإعلام من جامعة كومبلوتنسي بمدريد ودرجة في كتابة السيناريو من ECAM (مدرسة التصوير السينمائي والفنون البصرية بمدريد). وهو مؤلف رواية "فيبر" (حمى، كاندايا، برشلونة، 2015) وأربع مجموعات قصصية. حصل منذ عام 2010 على بعض المنح الأدبية المرموقة. كما أدرجته صحيفة ABC والملحق الأدبي الثقافي في قائمة أفضل الروائيين الشباب الناطقين باللغة الإسبانية، والتي نُشرت في عامي 2013 و2015.

 

بقلم: شيرمان أليكسي

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

داخل داخاو

1- كذبات كبيرة، كذبات صغيرة

بعد ان كذبنا على مضيفينا الألمان بشأن خططنا

عن اليوم، قمنا انا ودايان بزيارة  داخاو

بدل ان نبحث عن البومات نادرة في ميونخ.

دخل المخيم دزينة من الزوار فقط مشيا

لأننا كنا نبعد شهورا عن الموسم السياحي.

كان المخيم غريبا. المتحف كان بسيطا.

*

حالما وصلت الى هناك، توقعت ان تنتابني مشاعر بسيطة:

كره، غضب، حزن. كانت تلك خطتي.

كنت سأكتب شعرا عن كيفية عثور فصل الشتاء

على منزل مثالي في داخاو الباردة.

كنت سأصبح انسانا يهوديا مات في المخيم.

كنت سأصبح الاستعارة المثالية.

*

كانت ميونخ ستبعد مسافة رحلة قطار قصيرة عن الجحيم.

كانت ميونخ ستتحمل المسؤولية. ظننت ان الأمر كله سيكون بسيطا

ولكن لم يكن ثمة اجابات سهلة داخل المخيم.

كانت القصائد لا تزال تتخذ اشكالها، لكن خططي السابقة

بدث انانية جدا. ماذا كنت سأقول عن داخاو

حين لا اكون قد عانيت قط خلال اي موسم

*

داخل جدرانها؟ أ يمكنني ان اتصور موسما

من الرماد والثلج، من النيران والقبور المسطحة؟

ميونخ هي مجرد مسافة رحلة قطار قصيرة عن داخاو.

ان استطعت ان تتكلم شيئا من الألمانية، فهي رحلة بسيطة

تتطلب نقودا ولا خطط أخرى

لذلك اليوم. كذبنا حول زيارتنا المخيم

*

على مضيفينا الألمان، الذين تحدثا عن المخيم

صادقين صدق حديثهم عن المواسم.

داخاو لا تزال داخاو. ولم يضع مضيفونا اية خطط

ليعتقدوا عكس ذلك. وبينما كنا نقود سيارتنا عبر ميونخ

اشار مضيفونا الى منازل نازية سابقة، ببساطة

وبسرعة. قال ميكائيل: "نحن حقا نشعر بالعار بسبب داخاو،

ولكن ماذا عن جميع الداخاوات

في الولايات المتحدة؟ ماذا عن مخيمات الموت

في بلدكم؟" اجل يا ميكائيل، انك تسأل اسئلة بسيطة

يتم تجاهلها، موسما بعد موسم.

يا ميكائيل، يوسفني اننا كذبنا بشأن ميونخ وداخاو.

يؤسفني اننا كذبنا بشأن خططنا.

داخل داخاو، قد تعتقد ان الشتاء لن ينتهي ابدا.

قد تفقد ثقتك بتغير المواسم

لأن بعض الناس الذين بنوا المخيمات لا يزالون يعيشون

في الأرجنتين، في واشنطن، في ميونخ.

انهم يعيشون حياة بسيطة. يتقاسمون الخبز مع الأبناء والبنات

الذين توصلوا الى فهم خطة السيد.

**

2- التاريخ بوصفه فيلم الوطن

انه يبدأ وينتهي بالرماد، رغم اننا نصر

على تجاهل الحرائق المشتركة في ماضينا.

نحاول ان نمسح اسماءنا من القائمة

التي تبدأ وتنتهي بالرماد.

*

نتجاهل الحرب حتى نصبح آخر الواقفين،

حتى نكون آخر من يصر على النكران،

بينما يشحنونها الى المخيمات

حيث يجري تعريتننا جميعا، فتضاء اجسادنا الداكنة

بالضوء القاسي لتلك المصابيح االقديمة المغلفة بجلد يهودي.

بعد سقوط داخاو بعقود، نقف في الضباب

الذي يبدأ وينتهي بالرماد.

**

3- اسئلة شائعة

لماذا نحن هنا؟ ما الذي أتينا لرؤيته؟

ماذا نحتاج ان نجد خلف الأبواب؟

هل نحن نبحث عن اعتذار من اشباح النازيين غير النادمين؟

ندفع اجرة الدخول عند الباب الأمامية.

لماذا نحن هنا؟ ما الذي أتينا لرؤيته؟

*

انتقل الممثلون الى المشهد التالي

وهيأوا المسرح: فرن، مجرفة، وباب ملطخة بالسخام.

هل نحن نبحث عن اعتذار

*

من الألمان الذين رفضوا ان يروا

الرماد يتساقط امام ابوابهم الموصدة؟

لماذا نحن هنا؟ ما الذي أتينا لرؤيته

*

مما لا يمكن رؤيته في بلدان أخرى؟

كل بلد يختبئ خلف باب بيضاء.

هل نحن نبحث عن اعتذار

*

من الرجال الصبورين الذين خبأوا المفاتيح؟

أصغوا: الباب هي الباب هي الباب.

لماذا نحن هنا؟ ما الذي أتينا لرؤيته؟

هل نحن نبحث عن اعتذار؟

**

4- متحف الهولوكوست الهندي الأميركي

ما الذي نريده نحن السكان الأصليين من بلدنا؟

نقف فوق المقابر الجماعية. حزننا الجمعي يفقدنا حسـّنا.

ننتظر تشييد متحفنا.

*

نحن ايضا نستطيع ان نكدس احذية موتانا ونملأ المدينة

حتى طابقها الثالث عشر. ماذا كنتم تتوقعون ان نصبح؟

ما الذي نريده نحن السكان الأصليين من بلدنا؟

ننتظر تشييد متحفنا.

*

نحن احفاد احفاد الجرف الرملي والركبة الجريحة.

نحن محاربو الحروب الهندية القدامى.

نحن ابناء وبنات الموتى السائرين. لقد فقدنا الجميع.

ما الذي نريده نحن السكان الأصليين من بلدنا؟

نقف فوق المقابر الجماعية. حزننا الجمعي يفقدنا حسـّنا.

ننتظر تشييد متحفنا.

**

5- اغان من لدن أولئك الذين يعشقون النيران

نبدأ الحرائق

فوق برج الكنيسة:

رماد، رماد.

*

نبني محارق عالية

من جوقات الأطفال المنشدين:

رماد، رماد.

نشاهد النيران تلتف

وتحرق الكذابين:

رماد، رماد.

*

نشاهد النيران

تلتف

من جوقات الأطفال المنشدين:

رماد، رماد.

نبني محارق عالية

فوق برج الكنيسة:

رماد، رماد.

*

نبني محارق عالية

ونحرق الكذابين:

رماد، رماد.

نشاهد النيران تلتف

فوق برج الكنيسة:

رماد، رماد.

نبدأ الحرائق

من جوقات الأطفال المنشدين:

رماد، رماد.

**

6- بعد ان نكون احرارا

لو كنت يهوديا فكيف سأقيم الحداد على الأموات؟

انا من قبيلة سبوكان. انني استيقظ.

*

لو كنت يهوديا فكيف سأتذكر الماضي؟

انا من السبوكان. انني اتصفح كتب التاريخ.

*

لو كنت يهوديا فكيف سأجد بهجة تجعلني ارقص؟

انا من السبوكان. ارمي عملة معدنية في صندوق النغم.

*

لو كنت يهوديا فكيف سأجد وقتا كي أغني؟

انا من السبوكان. اجلس خلف الطبل مع كل ابناء عمومتي.

*

لو كنت يهوديا فكيف سأعشق؟

انا من السبوكان. اصغي الى امرأة هندية تهمس.

*

لو كنت يهوديا فكيف سأشعر حيال الرماد؟

انا من السبوكان. انني اقدم التبغ لجميع ضيوفي.

*

لو كنت يهوديا فكيف سأحكي الحكايات؟

انا من السبوكان. انني اضع يدي على المنصة.

*

لو كنت يهوديا فكيف سأنام في الليل؟

انا من السبوكان. انني اترك التلفزيون مفتوحا حتى الفجر.

*

لو كنت يهوديا فكيف سأجد منزلي؟

انني من السبوكان. ادخل النهر واغمض عينيّ.

**

7- تحت الانجماد

كانت داخاو باردة الى حد كنت ارى نفـَسي

لذلك شكرت فضل معطفي.

ليس لدي شيء جديد أقوله عن الموت

*

جلست كل بناية عند الأركان الصحيحة بالنسبة للبقية.

حول كل ركن، توقعت ان اجد اشباحا.

كانت داخاو باردة الى حد كنت ارى نفـَسي.

*

كان كل شيء نظيفا، التاريخ مكدسا

احذية، صورا فوتوغرافية، ملاحظات شخصية.

ليس لدي شيء جديد أقوله عن الموت.

*

اردت ان ابكي. اردت ان اريح

رأسي المتعب بينما كان الرماد يمتزج مع الثلج.

كانت داخاو باردة الى حد كنت ارى نفـَسي.

*

لست يهوديا. كنت مجرد ضيف

في ذلك المسرح الذي لن يغلق ابدا.

ليس لدي شيء جديد أقوله عن الموت.

*

اتساءل أي الناس سيشعل النيران بعد ذلك

وأي الناس سيتحولون حالا الى دخان.

كانت داخاو باردة الى حد كنت استطيع ان ارى نفـَسي.

ليس لدي شيء جديد أقوله عن الموت.

***

.................

شيرمان أليكسي: شاعر وقاص وروائي وصانع أفلام من سكان أميركا الأصليين، ولد ونشأ في محمية سبوكان للهنود الحمر قرب واشنطن. خضع لجراحة في الدماغ وهو طفل في الشهر السادس من عمره توقع الأطباء على أثرها بأنه سيعاني طوال عمره من عوق عقلي حتى لو نجحت العملية. إلا انه نجى منها وأكمل تعليمه وتفوق في دراسته وفي مجالات عديدة أخرى، لكنه لم يكتشف موهبته في الكتابة إلا بعد أن درس الكتابة الإبداعية في جامعة واشنطن على يد جوزيف كوو وهو هندي أيضا والذي أهداه مجموعة مختارة من أشعار السكان الأصليين بعنوان (أغاني هذه الأرض على ظهر سلحفاة) غيرت حياته، فتوجه للكتابة. نشر أليكسي أول مجموعة بعنوان (مهنة الرقص الهندي التنكري: قصائد وقصص) &عام 1992 وأخرى في العام نفسه بعنوان (كنت سأسرق خيولا)، ثم توالت مجموعاته الشعرية ومنها (قمصان قديمة وجلود جديدة) 1993 (أول هندي على سطح القمر)، (الماء المنساب نحو الوطن) 1994، (صيف الأرامل السوداوات) 1996 و (الوجه) 2009 وغيرها. نشر أليكسي أيضا عددا من المجموعات القصصية والروايات وكسر حاجز إنتاج أول فلم أميركي ينتج بكامله بكادر هندي صرف. فازت أعماله الإبداعية بالعديد من الجوائز وترجمت إلى لغات عدة.

شعر: ليروي كوينتانا

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

بعد خدمته في القوات البحرية،

القوات الجوية،

والقوات البرية،

يستقبل الرقيب كاستيلو

من سلاح المشاة البحرية

بعاصفة من التصفيق

من الحضور،

عند سيره نحو المذياع

قال متفاخرا:

إنه وبخلاف البقية

قد وعد بحقيبة لوازم ميدانية

وبندقية

وزمن عصيب ملعون.

فيما عدا هذا

لم يصدق في شىء

و كان من كبار الكذبة.

***

...........................

- (ليروي  في. كوينتانا): شاعر أمريكي. ولد في 10 حزيران 1944 في (البوكيرك – نيو مكسيكو). حاصل على شهادة الماجستير من جامعة نيو مكسيكو 1974. خدم في فيتنام في وحدة الجيش المحمولة جوا ودوريات الاستطلاع بعيدة المدى 1967 – 1968. منح جائزة الكتاب الامريكية 1982 و1993. من أعماله: قصائد نيو مكسيكو 1976، استجواب 1990، قصيدة لجوزفين بيكر 1997، ودوامة المنفى العظيمة 1999.

Five Poems About Vietnam  I  American Experience – PBS. https: // www. pbs. org

 

قصة: هيرنان رونسينو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

ساقاها طويلتان كأنهما نهران يتلامسان عند منبعهما، في البحيرة العميقة: مظلمة ورطبة وغامضة. لكن لديها أيضاً كلمتان ترددهما دائماً، وشم على ظهره، ويدين تداعبان كأنهما تصنعان الخبز.

تقول إنها قتلت عمها. تمشي حافية القدمين لأنها تشعر بالأرض تنمو بداخلها: تقول إن الأرض تتسلل إليها من خلال كعبيها وتنمو عبر أوردتها ، كما تنمو الكابلات، أو الطرق، على جوانب مسارات القطارات.

تقول: "الأرض تجعلني قوية، تمكنني من مواجهة أعين الناس. لو لم تكن الأرض، لكنت الآن مكسورة مثل شجرة الأومبو: "مجنونة " .

وتقول إنها تركت طفلاً حديث الولادة في أحد الحقول في بينيتيز منذ حوالي خمس سنوات.  من الواضح أن الزمن قد ترك بصماته عليها. كما أنها تمتلك ذاكرة قوية صافية لأغاني الكومبيا التي تدندن بها وسط شارع أفينيدا جويمز، حيث يبدأ شارع أفينيدا جويمز في الانحدار بشكل حاد للغاية بحيث بانحدار يبدو كأنه يختفي، تحت الأرض. فهو لا يفقد طلاءه الإسفلتي فحسب، بل يكتسب سجادة من شظايا الطوب التي كان من المفترض أن تملأ الحفر المحيطة بمصنع السيراميك.

في النهاية، تطلب دائمًا مني أن أروي لها قصة، بعد أن تنتهي من سرد قصتها. دائمًا تحكي لي قصتها. ثم تمضغ قطعة من العشب وهي جالسة بجانب الجدول الذي يجري فيه نفايات مزارع الخنازير ومصنع السيراميك الذي يقع خلفنا، وفي هذا المساء الحار، يبدو المصنع كإمبراطورية تنهار. وأنا أخترع لها قصة. تحب مغامرات المحاربين والأميرات. تحب القلاع والساحرات. تحب المناظر الطبيعية التي تنقلها بعيدًا عن هذا الخراب. تحب النمور.

-2-

إنها ليست من هنا، كما يقول سائقو سيارات الأجرة المصطفون على طول المنحنى. لقد جاءت مع الرجال الذين بنوا الاتحاد وبقيت. تعيش خلف مصنع السيراميك في منزل مهجور يختنق بالأعشاب الضارة. تراها مع الكلاب (تتحدث إلى الكلاب) وتتسكع مع أطفال الريف. ويقولون إنهم أصغر منها بكثير. لا يمكنها أن تنجب أطفالًا بعد، ولكن بالطريقة التي تسير بها، إنها مسألة وقت فقط وتحمل، سيأخذها شخص ما، كما يقول سائقو سيارات الأجرة من مقاعدهم المصنوعة من الخيزران على الرصيف. وهم لا يعرفون القصة الحقيقية للفتاة. لن يتمكنوا أبدًا من تخيل المشهد داخل الكوخ الحديدي المموج، في مزرعة في كاستيا، حينما يمسك بها العم من شعرها، ويمزق ملابسها، ويخترقها بلذة مظلمة في عينيه، وهمس متواصل على شفتيه. كما أنهم لا يستطيعون تخيلها وهي حامل في شهرها السادس، في ليلة ممطرة، عندما عاد عمها وغرزت سكينًا في جذعه بقوة، وبرود لا يختلف عن تقطيع رغيف خبز. ولا يمكنهم أيضا أن يروا في وجه الفتاة الصورة التي تطاردها كلما أغلقت عينيها على تلك المرتبة القديمة في المنزل، تاركة ابنها - لأنها شعرت أنه ليس لها- لأنه لم يكن يشبه ابنها، فقد ولد متسخًا - وسط أكوام القش في حقل صغير في بينيتيز؛لا يمكنهم أن يتخيلوها، مهما قالوا، حتى وإن ابتكروا قصصًا أخرى، حتى وإن رأوها تبتعد الآن، تدندن في وسط شارع جويميس، وهي تتأرجح على تلك الساقين الطويلتين، كأنهما نهران يتلاقيان عند المنبع.

(تمت)

***

المؤلف: هيرنان رونسينو/ Hernán Ronsino: كاتب وأستاذ وعالم اجتماع أرجنتيني. ولد عام 1975 في تشيفيلكوي، وهي بلدة صغيرة في منطقة البامبا بالأرجنتين. وفي عام 1994 انتقل إلى بوينس آيرس لإكمال دراسته. رونسينو مؤلف ثلاث روايات، من بينها جلاكسو (2009)، وهو أستاذ بجامعة بوينس آيرس وكلية أمريكا اللاتينية للعلوم الاجتماعية (FLACSO). حصلت مجموعته القصصية الأولى على تنويه مشرف من الصندوق الوطني الأرجنتيني للفنون في عام 2002. كما أن رونسينو هو أيضًا ناشر مشارك لمجلة كاراباشاي الثقافية، ومنذ عام 2010 أصبح عضوًا مؤسسًا في مجلة En Ciernes. تُرجمت أعماله إلى الفرنسية والألمانية والإيطالية، كما نُشرت قصصه في مجلات ومجلات ومختارات مختلفة. حصل رونسينو على جوائز في العديد من المسابقات الوطنية، من بينها مسابقة هارولدو كونتي لرواة القصص الشباب 2001. وفي عام 2011، تم اختياره من قبل معرض غوادالاخارا الدولي للكتاب كأحد المؤلفين الرائدين الجدد في أمريكا اللاتينية، وحصلت روايته "لومبري" (2013) على جائزة تم تضمينها في القائمة الساخنة لعام 2016 للناشرين المستقلين باللغة الألمانية.

بقلم: فكتور هيجو

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

" توجد الكلمات ...

تلك التي انتظرناها طويلا

تلك التي لم تأت قطّ ...

تلك التي غالبا ما أحبطتنا...

توجد الكلمات ....

تلك التي لا نتجرّأ على قولها لأنفسنا...

تلك التي تؤلمنا أحيانا...

تلك التي نبحث عنها قبل الكتابة...

توجد الكلمات...

تلك التي نهمس بها في أذنيه...

تلك التي تَعِدُ بصحوة ناعمة ...

تلك التي تضيء الشمس ...

توجد الكلمات...

تلك التي نَسْمعها بعض الأمسيات...

تلك التي تَهمس لنا بشيء من الأمل...

تلك التي تلوّن يوما حالكَ السواد...

توجد هذه الكلمات التي هي أبيات وأغاني...

ملوّنة برعشة رقيقة...

هي قلوبنا في انسجام تام ...

***

فكتور هيجو

"من ديوان جمع بعد وفاته " كل القيثارة". 1888

...................

Il y a les mots ... Ceux que l'on a trop attendus... Ceux qui ne sont jamais venus... Ceux qui nous ont souvent déçus...

Il y a les mots... Ceux que l'on n'ose pas se dire... Ceux qui nous font parfois souffrir... Ceux que l'on cherche avant d'écrire...

Il y a les mots...Ceux que l'on glisse à son oreille... Ceux qui promettent un doux réveil... Ceux qui font briller le soleil...

Il y a les mots...Ceux que l'on entend certains soirs... Ceux qui nous soufflent un brin d'espoir.. Ceux qui colorent un jour trop noir...

Oui il y a ces mots qui sont des vers et des chansons ...Qui sont teintés de doux frissons ...Qui sont nos cœurs à l'unisson..."

Victor Hugo

1888 dans le recueil posthume Toute la Lyre.

 

 

قصة: أندرو بورتر

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

لفترة قصيرة بعد مغادرة زوجتي، عشنا أنا وابنتي على بعد بضعة أبواب من مخبز فرنسي في الجانب الجنوبي من سان أنطونيو. كان هذا هو المكان الثاني الذي عشنا فيه في سان أنطونيو، وكان الأول هو الشقة الأكبر حجمًا التي تقاسمناها مع زوجتي في الجانب الشمالي. كانت تلك الشقة تحتوي على ثلاث غرف نوم ومطبخ كبير وغرفة معيشة مشتركة صغيرة، وهي عبارة عن فناء نتقاسمه مع العديد من السكان الآخرين في المبنى. على النقيض من ذلك، كان هذا المكان أصغر بكثير، خانقًا تقريبًا بأسقفه المنخفضة وممراته الضيقة وغرفه الصغيرة التي لا تحتوي على نوافذ. لقد اخترته في الغالب للموقع، الذي كان على بعد بضع بنايات فقط جنوب منطقة وسط المدينة، ولأنني اعتقدت أن ابنتي ترغب في أن تكون أقرب قليلاً إلى بعض المتنزهات والمطاعم التي تحبها. ومع ذلك، نظرًا لصغر حجمه، قضينا الكثير من الوقت خارج المنزل، وكان المكان المفضل لديها بالطبع هو المخبز الفرنسي الذي يقع في الشارع، وهو "المعجنات" كما كانت تحب أن تسميه بمجرد أن ترغب في ذلك. تعلمت الاسم الصحيح، المعجنات للعائلات.

كنا ننزل هناك مرة أو مرتين في اليوم وننظر إلى المجموعة الكبيرة من المعجنات الموجودة في علب العرض المبردة: الماكرون والبيتفور والبالميه، ومادلين العسل والفانيليا، والبروفيترول، وجاتو زهرة البلسان الجميلة. حدقت بهم ابنتي بإعجاب صامت، و عيناها مفعمة بالأمل لدرجة أنني لم أستطع أن أنكر عليها أبدًا. في تلك المرحلة، كانت قد جربت كل ما لديهم تقريبًا، لكن المفضل لديها كان الميلفيه، أو بشكل أكثر تحديدًا، الميلفيه بالتوت، فى حالة وجوده. كان يدير المخبز زوجان فرنسيان كبيران في السن، رجل هادئ وخجول كان يجلس في الغالب في الجزء الخلفي للخبز، وزوجته التي كانت تدير المحل وتعرف الإنجليزية بشكل جيد بما يكفي للتواصل بنا والسؤال عن يومنا هذا. كانت ذات جسم نحيف وأنيق، ووجه هادئ ومتواضع، وكثيرًا ما كانت تتوقف لتتحدث مع ابنتي عندما نأتي. أعتقد أنها شعرت بحدوث شيء ما، شيء مأساوي أو مؤسف، أب وابنته يظهران كل يوم بمفردهما، دون أي علامة على وجود أم أو زوجة. في كثير من الأحيان كانت تقدم شيئًا إضافيًا صغيرًا مجانًا، مثل بعض الكرواسون لوجبة الإفطار في اليوم التالي أو خبز نورماندي الحلو الذي اشتهروا به، المليء بالجوز والتفاح والزبيب الذهبي.

في زاوية المتجر كانت هناك زاوية صغيرة ومريحة، نوع من المساحة السرية بجوار النافذة الأمامية، وكنا نجلس هناك دائمًا إذا لم يكن هناك أي شخص آخر في المخبز، فقط نجلس هناك وننظر إلى الشارع و نتحدث عن يومنا. كانت ابنتي تبلغ من العمر سبع سنوات فقط في ذلك الوقت، ولم تفهم سبب مغادرة والدتها، ولماذا عادت والدتها إلى منزل والدتها لتلملم شتات حياتها، وتعيد أفكارها إلى المسار الصحيح. لم أفهم الأمر حقًا أيضًا، حتى بعد أن حاولت شرح الأمر لي عدة مرات، وحتى بعد شهرين من المحادثات الطويلة على الهاتف، لم أفهم سبب حدوث ما كانت تمر به بعيدا عنا.

أتذكر يومًا ما في أواخر سبتمبر – كان ذلك بعد وقت قصير من بدء الدراسة لكلينا، دراستي في الجامعة التي كنت أقوم بالتدريس فيها ودروسها في مدرستها الابتدائية، وكانت أمسياتنا تصبح أقصر، أو على الأقل وقتنا معًا، و أتذكر أنني جلست معها في المخبز ذات مساء وتحدثت معها عن والدتها، محاولًا أن أشرح لها سبب حدوث ما حدث، وكيف تغيرت الأشياء في الحياة أحيانًا، وكيف لم يكن هناك شيء ثابت على الإطلاق، وهذا ما ينطبق على الناس والعلاقات بينهم .

وأضافت بهدوء، ولكن ليس معنا، وكان علي أن أعترف بأنها كانت على حق. قلت: لا، ليس معنا، وأنا أضغط على يدها. كانت أمسية غائمة، وكان الجو عاصفًا بعض الشيء في الخارج، ولكن كان الجو هادئًا ولطيفًا داخل المخبز.

كانت السيدة التي تقف خلف المنضدة قد أحضرت لنا في وقت سابق اثنتين من فطائر الليمون وإبريقًا من الشاي لي، وهي الآن تقف أمامنا مباشرة ومعها صينية صغيرة بها معجنات متنوعة، تبتسم كما لو أنها خرجت للتو من الأثير.

قالت، اختر القليل منها، وكأنها تستشعر جدية محادثتنا. في المنزل، غمزت لي ووضعت الصينية أمام ابنتي. أضافت، وهي تضع يدها على كتف ابنتي، وتربت على أعلى رأسها بينما كانت ابنتي تتناول إكلير الشوكولاتة: "أنتما الاثنان تبقياننا في العمل، كما تعلمان".

قلت لابنتي شيئًا واحدًا فقط، فعبست في وجهي بخيبة أمل.

أصرت السيدة على السماح لها بتناول اثنين الليلة، كما لو أنها شعرت بشيء لم أشعر به. فقط لهذه الليلة، حسنا؟

وأومأت برأسي وتناولت ابنتي قطعة معكرونة، ثم ابتسمت للسيدة.

قلت لابنتي:

- ماذا تقولين؟

قالت وهي تنظر للأسفل بخجل:

- شكرا لك.

قالت السيدة، على الرحب والسعة، يا عزيزي، وهي تضع يدها مرة أخرى على كتف ابنتي، ثم تغمزني مرة أخرى قبل أن تبتعد بصينية الحلوى الخاصة بها وتعود إلى مكانها خلف السجل.

بعد لحظة، انطلقت موسيقى كلاسيكية خفيفة ونظرنا من النافذة في صمت، بينما كانت ابنتي تأكل الإكلير، وتسارعت حركة المرور بعد الظهر وأظلمت السماء خارج المخبز.

قالت ابنتي بعد فترة وهي تنظر إلى السيدة التي تقف خلف المنضدة.

- هل تعتقد أنها وحيدة من أي وقت مضى؟

- وحيدة؟

- نعم، هل تعتقد أنه ربما يكون لديها ابنة أو ابن في مكان ما، مثل فرنسا، أو المكان الذي قالت إنها منه في ذلك الوقت.

- هل تقصد بايون؟

- نعم.

- انها في فرنسا.

- نعم، هل تعتقد أن لديها عائلة هناك تفتقدها؟

قلت: لا أعرف. ربما. أعلم أن لديها زوجًا هنا ويبدو أنهما واقعان في الحب.

- كيف تعرف؟

قلت:

- لا أعرف. مجرد أشياء صغيرة، كما تعلمون. مثل الطريقة التي تضغط بها دائمًا على ذراعه وتبتسم له. أو الطريقة التي تخفض بها الموسيقى أحيانًا لأنها تعلم أنه لا يستطيع السماع جيدًا.

-       هل لاحظت ذلك؟

قلت:

- بالطبع. فقط أشياء صغيرة من هذا القبيل، هل تعلم؟

- كما لو أنها أحيانًا ترسل له قبلة عبر النافذة الخلفية أثناء قيامه بالخبز هناك.

- صحيح .

أومأت برأسها وكأنها تفكر في الأمر بعمق. ولكن ربما يكون هناك آخرون، قالت أخيرا. وبصرف النظر عنه، هناك أشخاص آخرون تحبهم.

قلت:

- ربما هناك. لكنه قد يكون الأكثر أهمية، كما تعلمين، الشخص الذي تحبينه أكثر.

نظرت إلى المرأة مرة أخرى، ثم نظرت إليّ مرة أخرى. قالت:

- بيتها.

- ماذا تقصدين؟

- هو منزلها.

قلت مبتسما:

- نعم، منزلها.

في وقت لاحق من تلك الليلة، بعد أن خلدت ابنتي إلى النوم، اتصلت بزوجتي للمرة الثالثة في ذلك الأسبوع، لكنها كالعادة لم ترد. في تلك المرحلة لم تكن ترد على الإطلاق، ولم ترد على مكالماتي منذ ما يقرب من ستة أسابيع، ولم تتواصل معي إلا عبر البريد الإلكتروني أو الرسائل النصية. لقد كانت تمر بفترة من النمو الشخصي العميق، وكانت تكتب لي ولم تعتقد أنه من الجيد أن نتحدث الآن. لكنني واصلت المحاولة، معتقدا أن كل هذا يجب أن ينتهي في وقت ما، وأنها ستتعافى أخيرًا في إحدى تلك الليالي.

ولكن إذا حدث ذلك، فلن يحدث ذلك في تلك الليلة، وبعد المحاولة الثالثة أو الرابعة استسلمت في النهاية، وأغلقت هاتفي في المساء وسكبت لنفسي كأسًا من النبيذ.

عبر الشقة الصغيرة، سمعت الطنين الناعم لآلة الضوضاء البيضاء التي كانت ابنتي لا تزال تستخدمها لتغفو، وبعد فترة نزلت إلى غرفتها، والنبيذ في يدي، ووقفت في المدخل، أحدق فيها.

قبل أشهر، في شقتنا القديمة، عندما كانت زوجتي لا تزال معنا، كانت تفعل الشيء نفسه كل ليلة، وعندها فقط كنا لا نزال ننظر إلى الداخل، وكلانا نتساءل عن هويتها. ما الذي قد تحلم به خلف تلك الجفون المغلقة أو تتعجب من الطرق التي تغيرت بها مؤخرًا.

بعد لحظة فتحت الباب على نطاق أوسع قليلاً وعندها فقط لاحظت أنها لم تكن نائمة بالفعل، وأنها كانت لا تزال مستلقية هناك، وعيناها تنظران إلي بشيء يشبه الخجل.

قلت وأنا أتقدم وأجلس على حافة سريرها:

- ماذا جرى؟ ألا تستطيعين النوم؟

أومأت برأسها.

- بم تفكرين؟

قالت:

- لا أعرف، لا شيء .

جلست هناك في ظلام غرفتها، وضوء الليل على رف مكتبتها يلقي كوكبة من النجوم على جدارها البعيد، هدية من أختي.

- أعتقد أنني مازلت أفكر في المخبز.

- صديقتنا العجوز هناك؟

أومأت برأسهاوقالت:

- هل تعتقد أنها سوف تموت قريبا؟

- تقصدين لأنها كبيرة في السن؟

- نعم.

قلت:

- لا أعتقد ذلك. يبدو أن لديها قلبًا قويًا جدًا. تبدو وكأنها واحدة من هؤلاء الأشخاص الذين سيعيشون أكثر من مائة عام.هل هذا ما تفكرين فيه؟

أومأت برأسها.

- أنا فقط أفكر في زوجها ومدى حزنه.

قلت:

- نعم أعتقد أنه سيكون كذلك.

- هل سبق لك أن قلفقت بشأن موت أمي؟

نظرت إليها.قلت:

- لم أفكر في الأمر قط، حقًا. والدتك لا تزال صغيرة جدًا، كما تعلمين.

نظرت إلى السقف ثم بدا أنها غرقت في أفكارها للحظة. ثم قالت:

- كما تعلم، لقد تعلمت القليل من الفرنسية.

- حقا؟ اين تعلمت الفرنسية؟

قالت:

- من السيدة من إلويز.

- إلويز؟

وقالت:

- هذا هو اسمها.

نظرت إلى السقف مرة أخرى. ثم قالت بعد ذلك بهدوء.

- بنسوار.

- هذا يعني مساء الخير، أليس كذلك؟

قالت:

- نعم. كيف عرفت؟

قلت:

- أعرف القليل. ليس كثيرا، رغم ذلك.

- و" بون نيت" .

- طاب مساؤك.

قالت:

- هذا صحيح.

نظرت إلى الجدران ثم عادت إليّ. وقالت:

- لقد علمتني أيضًا عبارة أخرى.

- متى كان هذا؟

- في ذلك اليوم، عندما كنت على الهاتف. أتتذكر؟

نظرت إليها، وتذكرت بشكل غامض مكالمة هاتفية تلقيتها من زميلة العمل، وعندها تركتها وحدها للحظة لتتحدث إلى السيدة، إلى إلويز.

- Que voulez-vous?

- ماذا يعني ذالك؟

- ماذا تريد.

قلت:

- Que voulez-vous?

قالت وهي تبتسم:

- Patisserie .

قلت:

- المعجنات.

- نعم.

- حسنا، هذا يمكن تخمينه.

ابتسمت. وعبارة أخرى" Es-tu perdu"

- ماذا تعني تلك؟

- هل أنت تائه؟

نظرت إليها حينها، وبطريقة ما شعرت في تلك اللحظة بحزن لا أستطيع تفسيره، الطنين الهادئ لآلة الضوضاء البيضاء، بقع النجوم على الجدران، الضباب الغريب الذي كنت أخوض فيه مؤخرًا، عدم اليقين بشأن مستقبلنا معا. لسبب ما، صدمني كل شيء في تلك اللحظة، الطريقة التي نظرت بها إلي، والأمل في عينيها.

قالت مرة أخرى وهي تنظر إلي:

- Es-tu perdu? /هل أنت تائه؟

قلت:

- لا .

- لا؟

ثم أومأت برأسها وابتعدت، وبعد لحظة استدرت ومشيت عائداً إلى القاعة.

في وقت لاحق من ذلك المساء — لا أتذكر الآن كم كان الوقت متأخرًا، لكنه كان بعد أن نامت — خرجت لأدخن سيجارة. لم أدخن منذ ما يقرب من عشرين عامًا، ليس منذ ذلك الحين عندما كنت في الجامعة، لكني شعرت بالرغبة في شراء علبة سجائر في وقت سابق من الأسبوع، بينما كنا نجلس في محل المعجنات. لقد باعوا، من بين أشياء أخرى، جيتان وجولواز الفرنسية خلف المنضدة. قبل مغادرتنا ذلك اليوم، كنت قد اشتريت علبة سجائر جولواز بينما كانت ابنتي في الحمام، وكنت أخبئها في جيب معطفي منذ ذلك الحين.

الآن، بينما كنت أقف في الشارع في هواء الخريف البارد، شعرت أنه الوقت المناسب لإخراجها وإشعالها.

في الشارع الذي كنت فيه، استطعت أن أرى أن واجهة المتجر الوحيدة التي ما زالت الأضواء مضاءة هي متجر المعجنات، ورصيفه مضاء بوهج خافت من النافذة الأمامية، وبعد لحظة لاحظت فتح الباب ورأيت الرجل الذي يعمل هناك. يظهر زوج إلويز. لقد خرج مثلي لتدخين سيجارة، وعندما لاحظ وجودي، أومأ برأسه ولوّح بيده الخالية، ثم انحنى ليشعل سيجارته بولاعته.

ولفترة من الوقت وقفنا هناك، نحن الاثنان، ندخن سجائرنا في صمت، ونرتجف قليلاً من النسيم، نوع من اللحظة المشتركة، على الرغم من أنه لم يُقال أي شيء بالفعل.

وفي غضون ساعات قليلة كنت أستيقظ من حلم مزعج وأحاول الاتصال بزوجتي مرة أخرى، ثلاث أو أربع مرات، على الرغم من أنني كنت متأكدًا من أن هاتفها مغلق وكنت متأكدًا من أنها ربما لن ترد على أية حال.خلال الأيام القليلة التالية، كنت سأندم على الاتصال بي، تمامًا كما سأندم في النهاية على الرسائل التي تركتها عندما لم ترد، والأشياء التي قلتها لأمها، وكيف كلما دفعتها أكثر، بدا الأمر أبعد من ذلك.لكن عندما وقفت في الخارج، في هواء الخريف المنعش، والضوء الناعم الترحيبي للمخبز الذي ألقى المظلات فوق واجهات المتاجر، وأضواء الشوارع، وحتى صورة الخباز نفسه، شعرت بالأمل والسلام بشكل غريب.

أخذ الخباز نفسًا أخيرًا من سيجارته ثم لوح لي. أومأت برأسي ورجعت إلى الوراء تحت مظلة المبنى الذي أسكن فيه، أراقبه وهو ينظر مرة أخرى إلى الشارع، ثم إليّ.

قال:

- بون نيت/ Bon nuit .

قلت:

- ليلة سعيدة.

وعندئذ استدار وقد انحنت كتفاه وعيناه إلى الأسفل وتسلل إلى المتجر ثم اختفى.

(النهاية)

المؤلف: أندرو بورتر/ Andrew Porter: كاتب قصة أمريكي ،تخرج من ورشة عمل الكتاب في آيوا، وحصل على جائزة فلانري أوكونور للرواية القصيرة، وجائزة جلينا لوشي برايري شونر، وجائزة بوشكارت. يعيش بورتر في سان أنطونيو، حيث يعمل أستاذًا مشاركًا للغة الإنجليزية ومدير برنامج الكتابة الإبداعية في جامعة ترينيتي.

 

(للأطفال)

قصة : كوزالى مانيكافيل

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كانت كنصاري ابنة ملك قوي، كانت تريد دائمًا أن تكون أن مزارعة، على الرغم أنها كانت أميرة. أثار هذا غضب والدها، وعندما كبرت أمرها والدها الملك بمغادرة القصر، قال لها فى غضب:

- أريدك أن تختبرى قدر صعوبة الحياة خارج هذا القصر،وعندها فقط سوف تعودين إلى رشدك.

لهذا حملت كنصاري البذور التي جمعتها خلال طفولتها وذهبت لتعيش في الغابة.

قامت ببناء كوخ صغير وبدأت في زرع البذور في الحقل المجاور.لقد كان عملاً شاقًا، لكن كنصاري تلقت المساعدة من أصدقائها الثلاثة الجدد: قطة وببغاء وعنكبوت.

