بقلم: زاخار بريليبين
ترجمة وإعداد: صالح الرزوق
***
ابنان يكبران.
أحدهما عمره أربع شهور. يستيقظ في الليل، ولا يبكي، كلا. لا يبكي. بل يستلقي على بطنه، ويتكئ على كوعيه، ويرفع قبة رأسه الأبيض الصغير ويتنفس. باختصار يتنفس بسرعة. مثل كلب يجري وراء رائحة شهية.
لا أشعل الضوء.
وأصيخ السمع له.
أسأله بصوت أجش في الظلام: "إلى أين تجري يا ولد؟".
يتنفس.
ينكس رأسه، ويرتطم بفراش سريره الصغير. يا الله. اللهاية البلاستيكية تحت وجهه. وهو يفهم كل شيء، سمك البلمة الحكيم - يلف رأسه، ويتناول اللهاية بشفتيه ويمتصها. لو تعب من اللهاية، يتسرب صوت لدن - تسقط. ويتنفس مجددا.
أستنتج من تنفسه، أنه لف رأسه ليواجه بنظره الظلام: لا يمكنني أن أرى... وأريد أن أنام.
"إغنات*، أنت عفريت". أقول بتكبر.
يغرق بالصمت لدقيقة من الوقت ويصغي: أنى لي أن أعلم من أين ذلك الصوت؟.
رأسي ثقيل مثل أرقطيون مبلول في الخريف - لا شيء يلتصق به، ما عدا النوم، يجره للأسفل، نحو الوحل اللزج.
في البداية أشعلت النور حينما استيقظت على لهاثه - وأسعده ذلك. كل ليلة نتكلم حتى الفجر ونحن على الكنبة. أضع ابني بجواري، ونتكلم. هو يقطب وجهه، فأضحك، وأحتفظ بفمي مطبقا، كي لا أرعبه. ولكن الآن لم أشعل النور، فقد كنت متعبا.
ولا أذكر اللحظة التي يغط بها في النوم، لأنني أكون قد فقدت وعيي قبل ذلك.
أفيق مرة في الليل، أحيانا مرتين - وأكون مجللا برعب الخطيئة الأبوية: أين هو؟ ماذا هناك؟ لا أتمكن من سماع لهاثه.
ولكن بوغ النور، وانحسر الظلام - أجر الغطاء عن السرير لأراه هناك: وجهه يشبه درنة البصل، وهو يخرخر بهدوء. أود أن أقبله حينما يفيق. ألامس خديه بشفتي، وأمتلئ بحليب محبوبتي، وتغمرني فورة من البهجة.
يا إلهي كم هو رقيق. مثل داخل بطيخة. وأنفاسه... تتفتح أمامي بشكل ورود جميلة في الربيع - ابني ينفخ بوجهي، وهو متوهج كأنه في قداس.
رفعته لما فوق رأسي - تدلى خداه المنتفخان، وسال لعابه على صدري. وناغيته ليضحك. هل تعرف كيف هو الضحك؟. مثل الخراف: باع- ع - ع.
أرميه بتؤدة إلى الأعلى، دون أن أمد ذراعي. فلا يضحك. ويلتفت برأسه: آه، هنا أنا أعيش...
أناغيه وأقول: "هيا يا إغناتكا انخر كالخروف". ولكنه لا يفعل. فهو متعب من الاهتزاز، ويشرف على التجهم.
أضع ابني على صدري، فتركل قدمه بطني. يرفع نفسه إلى الأعلى مستعينا بكوعيه، وينظر إلى رأسي. يتعب من ذلك، ويخفض رأسه: ما يشبه لحية قريبة. لحية لافتة - للانتباه. وأتمنى أن أجد طريقة لأقضمها بأسناني.
أربت على رأسه الدافئ. ويبدو كأنه مغلف بدهن طري.
ألاعب الطفل وأتأمله حتى تصحو عزيزتي في الغرفة المجاورة.
