ترجمات أدبية
إليانور كاتون: الضريح
بقلم: إليانور كاتون
ترجمة: صالح الرزوق
***
قالت شارون: “انظري إلى تلك العلامات المائية التي تركتها القهوة على فنجاني من الداخل. انظري إلى ذلك التاريخ. هذه خريطة لكل الأسابيع والسنوات التي امتصها هذا المكان مني. انظري إليها. خطوط الضغط الجوي لحياتي المهدورة والشقية".
لوحت فنجان قهوتها بقوة لتؤكد على أقوالها. وقالت: “وأمحوها يوميا". سألت وهي تستدير نحو طاولة المبيعات: “هل أعطوك رقمك المعرف هناك؟ ما هو اسمك". توجه شارون نظرة مباشرة أو ابتسامة، ولكن ليس الاثنتين معا. وكان التأثير غير مريح.
بحث البائع المضارب في جيبه عن معرفه وقال “ريتشارد". كانت له لكنة أسترالية وتبين أن حظه "بائس". طبعت شارون الكلمة، وابتسمت للنور المثبت فوق رأسه. حصل على فاتورته. وابتلعت شارون ابتسامتها وراقبته وهو يغادر.
قالت بعد إغلاق الباب: "يا إلهي، يا لها من حفرة كالجحيم. أتمنى لو أنني ميتة". نظرت لي مستفهمة.
قلت: “وأنا أيضا. أتمنى لو أنني ميت كذلك".
قالت شارون: “لا أصدق أننا لا نزال هنا. سنتان ونحن هنا".
قلت فقط لأظهر روحي الرياضية: “ولا أنا أصدق ذلك. لماذا لم نمت من الضجر؟".
الموضوعات المفضلة عند شارون هي الكلام عن الضجر والمرض. وبالأخص الذي له أعراض كثيرة. وهي تحب الأعراض مثلما يحب بعض الناس الكلمات المتقاطعة. الأعراض من اختصاصها.
قالت صباح هذا اليوم بعد أن توقفت امرأة عن طلب البراغي القوية وعازلات الماء والنسيج المضغوط: "نعاني من الجوع العصابي. أراهنك بخمس دولارات. ماذا تقولين عن شفاه جافة ومفاصل أصابع خشنة وخطوط سود تحت العينين". ولكن مضى على ذلك ساعات. استهلكنا الموضوع الآن. قلت: “عشر دقائق ثم ندخن". جلست مع شارون على الكرسي بجوار علبة النفايات ودخنا. لوح لنا المعماريون بأيديهم وهم يدخلون ويخرجون من موقف السيارات بسياراتهم الصغيرة. كان لهم جميعا لون أصفر كالتبغ، بسبب حروق الشمس القرمزية والرمادية. ثم سحبت شارون لفافتها من فمها وقالت: “ما هذا؟".
التفت لأنظر إلى جهة إشارتها. رأيت شجيرات ورد قديمة قرب علبة الهاتف، وكلها دهنية ومبقعة وتحتضر، وهي مزروعة وراء البوابة حيث تغادر الشاحنات الطريق الرئيسي وتنعطف إلى الداخل. تحت الشجيرات لاحظت وجود جثة.
قالت شارون: “هذا كلب بلا رأس". امتصت سيجارتها بنهم وأضافت: “لنذهب ونخبر المسؤول. آه يا إلهي، كلب بلا رأس".
لوحت إلى أحد النجارين وسريعا ما غادر الجميع من المتجر وانهمكنا كلنا بالنظر إلى الجثة المطروحة تحت أشجار الورد. قاد هاميش الجرافة. وخرجت الموظفات من المكتب لأخذ نظرة. جلسنا القرفصاء وبدأنا نتعجب. ولكن ليس عن مقربة. واحتفظنا بمسافة خمس أو ست أمتار. في النتيجة الجثة هي جثة.
تساءل الجميع فيما بينهم: "من يقدم على قطع رأس كلب؟. لا بد أنه إنسان مريض!". ظللنا عيوننا بأيدينا لرؤية أوضح، وتأملنا الكومة المغطاة بشعر قصير والمتيبسة، والملوثة عند مكان الرأس المقطوع.