القطة تصطاد الفئران في الحقل. واعتنى العنكبوت بالكوخ. وطار الببغاء في جميع أنحاء المملكة وعاد بآخر الأخبار. أصبحوا جميعًا أصدقاء حميمين وعاشوا معًا فى سعادة.

لم يمض وقت طويل قبل أن يتحدث الجميع في المملكة عن مزرعة كنصارى المورقة. أثار هذا غضب الملك وذهب إلى إندرا، ملكة الساحرات.

طلب الملك من إندرا مساعدته،لأنه أراد أن يعلم ابنته درسًا، قالت إندرا:

- اترك الأمر لي، سوف أتسبب في جفاف المزرعة وسوف تجف جميع المحاصيل وتموت.

سمع الببغاء هذا الحوار وسرعان ما رواه لكنصاري.

عند ذلك  نقلت كنصارى وأصدقاؤها محاصيلهم إلى مجرى نهر رطب. وعندما حدث الجفاف، جفت جميع المحاصيل في المملكة، لكن محاصيل كنصاري بقيت نضرة على قيد الحياة.

رأت إندرا هذا وخدشت رأسها. وقالت :سأرسل فيضانًا. إن هذا يجب أن يوقف كنصاري. ولكن مرة أخرى، سمع الببغاء ما قالته إندرا.

هذه المرة قامت كنصاري مع أصدقائها بزراعة محاصيلهم على منحدر تل، وعندما جاء الطوفان أغرق جميع المحاصيل في المملكة. وكانت محاصيل كنصارى هي الوحيدة التي نجت، لأن المياه الزائدة تدفقت ببساطة إلى أسفل التل.

سأرسل مئات الفئران! قررت إندرا. لكن الببغاء أخبر القطة بخطة إندرا. "رائع!" هرهرت القطة. "سأتصل بأصدقائي من القطط من أجل وليمة!" سرعان ما أكلت القطط كل فأر في الحقل.

حتى الآن، وصلت إندرا إلى أقصى حدود ذكائها، قالت :  سأرسل الطيور! لن تستطيع كنصارى تستطيع إنقاذ محاصيلها من الطيور  !

لكن العنكبوت دعا أصدقاءها من العناكب، وقاموا بنسج شبكات لزجة فوق المحاصيل. عندما هاجمت الطيور المحاصيل، علقت فى الشبكات اللزجة اللاصقة. حفظت المحاصيل مرة أخرى.

حتى الآن، كان لدى الملك مشاكل أكبر. دمر الجفاف والفيضان جميع المحاصيل في المملكة. ذهب الملك لإندرا للحصول على المساعدة. قالت إندرا:

- أنت لست بحاجة إلى مساعدتي؛ يمكن لابنتك كنصارى أن تطعم شعبك بالفعل!

كان الناس يتضورون جوعا.

أخذت إندرا  الملك إلى الغابة. وهناك رأى كنصاري و معها أصدقاؤها يوزعون أكياسا من الحبوب على الجميع.

شعر الملك بالخجل والفخر بابنته. الأمور أكبر من مجرد العيش في قصر.

قالت إندرا:

-  هذا الكوخ أكثر نبلا من قصرك. ألا توافق؟

استسمح الملك ابنته وطلب منها أن تعود إلى القصر.

سامحت والدها لكنها لم تعد إلى القصر. مكثت في كوخها بجانب حقولها، لتعيش بسعادة مع أصدقائها.

فيما بعد أصبحت كنصارى تُعرف باسم الأميرة المزارعة.

(تمت)

***

.......................

المؤلفة: كوازلى مانيكافيل/ Kuzhali manickavel. كاتبة هندية يكتب بالإنجليزية. ولدت في وينيبيغ، مانيتوبا، كندا وانتقلت إلى تشيدامبارام، تاميل نادو، الهند عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها. تعيش حاليًا في بنغالورو، كارناتاكا.

 

قصة: لويس نيجرون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

استغلت شارون الوقت الذي كنا نغسل فيه الأطباق لتخبرني أنها كانت تفكر في اليوم الذي سيرحل فيه ويلي حبيبي.

– لا أستطيع التوقف عن التفكير فيه يا نيستو. أراه دائمًا محبطًا للغاية، ويزداد سوءًا، كما لو أنه شعر بالفعل أنه سيرحل عنا قريبًا.

إنها حقيقة. لقد شعر بذلك منذ ذلك المساء، وقد استعاد النتائج ووضعها في جيب بنطاله، وتقبل حقيقته على الفور. التقيت به في تلك الليلة بالذات، في حفلة عيد ميلاد في ميرامار. عندما تم تقديمنا حاولت أن أبدأ محادثة معه ولكن بعد بضع دقائق بدا يشعر بالملل؛ اعتذر وذهب للتحدث مع بعض الفتيات. ثم تجاهلني طوال الليل. وكان أشقر، ذرعان قويان وصدر عريض. الصبي الأبيض (كم كنت أعشق الأولاد البيض وما زلت أعشقهم). فعلت ما بوسعي لجذب انتباهه؛ فضحكت بصوت عالٍ، وتحدثت بصوت عالٍ، حتى أنني مررت بالمقبلات بين الضيوف، وكل ما فعله هو النظر إلى الطبق وهز رأسه لا. في لحظة ما جلست وحدي وابتسمت بوجه حزين لأرى إن كان سيشفق علي، لكن لا شيء. حتى جاء وقت الرحيل وقلت إنني سأغادر، حيث وصلت آخر حافلة في الساعة 11:00 مساءً. قال حينها:

-  في أي اتجاه أنت ذاهبة؟

- بارادا 20.

- إذن سوف آخذك.

وعندما نزلنا بالمصعد أخبرني أن النتيجة إيجابية. قال ذلك وكأنه يلمح إلى أن هذا هو سبب تجاهله لي خلال الحفل. فكرت مرتين ولكن بعد ذلك قلت له أن هذه ليست مشكلة.

وأضاف وهو يربت على جيبه الجانبي:

- لقد اكتشفت ذلك اليوم للتو .

وفهمت من تلك الإشارة أن الورقة التي تحتوي على النتائج كانت هناك.

- ماذا كنت تنوي القيام به؟

قال لي:

- أخرج بك لتناول العشاء .

لقد بقينا معًا منذ تلك الليلة. سنتان وثلاثة أشهر وأحد عشر يوما. يتهمني ويلي بأنني مبتذلة لأنني أبالغ في المواعدة. يقول إنني أشبه كثيرا جدار أخته شارون التي تعيش معنا في سانتا ريتا.

كان قلق شارون متعلقاً بحقيقة أن ويلي خطر بباله أننا يجب أن نقيم حفلة ليلة رأس السنة لنقول وداعاً لعام 1989. لقد أراد عشاءً لذيذاً ونبيذاً جيداً. لقد أمضى أيامًا يطلب مني تسجيلات لألتقطها في بارادا 15. ولم أمانع في الذهاب. قبل أن أكون مع ويلي، كنت أعيش بالقرب من ساجرادو، حيث درست علم الأحياء، ولا أعرف حتى السبب. شعرت بأنني في منزلي في هذا الحي. في ريو بيدراس شعرت بالخوف. سوق المزارعين الذي أحبته شارون كثيراً أرعبني. الكثير من المجانين في الشوارع، الكثير من متاجر المجوهرات، الكثير من مكبرات الصوت تكرر نفس الشيء مرارًا وتكرارًا. فقط في منزل ويلي شعرت بالراحة.

قال ويلي مجددًا:

- أريد زهورًا: زنابق الكالا له، والغاردينيا لشارون، والتوليب لي. أحضري شموعًا زرقاء ليمايا، فأنا طفلها، مثلك أنت وشارون أيضًا.

كنا جميعًا من برج الحوت. قال ويلي إن علامته الصاعدة هي برج الأسد، ولهذا السبب كان هو رب الأسرة. كان مولدي من برج الثور، ولذلك كنت عنيدًا، وكانت شارون من برج الحوت أيضًا، ولهذا كانت كارثة تامة. قامت شارون بتدوين القائمة التي أملاها ويلي بالطبع من سريره.

كان كل شيء جاهزًا لحفلة ليلة رأس السنة. كانت هناك ليلتان باقيتان. أرسلني ويلي إلى محل تيلفيديو، حيث قامت نورما، الفتاة التي كانت تنتظره دائمًا عندما كان لا يزال قادرًا على الذهاب، بتجهيز  الأفلام المؤجرة التي طلبها عبر الهاتف. كان هناك اثنان منها: ميلودراما مكسيكية لشارون ومسرحية موسيقية لي، صوت الموسيقى، ذلك هو فيلمي المفضل على الإطلاق.  بالإضافة إلى  قصة الحب - التي كرهها ويلي لأنها كانت مبتذلة للغاية.

ولهذا السبب شاركت شارون قلقها معي:

- إنه لطيف للغاية يا نيستو، وأنت تعرفين أكثر من أي شخص آخر كيف يحب أن يفعل الأشياء بطريقته. كل هذا غريب جدا. ويلي ذاهب يا نستيتو. "لا تتركني، ابق هنا، لأنني سأموت قريبًا أيضًا وسأترك لك كل شيء"، قالت وهي تدرك تمامًا أن ما كانت تعرضه علي كان كثيرًا، لكنه كان عرضًا صادقًا. "أنت شابة ويمكنك أن تبدأى حياتك مرة أخرى عندما يرحل ويلي، كما تعلمين. وإذا كان لديك صديق، فلا بأس بذلك أيضًا.

كنا في الفناء الذي أطلق عليه شارون وويلي اسم "الحديقة"، كما في الأفلام، مما يدل على انتمائهما إلى عائلة من الأكاديميين. وكان أجدادهما وجداتهما يدرسون في الجامعة. أتيحت لوالديهما فرصة الدراسة في إسبانيا وعادا للتدريس في حرم ريو بيدراس الجامعي. ولم يسبق لشارون أن قامت بالتدريس قط، بل عملت لسنوات كمساعدة لأساتذة زائرين.

كانت تتقن أربع لغات، إلى جانب الإسبرانتو، تلك اللغة المشتركة التي حلم بها بولندي عجوز، والتي تبرأ منها ويلي باعتبارها اختراعًا لا معنى له للكلمات التي لا يتردد صداها مع أي تجربة حية على الإطلاق. ذهب ويلي إلى كولومبيا وعاد حاملاً درجة الدكتوراه في تاريخ الفن، مع تخصص في دراسات السينما. كان اسمهما الأخير أسطوريًا في الجامعة، ولا يقل أهمية عن برج الجرس نفسه. لقد عاشا في سانتا ريتا منذ بنائها، قبل وقت طويل من تقسيمها إلى أكواخ لغرض وحيد هو كسب المال.

كان للمسكن أسقف عالية وثلاثة حمامات وأربع غرف نوم ومرآب تختبئ فيه شارون لرؤية حبيبها منذ أكثر من عشرين عامًا.

كان ويلي يتساءل دائمًا:

- لا أعرف لماذا يبقيان الأمر سرًا. لا أعرف لماذا لم تتزوجه عندما توفي بابا، أو لماذا استقبلته هناك.

كانت عشرون سنة فترة طويلة بالنسبة لفتاة مثلي كانت بالكاد في الثالثة والعشرين من عمرها. لقد كان وقتا طويلا لأي شخص.

كان من السهل معرفة الليالي التي كان الموعد فيها مع الحبيب على وشك أن يتم في المرآب. كانت شارون تتحول فجأة، وتتصرف بعصبية، وتحاول عبثاً أن تخفي، ببعض الإشارات المنغمسة في ذاتها، قلقها من عدم حصولها بعد على ما تريد. حوالي الساعة التاسعة صباحًا، إذا كنا في الحديقة أو في غرفة ويلي، كانت تعتذر دائمًا بنفس العبارة:

- لن أكون معكما الليلة .

يقول ويلي بنبرة ساخرة مقلدًا صوت أحد نجوم السينما:

- إنها ترتكب الخطيئة.

من المرآب، كان بإمكانك سماع الصوت الخافت لمحطة الراديو التي كانت تبث فقط المويسقى الخفيفة. لاحقاً، عندما يغادر الزائر، تجلس شارون في الحديقة وتدخن، سيجارة بثوب أبيض يبدو فضياً في ضوء الليل المتسلل إلى الفناء. غادرت للانضمام إليها. ابتسمت لي.

قالت وهي تنظر إلى السيجارة:

- إنها مجرد خطيئة صغيرة.

دعتني للتجول في الحديقة وتعمدت أن نسير بالقرب من المرآب. بمجرد وصولي إلى هناك، كذبت وتظاهرت بأنني لويت كاحلي واستندت إلى جدار المرآب.

قلت لها كما في فيلم.:

- أنا أتألم، من فضلك، شارون، هل يمكنك الذهاب إلى المرآب وإحضار شيء يمكنني الاعتماد عليه مثل العكاز .

في تلك اللحظة سمعنا صوت ويلي ينادينا من غرفته في الجزء الخلفي من المنزل. شعرت بالخوف وتظاهرت بالتعافي بسرعة كما في الفيلم. قدمت لي شارون ذراعها لأتكئ عليها وقالت لي:

- لا تذهبى أبدًا إلى هذا المرآب. حياتك ستكون في خطر.

ولم يكن تحذيرها مبتذلاً، مثل تحذير أختي "سأقتلك، اللعنة عليك". كان الخطر شيئًا آخر يتجاوزها.

قالت بصوتها المتعجرف:

- نيستيتو. سأقول لك سرا.

كان قلبي ينبض بشكل أسرع، متوقعًا متعة سماع ما ستقوله.

- أنا ضحية عملية اختطاف. على مدار العشرين عامًا الماضية، أجبرتني فرصة كبيرة في العالم السفلي على مقابلته في ذلك المرآب. "إنه من المافيا".

اعترفت بذلك وعينيها مفتوحتان على اتساعهما حتى أرى على وجهها مدى أهمية الأمر.

سألت، ومن الواضح أنه  شىء لا مصدق:

- اختطاف؟ لمدة عشرين عامًا؟

- نعم، على الرغم من أنك لا تصدقيني. في إحدى الليالي منذ عشرين عامًا، كنت له دون أن أرغب في ذلك. وأقول "دون أن أرغب في ذلك" لأنني لم أكن أنا حقًا.

- كان وسيمًا، مثل سيدني بواتييه، الممثل الأسود في الأفلام. توأم. في البداية خلطت بين الاثنين. في إحدى الليالي جاء إلى هنا وبدأنا نتحدث. فقلت له بعد فترة لنذهب إلى الجراج ومن محض الحماقة استسلمت له. من الواضح أنني أخبرته أن هذه كانت المرة الأخيرة، لكنه هدد بإخبار بابا بكل شيء وطلب يدي للزواج. م يكن لدي أي خيار سوى القبول عندما أخبرني أنه عضو في مافيا الهامبا. على الرغم من أنه ليس صينيًا، فهو من هايتي، لكنه يعرف اللغة الصينية. يعلمني إياها. سأتعلمها جيدًا حتى نتمكن أنا وأنت من التحدث دون أن يعرف ويلي ما نقوله. نيستي، لا تقولى كلمة واحدة من هذا لأي شخص. حياتنا في خطر.

لقد صدمت. ربما هذه هي الطريقة التي حاولت بها شرح واقعها لي. شعرت بالسوء بسبب طيشي. ربما كنت قريبًة جدًا من فضحها، فقررت هي، بتطورها المميز، أن تأخذ زمام الأمور وتكشف نفسها. بطريقتها الخاصة بالطبع.

نادى علينا  ويلي مرة أخرى. ذهبنا إليه.

قالت لي بلهجة مقنعة:

- سأخبرك بالمزيد لاحقًا. أنا أحبك كثيرًا في اللغة الصينية تعني "تشون تشون" أو "تشون تشون". شيء من هذا القبيل .

عندما ساءت حالة ويلي، حولنا ما كان في السابق غرفة المعيشة - حيث كان هناك بيانو استخدمته شارون، بحسب ويلي، في مذبحة شوبان المسكين- إلى غرفة وقد قمنا بتجهيزها لتجنب صعود السلالم: وضعنا السرير في مواجهة النافذة الكبيرة المطلة على الحديقة، حيث يمكنه رؤية نباتات الجهنمية. كانت الغرفة مليئة بالكتب. كان ويلي قارئًا نهمًا. لقد قرأ هيسه بنفس الطريقة التي قرأ بها إيمي تان لم يسمح لي بأخذها إلى متاجر بيع الكتب المستعملة في بونس دي ليون لبيعها وبالتالي شراء الكتب الأخرى الجديدة التي يريدها. كان هناك يرتدي نظارته ليقرأ، وفي يديه كتاب.

كان وجهه عندما التقيته منسوخا في وجه جديد لم أتعرف عليه إلا من خلال إيماءاته. كان لا يزال يتصرف مثل الكائن الجميل الذي كان عليه. صرخ في وجه أخته:

- شارون، اذهب إلى الصالون سوف يقوم كيكى بتصفيف شعرك حتى تتمكنى من الاحتفال بليلة رأس السنة.

وحاولت شارون الاحتجاج لكن ويلي أصر.

- دعيهم يجعلونك تبدين مثل ديانا

شارون، وكأنما بالسحر، انفعلت بالفكرة وخرجت من الغرفة قائلة:

- أأنا، مثل السيدة ديانا؟ هذا جنون.

كما لو أن الجنون هو على وجه التحديد أجمل شيء في العالم.

استلقيت بجانب ويلي. كان قد أخذ حماماً مؤخراً. لقد تغير معي منذ أن أصبح طريح الفراش. لقد تجاهلني لعدة أشهر كما لو كان في الحفلة التي التقينا فيها. لم أكن أنا، كنت جزءا من ثنائي مع شارون. "أنتما هذا، يا رفاق ذلك." نظرت عن كثب إلى جسده ووضعت يدي على صدره. كان إبطيه أرضًا طرية للزهور الصغيرة. لقد عانقته بلطف. شعرت أن عظامه هشة. الجسم، المضيف. بستان يتغذى بالعناصر الغذائية الغريبة. بحثت عن وجهه، وقبلت القروح الجافة، وأزلت رمشًا كان يستقر على خده. نظرت في عينيه ووجدت أخيرًا الرغبة بعد ثمانية أشهر وستة عشر يومًا.

أحرك جسده بحرص حتى أتمكن من وضع ذراعي حول ظهره. بدأ فمه، الجاف مثل ورق الصنفرة، يقبلني بإيقاع متناغم مع شفتي المتلهفة إلى فمه. كانت ذراعاه النحيلتان مثل أغصان شجيرة ضعيفة تحاول أن تعانقني بقوة. كانت تفوح منه رائحة الأرض الطازجة. فركت أنفي على صدره اللزج بسبب البقع. لقد ضغط على جلدي وكأنه لا يسقط، لكن شوقه عضده. بدت الحفاضات التي تستخدم لمرة واحدة، الملتصقة بنا، وكأنها حفيف أوراق الشجر الجافة. نظرنا لبعضنا البعض. واصلنا الصمت، واثقين من أنفسنا، آمنين.

بقيت معه في السرير. تذكرت المرة الأولى التي أتيت فيها إلى منزله، كنا نحن الاثنان في الحديقة. أشعل العشب وبدأنا بالتدخين. أذهلتني فصاحته، وهو يتحدث عن الفلاسفة والأدباء وكأنه يعرفهم، بغطرسته الطبيعية المستحقة. وبعد ذلك، كان عاريًا في السرير، ومعه ميدالية صغيرة للعذراء حول عنقه. وأنفاسه ثقيلة بالماريجوانا.

نظر إلى سرواله المعلق فوق الكرسي وقال بابتسامة:

- يجب أن أبكي، ومع ذلك، أشعر أنني بخير. هل تريدين أن ترى كم أشعر أنني بحالة جيدة؟  سألني وهو يضع يدي على قضيبه المنتصب. بدأت السماء تمطر. لقد لاحظت أنه كان يشعر بالقشعريرة فغطيته ببطانية.

-  تقول شارون أنك ستموت بسبب الحفلة .

قال بجدية، كما تفعل أخته:

- سأطلب منك شيئًا يا نيستي . اعتني بشارون.

ثم أكد:

- إنها تريد أن تترك لك المنزل وتقول إنها ستوفر لك شقة".أتعلمين ؟ جميع أفراد عائلتي، جميعهم على الإطلاق، ولدوا تحت علامة برج الحوت.

شاهدنا المطر يتساقط على نباتات الجهنمية. ثم غرقنا فى النوم .

عندما استيقظت ذهبت إلى حمامي وأخذت دشًا. لقد أحببت هذا الشعور بالأمان الذي شعرت به بعد ممارسة الحب مع ويلي.جففت نفسى ودخنت سيجارة مخدرة .

فكرت في قصة شارون وابتسمت معتقدة أن هؤلاء الأشخاص هم عائلتي الحقيقية وأن هذه اللحظة من حياتي ستنتهي مع ويلي. كل شيء كان على وشك التغيير. بعد ذلك، مع النشوة، خطرت في بالي فكرة أن ويلي قد مات. أنه كان ميتا في السرير. تخيلت أن الشرطة تطرح علي الأسئلة المطلوبة وأنا مشتتة وغير متماسكة. خرجت من الحمام بالمنشفة وتوجهت مباشرة إلى الغرفة. كان ويلي واقفا. بدا قويا وفى صحة جيدة.

فنظر إلي وقال:

- إن مؤخرتك هذه تصنع العجائب.

لقد رحبنا بشارون في الحديقة. كانت مبتهجة وتبتسم ابتسامات غزلية وهي تطوح شعرها الممشط حديثًا بخصلات شقراء.

ابتهج ويلي قائلاً:

- تبدين رائعة للغاية .

وفجأة خرجت من نفسها ورأت أن شقيقها، الذي كان طريح الفراش لعدة أشهر، كان يجلس في الحديقة الصغيرة يتحدث معها.

-  ويلي ماذا تفعل هنا ؟ نستيتو، ماذا يفعل ويلي بالخارج هنا؟

لقد أشرت إلى أنها يجب أن تتركه وقد فهمت.

انتصبت كجندي ونظرت إلى أخيها وقالت:

- مهما كان ما تقوله، وإذا أردت، سأفتح لك زجاجة من نبيذ بابا، لأنها أمسية جميلة والقليل من النبيذ لا يسبب أي ضرر.

ارتجفت عندما قدمت النبيذ. كانت برج الحوت: عرفت فيها تلك القدرة على التعامل مع المواقف الصعبة والقضايا الخاسرة. كنا نشرب دون أن نهتف: بالنسبة لهم، كان تبادل النخب بمثابة إضاعة للحظة حقيقية من الرفقة، حيث كان النخب دائمًا يفتقر إلى الخيال.

انتهى بنا الأمر في غرفة ويلي، نحن الثلاثة  ممدين في سريره، نشاهد صوت الموسيقى. سمعت أنفاس ويلي تخفت مرة أخرى، وهو في سلام مع واقعه الحقيقي. أحسست بضيق في صدري وكأن كلبًا يعضني هناك. في الليالي السابقة، عندما كان جسده يضعف ومع ذلك يستمر في تقوس تشنجاته، ويرمى ما لم يعد لديه، ومع ذلك، فإن حمله بين ذراعي، والاتكاء على ضعفه، كان أمرًا مبهجًا. إنها متعة حقيقية أن يكون لديك مثل هذا المخلوق الكريم في السرير، فهو حساس وجريء للغاية. رائع جدًا، كما تقول أخته. أردت أن آخذه إلى السينما لمشاهدة فيلمين متتاليين كما اعتدنا أن نفعل في البداية.أردت أن آخذه إلى منزلي في أرويو حتى يتمكن من فهم سبب جنوني. حتى يعرف والداي أنه أستاذ، ومن عائلة ثرية. حتى نتمكن من الذهاب إلى غواياما إلى منزل الشاعر باليس ماتوس، وتناول الآيس كريم في صالة الآيس كريم الصينية، ومشاهدة فيلم في مسرح كاليمانو.

على شاشة التلفزيون، كانت عائلة فون تراب تودّعها بأغنية.

لقد ترك ويلي كل شيء جاهزًا لجنازته. سيتم حرق جثته وإلقاء رماده في حديقة منزله في ريو بيدراس، بالقرب من الجهنمية. لقد كان حفلًا هادئًا: الأصدقاء الذين قدمونا تلك الليلة، راهب بوذي اقترحه ويلي لجنازته ذات ليلة وهو يتعاطى الماريجوانا،  .وهو الأمر الذي أخذته شارون على محمل الجد؛ هي وأنا ورجل نبيل تم تقديمه لي كصديق قديم للعائلة.كان أسمر اللون، طويل القامة، وقويًا، وله ابتسامة تشبه ابتسامة سيدني بواتييه، وقدم لي تعازيه. لم يتمكن ويلي من رؤيته أو سماع نهاية القصة.

(تمت)

***

.........................

المؤلف: لويس نيجرون/  ولد لويس نيجرون في مدينة جواياما، بورتوريكو، عام 1970. درس الصحافة وكتب مراجعات سينمائية لكبرى الدوريات البورتوريكية بما في ذلك كلاريداد وإل بويتا. لقد عمل على نطاق واسع في مجتمع الفنون الكويرية في بورتوريكو، بما في ذلك دور مؤسس في Producciones Mano Santa، التي رعت الإنتاج الثقافي والفني على مدى السنوات العشر الماضية. شارك في تحرير Los Otros Cuerpos، وهي مختارات من الكتابة الكويرية من بورتوريكو والشتات البورتوريكي. يعيش في سانتورسي، بورتوريكو.

 

بقلم: مارغريت آتوود

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

اغنية الغراب

في الشمس الحارة، فوق الحقل

الذي تعفنت ثم يبست فيه الذرة،

تتجمعون وتتشاجرون.

ليس ثمة الكثير هنا من اجلك يا شعبي،

ولكن قد يكون

لو

لو

في زيي الأسود المتجهم

رفعت الراية

التي اعلنت الأمل

والتي لم تنجح

والتي لا يسمح لها.

الآن عليّ ان اواجه الملاك

الذي يقول "فوزوا،"

الذي يخبرني بأن الوّح بأية راية

سأتبعها

*

لأنك تتجاهلني،

يا شعبي الحائر، لقد خضعت

لنظريات كثيرة جدا

لرصاصات طائشة كثيرة جدا

عيونك  حصى، شكاكة،

في هذا المجال الصعب

انك لا تعير اهتماما الا لبلاغة البذرة

الثمرة المعِدة المرفق.

*

لديك قادة كثر

لديك حروب كثيرة،

كلها متبجحة وصغيرة،

انك لا تقاوم الا حين تتوق

لارتداء ملابسك

انك تنسى الجثث العاقلة...

*

اعلم انك تود ان يهبط

رب ويطعمك

ويعاقبك. ذلك المعطف

المعلق على عصي ليس حيا

ليس هناك ملائكة،

سوى ملائكة الجوع،

فطنة وطرية مثل البلعوم

تراقبك

يا شعبي، اصبحُ عيّابا نقّادا،

لقد احتلتم عليّ وسلبتموني أملي

وتركتموني وحيدا مع السياسة...

***

...................

مارغريت آتوود: شاعرة وروائية وناقدة كندية غزيرة الانتاج ومتعددة لاهتمامات من مواليد أوتاوا عام 1939 . نشرت ما يزيد على الخمس عشرة مجموعة شعرية نال معضمها جوائز مهمة، كما نالت روايتها (السفاك الأعمى) جائزة البوكر عام 2000. تحظى أعمالها بحفاوة نقدية وشعبية على حد سواء، وترجمت إلى عشرات اللغات. من عناوين مجموعاتها الشعرية (لعبة الدائرة)1964، (قصائد ذوات رأسين) 1978 و(الباب) 2007.

 

 

(قصة): جيتانجالي شري

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أثناء تبديل ملابسه، قال راجان لريتا، التي كانت تعد العشاء في المطبخ:

- عند دخولي المصعد، رأيت الدكتور بامناني يخرج من المصعد، ربما يكون هناك شخص مريض في المبنى.

وضعت ريتا الطعام الذي بين يديها على الطاولة ومسحت الأطباق بمنديل وقالت:

-  راتي مريضة، حتى أنها لم تذهب اليوم إلى العمل.

قال راجان وهو يضع اللقمة الأولى من الطعام في فمه:

- اليوم لم أتمكن من العمل في المكتب، بدا الأمر كما لو أنني لم أكن على ما يرام .

نظرت ريتا إلى راجان بنظرة فاحصة، ثم قالت أثناء تناول الطعام:

- الأربعاء إجازة، عليك أن  تجعل الطبيب يفحصك.

- ماذا يفعل الأطفال؟

-  يذاكرون دروسهم، الاختبار النهائي على وشك البدء.

واصل كلاهما تناول الطعام بصمت. كان ضجيج المدينة يتناقص تدريجياً. فقالت ريتا:

- ليس لدى الرب عدالة.

صُدم راجان من الداخل. بدأ ينظر إلى زوجته بعينين متسائلتين.

قالت ريتا:

- راتي امرأة جيدة جدًا، ولكن أي نوع من الأزواج كتب في مصيرها. كيف انتهى الأمر بالفتاة من عائلة ميسورة  إلى هذه الحال هنا؟ يقال أن زوجها يعود إلى المنزل وهو في حالة سكر كل يوم. هل تعلم أن راتب راتي زاد بعد الترقية؟

لم يستطع راجان التفكير في أية إجابة. واستمر في تناول الطعام بهدوء. كان صوت الابنة وهي تقرأ كتابًا يأتي من الغرفة الأخرى.

أضافت ريتا، وهي أخذ الأمر أبعد من ذلك:

- لقد أصبحت راتي الآن ضابطًا. لقد زاد راتبها بمقدار ألف.

كانت هناك بعض الجدية على وجه راجان، كما لو أنه سمع بعض الأخبار الخاصة.

- راتي المسكينة، تستيقظ في الصباح الباكر وتقوم بالأعمال المنزلية وتحضر أطفالها للمدرسة. بعد تقديم وجبة الإفطار للجميع، تقوم بإعداد الغداء وتعطيه لزوجها وتأخذه إلى المكتب بنفسها. بعد العمل طوال اليوم في المكتب، ثم تعمل مرة أخرى بعد العودة إلى المنزل.

كأن ألم المرأة مخفيًا في صوت ريتا.

لم يرد راجان.

ظل عقل راجان يبحث عن شيء ما داخل نفسه لبعض الوقت. ثم فجأة شعر بصدمة. بدأت العديد من المشاهد تظهر أمام عينيه مثل الفيلم. أول فكرة تتبادر إلى ذهن راجان كل صباح عندما يستيقظ متأخرًا هو أنه قد تفوته حافلته اليومية. يسرع في القيام بكل شيء، يتحقق من الساعة بشكل متكرر. يستخدم المرحاض بسرعة، يتحقق من الساعة مرة أخرى.فهو في عجلة من أمره، لا يكمل حتى وجبة الإفطار. في بعض الأحيان ينسى أن يغلق سحاب سرواله. في كثير من الأحيان يترك القلم على الطاولة. يقوم المرء أيضًا بتثبيت الحزام أثناء الدخول والخروج من المصعد. قدماه تجري ولا تسير في الطريق. إنه متفاجئ من سرعته. بعد الوصول إلى محطة الحافلات، يشعر بالارتياح لرؤية راتي واقفة في الطابور هناك. وجود راتي في الطابور يشير إلى أن حافلتها لم تصل بعد. يبدأ بالمشي ببطء. ويظن أن القلق وإزعاج نفسه أصبح عادته اليومية . لقد أصبح الاهتمام بالأشياء والأوهام عديمة الفائدة في ذهنه جزءًا من طبيعته. يفكر في الحافلة كما لو  أنها الهدف الأساسي لحياته.

قالت ريتا:

-  راج، لماذا جعل الله حياة النساء بائسة إلى هذا الحد؟ في هذا الزمن المتغير يقال أن كل شيء تغير، ولكن إلى أين تغير مصير المرأة؟

عاد راجان بعد غسل يديه ، وسأل وهو يمسح يديه بالمنشفة:

- هل بدأ السيد سجاناني يشرب بكثرة؟

قالت ريتا:

- سمعت أنه لا يهتم حتى بعمله الآن. لقد انهار العمل بأكمله. والآن أصبح المنزل يعتمد فقط على راتب الزوجة.

قال راجان بصوت جاف:

- لقد بدأ والد راتي هذه الشركة أيضًا.

تنهدت ريتا وقالت:

- ديك مائة أمل للوالدين وابنتك، قم بألف محاولة، ولكن فقط إذا كان الحظ في صالحك أيضًا.

تذكر راجان اليوم الذي كان فيه في المكتب. قال لريتا:

- أنا متعب  اليوم. لم أحب العمل في المكتب.

- اجلس بشكل مريح على الأريكة وشاهد التلفاز، ولكن حافظ على مستوى الصوت منخفضًا. يتشتت انتباه الأطفال أثناء المذاكرة . اسمح لى أن أرى راتى .

جلس راجان على الأريكة وبدأ بمشاهدة التلفاز. كان برنامج Chitrahaar الموسيقي مستمرًا. كان الأبطال والبطلات يرقصون ويقفزون على أغاني الفيلم. كانت الكواليس في الخلف تتغير مرارًا وتكرارًا. كانت البطلة ترقص أحيانًا مرتدية الساري، وأحيانًا مرتدية ساروار كورتا، وأحيانًا مرتدية الجينز والقميص. وكما هو الحال دائمًا، حتى اليوم، لم يتمكن هذا البرنامج من إمتاع راجان. لقد شعر أن عقله قد تحطم. بدا له أن الأشخاص الذين يرقصون على شاشة التلفزيون  ألعابا بلاستيكية تعمل بالبطارية وليسوا بشرًا. قام من مكانه وأطفأ التلفاز.

بدأ يفكر: كم هي سخيفة ومتعبة حياة الإنسان. يجب عليك القيام بنفس العمل كل يوم، دون أي غرض. الحياة أصبحت بلا معنى. "العيش كما لو أنه أصبح عادة." أثناء العمل في المكتب اليوم، كان جسده وروحه متعبين.

عند ذلك الوقت رجعت ريتا من البيت المجاور وقالت:

-  تأخرت عليك، لماذا أطفأت التلفاز؟

- ليس من الممتع مشاهدة هذا البرنامج .

- أنت تبدو متعبًا بعض الشيء اليوم. سأضع الأطفال في أسرتهم ثم أرتب سريري. خذ حبة أسبرين ونم، سوف تغفو.

وعندما وصلت بالقرب من الباب، نظرت ريتا إلى زوجها وقالت:

- كانت راتي تعاني من حمى شديدة للغاية ، ولكن حتى في الحمى كانت تبتسم.

عند رؤيته، تظهر ابتسامة صغيرة ولكن حنونة على وجه راتي، مثل قمر دوج الرقيق، مملوءة قليلا بالحزن، وقليلا بالسعادة. يعلم راجان أن هذه الابتسامة له وتظهر الابتسامة على وجهه دون علمه. ينسى كل متاعبه ومتاعب الصباح. وبينما هو جالس على مقعده في الحافلة و هي تواصل الجري مثل حصان معصوب العينين يشق طريقه عبر جيوش ساحة المعركة في المدينة، تتضخم تلك الابتسامة الصغيرة مثل البالون وتملأ قلبه بسعادة مجهولة. الدم المتدفق من قلبه ينتشر تلك الابتسامة في جميع أنحاء جسده. ينسى أن راتي تجلس أيضًا في مكان ما في نفس الحافلة. فقط تلك الابتسامة ترافقه وتستمر في غرس القوة والانتعاش في جسده مثل المنشط.

لم يتحدث هو وراتي مع بعضهما البعض أبدًا. كل ما يعرفانه هو أنهما جيران ويعيشان بالقرب من بعضهما البعض. تظل أرواحهما ترفرف حول بعضها البعض. راجان يشعر أنه لم يمت. الجلوس في الحافلة والبشر أيضا لم يموتو. المباني على جانبي الطريق ليست مجرد جدران. لديها قلوب نابضة في الداخل. ربما هذه الابتسامة الصغيرة لراتي تجعل حياتها التي لا معنى لها ذات معنى لفترة من الوقت. غالبًا ما تكون رحلات الحافلات في المدن الكبرى طويلة. في بعض الأحيان يبدو أن هذه الرحلة لا تكتمل لكن كل حافلة تتوقف عند نقطة ما. جميع الركاب ينزلون هناك. تصبح مجرد كشك فارغ. يقع مكتب راجان بالقرب من المحطة الأخيرة، بينما يقع مكتب راتي على مسافة أبعد قليلاً. كلاهما ينزلان في المحطة الأخيرة للحافلة ويضيعان وسط حشد من الناس. تلتقي عينا راجان عيني راتي قبل أن تتختفى . دون قصد تظهر ابتسامة على وجهه. وردا على ذلك، تظهر ابتسامة صغيرة على وجه راتي أيضا. كل هذا أصبح عادة لراجان. إنه يشعر أنه عندما تلتقي عيناه عيني راتي، فربما تكون راتي تنتظر نظرته أيضًا. ربما تشعر ريتا بالضياع قليلاً بسبب عدم حصولها على ابتسامته.

كانت ريتا تستعد لجعل الأطفال ينامون في الغرفة الأخرى وكان الأطفال يتجادلون فيما بينهم حول شيء ما. وفجأة فكر راجان أنه لم يشاهد ابتسامة راتي اليوم. هل كان هذا هو السبب في سوء مزاجه اليوم ؟ لم أشعر اليوم حتى برغبة في العمل في المكتب. كيف يمكن أن يكون هذا؟ لا توجد علاقة بيني وبين راتي. لم نحاول حتى التحدث مع بعضنا البعض أو الاقتراب. حتى لو أتيحت لنا الفرصة، فإننا لا نجلس أبدًا بالقرب من بعضنا البعض في الحافلة. نحن قريبان أو بعيدان عن بعضنا البعض مثل نجمين. سأل راجان نفسه: هل صحيح أن تلك الابتسامة تنعشني طوال اليوم؟ تأثيرها يبقى في طوال اليوم؟

وفي ذلك الوقت، دخلت ريتا الغرفة.قالت:

- لقد رتبت السرير.

نهض راجان ودلفا معا إلى غرفة النوم.

وعلى غير عادته، لم يشعل راجان مصباح الطاولة بمجرد جلوسه على السرير.

سألت ريتا بدهشة:

- ماذا، ألن تقرأ كتابًا اليوم؟

كان من عادة راجان قراءة كتاب أو مجلة لبعض الوقت قبل النوم.

قال وهو يلقى برأسه على الوسادة:

- لا

بعد أن أطفأت الضوء واستلقت بجواره في الظلام، قالت:

- قال الطبيب لراتي ألا تذهب للعمل هذا الأسبوع.