لدينا شقة واسعة، تتكون من غرفتين رحبتين بسقفين مرتفعين يفصل بينهما ممر. في الغرفة الثانية وعلى الطبقة السفلية من سرير يتألف من طبقتين، تنام عزيزتي. أرسلتها إلى هناك في المساء كي تكسب بعض النوم. وفي الطبقة العلوية ابني الأكبر، بعمر خمس سنوات. لديه طبيعة ملائكية وعيناي. اسمه جليب.
استيقظت، زهرتي، ورأيتها تعيد الثقة لي وتهدئني. ثم اقتربت مني بخجل. قالت: "هل حصلت على أي قسط من النوم؟".
لم تكن تسأل عني، ولكن عنه. إن لم يكن نائما، لا بد أن أحصل على حصتي من الأحلام. قبلتنا بالدور، ولكن قبلته هو أولا. وهمست له بكلمات رقيقة وعاطفية. وابتسمت لي. ثم وضعت راحتيها تحت صدرها - كانا ثقيلين، ويمكنني رؤية ذلك.
قالت: "امتلأ".
أجبتها: "سيشرب كل شيء ويريحك. ولن يتأخر عن ذلك".
لم يكن يبكي، ولا حتى في حالة الجوع. ولكن أحيانا يئن، ودون أي دموع، كما لو أنه يشتكي ويقول: أنا أستلقي هنا وحدي. يا صحاب. هل يوجد صعوبة بشيء من التسلية؟ على سبيل المثال أنا أحب تأمل رفوف المكتبة، كلما حملني أحدكما قبالتها. تعجبني ألوانها الكثيرة.
وحينما ولد، لم يكن يبكي أيضا. ولاحظت ذلك بنفسي، كنت موجودا. لم يبك في المستشفى أيضا، وفي أيامه الأولى في البيت كان يتمدد بهدوء وينظر بتمعن للعالم. وفي اليوم الثالث فقط من حياتنا المشتركة، وحينما توجهت إلى المطبخ لأتحرى عن حساء اليخنة، سمعت صوت طفل غاضب يصيح.
أسرعت نحوه - واستنتجت بسرعة ماذا يجري.
سألت عزيزتي وأنا أخفي الابتسامة: "هل قمت بقرصه، أيتها العاهرة الصغيرة؟".
ردت: "اعتقدت أنه أبكم".
نسيت - ما أن أعول حتى انطفأت عيناه.
انزعجت عزيزتي من مزاجه الطيب على الدوام، فأسرعنا كلانا إلى الدكان، وتركنا الطفلين في البيت. واشترينا البسكويت المحلى لماما والنبيذ المر للوالد. وحينما رجعنا، سمعنا عويلا فظيعا، وبصوتين.
أسرعت أطير على السلالم، وكان حذائي يرتطم بالممر - كان ابني الأصغر يصرخ في سريره، وبصوت مبحوح، وابني الأكبر قد حبس نفسه في دورة المياه، ليفجر رأسه بالصراخ.
قال الوالد للابن الأصغر: "عزيزي إغناتكا".
وقالت الوالدة للأكبر: "عزيزي غليبوشكا".
ناح جليب وهو يدفن رأيه في بطن عزيزتي وقال: "ماما ساعدي اغناتكا. لا يمكنني أن أتحكم به".
شعر بالأسف لأخيه.
سيظهر جليب حالا، وهو يتجول بساقيه الطويلتين والمعوجتين، هذا هو ابني المتألق.
وسنجتمع جميعا، ثلاثة رجال وبنت واحدة. وهي مسرورة جدا لوجودنا نحن الثلاثة برفقتها. لم ترغب عزيزتي أن تلد أحدا يشبهها. ربما لأنها نفسها فتاة غريبة وعنيدة، حتى قبضت بيدي القوية على معصمها ومنحتها ابني الذي يجب أن تحمله - قمت بحقنه في لامبالاتها الصبيانية وشديدة العزيمة، ولكن كان ذلك مفيدا لوضعها البشري. والآن يقوي ويعمق الأولاد حبنا. وغالبا ما كان جليب يقول: "يجب تقسيم الخطيئة إلى نصفين".
