ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

بقلم: ألفريد دي موسيه

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

علينا أن نحبّ أشياء كثيرة في هذا العالم

حتى نعرف ، بعد كل شيء، أيّها أحبّ إلينا

الحلوى، المحيط ، اللعب ، زرقة السماء

النساء ، الخيول ، أكاليل الغار والورود.

*

يجب أن ندوس بأقدامنا  زهورا بالكاد مغلقة؛

يجب البكاء كثيرا، وقول الوداع كثيرا.

ثم يبصر القلب أنه  شاخ،

ويكشف لنا زوال الأثر الأسباب.

*

لهذه الخيرات العابرة التي نتذوّقها غير مكتملة،

أفضل ما يتبقى لنا صديق قديم.

نتخاصم ، نتباعد. فتجمعنا صدفة ما،

*

نتقارب، نبتسم، وتتلامس الأيدي،

ونتذكّر بأنّنا نمشي معا،

وأنّ الروح خالدة ، وأنّ الأمس غَدٌ.

***

................

* ألفريد دي موسيه  " أشعار جديدة" (نشيد sonnet 26 avril 1843 )

 

للشاعر السويدي أبَهْ ليندَهْ

ترجمة: عبد الستار نورعلي/ السويد

***

(موتُ رفيقةٍ)

ها هم أقبلوا، صفّاً طويلاً،

متحمسين كما لو كانوا في مغامرةٍ مثيرة،

ملتهبينَ وجائعين بعد يومٍ شاقٍّ

فرحين ومتباهين أنّهم عثروا على ما يبحثون عنه،

ناكسين رؤوسَهم، مبتسمين لنا عند حافة الشارع،

وهكذا مرّوا.

*

وهناك بين درّاجتين هوائيتين

صغيرٌ وحزينٌ جدّاً فوق تابوتٍ كئيب

رفاتٌ بشريٌّ نحيلٌ حزينٌ تحت بطانيةٍ رمادية،

صامتٌ ساكنٌ وصغيرٌ جداً

ومَضَ ومرّ سريعاً، كما هي الحياة،

وهكذا مرَّ بنا

وكان هذا أنتِ، ولم يكنْ هناك أيُّ جسرٍ،

انغلقَ بابٌ كنّا خارجَه

كلُّ ما تحدثنا عنه أمسى الآنَ في خبر كان،

المدينةُ الصغيرةُ لم تعُدْ موجودةً عندكِ،

والساعةُ التي اعتدْتِ أنْ تنطري اليها دائماً،

المشاكلُ التي طاردتكِ، أمُّك، صديقُكِ

الآن نحن لا شيءَ لكِ... كلماتٌ فارغة...

فلم يعُدْ في عالمكِ بعد اليوم هذا العالم،

وحبيبكِ نفسُه كان واقفاً عند الطريق

غيرَ مُلفِتٍ للنظر

نظرتكِ استدارتْ نحو شيءٍ آخر،

ماذا نسمّي هذا الفراغ الكبير؟

مثلَ رائحةٍ أبديةٍ خالدة -

وجهٌ يضيءُ ساطعاً في الظلام -

إكليلٌ يهتزُّ - شمعتان مشتعلتان -؟

لم أدركْ شيئاً، الشيء الوحيد الذي عرفتُه

أنّي لم أعُدْ موجوداً لكِ

*

لا تحزنوا، أنشدوا أغنيةَ فوزٍ!

سيكونُ مصيري هكذا كبيراً ووحيداً

يوماً ما، وهكذا كلُّ شيءٍ سيرحلُ،

بهدوء وهيبة مثلَكِ، سأرحلُ أنا أيضاً،

ضئيلاً وكئيباً جداً سأضطجعُ هناك،

عارياً منْ كلِّ شيء، طليقاً متحرّراً من المعاركِ والضغوط

هكذا أنا أيضاً، هكذا أنا أيضاً يوماً ما.

***

.........................

* قصيدة "موتُ رفيقةٍ  Död kamrat" كتبها الشاعرُ السويديُّ "أبَهْ ليندَهْ" (Ebbe Linde 1897-1991) يرثي فيها أقربَ صديقةٍ إليه، وهي الشاعرة "كارين بوي"   (Karin Boye  1900-1941)التي ماتتْ مُنتحرةً. عُرِفَ الشاعران باتجاههما السياسيّ اليساريّ، وموقفهما المعادي للفاشية.