بدأ راجان ينظر نحو السقف في الظلام وأخذ يفكر كيف سيتمكن من العمل في المكتب دون رؤية ابتسامة راتي  طوال هذا الأسبوع؟

(تمت)

***

......................

الكاتبة: جيتانجالي شري / Geetanjali Shreeجيتانجالي شري (من مواليد 12 يونيو 1957 -) هي كاتبة قصة قصيرة  وروائية هندية معروفة. ولدت في منطقة ماينبوري في ولاية أوتار براديش، تلقت جيتانجالي تعليمها الابتدائي في مدن مختلفة من ولاية أوتار براديش. تخرجت لاحقًا من كلية ليدي شري رام في دلهي وحصلت على درجة الماجستير في التاريخ من جامعة جواهر لال نهرو.وواصلت دراستها الاكاديمية فحصلت على الدكتوراه . لها خمس مجموعات قصصية وخمس روايات ، حصلت عام 2022 على جائزة البوكور الدولية عن رواية ضريح الرمل ، وكانت بذلك او روائية هندية تحصل على هذه الجائزة المرموقة .

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

ذات مرة، كان هناك بارون عظيم في شمال البلاد وكان ساحرًا عظيمًا يعرف كل ما سيحدث. لذلك، في أحد الأيام، عندما كان ابنه الصغير في الرابعة من عمره، نظر في كتاب القدر ليرى ما سيحدث له. ومما أثار استياءه أنه وجد أن ابنه سيتزوج من خادمة متواضعة ولدت للتو في منزل تحت ظل يورك مينستر. الآن عرف البارون أن والد الفتاة الصغيرة كان فقيرًا جدًا، وكان لديه خمسة أطفال بالفعل. لذلك طلب حصانه، وركب إلى يورك؛ ومرت ببيت أبيها فشاهده جالسا عند الباب كئيبا حزينا. فنزل وأقبل عليه فقال: ما لك يا رجل صالح؟ فقال الرجل: "حسنًا يا حضرة القاضي، الحقيقة هي أن لدي خمسة أطفال بالفعل، والآن يأتي السادس، فتاة صغيرة، ومن أين أحصل على الخبز لملء أفواههم، هذا أكثر مما أستطيع قوله".

قال البارون:

- لا تحزن يا رجل. إذا كانت هذه هي مشكلتك، يمكنني مساعدتك. سوف آخذ الصغيرة الأخيرة منك، ولن تضطر إلى القلق بشأنها.

قال الرجل:

- شكرًا لك سيدي.

و دخل على الفور وأخرج الفتاة وأعطاها للبارون، فركب الأخير جواده وركب معها. وعندما وصل إلى ضفة نهر أوز، ألقى المخلوق الصغير في النهر وانطلق إلى قلعته.

لكن الفتاة الصغيرة لم تغرق؛ أبقتها ملابسها مرتفعة لبعض الوقت، وطفت، وطفت، حتى ألقيت على الشاطئ أمام كوخ الصيادين. وهناك وجدها أحد الصيادين، وأشفق على الفتاة المسكينة وأخذها إلى منزله، وعاشت هناك حتى بلغت الخامسة عشرة من عمرها، وكانت فتاة لطيفة وجميلة.

وحدث ذات يوم أن البارون خرج للصيد مع بعض رفاقه على ضفاف نهر أوز، وتوقف عند كوخ الصياد ليشرب مشروبًا، فخرجت الفتاة لتعطيهم إياه. لاحظوا جميعًا جمالها، فقال أحدهم للبارون:  تستطيع قراءة الأقدار يا بارون، من ستتزوج، برأيك؟

قال البارون:

- أوه! هذا أمر سهل التخمين؛ تعالي هنا يا فتاة وأخبريني في أي يوم ولدتِ؟

قالت الفتاة:

- لا أعرف يا سيدي، لقد تم انتشالي هنا بعد أن أسقطني  أحدهم فى النهر منذ حوالي خمسة عشر عامًا.

عندها عرف البارون من هي، وعندما غادروا عاد وقال للفتاة: “اسمعي يا فتاة، سأجمع لك ثروتك. خذي هذه الرسالة إلى أخي في سكاربورو وسوف تستقرين مدى الحياة. وأخذت الفتاة الرسالة وقالت إنها ستذهب. والآن هذا ما كتبه في الرسالة:

أخي العزيز،

خذ حامله واقتله على الفور.

لك المودة،

ألبرت.

بعد فترة وجيزة، انطلقت الفتاة إلى سكاربورو، ونامت طوال الليل في نزل صغير. وفي تلك الليلة بالذات، اقتحمت عصابة من اللصوص النزل، وفتشوا الفتاة التي لم يكن معها مال، ولا تملك سوى الرسالة. ففتحوا هذا وقرأوه، وظنوا أنه بسبب العار. أخذ قائد اللصوص قلمًا وورقة وكتب هذه الرسالة:

أخي العزيز،

خذ الحامل وزوجها لابني على الفور.

لك  كل محبة،

ألبرت.

ثم أعطاها للفتاة، وأمرها بالرحيل. لذلك ذهبت إلى شقيق البارون في سكاربورو، وهو فارس نبيل كان يقيم معه ابن البارون. وعندما سلمت الرسالة لأخيه، أمر بتجهيز العرس في الحال، وتزوجا في ذلك اليوم.

بعد فترة وجيزة، جاء البارون نفسه إلى قلعة أخيه، وما كانت دهشته عندما اكتشف أن الشيء نفسه الذي تآمر ضده قد حدث. ولكن لم يكن ينبغي تأجيله بهذه الطريقة؛ وأخذ الفتاة للنزهة، كما قال، على طول المنحدرات. وعندما أمسكها بمفردها، أمسكها من ذراعيها، وكان على وشك يرميها فوق هذه المنحدرات . لكنها توسلت بشدة من أجل حياتها. قالت: "لم أفعل شيئًا. إذا تركتني فقط، سأفعل ما تريد. لن أراك أو أرى ابنك مرة أخرى حتى ترغب في ذلك. ثم خلع البارون خاتمه الذهبي وألقاه في البحر قائلاً:  لا تدعيني أرى وجهك حتى تريني ذلك الخاتم " .ثم تركها تذهب.

تجولت الفتاة المسكينة هنا وهناك، حتى وصلت أخيرًا إلى قلعة أحد النبلاء العظماء وطلبت أن تحصل على عمل؛ وجعلوها خادمة القلعة، لأنها كانت معتادة على مثل هذا العمل في كوخ الصياد.

الآن، في يوم من الأيام، من ترى يأتي إلى منزل النبيل، صاحب القلعة إن لم يكن البارون، وأخيه وابنه، زوجها؟ لم تكن تعرف ماذا تفعل. لكنهم اعتقدوا أنهم لن يروها في مطبخ القلعة. لذا عادت إلى عملها وهي تتنهد، وبدأت في تنظيف سمكة كبيرة ضخمة كان من المقرر غليها لتناول العشاء. وبينما كانت تنظفها، رأت شيئًا يلمع بداخلها، فماذا تعتقد أنها وجدت؟ كان هناك خاتم البارون، وهو نفس الخاتم الذي ألقاه فوق الجرف في سكاربورو. لقد كانت سعيدة برؤيتها، ربما تكون متأكدة . ثم قامت بطهي السمكة بأفضل طريقة ممكنة، ثم قدمتها.

حسنًا، عندما وصلت السمكة إلى المائدة، أحبها الضيوف كثيرًا لدرجة أنهم سألوا النبيل من طهيها. قال إنه لا يعرف، لكنه نادى على خدمه: "ها، أرسلوا الطباخ الذي طبخ تلك السمكة الجيدة". فنزلوا إلى المطبخ وأخبروا الفتاة أنها مطلوبة في الصالة. ثم اغتسلت ورتبت نفسها ووضعت خاتم البارون الذهبي في إبهامها وصعدت إلى القاعة.

عندما رأى الضيوف مثل هذه الطباخة الشابة والجميلة، فوجئوا. لكن البارون كان في حالة مزاجية سيئة للغاية وقفز كما لو كان يريد أن يمارس عليها بعض العنف. ثم اقتربت منه الفتاة، ويدها أمامها وعليها الخاتم؛ ووضعتها أمامه على الطاولة. ثم رأى البارون أخيرًا أنه لا يمكن لأحد أن يحارب القدر، فأجلسها وأعلن لجميع الحضور أنها الزوجة الحقيقية لابنه؛ وأعادها وابنها إلى قلعته. وقد عاشوا جميعًا في سعادة قدر الإمكان بعد ذلك.

(تمت)

 

ستكون الحيوانات دائمًا هناك من أجلها

بقلم: ساندرا سيسنيروس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

قامت السيدة ريفيرا بإطعام الحيوانات في الفناء بمجرد نهوضها. قامت السيدة ريفيرا بإطعام الحيوانات في الفناء بمجرد نهوضها. كانت حيواناتهh تصدر ضجيجًا رهيبًا، خاصة في الأيام التي كانت تريد فيها النوم كثيرًا، عندما كان ظهرها يؤلمها بشدة . خلال فصل الصيف، موسم الأمطار المسائي، كانت الحيوانات هي التي تسيء التصرف أكثر من غيرها، وفي تلك الأيام الممطرة تسيء عظامها أيضًا.

ادعى الجيران أن السيد والسيدة كان لديهما عدد كبير من الحيوانات كما لو كانا من مزرعة. والحيوانات ادعت نفس الشيء. ولم يكن هذا مجاملة من الناس، لكن الحيوانات كانت أكثر كرماً وتحضراً وكانت ترى الأمور بشكل مختلف.

كانت الحيوانات مجرد جزء واحد من قائمة طويلة من غرابة أطوار السيد والسيدة. الطريقة التي عاشا بها، على سبيل المثال، مع أثاث فقي في حين كان بإمكانهما بسهولة شراء شيء أفضل. المصابيح الموجودة في غرفهم، مصابيح قبيحة عارية تتدلى من أسلاك مغبرة. وقد تم طلاء الجدران الخارجية لمنزلهما باللون الأزرق النحاسى الفاقع، وهو طلاء غريب جدًا لدرجة أن جميع من في الحي عرفوا العنوان بمجرد القول "المنزل الأزرق".

بعد كل شيء، كان السيد فنانًا معروفًا في جميع أنحاء الجمهورية وخارجها. كان هناك سيرك من المعجبين يأتون ويذهبون طوال الوقت وهم يغنون باللغات الروسية والصينية والإنجليزية والفرنسية. في بعض الأحيان كان من الممكن سماع طلقات نارية، لأنه كان من المعروف في جميع أنحاء كويواكان أن السيد لا يحب شيئًا أفضل من إطلاق مسدسه في الهواء عندما يكون راضيًا بعد حفل.

ولم يكن ذلك كل شيء. أوه لا! لقد كانت حقيقة أن السيد والسيدة لم يكونا مؤمنين. لقد عاشا حياة غير أخلاقية. قام نجوم هوليود وزوجات المليونيرات وكذلك عشيقات السياسيين الأقوياء بالتقاط صورهم عارية أمام السيد. وهذا بعلم وموافقة السيدة الهمجية!

والأغرب من ذلك كله هو أن السيد وميسوس لم ينجبا أطفالًا على الرغم من أنهما كانا في منتصف العمر. كان هذا هو السبب الذي جعلهما قادرين على تدليل أنفسهما وتدليل أنفسهما بالحيوانات. أكثر مما يعتقد البعض صحيا.

تم إنقاذ بعض الحيوانات من الشوارع لأنها، في نظر السيد ريفيرا، كانت تشبه فخار الأولمك القديم. تم التخلي عن بعضهم على عتبة منازلهم، ببطون مترهلة، بعد أن قدموا الكثير من الهدايا للعالم. كان السيد والسيدة قد تزوجا ، ووقعت السيدة في حبها سرًا، أثناء الرحلات إلى الريف، حيث كانت تلتقطها وتساعدها في ركوب السيارة بنفسها دون أن ينظر زوجها؛ كان غيورًا. لقد أحببت هذه السيدة ريفيرا أكثر من غيرها، لأن عيينها كانتا مليئة بالحزن.

وكان من بين الحيوانات التي تعيش في المنزل ببغاء متقلب المزاج، عاطفي، يثور غضبًا، وينثر أكوابًا من البذور ويقلب الماء، ويسب بعدة لغات.

كان هناك الكلاب الستة عديمة الشعر التي تنتظر بفارغ الصبر نهوض السيدة قبل أن تبدأ يومها، تدفئ ظهرها، تشع حرارة مثل الشهب، وعندما تتحرك تنبه رؤوسها الذكية، وترفرف آذانها بهدوء مثل أجنحة الفراشة. تحية لها. دائما بفرح لا نهاية له.

القطط: كان هناك عدة أنواع، منها البرية والمروضة. واحد سمين مثل بوذا، وآخر أنيق مثل مصري منحوت، وآخر يشبه بساط الحمام القذر، وثالث يكرر طوال اليوم: "أنا، أنا، أنا، أنا".

كان هناك غزال صغير يتجول في المنزل مثل امرأة عمياء، يبتلع الهواء بأذنيه وأنفه، وهو مخلوق جميل ذو فراء فضي مرقط بالبرد. وكان هناك، في أوقات مختلفة، كثيرون آخرون، أنيقون وغير أنيقين، بعضهم مُحب وبعضهم غير مبالٍ، الذين تقاسموا إقامتهم مع اللورد والسيدة. القرود العاصفة، والرتيلاء العصبية، والإغوانا الخاملة، وأحيانًا، الأمر الأكثر إشكالية على الإطلاق، بساتين الفاكهة، المتغطرسة والمدللة مثل مومس الإمبراطور المفضلة.

تستهلك الحيوانات الكثير جدا من الطعام. لقد استحوذت على انتباه السيدة ريفيرا منذ اللحظة التي فتحت فيها عينيها. حتى قبل أن تفتح عينيها. كانت الكلاب تداعب وتدلك بطنها وعمودها الفقري. نامت على وسادتها المطرزة بخيوط الحرير: "الحب الأبدي". جابت التراب إلي سريرها، وشقت طريقها تحت البطانيات، وتجمعت في الزاوية خلف ركبتيها، وبطنها منتفخ، وباطن قدميها. أصرت وأصرت. وعندما أغلقت باب غرفة نومها، قامت بالخدش والركل والتوسل، ودمت الخشب بإخلاصها الملح، ونزعت الطلاء عن الأبواب، ضربت مقابض الأبواب وهزتها،وتعرجت ثم تهربت من مكانس الخدم، ثم ركعت خارج بابها مثل المجوس المتعبدين أمام المسيح المولود للتو.

وعندما كان بصحة جيدة، كانت السيدة تطبخ وجبات زوجها المفضلة وتحضرها له في سلة ملفوفة بمناشف الشاي المطرزة وزهور الجهنمية، وأحياناً الحلويات المغلفة بأوراق الموز. قالت قطعة القماش: "أنت سمائي". وكانت قد طرزتها بنفسها. وكانت الوجبة من صنع يديها أيضًا.

في بعض الأحيان، كانت السيدة ريفيرا تأخذ قلم رصاص أو فرشاة وتغامر برسم حياتها، لأنه كان الموضوع الذي تعرفه أكثر من غيرها. السيدة تحب أن تفعل الأشياء. تطريز. خياطة. الخبز. الحدائق. زهور مرتبة في سيراميك أواكساكان الأسود. الفاكهة توضع في الأهرامات كما في الأسواق. ألوان الجدران وألوان الأثاث، قامت بخلطها وطلائها بنفسها حتى تحصل على اللون المناسب للبرتقالي، ومانجو مانيلا، وأرجواني .

قال الناس:

- يا لها من متاعب! الكثير من العمل والعمل!

لكن العمل شيء لا ترغب في القيام به، والأشياء التي تستمتع بها ليست العمل بل أفضل لحظات اليوم. كانت السيدة ريفيرا تحب إعداد وجبات خاصة لزوجها، وتطلي جدران منزلهما، وتطلي أظافرها، وتمشط شعره بضفائر متقنة مزينة بالورود، وترتب المنزل بحيث يشعر زوجها بالسعادة عندما يرفع نظره عن الحساء، ليشعر في منزله.

وكانت هذه هديتها له. هسهس الناس أن هذا كان أكثر من اللازم. "إنه مدلل." "إنه ضفدع سمين." "إنه يطارد النساء دائمًا يا سيدي." لكن زوجته رأت عيوبه بوضوح شديد وأحبته على أية حال.

هكذا أعشقك، هكذا، أوه، كم أعشقك . وكأنه ابنها الصغير وليس زوجها.

لقد اعتاد أن يكون معشوقاً، وأن تنظر إليه كما تنظر إليها الحيوانات، بكل إخلاص وامتنان، كما لو كانت جميعها زهور عباد شمس تشع نوراً.

كان عليها أن تفعل هذا. وكان زوجها مشهورا.

"أوه، كم هو مزعج أن تكون مشهورًا"، قال السيد مازحًا في البداية، وبعد ذلك لأنه كان صحيحًا جدًا أن الشهرة تكلف الكثير.وبما أن السيدة ريفيرا لم تكن مشهورة، فقد كان لديها الوقت للتأكد من رعاية زوجها حتى يتمكن من مواصلة العمل. يغادر في الصباح الباكر ويصل إلى المنزل في وقت متأخر. في بعض الأحيان كان لا يعود إلى المنزل، بل كان ينام بملابس العمل، أيها المسكين. . ولهذا السبب لم تمانع السيدة ريفيرا في إحضار غيار ملابسه النظيفة ووجبة غداء ساخنة أعدتها بنفسها. ولم ترسل العبيد.لقد عمل بجد في رسم اللوحات الجدارية الطويلة من منزلهما الأزرق. أما هى فقدت ارتدت ملابسها لتكون هي أيضًا زهرةً، تشع نورًا.

لأنني أحبك، لا أستطيع أن أكون معك. أنت مثل كلب مسعور لا يمكنني رؤيته إلا من مسافة بعيدة. أنت تعضني وتؤذيني، على الرغم من أنك لا تقصد أن تؤذيني.

في بعض الأحيان كانت تحبس نفسها عنه، لكنها لا تستطيع أن تحبسه أبدًا،لأن هذا هو الحب. بقطع النظر عن مقدار اللدغات، فإننا نستمتع ونعجب بالندوب.

في بعض الأحيان كانت ميسوس تُطلي الطاولة، وفي أحيان أخرى كانت تدخن سيجارتها يربا مالا، وأحيانًا كانت تطبخ، وأحيانًا كانت تعقد ذراعيها وتجلس على درجة في الحديقة وتزفر وتفرك أذني كلبها المفضل، تشاماكيتو. وفي بعض الأحيان كانت تشرب التيكيلا وتسب وتتأكد من أنها تشتم مثل الرجال، وذلك لتقوية نفسها ومنع العالم من الاعتقاد بأنها هشة للغاية بسبب اعتلال صحتها.

"يا ابن الأم التي..." وينهي الببغاء العبارة.

عندما كانت ميسوس صغيرة، كانت ترتدي السراويل مثل زوجها وتساعده في عمله. لكنها الآن بعد أن مرضت، ظلت في المنزل أكثر فأكثر ولم تخرج إلا إلى الحديقة. إنها تقوم فقط بتحضير جزء من وجبات زوجها. ترسل الفتاة إلى السوق ولا تشتري الطعام بنفسها. لقد تعلمت الطهي من زوجته السابقة، لأنها كانت تعلم أنها إذا لم تفعل ذلك، فسوف يعود إلى هناك جائعًا لأكثر من مجرد تناول الطعام.

في الأيام التي لم تكن تشعر فيها بصحة كافية للنهوض، بقيت ميسوس في السرير، وجاء زوجها إلى غرفتها وجلس على حافة السرير. كان وزنه مألوفًا بالنسبة لها وكان جزءًا من حياتها مثل حديقته وعمله والطعام الذي يتناولانه معًا.

اليوم غادر السيد دون أن يجلس على حافة السرير. غالبًا لم يعد يدخل ويفعل وهي في كثير من الأحيان لم تلاحظ ذلك. استمرا في العيش مع بعضهما البعض وأرسلا حبهما لبعضهما البعض من خلال ما أحبوه بشكل مشترك. شريحة من البطيخ. الكلب سينور زولوتل. طبق من الأرز الأخضر المطهو على البخار.

في الأيام التي كانت فيها السماء نحاسية والغيوم تمر مسرعة مثل النساء في طريقهن إلى السوق، عندما بدأت الأمطار في فترة ما بعد الظهر بزخات خفيفة ثم انتهت بقوة لدرجة أنها ثنيت زنابق الكالا من سوقها، لم تشعر بالرغبة في العمل في أي شيء سوى النوم.

كانت ستبقى في غرفتها وتطلب القليل من المرق وتورتيلا الذرة ملفوفة بإحكام مثل الهافانا الكوبية، لكن الكلاب كانت تنتظرها لتمشي معهم. لم تكن السيدة ريفيرا في مزاج يسمح لها بالمشي. أكلت ما استطاعت ثم قامت بتمشيط شعرها، وظلت الكلاب تتقلب بينما كانت تتدحرج، وكانت تتأكد دائمًا من لمسها عندما تستريح مجددًا.

وعندما نهضت من السرير أخيرًا، قفزوا مثل البهلوانات، وداروا مثل الدراويش، مما جعلها تضحك. وعندما ضحكت، بدت وكأنها فتاة.

يمكن لميسوس ريفيرا أن تنظر إلى صورها عندما تزوجت من زوجها وتقول بأمانة تامة إنها في ذلك الوقت كانت مجرد فتاة. لكن الآن، على الرغم من أن شعرها كان قد بدأ للتو في التحول إلى اللون الفضي، وكانت أسنانها عبارة عن جذوع فاسدة، وكانت جميع أعضائها وعظامها تغلي وتتكسر وتؤلم، فقد كان بوسعها أن تعترف بأنها كانت تنزلق إلى التدهور.

سأل الزوار:

- كيف حالك؟

- حسنًا، مازلت هنا، أليس كذلك؟

لذلك كان.

الحقيقة هي أن السيد كان دائمًا غير أمين. ليس بمشاعره بل بقلبه. سيكون أول من يخبرك بمدى صدقه بشأن عدم أمانته. لقد كان يعاني من بلل الفراش بشكل مزمن؛ لم يستطع السيطرة على نفسه. سيكون دائمًا رطبًا في الفراش حتى لو لم يُعط قطرة للشرب. ولم تكن لديه الرغبة في التغلب على هذا الضعف. طفل كبير متضخم ينغمس في كل ما يراه، وعيناه أكبر من طائره الصغير.

وهكذا أحاطت السيدة ريفيرا نفسها بالحيوانات. فما هو أفضل من المخلوقات عندما يتعرض الإنسان للخيانة، وما أجمل رمز الولاء والصمود والحب الخالص. الحب النقي ثمالحب النقي. هذا ما قدمه له كل حيوان أليف، نقيًا ونظيفًا. الحب النقي والحب الوحيد. من منا لا يريد ذلك؟

- من يريد الحب؟

نادت السيدة بصوت عال؛ بدا الأمر كما لو أنها كانت تقدم الحلوى وليس الحب فحسب، لأن المخلوقات ظهرت من كل أركان المنزل والفناء.

كانت الغزالة الصغيرة تتعثر للأمام على البلاط الزلق، وتبرز خطمها اللطيف بخجل عبر المدخل كما لو كانت تطلب الإذن بالدخول. انطلقت العناكب الناعسة عبر الحديقة وكأنها فزعت من سبات لذيذ. أومأت بساتين الفاكهة المرقطة برؤوسها الرشيقة من السيقان الأنيقة بالموافقة. نزلت القطط من مخابئها السرية واقتربت بحذر وكأنها تسأل: «هل ترسل؟» هل أمرته؟ هزت الإغوانا، المختبئة خلف سياج من نبات الصبار، أعرافها التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ وأشرقت كل ألوان قوس قزح على لحمها. هزت القرود أطول الأشجار وأرسلت عاصفة ثلجية جميلة من غبار الروث.

قام الببغاء، الذي كان يتمتع بأقوى سمع في المنزل بأكمله، بمد رقبته المكسوة بالريش، كاشفًا عن لحم وردي مثل جوارب مصارع الثيران، ورفرف بجناحيه الرائعين، وتأرجح مثل الملاكم، وأصبحت مدارات عينيه السوداء أكبر، ثم أصغر، أكبر وأصغر، حتى صرخ أخيرًا بلذة منحرفة: "من يريد الحب؟" بصوت امرأة عجوز وكأنه تسخر من السيدة.

مع نقرة نقرة نقرة على أظافرها معلنة ذلك، اقتحمت الـ Xolos الستة غرفة السيدة، مندفعة مثل المهرجين بين حلقات الورق، وقفزت على سريرها الأشعث دون انتظار دعوة.

قالت السيدة:

- أوف! يا له من عمل كبير أن أحبك. ياله من ألم. إنهم حمقى. مزعج.

قامت بتمشيط كل الكلاب، ومسح الليل عن عيونها بحاشية ثوب نومها.

- ابق ساكنًا يا سيد "إكستا، أوريزابا، شيتشو! أخبرني بالحقيقة. من يحبهم؟ من يحبك؟

رفعوا أعينهم السجيّة إلى ميسوس وأجابوا دون إجابة.

***

..................

المؤلفة: ساندرا سيسنيروس/ Sandra Cisneros هي مؤلفة رواية "المنزل في شارع مانجو"، ومؤخرًا رواية "هل رأيت ماري؟"، وهي حكاية للكبار رسمتها إستر هيرنانديز، والكتاب الواقعي "منزل خاص بالشخص: "قصص من حياتي"

بقلم: كريستا فولف

ترجمة: صالح الرزوق

***

حالما فتحت عينيها فكرت: هذا اليوم أيضا سيذهب باتجاه غير متوقع. علي أن أصحب تينكا إلى الطبيب بسبب ألم في قدمها. انصفق الباب في الخارج. كان الأولاد بقربه. جي. لا يزال نائما، وجبينه مبلول، ولكن زالت عنه الحمى. ويبدو أنه انتصر على الإنفلونزا. توجد معالم الحياة في غرفة الأولاد. تينكا تقرأ لدمية ممزقة صغيرة من كتاب مصور: أحدهم يدفئ يديه، الآخر قفازه، الثالث يرغب بشرب الشاي. ولكن لا يوجد أي فحم. يا للسخافة!. ستبلغ الرابعة في الغد. آنيت قلقة على كمية الكعك التي سنخبزها. إذا كانت كافية أم لا. ونوهت لي أن تينكا دعت ثمانية أولاد لشرب الشاي. تجاوزت الصدمة الثانوية وكتبت رسالة لمعلمة آنيت قلت فيها: من فضلك اسمحي لابنتي آنيت أن تعود إلى البيت غدا في منتصف اليوم، لأننا سنحتفل بعيد ميلاد أختها الصغيرة. وحينما كنت أعد الشطائر حاولت أن أتذكر كيف كنت أنفق يومي قبل أربع سنوات من ولادة تينكا.  مرارا وتكرارا يزعجني كيف وكم ينسى الإنسان إن لم يسجل كل شيء. من جانب آخر تسجيل كل شيء أمر مستحيل: والإنسان لا يعيش إلى الأبد. ربما كان الطقس أدفأ قبل أربع سنوات حينما كنت وحدي. في المساء أتت صديقة لتمضية الليل برفقتي. جالستها لفترة طويلة. وكانت هذه آخر محادثة صريحة بيننا. وقد أخبرتني لأول مرة عن زوجها المنتظر… وخلال الليل خابرت الإسعاف. استعدت آنيت أخيرا. كانت غير منظمة وفوضوية قليلا، كما كنت في طفولتي. حينها لم أكن أعتقد أنني سأوبخ أبنائي كما كان والداي يوبخانني.  وضعت آنيت جزدانها في مكان خاطئ. فوبختها بنفس الكلمات التي استعملتها والدتي معي. قلت: لا يمكننا إهمال نقودنا هكذا، أين عقلك؟. وحينما غادرت حضنت وجهها وطبعت عليه قبلة. قبلة طويلة!. وتبادلنا غمزة. لكنها أغلقت الباب الأمامي بضربة صاخبة. نادت علي تينكا. وأجبت بصيحة عصبية، وجلست باحتراس أمام الطاولة. ربما بمقدوري القيام بعمل لمدة ساعة على الأقل. كانت تينكا تغني بحماسة جياشة لدميتها أغنية يحبها الأطفال في الوقت الراهن. تقول كلماتها:"أغادر المدينة ليلا والقمر ساطع". وآخر سطر منها يقول:

في يوم موحش

أكلوا طبقا واحدا،

وفي أمسية موحشة

جاء طائر الكركي بالولد…

كانت تينكا تساعدني على تمالك أعصابي. طبعا هي تعلم أن الكركي لا يستطيع حمل أي طفل، وذلك مجرد سلوك عدواني يضر بالحيوانات. ولكن حينما تغني الأغنية، لا تشعر معها بالقسوة. أليس كذلك؟. نادت مجددا بأعلى صوتها لذلك أسرعت بالجري نحوها. كانت مستلقية في السرير، ورأسها مدفون تحت ذراعيها.

لم هذا الصياح؟.

أنت لا تردين علي، لذلك صرخت.

أخبرتك أنني بطريقي إليك.

ولكن استغرقت دهورا دهورا دهورا أقفاصا أقفاصا أقفاصا.

كانت قد اكتشفت أن للكلمات جرس وقافية. كشفت الضمادة عن جرح في قدمها. صاحت جريمة لعينة. ثم مسحت دموع عينيها بأصابعها وقالت: حتى في عيادة الطبيب أشعر بالألم. هل تحبين الصراخ هكذا في العيادة؟. ستجتمع كل البلدة حولنا. ثم عليك إزالة الضمادة. حسنا. حسنا. هل بمقدوري الحصول على كاستر حار هذا الصباح؟. حسنا، حسنا. ستحضرين القليل منه لأجلي. حسنا. حسنا. على ما يبدو أن ألم قدمها ينحسر. حينما كنت أعتني بارتداء ملابسها، خدشت بأظافرها الطرف السفلي من سطح الطاولة، ثم تلوت من الضحك. مسحت أنفها بمؤخرة قميصها. صحت: توقفي. لا توجد بنت تفكر بتنظيف أنفها بقميصها؟. ألقت رأسها إلى الخلف، وانفجرت بضحك جنوني. قالت: من تجرؤ على تنظيف أنفها بقميصها، طز بالقميص… غدا عيد ميلادي، ولذلك يمكننا المرح قليلا في هذا اليوم. وأراهن أنك نسيت أنه بمقدوري أن أرتدي ثيابي دون معونة من أحد.

بل لم أنس. اعتقدت أن قدمك تؤلمك كثيرا.

برعونة مررت أصابع قدميها خلال سروالها وقالت: أنا أكثر حرصا منك.

وفي عدة مرات لاحظت بوادر الدموع بسبب ضيق الحذاء الأحمر. قدمت لها خف أنيت المنزلي لتضع فيه قدمها المتورمة. شعرت بالفرحة العارمة وقالت: والآن فزت بخف أنيت!.

حينما حملتها من الحمام، لطمت قدمها السليمة بالكتلة الخشبية المجاورة للباب. بمم. تعجبت. كانت مثل قنبلة. من أين لها أن تعلم كيف تنفجر القنابل؟. مرت أكثر من ست عشرة سنة بعد أن سمعنا انفجار آخر قنبلة. من علمها هذه الكلمة؟.

جي. يقرأ مراسلات لينين مع غوركي. نعود لموضوعنا القديم: الفن والثورة، السياسة والفن. الإيديولوجيا والأدب. يستحيل العثور على فكرة ملائمة يجتمع عليها السياسيون والفنانون الماركسيون. له عالمه "الخاص"، وقد كشفه لغوركي (أكثر من كشف العالم الذي خطط له)، على الرغم من عدم التوافق في المسائل الفلسفية.  ووجهة نظره، وأسلوبه بالرغم من إيمانه القوي. شريكان متساويان يعملان معا، هذا ليس صداما بين من يعلم كل شيء ومن عليه أن يتعرف على كل شيء. احترام متبادل وغير محدود ومفتوح بين طرفين.. وصلنا لدور الخبرة في الكتابة والمسؤولية التي يتحملها المرء تجاه مضمون خبراته: هل كان حرا بامتلاك خبرة عشوائية،  وربما مرغوبة إذا نظرنا من زاوية اجتماعية، خبرة لا يتأهل معها الإنسان على أساس خلفياته الاجتماعية أو شخصيته؟.

طبعا هناك أشياء كثيرة على الإنسان أن يعرفها؟.  دخلنا بمشادة حول خطة قصتي الجديدة.

ألح جي. على تعديل آخر على الفكرة الأولية كي تصبح مناسبة. أم أنني أرغب في كتابة مقالة صحفية؟. حسنا إذا، في تلك الحالة يمكنني أن أنفذها بالحال. شعرت بقليل من الارتباك، وأنكرته كالعادة مع أنني في الحقيقة أشعر به وأرى "أنه محق قليلا".

هل قرأت هذا؟ مقال قصير كتبه لينين بعنوان "كتاب صغير موهوب" وموضوعه نقاش كتاب وضعه وايت غارديست والذي كانت مرارته تشارف على حدود الجنون. وعنوانه :"مجموعة من الخناجر في ظهر الثورة"، وفيه يناقش لينين بما يشبه التهكم وبقليل من الجدية  "قوته وتحكمه بموضوعه" كلما تكلم الكاتب عما يعلم،  وما مر به من ظروف وما شعر به. ويفترض لينين دون جدل أن العمال والفلاحين سيصلون إلى نتائج مناسبة من الوصف الخالص والمتفهم لطريقة حياة البورجوازية القديمة، وهي خطوة لا يبدو أن الكاتب قادر عليها، ولكن يبدو أنه يعتقد أن طباعة بعض قصصه شيء ممكن. "الموهبة تحتاج للدعم" - سخرية إضافية، ولكن بنفس المقدار من التفوق. وصلنا إلى متطلبات السلوك الفوقي في بلد يحتاج مجتمعه الاشتراكي للتطور على أساس نفس المتطلبات والظروف التي نعيشها. أسباب وأساسيات الحياة الريفية في الأدب. ضحكنا ونحن ننتبه للكلام الذي نتبادله ليلا ونهارا ودون توقف، مثل تلك الكتب الملخصة والتي ننتقد أبطالها ونرى أنهم ضعفاء وغير واعين.

رافقت تينكا إلى الطبيب. استمرت بالكلام، ربما لتتغلب على خوفها. أولا طلبت تفسيرا للوحة جدارية (لماذا لا تعتقدين أنها جميلة؟ أرى أنها رائعة الألوان). ثم أرادت أن أحملها بسبب قدمها المريضة، ثم نسيت ألمها كله، وتحركت باتزان على حواجز من حجر في الباحة الأمامية.

كان شارعنا يفضي إلى بناء جديد لا يزال قيد التشييد منذ شهور. حمل مصعد إلى الأعلى حمالات ممتلئة بأكياس الإسمنت، ثم هبط بها فارغة. ورغبت تينكا أن تعرف كيف يعمل بالضبط. وكان عليها أن تكون لنفسها فكرة عامة عن التكنولوجيا. إيمانها الجديد الراسخ يؤكد أن كل شيء موجود "يفيد شيئا ما"، ينفع شيئا ما يهمنا. إذا كنت دائما قلقة على الأولاد، هذا، علاوة على كل شيء، بسبب الإهمال المحتم لهذه القناعة.  ونحن نسرع بالهبوط على سلالم البريد حملتها وتأبطتها بذراعي. لا تسرعي. وإلا سقطت.  لن أسقط. حين أكون كبيرة وأنت صغيرة يمكن أن أسرع على السلالم هكذا. سأكون أكبر منك. ثم أقفز عاليا. بالمناسبة، هل يمكن أن تقفزي من فوق البيت؟ أنا أستطيع. فوق البيت وفوق أي شجرة . هل أفعلها أمامك؟.

هيا.

يمكنني بسهولة ولكنني لا أريد.

إذا أنت لن تفعليها.

كلا.

صمت.

بعد فترة: في الشمس أصبح طويلة.

الشمس ضعيفة ولكنها ترسم ظلالا. ظلالا طويلة لأن الشمس منخفضة. قالت تينكا: طويلة حتى الغيوم.

نظرت إلى أعلى. رأيت غيوما صغيرة ضعيفة ومرتفعة في كبد السماء. ثرثرة انفعالية في غرفة الانتظار. ثلاث نساء مسنات تجلسن معا. إحداهن، تتكلم بلهجة سيليزيا، اشترت في اليوم السابق قميصا بمبلغ 113 مارك. تكلمن حول الموضوع من كافة الزوايا. ثلاثتهن اختلفن حول السعر. امرأة شابة جالسة قبالتهن انضمت أخيرا للكلام العام بلهجة متعالية. وتبين أنها بائعة منسوجات وأن القميص ليس "مستوردا" في حينه، بعكس كلام المرأة السيليزية. وهي حانقة. وناقشت البائعة ميزات وعيوب الصوف والأكريليك. قالت: الأكريليك عملي، ولكن إذا كنت ترغبين بالأناقة فعلا، عليك اختيار الصوف. قالت ثاني امرأة من بين الثلاث نساء: الجيد يفرض نفسه. ألقيت نظرة توسل نحو تينكا، وكانت على وشك توجيه سؤال غير مناسب حتما. قالت المرأة السيليزية: في الغرب مثل هذا القميص يكلف 50 مارك. قالت المرأة الثانية: حسنا. لم لا تحسبي الفرق. واحد مقابل ثلاثة. الحاصل 150 مارك أيضا. لم يكن هناك أي فائدة من التدخل في الحوار. قالت المرأة السيليزية:  أخذت المال من ابنتي. تعويض الضمان الاجتماعي يبلغ 120 مارك ولا يعينني على تكاليف القميص. تنهدت الثلاث نساء. ثم قالت جارتهن: هذا هو أسلوبي دائما: بسيط ولكن أنيق. تأملت تعاليها، ولم ألاحظ أناقة في هيئتها. تابعت دون تلكؤ: اشتريت هذا المعطف مثلا عام 1927. من الغابردين. سلعة أيام السلم. ولم يتعرض لأي تلف أو تمزق. نظرت مرعوبة إلى المعطف. أخضر  لماع قليلا ومن زي انتهى وقته. عدا ذلك لا يوجد له أي ميزة. همست تينكا وهي تجر كمي: لا يمكن لمعطف أن يكون مقبولا إذا كان من عام 1927؟. قلت: ثلاثة وثلاثون عاما. ردت بجملة من كلام والدها: هل لديك ذكرى مني؟. قلت: طبعا.

قالت تينكا: لا يمكن. بعد كل ذلك الوقت. يا إلهي العظيم.