أحيانا يسرع إلى أمه - ويقبلها بتعجل، ثم يهرع نحوي، ويقبلني أيضا.
كما لو أننا نتبادل القبلات للمصالحة - نحن لا نجلس في زوايا متنافرة من المطبخ دون سبب. وماذا علينا أن نفعل بعد ذلك؟ ثلاثتتا نضحك معا ونجري لنجيب على دعوة اغناتيكا للصلاة.
يقول دون أن يتكلم: لقد نسيتونني.
وينقل إلينا فكرته بهذا الشكل:
"إيفاو. جا**". وشيء آخر، متجنبا الحروف المعروفة.
ونقارن كيف كان الأول يكبر مع نمو الثاني حاليا. مختلفان جدا. الأكبر يحب النظام، يأكل بأوقات معينة، وينام لساعات محددة، ويستيقظ بإيقاع وقت منضبط محسوب بالدقيقة. أما الأصغر فلا يهتم بالدقة والمواعيد. ومهما بذلنا من جهد لتعليمه لا يتجاوب. يستيقظ وينام كلما رغب بذلك. وربما ينام خمس عشرة مرة باليوم، أو يطلب ثدي أربع مرات في ثلاثة أيام. تتحكم به قوانينه الداخلية، وهذا ينفعه - وأهم شيء أن يكون بمزاج طيب.
الأخ الأصغر صديق للأكبر. على سبيل المثال مهما لاعبت الصغيرلم يكن يضحك كثيرا. ولكن حالما يأتي جليب يحضر الصغير نفسه ليلعب وتقريبا يقفز على بطنه، كما لو أنه يريد أن يثب مثل ضفدع ذكي - من السرير إلى الكنبة، ومن هناك إلى الأرض. باشر جليب بالوقوف على رأسه، أو عجن الوسادة - ضحك إغنات بقوة حتى خشيت عليه.
والأهم ما أن دخل الأبوان الغرفة حتى جمدت الضحكة: لا تتدخلا، نحن نسلي أنفسنا هنا،
كان ابنانا متقاربين، ومتفاهمين، كما لو أنهما من قبيلة واحدة، بينما أنا وحبيبتي من قبيلة أخرى. ربما هي قبيلة مشابهة، ولكنها غيرها. وطبعا هي قبيلة ودودة. حتى أنها تكرمنا وتحيينا. ويسعدها أن تحترمنا. وإلا لماذا هذه القوة والصحة وحب التنظيم؟ هل يجب إقامة علاقة تبادل منفعة؟ وإلا انتهى كل شيء بسرعة.
شخر اغنات أمام الصدر المليء بالحليب.
لقد جفف حبيبتي. هذا المتوحش الصغير الأبيض. كان يقبض على صدرها برقة بيديه، كما لو أنه يخاف أن يهدر منه شيئا. وأحيانا يلتفت كأنه يقول: آه، الحليب لا يتدفق.
والآن ظهر أخوه. كان وجهه مخدرا بالنوم. وذراعاه تتدليان على جانبيه، وغصن الصباح متوتر تحت سرواله.
قال: "صباح الخير يا جليب".
قال: "صباح الخير يا بابا. صباح الخير با ماما".
واتجه إلى اغنات ولامس أذنه.
قالت أمي: "إ ش ش. لا تزعجه".
كان يرتاح لإزعاجنا ولقطع طريقنا، ويتململ دون توقف، ويوجه الأسئلة، ويجيب عليها، ويتفلسف، ويلقي التعليقات، ويصل لنتائج عامة وبعيدة- أبعد من أحكامه، ومن خبراته، وفهمه.
وشعر بتبدل في مزاج والديه بدقة ثابتة، مع علامة خفيفة تدل على التحير من والده، حيرة تحولت بالضرورة إلى حنق - إن لم يكن إلى ألم.
قال: "لا ترد يا بابا".
قلت بصوت بارد: "أنا لم أرد بعد يا جليب".
قال بثقة مفرطة: "بل فعلت...".