عبد الستار نورعلي

السبت 25.2.2023

 

 

بقلم: إرنست همنغواي

ترجمة: نزار سرطاوي

***

كانت التلال التي تتوسط وادي إيبرو ممتدةً وبيضاء. لم يكن على هذا الجانب ظلٌّ ولا شجر، وكانت المحطةُ هناك تقع بين خطين من القضبان تحت أشعة الشمس. وغير بعيدٍ بجانب المحطة يبدو الظلُّ الدافئ للمبنى، وثمّةَ ستارةٌ مصنوعةٌ من خيوطِ من خرز الخيزران معلقةٌ على الباب المفضي إلى داخل الحانة كي تُبْعِدَ الذباب. جلس الأميركي والفتاة التي برفقته إلى طاولةٍ في الظلِّ خارج المبنى. كان الجوُّ لاهبًا والقطارُ السريعُ من برشلونةَ سيأتي في غضون أربعين دقيقة. توقّفتُ عند هذا التقاطع لدقيقتين وتابعتُ طريقي إلى مدريد.

"ماذا نشرب؟" سألتِ الفتاة. وكانت قد خلعتْ قبعتَها وأركنتها على الطاولة.

قال الرجل: "الجو حارق."

"لنشربِ الجعة."

قال الرجل من خلال الستارة: "هاتِ لنا دوس سيرفيزا."

"كأسان كبيران؟" سألتِ امرأةٌ عند المدخل.

"نعم. اثنان كبيران."

أحضرت المرأة كأسين من الجعة وصحنين صغيرين من اللِّباد. ووضعت صحنيِ اللّباد وكوبَيِ الجعةَ على الطاولة، ونظرت إلى الرجل والفتاة. كانت الفتاة تنظر بعيدًا إلى خط التلال. كانت

بيضاءَ تحت أشعة الشمس وكان الريفُ بُنيَّ اللون جافًّا.

قالت: "إنها تشبه الفيلةَ البيضاء".

شرب الرجل الجعة: "لم أرَ فيلًا أبيضَ من قبل".

"لا، ما كان ليتسنّى لك أن تراه."

قال الرجل: "ربما أكون قد رأيته". "مجرُّد قولِك إنه ما كان ليتسنّى لي أن أراه لا يثبت شيئًا."

نظرت الفتاة إلى الستارة الخرزية قائلةً: "لقد رسموا عليها شيئًا. ما هو؟"

"أنيس ديل تورو. إنه مشروب."

"أيمكننا أن نُجرّبه؟"

نادى الرجل من خلال الستارة "اسمعي." خرجت المرأة من الحانة.

"أربعُ ريالات."

"نريد كأسين من الـ أنيس ديل تورو."

"مع الماء؟"

"هل تريدينه بالماء؟"

قالت الفتاة: "لا أدري. هل هو جيد بالماء؟"

"نعم جيد."

"إذن تريدانه بالماء؟" سألت المرأة.

"نعم بالماء."

قالت الفتاة: "يبدو كأنه صوت قطار."

في الخارج، سمع الرجل ضجيجَ القطار وهو يقترب. أحضرتِ المرأةُ الـ أنيس، وأخرج الرجل صحيفةً من جيبه وراح يقرأ.

ارتشفت الفتاةُ الـ أنيسَ ونظرت إلى التلال قائلةً: "إنها تلالٌ جميلة. حقًّا إنها لا تشبه الفِيَلةَ  البيضاء. ما كنت أشير إليه هو لون قشرتها من خلال الأشجار."

"هل نطلب المزيد من المشروب؟"

"لا بأس."

دفعت الريحُ الدافئةُ الستارةَ الخرزيةَ إلى الطاولة.

قال الرجل: "الجعةُ لذيذة ومنعشة"

قالت الفتاة: "رائعة"

قال الرجل: "إنها حقًا عمليةٌ بسيطةٌ للغاية يا جيغ". "الحقيقة هي ليست عملية على الإطلاق."

نظرت الفتاة إلى الأرض التي كانت أرجل الطاولة مستقرةً عليها.

"أعلم أنك لن تمانعي في ذلك يا جيغ. إنها في الحقيقة ليست بشيء. بل هي إدخال الهواء ".

لم تقل الفتاة شيئا.