تابعت المرأة السيليزية ثناؤها على قميصها الأزرق مطمئنة نفسها: في كل حال لن أشعر بالبرد في الشتاء. الثالثة امرأة هزيلة لم تتكلم حتى الآن، والآن قالت بزهو هادئ: الشكر لله. ليس علي التفكير بذلك.. سؤال صامت من الأخريات.

على الأقل: لديك أقارب هناك؟ صحيح.

نعم. ابنتي. ولكنها تقوم بالواجب. وهناك سيد. لا أعرفه ولكنه يرسل لي ما أحتاجه. وللتو سألني إن كنت بحاجة لشيء من أجل الشتاء… ظهر الحسد في عيون الأخريات. آه حسنا. في هذه الحالة. لا يوجد ما هو أفضل في هذه الأيام. لزمت الصمت. وتخليت عن القراءة منذ فترة طويلة.

نادى مساعد الطبيب النساء الثلاثة. كانت تينكا هادئة حينما ضغط الطبيب على الجرح. شحب لونها. وتراخت يدها في يدي. سألها الطبيب: هل هذا يؤلم؟. ارتدت وجهها الغامض وهزت رأسها. لم تصرخ أمام الغرباء على الإطلاق. في الخارج ونحن بانتظار الضمادة، قالت فجأة: يسعدني أن عيد ميلادي في الغد. انعقدت الغيوم في السماء. وقفنا بانتظار مصعد عمال البناء. كان على تينكا الوقوف هناك لفترة طويلة ما عدا ذهابها الخاطف إلى الحمام. ثم عاودت صمتها. كانت مشغولة بالكلب الكبير الأسود والذي سنمر من جوار كوخه حالا.  وكالعادة في هذه البقعة تقول لي إن هذا الكلب عض أصبع امرأة في إحدى المرات. مضى على ذلك سنوات بعيدة. تركت الحكاية، لو صحت، انطباعا لا يمحى على  تينكا. رواسب حكايات حياتنا. وجدت في البيت بريدا مخيبا للأمل، بطاقة غير واضحة من بنت غير معروفة. من ناحية أخرى توقفت دراجة نارية عدة مرات أمام البيت، هي دراجة الطرود والبرقيات والرسائل.  البديل الحالي عن الهاتف. أحدهم أتى بمسودة كتاب جي. عن فيرنبيرغ. لحين تجهيز الطعام قرأت كتابات الأطفال عن موضوع "يوم عطلتي الرائع" التي استلمتها في مكتبة شركة إنتاج سيارات الشحن. كتبت طفلة بعمر تسع سنوات:"كان الطقس رائعا في مخيم العطلة. حصلنا على يوم عطلة لنذهب فيه إلى أي مكان نريد.  ذهبت إلى الغابة، ورأيت هناك وعلا كبيرا وآخر صغيرا. نام الاثنان هناك بلا حركة. كانا مروضين جدا ويمكنك لمسهما. أسرعت بالعودة إلى قائد المعسكر. لم يكن الموضع بعيدا عن مخيمنا. أخبرته بكل شيء فرافقني. جر الوعل الكبير بحبل وسمح لي بحمل الصغير. كان لدينا اسطبل وضعت كلبهما فيه واعتنيت بإطعامهما. كان ذلك أفضل أيامي". أؤيد منح هذه البنت الجائزة الأولى في المسابقة على قصتها العجيبة.

بعد الغداء ذهبت إلى حفلة جماعية عقدها فريق شركة إنتاج سيارات الشحن. كان زوجان مسنان في إحدى العربات المعلقة يبحثان بيأس في جيوبهما عن عشرة بيفننغ هما بحاجة لها لشراء التذكرة. لا بد أنهما افراطا بالإنفاق في التسوق. قدمت للمرأة عشرة بيفننغ. بارتبك واضح قالت: آه. لا. لا. لا. كان بمقدورهما المشي. في النهاية قبلها الرجل ولكن ليس بلا اعتراض يدل على ارتباكه. ومثل هذه الأمور محتملة وممكنة بيننا نحن الألمان فقط على ما أظن. لم أذهب إلى المصنع خلال أسابيع. الساحة مليئة بسيارات شحن ناقصة لم يكتمل تصنيعها. من الواضح أن توقف الإنتاج قد انتهى. ولكن اطمئناني كان مبكرا. لم يشاهدني ويللي أولا. وراقبته وهو يعمل بآلته الجديدة لتجهيز إطارات الضغط. هو وجاي.، مديره، طورا هذه الآلة العملية البسيطة وقدماها على سبيل خطة لتحسين الإنتاج.  بواسطتها اختصرا نصف وقت العمل. وكانت تدور في المصنع مناقشات لا تصل أسماعهما، الدم الملوث قد بدأ يسري في العروق. واليوم سأفهم ما هي حقيقة الأمر. نظر ويللي إلى أعلى. قال: حسنا يا حبي. يبدو سعيدا وهو مشغول. جلست في غرفة الناظر، والتي يقولون عنها حظيرة البقرة.

مع أنه لا يزال أمامنا خمس وأربعون دقيقة حتى نهاية النوبة، كان ثلاث رجال يجلسون لتزجية الوقت. العمل قليل؟ هزة رأس مبهمة. كان الانطباع الذي حصلت عليه في المكان خادعا.  وماذا تفعلون بالوقت الفائض؟ قالوا العلاج المهني. الاهتمام بالحديد. الاهتمام بالخشب. إصلاح ألواح الخشب. والنقود؟ النقود كافية. نجني الدخل المقرر. كانوا بمزاج متعكر، غير مبالين أو ساخطين. حسب فورات المزاج. ولكن الأسوأ، قال لوثير، أنهم توقفوا عن الأمل بتبدل نحو الأفضل.

في كانون الثاني سنكون مرهقين مجددا، حتى لو قتلنا أنفسنا بوضع خطة خلال ربعه الأخير. والنقود تضيع على الوقت الزائد.  هل يفترض أن هذا شيء مربح؟. النقود كافية، ولكنه حانق بسبب خسارة المصنع.

هل يمكن للمدير التنفيذي أن يزور كل حلقة في المصنع لشرح ما يجري؟. لا يمكنه.

ولكن لا بد من تفسير. وبإسهاب، وإن أمكن، أسبوعيا بسبب الوضع الراهن. من لم يتم تبليغهم يتصرفون بلا أي حس بالمسؤولية.

في نفس الوقت ركزت المحادثة على موظفي الحزب يوم السبت الماضي. يورغين أخبرنا كيف أمكنه أن يؤمن بصعوبة لزوجته، التي لديها ما يكفي، مبيتا في حافلة المصنع، بعد أن صفعت زميلا مزعجا على وجهه أمام الجميع. قال شعرت بالسخط وشربت حتى ثملت في اليوم التالي. ويخشى أن هذه الزوجة  تجعل منه شخصا مغفلا. وهنا أدلى الآخرون بقصص مماثلة مع زوجاتهم، وفي الحقيقة، لم يكن الرجال يتكلمون من قلوبهم. أعتقد أن الزميل المزعج بالتأكيد استحق الصفعة على وجهه…

اجتمع تسع رفاق في غرفة اجتماعات قيادة الحزب. وصلوا بثياب العمل، دون اغتسال. وبينهم امرأة بعينين فرحتين ومشعتين. رأيتها كيف تضرب على الطاولة  في العمل. ولكنها لم تتكلم هنا. قال ويللي: لا ضرورة للدوران حول الغابة. لنبدأ. كان هو منظم الجماعة. علمت اليوم بنواياه، وتابعته بقلق وتفهم في البيت وهو يسعى لهدفه. كان أمامه تقرير عن جدول الحسابات في فرقته. اطلعت عليه. رفاق الفرقة المجاورة، المنافسون، يجلسون مصدومين قليلا أمام ثلاث وعشرين صفحة تختص بغيرهم، ورغم الصداقة، هم في النهاية أنداد لهم.  ضع بحسابك ماضي الفرقتين المضطرب وكيف كانتا في وقت ما فرقة واحدة.. الفرقة المتألقة في المصنع تحت قيادة بي.، الجالس امام ويللي، وهو يمسح العرق، ويشعر بالخدعة. بدأ ويللي يقرأ من تقرير الحسابات بسرعة وبحروف غامضة، فقرة منتقاة بعناية. ارتعشت قليلا يداه القابضتان على الورقة. كان جو الغرفة خانقا وله تأثير مخدر على أي غريب.

لا أحد يهتم بالاستشهادات مثل ويللي. قرأ كلام لينين عن زيادة الإنتاجية. وقاطع نفسه يقول: كيف هو انتاجنا؟.

قال أحد الزملاء: قبل أن نشكل فرقة عمل اشتراكي كنا متفقين دائما. والآن نواجه المشاكل طيلة الوقت. رفع ويللي صوته. وصل الآن لكلام عن التحسن. تلك الآلة البسيطة التي رأيتها تعمل من قبل. قال: يوجد هنا حيرة عارمة. ترك الورقة تسقط، ونظر من فوق إطار نظاراته الرفيع مباشرة إلى بي. قال: توفير 50 بالمائة. هذا لم نسمع به - بيننا. الناحية العملية من الاقتراح أصبحت تحت التساؤل. نعم وأنت أيضا يا بي. اصمت. حان الان دوري.

لكن الاقتراح عملي، ولا يوجد شيء ينال منه. بالتأكيد الخطة كاملة. بالتأكيد سنجني كلنا النقود خلال ثلاثة شهور. حصلت من الخطة على ألف مارك، إن كنت تود أن تعلم. وماذا في ذلك؟ هل المكسب المادي لا يعني شيئا لنا يا رفاق؟. سيكون كل شيء على ما يرام إذا تشارك كلاهما بما جناه، ولذا أغلقا فميهما بعدة زجاجات من البيرة. صاح ويلي: لكن هذا كل شيء. لا أريد المزيد من هذا الجنون الموروث،  وسنبتاع البيرة في سهرة الفرقة القادمة.

في القسم أثار ذلك أسئلة صامتة: هل أنت شيوعي أم أناني؟. صاح ويلي: كنت أتنبأ بذلك. من كان غاضبا لبعض الوقت والآن يتجاوز دوره بالكلام؟. ولكن كيف نقوم أنفسنا كرفاق؟ لا أبدا. كيف يسعنا ذلك. لم نكن متفقين. صاح أحد الرجال من الفرقة المجاورة: ادخل بالموضوع.

رفع ويللي صوته أكثر بالتدريج ليقول: حسنا. إذا كان هذا مرادك. كلانا مرشحان لنكون عضوين عاملين في قيادة جماعة الفرقة. من ضد ذلك؟ الرفيق بي. قررت قيادة الحزب أن تنشر صورتنا في لوحة "شارع المفضلين" في يوم تأسيس الجمهورية. من يعارض؟ الرفيق بي. هل هذا الإعلان يكفي؟ رد بي.: ربما لدي ما أقوله أيضا لو سمحتم. قال ويللي: تفضل. نقطة واحدة: العمل على المحك. وهذا الكلام عن العمل وليس إن كنت أحب مرآك أم أنت لا تحب هيئتي. كل المجتمعين هنا يتذكرون كلام بي. منذ انضم ويللي إلى الفرقة جاء معه "كادر التطوير المتخلف": الآن هو أم أنا، هذا هو السؤال. لا مكان في الفرقة لكلينا.

في الأول من أيار كانت صورة بي. لا تزال صامدة في "شارع المفضلين". لا بد أن كليهما نسي الكثير، وفكر بالكثير من الأشياء، التي لا يمكن الاعتراف بها من قبل أن يتبادلا الكلام بينهما كما جرى اليوم. ليس من المتوقع أن المشكلة ستبلغ الذروة حسب قواعد الدراما الكلاسيكية و"تستمر" حتى تبلغ النهاية. اعتراف بي. يعني الكثير ولا سيما قوله: اقتراحك عملي. ومن حقك أن تحصد الجائزة. بالمقابل إنكاره لذاته نفد زخمه. أصبح مناورا، ويخترع القصص البائدة التي ينشرها حوله لمسافات طويلة. ولم يعد جاهزا للاعتراف بالخسارة بسهولة. تجادلت الفرقتان، وخف الترقب. توجب على ويللي أيضا التراجع قليلا بين حين وآخر، وهذا شيء قاس بالنسبة له.

لا يزال جدول كشف الحساب لفرقته أمامه. وخلال أسبوع يفترض بجماعة بي. أن تنتهي من جدولة حساباتها. فجأة شعرت ااجماعة بالقلق على عملها. ولا يزال ويلي يسمح لنفسه بهذا النصر المحدود، ولاحظ الجميع ذلك. وحان الآن دور الانتهاء من ذلك، وعليهم التوصل لاتفاق. وهم حاليا يناقشون من يجب أن يعاون بي. قال ويللي: هل تريدون مثيرا للشغب وبعمر كبير مثلي.

قال بي.: يا لك من أحمق كهل.

اقترح شخص ما فكرة إضافة النساء لجدول حسابات الفرقة، احتراما لاتجاه هذا العصر.   ولم يجرؤ أحد على المعارضة. وأصبح من الواضح أن الاقتراح محروم من المؤيدين المتحمسين. ألا يوجد لدى النساء ما يكفي من مشاغل مع الأطفال، ولا سيما بعد الخسارة؟.  قال أحد الموجودين.

غونتير آر. مسرور. يمكنك أن تأتي بزوجتك إن كنت متزوجا. قاطعه ويللي: حسنا. وماذا عنك؟.  ليس لديك زوجة. صحيح؟. قال غونتير:  لا، ليس بعد الآن. وما مشكلة زواجك إذا؟. حذر ويللي: لا تشرد مع هذا الهراء. كان غونتير أصغر الموجودين حول الطاولة. صنع إشارة نافية بيده ولكن صبغ اللون الأحمر وجهه. تفاهة. لا شيء يستحق الذكر.

لاحقا قال لي بي.: أرسلوا غونتر لتقديم الخبرة الاجتماعية لمصنع مشابه في جي. لمدة أسبوعين. وحينما عاد بشكل مفاجئ، شاهد في مخدع زوجته رئيسها بالعمل؟.  وبالطبع أسرع إلى المحكمة فورا. ولكن لم يسجل شيئا هناك.. تحول مزاجه للفكاهة  تبادلوا النكات. واحتجوا حينما قلت إنهم غير مهتمين بالثقافة.  وتم تطويف الدعوة من أجل الإعلان عن الحسابات، وبطاقات الدعوة كانت من طبقتين وحملت حروفا مطبوعة بحبر ذهبي. وهذا يكفي للتباهي. أرادوا دعوة عدد كبير، ورغبوا بتقديم "مثال" كما قال ويللي. وسمح للاجتماع بالاستمرار، ولم يكن متوترا، وبدا عليه الطمأنينة. غمزني وابتسم. يا له من لئيم. أخبرته بذلك لاحقا.  قال على المرء أن يكون مريحا، وإلا لن يتحرك من مكانه.

عدت إلى البيت بسرعة، بأعصاب متوترة، وكل أفكاري هائجة. بسبب ما قالوه، وما لم يقولوه، وما لم تغدر به عيونهم وتكشف عنه. من ينجح بالدخول إلى هذه المتاهة المقفلة من الدوافع والدوافع المضادة، الأفعال والأفعال المضادة… لتضخيم حياة الناس الذين يبدو أنهم مدانون باتخاذ خطوات محدودة.. في هذا الوقت من السنة، كان البرد يقترب منا مع الليل. اشتريت احتياجاتي لإعداد الكعك وحملت باقة زهور عيد الميلاد.  كانت الداليا وزهرة النجمة تذبل في الباحة. تذكرت باقة ضخمة على طاولة بجانب السرير في المستشفى، قبل أربع سنوات. وتذكرت الطبيب، سمعته يقول: بنت. ولكن لديها بنت. حسنا أعتقد أنها لن تمانع في ثانية… ارتاح لأنه لدي اسم لها. أخبرتني الممرضة أن البنات غير مفضلات أحيانا، وتكون للآباء ردة فعل. ببساطة لا يحضرون إذا كان المولود بنتا، هل تصدقين ذلك. ولهذا السبب لسنا مخولات بتحديد جنس المولود بالهاتف، هل هو صبي أم بنت. عرض الجميع المساعدة لخبز الكعك. كانت البنتان حاضرتين. وفي النهاية وضعت لهما في المسجلة شريط حكايات خرافية. وذلك في غرفة الطعام. وهي "بيتر والذئب". بعد ذلك بدأ الأكل من الأطباق حتى تم سحبها منهما. تكلمت أنيت عن المدرسة: تعلمنا أغنية جديدة، ولكنني لم أحبها كثيرا. الديمقراطية لها قافية وجرس موسيقي مثل الربحية - ما رأيك؟. أعتقد أن هذا ممل. جاءتنا معلمة لغة روسية جديدة. وأدهشها عدد الكلمات التي نعرفها. هل تعتقد أننا ذكرت لنا اسمها؟. لا تحلمي بذلك. لكن علينا أن ندون أسماءنا لها حسب مكان جلوسنا. لا أظن أنها تهتم. تحركتا في المكان لفترة طويلة دون هوادة ولم ترغبا بمواجهة حقيقة أن على الإنسان أن ينام في ليلة الاحتفال بعيد الميلاد.

انتفخ الكعك في الفرن أكثر من التوقعات. وآلان ساد الهدوء وأستطيع أن أتخيل انتفاخه. امتلأت القدور، العجين انتفخ وانتفخ وبدأ يسيل من الجوانب على الفرن وينشر في كل الشقة رائحة شيء يحترق.

حينما أخرجت الكعك، كان أحد طرفيه أسود. انزعجت ولم أجد أحدا ألومه غيري، ثم، علاوة على ما سلف، جاء جي. قال عن الكعك إنه "أسود قليلا"، وحينها أخبرته، بخجل، أن السبب هو الأوعية الضيقة التي امتلأت فورا، والفرن السيء، وضغط الغاز المرتفع.

قال: آه. لا بأس. وانسحب.

لاحقا استمعنا لمعزوفة بالكمان هي سوناتا أنتونين دفوراك 100، والتي كتب فلينبيرغ لها قصيدة. لحن راقص ونقي. تراجعت موجة حنقي. ولاحظنا معا أن لنا رائحة الكعك المحترق، فبدأنا بالضحك. لا زال أمامي واجب يحدوني للكتابة قليلا، ولكن كل شيء يثيرني: المذياع، التلفزيون في البيت المجاور، فكرة وقلق عيد الميلاد غدا، وهذا اليوم الحافل بالمقاطعات، وعدم إنهاء أي شيء عزمت عليه. بعناد جهزت طاولة عيد الميلاد، ورتبت دائرة الأضواء. كان جي. يقلب في كتاب صغير، وتبين أنه "كتابة الحجاب". ولسبب ما أقلقني ذلك أيضا.

نظرت من وراء المخطوط الذي تراكم على منضدتي. أعياني طول العملية التي نسميها كتابة. عدة وجوه خرجت من حكاية الفرقة، أشخاص عرفتهم جيدا وجمعتهم في حكاية، وكما أرى بوضوح، لا تزال بسيطة تماما. بنت ريفية جاءت إلى مدينة كبيرة لأول مرة في حياتها للدراسة. وقبل مجيئها، قامت بعمل تطوعي في المصنع، مع فرقة صعبة المراس. كان صديقها كيميائيا، ولكنه لم يقترن بها في النهاية. الشخص الثالث معلم مهنة شاب جاء إلى الفرقة بمهمة تأديبية لأنه اقترف خطأ… غريب أمر هذه الهوامش، "مأخوذة من الحياة"، وتزيد من هامشيتها على صفحات الكتاب لدرجة لا تحتمل. وأعلم أن العمل الحقيقي سيبدأ حالما تبدأ الفكرة الأساسية بترجمة الموضوع الجانبي، حتى يصبح من الممكن الكلام عنه، وأبضا ليكون موضوعا يستحق الكلام حوله. عموما هذه الحبكة - التي أشك أنني الليلة سأضع يدي عليها، إن كانت موجودة أصلا - ستساعدني، بعد عمل مجهد وطويل، على فهم العبث الذي ألاحظه بكل جوارحي.

أعلم أنه لن يتبقى شيء، لا الصفحات التي تتراكم هنا، ولا الجمل التي أكتبها اليوم - لن يبقى ولو حرف واحد منها. فأنا أكتب وأشطب مجددا: كالعادة نهضت ريتا من نومها بسرعة السهم واستعادت وعيها دون أي ذكرى عن الحلم الذي رأته. ولكن لا بد من وجه. وكانت ترغب أن تحتفظ به قبل أن ينمحي. وكان روبرت نائما بجوارها. قبل السقوط بالنوم فكرت أن الحياة مركبة من أيام مثل هذا اليوم. نقاط متصلة معا على المدى البعيد بخط، إذا حالفك الحظ.  ولكن من المحتمل أن تتداعى بكومة لا معنى لها من أزمنة سابقة. وهذه مجرد فكرة ملحة، وجهود لا تتراجع، تعطي معنى لوحدات الزمن الصغيرة التي نحياها..

بمقدوري ملاحظة التحول الأول إلى صور يراها الإنسان قبل السقوط في النوم، شارع يبدو أنه يفضي إلى أرض مفتوحة أعرفها جيدا حتى ولو أنني لم أشاهدها: هضبة مع شجرة هرمة، والسفح المنحدر قليلا نحو الجدول، والمرج المعشب، والغابة الموجودة عند خط الأفق.  تلك لا يمكنها أن تشعر بالثواني التي تمر قبل أن تغط بالنوم - وإلا لن تغط بالنوم - وهو ما سأندم عليه حتى الأبد.

***

.........................

كريستا فولف Christa Wolf: كاتبة من شرق ألمانيا (1929-2011). ولدت في بولونيا وتوفيت في برلين. من أهم أعمالها كاساندرا 1983، البحث عن كريستاتي. 1986، ميديا 1996، ما تبقى وقصص أخرى 1990. اهتمت في أعمالها بالتشكيلات الاجتماعية والسياسية لحركة الاقتصاد والسوق. وكانت ضيفة شرف في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب عام 2021.

أمام القانون – على متن الترام

تأليف: فرانس كافكا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- أمام القانون

أمام القانون يقف حارس البوابة. جاء رجل من القرية إلى حارس البوابة وطلب الإذن بدخول القانون. لكن الحارس يقول إنه الآن لا يستطيع السماح له بالدخول. يفكر الرجل للحظة ويسأل إذا كان سيسمح له بالدخول لاحقًا. قال الحارس: "ربما، لكن ليس الآن". وبما أن بوابة القانون مفتوحة كما هو الحال دائمًا، وتحرك الحارس جانبًا، انحنى الرجل لينظر من خلال البوابة إلى الداخل. يرى الحارس ذلك فيضحك ويقول: "إذا كان الأمر يعجبك كثيرًا، حاول الدخول على أية حال، رغم منعي. لكن لاحظ: أنا قوي جدًا. وما أنا إلا آخر الحراس. وبين القاعة والقاعة يقف بوابون، كل واحد أقوى من الآخر. حتى أنني لم أعد أتحمل رؤية الثالث بعد الآن. لم يكن الرجل الريفي يتوقع مثل هذه الصعوبات؛ يعتقد أن القانون يجب أن يكون في متناول الجميع في جميع الأوقات، ولكن عندما يلقي نظرة فاحصة على البواب الذي يرتدي معطفه من الفرو، وأنفه الكبير المدبب، واللحية التترية الطويلة والرفيعة السوداء، يقرر أنه يفضل الانتظار حتى يؤذن له بالدخول. يعطيه البواب كرسيًا ويسمح له بالجلوس على جانب الباب. ويجلس هناك أيامًا وسنوات. يقوم بمحاولات عديدة للسماح له بالدخول، ويرهق حارس البوابة بطلباته. غالبًا ما يستجوبه الحارس  لفترة وجيزة، ويسأله عن وطنه وأشياء أخرى كثيرة، لكنها أسئلة غير مبالية، كتلك التي يطرحها السادة العظماء، وفي النهاية يخبره دائمًا أنه لا يستطيع السماح له بالدخول بعد. الرجل، الذي جهز نفسه بالكثير لرحلته، يستخدم كل شيء، مهما كانت قيمته، لرشوة الحارس ،ويقبل منه الأخير كل شيء، لكنه يقول: "أنا أقبله فقط حتى لا تعتقد أنك قد فاتك شيء ما. لسنوات عديدة، كان الرجل يراقب البواب بشكل شبه مستمر. لقد نسي حراس البوابة الآخرين وبدا له أن هذا الحارس هو العائق الوحيد أمام دخول القانون. يلعن الصدفة المؤسفة، وكونه متهورًا وبصوت عالٍ في السنوات الأولى، وبعد ذلك، مع تقدمه في السن، يتذمر ويصبح طفوليًا، وبما أنه تعرّف على البراغيث الموجودة في طوق فراء الحارس  خلال سنوات مراقبته الحارس، فإنه يطلب أيضًا من البراغيث مساعدته وتغيير رأي الأخير. في النهاية يصبح بصره ضعيفًا ولا يعرف ما إذا كانت الأمور تزداد قتامة من حوله أم أن عينيه فقط تخدعانه. لكنه يدرك الآن في الظلام نورًا ينفجر بشكل لا يمكن إطفاؤه من بوابة القانون. الآن لم يعد لديه الكثير من الوقت للعيش. قبل وفاته يجمع في رأسه كل تجاربه طوال الوقت في سؤال واحد لم يطرحه بعد على حارس البوابة. يُلوّح له لأنه لم يعد قادرًا على رفع جسده المتصلب.

وكان على الحارس أن ينحني له انحناءة عميقة، لأن اختلاف الارتفاع تغير بشكل كبير على حساب الرجل. يسأله الحارس:  ماذا تريد أن تعرف الآن؟ أنت لا تشبع. فيقول الرجل:  في نهاية المطاف، كل البشر يتطلعون إلى القانون، وكيف لم يطلب أحد غيري الإذن بالدخول طوال هذه السنوات العديدة؟ يدرك الحارس أن الرجل يحتضر بالفعل وقد اقتربت نهايته، ولكي يصل إلى سمعه الضعيف، يصرخ في وجهه: " لا يمكن السماح لأي شخص آخر بالدخول هنا، لأن هذا المدخل مخصص لك أنت فقط. سأذهب وأغلقه الآن ".

***

2- على متن الترام

أقف على الرصيف الأخير للترام ،غير متأكد تمامًا من مكاني في هذا العالم، في هذه المدينة، في عائلتي. ولا يمكنني حتى أن أشير بشكل عرضي إلى أي ادعاءات بأنني قد أتقدم بحق في أي اتجاه. لا أستطيع الدفاع عن حقيقة أنني أقف على هذا الرصيف، متمسكًا بهذا المشنقة، أترك هذه العربة تحملني، وأن الناس يتجنبون العربة أو يسيرون بهدوء أو يستريحون أمام واجهات المتاجر. – لا أحد يطلب مني ذلك، ولكن هذا لا يهم.

يقترب الترام من المحطة، وتقف فتاة بالقرب من الدرج، مستعدة للنزول. أراها بوضوح وكأنني لمستها بيدي. ترتدي ملابس سوداء، ثنيات تنورتها غير مريحة تقريبًا، قميصها ضيق وله ياقة بيضاء من الدانتيل الرقيق، يدها اليسرى مضغوطة على جانب الترام، والمظلة في يدها اليمنى على الثانية خطوة من الأعلى. وجهها بني اللون، وأنفها مضغوط قليلاً من الجانبين، مستدير وواسع. لديها الكثير من الشعر البني والشعر الناعم على صدغها الأيمن. أذنها الصغيرة قريبة، لكن عندما أقف بالقرب منها أستطيع رؤية الجزء الخلفي بالكامل من شحمة أذنها اليمنى والظل عند قاعدتها.

في تلك اللحظة سألت نفسي: كيف لها ألا تندهش من نفسها، وتغلق شفتيها ولا تدلي بمثل هذه الملاحظة؟

***

....................

المؤلف: فرانس كافكا (3 يوليو 1883 - 3 يونيو 1924)   كاتب تشيكي يهودي كتب بالألمانية، رائد الكتابة الكابوسية. يُعدّ أحد أفضل أدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة تُصنّف أعماله بكونها واقعيّة عجائبية. عادةً ما تتضمّن قصصه أبطالاً غريبي الأطوار يجدونَ أنفسهم وسطَ مأزِقٍ ما في مشهدٍ سرياليّ، يُعزى ذلك للمواضيع النفسية التي يتناولها في أعمالِه مثل الاغتراب الاجتماعي والقلق والذعر والشعور بالذنب والعبثيّة. أكثر أعماله شُهرةً هي رواية المسخ، والمحاكمة، والقلعة. وقد ظهر في الأدب مصطلح الكافكاوية رمزاً إلى الكتابة الحداثية الممتلئة بالسوداوية والعبثية. ولد كافكا في 3 يوليو 1883 في براغ التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية لعائلة ألمانية من الطبقة الوسطى تنحدر من أصول يهودية أشكنازية. عمل موظّفاً في شركة تأمين حوادث العمل، مما جعله يُمضي وقت فراغه في الكتابة. على مدار حياته، كتب كافكا مئات الرسائل للعائلة والأصدقاء المقربين، بما في ذلك والده، الذي كانت تربطه به علاقة متوترة وسيئة. خَطب بضعة نساءٍ لكن لم يتزوّج أبداً. توفي عام 1924 عن عمر يناهز الـ40 بسبب مرض السل. نشر خلال حياته بعض الكتابات، تشمل الكتابات المنشورة مجموعة قصصية تحت اسم تأمل وأخرى بعنوان طبيب ريفي، وقصص فرديّة هي المسخ التي نُشرت في مجلّة أدبية ولم تحظَ باهتمام. نُشِرت باقي الأعمال بعد موته على يد صديقه المقرب ماكس برود، الذي لم يستجب لطلب كافكا بإبادة كل كتاباته.

 

قصيدة لوليم شكسبير

ترجمة: سالم الياس مدالو

***

لا خوف بعد

لا خوف بعد

فلا مزيد من حرارة الشمس

ولا احتدام الشتاء الغاضب

وانت قد اكملت

المهمة الدنيوية

والاجور الخاصة

للفتيان في المنزل

والفتيات الذهبيات

عليهن الواجب

ككاسحات

المداخن المغبرة

*

فلا خوف

لا خوف بعد من

العبوس والاكفهرار

العظيم فانت الفن

وقد تجاوزت الضربة

العظيمة للطاغية

فلا تهتم لا تهتم

اكثر بالاكل وبالملابس

فلك مثل البلوط القصبة

فالصولجان التعلم

والفيزياء لا بد منها

وكل يتبع هذا

ثم ياتي الغبار

*

فلا تخف

لا تخف

بعد الان من وميض

البرق ومن جحر

الرعد الرهيب

ولا من القذف ولا من

الطفح الجلدي واللوم

فانتهى الفرح

وبدا الانين فيجب

على كل العشاق

الامساك بك

ولياتوا الى الغبار

*

فلا طارد الارواح

سيؤذيك ولا سحر

ساحر ولاشيء

لا شيء سيقترب منك

وهدوء تام هدوء تام

وقبرك هذا سيشتهر .

***

......................

* وليم شكسبير شاعر ومسرحي انكليزي كبير - - 1564 - 1616 -

قصة: كيفن سبايد

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

اكتشفت كارا رجلاً يستحم في بحيرة الأسماك لدينا ذات صباح. راقبته لبعض الوقت، ربما لإعطائه فرصة لتنظيف نفسه، ثم ذهبت إلى هناك والفأس في يدها.

نظرتُ من نافذة المطبخ. وعندما اقتربت كارا، وقف الرجل خارج الماء، وحتى من مسافة بعيدة رأيتُ جسده مغطى بالكدمات أو الندوب. وكانت لحيته تتدلى حتى منتصف صدره النحيل.

وقفت كارا على حافة النهر، والفأس مائلة فوق كتفها بينما أشار الرجل وأشار إلى شيء ما على الضفة البعيدة، بالقرب من السكة الحديد.

أومأت كارا برأسها. هل كانت تضحك؟

قلت:

- لا تفعلى ذلك. لا تحضريه إلى هنا.

لكنها فعلت ذلك. ربما كانت هذه هي أسرع طريقة لإخراجه من البحيرة. أو قم برمي الفأس عليه واتركه يطفو في النهر. ولكن بعد ذلك سوف تفقد الفأس.

سبح إلى الضفة المقابلة، وذراعاه تقطعان الماء، ثم سبح مرة أخرى، بذراع واحدة، حاملاً حقيبة على رأسه. وضعت طبقًا آخر على الطاولة.

تبين أنه كان شخصا معروفا لى من قبل. كان اسمه بوب، وقد مر وقت طويل منذ أن سمعت عن مثل هذا الشخص. اعتقدت أن كل بوب قد مات.

قلت:

- اسم جيد لرجل عثر عليه عائمًا في بحيرتنا.

عرفه دان أيضًا. أو قد كان معروفا بالنسبة له.

وادعى أنه لم يتبق الكثير من بوب القديم. كان بوب الجديد هذا بمثابة نسخة غريبة ومحرقة وملتوية من بوب القديم.

أخبروني رغمًا عني كم كان بوب مضحكًا في الأيام الخوالي، وكم كان مسليًا. لم أكن أريد أن أسمع هذه الأشياء. لم أكن أريد أن أعرف أن بوب كان ينظم الحفلات على أرضه. كان يدعو الجميع إلى هناك ويقومون بتشغيل الموسيقى في وقت متأخر من الليل، ويشربون النبيذ الذي صنعه بوب بنفسه، والبيرة التي كان بوب يخمرها بنفسه أيضا . لقد احتفظوا بالزجاجات في جدول بارد يخترق أرض بوب. في كل صيف، كان بوب يصنع حفرة نار ويشوي بعض الحملان والخنازير الرضيعة على الفحم. في منتصف الليل كانوا يشعلون الألعاب النارية.

قالت كارا:

- كان الجميع سعداء.

لم أستطع أن أصدق ما كنت أسمعه. سعداء!

وفي نهاية الليل، كانوا يجتمعون أزواجا في خيامهم، أو قد يبقى بعضهم مستيقظًا حتى الصباح ثم يستمر حتى الليلة التالية. واستمر الحفل لعدة أيام. في بعض الأحيان أسبوع كامل. كانت حفلات بوب مشهورة.

قلت إنني أكره الحفلات، والألعاب النارية مملة.

قالت كارا: هذا صحيح، فالألعاب النارية كانت دائمًا مملة، لكن وقوع حادث أدى إلى إضفاء الحيوية على الأمور. ذات مرة قام رجل بتفجير أصابعه. في تلك الأيام كان ذلك شيئا ملفتا !

فكرت في الندبات الموجودة في جميع أنحاء جسد بوب وأدركت أنها كانت مسألة وقت فقط قبل أن تجبر هذه الحكاية السعيدة على حلقي أيضًا. كان الجميع، حتى كارا، سعداء برواية قصص الرعب المروعة هذه - الشنق وقطع الرؤوس، وجلد كبار السن في الأماكن العامة بينما كان الأطفال ينظرون إليهم وهم يضحكون. لقد استمتعوا بالتفاصيل، والإذلال، وكأنهم يطعمون جوعًا لم أكن أعرفه.

لكن المشكلة الرئيسية مع بوب هي أنه لم يتوقف عن التحديق في وجهي. كنت أعرف أن الناس سوف يبحثون عني، حتى بين اليائسين الذين كنت أتميز عنهم، لكنني لم أكن معتادا على أن يحدق بي أحد. كتمت فى نفسي. كانت كارا تراني كل يوم، وكان دان إما ثملًا جدًا أو مرهقًا جدًا بحيث لا يهتم، لكن بوب كان منبهرًا.همس:

- ما الذى حدث لك؟ من فعل ذلك؟

ضحكت كارا وطلبت من بوب أن يصمت. إذا لم يصمت، فسوف تجعله يتخلص من روث الدجاج من السقيفة. كانت كارا تعرف دائمًا كيفية التعامل مع الرجال. حتى أسوأ الأشخاص كانوا حذرين منها، سواء عرفوا ذلك أم لا.

في صباح أحد الأيام، بعد أسبوع من ظهور بوب في بحيرتنا، عاد من سقيفة الدراجات النارية، حيث كان ينام، وأسندني على طاولة المطبخ، وأمسك وجهي بين يديه. وقال: ماذا حدث لك؟  ما هذا؟ نظرت إلى جبهته، ولم أجرؤ على النظر في عينيه. لم أكن أريد أن أرى ما كان بداخلهما. لم أكن أريد أن ألتقي بهذا الرجل. كيف كان هناك وقت صنع فيه النبيذ بنفسه ودعا نصف المقاطعة إلى وليمة على أرضه؟ كيف لرجل مثل هذا أن يشوي الخنازير الرضيعة في حفرة النار؟

لمس وجهي بأطراف أصابعه ورسم بلطف معالم تشويهى. ثم همس:

- ما هذا؟ من الذى فعل هذا بك؟

الرعب الذي توقعت أن أشعر به لم يأتِ. ربما صدمت، لكنني لم أكن خائفا منه. لم يكن خطيرا. ليس أكثر من دان أو كارا. أو أنا، عندما يحين الوقت. لقد فوجئت بلمسته الخفيفة، والطريقة اللطيفة التي كان يداعب بها وجهي. كان الأمر كما لو أنه كان يحاول شفاءي، لكنني لم أرغب في إزعاجه.

عندما لمس شفتي السفلية عضضت إصبعه فصرخ. وبعد دقيقة دخلت كارا وهزت رأسها. قالت وهي تضحك:

- لقد عضضت بوب .

هل كان هناك أي شيء فظيع على وجه الأرض لم يكن لدى هذه المرأة ما يكفي لتضحك عليه؟

في ذلك المساء، بينما كنت أتوجه إلى الحديقة، رأيت بوب يسبح عائداً إلى الجانب الآخر من النهر وحقيبة ظهره على رأسه. عندما خرج من الماء كان عارياً، وكان جسده هزيلاً، شبه هيكلي. وقف هناك للحظة، وندوبه تتوهج في ضوء المساء الأحمر.

دون أن يتوقف لارتداء قميصه وسرواله القديمين، حمل بوب حقيبته على كتفيه وانطلق على طول خطوط السكك الحديدية في اتجاه المدينة.

***

.......................

المؤلف: كيفن سبايد/ Kevin Spaide كاتب قصة أمريكى يعيش فى مدريد .

 

قصة: بيورنستجيرن بيورنسون

ترجمة: د. محمدعبدالحليم غنيم

***

كان الرجل الذي ستُروى قصته هنا هو الأقوى والأكثر ثراءً وتأثيراً في رعيته ؛ كان اسمه تورد أوفيروس. وقف يومًا ما في مكتب الكاهن، طويلًا وجادًا ؛ قال:

- لقد رزقت بابن، وأود أن يُعمّد .