لا يمكن الاختباء من ثقته، ولا يمكنك الالتفاف من حولها، والقفز من زاوية أخرى، وأنت تحضن سخطك المضمون بسبب وجهك غير الحليق. فأنت حين تلتف من حوله، تنسى طعم السخط ولونه، ومن أي بكتريا على سطح الأرض جاء.
وخاطبت عزيزتي جليب كأنه معجزة، كرجل حكيم، كما لو أنه ليس وردة صغيرة على ساقين طويلتين، ولكنه سيرافيم حكيم.
قال: "ماذا تعتقد يا جليبوشكا، هل أنا أتصرف بانضباط؟".
أو - في متجر اللوازم النسائية:
يقول: "ما هي القفازات الأفضل يا جليبوشكا، تلك ذات القفل أم التي دون قفل؟".
أحبوه في روضة الأطفال، وتقبله الأولاد في باحتنا - مع أنهم أكبر منه بسنتين، وثلاثة أو حتى أربعة، كانت الفتيات الفاتنات الصغار وخلال مشاوير العائلة إلى الدكان، تلقين التحية على جليب، من نوافذ المأوى بطريقة ساخرة ولكن رقيقة لحد عجيب:
كانت الفتاة الشقراء ذات الوحه الرقيق تقول لزميلتها: " انظري. هذا جليب". ثم تردف: "مرحبا جليب".
قالت البنت الثانية بمرح: "مرحبا يا جليب".
نظرتا إليه كما لو أنهما عاشقتان. حتى أنهما لم تنظرا لي. اللعنة. كذلك لم تنظرا إلى والده.
رد جليب على البنت بهدوء، ونظر إلى سعادتهما على أنها شيء مؤكد.
سألته عزيزتي حالما ابتعدنا عن البنتين: "من هما يا جليب؟".
أخبرنا باسميهما - فيكا وأوليسيا. هذا فقط. لا مزيد من المعلومات عنهما.
وسمعتهما مرة تتكلمان - في أرض الملعب في الباحة. تجاوزت السور الخشبي ولاحظت أن الجميلتين تضحكان، وتنظران إلى جليب - ليس بتهكم، بالطريقة التي تسخر بها الصبايا من الصغار، ولكن من القلب. وتابع جليب، بانتظار أن تتوقفا عن الضحك، رواية قصته، وعلاوة على ذلك أضاف شخصيات جديدة.
وعلى ما يبدو لي أن معجمه كان أوسع من معظم الشباب الذين هم بعمر هاتين البنتين. وكلما عبرت من جانب المساكن، أرى ذكورا عند المدخل يدخنون السجائر - فتلح علي فكرة مقاطعة همهمة أحدهم قائلا: ألا يقلقك أنك بلغت عشرين عاما ولا تزال غبيا؟.
ربما أنا أتقدم بالعمر، ولكن لست سريع التحسس. منذ عشر سنين شربت كمية كبيرة جدا من المشروبات الكحولية مع شباب مثل هؤلاء - وفي تلك الفترة كنت أعتقد انهم أصحاب رائعون.
أنا أتقدم بالعمر، ولكن لا أطارد البنات اللواتي تعجبن بجليب وهو في أرض الملعب. حينما كنت أرى نفسي والدا حنونا يجلس على منصة مجاورة وعلى شفتيه كلمات حمقاء مثل: هل استمتعتن بأوقاتكن هناك؟- كلما تذكرت ذلك المشهد، أقطب وجهي باشمئزاز.
ولكن لم أبلغ حتى الآن ثلاثين عاما.
لم أبلغ ثلاثين عاما مع ذلك تغمرني السعادة.
ولم أفكر بهشاشة الحياة. ولم أبك خلال سبع سنوات - منذ اليوم الذي أخبرتني فيه عزيزتي أنها تحبني وتود أن تكون زوجتي. وبعد ذلك لم يعد عندي سبب للبكاء، ولذلك كنت أكثر من الضحك، وغالبا ما أبتسم في قارعة الطريق - لأفكاري، وللأعزة، الذين تدق قلوبهم الثلاث برشاقة مع إيقاع سعادتي.