"سأذهب معكِ وأظلّ إلى جانبك طوال الوقت. كل ما يفعلونه هو أن يجعلوا الهواء يدخل وبعد ذلك سيكون كلُّ شيء طبيعيًا تمامًا."

"ثُمّ ماذا نفعلُ بعد ذلك؟"

"سنكون على ما يرام بعد ذلك. تمامًا كما كنا من قبل."

"ما الذي يجعلك تعتقد ذلك؟"

"هذا هو الشيء الوحيد الذي يزعِجُنا. إنه الشيء الوحيد الذي جعلنا تعساء." نظرت الفتاة إلى الستارة الخرزية، ومدت يدها وأمسكت بخيطين من خيوط الخرز.

"وأنت تعتقد أننا سنكون على ما يرام وسنكون سعداء."

"أعلم أننا سنكون كذلك. لا داعي لأن تشعري بالخوف."

***

.............................

* نشرت قصة همنغواي " تلال تشبهُ الفيلةَ البيضاء" عام 1927 في مجلة "ترانزشن." ثم نُشرت في نفس العام في مجموعة همنغواي القصصية "رجال بلا نساء." والقصة تدور حول شاب أميركي يحاول أن يقنع صديقته بإجهاض حملها، وذلك في زمنٍ كان فيه مجرد الخوض في موضوع الإجهاض من المحرمات.

نبذة عن الكاتب:

ولد الروائي الأميركي إرنست همنغواي في بلدة أوك بارك بولاية إلينوي عام 1899. بدأ حياته كاتبًا في إحدى الصحف في كانساس سيتي وهو في سن السابعة عشرة. وبعد أن دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، تطوّع للانضمام إلى وحدة إسعاف في الجيش الإيطالي. لكنه أصيب أثناء خدمته في الجبهة، ما اضطره إلى أن يمضى وقتًا طويلاً في المستشفيات. بعد عودته إلى الولايات المتحدة، عمل مراسلًا للصحف الكندية والأمريكية. ولم يلبث أن عاد إلى أوروبا لتغطية بعض الأحداث، كالثورة اليونانية. خلال العشرينيات من القرن الماضي، انتسب إلى جماعة المغتربين الأميركيين في باريس. وقد تحدث عن هذه الجماعة في روايته "الشمس تشرق أيضًا" (1926). كذلك استوحى من الحرب روايته "وداعًا للسلاح" (1929)، التي تدور حول خيبة أملِ ضابطِ إسعاف أميركي في الحرب وهروبه منها. وبالمثل، استخدم همنغواي خبرته كمراسل خلال الحرب الأهلية في إسبانيا في روايته "لمن تقرع الأجراس" (1940). أما أعماله اللاحقة، فقد كان من أبرزها الرواية القصيرة "الشيخ والبحر" (1952)، التي تدور حول رحلة صياد عجوز وصراعه الطويل مع البحر ومع سمكةٍ ضخمةٍ تمكن من صيدها، لكن أسماك القرش نهشتها ولم تُبقِ منها إلا هيكلها العظمي، الذي يعود به إلى الشاطىء منتصرًا ومهزومًا في الوقت عينه.

أما قصصه القصيرة فقد تميّزت بالمباشرة، والحواره المقتصد والميل إلى استخدام العبارات التي تُقلل من أهمية الموضوع الذي يطرحه. وقد صدرت له ستُّ مجموعات من القصص القصيرة، منها "رجال بلا نساء" (1927) و "الطابور الخامس والأسلوب لقصص التسع والأربعون الأولى" (1938).

في عام 1954 مُنح همنغواي جائزة نوبل للأدب، وذلك استناده إلى تميزه في في فن السرد، والذي تجلى في روايته "الشيخ والبحر"ولتأثيره الكبير في ألأسلوب الأدبي المعاصر.

كان همنغواي مصابًا بداء ترسب الأصبغة الدموية، والذي كان وراثيًّا على ما يبدو. وقبل وفاته ببضعة شهور انتابته حالة من الاكتئاب والوهم وأُدخل المستشفى مرتين ليخضع للعلاج النفسي. لكن حالته ازدادت سوءًا ولم يعد قادرًا على الكتابة. وقد حاول الانتحار أكثر من مرة لولا أن من كانوا حوله منعوه. وفي الختام أطلق النار على رأسه وتوفي في ولاية ايداهو في الثاني من تموز/ يوليو، عام 1961.