قال غلين وهو عامل في المغسلة للتنظيف والتجفيف: “علينا أن نتصل بقسم حماية وتربية الحيوانات". وحمل شريط القياس المثبت بحزامه وجر الشريط عدة مرات ثم أفلته ليعود إلى غطائه البلاستيكي. قال: "سيأتون بشاحنة. سيحضرون ويأخذونه". وقفنا هنا لحظة إضافية، أنا وشارون نمتص سيجارتينا حتى النهاية. قالت شارون بشيء من الاندفاع: “أتساءل كم مضى عليه هناك". قال غلين: “أنا أتعاطف مع الكلاب". وكان صوته حزينا، كما لو أنه اكتشف للتو أن العالم لم يخلق بعد. وجر شريط القياس بحركة سريعة وقال:”انا محب للكلاب". أخبرتنا مديرية حماية وتربية الحيوانات أنهم قادمون هذه الساعة.
انتهت فترة التدخين وعدت برفقة شارون إلى الداخل، وانغمسنا وراء طاولة الخدمة، منصتان زرقاوان صغيرتان تحيطان بالمدخل الرئيسي. عبثنا بمطاطة فيما بيننا وابتسمنا للمضاربين الصغار وهم يتوافدون. يحبون أن تقوم النساء على خدمتهم. فهذا يمنحهم شيئا يتفاءلون به. وأوسعت من ابتسامتي ولكنهم تعلقوا بشارون أكثر مني.
قلت: “أعتقد أنه مات أولا ثم قطعوا رأسه. أفترض أن هذا سهل الأمر عليهم". قالت شارون: “ضجرت من حكاية الكلب". وتنهدت بعمق.
اقتربت امرأة عجوز وقالت: “أين المغاسل". قالت شارون وهي تنظر لمنطقة العيب في المرأة وتشير دون تركيز بيد واحدة: “الممر 4. الزنك على اليسار. والآلة على اليمين". زحفت المرأة مبتعدة وتنهدت شارون وقالت:"لدى شارلي في المكتب التجاري ست تعليمات صارمة". وتخلت عن اللهو بالمطاطة وبدأت ببناء برج من أنابيب غراء، وكومتها على الطاولة حتى بدأت ترتعش وتتمايل.
"من أخبرك بذلك".
انهار برج شارون. تخلصت من أنابيب الغراء بحركة عصبية وقالت: “كأننا نعمل في مدفن. كيف يمكننا تحمل ذلك لصيف كامل؟. أوشكت على الجنون".
قلت: “من يمكنه قطع رأس كلب؟ من يمكنه أن يفعل ذلك؟ أريد أن أعرف".
كان صوت المرأة التابعة لحماية وتربية الحيوانات مضطربا على الهاتف. قالت: “كلب بلا رأس. هذا يعني وجود نشاط لعصابة، شيء متوحش. هذا خطير. كلب بلا رأس شيء خطير. سنرسل شاحنة حالا". وحينما كانت تغلق الخط سمعوها تصيح: “أنت يا مارلين".
وصلت الشاحنة حينما كانت شارون في الطابق الثاني تنظف غرفة الشاي. أسرعت أجري إلى موقف السيارات لاستقبالهم كما يجب، قبل أن يكسب الفرصة غيري. كان الفريق مكونا من بنت شابة ذات شعر قصير وأساور جلدية حول معصميها. قالت: “دعونا نرى هذا الكلب المقطوع الرأس". وفركت راحتيها معا وصفقت مرتين. تحركنا باتجاه الشجيرات. كان الوقت في أواخر ما بعد الظهيرة، والعمل قليل. وهناك عدد محدود من الشاحنات في موقف السيارات، والشمس براقة وذهبية وهي تغوص وراء الألواح الخشبية وفوق الجسر وأسلاك الترام. على المنصة وراءنا كان غلين يكنس المغسلة، ويهيج سحابة صغيرة من غبار الإسمنت الأبيض التي انتشرت على الإسفلت باتجاه المجاري.
اقتربنا من شجيرات الورد وتقدمت بنت حماية وتربية الحيوان منها، ودفعت حفنة كبيرة من الأوراق والأغصان جانبا، لتتمكن من أخذ نظرة أفضل من الكلب المقطوع الرأس. تمهلت في الخلف وشاهدتها تتوغل في النبات المريض والدهني، وتكافح قليلا مع الأوراق التي ترتد إلى الخلف وتلطم وجهها. تشكلت غمامة من الذباب وتفرقت مثل دخان. توقفت. ثم وهي تمد ذراعيها الثابتتين إلى الأمام، صاحت المرأة: "تعالوا وانظروا إلى هذا".
تقدمت، وأنا أمشي بقدم خفيفة ومتوازنة، ونظرت إلى الكلب الذي فقد رأسه، وهو متكوم على جانبه بين علب مسطحة وأوراق وصناديق رقيقة فضية مقطعة إلى شراذم قذرة ونصف مطمورة في التراب.