ربت على ظهر عزيزتي، وعلى رؤوس أبنائي، وكذلك ربت على خدي غير الحليقين، كانت راحتا يدي دافئتين، وخارج النافذة ترى الثلوج والربيع، الثلج والشتاء، الثلج والخريف. هذا هو موطني. ونحن نعيش فيه.
ولكن أحيانا يفسد ابني الأكبر مزاجي بصوته، الملح كلصاقة وبقول: "أمي هل الجميع يموتون، أم ليس الجمبع؟".
قالت: "الجسد هو الذي يموت وحده يا بني. أما الروح فلا تفنى".
رد: "هذا لا يروقني".
كنت أتجنب هذه الأحادبث وأدخن في الممر.
عبث، كأنني أجمد عمدا حركة أفكاري، وأحدق بالجدار.
تبادر هذا إلى ذهني لأول مرة حينما كنت أكبر من عمره الحالي بقليل -ربما حين كنت في السابعة.
في قريتي الرمادية، والتي تصبح وردية قليلا في المساء، علقت فأسي الصغيرة برقائق الحطب المبعثرة على جذع قوي، حينما حلت هذه الفكرة دون توقع على قلبي الصغير وغلفته بالبرد الصامت - وبسبب الرعب الذي بلغ مرحلة الغضب أصبت أصبعي، وقصفت الظفر نصفين.
وخشيت أن أفزع جدتي، وكانت تقلب القش في مكان بعيد، أخفيت رأسي، وطويته بقبضتي والسبابة ممدودة، وكانت تقطر بالدم وتؤلمني جدا.
توقعت جدتي - أناديها "يا جدة"- مباشرة أن شيئا لا يسر قد حصل. وأسرعت تجري نحوي، وتسأل:
"عزيزي... ما الأمر؟ ماذا جرى... يا عزيزي؟".
لويت شفتي، وانحدرت دموعي - سالت وهبطت على طرفي وجهي الطفولي، وهو انعكاس غالبا أحاول أن أجده بوجوه أبنائي.
ضمدت الجدة أصبعي، ولم أخبرها عن أي شيء، ولم أفش الخبر لأحد في كل حياتي، وتوقفت تماما عن التفكير به.
الموت، مزعج مثل وجع الأسنان، وتذكرته فقط حينما سمعت ابني، ولكن نسيت حادث الفأس كله - لكنه عاود الظهور في ذاكرتي فجأة مع انقباض في القلب، وشعور بنزيف في البدن، وذلك حينما أخبرتني عزيزتي تقول: "وصلتنا مكالمة. تؤكد أن الجدة ماتت. الجدة".
القرية التي عشت فيها بعيدة جدا. وتحتاج لفترة طويلة لتصل إليها، والقطارات لا تذهب إلى هناك. ذهبت إلى موقف السيارات، نحو سيارتي الكبيرة البيضاء.
هناك كومة كبيرة من الثلج قرب الموقف، أنفقت فترة هامة في تنظيفها بالجاروفة، وسرعان ما تبللت وغضبت.
ثم استعملت عتلة حديدية لكسر الجليد الذي كان يبدو كأنه ينزلق إلى أرض الموقف. وترامى الجليد المكسور بشكل قطع حادة وغريبة فوق الثلج وعلى الإسفلت المكشوف.
وأمضيت فترة طويلة أسخن السيارة، وأدخن وأتعرق، وأستنزف طاقتي، وأتحول لقطع وأجزاء مكسورة - والتمعت شظية من جبين أبيض في المرآة الأمامية، ثم ظهرت من النافذة يد متجلدة بيضاء تحمل سيجارة.
بعد عشر دقائق انسحبت من الموقف، وأنا أسمع صوت الجليد وقطع الثلج تصر تحت الدواليب.
حل الظلام تماما، وأصبح من الواضح أنه يتعين علي أن أقود طيلة الليل لأتمكن من مساعدة جدي في تنظيم الجنازة.