ليو تولستوي

ترجمة: نزار سرطاوي

***

جاء عيد الفصح مبكرًا وقد انتهى وقت التزلج للتو، والثلجُ ما يزال يتساقط في الساحات، والمياهُ تجرى في جداولَ في أنحاء القرية. ومن بين كومة من الروثِ بين ساحتين امتلأت بركةٌ كبيرةٌ بالماء. حضرتْ إلى البركة بنتان من بيتين مختلفين - إحداهما أصغر والأخرى أكبر منها بقليل. كانت والدتاهما قد ألبستاهما فستانين جديدين، فستانًا أزرقَ للبنت الصغيرة، وفستانًا أصفرَ للأكبر سنًّا. وكلٌّ منهما ترتدي وشاحًا أحمرَ على رأسها. بعد القُدّاس، حضرتِ البنتان إلى البركة، وأرَتْ كلٌّ منهما فستانَها للأخرى ثم بدأتا تلعبان. وأرادتا أن تترششّا بالماء. دخلت الصغيرةُ في البركة بحذائها، فقالت الكبرى: "لا تدخلي يا ملاشا، ستوبخُك أمُّك. دعيني أخلع الحذاء وافعلي الشيء نفسه."

خلعت البنتان حذائيهما ورفعتا تنورتيهما وعبرتْ كلٌّ منهما البركةَ باتجاه الأخرى. نزلت مالاشكا حتى كاحليها. قالت: "إنها عميقة يا أكولجوشكا. أنا خائفة."

قالت الأخرى: "لا عليكِ! ليست أعمقَ من ذلك. تقدمي نحوي مباشرة."

اقتربت كلٌّ منهما من الأخرى. قالت أكولكا: "احرصي يا ملاشا، لا ترشي المياه، بل سيري بحذر."

وما أن قالت ذلك حتى ضربت مالاشكا بقدمها فوق الماء فتناثر على فستان أكولكا مباشرةً. أصاب الرذاذُ الفستانَ ووصل بعضُه إلى أنفِها وعينيها. رأت أكولكا بُقَعًا على فستانها، فغضبتْ من مالاشكا ووبختها، وراحت تجري وراءها تريد أن تصفعَها. شعرت مالاشكا بالخوف حين رأتْ أنها تسببتْ في مشكلة، فوثبتْ خارجةً من البركة، وركضتْ إلى بيتِها. مرّتْ والدةُ أكولكا، ورأت فستانَ ابنتها مُلطخًا وقميصُها متّسخًا.

"أيتها البنتُ الشقية، أين وسّختِ نفسك؟"

"مالاشكا رشّتني، عن عمد."

أمسكتْ والدةُ أكولكا بمالاشكا وصفعتْها على مؤخرة رأسها. صرختْ مالاشكا وسُمِع صوتها على امتداد الشارع. فخرجت والدة مالاشكا.

"لِمَ تضربين ابنتي؟" وشرعتْ في توبيخ جارتِها. وكلمةٌ من هنا وكلمةٌ من هناك، وتشاجرتِ المرأتان. وثب الرجالُ وتجمّع عددٌ كبيرٌ منهم في الشارع. الجميع يصرخون، لا أحدَ يصغي إلى أحد. تشاجروا وتشاجروا، ودفع بعضُهم بعضًا. وأوشك العراكُ أن يقعَ بينهم. لكنّ امرأةً عجوزًا، هي جدةُ أكولكا، تدخّلتْ. دخلتْ بين الرجال وبدأت تقنِعهم.

- ما الذي تفعلونه يا أحبائي في مثل هذه الأيام؟ علينا أن نبتهجَ، لكنكم بدأتم بخطيئةٍ كبيرة.

لم يُصغوا إلى المرأة العجوز، بل كادوا أن يوقعوها أرضًا. لم تستطعِ العجوزُ أن تُثنيَهم لولا أكولكا ومالاشكا. فبينما كانت المرأتان تتبادلان اللعناتِ فيما بينها، كانت أكولكا قد مسحتِ الوحلَ عن فستانها وخرجتْ عائدةً إلى الطريق الذي تتوسطُهُ البِركةُ، والتقطتْ حجرًا وراحت تكشطُ الأرض لتسمح المياه أن تتسرب إلى الطريق. وأثناء قيامها بعملية الكشط، ظهرتْ مالاشكا وبدأت تساعدُها، وقامتْ أيضًا بحفر قناةٍ بقطعةٍ صغيرة من الخشب.