-  ماذا سيكون اسمه؟

فين، على اسم  والدي -

والجهات الراعية؟ -

تم ذكرهم وثبت أنهم أفضل رجال ونساء من معارف ثورد في الرعية

سأل الكاهن وهو ينظر إلى أعلى:

-  هل هناك شيء آخر؟

تردد المزارع قليلا، ثم قال أخيرًا:

- أود أن أعتمده من تلقاء نفسه .

هذا يعني في يوم من أيام الأسبوع؟ -

. السبت المقبل، الساعة الثانية عشرة ظهرا -

استفسر الكاهن:

-  هل هناك شيء آخر؟

- لا يوجد شيء آخر .

ولف الفلاح قبعته، كما لو كان على وشك الذهاب.

ثم نهض الكاهن. قال:

- ومع ذلك، لا يزال هناك هذا .

وأضاف هو يمشي نحو ثورد، بينما أمسكه من يده ونظر بعمق في عينيه:

- ادع الله أن يصبح الطفل نعمة لك !

ذات يوم بعد ستة عشر عامًا، وقف ثورد مرة أخرى في مكتب الكاهن.

قال الكاهن حيث لم ير تغييرا في الرجل:

- حقًا، أنت تحافظ صحتك جيدًا يا ثورد .

أجاب ثورد:

- هذا لأنني لا أعاني من أية مشاكل .

لم يقل الكاهن شيئًا عن هذا، لكنه سأل بعد فترة:

- ما هي مسرتك الليلة؟

.   جئت الليلة لابني الذي من المقرر تأكيده غدا-

. إنه ولد ذكي -

- لم أرغب في الدفع للكاهن حتى أعرف الرقم الذي سيكون للصبي عندما يأخذ مكانه في الكنيسة غدًا .

سيكون رقم واحد -

- هكذا سمعت، وهنا عشرة دولارات للكاهن

سأل الكاهن، واضعًا عينيه على ثورد:

- هل هناك أي شيء آخر يمكنني القيام به من أجلك؟

ليس هناك شيء آخر . -

خرج ثورد

مرت ثماني سنوات أخرى، ثم في يوم من الأيام سمع ضجيج خارج مكتب الكاهن، لأن العديد من الرجال كانوا يقتربون، وعلى رأسهم كان ثورد، الذي دخل أولاً، رفع الكاهن نظره وتعرف عليه .

جئت الليلة، ثورد .  -

- أنا هنا لأطلب إصدار الدعوات لابني ؛ إنه على وشك الزواج من كارين ستورليدن، ابنة جودموند، التي تقف هنا بجانبي .

.  لماذا، هي أغنى فتاة في الرعية -

أجاب الفلاح وهو يمسّط شعره بيد واحدة:

- هكذا يقولون .

جلس الكاهن برهة وكأنه في تفكير عميق، ثم أدخل الأسماء في كتابه دون إبداء أي تعليق، وكتب الرجال توقيعاتهم تحتها. وضع ثورد ثلاثة دولارات على الطاولة .

قال الكاهن:

- رقم  واحد هو كل ما لدي .

. أعرف ذلك جيدا؛ لكنه ولدى الوحيد، أريد أن أفعل ذلك بشكل رائع -

أخذ الكاهن المال.

هذه هي المرة الثالثة الآن، يا ثورد، التي أتيت إلى هنا من أجل ابنك  -

قال ثورد وهو يطوي حقيبته ويقول وداعًا ويذهب بعيدًا:

- لقد انتهيت منه الآن .

تبعه الرجال ببطء.

بعد أسبوعين، كان الأب والابن يجدفان عبر البحيرة في يوم هادئ ولطيف إلى سورتليدن لترتيب حفل الزفاف.

قال الابن، وهو ينهض لتصويب المقعد الذي كان يجلس عليه :

- إن مقعد التجديف هذا ليس آمنًا.

في نفس اللحظة انزلق اللوح الذي كان يقف عليه بعيدًا ؛ مد ذراعيه، وأطلق صرخة، وسقط في الماء.

صرخ الأب وهو يقفز ويمد المجداف:

- خذ المجذاف!

ولكن عندما قام الابن ببعض المحاولات، أصبح صعبًا .

بكى الأب مجدفًا نحو ابنه:

- انتظر دقيقة!

ثم انقلب الابن على ظهره، وألقى نظرة طويلة على والده، وغرق .

لم يكن ثورد يصدق ذلك ؛ أمسك القارب بهدوء وحدق في المكان الذي غرق فيه ابنه، كما لو كان عليه العودة إلى السطح. ارتفعت هناك بضع فقاعات، ثم تضاعفت ثم انفجرت واحدة كبيرة في النهاية ؛ وظل الماء هناك مرة أخرى سلسًا وواضحًا كصفحة المرآة.

لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال، شوهد الأب يجدف في المكان، لا يأكل ولا ينام ؛ كان يسحب الماء من البحيرة من أجل أن يجد جثة ابنه. وفي صباح اليوم الثالث وجدها وحملها بين ذراعيه فوق التلال إلى حديقته.

ربما مضى عام منذ ذلك اليوم، عندما سمع الكاهن، في وقت متأخر من مساء أحد أيام الخريف، شخصًا ما في الردهة خارج الباب، وهو يحاول بحرص العثور على المزلاج. فتح الكاهن الباب، ودخل رجل طويل نحيف منحن بشعر أبيض. . نظر إليه الكاهن لفترة طويلة قبل أن يتعرف عليه. كان ثورد.

وجلس الكاهن أيضا كأنه ينتظر. تبع ذلك صمت طويل وطويل. قال ثورد أخيرًا:

لدي شيء معي أود أن أعطيه للفقراء؛ أريد أن يتم استثماره كإرث باسم ابني. -

قام، ووضع بعض النقود على الطاولة، وجلس مرة أخرى. ثم أخذ فى عدها .

قال:

- إنه مبلغ كبير من المال

إنه نصف سعر حديقتى بعته اليوم

جلس الكاهن طويلاً في صمت. أخيرًا سأل ولكن بلطف:

ماذا تقترح أن تفعل الآن، ثورد؟ -

.  شيء أفضل -

جلسا هناك لفترة من الوقت، ينظر ثورد إلى أسفل، والكاهن يحدق في ثورد. سرعان ما قال الكاهن ببطء وهدوء:

- أعتقد أن ابنك قد جلب لك أخيرًا نعمة حقيقية

- نعم، أعتقد ذلك .

قالها ثورد وهو ينظر لأعلى بينما كانت هناك دمعتان كبيرتان تنزلان ببطء على خديه.

***

..........................

المؤلف: بيورنستجيرن بيورنسون/ (1832 - 1910) شاعرً وروائيً وكاتبً مسرحيً    نرويجيً . حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1903: "تقديرًا لشعره النبيل والرائع والمتعدد الاستخدامات، والذي تميز دائمًا بنضارة إلهامه ونقاء روحه النادر". جنبا إلى جنب مع هنريك إبسن وجوناس لي وألكسندر كيلاند، يعتبر بيورنسون أحد الأربعة الكبار في الأدب النرويجي أو "الأربعة الكبار". على الرغم من اعترافه العالمي بجائزة نوبل، لا يزال بيورنسون غير معروف إلى حد كبير للقراء فى العالم خارج النرويج .

قصة: عزت كوشجير

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

الغرفة رمادية. المنزل رمادي. الجدران رمادية. والطقس رمادي. يجلس الأب على سريره الرمادي ويحمل في حجره سلة من الزهور الملونة. الزهور باللون الأصفر والأرجواني والأبيض بلون المينا الداكنة.

يقول الأب: اليوم هو عيد ميلاده. وأقول أيضًا أن اليوم هو عيد ميلاده. لكن الأم التي تراقبه من الغرفة الأخرى تقول بصمت بعينيها وبحركة أصابعها: عيد ميلاد أبي هو 14 أبريل!

قميص الأم رمادي لون التوتر. أنا أيضًا رمادية تمامًا. عيناي شفتاي وشعري فقط سلة الزهور التي أرسلها شخص مجهول من أمريكا اليوم إلى الأب وحدها الملونة.

ينظر الأب إلى الزهور. والأم تنظر إليه من الغرفة الأخرى. وأنا أنظر إلى كليهما. يقوم الأب أحيانًا بفصل البتلة عن كأسها الدائري ويضعها في فمه ويبدأ في مضغها. لا أعرف بماذا يفكر الأب.ولا بماذا تفكر الأم أيضا  .. لكني أرى نفسي في مطبخ طفولتي دون أن أعرف السبب. أنا حقًا لا أعرف كيف حدث هذا وكيف يمكن أن يحدث! ولكن هذا ما حدث.

أنظر إلى الجدران المليئة بالدخان. إلى الموقد الصامت. ومن ثم إلى الخزانة. أفتح الباب الشبكي للخزانة، الموضوع على الرفوف من أعلى إلى أسفل، وأنظر إلى وعاء الملح الصخري الكبير. تقوم الأم بتخزين البيض داخل جزيئات الملح. وفي نفس وعاء الملح الذي كانت فيه في دورتها الشهرية الأولى، طلبت منها حماتها أن تغمس إصبعها في الملح ثم تفركه على لسانها. وقد فعلت الشيء نفسه ولم ن السبب. ولكن كان الأمر كما لو أن حماتها وأخت زوجها أخبراها أنها لن تخاف من رؤية الدم يتدفق من فخذيها النحيلتين. وعلمت أنه بعد انتهاء الدورة الشهرية عليها أن تنام في غرفة زوجها ليلاً. ولم تكن تعرف ماذا سيحدث عندما يُغلق الباب. وهذه الفكرة تخلق لها إثارة خاصة.

تجلس الأم على أرضية المطبخ وتسكب الفاصوليا الطازجة من كيس كبير على قطعة قماش بيضاء نظيفة بها أزهار حمراء وصفراء وأرجوانية. يجلس أطفالها حولها مثل الدمى بشفاه مبتسمة ورموش طويلة مجعدة وعيون لامعة، ويمسك كل منهم بقرن فاصوليا أخضر، ويفتح معدته ويخرج أربع أو خمس حبات  من القرون. توضع الفاصوليا الطازجة ذات التيجان الخضراء المصفرة على الجانب الأيمن من الصينية. تتداخل الفاصوليا مثل الدمى الروسية. دمى الأم ذات الشفاه المبتسمة والرموش الطويلة الملتفة والعيون الساطعة، تقوم الآن بإزالة التاج الموجود على القشرة وترسم الخط الأسود تحته بأظافرها، وتنبثق نواة الفاصوليا بهدوء. يقول الأخ: فليتش! ويفصلون بين نصفي المقرمش والناعم والأخضر ويضعونهم على الجانب الأيسر من الصينية.أحدق في حبة الفاصوليا التي اشتعلت في أصابعي. لا أريد أن أمزق الخط الأسود للابتسامة وأن أزعج العلاقة الحميمة المليئة بالأسرار والرومانسية بين الطرفين. لكنني أزيل الغلاف الرقيق. كلا النصفين ملتصقان بإحكام في أذرع بعضهما البعض وشفاههما مقفلة عند نقطة واحدة. لا أريد أن أفسد حلاوة قبلتهما. لا أريد أن أفصل بينهما.

تضحك الأم . عندما ينظر إلينا ويقرأ قصائد فكاهية. يأتي صوت جان مريم في الراديو. الأب ينظر إلى الزهور في الحديقة. وتتنفس الحديقة رائحة زهور التوليب العباسية بأعلامها المرفوعة ولون بتلاتها الأحمر.

يرن جرس الباب. أفتح الباب. رجل طويل القامة ذو عينين زرقاوين وبشرة بيضاء وشعر أشقر يريد أن يرى والدي بلغة أجنبية. المنزل مليء بأشعة الشمس. مليء بالألوان من الشمس والسماء الزرقاء. مليء بصفاء مياه البركة النظيفة المكسوة بالبلاط الأبيض... والعصافير التي تحلق على الأشجار... والحمام الذي يستريح على جانب الجدران ويهدل... المنزل مليء بالمعالم السياحية الملونة. .. الطوب لون الطوب الطبيعي .. يترك للون الأخضر الطبيعي للأشجار .. والزقاق مليء بأصوات الأطفال والكلاب الضالة ومواء القطط المخططة الخائنة.

يرشد الأب رجلاً طويل القامة ذا عينين زرقاوين وبشرة بيضاء وشعر أشقر إلى غرفة يتحدث لغة أجنبية. تقوم الأم بإعداد شراب الزعفران ثم الشاي مع الحلويات. أنا أقف في الجزء الخلفي من الغرفة. يبقى الأب صامتا. ومن وقت لآخر يقول كلمات أجنبية. الرجل يتحدث بهدوء. لا أستطيع أن أقول أي شيء لنفسي.

الأم سعيدة. تصب الفاصوليا في الوعاء. دماها ذات الشفاه المبتسمة والرموش الطويلة الملتفة والعيون البراقة، تمتزج مع ضجيج الحمام وتلعب كرة المراوغة.

أغلق باب الخزانة وأغادر المطبخ.

يجلس الأب على السرير الرمادي، ولا يزال في نفس الوضع، وسلة الزهور بين ذراعيه. نصف المينا البيضاء أصلع. بتلة بيضاء مقفلة بين أصابع الأب. ينظر الأب إلى البتلة. يريد أن يلتصق بالزهرة. لكنها لا تلتصق. وفي غرفة أخرى، توجه الأم نظرها إلى صفحة المجلة التي تحملها بيدها وتعمل على حل اللوحة الرمادية والبيضاء ينظر من أعلى إلى أسفل ويقول بين أنفاسه: "أيام"... ثم ينظر من اليمين إلى اليسار: "الحياة"... ال ح ي ا ة ...

أجلس على الكرسي الرمادي. أمام والدي لم يعجبني اللون الرمادي أبدًا. فلماذا قميصي رمادي؟

ويُبث صوت القرآن من مكبر صوت المسجد الموجود في الزقاق.

(تمت)

***

...............................

الكاتبة: عزت كوشجير/ Ezzat Goushegir كاتبة مسرحية وروائية وناقد سينمائية وشاعرة. تخرجت في الكتابة المسرحية والأدب الدرامي من مدرسة طهران للفنون المسرحية وحصلت على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من قسم المسرح في جامعة أيوا.

قصة: لويزا فالينزويلا

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

نعم، هذا صحيح، لقد وضع يده على مؤخرتي وكنت على وشك الصراخ قاتل وغد عندما مرت الحافلة بالكنيسة ورسم علامة الصليب. قلت لنفسي إنه رجل طيب. ربما لم يفعل ذلك عن قصد، أو ربما لم تكن يده اليمنى تعرف ما تفعله يده اليسرى. حاولت التراجع أكثر في الحافلة - البحث عن تفسيرات شيء، والتعرض للمداعبة شيء آخر - لكن المزيد من الركاب صعدوا ولم يكن هناك طريقة للقيام بذلك. إن تأرجحتي للخروج من متناول يده سمح له فقط بإمساكي بشكل أفضل وحتى مداعبتي. كنت متوترة وتحركت في النهاية. تحرك هو أيضا. مررنا بكنيسة أخرى لكنه لم يلاحظ ذلك، وعندما رفع يده على وجهه كان عليه أن يمسح العرق عن جبينه. راقبته بطرف عينى، متظاهرة أنه لم يكن هناك شيء يحدث، أو على أي حال لم يجعله يعتقد أنني أحببت ذلك. كان من المستحيل التحرك أبعد من ذلك. وبدأ يهزني. قررت موازنة نفسي ووأضعت يدي على مؤخرته. بعد بضع بنايات انفصلت عنه مع دفع مجموعة من الركاب. ثم انجرفت مع الركاب وهم ينزلون من الحافلة، والآن أنا حزينة لأنني فقدته فجأة لأنه لم يكن هناك سوى 7400 بيزو في محفظته وكنت سأستفيد منه أكثر إذا كنا وحدنا.لقد بدا حنونًا. وكريما جدا. 

***

....................

المؤلفة: لويزا فالينزويلا/Luisa Valenzuelaوُلدت لويزا فالينزويلا، الابنة الكبرى للكاتب الأرجنتيني البارز لويزا مرسيدس ليفينسون، في بوينس آيرس عام 1938. كان منزل ليفينسون مكانًا لتجمع المجتمع الأدبي في الأرجنتين - كان خورخي لويس بورخيس وخوليو كورتازار، من بين آخرين، ضيوفًا متكررين - وفالينزويلا، القارئ النهم، بدأ الكتابة " عام 1958. صحفية وراوئية أرجنتينية. بين عامي 1979 و 1989 عاشت في نيويورك، حيث كانت كاتبة مقيمة في جامعة كولومبيا كو ونيويورك نيو. عمل كمدرس ودورات تدريبية وورش عمل في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك. 

 

قصة:  إيمي تان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

عندما بلغت الرابعة عشرة من عمري هذا الشتاء، وقعت في حب ابن القس. لم يكن صينيًا، بل أبيض مثل ماري بابوس. في عيد الميلاد، صليت من أجل هذا الصبي الأشقر، روبرت، ذى أنف أمريكي جديد رقيق.

عندما علمت أن والديّ قد قاما بدعوة عائلة القس لتناول عشاء ليلة عيد الميلاد، بكيت. ما الذي سيفكر فيه روبرت في عيد الميلاد الصيني الرث؟ ماذا سيقول عن أقاربنا الصينيين المشاكسين الذين يفتقرون إلى الأخلاق الأمريكية الأصيلة؟ ما خيبة الأمل الرهيبة التي سيشعر بها عندما لا يرى ديكًا روميًا مشويًا وبطاطا حلوة ولكن ليس سوى الطعام الصيني؟

في ليلة عيد الميلاد، رأيت أن أمى وقد تفوقت على نفسها من خلال إنشاء قائمة غريبة. كانت تشد العروق السوداء من ظهور الجمبري السمين. كان المطبخ مليئًا بتلال مرعبة من الطعام النيء: سمك القد الحجري اللزج بعيونه السمكية الواسعة يتوسل إلى عدم رميه في إناء زيت ساخن.التوفو، الذي يشبه أسافين مكومة من الإسفنج الأبيض المطاطي. وعاء ينقع فيه الفطر المجفف فيعود إلى الحياة. طبق من الحبار عليه آثار سكاكين تتقاطع مع ظهره، فيبدو مثل إطارات الدراجات .

وبعد ذلك وصلت عائلة القس وجميع أقاربي وسط ضجيج أجراس الأبواب وطرود عيد الميلاد المتناثرة. همهم روبرت مرحبًا، وتظاهرت بأنه غير موجود .

لقد دفعني العشاء إلى المزيد من اليأس. قام والداي بلعق أطراف عيدان تناول الطعام ومداها عبر الطاولة، ثم دفعاها إلى دزينة من أطباق الطعام. انتظر روبرت وعائلته بصبر تسليم الصواني إليهم. تمتم أقاربي بفرح عندما أحضرت والدتي السمك المطهو على البخار بالكامل. تجهم روبرت. ثم دفع أبي عيدان تناول الطعام أسفل عين السمكة ونزع اللحم الطري. قال: "إيمي، هذه مفضلتك"، وقدم لي خد  السمكة الناعم . أردت أن أختفي.

في نهاية الوجبة، انحنى والدي إلى الوراء وتجشأ بصوت عالٍ، شاكرًا والدتي على طبخها الجيد. وأوضح والدي لضيوفنا المندهشين: "إنها عادة صينية مهذبة أن تظهر أنك راضٍ". نظر روبرت إلى طبقه بوجه أحمر. تمكن القس من التجشؤ بهدوء؛ لقد ذهلت وصمتت لبقية الليل.

وبعد أن رحل الجميع، قالت لي أمي: "أنت تريدين أن تصبحى مثل الفتيات الأميركيات في الخارج". سلمتني هدية جديدة. كانت تنورة قصيرة من التويد البيج. ثم أضافت:" لكن في داخلك يجب أن تكونى دائمًا صينية. يجب أن تكونى فخورة بأنك مختلفة. عارك الوحيد هو أن تشعرى بالخزي " .

وعلى الرغم من أنني لم أتفق معها في ذلك الوقت، إلا أنني كنت أعرف أنها تفهم مدى معاناتي خلال عشاء ذلك المساء. لم أتمكن من تقدير الدرس الذي قدمته والغرض الحقيقي من قائمتنا الخاصة إلا بعد مرور سنوات عديدة- بعد فترة طويلة من التغلب على إعجابي بروبرت - وفي عشية عيد الميلاد في ذلك العام، اختارت جميع أطباقي المفضلة..

**

.............................

المؤلفة: إيمي روث تان/ Amy Tan (من مواليد 19 فبراير 1952) مؤلفة أمريكية عن التراث الصيني، اشتهرت برواية نادى الحظ البهيج عام1989م . والتي تم تحويلها إلى فيلم عام 1993م. وهي معروفة أيضًا بالروايات الأخرى ومجموعات القصص القصيرة وكتب الأطفال والمذكرات. وقد كتبت تان العديد من الروايات الأخرى، بما في ذلك زوجة إله المطبخ (1991)، وحواس المائة السرية (1995)، وابنة بونيستر (2001)، وإنقاذ السمك من الغرق (2005)، ووادي الدهشة (2013). كتب تان أيضًا كتابين للأطفال: سيدة القمر (1992) وساغوا، القطة السيامية الصينية (1994)، والذي تم تحويله إلى سلسلة رسوم متحركة تم بثها على قناة بي بي إس. أحدث كتاب لتان هو مذكرات بعنوان حيث يبدأ الماضي: مذكرات كاتب (2017)م.

 

by Ali Al-Kasimi

Translated by Abdeladim Hinda (Professor of Literature & Related Fields, Abdelmalek Essaadi University, Tetouan) and revised by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology - Cadi Ayyad University, Marrakech)

***

The news was on everybody’s lips. It flashed like lightening through the town of Al-Areeqa with incredible speed, much like fire spreads through dry and frittered straw, to quote Dr. Abdulhakim, the town's sole doctor. He noticed people rushing frantically from alley to alley and from house to house to inform their relatives, friends, and acquaintances, and urge them to be cautious, and take their precautions. This commotion resulted in a climate of mass trepidation and hysteria among the locals, with numerous cases of fainting, especially among women, girls and children, as mentioned by Mr. Abdul Mu'in, the infirmary supervisor, who complained about the inadequacy of medicines and the low stock of ammonia gas, usually used to treat fainting cases. Mr. Abdul Shafi, the infirmary’s only nurse, was reported to have been forced to work all day and into late hours at night without any time for meals or rest.

In Al-Amani Café, which is situated on a hill overlooking the town, a group of friends gathered in the evening around one of the tables on which domino pieces were laid out without anyone touching them, nor did they even touch the tea that the waiter, Abdul Wadud, had placed in front of them for quite some time. Abdul Wadud mentioned that their main concern was to discuss the looming danger facing the town. One of them, named Abdul Razzaq, a grocer in the market, spoke of a significant increase in food sales because many people prefer to stock up on provisions in anticipation of being confined to their homes until the danger is gone. He added, somewhat cynically, that it's better for a person to die full than to die hungry. Abdul Latif, the school gatekeeper, seemed dismayed that many parents refrained from sending their children to school after the news spread. However, Abdul Razzaq supported the parents' stance, and argued that they prefer their children to live in ignorance rather than to die educated. Abdul Latif disagreed, echoing the phrase "knowledge means life, ignorance means death," a saying coined by the Arabic language teacher at the town's school, as Abdul Samee informed them. He instructed students endowed with good handwriting to write this saying on pieces of cardboard and hang them on the walls of the school. This teacher used to stand in front of one of these pieces, and gaze at it dazzled, expressing his admiration for  its eloquent wisdom and philosophical depth, as would some mischievous students reportedly banter and poke fun at him.

It was reported that Abdelzaki, one of the teachers at the school, stated that Teacher Abdel Aleem, the school principal, ordered the three students, who first spread the rumor, be brought to his office for interrogation in the presence of all the teachers. The student, Abdel Jabbar, who is in the sixth grade and about twelve years old, told the principal that he was he was taking a walk with his friends, Abdel Qawi and Abdel Rahman, when they saw the monster on the riverbank (which is seven miles away from the town). The principal wanted to know the exact size and shape of the monster, so Abdel Jabbar informed him that it was about three meters tall (while his friend Abdel Rahman insisted that it was much taller and had a bulky body as well). He said it was crawling quickly like an invading soldier, with a round shield on its back (Abdel Rahman interrupted again, insisting that it wasn't exactly round but looked solid like a piece of steel). Abdel Jabbar continued, saying that it lifted its head from under the shield, then stretched its neck about a meter or two upward in the air, turned towards them, and headed their way. Abdel Qawi, who was waiting for an opportunity to say something, added: "We ran for our lives, and we were out of breath before we reached the town." According to Abdel Wahab, the senior teacher in the school who was in the principal's office with the other teachers at that time, fear was evident in the students' eyes, their faces were pale, and their hands were trembling as they recounted what they had witnessed. It was undeniable that they were telling the truth.

Those who recounted the events of that interrogation said that Teacher Abdelzaki wanted to know whether the monster they saw emerged from the river or came from another direction, but the students did not know exactly where it came from. Abdeljabbar hastened to say, "We first saw it lying on the bank of the river, and it didn't move until it sensed our presence. Then it raised its head from under its shield, turned it towards us, directed its gaze at us, and headed towards us." At this point, Teacher Abdelwahab questioned the utility of the inquiry, saying, "It doesn't matter which direction it came from, east or west, north or south. What matters is its presence there on the bank of the river, which is only a few miles away from the town. It might be now on its outskirts as we speak of it." Teacher Abdelzaki responded, "Of course, Teacher Abdelwahab, there's a big difference between whether the monster belongs to wild animals or marine creatures, and whether it entered the river swimming against the current for some reason or another.” But Abdelqader, the science teacher, who remained silent all the time, raised his head at that moment and said, emphasizing his words and stressing the intonation: “I believe, or rather I’m firmly convinced, that what the three students saw is neither terrestrial, nor aquatic, nor amphibian as initially assumed. It is rather  an extraterrestrial being. It is very likely that it descended in a flying saucer or a spacecraft that the students mistook due to their astonishment. It might have been cunningly and deceitfully concealed in the neighboring woods It's possible that this creature they saw is not alone, but is supported by a number of similar beings, hidden from sight, through some concealment mechanism, such as a cap of invisibility, for example.” It was reported that after a moment of hesitation, the school principal asked Teacher Abdelqader whether he thought that the long neck of that creature, which emerged from under the shield, could be like the barrel of a heavy cannon that could direct its fire towards the town and destroy it. However, according to the three students, who were still in the principal's office when this conversation took place, Teacher Abdelqader refrained from answering, saying that he couldn't conjecture the behavior of beings coming from other planets, for there aren't sufficient scientific studies about the nature of those beings and their aggressiveness towards the inhabitants of the Earth; one of them might smile and greet you, then blow a gust of wind that turns you into scattered ashes; another might growl angrily, then extend its hand from under its cloak to offer you a bouquet of flowers.

It seems that the events of this hearing in the school principal's office have spread in the town through the families of the three students and the teachers who participated in it. Now people are no longer talking of a ferocious beast, but rather of a terrifying creature from other planets. Uncle Abdelhafiz, a town guard, mentioned that he saw several people leaving the town at night towards the city located forty miles to the northwest, either riding their animals or riding with their families and domestic animals in carts pulled by donkeys, bulls and horses. His companion, Abdelsattar, who was with him  in the town’s café, commented on that news, saying, "Haven't you heard of the famous saying, 'Defeat is tantamount to half of the spoils of victory'?" Their friend, Mr. Abdelmohaimen, who works as a doorkeeper in the town’s police station, said that the four policemen openly stated that they couldn't do anything without clear and specific orders from their chief. However, the latter, who holds the rank of a police commissioner and who was in charge of the station, was not present in the town at that time because he was enjoying his annual leave for an indefinite period (about five weeks, as weekends weren't counted as part of the annual leave). He was spending his vacation with his parents in their city located northeast of the country, and he had taken his spouse and children with him. According to Abdelmohaimen's account, one of these four policemen had been disciplined by his chief once by cutting off three days' wages from his salary because he acted on his own initiative without orders from his superiors when he stopped a ram that attacked and butted a passerby. His chief had warned him of the necessity to conduct an investigation with the ram and issue a detention warrant against it by the judge before its detention, in respect of the animal rights stipulated in the Animal Welfare Society's regulations, which had been closed down for many years now.

Some prayer-performers recounted that Sheikh Abdelmu'min, who has  recently been appointed as the Imam of the town’s mosque by the Ministry of Religious Affairs and has been promoted after two weeks of his appointment, dedicated his Friday sermon to the calamity that was  about to befall the town and destroy it. He emphasized in his sermon that it was a kind of divine punishment after corruption has spread among the people in the country, and after Lucifer made disobedience to the Creator Almighty and those in authority among them seem attractive. One prayer-performer, who preferred not to mention his name, asserted that it was undeniable that the Imam was alluding  to what was said about some of the village’ youth who don't bow when passing by the statues of the ruler scattered  in the  village’s alleys in numbers greater than the number of passers-by. They only do so, of course, when they are sure that no one is there to see them.

According to Abdelwadie, the town elders met that night, after it became evident to them that the town would be invaded by that creature coming from some other planet. In the meeting, Abdelhadi proposed a mass migration for the village's inhabitants to preserve their lives, properties and dignity. Abdelqahar objected to this idea, pointing out the practical difficulties in its implementation, while Abdelrafie said, "We must question the purpose of this extraterrestrial creature coming to our village; what does it want from us? Once we know the reason, the solution becomes easier." Abdelraouf replied, "What does it want from us other than our wealth and possessions? This is very obvious." Abdelrafie responded with a tone of relief, "So, let's give it everything, even delegate the village's affairs to it to save our lives." At this point, Abdelghani, the village’s mayor, spoke up and earned the approval of the elders with his opinion when he said, "This creature will be pleased if we offer it obedience and allegiance, and all the wealth and treasures it desires. I suggest that we take the initiative to go to it, holding white flags, cheering joyfully, with smiles on our lips and in our eyes. These are signs whose meaning it will fathom. Joy will fill its heart, it will be satisfied with us, and it will turn its harm away from us."

According to Abdelmannan’s report, people gathered that morning, all lined up in a single row, and marched towards the river, carrying white flags and wide banners on which they clearly wrote: "Welcome to the town of al-Areeqa" (Abdelhaleem corrected, saying, "Most of the banners said: 'You are welcome and we greet you with ease'"), Abdelmannan continued, saying, "They walked towards the river, with the three students, Abdeljabbar, Abdelrahman, and Abdelqawi, pointing with their fingers towards the direction where they first saw the extraterrestrial creature."

When they were close to the river, they caught sight of something dark-colored, descending towards the riverbank, as Abdelatif, who was walking alongside Ahmed, observed. The latter was known in the village for his frequent reading and his avoidance of others. Abdelatif noticed that Ahmed's face had turned pale, then his steps slowed down, and his hands trembled. He thought that Ahmed was overwhelmed with intense fear. He grabbed his arm to calm him down, but Ahmed quickly collapsed to the ground, muttering words that Abdelatif didn't understand at first. He leaned over him and put his ear close to his lips to hear what he was saying. At that moment, some of the townspeople gathered around Ahmed, who was lying on the ground, to find out what had happened to him. Abdelatif said they heard him repeating the phrase: "What a shame! It's just a big ghaylam! A ghaylam! A ghaylam!" In lieu of attending to his condition and providing first aid, they turned to the Arabic language teacher to ask him about the meaning of "ghaylam". The teacher, somewhat embarrassed, said, "It's a male tortoise."

***

..........................

  This short story is a translation of الخطر by Ali Al-Kasimi. It is the first in the short story collection Circles of Sorrow (دوائر الأحزان, under translation).  The Arabic version is also available following this link: https://www.almothaqaf.com/nesos/93796

4

بقلم: كينغزلي إميس

 ترجمة: صالح الرزوق

***

راقبته المرأة وهو يفتش مرة أخرى. لم يكن هناك شيء جديد ولكنه كان يدرك بوجود شخص في الجوار. في تلك الحالات تشعر به دائما. بعد عشرين عاما تشعر به إذا كان بالجوار.

"أي شي؟".

"ليس حتى الآن".

قالت:" توقعت أنه بمقدورك أن تخبرنا أين نجده. ونحن اخترناك لأنه بإمكانك أن تقودنا مباشرة إلى أحدهم. نحن وظفناك لهذا السبب".

قال الشاب: "على مهلك يا مارثا. لا أحد يعثر على مكان الإكسيب xeeb إذا لم يكن الإكسيب موجودا. ولا حتى السيد هاردكير. ولكن سوف نمر بأحدهم في أية لحظة". 

ابتعدت عن ثلاثتهم. وكانوا عند منصة الأدوات. لفتت النظر بفخذيها تحت الجينز الضيق. قال فيليب هاردكير لنفسه يا لك من عاهرة. عاهرة ملعونة ومضجرة ويغلبها الضجر ودون إحساس. شعر بالأسف للشاب. كان شابا رائعا وجميلا، ولكنه متزوج من هذه العاهرة اللعينة المحرومة من المشاعر، وكان يظهر كأنه خائف جدا منها، ولا يمكنه أن يطلب منها أن تنصرف وتغرب عنه، ولكن أنت تعلم أنه يتمنى ذلك.

قال المريخي العجوز:"أشعر أنه قريب". ثم التفت بواحد من رأسيه الاثنين. وبالتحديد الرأس الأضخم والأغزر بالشعر. ونظر إلى فيليب هاردكير وقال:" عما قريب سيكون تحت أنظارنا".

اتكأت المرأة على جدار السفينة ونظرت من الرصيف. "لا أستطيع أن أفهم لماذا تريد أن تذهب لصيد هذه الوحوش. مر علينا يومان بعد المغادرة، ويمكننا أن نبلغ مرفأ الزهرة في هذه الفترة عوضا عن أن نحبس أنفسنا في هذه المركبة jalopya الفولاذية سنتين ضوئيتين ونخسرهما من عمر الحضارة. ما الهدف من الحصول على إكسيب حتى لو بمقدورك أن تحصل على واحد منهم؟ ماذا يعني، أن يكون لديك إكسيب". 

كان الشاب أستاذا أو شيئا من هذا القبيل، ويمكن أن تؤكد ذلك من بلاغته بالكلام، فقد قال:"الإكسيب هو أكبر شكل حي في هذا الجزء من المجرة.  وعلاوة على ذلك هو المخلوق الوحيد الحساس هنا في الفضاء المفتوح. وهو شرس. ومن المعروف أنه يهاجم سفن الاستطلاع. وهو أقسى الموجودات هنا. هذا هو الموضوع. هل هذا صحيح؟".

قال فيليب هاردكير:" جزئيا".  بجانب ذلك هناك المزيد. الحرية المتاحة هناك والنجوم أمام الخلفية السوداء، والرجال الصغار ببذاتهم والخوافون وغير الخوافين وحتى الإكسيب صغير الحجم في تلك المساحة اللامحدودة والمتعة المثلجة للصدر إذا كان الإكسيب قويا.

قال رجل المريخ العجوز بصوته الهامس:" لقد جاء. انظري يا سيدة". وانحنى رأسه الأصغر نحو الشاشة. 

قالت وهي تدير ظهرها:" لا أود أن أرى". كانت إهانة قاتلة حسب قانون الشرف المريخي العريق، وهي تعلم ذلك، وفيليب هاردكير يعلم أنها تعلم. وصل الكره إلى حلقه، غير أنه لم يكن هناك مجال للمقت الآن. نهض من المنصة. لم يتبق شك. أي شخص من الهواة يمكنه أن يتعرف من النبضة على أسترويد أو سفينة مماثلة. فبعد عشرين عاما يجب أن تعرفها فورا. قال:"جهز نفسك. زي الفضاء بغضون ثلاث دقائق".

ساعد الشاب في ارتداء الخوذة وما كان يخشاه قد حصل، أخرج المريخي بذته الشخصية ودس بسرعة ساقيه الخلفيتين فيها.  زحف نحوه ووضع يده بين الرقبتين بحركة توسل تقليدية. وقال بلسان أهل المريخ الأصلي النظامي:"ليس هذا صيدك يا غلمو".

"لا زلت قويا وهو كبير وجاء مسرعا".

"أعلم. ولكنه ليس صيدك. الكبار طرائد وليسوا صيادين".

"كل عيوني قوية وكل قبضاتي ثابتة".

"ولكنها بطيئة ويلزم أن تكون سريعة. كانت سريعة والآن هي بطيئة".

"يا هار داشا. رفيقك من طلب هذا مني".

"دمي لك كما هو الحال كل الوقت. وربما تفكيري يبدو فظا أيها الكهل. سأرافقك في الصيد".

قال المخلوق العجوز مستعملا لغة شراكة طقوسية: "صيدا موفقا يا هار داشا. أنا بانتظارك دائما".

قالت المرأة بصوت ثاقب:" هل سنطلق على هذا الحوت اللعين أم لا؟. أم أنك ستواصل التهامس مع ذلك الشيء طيلة الليل".

التفت إليها بتكبر وقال:"أنت خارج الموضوع. عليك الانتظار هنا. فهو مكانك. أعيدي ذلك السلاح إلى الرف وتخلي عن بذة الفضاء وأعدي لنا الطعام. سنعود خلال نصف ساعة".

"لا تلق علي الأوامر أيها البدين. يمكنني أن أطلق النار مثل أي رجل ولن تمنعني".

"هنا أنا من يقرر، وعلى الآخرين التنفيذ".

استطاع أن يلاحظ من فوق كتفها رجل المريخ يعلق بذته. تابع بحلق جاف:"إذا كنت تريدين الدخول في قفل الهواء ذاك معنا سنعود إلى الزهرة".

قال الشاب: "آسف يا مارثا. عليك أن تنفذي أوامره".

جرى تلقيم بندقيتين من طراز ويندهام - كلارك، وشحنهما بأقصى طاقة. وانتظرا في قفل الهواء ريثما ينفد الهواء. ثم انزلق الباب الخارجي على الحائط وأصبحا في الخارج حيث الحرية واللانهاية والخوف الذي لا يشبه الذعر الحقيقي.  كانت النجوم بالغة البرودة، وبينها مساحة سوداء. أما عدد النجوم فقد كان قليلا. أما السواد بينها فقد كان فضفاضا. وما يعطيك الشعور بالحرية هو تجاور النجوم مع البحر الأسود. دون أي منهما لن تنعم بحريتك، وسيتبقى المدى اللانهائي، لكن بوجود النجوم والسواد ستنعم بالحرية مع الشعور بالاتساع. وكان عدد النجوم قليلا ونورها صغيرا وباردا، وحولها اللون الأسود.