أسرعت إلى البيت، وخرجت عزيزتي لتلقاني وتراني وأنا أنصرف، وبذراعها اغناتكا، وجليب يقف بجانبها، وشفتاه ترتعشان. لم يحتمل ذلك، واعترض وهو يبكي على انصرافي. وخاف الطفل من بكائه، وبدأ يعول عويلا ثاقبا.
شعرت بالانهيار، وهبطت على السلالم، وسمعت صوت قلبي - أصوات الولدين المؤلمة، وخفت من احتمال صوت ثالث يبكي بالإضافة لهما.
شتمت قائلا: "اللعنة. ما مشكلتك". خبط باب السيارة، ونسيت إشعال الضوء الأمامي. وكالسهم عبرت الباحة تحت جنح الظلام. وحينما أشعلت النور، رأيت كلبا يعدو وهو يتلفت حوله بذعر. كبحت الفرامل، وانزلقت السيارة. أدرت المقود باضطراب بالاتجاه المعاكس، وضغطت على عداد السرعة، وهكذا انطلقت كالرصاصة في الشارع الفارغ.
بعد نصف ساعة، هدأت قليلا، ولكن الشارع كان فظيعا. كان الثلج المتواصل ينهمر ويذوب ويتحول إلى جليد متماسك غطى الزجاج الأمامي على الفور. وكل نصف ساعة كنت أضطر للتوقف، وأخرج في الظلام البارد والمزعج، لأكشط الثلج المتجمد من أجزاء لم تكن المساحات الزاحفة تصل إليها.
لم يكن هناك ضباط عند نقاط التفتيش، وكان عدد السيارات القادمة من الاتجاه المعاكس يقل باضطراد. وقد تجاوزتتي عدة مرات، وكنت أضغط على البنزين لأتوازى مع إحداها، ولكن دون إرادتي كنت أتخلف عنها بمائة متر. وعاجلا ما تلتف هذه السيارات نحو يسار الطريق أو يمينه، باتجاه قرى على الطريق، وفي النهاية، رأيت نفسي وحدي، وسط الثلوج وفي هضبة روسيا الوسطى، على الطريق الذي يصل نيجني نوفغورود مع قرية ريازان. وأحيانا كنت أتكلم بصوت مسموع، ولكن لم ينجح الحوار، فسقطت بالصمت.
أنت تتذكر كيف كانت الجدة تأتيك بالشاي في الصباح، مع البسكويت والزبدة المحلية.. فتستيقظ وتشرب، وتشعر بالدفء والسعادة..
لا أتذكر.
بل أنت تتذكر.
حاولت إبهاج نفسي. وأن أمنع نفسي عن مزيد من الأحزان، أو التخاذل، أو الانمحاء بألم وفظاعة.
تذكر: أنت طفل. أنا طفل. وجسمك لا يزال ضعيفا وبليدا. جسمي. تذكر...
كانت الجدة بالجوار، وكانت تحبني دون حدود. وكانت حريصة ورقيقة. ومن حولي العالم، وكنت أذرعه بخطوات صغيرة، مع إيمان راسخ أنه حالما أكبر سأكتشفه كله. كنت أتكلم مع الجدة كثيرا. وكانت تلاعبني وتغني لي، وكنت أحبها كثيرا. ولكن كل ذكرياتي الحية ابتعدت فجأة عن العقل والمنطق، ولم تبق حادثة مفرحة واحدة من الماضي القريب، كلها فقدت الحيوية والدفء. ثم زعقت المكانس وأضاعت تلك الذكريات وألعدتها عن زجاج السيارة الأمامي.
كان الطريق يتلوى عبر غابات موروم***.
وكانت فيها جداول صغيرة لا تحصى مغطاة بالجليد، وتتخللها القرى المحرومة من أي ضوء مشع وملتهب.
أردت أن أشاهد على الأقل ضوء الشارع - ليغمز لي بترحيب - ولكن من يرغب بنور الشارع غيري.