كان الرجالُ قد دخلوا في عراك بينما كانت المياهُ تجري في الأخدود بجوار الشارع، وتصبُّ في الجدول. وضعتِ البنتان القطعةَ الخشبيةَ في الماء. حملَها التيارُ عبر الشارع إلى المكان الذي كانت فيه المرأة العجوز تُفرّق الرجال. البنتان تركضان، واحدةٌ على أحد جانبيْ الجدول والأخرى على الجانب الآخر.

تصرخ أكولكا: أمسكي بها يا ملاشا، أمسكي بها! تريد ملاشا أيضًا أن تقول شيئًا، لكنها لا تقدرُ أن تُمسك عن الضحك.

وهكذا تجري البنتان وتضحكان على شريحةِ الخشب وهي تغوص في الجدول. جَرَتا وسط الرجال مباشرة. رأتهما العجوز فقالت للرجال:

- خافوا الله، أيها الرجال، تسعون إلى العراك بسبب هاتين البنتين وقد نسيتا كل شيء منذ وقت طويل، وها هما تُحبّان بعضهما بعضًا، مباركتان تلعبان. إنهما أكثرُ منكم حكمةً!

نظر الرجال إلى البنتين وشعروا بالإحراج. لكنهم بعد ذلك ضحكوا من أنفسهم وعادوا إلى بيوتهم.

"ما لم تَغْدوا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت الله."

***

...................

ليو تولستوي: كاتب وفيلسوف روسيّ، ولد في 9 سبتمبر 1828، في قريةِ ياسنايا بوليانا، في مقاطعة تولا لعائلةٍ أرستقراطية. وكان الرابعَ بين خمسةِ أطفال. مات والداه عندما كان صغيرًا، وربته عمته وجدته. تلقى تعليمه في المنزل على يد مدرسين فرنسيين وألمان، ثم درس القانون واللغات في جامعة قازان.

في عام 1851، انضم تولستوي إلى الجيش الروسي وخدم في القوقاز لعدة أعوام. وخلال تلك الفترة، بدأ بكتابةِ ونشرِ أوّل أعماله، "الطفولة" (1952)852. في عام 1855، ترك الجيشَ وعاد إلى ياسنايا بوليانا، حيث بدأ في التركيز على الكتابة.

كتب تولستوي العديد من الروايات، مثل "الحرب والسلام" و"آنّا كارينينا"، اللتين تُعدّان من أمهات الأعمال الأدبية وتحظيان بإعجاب كبير نظرًا لما تتميزان به من العمق النفسي وتحفلان به من شخصيات حيّة وتسوقانه من تعليقاتٍ ثاقبةٍ حول القضايا الاجتماعية.

بالإضافة إلى كتاباته، كان تولستوي مُفكرًا اجتماعيًا وسياسيًا بارزًا. وقد تأثر كثيرًا بمعتقداته المسيحية وغدا مسالمًا وفوضويًا في آنٍ معًا في وقت لاحق من حياته. وكان يؤمن بالمقاومة السلمية الخالية من العنف. فغدا مصدرَ إلهام لبعض الشخصيات مثل المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ جونيور.

اتسمت حياة تولستوي الشخصية بالاضطراب والصراع. فقد كانت علاقته بزوجته غير مستقرّة، وزادت تدهورًا على مَرِّ السنين. كما عانى طويلًا من الاكتئاب والأزمات الروحية. لكنه على الرغم من هذه التحديات، ظلّ كاتبًا ومفكرًا غزيرَ الإنتاج حتى وفاته في 20 نوفمبر 1910، في بلدة أستابوفو الروسية، التي تحمل اليوم اسمه.

كتب ليو تولستوي العديد من الأعمال المؤثرة على مدار حياته المهنية. ومن أهمها:

- "الحرب والسلام" (1869): تعتبر هذه الرواية الملحمية من روائع تولستوي وواحدةً من أعظم الأعمال الأدبية. وهي بمثابة تسجيل تاريخي عن روسيا إبّان الحروب النابليونية، وتدور حول والحب والأسرة والجوانب الإنسانية.

- "آنا كارِنينا" (1877): روايةٌ كلاسيكية أخرى لتولستوي، وهي قصة مأساوية عن الحب والعلاقة خارج مؤسسة الزواج، وتدور أحداثها في روسيا في القرن التاسع عشر.