قال للشاب بواسطة راديو البذة:"هل تراه؟باتجاه النجمة الضخمة مع رفيقتها الصغيرة".

"أين؟".

"انظر إلى اتجاه إشارتي. لم يكتشفنا بعد".

"وكيف يكتشفنا؟".

"لا بأس. الآن اسمعني. أطلق عليه مرة بعد كل دورة يقوم بها. طلقة فقط.  ثم تقدم بنفاثة البذة بأسرع ما يمكن. هذا يربكه أكثر من الحركات الثانوية".

"سبق وأن أخبرتني".

"وها أنا أكرر. طلقة واحدة. ستجذبه طلقتك. جهز نفسك. فقد شاهدنا. وها هو يستدير".

ضاقت الكتلة الكبيرة المشعة والجميلة مع اقترابها منهم، ثم بدا أنها تنتفخ. وكان اقتراب الإكسيب متعجلا، أسرع من أي مخلوق عرفته. كان الإكسيب ضخما وسريعا، وعلى الأرجح من النوع المعافى. أمكنه أن يقرر ذلك بعد أول غطسة. وأراد من النسل أن يكون صحيحا ومعافى كرمى للشاب. فقد رغب للشاب صيدا موفقا وإكسيبا جيدا وكبيرا وسريعا.

قال فيليب هاردكير:"أطلق خلال خمس عشرة ثانية. ثم انطلق بالنفاث. لن يكون أمامك فرصة طويلة ليغطس مجددا. لذلك استعد".

اقترب الإكسيب، أطلق الشاب قوسا من الطاقة. لكنه تسرع وبصعوبة أصاب نهاية الذيل. انتظر فيليب هاردكير وأطلق على الكومة حيث الأعصاب الأساسية ولم ينتظر ليشاهد أين أصابه وأسرع بالنفاثة.

كان إكسيبا جيدا. ويمكن أن تقرر أنه أصيب في جهازه العصبي، أو ما يعادل ذلك، من طريقة ومضاته المشعة. ثم بعد ثوان استدار وبدأ بغطسة مهيبة ورائعة باتجاه الرجلين. في هذه المرة امتنع الشاب عن إطلاق النار لفترة أطول ثم أصابته بطلقة مباشرة قرابة بروزه وطار نحوه حسب التعليمات. ولكن النسل سقط بطريقة لا تتكرر إلا مرة من أصل مائة مرة، وأصبح هو والرجل على استقامة واحدة تقريبا. ولم يكن أمام فيليب هاردكير ما يفعله سوى تفريغ بندقيته الويندهام - كلارك مقتنعا أن هدر الكثير من الطاقة قد يدعو الإكسيب لتبديل رأيه ومهاجمته. طار إلى الأمام بأقصى سرعة ونادى براديو البذة للتوجه إلى السفينة حالا.

رد صوت الشاب:"ولكن هاجمني شيء ما وفقدت سلاحي".

"إلى السفينة مباشرة".

"لن نذهب إلى هناك أليس كذلك؟".

قال فيليب هاردكير: "سنحاول. ربما ألحقت به الضرر بعد آخر طلقة وسيتباطأ أو سيفقد إحساسه بالاتجاهات".

هو يعلم أن الموضوع انتهى. كان الإكسيب على بعد عدة أميال فوقهما وبدأ بغطسة جديدة، لكنه تحرك ببطء إنما ليس ببطء شديد. وكانت السفينة بالأعلى أيضا باتجاه مغاير. وهذه هي المشكلة  كلما قمت باصطياد إكسيب، وحينما حصل ذلك في المرة السابقة كانت رحلة الصيد والحرية والاتساع في نهايتها، وكان عليهما التوقف في لحظة من اللحظات.  شاهدا قوس إضاءة طويل يأتي من السفينة وسطع الإكسيب فجأة أكثر من السابق لدقيقة فقط، ثم مات السطوع، ولم يعد هناك شيء. أخذ رجل المريخ وضعية الرابض في قفل الهواء، وكانت ويندهام كلارك في مخالبه. انتظر الرجلان إغلاق الباب الخارجي وتدفق الهواء.

قال الشاب:"لماذا لا يرتدي بذته؟".

"لا يوجد وقت.  توفرت له دقيقة لإنقاذنا. بذة المريخ تحتاج لوقت أطول كي ترتديها".

"ماذا أصابه أولا، البرد؟".

"نفاد الهواء. فهم يتنفسون بسرعة. خمس ثوان على الأكثر. ما يكفي للتسديد والإطلاق". وتبادر لذهن فيليب هاردكير أنه كان سريعا.

في الداخل كانت المرأة تنتظرهما. سألت: "ماذا حصل؟".

"طبعا مات. فاز بالإكسيب".

"هل عليه أن يقتل نفسه ليتم الأمر؟".

قال فيليب هاردكير: "هناك على متن المركبة سلاح واحد ومكان واحد لاستعماله". ثم خفت صوته. وأضاف:" لماذا ترتدين بذة الفضاء حتى الآن؟".

"لأستمتع بإحساسي بها. وأنت طلبت أن أخلعها".

"لماذا لم تضعي البارودة في المكان المفرغ من الهواء؟".

خمدت عيناها. وقالت: "لا أعرف كيف يعمل القفل".

"لكن غلمو يعرف. ويمكنه التحكم به من هنا. وبمقدورك إطلاق النار. أنت قلت ذلك".

"آسفة".

قال الشاب:"آسف أنا أيضا". لم يكن صوته يشبه كلام أستاذ الآن. ولا يدل على خوفه منها.

تابع:"الأسف يعيد ذلك الرجل العجوز إلى الحياة كما كان، أليس كذلك؟. الأسف هو أفضل ما سمعته  والأسف شيء آخر أيضا. والأسف هو حقيقة مشاعري بعد أن أتركك في ميناء الزهرة وأستقل المكوك إلى الأرض وحدي. أنت تحبين ميناء الزهرة. أليس كذلك؟. حسنا. هذه فرصتك لتختفي فيه".

انتهى فيليب هاردكير من تركيب أطراف ومفاصل رجل المريخ الكهل ودمدم ما يعرف من تعاويذ موصى بها. وقال:"اغفر لي".

ثم قال الشاب للمرأة:" تناولي عشاءك الآن". 

وقال فيليب هاردكير لجثمان صديقه:"كانت هذه رحلة صيدك".

***

.........................

* كينغزلي إميس Kingsley Amis

(1922-1995) شاعر وروائي بريطاني. مشهور بروايته (جيم المحظوظ) 1954. كان أحد أهم جماعة الجيل المتمرد في أوروبا. وهو والد الروائي التجريبي مارتن إميس. كان مدمنا على الكحول وأثر ذلك في اختيار موضوعات كتبه. حاز عام 1984 على البوكر عن روايته (كهول مشاغبون). من أعماله الهامة: رجل إنكليزي بدين 1963. الرجل الأخضر 1969. النهاية 1974. الفتاة الروسية 1992…

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by Abdeladim Hinda (Professor of Literature and Related Fields, Abdelmalek Essaadi University, Tetouan-Morocco)

***

Come with me for breakfast. You're my guest today. Let's go to one of those cafés that are crowded with unemployed as well as employed people. They eat their breakfast, or rather sip  their coffee, leisurely all morning. Our city is a first-class tourist city. Its tourists are its young and old people. You and I, too, will spend the whole morning in a café.

To while away the time, let me read you a poem in French by Jacques Prévert called “Breakfast.” Its title is consistent with the place we are in, and the poet used to write his poems in Parisian cafés and public parks. If you are not fluent in French, I will read the same poem to you in Arabic. The poet Nizar Qabbani translated it into Arabic and gave it the title "Al-Jarida" (the newspaper). He did this out of compassion for people like you who did not master French because of the teacher's constant absence. Qabbani included it in his diwan, but he forgot to write the word "translation" on it. You must have heard it before in the voice of the singer Magda Al-Roumi.

If you don't like poetry and prefer English, let's read a short story by the American writer Ron Carlson called “Reading the Newspaper.” What did you say? You don't know English. Never mind, don't worry, because I am going to steal the subject of this story and translate it into Arabic now under the title "Breakfast". Just a change of title and you're a writer. However, newspapers do not pay copyright. You steal other people's ideas, and publishers steal your rights.

You didn't like my story? Why? It does not have the specifications of the story? It's okay, we'll call it "narration." It's a postmodern art, and the term "narration" covers everything that is not a story but you want it, nonetheless, to be a story, just like the term "figurative art" in painting. For example, you can become a painter if you put scribbles inside a stylish frame, display them in a fancy gallery, and say that they are "figurative art". If you have friends who are art critics, they will come up with analyses and interpretations of your scribbles that you never thought of.

What did you say? Do you not want to hear anything from French or English literature? Then, we will kill the time by reading Arabic newspapers. Don't think I'll buy the newspapers. Unemployment makes one genius in inventing unique methods. We will borrow all the newspapers from the seller for only half a dirham. After consulting them, we will return them to him, who in turn will return them to the distributor the following day as "unsold returns". They all do so, and so do we. Didn't I tell you that unemployment is the mother of invention?

You prefer to watch bystanders and comment on them, don't you? Luckily, this café overlooks the main street. However, I should warn you in advance. If you see a young man stopping a passing girl in the middle of the road, pointing a knife to  her face, and ordering her to hand him over her handbag and her fake jewelry,  stay put, because the girl will hand him the bag with a shaky hand and a pale smile, and the scene will pass peacefully. If you are curious and stick your nose into it , the unfortunate may happen. Do exactly as the policeman does as he passes the scene with his eyes closed. His excuse is that he had ended his shift moments earlier. It is wisdom itself. Or do as I do: Drink your coffee before it gets cold.

What did you say? The waiter brought cold coffee? Don't worry about it because it would get cold anyway; we're going to spend the whole morning in this café. Just put it in front of you pretending to enjoy it.  Don't drink your coffee too fast. In haste, regret, and in patience, safety. If you do not like this café, we will go to another café in the afternoon. The whole city is full of cafés: between every  two cafés, there is another café.

So, let's start by reading the front page headlines of this newspaper. Are you ready to hear the nation's news this morning? Then, trust in Allah:

"For the second time in two weeks, Prof. Marufis survives a bomb attack."

Don't know who Prof. Marufis is? He's the general who seized power in a military coup and sentenced the elected prime minister to death. The latter  poor man had won the election. But, with bribery and forgery.

Dozens of Lebanese killed when a Boeing plane crashed on its way to Beirut.” The reason? Very simple: the plane was overused. The money for maintenance missed its way and ended up in the pockets of some company officials.

"Israeli warplanes assassinate six Palestinians, including four children, by firing a missile at their car on a Gaza street, injuring twenty passers-by." This piece of news is normal and does not require any comment. We have become accustomed to it; there is nothing new about it. We've been hearing similar news every morning for three years.

The American occupation forces kill thirty Iraqis and arrest one hundred and sixty others north of Baghdad...” They are the masters of the world; they are the cowboys. They can go anywhere and do whatever they please. No inhibitions and no deterrents. The world is as if it were a small cosmic farm to fatten their cows. We all belong to them.

"New mass graves discovered in Iraq."

Learn the ways of good governance, my friend! You may be lucky enough to become the President of our Royal Republic in the near future. What are you saying? No, I'm not joking.

"International report: 351,000 Arab children infected with HIV/AIDS." This means that we have learned a wisdom that we have been repeating for a thousand years: "Cleanliness is next to Godliness."

Do you want to hear more news? No. Let's change the subject then: Now how do we look for work?!

***

This short story is a translation of فطور   الصباح by Ali Al-Kasimi. It is the first in the short story collection Circles of Sorrow (دوائر الأحزان, under translation).  The Arabic version is also available following this link:

https://www.almothaqaf.com/nesos/937964

قصة: شيل سيلفرستاين

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

ذات يوم كانت هناك شجرة...

وأحبت ولداً صغيراً

وكل يوم كان الصبى يذهب إليها

ويجمع أوراقها

ويحولها إلى تيجان.

ويلعب دور ملك الغابة.

وكان يجب أن يتسلق جذعها.

ويتأرجح فوق أغصانها.

ويأكل التفاح.

وكانا يلعبان معا لعبة الاستغماية.

وكان عندما يتعب.

ينام فى ظلها.

وأحب الولد الشجرة

كثيراً جداً.

وكانت الشجرة سعيدة.

لكن الوقت يمر.

وصار الصبى أكبر.

وبقيت الشجرة غالباً وحدها.

ثم ذات يوم حضر الصبى إلى الشجرة

وقالت الشجرة: " تعالى يا ولد، تعالى فوق جذعى وتأرجح بين أغصانى وكل تفاحى والعب تحت ظلى وكن سعيداً "

قال الصبى: " أنا كبرت جداً على القفز واللعب

أريد أن أشترى أشياء وأستمتع. أريد بعض النقود؟"

فقالت الشجرة آسفة: لكن ليس لدى أموال. لدى فقط أوراق و تفاح.

خذ تفاحى ياولد وبعه

فى المدينة.

عندئذ سوف يكون معك المال وسوف تكون سعيداً"

هكذا تسلق الصبى الشجرة وقطع تفاحها

وحمله وابتعد

وكانت الشجرة سعيدة

لكن الصبى مكث بعيداً لوقت طويل..

وكانت الشجرة حزينة.

وبعد ذلك وفى ذات يوم عاد الصبى.

واهتزت الشجرة من الفرح.

وقالت : تعالى يا ولد اقفز فوق جذعى وتأرجح بين أغصانى وكن سعيداً "

قال الصبى " أنا مشغول جداً عن القفز. أريد منزلاً يحفظنى دافئاً، أريد زوجة وأريد أطفالاً، ولذلك أحتاج إلى منزل ؛هل يمكن أن تعطينى منزلاً ؟

قالت الشجرة: ليس لدى منزل، لكن يمكن أن تقطع أغصانى وتبنى منزلاً.

وعند ذلك ستكون سعيداً.

قطع الصبى فروع الشجرة.

وحملها بعيداً.

لكى يبنى منزلاً، وكانت الشجرة سعيدة.

لكن الصبى ابتعد لوقت طويل.

وعندما عاد، كانت الشجرة سعيدة جداً.

وبالكاد استطاعت أن تتكلم.

همست: " تعالى أيها الصبى، تعالى والعب "

فقال الصبى: أنا عجوز جداً وحزين. أريد قارباً يمكن أن يأخذنى بعيدا عن هنا.

هل يمكن أن تعطينى قارباً؟ "

قالت الشجرة: اقطع جذعى، واصنع به قارباً وعندئذ يمكنك أن تبحر بعيداً وتكون سعيداً "

قطع الصبى جذعها، وصنع قارباً

وأبحر بعيداً.

وكانت الشجرة سعيدة.

... لكن ليس حقيقة.

وبعد وقت طويل

عاد الصبى من جديد

قالت الشجرة " آسفة أيها الصبى

لم يتبق لدى شىء لكى أعطيه لك،

وتفاحاتى ذهبت "

قال الصبى "" أسنانى ضعيفة جداً لآكل التفاح "

قالت الشجرة: " أغصانى جفت

لا يمكنك أن تتأرجح فوقها "

قال الصبى: أنا عجوز جداً على التأرجح.

قالت الشجرة: ذهب جذعى.

لا يمكنك أن تتسلق... "

قال الصبى " أنا متعب جداً لأن أتسلق "

قال الشجرة: آسفة. وأضافت وهى تتنهد " أتمنى لو استطعت أن أقدم لك شيئاً ما..

لكن لم يتبق لدي شىء.

أنا مجرد جذع عجوز

آسفة... "

قال الصبى: " لا أحتاج إلى الكثير جداً الآن

فقط مكان هادىء للجلوس والراحة، أنا متعب جداً.

قالت الشجرة وهى تستقيم بقدر ما تستطيع:

" حسناً، الجذع العجوز جيد للجلوس والراحة، تعالى يا صبى، اجلس،

اجلس و استرح "

وفعل الصبى.

وكانت الشجرة سعيدة.

***

.............................

الشاعر: شيل سيلفرستاين

شيلدون ألان أو "شيل" سيلفرشتاين/Shel Silverstein (25 سبتمبر 1930 - 10 مايو 1999) هو الشاعر الأمريكي، والمغني وكاتب الاغاني، ورسام الكاريكاتير، وكاتب المسرح و السيناريو ومؤلف كتب الأطفال، ترجمت أعماله إلى أكثر من 30 لغة، وباعت كتبه أكثر من 20 مليون نسخة.

 

قصة: يوكيكو توميناجا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تفتت الجلد الميت لأخي والتصق بكف أمي عندما دهنت ظهره بالمرهم الأرجواني. وأوضحت والدتي أنه مرهم من نوع خاص، فهو يحافظ على رطوبة بشرته ويساعد على شفاء البثور. قلت لها مازحة: رائحته لذيذة مثل السمسم المحمص ، فأجابت نعم ، إنه يحتوي على زيت السمسم.

كنت أفكر في ابني، أليكس. في كل عطلة صيفية، كنت أنا وأليكس نزور اليابان لرؤية عائلتي. على عكس أمريكا التي نعيش فيها، تستمر المدارس العامة اليابانية في العمل حتى نهاية شهر يوليو. "نحن نرحب بالأجانب"، هذا ما قاله المدير قبل عامين عندما سألته عما إذا كان بإمكان أليكس الانضمام إلى مدرستهم خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة للتعرف على ثقافته وتكوين صداقات جديدة. استمتع أليكس بالمدرسة خلال العامين الماضيين، لكن هذا العام، في الصف الثالث، كان يشكو من الذهاب إلى المدرسة كما لو أنه أدرك للتو أنه تعرض للغش في وقت إجازته لسنوات. لقد كان على حق، رغم أنني لم أكن مخطئًة تمامًا. على الأقل هذا ما قلته لنفسي.

فكرت في إجازتنا الصيفية إذا كان مايكل لا يزال هنا، ولا يزال على قيد الحياة. كنا نزور والديّ لمدة ثلاثة أسابيع على الأكثر، لكننا كنا نذهب للتخييم في يوسمايت، ونقوم برحلات برية صغيرة هنا وهناك ونندهش من مدى ضخامة أمريكا. لن أكون الوحيدة المسؤولة عن صيف أليكس بأكمله.

كان صباحًا حارًا ورطبًا. كان مكيف الهواء شغالا بالفعل وقام أخي بتشغيل المروحة بأقصى سرعة. عندما بدأت المروحة في الظهور بصوت أعلى، قام أليكس بتشغيل التلفزيون.

كان أخي عارياً، عارياً تماماً، ولم يكن يرتدي حتى منشفة. كان في الحادية والثلاثين من عمره، أي أصغر مني بسنتين. لقد عاش مع والدي كما فعل العديد من اليابانيين حتى تزوجا. وعلى عكس الأطفال الآخرين، فقد ساهم لوالدي بمبلغ ألف دولار شهريًا بينما كان يدفع أيضًا قرض الطالب الخاص به. لقد تخرج من ثاني أفضل جامعة بمرتبة الشرف، وكان يعمل في أفضل شركة لتكنولوجيا المعلومات كمستشار، وفي العام الماضي فاز بجائزة أفضل مصمم ويب. هذا الرجل، أخي، كان يجلس على وسادة ملطخة باللون الأرجواني، عارياً، مطوياً ساقيه، وظهره مواجهاً لنا، أمامي، أنا وابن أخته وأمه.

قالت والدتي وهي تدفع قضيبه بلطف إلى الجانب لتدليك المرهم في خصيتيه:

- لا أستطيع أن أصدق أنك يمكن أن تصاب بالإكزيما التأتبية، حتى هنا.

لم يقل أخي شيئًا؛ لقد كان نعسانًا جدًا لدرجة أنه لم يتمكن من الاستجابة في الصباح.

تذكرت قضيبه بحجم الخنصر. التجاعيد بعد على نحو سلس. عندما كنا صغارًا كنا نستحم معًا. الآن لم يعد قضيبه بحجم الخنصر، ولم يعد سلسًا. نظرت إليه وكان أقرب شيء يمكن أن أفكر فيه هو خرطوم الفيل. خشنًا وجافًا، به عدد لا يحصى من الشقوق والتجاعيد، إلا أن جسده كله كان أحمر بدلًا من الرمادي بسبب الالتهاب ولأنه أثناء نومه كان يخدش ظهره مثل كلب على الأرض. تخيلت أخي فيلًا أحمرًا يتدلى خرطومه بين ساقيه، رغم أن رأسه البشري لا يزال جالسًا على رقبته. لم تكن الصورة منطقية بالنسبة لي، لكن هذا ما خطر ببالي عندما تخيلت جسد أخي.

قالت أمي لأخي:

- أنت محظوظ، لأنه طالما ترتدي أكماماً طويلة، فلن يعرف أحد .

قال وهو يضحك من أنفه:

- لا أحد يهتم كيف أبدو. أنا أجيد ما أفعله وهذا كل ما يهم .

قالت أمي:

- مع قميصك، تبدو مثل أي شخص آخر.

مد أخي ساقيه. رأيت نقاطًا حمراء على قدميه وأصابع قدميه كما لو أن شخصًا ما قد حفر نسخة مشوهة من خريطة أمريكية. وصلت الأكزيما أخيرًا إلى هناك أيضًا. ومن حسن الحظ أن أخي لم يخدشها بعد.

أخذت والدتي المرهم الأرجواني من العلبة، وفركته في كفها، ثم دلكت به ساقيه وقدميه. اختفت النقاط الحمراء وتحولت ساقيه إلى اللون الأرجواني.

تحرك أليكس من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين بينما كان أخي يمد جسده. لم ير أليكس أخي، فقط كان يتابع الرسوم المتحركة على شاشة التلفزيون.

قلت لأليكس:

- هاى، حان وقت تناول فطورك. أطفئ تلفازك.

أعطاني أليكس تنهيدة وهو يجلس ببطء على الطاولة. مع إيقاف تشغيل التلفزيون، فجأة أصبح صوت المروحة أعلى. نظر أخي إلى بطنه، وقطف جلده الميت، ثم ضرب رقبته عدة مرات. كان يعلم أن الخدش يمكن أن يجعل الإكزيما التي يعاني منها أسوأ، كنا نعلم جميعًا، وحتى لو أراد أن يخدش نفسه، لم يستطع، فقد قام بقص ظفره إلى مسافة قصيرة جدًا بحيث يمكننا لمس الجلد الناعم بين أظافره وأصابعه.

سأل أليكس:

- في أي وقت ستصطحبيني؟

أجبته:

- مثلما حدث بالأمس، الثانية وخمسين دقيقة .

- بعيد جدا. جدتي، هل يمكنك اصطحابي في الثانية؟

قالت أمي:

- أوه، أتمنى ذلك يا عزيزي، ولكن لدي موعد مع مصفف الشعر اليوم .

قام أليكس بضرب بيضته المشمسة بشوكته. نفد النير إلى الجانب:

- يا ماااا.

قالت أمي:

- لكن غدًا سأصطحبك وسنتمكن من اللعب في صالة الألعاب .

قال أليكس:

- أتمنى أن يكون اليوم غدًا .

قلت:

- مرحبًا، على الأقل سأقوم باصطحابك. على الأطفال الآخرين العودة إلى المنزل بمفردهم.

قال اليكس:

- متى ستنتهي العطلة الصيفية؟

- عن ماذا تتحدث؟ نحن نذهب للتخييم، وركوب الرمث في المياه البيضاء، والعديد من الأشياء الممتعة التي تنتظرنا.علاوة على ذلك، فأنت محظوظ جدًا لتجربة مدرستين مختلفتين في بلدين مختلفين. ليس لأحد هذا النوع من الامتياز.

- حسنًا، لقد فعل ديلان، ومايو، وكذلك كاي.

- إنهم يابانيون أيضًا. أنا أتحدث عن أصدقائك الآخرين من المدرسة في أمريكا.

وجهت له نظرة حادة، وهذا يعني الكف عن المناقشة.

قالت أمي وهي تربت على رقبة أخي:

- انتهى الأمر .

أمال أخي رقبته ثم ارتدى ملابسه الداخلية وسرواله وقميصه. لقد بدا الآن وكأنه رجل أعمال شاب، تمامًا مثل أي شخص آخر. أنهى أليكس بيضته وذهب لتنظيف أسنانه. جلس أخي قبالتي وبدأ بتناول فطوره. كان يبدو كطفل في المدرسة الثانوية، بالطريقة التي أتذكرها منذ خمسة عشر عامًا عندما كنت أعيش هنا.

قلت لأليكس الذي عاد إلى غرفة المعيشة:

- حان وقت الذهاب. قل وداعاً لخالك وجدتك.

عانق أليكس والدتي ثم لوح لأخي.قلت لأليكس الذي كان يرتدي حذائه:

- في الثانية وخمسين سأكون عند الباب الأمامي.

- هل يمكنك المشي معي إلى المدرسة، ماما؟

- لا، اذهب مع جماعة المشي الصباحية، لكنني سأراقبك من النافذة.

قبلني أليكس على خدي ولوح لي. لقد ودعته حتى تجاوزت مجموعته الصباحية الضوء الأول واندمجت مع أطفال المدارس الآخرين. حتى من الطابق الخامس في شقة والدي، كنت أرى أليكس يمشي ورأسه إلى أسفل. أغلقت النافذة ونظرت إلى إشارة المرور. أنا على حق، أنا على حق، قلت لنفسي وتوجهت نحو غرفة المعيشة.

قلت وأنا أجلس إلى طاولة الطعام:

- أنا لا أعرف أمي.

- عن ماذا؟

كانت والدتي تشرب حساء الميسو الخاص بها. وأخيراً جاء دورها لتناول وجبة الإفطار. كان أخي قد ذهب إلى العمل وذهب والدي إلى العمل قبل وقت طويل من استيقاظي.

قلت:

- أليكس لا يستمتع بالمدرسة هذا العام. إذا كان عليه أن يذهب إلى المدرسة هنا، فهو يقول إنه يفضل عدم أخذ إجازة صيفية.

- إنها المدرسة، لا أحد يحب المدرسة.

تنهدت:

- أعرف.

قالت والدتي:

- ليس الأمر كما لو كان عليه أن يدرس. عليه فقط أن يذهب حتى يتمكن من البقاء مع الأطفال في مثل عمره .

- أعرف.

- إلى جانب ذلك، ماذا ستفعلين معه لمدة شهرين، اثنان منكم فقط؟ سوف تصابين بالجنون.

– أعرف.

قلت ذلك ولكني لم أكن أعرف إذا كنت أفعل الشيء الصحيح. كان هناك كيس بلاستيكي كبير مملوء بزجاجة ماء دواء أخي تحت الطاولة. يمكن أن ألمسهر بأصابع قدمي. قلت مرة أخرى مازحة:

- ما فائدة هذه الأدوية؟ هل يتحول دايتشي إلى رجل عجوز أم ماذا؟

- إنه ليس دواءً حقًا. إنها فقط المياه التي وصفها له طبيبه الجديد.

- رائحة تلك المياه تشبه رائحة المبيض.

- ربما يكون مبيضًا لأنه يوجد في الولايات المتحدة علاج يسمى حمام المبيض. هل سمعت بذلك من قبل؟

- لا، هل هو آمن؟

قالت أمي:

- أكثر أمانًا من السترويد.

ثم ألقت التوفو في فمها.وأضافت:

- لا حاجة إلى السترويد، ها؟ فقط قطعة صغيرة على رقبته.

أومأت برأسي وأمسكت بخمس زجاجات من المكملات الغذائية من الرف المجاور للطاولة؛ كولاجين لبشرته، وأنبوب السائل المشيمي لكليتيه، وحبة خضراء صغيرة غامضة لتعزيز جهازه المناعي، ونوعين مختلفين من الطب الصيني أعطتني إياها أمي. اشترتها من الصيدلية المفضلة لديهاأشارت إلى زجاجة الحبة الخضراء بعصاها:

- هل تتذكرين الحبة؟ قبل أربع سنوات شعر بتحسن عند تناول الحبة.

أومأت برأسها عدة مرات وهي توسع عينيها وتتحدث بصوت عالٍ.

قلت:

- ربما تهتم كثيرًا بدايتشي.

ابتسمت أمي وتوقفت عن مضغ طعامها. قالت:

- ربما أنت على حق .

قلت وأنا أنظر إلى تاريخ انتهاء الصلاحية الموجود على الزجاجة:

- ربما انتهت صلاحية هذه الحبوب أو أنها معيبة .

قالت والدتي:

- دايتشي يتحسن .مع هذا المرض عليك أن تصلي إلى القاع قبل أن تتحسني.

وقفت مع الصوت العالي لكرسيها وهو يسحب للخلف. وضعت وعاء المخلل الصغير الخاص بها في حساء الميسو نصف الفارغ ووضعت وعاء الأرز الأسود ذو الحافة الحمراء في الأعلى. تراكم الأرز الأبيض في الوعاء دون أن يمسه أحد، مثل الطبقة الأولى من الثلج على سطح معبد. دخلت المطبخ مع الباغودا وقالت:

- أرى أنه يتحسن .

قبل الساعة الثانية والنصف بخمس دقائق وصلت إلى المدرسة. أوقفت دراجتي وسرت عبر الأبواب الأمامية. رحب بي صف رفوف الأحذية ولامس الهواء البارد ذراعي. استنشقت الهواء المترب المتعفن عدة مرات. مع كل نفس أتنفسه، تعود ذكريات طفولتي؛ صراخ الأطفال المفاجئ مع جرس الخمسين، ورسالة الحب غير الموقعة في رف حذائي، وملمس الحلوى الصلبة المذابة الممنوع في جيبي لأتناولها لاحقًا مع أصدقائي في طريق عودتي إلى المنزل. بينما كنت أستعيد ذكرياتي، انطلق الجرس وصرخت خطوات الأقدام مسرعة خارج الباب الأمامي. بحثت عن أليكس عند الدرج وعندما وجدته لوحت له. ركض نحوي وعانقني. مشيت بجانب أليكس، ودفعت دراجتي:

- كيف كانت المدرسة؟

- هزار. كان لدينا الفن والتربية البدنية.

- هل كانت الرياضيات جيدة اليوم؟

- مملة. الرياضيات واليابانية والعلوم، كلها مملة.

- حسنًا، ليس عليك أن تفهمهم، ما عليك سوى الاستماع وربما إلقاء نظرة على الأطفال الآخرين لترى ما يفعلونه، كما تعلم، تتظاهر وكأنك في فيلم.

- أوه أعرف، أعرف! ماذا عن أن أفتح كتابي المدرسي مثل أي شخص آخر، وأتظاهر وكأنني أقرأ معهم ولكن في الواقع، أخفي كتابًا باللغة الإنجليزية خلفه؟ قفز عندما ظن أنه قد توصل إلى فكرة جيدة.

- لا، يجب عليك على الأقل أن تحاول القراءة معهم أو الاستماع إليهم، ولكن ليس قراءة كتاب باللغة الإنجليزية.

خبط بقدمه الأرض:

- يا ماااا.

- اسمع يا أليكس، في يوم من الأيام سوف تتذكر هذه المدرسة والأطفال الذين قابلتهم. قد يصبحون أفضل أصدقائك وقد ترغب في القدوم إلى اليابان للعمل، فأنت لا تعرف أبدًا.

عند ذلك مر بنا العديد من الأطفال الذين أعرفهم من صفه، وهم يلوحون لأليكس قائلين:

- هيا نلعب معًا غدًا .ولوح أليكس لهم مرة أخرى.

قلت:

- انظر .

وقال:

- لكنني لن أعمل في اليابان .

لقد قطع الهواء الرطب نومي في تلك الليلة. نمنا أنا وأليكس في الغرفة المجاورة لغرفة المعيشة وسمعت والدي يتحدثان بهدوء، كأنهما يهمسان. لم أتمكن من العودة للنوم لذلك استلقيت بجانب أليكس.

سمعت والدتي تتحدث إلى والدي:

- لماذا؟

- لأنه لن يقتله، ليس مثل السرطان.

- انه يتحسن.

قال أبي:

- إذن لماذا لا تأكلين؟

- لكنه يتحسن!

تحدثت بصوت أعلى وضربت الطاولة؛ الأطباق تتناغم في انسجام تام. غطيت أذني أليكس بذراعي. ألقيت بجسدي ببطء نحو غرفة المعيشة، وفتحت عيني قليلاً. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة. كان والدي يتناول العشاء في وقت متأخر. لم أتمكن من رؤية وجه أمي، فقط رأيت والدي يهز رأسه.

قال والدي:

- من فضلك فقط تناولي بعض الطعام. هذا كل ما أطلبه .

كل صباح، كان أخي يستحم بماء فاتر مع مسحوق فيتامين سي. وقال أنه عندما كان في الحوض، شعر بالتحسن. غالبًا ما كان أخي ينام هناك حتى يضطر أحدنا إلى الذهاب وإيقاظه. بعد الاستحمام، جاء مباشرة إلى غرفة المعيشة وأدار المروحة على مستوى منخفض وقام برش الماء الخاص. وبينما كنت أشم رائحة حمام السباحة، جلس أخي أمام المروحة، على الوسادة الملطخة باللون الأرجواني، حتى يجف الماء لتتمكن أمي من دهن المرهم عليه. كانت هذه طقوسًا جديدة لأخي وأمي، جديدة منذ عامين. قالت أمي لأخي:

- أنت محظوظ، لأنك لست مضطرًا للذهاب إلى العمل مبكرًا .

تمتم:

- لا، لأنني أحب ما أفعله من أجل العيش.

قالت أمي وهي تمسح على الجانب الأيسر من ظهره:

- لقد اختفت البقعة الجافة، الأمر واضح. لقد شفيت .

- لم تعد هناك حكة بعد الآن، ولكن انظر إلى جفني.

مشت أمي أمامه. كنت أرى نصف وجهها وفمها المغلق بإحكام خارج رأس أخي. قالت:

- إنها تظهر. لا بد لي من وضع الستيرويد .

قال:

- لا أستطيع الذهاب للعمل باللون الأرجواني في وجهي .

ركضت إلى المطبخ للحصول على كريم الستيرويد من الثلاجة. كانت علبة بلاستيكية صغيرة عليها غطاء أزرق.

كان أليكس يتناول إفطاره مبكرًا. كان لديه دروس السباحة في الفترة الأولى والثانية، وهي المادة المفضلة لديه في المدرسة. فتحت حقيبة ظهر أليكس لأضع فيها سروال السباحة والمنشفة، ثم وجدت مجلده الذي كان مفقودًا منذ يومين. في المجلد، كان هناك عدة مطبوعات من المدرسة، ورقة الامتحان التي لم يتم الرد عليها، والتي كانت درجتها صفر، ودفتر ملاحظاته. لقد فتحت دفتر ملاحظاته فقط في حالة أن معلمه قد كتب شيئًا مهمًا. وكانت هناك رسالة من معلمته تقول فيها أن لديها مخاوف بشأن أليكس. قلت لأمي:

- إن معلمته لديها بعض المخاوف .

قالت أمي:

- حسنًا، ألست سعيدة لأنها ليست معلمته الحقيقية؟

- ماذا لو أنها طردته؟

قالت:

- إنها لا تستطيع أن تفعل ذلك. المبدير يحبه .

كنت سأراقب أليكس في فصله الدراسي. ولكن قبل غرفته مباشرة، قابلتني معلمته في الردهة.

قالت المعلمة وهى تنحني قليلاً:

- يمكننا التحدث عبر الهاتف .

- حسنًا، أنا قلقة من أنه قد يسبب مشكلة في الفصل.

- أوه لا، هذا ليس هو. يبدو أن أليكس لا يستمتع بالمدرسة، وهو ما أستطيع أن أفهمه تمامًا. يبدو أنه مجبر على المجيء إلى هنا.

-  أدرك أنه لا يستطيع أن يفعل بالضبط نفس الأشياء التي يفعلها الأطفال الآخرون في الرياضيات واليابانية والعلوم، لكنه يحب السباحة ودروس الفن والتواجد مع الأطفال الآخرين.

- نعم، ولكن في الصف الثالث، نحن أكاديميون أكثر بكثير من العام الماضي. فهو ليس عبئا بالنسبة لي. أشعر بالأسف لأنه اضطر إلى البقاء في مكان لا يريده طوال اليوم.

لم أكن أعرف ماذا أقول لها. نظرت إلى الأرض، ونظرت إلى فصله الدراسي، ومن المنظر الذي كنت أشاهده، لم أتمكن من العثور على أليكس ولكني رأيت أطفالًا ينظرون إلينا. شعرت وكأنني طفل وقع في ورطة.

- مرة أخرى، لا أمانع أن يكون لدي أليكس، والأطفال يحبونه، ولكن ربما تكون هناك طريقة أفضل لتعلم الثقافة اليابانية... كما تعلمين ، كما حدث معك ومع عائلتك.

نظرت بعيدًا عن الفصل وخفضت عيني. لقد رأيت خاتم زفافها، من الفضة الخالصة مع ماسة صغيرة واحدة. تخيلت حياتها خارج المدرسة. بعد أن تقول وداعًا للأطفال وتنتهي من عملها الورقي، تعود إلى المنزل، تاركة كل مشاكلها في المدرسة. يعود زوجها إلى المنزل ويقبلها ويسألها: كيف كان يومك؟ أخبرته أن لديها طفلًا من أمريكا تركته والدته للتو في المدرسة رغم أنها أبلغت الأم أن الطفل لا يحب التواجد هناك. يقول لها زوجها إن الآباء في هذه الأيام لا يعرفون ما هو المهم للأطفال. توافقه. ويتفقان على أنه عندما يكون لديهما أطفال، فإنهما سوف يستمعان دائمًا لأطفالهما.

ولن يكون ذنبها إذا أفسدت طفلها. سيكون خطأها، هي وزوجها. كان من المفترض أن نكون فريقًا، لكن شريكي توفي منذ ست سنوات. إذا أخطأت، سيكون كل شيء على عاتقي. فقلت: - ما رأيك أن أصطحبه بعد الغداء، وأتخطى الحصة الخامسة لأن أليكس يحب تناول غداء المدرسة. وهذا أحد الأشياء المفضلة لديه في المدرسة.

كان قلبي لا يزال ينبض وشعرت بالحرارة والضغط المتزايد بداخلي. ومع ذلك، تمكنت من الرد بصوت عذب مثير للشفقة.

نظرت إلى المعلمة منتظرة أن تجيب. وبعد توقف طويل، فتحت فمها مرة أخرى.

- إذا أصررت، بالتأكيد لا توجد مشكلة. مرة أخرى أنا لا أمانع في وجوده. أنا أفكر فقط في ما هو الأفضل بالنسبة لأليكس.