وتابعت السيارة رحلتها بثبات، مع أن الطريق، كما أرى وأشعر، كان زلقا، وغير واضح ولم تهب عليه ذرات الرمال.
بعد عدة ساعات بلغت تقاطعا - وانتهى طريقي بأتوستراد بأربع معابر. وهنا أخيرا رأيت شاحنة هائلة الحجم قادمة من جهة اليسار، وأسعدتتي رؤيتها، لأنني لست تائها وحدي في هذه الأرض المتجمدة - هنا يوجد سائق شاحنة ينطلق إلى الأمام بسرعة قصوى.
كانت شاحنته فارغة، ولذلك لم يكن مرعوبا من شرطة المرور ولا من الشيطان، ولربما أسعدته رؤيتي...
هكذا فكرت وانا أضغط على الفرامل لأسمح للشاحنة بالعبور، ولكن الطريق لم يسمح لسيارتي بالتوقف، والدواليب لم تتمسك بالإسفلت. حتى الرياح، على ما يبدو، كانت تهب على زجاج السيارة الخلفي، وتدفعني، وتضع جسمي كله في عربة دافئة تختنق بالدخان وتحت تأثير لطمة هائلة.
إيفاو. جا. Ivau! Ga
صباح الخير يا بابا...
تمسكت بعلبة السرعة، وحركتها من وضعها المحايد إلى السرعة الثانية، ثم إلى الأولى - وحاولت أن أضغط على الفرامل بتلك الطريقة. اهتزت السيارة. لبعض الوقت بدا أنها تباطأت، ولكنني كنت قد أصبحت على الأتوستراد. وأنظر إلى الأمام بغباء، أتأمل الفراغ وهطول بلورات الثلج الأبيض. من وجهة اليسار، وجهي، المعكوس على المرآة الصغيرة بهيئة طائشة، كان يسبح بدائرة كبيرة من الضوء.
لم يبطئ السائق، ولكن أدار المقود وتحرك بسرعة إلى المعبر المعاكس والفارغ. وارتطمت الشاحنة وذيلها الطويل يتموج وراءها، وتابعت الحركة أمام نظري، وتجاوزت سيارتي بما ينوف على نصف متر.
وعندما اختفى الرجل الأخضر العملاق، داخل زوبعة من الغيوم الثلجية، أدركت أنني لا زلت أتأرجح ببطء. وأنني أحرك المقود بهدوء، مثل طفل يمثل دور سائق.
عبرت الشارع بالسرعة الأولى. وتابع قائد الشاحنة بالاتجاه المعاكس لحوالي مائة متر، ثم عاد إلى معبره، دون توقف، وأخبرني أنني... أنني ميت.
فتحت النافذة قليلا وتابعت بالسرعة الثانية. ثم الثالثة. وتقريبا قفزت بها إلى السرعة الرابعة مباشرة.
***
........................
* اختصار اغناطيوس.
**Ivau. Ga
*** مدينة روسية.
زاخار بريليبين Zakhar Prilepin: كاتب وسياسي روسي معاصر. شارك في حروب الشيشان وكتب عنها. من أهم أعماله رواية "سانكا" التي ترجمها إلى العربية تحسين رزاق جاسم ونشرها مشروع كلمة، في أبو ظبي. وهذه الترجمة فصل من رواية قصص بعنوان "خطيئة". تدل قصصه على روح إنسانية ووطنية وعلى إحساس شعري وبشري بالحياة وبالأرض وبروسيا الأم. تقول أولغا زلبربورغ - من بطرسبورغ عن بريليبين: إنه كاتب إشكالي. ويتحرى متابعة وخلق الأزمات. وتعتبر روايته "سانكا" من الأعمال التقليدية المعارضة التي أثارت عدة زوابع حول الوجود الروسي في العالم. ومفهوم الأنوثة والذكورة في المجتمع. وقد يفهم من كتاباته أنه لا يشجع على استضافة الأجانب في الأوساط الروسية. فهو انتقائي وينطوي على تاريخ الشعوب السلوفينية لدرجة الانغلاق.