- "موت إيفان إيليتش" (1886): رواية تستكشف مفهومَ الفناء ومعنى الحياة من خلال تَتَبُّع حياةِ وموتِ بيروقراطي في منتصف العمر يدرك بعد فوات الأوان أنه أضاع حياته في السعي إلى الثراء المادي والمركز الاجتماعي.

- "بعث" (1899): تتناول هذه الرواية قصة رجل ثري يقيم علاقةٍ مع امرأة ثم يهجرها، ليعود ويلتقيها أثناء عمله عضوًا في هيئة محلفين. ويسعى إلى الخلاص من خلال مساعدتها، كما تتناول الرواية فساد وظلم النظام القانوني الروسي.

- "اعتراف" (1882): عمل يتناول أزمة تولستوي الروحية وبحثه عن معنى في الحياة.

 

فريدريك: مقتطفات من رواية الهروب (2)

مقتطفات من الفصل الثاني من رواية "الهروب"

بقلم: عبد الرزاق قرنح

ترجمة: صالح الرزوق

***

انحسرت النسمات بعد هبوط الليل، ولكنها كانت قد عملت عملها، وأصبح الهواء خانقا ورطبا. تحتهم كان البحر يجري باتجاه الخليج ويقفز بموجات مرتفعة. قال فريدريك:"هل كنت في سيشيل؟". أضاف ضاحكا:"كلماتك الأولى طريفة. قلت ذلك حينما أفقت. هل تتذكر؟". قال بيرس بتعب باسما:"نعم، وأنت قلت لم يحالفك الحظ".

"فعلا. لم يحالفني. هل شاهدت تلك الموجات في البحر؟ لا يوجد حيد في الخليج، وهذا شيء غريب في هذه الأنحاء. فالنهر يصب على بعد أميال شمالا. لا شيء يفصلنا عن سيشيل من جهة الشرق. وهناك يبدأ المد. وسمعت أنه مكان لم تخربه يد البشر، رغم الفرنسيين والمبشرين، يشبه جنة بحر الجنوب. هل ذهبت إلى هناك؟".

قال بيرس:"كلا".

قال فريدريك متعجبا: "أفوكادو البحر. تبدو لي مقرفة. فهي ثمرة تشبه ثقب المرأة. لا يكتشف الفرنسيون غير جزر تستحي من غطائها النباتي. حسنا، ربما هم لم يكتشفوها، وكان علينا أن نقوم بذلك. ولكن تأكد أنه ما أن تشاهد الفواكه التي تنتجها الجزيرة، حتى تدرك أنها تدعوك لوضع عصا الترحال". 

أعاد فريدريك ملء كأسه ونظر إلى بيرس. كانت إشارة مهذبة، لأنه لن يسمح له بالشراب حتى لو طلبه. كان بيرس يستلقي في متكئه، وبالضوء المشع المنبعث عن مصباح الكيروسين لم يكن فريدريك متأكدا إن استلقى مجددا.

قال بيرس بصوت هادئ:"جميل جدا. البحر".

قال فريدريك:" هذا هو البحر. لا شيء أمامه لمسافة ألف ميل، كما تعلم، حتى تبلغ سيشيل التي تسعى وراءها. والبحر طيب المعشر. ذلك هو المحيط الهندي الذي جربته، على الأقل هذا الجزء منه، يشبه بركة بالمقارنة مع وحشية الأطلسي. وهو عنيف حتى تبلغ الشمال الشرقي، فيهدأ حوالي تشرين الثاني أو ما شابه. ثم يكون الرسو عديم النفع كما سمعت. هذا قبل أن أحضر. وحتى الآن الرياح قاسية جدا في بعض الأوقات. كنت بالخدمة في الشهور الأربع الماضية، ولكن نعم، البحر، أفضل شيء في هذا الموضع. ولا شيء غيره يهم عمليا. الأرض ليست رديئة ولكنها كثيرة الرمل وسطحية، المطر مناسب، غير أنه لا يوجد بشر للعمل كما يجب. ولا تستطيع أن تجبرهم على الاجتهاد والكد. والسبب هو العبودية. العبودية والمرض أنهكا قواهم، وبالأخص العبودية. تعلموا من الرق الكسل والمماطلة، والآن لا يتقبلون فكرة الجد والعمل ولا المسؤولية، حتى لو لقاء أجر. العمل الوحيد في هذه البلدة مجرد رجال يجلسون تحت شجرة بانتظار نضج المانغو. انظر ما أنجزت مزرعة الشركة. نتائج عجيبة. محاصيل جديدة، ري، دورة زراعية، ولكن عليهم حض الناس على تغيير طريقة تفكيرهم ليصلوا للهدف المرجو. نحن بحاجة لمزارع بريطانية في هذه الأنحاء، وأعتقد لن يمر وقت طويل قبل أن تظهر. وليس لدى ملاك الأراضي العرب من خيار غير البيع عما قريب".