توقفت مرة أخرى وابتسمت وقالت:

- وآمل أن تفعلي الشيء نفسه .

لم أشعر برغبة في العودة إلى المنزل على الفور. لم أكن أرغب في أن تسألني والدتي عن الاجتماع، لذلك مررت بشقة والدي، وحقل الأرز، وتوقفت في النهاية عند الحديقة. كانت الحديقة فارغة في الصباح، ولم يكن هناك سوى عدد قليل من الناس يمشون كلابهم ويطعمون الحمام. صعدت إلى أعلى هيكل اللعب. ومن هناك تمكنت من رؤية وحدة سكنية لوالدي، ومنزل مدرس البيانو القديم، وحقل الأرز. كانت هذه الحديقة مجرد حقل مهجور عندما كنت طفلاً. تذكرت أنني أتيت إلى هنا مع أخي لملء أقفاصنا الحشرية بالجندب وفرس النبي. وعندما امتلأت أقفاص الحشرات، ذهبنا إلى حقل الأرز، وتعرينا، ورشنا الطين على بعضنا البعض. وفي إحدى المرات، قمنا بإنقاذ قطة ضالة مصابة بكسر في ساقها. عندما قمنا بتجبير ساقها المكسورة، تمسكت القطة بساقي. دخلت أظافرها في ساقي بعمق لدرجة أنها لم تخرج. كنت أنا والقطة نرغب في الهروب من بعضنا البعض، لذلك حاولنا السير في الاتجاه المعاكس. أنا أقفز على ساق واحدة وأبكي، والقطة تقفز بساقها المكسورة. وعندما تخلصت منها أخيرًا، كان وجهي مغطى بالدموع والمخاط، ورأيت ثلاث نقاط دموية على ساقي. أسرعت إلى نافورة الماء، وقمت بغسل الجروح تحت الماء الجاري حتى تخرج الجراثيم. رأيت أنا وأخي القطة تلعق أظافرها، ثم هربت كأن ساقها لم تنكسر قط. عندما رأينا مؤخرة القطة، وذيلها يقف مثل العصا، ضحكنا بشدة لدرجة أنني نسيت ساقي.

كان لدينا كل ما نحتاجه، حقل الأرز، والقطة الضالة، وحرية الأذى. كان والداي يعرفان ما نحتاجه أو ربما لم يفكرا حتى في مثل هذه الأشياء لأنهما في ذلك الوقت لم يكونا يعرفان الكثير عن الخيارات أو الاختيارات. ليس الأمر كما هو الآن، فقد كان من الأسهل بكثير تربية الأطفال في ذلك الوقت.

لم يكتب المعلم ملاحظة لمدة أسبوعين. غاب أليكس عن المدرسة لمدة أسبوع. ذهبنا للتجديف في المياه البيضاء واصطحب والدي أليكس للتخييم مع أصدقائه. جاء زملاؤه مرتين ليطلبوا منه اللعب في الحديقة. لقد عاد إلى المنزل مبللا، وأخبرني أنه خاض أفضل معركة مائية في حياته. كنت سعيدة وخائفة، معتقدة أن هذا قد يكون الهدوء الذي يسبق العاصفة... وقد كان كذلك.

عندما عدنا أنا وأليكس إلى المنزل من درس السباحة، وجدت الضوء الوامض على الهاتف. لقد ترك معلمه رسالة تفيد بأن أليكس ألقى كتابه المدرسي في فترة الاستراحة لأنه قال إنه محبط من الرياضيات. ضرب الكتاب الفتاة المجاورة له بالخطأ. كانت بخير واعتذر للفتاة.

- أردت فقط أن أخبرك لأنه لم يفعل هذا من قبل.

سمعت معلمه يقول في نهاية الرسالة.أرسلت أليكس للاستحمام، ثم جلست على طاولة الطعام.

- سأرى أليكس في الفصل غدًا.

قلت لأمي:

- ربما أكون مخطئًة في إرساله إلى المدرسة .

قالت: - أنت لا تعرفين ما الذي تعنيه حقًا .

قلت ووضعت وجهي على الطاولة:

- إنها إجازتنا الصيفية. من المفترض أن تكون ممتعة. لماذا أعاني؟

قالت أمي وهي تقطع خيارة:

- انت محظوظة. حياتك بسيطة للغاية.هل يمكنك إحضار كرسي من الغرفة الأخرى؟

- هل يعود دايتشي إلى المنزل لتناول العشاء؟

يبدو أن الصوت الإيقاعي لأمي وهي تقطع الخيار يدوم إلى الأبد. ثم قالت:

- إنه يقلل من عمله. لا حاجة لمزيد من العمل الإضافي لفترة من الوقت.

في تلك الليلة، في غرفة المعيشة، بحثت على الكمبيوتر كيف يقضي الآباء الآخرون الوقت مع أطفالهم خلال العطلة الصيفية. كان الوقت بعد الساعة الثانية. كانت أمي وأبي وأليكس قد ناموا بالفعل. سمعت ضجيجًا في الردهة، وشخصًا يدخل ويخرج من الحمام. ثم فُتح باب غرفة المعيشة، وكان أخي.

قلت:

- مهلا، ماذا يحدث هنا؟

قال:

- أملأ حوض الاستحمام. لا أستطيع النوم .

- هل هي حقا حكة؟

أومأ.

- كنت دائمًا آخذ أليكس إلى مدينة الملاهي يوم الأحد. إنه يصرفني عن الحكة عندما أكون بالخارج.

قلت:

- إذا لم تكن على ما يرام، فلا تقلق، سأأخذ أليكس

أومأ برأسه مرة أخرى وجلس على الأرض أمام المروحة حيث كان يجلس دائمًا في الصباح، لكنه لم يشغل المروحة. لقد جلس فقط ورأسه إلى أسفل. ثم قال أخي:

- لا أهتم إذا كنت أبدو قبيحًا، أو ربما سأكون كذلك إذا بدأت الأكزيما بالظهور على وجهي، ليس فقط على جفني، بل على خدي وجبهتي وأذني. لا أعرف، لا أعتقد ذلك ولكن إذا لم أستطع النوم، فلن أستطيع العمل. أولاً، هناك طلب من العميل، ثم فكرة، ومخطط تفصيلي، ونموذج أولي، وأخيراً نطلق الموقع. من الممتع جدًا أن تصنع شيئًا من لا شيء مع الآخرين. هل تعرفين ما أعنيه؟

أومأت برأسي، على الرغم من أنني لم أشعر قط بمتعة صنع شيء من لا شيء. أقرب شيء يمكن أن أفكر فيه هو أليكس، لكن لم يطلب منا أحد القيام بذلك. مايكل وأنا أردناه فقط. والآن، بدون مايكل، لم أكن أعرف كيف سيكون الأمر عندما أفعل شيئًا مع الآخرين.

لقد كانت ليلة هادئة. كنت أكاد أسمع أنفاس أخي. تساءلت عما إذا كان يستطيع سماع تنفسي أيضًا. حاولت رؤيته في ضوء الكمبيوتر الخافت ولكنني رأيت صورته الظلية فقط. وفي صورته الظلية، لم يكن يبدو كالفيل. لقد كان رجلاً يريد النوم فقط. سأل:

- هل تعرفين أين تحتفظ أمي بالحبوب المنومة؟

قلت:

- كل الدواء يجب أن يكون بجانب إبريق الشاي.

وتوجهت إلى المطبخ. تبعني أخي. بحثنا بهدوء، في الظلام، حريصين على عدم إيقاظ أي شخص آخر.

سألت:

- هل تعرف كيف تتناول هذه الحبة؟

- نعم، لقد تناولتها من قبل.

- هل ستأخذها ثم تستحم؟

أومأ. فسألته:

- أنت لن تغرق، أليس كذلك؟

- لا أعتقد ذلك.

- أبقِ باب الحمام مفتوحًا.

ضحك وقال:

- إن النظر إلى باب الدش لا ينقذني من الغرق.

- لكنني سأستريح، إذا رأيت الضوء مضاءً.

هز كتفيه وأخذ الحبة.

- لا تخبرى أمي عن هذا.

أومأت.

دخل إلى الحمام وأضاء النور. لقد رأيته عاريا بالفعل مائة مرة ولكن الآن، تحت ضوء الفلورسنت الساطع، عندما أراه بهذه الطريقة، كان علي أن أحمي عيني. بقيت ساعة أخرى وعندما رأيت ظله يظهر خلف باب الدش المتجمد، ذهبت إلى الغرفة التي كنت أنام فيها مع أليكس.

في الصباح، كنت لا أزال أفكر في الرسالة التي تلقيتها من معلم أليكس. لم أسأل أليكس عن ذلك. لم يكن الأمر مقصودًا وقد اعتذر بالفعل للفتاة. ماذا يمكن أن أطلب؟

تناول أليكس إفطاره، لكنه كان لا يزال يرتدي بيجامة النوم، وهو الآن مستلقي على بطنه، ويضحك وهو يقلب صفحة كتابه الهزلي. في أمريكا، أخبرني معلمه أنه قارئ رفيع المستوى وخبير في Mad Libs( لعبة كلمات ) ، دون البذاءات المعتادة. كان سريعًا في حل المسائل الرياضية، وكان دائمًا متحمسًا لتجربة أشياء جديدة. لقد كان طفلا عظيما. ماذا يمكن أن أطلب؟ سألت:

- أليكس، هل تريد ترك المدرسة؟

نظر إلي وكأنني أقدم له حلوى القطن على الإفطار.

كررت:

- هل تفعل؟

قال:

- نعم!

فجأة شعرت وكأن كل مسؤولياتي نزلت عن عاتقي. استلقى أليكس على بطنه وعاد لقراءة كتابه الهزلي، وركل ساقيه لأعلى ولأسفل من الفرح وبدأ في غناء أغنية من حرب النجوم. استلقيت بجانبه أيضًا وقبلت خده وخدشت ظهره وقبلته كثيرا ودندنت الأغنية معه. "الأطفال يغيرون رأيهم كل ثانية! أنت لا تستمع إلى ما يقولون. عليك أن تقررى ما تريدين لطفلك. فقط اذهبى وتحدثى إلى معلمته!

جاءت أمي وهي تصرخ من المطبخ وفي يدها سكين. توقفت وأليكس عن الغناء. لقد تجمدنا هناك، وظهورنا مستقيمة. قلت:

- أليكس، ارتدي ملابسك. ستذهب إلى المدرسة .

- ولكن يا أمي...

رأى وجهي، ووجه أمي، ثم وجهي مرة أخرى وقال:

- يا إلهي .

قام أليكس بتغيير ملابسه وتنظيف أسنانه وذهب إلى الباب. لقد كانت أسرع حركة تحركها أليكس على الإطلاق في الصباح. عندما رأيته خارج النافذة، اقترب منه طفلان في مجموعة المشي الصباحية وبدأ ثلاثة منهم في الطيران بمظلاتهم. عدت إلى غرفة المعيشة وأنا أهز رأسي.

قالت والدتي:

- في بعض الأحيان، يحتاج الأطفال إلى تعلم التحمل. لا تتسرعي في اتخاذ القرار. فقط اذهبى لرؤية أليكس في فصله وتحدثى إلى معلمته.

ولم تعد تحمل السكين، وبدأت تمسح يديها بمئزرها. قلت:

- لست جيدة في تربية أليكس لقد سئمت من اتخاذ القرار بنفسي .

- لا أحد يعرف ما هو الصواب. لا أحد يعرف ماذا يفعلون! هل تعتقدين أن أصدقاءك يعرفون؟ هل تعتقدين أن معلمته تعرف؟ هل تعتقدين أن والدك يعرف؟ هل تعتقدين أنني أعرف؟ إذا كنت أعرف، فلماذا...

سمعنا الباب يُفتح ودخل أخي إلى غرفة المعيشة.

أشعل أخي المروحة بإصبع قدمه، ورش الماء على نفسه، وجلس على وسادته. كان هدير المروحة منخفضًا وشممت رائحة المبيض. كان أخي يتلوى وكأن النمل يزحف على جسده، ثم ضرب رقبته بيديه مرارًا وتكرارًا. وكان ظهره مغطى بالعديد من الجروح والجروح الحديثة. ولمحت من الجروح إفرازات صفراء وبيضاء تزحف على ظهره مثل شبكة العنكبوت. حبست أنفاسي وغطيت فمي ونظرت إلى أمي.

كانت تبكي.

أردت أن أعطيها منديلاً، وبدلاً من ذلك تظاهرت بأنني لم أر دموعها حتى لا يلاحظ أخي ما يجري خلفه، وتتمكن أمي من مواصلة ما كان من المفترض أن تفعله كل صباح؛ طقوسها، وظيفتها. ذهبت إلى المطبخ للحصول على المرهم الأرجواني. ظلت المروحة تهدر، وقفت هناك أحدق في منظر أخي البشع .

قالت أمي وهي تفتح علبة المرهم:

- هذا جيد. أنت تتحسن .

لم تعد تبكي، بل بدت هادئة، تمامًا مثل صباح الأمس، وأول أمس، قبل عام، وعندما كنا أطفالًا. كان هناك ترتيب بوضع المرهم؛ أولاً ظهره، ثم خصره، ثم ذراعيه. شيئًا فشيئًا تحول أخي إلى اللون الأرجواني.

قال أخي:

- أنا أفكر في الانتقال .

- الانتقال إلى أين؟

- شقة صديقي. سينتقل إلى وادي السيليكون. قال إنني أستطيع البقاء في شقته مجانًا .

مد أخي ساقيه ودلكت والدتي المرهم على قضيبه وخصيتيه وساقيه. قالت امي:

- إلى متى؟

قال:

- لمدة عام، وربما أو يزيد.

قالت أمي:

- لسنة؟ أو أكثر...

نهض أخي ووقفت أمي أمامه فدهنته بالمرهم في صدره وبطنه، ثم جاءت من خلفه فدهنته بالمرهم في مؤخرته وفخذيه.

قال أخي:

- دعينا نواجه الأمر يا أمي، هذا أفضل ما يمكن .

كان صوته واضحًا، وليس متذمرًا مثل معظم الصباحات. كان ظهره متجهًا نحوي، لكنني كنت أعلم أنه كان ينظر إلى والدتي، وكذلك هي أيضًا، لأنها حتى لو أرادت تجنب عينيه، فلن تتمكن من ذلك؛ فما زال أمامها مهمة أخرى: أن تضع الكريم على جفنيه.

(النهاية )

***

.......................

المؤلفة: يوكيكو توميناجا/ Yukiko Tominaga ولدت يوكيكو توميناجا ونشأت في اليابان. وصلت إلى المرحلة النهائية لجائزة فلانيري أوكونور للرواية القصيرة لعام 2020، والتي اختارتها روكسان جاي. تم ترشيح عملها لجائزة Pushcart وظهرت في The Chicago Quarterly Review، وThe Bellingham Review، إلى جاتب منشورات أخرى.

تأليف: بات جيمسون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان لدي صبي يحضر لي البيرة، كان جيدًا في عمله، كنت أفتح الثلاجة كل صباح وأجدها ممتلئة بالزجاجات النظيفة المتلألئة. اشرب البيرة وأخرج في نزهة على قدمي. لكنني لا أبتعد كثيرًا، لقد كنت عجوزًا، وكانت حركتي بطيئة.

أحببت الجلوس في الشرفة الأمامية ومشاهدة الطائرات وهي تغطي السحب فوق رؤوسنا. كنت أجلس وأفكر أن التقدم في العمر أمر فظيع وأنني كان يبنغي أن أموت قبل هذا، قبل كل هذه الآلام والبؤس وسلس البول، كنت أستاذًا مرموقا والآن أنهار، أُصبت بالبواسير وتشابك الأظافر وذكريات ضبابية للأشياء السيئة التي فعلتها في حياتي السابقة، يبدو أن الناس تتذكر خطاياى أفضل مني. زوجاتي السابقات ، أطفالي، حجافل الأحفاد المجهولين. كانوا جميعًا يعرفون أسطورة ما فعلته – كان – الأسطورة التي هربت مني الآن.

تزوجت اثنين من طالباتي، وكانت لدي علاقات مع عشرة أو أكثر لطالما أحببت الصغيرات، لقد كن منفتحخات جدًا بشأن مشاكلهن، وكن حريصات للغاية على المشاركة، وكان ذلك رائعًا بالنسبة لحياتي المهنية، كتبي و أبحاثي عن الجنس البشري، ومع ذلك، كانت هناك نقاط خلاف. حاول العديد من الطلاب قتلي. و اعترف آخر بمشاكله في هوامش أوراق الامتحان، لقد استخدم البابل شيت لكتابة الأشياء مثل الموت الآن أو سأقتل نفسي. خلال ساعات العمل، سألته إذا كان لديه ميول انتحارية ضحك وتركني هناك حائرًا. الآن، هو الرئيس التنفيذي لشركة يتعدى رأسمالها ملايين الدولارات، إنهم يفعلون شيئًا ما مع الكترونيات اللياقة البدنية، جهاز يثيس قلبك لمعرفة إذا ما كنت تحب شخصًا ما حقًا، لا أعرف.

الصبي الذي أحضر لي البيرة اسمه بوشي، لقد تواصلنا على الانترنت، قال إنه يريد كسب المال، و قلت أنه بإمكاني فعل ذلك. لدي كثير من المال و رغبة واحدة فقط. ثلاجة مليئة بالبيرة. لم أكن أعرف أي شيء عن بوشي إلا أنه يبلغ من العمر 21 عامًا على الأقل، ويمكن الاعتماد عليه. ذات مساء وجدني بوشي على الدرج محاطًا بزجاجات من البيرة الفارغة.

كنت أفكر في شبابي حيث سقطت ذات مرة وجرحت يدي، فاكتشفت عالمًا من شبكات العنكوب تحت الجلد، وعندما قانوا بتخييط الجرح مرة أخرى، كنت حزينًا تقريبًا، شعرت أنني اكتشفت شيئًا رائعًا، وتم انتزاعه بعيدًا عني.

سألني بوشي:

- هل ترغب في مزيد من البيرة؟

قلت:

- ليس الآن. أريد أن أذهب إلى الشاطيء.

انطلقنا نحو الشاطيء، أخذني بوشي في العربة التي يستخدمها لتوصيل البقالة، شعرت و كأنني كلب عجوز في رحلته الأخيرة إلى الطبيب – البيطري – فرو متلبد، مفاصل مدمرة، أنفي فحم مكسو بالجليد، لم تكن المقارنة سيئة، مع كل نتوء أو هزة، شعتر بأن كل شيء خطأ في جسدي بدت أسناني جاهزة للسقوط من رأسي.

كانت الشمس على وشك الغروب، وكان الشاطء مزدحمًا، وثمه حشود من السياح شربوا العصائر و التقطوا صورًا لأنفسهم أمام أشجار النخيل و صناديق القمامة، وفي مكان كريب كانت الفرق المحلية ترقص وكلابهم النحيلة تسحب المناديل الممزقة، مجموعة من هؤلاء الأوغاد جلست القرفصاء على الرمل، يحملون الجياتر الرخيص و يغنون الموت و حماقة الرجل.

- لم يكن الأمر كذلك عندما كنت صغيرًا.

أشرت نحو التجمع و أضفت:

- رجال الشرطة يضربون شخصًا ما على رأسه بهراوة، لو تعرف هكذا.

قال بوشي:

- لابد أن الأمر كان صعبًا في ذلك الوقت. مع الدميا صدات التي تأكل كل شيء و الجميع.

تذمرت. كان والدًا قليل الأدب، نعم، لكنه الوحيد الذي يمكنني الاعتماد عليه، أعطيته عشرين دولارًا وطلبت منه مزيدًا شراء مزيدًا من البيرة، انتزع بوشي المبلغ واندفع، طبعًا كالعادة. جلست في العربة أنتظر.

نظرت إلى أعلى، كانت الشمس قد انتفخت وتراجعت. بشرتي المبقعة من أثر الكبد تشققت واحترقت, انتهى اليوم و سقطت ليلة أرجوانية على الأرض.

كتبت ثلاثة كتب أكاديمية، كلها كتب قيمة، لكن أشهرها على ما أسماه فرويد "محرك الموت" وقد افترضت أن حياتنا كلها، وكل قرارتنا تتخذ على عكس الأفضل لنا، إن عقلك بوعي أو بدون وعي يحاول قتلك، كتبت هذا الكتاب على الشاطيء، وأنا أشرب نبيذ الشعير من كيس ورقي دافئ، أردت أن أفهم ما الذي يجعل الناس يقرؤون هذا الكتاب، وظننت أنني أعرف. الآن بعد أن اقتربت من الموت، موت حقيقي ودائم

– ليس لدي فيه لفهم أي شيء.

بعد ساعة أدركت أن بوشي لن يعود، شعرت باليأس من ثقتي به. وعقدت العزم على ضرب بعكازي بمجرد أن أعود للمنزل. مع ارتفاع القمر في السماء، عادت الحشود واجتمع المتشردون معًا لتكوين حلقة طبول ورقص.

اشتعلت نار شاهقة ومشرقة، وبدأوا في الرقص حولها، وهم يصيحون مع الموسيقى، لقد كان هراء، وخاليًا من الجمل وبلا منطق، ولكن كان هناك شيء جذاب، شيء بدائي، دعاني إليه. نزلت من السيارة باتجاه الضوضاء، مع كل حركة شعرت بأن أجزاء جسدي تنفصل، تتمزق و تتفكك، تسقط ورائي. ومع ذلك واصلت السير. و أنا أشعر كما لو كنت أتخلص من طبقات وراء طبقات. دهور من الذكريات و الألم و الندم، حتى صرت صغيرًا مرة أخرى، لانزلق من رحم من أمي. عندما وصلت إلى هناك تقريبًا، قفزت نحوي امرأة. تبتسم، في ضوء النهار، رأيت وجهها، كما لو كان مبتذل وسوقي، ومع ذلك كم كان جذابًا.

مدت يدها وبدأنا في الرقص، تقفز أقدامنا فوق ضوء القمر و الرمال، أغميض عني و أنا أفكر، ربما بقى شيء لي في هذا العالم بعد كل ذلك.

(تمت)

***

..................................

المؤلف: بات جيمسون/  Pat Jameson بات جيمسون كاتب من ولاية بنسلفانيا ، ومقره الآن في رونوك بولاية فيرجينيا. يعمل حاليًا للحصول على درجة الماجستير في الفنون الجميلة في الكتابة الخيالية في جامعة هولينز. ظهر عمله أو سيصدر قريباً في SmokeLong Quarterly و X-R-A-Y و BULL ، من بين آخرين. وصلت قصته "Death Drive" إلى نهائيات جائزة SmokeLong Quarterly Flash Fiction لعام 2022.

بقلم: بابلو نيرودا

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

إلى اللقاء، أيها الضيف...

صباح الخير.

انبجس قصيدي

من أجلك، من أجل لا أحد

من أجل الجميع.

سأتوسل إليك:  دعني وانشغالي.

أذهب مع المحيط العنيد

يرهقني الصمت، بشكل مريع.

أموت في كل موجة كل يوم.

أموت في كل يوم في كل موجة .

بينما اليوم

لا يموت أبدا .

والموجة؟

أيضا.

شكرا.

***

بابلو نيرودا "الجزيرة السوداء" - الشيلي - 6 جويلية 1969. " المجموعة شعرية " أيضا"

.......................

Pablo Neruda – A bientôt, invité

A bientôt, invité.

Bonjour.

Mon poème a surgi

pour toi, pour personne,

pour tous.

Je vais t’en prier : laisse-moi inquiet.

Je vis avec l’océan intraitable

et le silence m’est pesant, terriblement.

Je meurs dans chaque vague chaque jour.

Je meurs dans chaque jour en chaque vague.

Pourtant le jour

ne meurt jamais.

Il ne meurt pas.

Et la vague ?

Non plus.

merci

Île Noire, Chili, 6 juillet 1969

Pablo NERUDA dans le recueil 'Encore"

 

قصة: فابيو مورابيتو

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

وصل توسيندور إلى الفندق في المساء بعد رحلة طيران عبر المحيط الأطلسي مدتها عشر ساعات. الجو حار في غرفته، على الرغم من أن مكيف الهواء يعمل بكامل طاقته، ويأسف توسيندور لعدم اختيار فندق أفضل. يفتح حقيبته، وبينما هو يعلق ملابسه في خزانة الملابس، يلاحظ وجود باب. يمشي نحوه ويدير المقبض، لكنه مغلق. يفتح الباب ويسحبه ويرى بابًا آخر مماثلًا خلفه. يسمع توسنسدور محادثة على الجانب الآخر باللغة الفرنسية بين امرأتين. ليست هذه هي المرة الأولى التي يحصل فيها على غرفة متصلة، لكنه الآن فقط يدرك مدى هشاشة الحاجز المزدوج. لولا كونهما تتحدثان الفرنسية، لكان بإمكانه الاستماع إلى محادثة جيرانه. مع العلم أنه من غير المرجح أن يوصله إلى أي مكان، يدير مقبض الباب الآخر بلطف. ولدهشته انفتح الباب، ومن خلال الفجوة استطاع رؤية السجادة في الغرفة المجاورة. انقطعت المحادثة بين المرأتين فجأة، وقام توسنسدور، خوفًا من اكتشافه، بإغلاق باب الغرفة المجاورة ثم أغلق بابه خلفه. يقف متكئًا على الباب، وقلبه ينبض بشدة. يسمع صوت فتح باب المرأتين ثم طرقا على الباب الذي يتكئ عليه. يرتجف ويتساءل عما إذا كان فتحه فكرة جيدة. سمع طرقًا آخر وأدرك أن عليه السيطرة على الموقف. أجبر نفسه على إظهار تعبير هادئ وواثق، وفتح الباب. تقول سيدة ، شقراء صغيرة في الأربعينيات من عمرها،  بونسوار، سيدي تتبعها بجملة أخرى بالفرنسية، ثم تصفعه وتغلق الباب خلفها. يضع توسنسدور يده على خده المحترق، ويشعر بالارتياح العميق لأن كل شيء قد حُلّ بهذه السرعة. لكن سرعان ما  يسمع ضحك المرأتين فيتحول ارتياحه إلى غضب. إنه غاضب من نفسه لكونه سلبيًا جدًا. إذا نظرنا إلى الوراء، فهو لم يرتكب أي خطأ لأن الباب الذي فتحه، عمليا، هو جزء من غرفته أيضًا، وتقع على عاتق المرأتين مسؤولية إبقائه مغلقًا إذا أرادتا منع الاقتحام . إنه على وشك أن يطرق الباب مرة أخرى للاعتذار لكنه يدرك أن حجته معيبة. على الرغم من أن الباب الثاني ينتمي إلى غرفته قليلاً، إلا أنه عملياً باب ممنوع، وإذا اعترض على خلاف ذلك سيبدو سخيفاً. يمكنه الاتصال بمكتب الاستقبال والشكوى من أن المرأتين تتحدثان بصوت عالٍ للغاية وتبقيانه مستيقظًا أو يطلب غرفة أخرى، ولكن فات الأوان لتغيير الغرف. لقد كان مرهقًا من الرحلة وفي صباح اليوم التالي سيرى ما يجب عليه فعله. أنهى تفريغ أمتعته، وخلع ملابسه، وذهب إلى السرير وأطفأ الضوء.

في اليوم التالي أيقظته ضحكة المرأتين التي تسللت عبر الحائط. يتساءل عما إذا كانتا ستستمران في الضحك عليه. ينهض، ويفتح بابه المتصل، ويضغط بأذنه على خشب الباب الآخر، ويستمع، مع الحرص على عدم إحداث أي ضجيج، لئلا تقرر إحدى المرأتين فتحه، وعندما تراه يتطفل مرة أخرى، تعطيه صفعة أخرى. وبفضل اللغة الفرنسية الصغيرة التي تعلمها في المدرسة وتفسير بعض الأصوات القادمة من الجانب الآخر، أدرك، بدون صعوبة، أن المرأتين الفرنسيتين (أو السويسريتين أو البلجيكيتين) على وشك المغادرة. وبعد دقيقة يعتقد أنه سمعهما تغادران الغرفة. يمشي إلى باب غرفته ويضع عينه على ثقب الباب. يرى امرأة شابة في الردهة، تنحني فوق حقيبة سفر، ويعتقد أنها ابنة المرأة الأخرى، التي صفعته. عندها انطلقت ضحكة جعلته يدير رأسه. تقف الشقراء الأربعينية بجوار البابين المتصلين المفتوحين على مصراعيهما. صاحت قائلة: "وداعا يا سيدي"، ثم اختفت في غرفتها وهى تضحك صحكة مدوية. توسنسدور الذي يرتدي ملابسه الداخلية لم يتحرك. ينظر من خلال ثقب الباب مرة أخرى ويرى المرأة الأربعينية وهي تخرج من الغرفة، ثم تقول شيئًا للشابة، التي تضحك أيضًا بصوت عالٍ. تستدير الاثنتان نحو باب توسنسدور، وتلوحان له، وبدون توقف عن الضحك، يتجهان نحو المصاعد  وهما تسحبان حقائبهما ذات العجلات.

يمشي إلى البابين المتصلين ويلقي نظرة على الغرفة المجاورة. السريران فى حالة من الفوضى وهناك عدة مناشف على الأرض. يغلق بابه، لكنه يفتحه مرة أخرى ليغلق الباب الآخر أيضًا، وبعد أن يغلق بابه، يقفله. يستحم ويتناول وجبة الإفطار في غرفة الطعام بالفندق ويخرج لشراء الصحيفة.  وعندما يعود يجد الخادمة تنظف غرفته. أخبرته المرأة أنها لن تتأخر، وجلس توسنسدور على الكرسي الوحيد لقراءة الصحيفة. تغادر الخادمة غرفة النوم وتعود بالمكنسة الكهربائية التي تقوم بتوصيلها بمأخذ الطاقة. بعد ذلك، لمفاجأة توسنسدور، قامت بفتح الأبواب المزدوجة التي تؤدي إلى الغرفة المجاورة . وعند ما لاحظت المرأة نظرة توسنسدور المتسائلة، أخبرته أن القابس الموجود في الغرفة المجاورة لا يعمل، لذا استفادت من حقيقة أنهما متصلان لاستخدام القابس الموجود في غرفة توسنسدور.ستقوم بتشغيل المكنسة الكهربائية في الغرفة الأخرى أولاً ثم غرفته. بعد أن قالت ذلك، قامت بنقل المكنسة الكهربائية إلى الغرفة التي كانت مملوكة منذ وقت ليس ببعيد للسيدتين الفرنسيتين (أو السويسرية أو البلجيكية) وعادت على الفور إلى غرفة توسنسدور لتأخذ قطعة قماش، ثم تعود إلى الغرفة الأخرى وبعد دقيقة واحدة تعود. لأخذ المكنسة، والعودة إلى الجانب الآخر والعودة مرة أخرى، هذه المرة للحصول على فرشاة، في كل هذا الذهاب والإياب، يشعر توسنسدور بالقلق بشكل غريب ولا يستطيع التركيز على صحيفته، كما لو كان يراقب شيئًا لا ينبغي له، وهو شيء تحاول الخادمات إخفاءه عن العملاء حتى لا يحصلوا على أية أفكار غير لائقة.

بعد أن انتهت المرأة من تنظيف الغرفة الأخرى بالمكنسة الكهربائية، أعادت المكنسة الكهربائية إلى غرفة توسنسدور وأخبرته أنه يمكنه قراءة هذه الصحيفة في الغرفة الأخرى حتى لا تضايقه أثناء قيامها بتنظيف غرفته. يفعل توسنسدور ذلك، وينتقل إلى الغرفة التي كانت في السابق مملوكة للمرأتين الفرنسيتين (أو السويسريتين أو البلجيكتين)، والتي تبدو الآن نظيفة بأسرة مرتبة، يجلس على كرسي بذراعين مماثل لذلك الموجود في غرفته. وهناك يرى أن الاختلافات بين الغرفتين ضئيلة؛ فقط الصور مختلفة. تنتهي الخادمة من تنظيف السجادة في غرفة توسنسدور وتخبره أنه يمكنه العودة. يعود توسنسدور إلى غرفته ويرى كيف تغلق المرأة البابين المتصلين قبل المغادرة.

وبعد نصف ساعة سمع بعض الضوضاء في غرفة النوم المجاورة، ففتح الباب المتصل به بحذر، ووضع أذنه على الباب الآخر وسمع امرأة تتحدث على الهاتف.لا يستطيع سماع ما تقوله لأنها تتحدث بهدوء. يسمعها وهي تغلق الهاتف ويستمع إليها وهي تتجول في الغرفة. يريد أن يدير المقبض ليفتح الباب ويرى وجه جارته الجديدة، لكنه لا يجرؤ بعد ما حدث الليلة الماضية. يغلق بابه ويترك الصحيفة على الطاولة ويستعد للخروج؛ فثمة أمور كثيرة تنتظره في الخارج.

يعود ليلاً ويخلع ملابسه ويقرر عدم ارتداء بيجامة بسبب الحرارة. يفتح الميني بار ويخرج علبة من البيرة. أثناء الشرب يتذكر جارته الجديدة، ويذهب إلى الباب المتصل ويفتحه. يرى أن الباب الآخر مفتوح قليلاً وقلبه ينبض. في الداخل، الضوء مضاء يستنتج من الطريقة التي يتمايل بها الباب أنه لا بد أن يكون قد فُتح بفعل النسيم القادم من نافذة المرأة المفتوحة. يرى باب الحمام ويشعر أنها في السرير. في تلك اللحظة، ينطفئ الضوء في غرفة المرأة ويغلق توسنسدور بابها على الفور لمنع الضوء من غرفته من التسلل إلى غرفة جارته. وبمجرد أن أطفأ النور، يعود في الظلام ليفتح الباب الذي يتصل بغرفة الجارة. في الظلام، يقف أمام باب المرأة المفتوح قليلاً، يدرك أنه لا يوجد شيء يميزه عن المغتصب أو القاتل وتخيفه جرأته. فقدان بسيط للسيطرة، نوبة جنون، كفيلة بأن تأخذ حياته منحى غير مسبوق، فيتخيل الصراع مع المرأة، صراخها، ويرى نفسه يخنقها. يغادر، ويترك بابه مفتوحًا قليلاً، ويذهب إلى السرير، ولكن ليس قبل أن يفتح النافذة على مصراعيها.

وبينما تعتاد عيناه على الظلام، يرى الباب يتمايل ويدرك أن تيارًا من الهواء قد بدأ يتدفق من غرفته إلى غرفة المرأة المجاورة. يستلقي ساكنًا في انتظار حدوث معجزة: قد تدرك المرأة أن كلا البابين المتصلين مفتوحان، وتنهض لإلقاء نظرة خاطفة على داخل غرفته، وعندما تراه مستلقيًا على السرير، تدلف إلى الداخل وتستلقي بجانبه، وهى تتمتم بعبارة مثل "الجو أكثر برودة هنا". ولكن بعد مرور نصف ساعة، لم تحدث أية معجزة، وقام توسنسدور، الذي لم يكن متعبًا، بتشغيل التلفزيون. قبل أن يفعل ذلك، يغلق بابه حتى لا يصل وهج التلفزيون إلى غرفة المرأة. وبينما هو مستلق على السرير، يضغط على الأزرار الموجودة على جهاز التحكم عن بعد حتى يجد فيلمًا وثائقيًا عن الحيوانات، وبعد عشر دقائق يغمض عينيه. وفجأة أيقظه صوت التلفزيون المرتفع للغاية وسمع طرقًا على الباب المؤدي إلى الغرفة المجاورة. مذهولاً، أطفأ التلفاز، ونهض من السرير وتوجه إلى الباب.  سأل: من هذا؟  ويجيبه صوت أنثوي أنها لا تستطيع النوم لأن صوت التلفزيون مرتفع للغاية. لا يفتح توسنسدور الباب سوى بضعة سنتيمترات لأنه يرتدي ملابسه الداخلية فقط . في الظلام يستطيع أن يرى أن المرأة فتحت بابها بما يكفي لسماع صوته. يقول توسنسدور: أنا آسف، لقد نمت ولا بد أنني ضغطت على زر الصوت فى الريموت عن طريق الخطأ. أخبرته أن الريح فتحت بابها ولا تستطيع إغلاقه لأن القفل مكسور. يقول توسنسدور: "أ تفهم ذلك، الذي فهم في تلك اللحظة سبب عدم قدرة الفرنسيتين (أو السويسريين، أو البلجيكيين) تأمين بابهما. وتضيف المرأة أنه مع ارتفاع درجة حرارة الجو، إذا أغلقت النافذة فسوف أموت. تتحدث بصوت منخفض، وكأنها تخشى أن توقظ شخصًا آخر قد يكون بصحبة توسنسدور، ويتحدث توسنسدور أيضًا بصوت منخفض، رغم أنه يعلم أن المرأة بمفردها. يقول توسنسدور: نعم، الجو حار للغاية ، ويضيف: سأترك باب غرفتى مفتوحًا قليلاً حتى تتمكنى من النوم فى هدوء. لم تقل المرأة شيئًا وأدرك توسنسدور بحزن أنه قال للتو شيئًا غبيا.تقول المرأة، حسنا،وتتمنى له ليلة سعيدة.  يقول توسنسدور: ليلة سعيدة، ويعود إلى السرير، وهو متأكد من أن المرأة لم تتحرك، ربما للتأكد من أنه عاد بالفعل إلى السرير. إنه يفهم أن الشيء المنطقي هو أن يخبرها أنه سيغلق بابها حتى تهدأ. يشعر بالغباء. وهو على وشك النهوض والعودة إلى الباب المزدوج ليخبر المرأة أنه كان يقصد عكس ما قاله تمامًا، لكنه قرر عدم التحرك، لأنه إذا نهض يمكن أن تفسر المرأة الأخرى ذلك على أنه مناورة للاقتراب.

لقد ذهب الحلم.ولن يستطيع النوم  وهو يعلم أنها مستلقية في الغرفة المجاورة، عارية أو شبه عارية - لسبب ما بقيت خلف الباب أثناء حديثهما، دون أن تشعل الضوء في غرفتها - وأن البابين المتصلين مفتوحان وأنه على الرغم من ذلك قالت المرأة ليلة سعيدة. ربما لأنها فهمت أنه رجل محترم وأنها تستطيع النوم دون خوف، وكل هذا يزعجه، فكر كم سيكون رائعًا لو كانت جميع الأبواب هكذا، أبواب مزدوجة تُترك مفتوحة جزئيًا فيجعلها النسيم تتمايل على مفصلاتها ويمكن للجميع التواصل من خلالها دون خوف. عندها لن يكون هناك أبواب محظورة أو كلمات أو مشاعر محظورة.