لم يكن كلبا كما توقعنا. كان قطة، كتلة ضخمة خشنة الشعر، ملوثة بدم مبهم على جانب الرأس. وعيناها مفتوحتان. كانت ميتة.
قلت: “آه". وهذا كل ما أمكنني التفكير به وقوله هذه اللحظة.
قالت المرأة: “أفترض أنكم لم تقتربوا تماما. لمسافة تسمح بالرؤية الواضحة".
قلت: “لم نرغب بذلك". تراجعت إلى الخلف عدة خطوات، وحركت رأسي لأحد الجانبين، ونظرت ثانية إلى القطة، لم تكن قطة ميتة بلا رأس، ولكن قطة عادية ميتة تستلقي على جانبها، تحت شجيرة الورد.
قلت: “آه. انظروا – إذا وضعتم رؤوسكم هكذا، يبدو طرف جبينها مسطحا ومقطوعا. هل لاحظتم؟ تبدو أشبه بكلب بلا رأس لو فعلتم ذلك".
أفلتت المرأة الشجرة، وتراجعت عدة خطوات. قلدت زاوية نظري ووقفنا كلانا لحظة، نميل قليلا وأحد الكتفين إلى الأسفل، ونحن نطرف بنظرنا.
قالت المرأة بعد فترة صمت: “نعم. أرى ذلك. أعتقد أن رأس القطة أصغر بكثير من رأس الكلب. فهي بلا ذلك الفك المتطاول". قلت فورا: “نعم. لا يوجد فك متطاول ولا سواه". استقامت المرأة بوقفتها وحكت وجهها. وبدا عليها التعب. قالت: “ما لا يمكن أن أفهمه أن كلبا بلا رأس يشحن أعصابنا. أعني أن كلبا بلا رأس شيء فظيع. علينا الاتصال بالشرطة خشية أن يكون دليلا على شيء ما. ولكن قطة ميتة لا تعني شئيا. قطة ميتة مجرد قطة ماتت. ربما تلقت صدمة على الطريق وألقاها أحدهم من فوق السور. شيء طبيعي". وكنت أرد بهز الرأس باستمرار.
قالت المرأة بصوت ينم عن الشقاء التام: “يجب أن أعود إلى المكتب برفقة قطة ميتة. قطة أخرى فقط للفرن. اللعنة".
أنّت الشاحنات فوقنا وهي تعبر الجسر قادمة من مكان مجهول. تمسكت المرأة بأساور جلد المعصم الملتفة حول رسغها. ثم تنهدت وصفقت مجددا وقالت: "هل بمقدوري أن أحصل على كيسين بلاستيكيين لالتقاطها بهما؟".
أحضرت إليها كيسين من البلاستيك، من النوع الرقيق المستعمل للخضار وعليهما شعارنا البراق الأزرق مطبوعا على جانب واحد. جلست القرفصاء وهي تغلف قبضتها بكيس وحملت القطة من أطرافها. كانت لها رائحة نتنة. تراجعت عدة خطوات. ألقت القطة في الكيس، كيفما اتفق، ثم غلفته بكيس آخر. فقط لمزيد من التأكيد. حينما وقفت، وهي تمسك حمالتي الكيس البلاستيكيتين الرقيقتين وتباعد بينهما، خرجت ساقا القطة الخلفيتان من فم الكيس، باتجاه السماء. لسبب ما اعتقدت أن ذلك شيء غريب، أن تضع رأسها في الكيس أولا. ولم أبرر ذلك.
قلت لغلين وأنا أعود إلى المتجر عبر المصبغة: "كانت قطة. قطة ضربتها سيارة. ولها رأس. ولكننا لم نلاحظه بسبب زاوية نظرنا".
قال غلين: “كانت قطة؟ كانت قطة. جيد. حسنا. طيب". ثم انسحب وهو يكنس.
حينما عدت إلى الداخل، شارف الوقت على الإغلاق. كانت شارون تعد الغلة، نظرت نحوي، ويداها مليئتان بقطع العشر سنتات وقالت: "تلك المرأة سحاقية". وكانت تتكلم بصوتها المتميز كأنها تشخص مرضا. أضافت: “أراهنك بخمس دولارات أنها سحاقية. أنا أعرف ما أقول؟".
***
..................
إليانور كاتون Eleanor Catton روائية من نيوزيلاندا. لها ثلاث روايات. حازت على البوكر عام 2013 عن روايتها "الكواكب المضيئة". ولها عدد من السيناريوهات والقصص المتفرقة.