قال بيرس:"نعم".

رشف فريدريك شرابه وامتص سيجاره بصمت، وحينما زمجر بيرس قليلا، خمن أنه يطلب منه المتابعة. قال:"كانت البلدة تقريبا مهجورة لقرن أو ما شابه بعد أن بنى البرتغاليون قلعة عيسى ونقلوا كل شيء إلى مومباسا. لو فكرت بالأمر جيدا هو نكران للجميل. بعد أربعين عاما طرأت للسلطان ماجد سيد زنجبار، فكرة رائعة، لإحياء البلدة بشكل مستعمرة زراعية. نظريا كان يحكم كل الشريط الساحلي. ولذلك أرسل أعرابه ومرتزقة جيش البلوشي التابع له مع ألوف من العبيد. وكان حصاد أول عشر سنين ممتازا. فأرسل المزيد من العبيد، وبدأ السكان المحليون يغزون القبائل المجاورة لكسب المزيد. وازدهرت البلدة مجددا وجنت ثروات هائلة. ثم جاء شيوخ المذهب وانغمسوا بالتجارة، وأنت تعلم أنني أقول باستمرار: إن رأيت تاجرا هنديا يعمل، عليك أن تتأكد أنه يوجد فرصة أن تجني قرشا أو اثنين. رسخ الهنود أقدامهم هنا لفترة طويلة، أو أنهم على الأقل كانوا متواجدين حينما جاء البرتغاليون ليغرسوا صليبهم في الأرض. ويقال إن القبطان دو غاما، اختار الإبحار من هنا إلى كالكوت، وهو بحار هندي. ويمكنني تصديق هذا. وعلى الأرجح كان عبدا هنديا.  كل شيء أنجزه العبيد. حتى أن العبيد كان تحت أمرتهم عبيد. وخلال هذه السنوات وضعت الشركة خططها وباشرت العمل. والجميع يقولون إنه لم يتوفر للشركة فرصة، ولا أفترض أن ماكينون وجماعته نظروا إلى المسألة بهذا الوضوح. وبالتأكيد هي ليست على تلك الصورة بنظر سلطان زنجبار. ولا أعتقد أن السلطان آنذاك هو ماجد. والحقيقة أنا مقتنع أنه ليس هو. وربما هو بارغاش، أو الأقرب للاحتمال من أتى بعده، وهو المجنون، محمود، واحد من تلك الشريحة. وهو، أيا من كان، استفاد على ما يبدو من وسائل وعلوم البريطانيين، وطلب من الشركة - أو من شخص آخر أوكله بالمهمة - لإرسال أحد مدرائهم للإشراف على هذه المزارع. وكان ذلك خطأ مزعجا.  أرسلت الشركة سيدا يدعى تينكل - سميث، اسم غريب، وعمد مباشرة لتحرير كافة عبيد  المزرعة، ثم وظف كل من يرغب بالعمل لقاء أجر متفق عليه. وحدد ثمن تحرير كل منهم، وقدم لاحقا لمن يريد العمل في مزارع الشركة قرضا يعادل الثمن المطلوب. واعتبر بقية العبيد في المزارع الأخرى أن ذلك إشارة، وقام معظمهم بالهروب، مبدين كراهيتهم للعمل. وأسرعوا جميعا إلى الداخل طمعا بعطلة، عوضا عن قبول العمل مع الشركة. وفي هذا الوقت حتى العبيد علموا أن حكم السلطان نظري، ولا يزيد على مسافة عشرة أميال، فقد تعاهد الألمان والإنكليز على تقاسم المكان بينهما. وكل ما توجب عليهم هو التوغل لمسافة عشرة أميال لينعموا بالحرية. والنتيجة.. العرب المدقعون. جرى ذلك قبل عدة أعوام فقط، ثمانية أو تسعة، وتستطيع أن ترى المزارع المنهكة حاليا لو نظرت حولك. ولكن الهاربين يعودون ونحن نوطنهم في أراضي العرب المهجورة جنوب المدينة قليلا. وتسبب ذلك بالمشاكل، غير أنه ليس بيد العرب شيء سوى الدمدمة والرحيل إلى مومباسا. حسنا، كل شيء كتبت له نهاية سريعة في كل حال، بمجرد الإعلان عن المحمية عام 95'. آه يا عزيزي، أرى أنك تغفو".