يمرر يده على جبهته. الحوار مع المرأة جعله يتعرق. يبدو إنه عطشان، ينهض ويذهب إلى الثلاجة الصغيرة، يفتحها ويدرك أن علبة البيرة التي تناولها مؤخرًا كانت الأخيرة. لقد فكر بتقديم شكوى في اليوم التالي في مكتب الاستقبال لعدم ملء الثلاجة الصغيرة بمزيد من البيرة ولخفض مستوى مكيف الهواء. يمكنه أن يتحدث الآن ويطلب بيرة مثلجة، لكنه لا يشعر بالرغبة في الجدال. بالإضافة إلى ذلك، إذا تحدث على الهاتف فسوف تستيقظ المرأة المجاورة له. ثم، في فورة أخرى غير منطقية، يقرر أن يطلب منها أن تعطيه علبة بيرة من الثلاجة الصغيرة الخاصة بها، كما لو أن ذلك لن يوقظها بعمق أكثر من صوت محادثته على الهاتف! يقترب من الباب وينادي المرأة بصوت منخفض، ولم يجد صيغة أفضل من  القول "عفوا يا آنسة". يجيب الصوت الآخر: - نعم؟  يقول توسنسدور:- آسف لإيقاظك، لقد نفدت البيرة في ثلاجتى الصغيرة وكنت أتساءل عما إذا كان قد بقي لديك بعض منها. بعد صمت قصير، كما لو كان يزن احتمال وقوع فخ، يقول الآخر: دعني أرى، ويسمعها توسنسدور وهي تمشي في غرفتها. ثم ينفتح بابها قليلاً وتبرز يد تحمل علبة بيرة، تقول المرأة:  تفضل. يأخذ توسنسدور العلبة ويشكرها ويطلب منها الانتظار لمدة دقيقة بينما يذهب للحصول على المال. تقول ادفع لي غدًا، وتغادر. ويكرر توسنسدور" شكرا لك "  ويحدق في باب المرأة نصف المغلق، والذي يتأرجح مع النسيم. يستدير ويمشي نحو نافذته، ويفتح علبة البيرة ويضع أنفه قريبا جدا من العلبة ليشم أي عطر محتمل، لكنه لا يشم أي شيء.بدت له الآن أصغر سنًا مما كان يتخيل، وقدرها بحوالي سن الأربعين، وربما أكثر قليلاً. يأخذ رشفة من البيرة ويعتقد أن كل ما يحدث لا يصدق إلى حد ما. وعندما سلمه الآخر علبة البيرة، تلامست أيديهما للحظة. هذه القصة على وشك الانتهاء، يقول توسنسدور لنفسه؛ في الواقع، يبدو أنه كان يكتبها، وأنه أخذ الأمور نحو تلك القصة التي أحس بوجودها منذ اليوم السابق، عندما سمع حديث المرأتين باللغة الفرنسية وأدار مقبض الباب الثاني، الذي انفتح بشكل غير متوقع.

أنهى البيرة وعاد إلى السرير. سيأخذ واحدة أخرى، خاصة الآن بعد أن علم أنه يكتب قصة. إنه يشعر بالسعادة لأن المرأة أعطته البيرة. لا يهم إذا كانت جميلة أو قبيحة، كبيرة أو شابة؛ المهم هو ذلك التصرف الخفي والسري تقريبًا لشخص غريب يرضخ لطلبه. شيئًا فشيئًا يبدأ في النوم. أيقظه طرق هادئ على الباب المتصل. سأل:

- من ذاك؟

يجيب نفس الصوت السابق:

- إنه أنا، جارتك .

يجلس توسنسدور فجأة. تقول المرأة:

- لا تنهض، أنا فقط بحاجة إلى بعض مضادات الحموضة من حمامك، لقد استخدمت مضاد الحموضة الخاص بي بالفعل؛ يجب أن يكون لديك عبوة إذا لم تكن قد استخدمتها.

يرد توسنسدور بأنه لم يستخدمها وتسأل المرأة عما إذا كان يسمح لها بأخذها لأنها تعاني من حرقة في المعدة. يجيب: نعم ادخلى، وهو لا يزال متشككا في حقيقة ذلك الحوار. تقول المرأة:

- لا تشعل الضوء من فضلك.

يقول:

- لن أشعله.

يغطي نفسه بالملاءة، ويتجه نحو النافذة بسبب حساسيته. يسمع المرأة تمشي حافية القدمين في غرفته ، وتدخل الحمام وتغلق الباب. يدير رأسه ويرى خط الضوء الذي يتسرب من تحت باب الحمام، ثم ينطفئ الضوء، ويفتح باب الحمام مرة أخرى وتسري رعشة طفيفة في جسد توسنسدور، لأن المرأة قد تفكر، بحجة أن غرفتها أكثر برودة من غرفته،أن تأتي للاستلقاء بجانبه. لكنها تعود إلى الباب المزدوج. لقد وجدت ما تريد ، تقول له ، شكرًا لك، وتتمنى له ليلة سعيدة. ويقول توسنسدور، ليلة سعيدة، عندما سمعتها تعود إلى غرفتها. لم يتحرك لمدة عشر دقائق تقريبًا، كما لو أنها ستعود. لقد ملأه هذا الاقتحام بفرحة لم يشعر بها منذ فترة طويلة، بالإضافة إلى منحه حلقة حاسمة في قصته. كل هذه الإثارة أيقظته مرة أخرى، فيرمي الملاءة وينظر من النافذة. مرة أخرى يدرك أنه تفوح منه رائحة العرق والعطش. ينهض ويذهب إلى النافذة وينظر إلى الخارج، لكنه في الحقيقة لا يتذكر سوى منظر المستودعات والجدران المنخفضة وصناديق القمامة والأسطح المتموجة خلف الفندق لأن الظلام شديد بحيث لا يستطيع رؤية أي شيء. تقع غرفة توسنسدور في أحد الطوابق السفلية، ولا يصل إليه وهج أضواء المدينة إلا بالكاد. يخطو بضع خطوات دون أن يتوصل إلى قرار، حتى يستجمع شجاعته، ويقترب من الباب المزدوج، ويتنحنح، ويرى نفسه يتصرف في ضوء قصته الخاصة، ينادي جارته كما فعل من قبل. تجيب المرأة: نعم؟. يقول توساندور:

- سامحيني على إيقاظك مرة أخرى.

وتقول إنها لم تكن نائمة. يوضح توسنسدور أنه لا يزال عطشانًا للغاية ويسألها إذا كان لديها علبة بيرة أخرى.  تقول المرأة: انتظر، ويسمعها توسنسدور وهي تنهض وتتجه نحو الثلاجة الصغيرة وتفتحها. تقول: لقد بقي اثنتان، هل تريد كليهما؟ كلاهما؟ يردد توسنسدور: كلاهما؟ تكرر: نعم، كلاهما، ويستجيب توساندور،على سبيل التغيير، بسرعة ويقترح على المرأة أنه نظرًا لأنها لا تستطيع النوم أيضًا، فيمكنهما شربهما معًا، إذا لم تكن تمانع. يسود صمت قصير، ويبدو أن المرأة تفكر في العرض، ثم تجيب: أين، هنا في غرفتي أم غرفتك؟ أيهما تريد، يجيب توساندور وقلبه يدق في حلقه. أفضل معك، تقول المرأة، غرفتك أكثر برودة. تقول ذلك بالحرف، غرفتك أكثر برودة، ويشعر توسنسدور بإحساس بعدم الواقعية لأن هذا ما تخيلها تقوله، ويشعر بفجوة مفتوحة في بطنه عندما يفتح الباب وتظهر صورة ظلية متوسطة الحجم.تقول المرأة: لا تشعل الضوء، لأنني أرتدي الحد الأدنى. يقول توسنسدور، وأنا كذلك  ويسألها أين تريد الجلوس. وتقول إنها أكثر راحة على الأرض. يجلسان عند أسفل السرير، ويستخدمانه كمسند للظهر، بجانب بعضهما البعض، دون لمس. لقد أعطته علبة  البيرة، ويتساءل توسنسدور ما هو الحد الأدنى الذي ترتديه المرأة، هل سراويل داخلية وحمالة صدر، أم سراويل داخلية فقط؟ من الواضح أنه لا يسأل ذلك، بل يسألها عن اسمها. تجيب: فاليريا. اسمي توسنسدور، وتقول: يا له من اسم غريب. من أين أنت؟ يقول إن والدي هو من اخترع الاسم، وأخبرها كيف حدث ذلك. لقد روى القصة مئات المرات. تستمع المرأة باهتمام، أو هكذا يبدو له، لأنه لا يستطيع رؤية وجهها. إنه يشعر بذلك فقط في الظلام لأن الضوء الموجود هناك يحجبه السرير والأثاث، لأنهما يجلسان على الأرض.يسأل توسنسدور: ألا تعتقدين أنه أمر لا يصدق أننا نجلس هنا في الظلام، ونشرب البيرة، على الرغم من أننا لم نلتق من قبل ولم نشاهد وجهى بعضنا البعض من قبل؟ .  تقول المرأة: نعم، إنه أمر لا يصدق. يتابع توسنسدور: يمكنك العودة إلى غرفتك وغدًا يمكننا أن نمر ببعضنا البعض في القاعة دون أن نتعرف على بعضنا البعض. تقول: نعم، ربما نتمكن غدًا عند الإفطار من الجلوس على الطاولات المجاورة ونتساءل عما إذا كان الشخص الذى هناك هو نفس الشخص الذي كنا نتحدث معه في الظلام، كلانا نصف عارٍ، ولن نعرف أبدًا.  يقول توسنسدور، مندهشًا من بلاغة المرأة:

- هذا صحيح.

بسود صمت قصير، ويستغله كلاهما لاحتساء البيرة.

يقول توساندور:

- من الواضح تمامًا أننا لا نشعل الضوء لرؤية وجهينا.

تقول المرأة:

- نعم،ولكن من السابق لأوانه أن نقرر ما إذا كنا سنقوم بإشعاله، أليس كذلك؟

يقول وهو ينظر بتعجب، دون أن يتمكن من رؤيتها، إلى الشخص المقلق الذي يجلس بجانبه:

- صحيح، ، مبكرًا جدًا.

تسأل المرأة:

- هل أنت كاتب؟

يجيب توساندور:

- نعم، كيف حزرت ؟

تجيب المرأة،:

- أنا أيضًا كاتبة ،وقد كذبت عندما قلت إن قفل باب غرفتى مكسور.

( تمت)

***

............................

المؤلف: فابيو مورابيتو/ Fabio Morábito كاتب وشاعر وكاتب مقالات ومترجم مكسيكي. ولد عام 1955 في الإسكندرية بمصر لأبوين إيطاليين وعاش جزءًا من طفولته ومراهقته في ميلانو. يعيش في مكسيكو سيتي منذ عام 1969. درس الأدب الإيطالي في كلية الفلسفة والآداب في جامعة المكسيك الوطنية المستقلة والترجمة الأدبية في كلية المكسيك. نشر أكثر من 5 كتب شعرية، فاز عنها بجائزة كارلوس بيليسر عام 1995، وجائزة أغواسكاليينتس الوطنية للشعر عام 1991. نُشر كتاب مورابيتو الشعري Tool Box (1999) في ألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة، و في عام 2005، نشر ترجمته لشعر أوجينيو مونتالي الكامل وفي عام 2009 نشر ترجمته لمسرحية أمينتا لتوركواتو تاسو. وقد نشر أيضًا روايتين وست مجموعات قصصية، بما في ذلك "Grieta de Fatiga" (2006)، الحائز على جائزة أنطونين أرتو للسرد لعام 2006. كتب مورابيتو نثرًا وشعرًا للأطفال، وفازت روايته للأطفال المنشورة عام 1996 بالجائزة البيضاء. جائزة Raven في عام 1997. حصل على جائزة White Raven مرة أخرى في عام 2015، لتجميع وإعادة كتابة كتاب يحتوي على 125 قصة قصيرة مكسيكية شفهية. صدر كتابه الأخير في يونيو 2014.

 

بقلم: رودي فرانسيسكو

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

اريد ان اكتب قصيدة

لكنني اريد ان اقول ما تفكرون فيه.

اريد ان ارتق الثقوب حين يبدأ زورقكم بالغرق.

اريد ان اكتب تلك القصيدة "الفريدة من نوعها،"

تلك القصيدة التي "تحرر عقلك،"

تلك القصيدة التي يقال عنها "يعجبني كيف ابتدعت تلك القافية،"

تلك القصيدة التي يقال عنها "يعجبني ذلك البيت الأخير،"

تلك القصيدة التي يقال عنها "أ يمكن ان اسمعها مرة اخرى؟

(اي ان كنت لا تمانع.)

اريد ان اكتب تلك القصيدة التي يقال عنها "تمس شغاف القلب، اعتقد انني اعرفه،"

تلك القصيدة التي يقال عنها "هذه محكمة جدا! عليّ ان اجد جميع اصدقائي كي استطيع ان اريهم."

اريد ان اكتب عن كل شيء اردت دوما ان اكونه.

اريد ان اكتب قصيدة جميلة الى حد قد يجعل والديّ يبدآن التوافق الفعلي.

اريد ان اكتب قصيدة عنكم، عني، عنا، عن كل شيء من السيارات الى القطارات الى ركوب الحافلة والشاحنة والثقة بالأخطاء ووجع القلب.

اريد ان اتحدث عن الوقت حين تعلمت السياقة اول مرة وكنت اخاف جدا من ان ارفع قدمي عن الفرامل.

اريد ان اتحدث عن المعارك، عن الحروب، عن الانتصارات والخسائر، عن التطهير العرقي، الابادة الجماعية، عن القوانين التي تخترقها الصلبان المحترقة التي احرقت الكنائس.

اريد ان اكتب قصيدتين لكل شخص قيل له يوما انه عديم القيمة.

اريد لاستعاراتي وتشبيهاتي ان تفصل المحيطات والأنهار والبحار.

اريد ان اكتب قصائد حب حلوة الى درجة تجعل الحبر على الورقة يجتذب النحل.

اريد ان اقول ما لا يقال.

اريد ان اواجه كل شيء في عالمنا المحطم.

اريد ان اكون الشخص الذي ينفذ ضغطات البطن حالما يبدأ مجتمعنا بالاختناق.

اريد لكلماتي الملهمة ان تلهم شخصا آخر ليصبح ملهِما.

اريد لكلماتي المحفزة ان تحفز شخصا آخر ليصبح محفِزا.

اريد لعباراتي ان تُنشر وتُوثق وتُقتبس.

اريد ان يقرأ الناس اعمالي بعد عشر سنوات من الآن وان يقول عنها النقاد "كان ذلك جميلا، لكنه لا يكاد يعادل جودته حين كتبه اول مرة."

اريد الأزواج ان يشكروا قصائدي من اجل القلب الذي سرقوه.

ارفض ان اموت مجرد شاغلا للأرض، نكرة،

انسانا آخر بعدُ هناك بلا وجه ولا اسم.

ارفض ان اكون مجرد انسان ما آخر.

اريد ان امشي لقرون، وان اترك طبعات قدمي على الرمل كي يراها العالم.

اريد ان تحرق جثتي لتتحول الى رماد من شعر وقواف.

انني اشعر كأن يوما ما سيحبونني.

لا اشاطر الآخرين عواطفي في الغالب.

سيسمح لي الشعر ان اموت وانا ابوح بكل مشاعري.

لم يروني قط حين أتيت، لكنني ساتأكد من انهم سيحزنون.

حين اغادر.

***

......................

* رودي فرانسيسكو: شاعر اميركي من اصل بليزي (هندوراس البريطانية سابقا) من مواليد سان دييغو بولاية كاليفورنيا لعام 1982. يعد فرانسيسكو احد ابرز شعراء ما يعرف بشعر الكلمة المنطوقة التي شارك وفاز بالعديد من مسابقاته التي تسمى  SLAM محليا وعالميا. اسس واصبح مدربا لفريق مدينته سان دييغو لهذا النوع من الشعر وفاز فريقه بالمركز الأول في منافسات عام 2017. نشر الأعمال الشعرية الآتية: "تحمل العواقب"  2013 ؛ "خدش" 2014 ؛ "لا جاذبية" 2015 ؛ "لا جاذبية 2" 2016 ؛ "هيليوم" 2017 ؛ "سأحلق بعيدا" 2020 ؛ و "اعذروني وانا اقبل السماء" 2023.

تأليف: لين نوتاج

Poof

Lynn Nottage

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

الشخصيات:

صمويل: زوج لورين

لورين: ربة منزل عاقلة فى أوائل الثلاثينات

فلورنسا: أفضل صديقات لورين فى أوائل الثلاثينات

الوقت: الحاضر

المكان: مطبخ

(ظلام)

صمويل: (فى الظلام) عندما أعد إلى رقم عشرة أكون قد اختفيت ! أتريدين أن ترى؟ أتريدين أن تسمعى؟. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة...

لورين: (فى الظلام) عليك اللعنة، اذهب إلى الجحيم يا صمويل!

(و مضة من الضوء الخاطف، ثم ترتفع الإضاءة، كومة كبيرة من رماد الدخان تبقى وسط المسرح، لورين ربة منزل وقور، فى بداية الثلاثينات من عمرها، تحدق فى الرماد وهى لا تصدق، تنحنى وتأخذ نظارة من وسط البقايا ثم تتراجع فى بطء شديد إلى الوراء)

لورين: صمويل؟ أوه! (تضع النظارة فوق مائدة المطبخ) أوه!... صمويل؟ (تنظر حولها) لا تتحامق معى الآن. لست فى حالة مزاج جيدة. (تهمس) صمويل؟ لا أعنى ذلك حقاً. سأكون بخير إذا عدت. هيا الآن، العشاء جاهز (تضحك ثم تتوقف فجأة) الآن كف عن حماقتك... وهيا نجلس (تفحص النظارة) أوه (بهدوء) لا تغضب منى، بالتأكيد نسيت أن آخذ قميصك للغد. أستطيع أن أغسل قميصاً آخر. سأقوم بذلك حالاً. الآن حالاً! صمويل (فى حذر) أنت تسمعنى! (تنتظر الإجابة) ربما لم أكن أنوى أبدأ أن أغسل قميصك (تتراجع للوراء كما لو كانت على وشك أن تتلقى ضربة، لحظة) أوه! (تجلس وتتصل تليفونياً) فلورنس عزيزتى، هل يمكن أن تأتينى حالاً لبعض الوقت. لقد وقع... حادث صغير.. بسرعة، أرجوك. أوه!

(تضع لورين السماعة، تحضر المكنسة وسلة الأتربة، تقترب فى تردد من كومة التراب المحترق، تنزل على يديها وركبتيها وتلقى نظرة عن قرب. تبرز ابتسامة بلهاء على وجهها كله. تجفل ذاهلة من طرق مفاجىء على الباب، تمشى فى بطء عبر الغرفة مثل طفل معتوه. تسمح لفلورنسا بالدخول، فلورنسا أفضل صديقاتها وجارتها فى الطابق العلوى، وهى أيضاً ربة منزل فى بداية الثلاثينات، ترتدى روباً منزلياً وردى وزوجا من النعال كبير الحجم. بدون إدراك تشرع لورين فى التراجع عبر الغرفة)

فلورنسا: مرحباً!

لورين: (تشير إلى التراب) أوه!... (تحاول بصعوبة صياغة الكلمات المناسبة، التى تضغط علهيا داخل فمها، لكنها لا تخرج تماماً) أوه!

فلورنسا: هل أنت بخير؟ ماذا حدث؟(تستنشق الهواء) ثمة شىء ما محترق هنا؟

(تحدق فى كومة الرماد الكبيرة) ما ذلك بحق الشيطان؟

لورين: (فى خفوت) صمويل... إنه صامويل على ما أعتقد؟

فلورنسا: ما الذى فعله الآن؟

لورين: إنه هو. إنه هو.

(تومأ برأسها مراراً وتكراراً)

فلورنسا: صغيرتى! ما المشكلة معك؟ هل أخرجك عن طورك؟ أعرف أن شيئاً كهذا كان سيحدث عاجلاً أم آلجلاً

لورين: هل أتصل ب 911 يا فلورنس!

فلورنسا: لماذا؟ أنت ترعبينى!

لورين: اتصلى برقم 911

(تأخذ فلورنسا التليفون وتضرب رقماً)

أعتقد أننى قتلته.

(تغلق فلورنسا التليفون)

فلورنسا: ماذا؟

لورين: (تهمس) قتلته! لقد قتلت صمويل!

فلورنسا: قولى مرة أخرى؟... هل مات حقا ؟

(تهنز لورين يديها بقوة وتومىء برأسها مرتين، مؤكدة بدون صوت أنه ميت ميت، تتراجع فلورنسا للخلف)

فلورنسا: لا، كفى عن هذا؟ ليس لدى وقت لهذا الهراء . أنا عائدة إلى الطابق العلوى. أنت تعرفين كم كان صمويل يكره أن يجدنى هنا عندما يعود إلى البيت. أنت لا تنوين أن تبقينى هنا هذه المرة (بصوت عالٍ) لا بد أن لديكما مزحة صغيرة! أنا لست جزءاً من هذه المزحة  (لحظة، تنظر بقوة فى عين لورين، تنظر شزراً)

هل فعلت ذلك حقاً هذه المرة؟

لورين: (فى همس) لا أعرف كيف أو لماذا حدث ذلك، إنه فقط حدث.

فلورنسا: لماذا تهمسين؟

لورين: لا أريد أن أتكلم بصوت عالٍ – شىء ما لابد أنه وراء  اختفائه.

فلورنسا: أين جثته؟

لورين: (مشيرة إلى كومه الرماد) هناك...  

فلورنسا: هل أحرقتيه؟

لورين: لا أعرف! (تغطى فمها كما لو كانت تكتم الكلمات) أعتقد ذلك.

فلورنسا: سواء فعلت أم لم تفعلى، ما تقصدينه حديث عن جريمة قتل يا لورين، وليس عن إعداد الفرن.

لورين: أنت تعقتدين أننى ألعب؟

فلورنسا: كم من المرات وأنا أسمعك تتحدثين عن التخلص منه. كم من مرة جلسنا فيها حول هذه المائدة وضحكنا من الطرق العديدةالتى نستطيع بها أن نفعل ذلك.وكم مرة فعلت هذا؟ ولا مرة.

لورين: (ترفع النظارا) زوج من النظارات الرخيصة، ذلك هو كل ما تبقى منه. وأنت تعلمين كم أكره تلك النظارات. هل رأيتيه أبداً بدونهما، لا!... أخذ فى العد  حتى الرقم أربعة ثم اختفى. أقسم بالله.

فلورنسا : لا تدخلى اسم الله فى مثل هذا!  اجلسى الآن... ما الذى ستحضرينه للشراب هنا؟

لورين: لا أعرف إذا ما كان يجب أن نحتسى نبيذا أم كأسا من الشامبانيا.

(تأخذ فلورنسا زجاجة نبيذ من الخزانة وتصب لكل منهما كأساً. تقترب لورين منها، ثم تمد يدها بالكأس لتتناول المزيد)

لورين: لقد كان.

فلورنسا: خذى وقتك.

لورين: يقف هنا .

فلورنسا: ثم؟

لورين: انفجر.

فلورنسا: هل ضربك ابن القحبة مرة أخرى؟

لورين: لا... انفجر. بووم. مباشرة أمامى. كان يصيح كعادته، ويتلون وجهه بكل الألوان ، ثم رفع تلك اليد الضخمة الفظة لكى يضربنى وبووف!، لقد اختفى... أنا، بالكاد نطقت بالكلمات ونظرت تحتى إلى كومة من الرماد.

(تعود فلورنسا لتهتم بنبيذها، تمسح جبهتها وتصب لكل منهما كأساً آخر)

فلورنسا: طفلتى، سأحكى لك هذه، بتعبيرات ومصطلحات  زوجى إدجار، ملك القصة لقد  فى السادسة صباح يوم الأحد، يتحدث عن أنه صدم  شخصاً ما بسيارته، وأنه قضى الليل كله وهو يحاول إقناع رجل الشرطة انهى برىء، شعرت نحوه بالأسف، لأن معنى هذا أنه لعب البوكر براتبه لا أقل من هذا.أتريدين أن تعرفى كيف اكتشفت؟.. لكن فعلت.

لورين: هل تعتقدين أننى أكذب؟

فلورنسا: بالتأكيد.آمل ذلك يا لورين. لأجل المسيح  وقلبى.

لورين: دائما ما يقول صمويل لو أننى رفعت صوتى فهناك شىء فظيع  سيحدث، وقد حدث بالفعل. أنا ساحرة.. الشيطان يفرخ.

فلورنسا: لقد أفرطت فى مشاهدة التلفزيون.

لورين: لم أشاهد على شاشة التلفزيون شيئا مثل هذا من قبل. هل تمنيت هذا، ثم عرفت ما أفعل... لا شك أننى ساحرة (تنظر إلى يديها فى اشمئزاز)

فلورنسا: طفلتى، لا تقولى لى أنك كنت تتنازلين الطعام مع نساء موجو مرة اخرى؟ ماذا قلت لك؟ [ ثارت لورين، وتقف ثم تجلس ]

لورين: لن يعود. اوه لا، أيمكن أن يعود؟ لابد أن تكون معجزة! معجزتان فى يوم واحدٍ... قد أكون مقدسة. الأسوأ من ذلك، يمكنه أن يكون... كل ما يجب أن يحدث هو أن تنزف راحتى ولسوف أذكر للأبد بوصفى القديسة لورين، راعية الزوجات المعنفات. نساء من جميع انحاء البلاد يؤدون فريضة الحج إلى، يضعن الفطائر وقدر اللحم المشوى عند قدمى ويسألون القديسة الطيبة أن تحول ازواجهين إلى تراب. كم من رجل غالبا ليفعل مقل صمويل فيصاب باللعنة ويذهب إلى الجحيم؟

[ تنهار، تتحرك فلورنسا للتخفيف عن صديقتها، ثم تدرك أن لورين تضحك بشكل هستيرى]

فلورنسا: هل تدخين الكراك (المخدرات)؟

لورين: هل يبدو على أننى أفعل ذلك؟

فلورنسا: اللعنة، لقد رأيت بعينى العجائز يزحفن خارجات من اماكن تدخين الكراك، ويتحدثن انهن يقمن بأعمال الكنيسة.

لورين: فلورنسا، رجاء النجدة. أنا على وشك الانهيار اقف على حافة الهاوية، لا أعرف ماذا افعل ذلك؟ هل أكنسه؟ هل أتصل بالشرطة؟ هل أنا (يرن جرس التيلفون) أوه يا إلهى.

فلورنسا: هل ستتركينه يرن؟

لورين: لا! (تمسك بالسماعة دون أن ترفعها، عاجزة) ماذا لو كانت أمه؟.. هى تعرف!

[ يواصل التيلفون الرنين. تجلسان جتى يتوقف، الصعداء حقاً ]

ينبغى أن أكون فى حدادٍ، ينبغى أن أصلى، ينبغى أن أفكر فى إجراءات الدفن، لكن كل ما يتبادر إلى ذهنى ما الذى سوف ارتديه على شاشة التلفزيون عندما أشارك بقصتى المروعة والرائعة مع جمهور الاستديو.. (تهمس) لقد جعلنى قاتلة يافلورنسا، وتتذكرين كم كنت طفلة لطيفة (تهمس) أنا قاتلة! أنا فاتلة. أنا قاتلة!

فلورنسا: لا يمكن أن الفى بتلك الكلمة بسهولة ولو على سبيل الدعاية. كلام قفل ما يدور حولك.

لورين: هل تعتقدين انهم سيحبوننى؟ بضع كلمات فى غير محلها وسوف اتعرض للاعدام على الأرجح. أليس هذا ما يفعلونه مع نساء مثلى، قتلة؟

فلورنسا: ماذا توقعت، أن ألف ذراعي حولك وأهنئك؟ لماذا ينبغى أن تذهبي وتفقدين عقلك في هذا الوقت من اليوم بينما أضع وعاء الأرز على الموقد وزوجي إدجار على وشك دخول البيت، ويتسائل أين هو الطعام الملعون.. (فاقدة هدوئها) وسيبدأ في مسائلتي ماذا كنت أفعل خلال اليوم، ولماذا لم أستطيع العمل وعندئذ سوف يشير إلى نظافة منزلك، ولن أعرف كيف أنظر في عينيه بدون......

لورين: آسفة يا فلورنا، حقاً. هذا خارج عن إرادتي الآن.

(تمسك بيد فلورنسا وتضغط عليها)

فلورنسا: (مستعيدة رباطة جأشها) تقسمين على حلمة ثدييك اليمنى؟

لورين: (تمسك بكلا الثديين) أقسم على كليهما

فلورنسا: كلا ثدييك يا لورين، أنت تعلمين ماذا سيحدث لو كنت تكذبين.

(تومئ لورين في صمت) كلا الثديين يا لورين؟

لورين: نعم!

فلورنسا: (تفحص كومة الرماد ثم تهز رأسها) أوه يا يسوع الحلو، لابد أنه أقدم على فعل شيء فظيع حقًا.

لورين: ليس أكثر من المعتاد. أنا فقط لم أستطيع أن أتحمل التعرض للضرب أكثر من مرة.

فلورنسا: لقد تلقيت ألف لطعة من ذلك الرجل، لا يمكن أن تديري الخد وتنتظرين.. كان لابد أن أساعدك، كما تحدثنا من قبل.

 (لحظة)

لورين: أوه! استطعت أن أنفخه واختفى عبر المشمع (تطقطق أصابعها) مثل ذلك، هل ينبغي أن أشعر بتأنيب الضمير أو الاسف أو أي شيء آخر كهذا؟ أنا مبتهجة بشكل غريب، كما لو كنت في حفلة موسيقية عندما مارست وصمويل الحب، ذلك هو شعوري (يغلقان أعينهما) أوه.

فلورنسا: إن ذلك.

لورين: مثل طن من الطوب تم رفعه من فوق كتفي، نعم.

فلورنسا: أحقًا؟

لورين: نعم!

(تتمشى فلورنسا إلى الجانب الآخر من الغرفة)

فلورنسا: أنت عاهرة؟

لورين: ماذا؟

فلورنسا: لقد عقدنا إتفاقًا؟

لورين: أعرف

فلورنسا: وأنت كسرتيه... لقد اتفقنا أنه عندما تسوء الأمور بشكل حقيقي لكلينا.. أنت تعلمين. نحن معًا. هل ينبغى أن أعود إلى الطابق العلوي؟ ماذا بعد؟

لورين: اعتقدت أنك أخبرتني!... لا أعرف.

فلورنسا: لا أعرف؟

لورين: لا أعرف.

(تبدأ فلورنسا في التجول داخل الغرفة، فتلمس بعصبية الأشياء، تجلس لورين، تعصر يديها، وتغمغم في خفوت إلى نفسها)

فلورنسا: الآن فهمت  يا لورين. أنا حقًا في حيرة من أمري

(فقدت النطق)

لورين: الجميع يقول لي دائمًا، حافظي على بيتك يا لورين.. منزلي، البقعة الصامتة على الأريكة مع علبة النبيذ الباردة في يدي، وابتسامة لطيفة لذلك القلب الدافئ. طوال كل هذا الوقت لم أعرف لماذا كان خائفًا جدًا أن أقول أي شيء، أن أتكلم. بووف.. لم أكن أبدًا مع نفسي فيما عدا أسبوعين عندما فاز في السباحة وذهب إلى رينو مع ابن عمه ميشيل، لم يخبرني إلى أين كان ذاهبًا حتى وصلتني تلك البطاقة البريدية مزينة بصورة راعي بقر يدخن مائة سيجارة.. ألم يبدو المطرب سوني لاكن جيدًا الأسبوع الماضي في كارولينا؟ لقد بدا جيدًا أليس كذلك.. (تومىء فلورنسا بالإيجاب. تمسك بعصبية سترة صمويل، تلك السترة المعلقة على ظهر المقعد. تمسكها بغير وعى) لا. لا. لا تجعديها، هذه سترته المفضلة. سوف يقتلني. من فضلك أعيديها إلى مكانها.

(تعيد فلورنسا السترة إلى مكانها. تبدأ لورين في الارتجاف)

لورين: آسفة (تمسك بالسترة وتطبقها) هناك! (ثم تفتش في جيوب السترة وتخرج محفظته وكعب تذكرة) انظري إلى هذه، لقد قال إنه لم يذهب إلى السينما ليلة أمس. العمل لوقت متأخر!(تفتش في محفظته) صورة لدراجته النارية، بطاقة ضمان اجتماعي. رخصة قيادة. وانظري إلى تلك الصورة من من صور زفافنا (تبتسم) أبدو جميلة، أليس كذلك؟ (تعيد الصورة إلى المحفظة مرة أخرى وترفع السترة إلى وجهها) كانت هناك بعض الأشياء الجيدة (تمسح بيدها فوق السترة لإزالة التجاعيد، ثم تطويها بعناية شديدة. وفي الأخير تلقي بها في سلة القمامة) وخرجت من فمي تلك الكلمات التي جعلته يختفي، طوال كل هذه السنوات مجرد كلمات يا فلورنسا، ذلك ما كان.

فلورنسا: أخشى ألا أذيع هذه الكلمات على الإطلاق، سأبدأ في الاستياء منك يا عزيزتي، أخشى ألا يتغير أي شيء بالنسبة لي.

لورين: لقد كنت في ذلك المكان.

فورنسا: نعم؟ لكن الآن أتمنى أن أتمكن من إخفاء تلك الخطوط العميقة (تلمس جبهتها) لدقيقة واحدة ربما، لم يعاملني إدجار بالطريقة التي يعاملك بها صمويل، لكنني متأكدة أن إدجار سلبنى أفضل ما في حياتي.

لورين: ليس بعد يا فلورنسا.

فلورنسا: (تومئ موافقة) لدى أطفال لأفكر فيهم.. أليس كذلك؟

لورين: يمكنك التفكير في مئات الأشياء قبل...

فلورنسا: إذن تعالي معي إلى الطابق العلوى.. سوف ننتظر إدجار معًا ثم يمكنك بعد ذلك نطق كلماتك و...

لورين: لا أستطيع أن أفعل ذلك.

فلورنسا: نعم يمكنك ذلك.. تعالى معي الآن.

(تهز لورين برأسها لا)

فلورنسا: حسنًا، أعتقد أن صباحاتي لن تكون مختلفة.

لورين: إذا كان بإمكانك القول على وجه اليقين. عندئذ على ما أعتقد لن تكون كذلك، لن أستطيع أن أقول ذلك.

فلورنسا: لكنك جئت بالمكنسة ووعاء الغبار، لست في حاجة لشيء أكثر من ذلك.. لقد كان مجرد وغد، لا أحد سيهتم أين ذهب.

لورين: سيبدأ التليفون في الرنين حالًا وسيبدأ الناس في التساؤل، والكل سوف يهتم.

فلورنسا: ما هي جريمتك؟ أتقولين رأيك؟

لورين: ربما ينبغى على  أن أرسل رسالة إلى أمه. أنا مدينة لها بذلك. أشعر بالإساءة إليها، إنها لن تفهم كيف حدث هذا؟، لا أستطيع فقط أن أرميه بعيدًا ثم أتظاهر بأن ذلك لم يحدث، هل أستطيع؟

فلورنسا: أنا لم أر شيئًا سوى كومة من الرماد. على قدر ما أعرف أن لديك بعض الإهمال وحرقت دجاجة.

لورين: كان دائمًا يهددني بعد العودة.

فلورنسا: لقد سمعته.

لورين: ولم تكن تلك المرة الأخيرة.

فلورنسا: نعم.

لورين: كان يجب أن أتصل بالشرطة أو بأي أحد.

فلورنسا: لماذا؟ ماذا تنوين أن تقولي لهم؟ عن تلك المرات التي رفض فيها المساعدة، عن تلك الليالي التي نمت فيها في سريري لأنك خائفة أن تبقى هنا؟ عن تلك المرة التي كاد أن يقتلع فيها عينيك لأنك غيريتي قناة التليفيزيون؟

لورين: لا.

فلورنسا: لقد تحملت هذا يا فتاة؟

لورين: وداعًا للحوم السمينة والطعام المالح، وداعًا لشطائر البوريون وسندوتشات البولوخيا، وداعًا لرائحة قدميه وأنفاسه وحركات أمعائه، (لحظة، تغلق عينيها، ترتجف وتعيش  ذكريات مروعة) وداعًا (تمشي فوق كومة الرماد) صمويل؟... مجرد أن أتحقق.

فلورنسا: وداعًا صمويل!

(تبتسمان معًا)

لورين: سأقول للشرطة أنه فقد غدًا،

فلورنسا: لماذا لا يكون بعد غد؟

لورين: الدجاج ساخن في الفرن، مرحباً بك للبقاء.

فلورنسا: طفلتي، لدي قدر من الأرز على الموقد. يحتمل أن الأطفال أنزلوه وإدجار.. حسنًا انصتى، سأمر غدًا.

لورين: للعشاء!

فلورنسا: لن يتحمل إدجار ذلك. ربما لكى نلعب الورق.

لورين: الورق؟

(تتعانقان لبرهة طويلة، تخرج فلورنسا وتقف لورين فوق الرماد لعدة لحظات تفكر فيما يجب أن تفعل، تقرر في النهاية كنسه تحت السجادة، ثم تشرع في إعداد المائدة لتناول العشاء)

(نهاية المسرحية)

***

.........................

المؤلفة: لين نوتاج / Lynn Nottage، كاتبة مسرحية أمريكية ولدت فى 2 نوفمبر عام  1964 م فى مدينة بروكلين بولاية نيويورك، لأم كانت تعمل معلمة ومديرة مدرسة وأب يعمل طبيبا نفسيا للأطفال، كتبت لين نوتاج أول مسرحية طويلة وهى المدرسة الثانوية، مسرحية: The darker side of verona  . التحقت لين نوتاج بجامعة بروان عام 1986 ومدرسة ييل للدراما عام 1989، وبعد التخرج عملت فى المكتب الصحفى لمنظمة العفو الدولية لمدرة أربع سنوات، وذلك قبل أن تتفرغ للكتابة المسرحية والتدريس فى الجامعة، حيث تعمل الآن أستاذ مشارك للكتابة المسرحية فى جامعة كولومبيا، وهى متزوجة من المخرج تونى جرير ولديها طفلان.  تركز نوتاج في مسرحياتها على تجربه أفراد الطبقة العاملة وخاصة أفراد الطبقة العاملة مع السود، حصلت على جائزة بولتيرز للدراما مرتين في عام 2009 عن مسرحية (المدمرة Ruined) وفي عام 2017 عن مسرحية (عرق) (sweat) وهي أول امرأة تفوز بجائزة بولتيرز للدراما مرتين.

في نصوص اليوم