أنهى فريدريك كلامه، حين سمع بيرس يشخر بهدوء. صب لنفسه كأسا آخر وأعاد إشعال سيجاره. سيمنحه عدة دقائق ثم يوقظه. فالبعوض سيذبحه إن تركه نائما على الشرفة. لكن ربما اعتاد عليها، البعوض والخنافس والثعابين. خمن أن لدى بيرس شيئا مشينا سيخبره به. لا أحد يسافر وحيدا هكذا، ما لم يكن في بعثة، وحتى في هذه الحالة يرافقه حارس أو اثنان. فقد يتعرض للسرقة أو يتخلى عنه مرافقوه. في كل الحالات كان عليه أن يعترف الآن بشيء، أن يقر بشيء ما. عاد فريدريك إلى بيت دوكا والله مع خادمه هامس ليترجم له، واستجوب الرجل، ثم رفع صوته بالتأنيب والتقريع، ولكن الحانوتي دوكا والله المتين البنيان أكد بعناد وفي النهاية متشكيا ودامع العينين أنه وجد بيرس فارغ اليدين. ورسخ في ذهنه أن لذلك سببا، وأن بيرس يخبئ شيئا ما سيتضح بعد زوال التعب والإنهاك. وهذا لا يعني أنه ليس مرهقا، وهو أمر واضح لا تخطئه العين. فقد استيقظ قليلا من نوم استغرق يوما كاملا، وعاد لغفوته سريعا. ولم يمكنه أن يأكل غير ملاعق قليلة من الحساء الذي جهزه له الطاهي. ولعل فريدريك لاحظ أنه غير نائم تماما حتى وهو يشخر بهدوء هناك إلى جانبه على الشرفة.

وتبادر لذهنه أنه طرد من البعثة بسبب تصرف طائش، وسيضطر للاعتراف والكلام عن الموضوع. نظر إلى بيرس الذي بجانبه، وكان منكفئا وغامضا في ضوء المصباح. كانت له نظرة متماسكة، وهي ليست نتيجة وضعه الحالي، ولكن من خصاله الشخصية، شيء له علاقة بالعمل والمبادئ. سكب فريدريك لنفسه شرابا أخيرا وحذر نفسه أن لا يستسلم لشكوكه. همس لنفسه مبتسما:"تماسك أيها الشاب. لا تدع الشراب يجرفك معه. ربما هذا رجل عائد من ظرف طارئ، من صدفة سامية، ولكنها لا تستطيع أن تكشف نفسها للعيان".

كان فريدريك عند الطاولة في منتصف الصباح حينما سمع صوت بيرس في غرفة الاستقبال المجاورة لغرفة المكتب. كانت أبواب كل الغرف مفتوحة بناء على تعليماته، للتهوية والاحتفاظ ببرودة جو البيت في الصباح. وفي ما بعد الظهيرة تغلق أغطية النوافذ في مقدمة البيت وكذلك تخفض واقيات الشرفة لحمايتها من الشمس. كان فريدريك يتابع تفاصيل بيته بحذافيرها. وكان يحب ذلك، وكرر الكلمة على مسامع نفسه بالحرف الواحد، مؤكدا على كل نبرة بنغمة ساخرة. بحذافيرها. ولذلك كون فكرة وافية عما اشتراه للدكان، وما تم استهلاكه، ومقدار التساهل بالغش. كان يعبئ الساعات بذاته مرة في الأسبوع، ويتأكد أنها كلها تدل على نفس التوقيت. ويفحص كثافة الحليب بين حين وآخر ثم يتأكد أن كامبي الحلاب لم يخلطه بكثير من الماء. كان يحب أن يعرف عماله أنه يحدد لكل منهم عملا دقيقا، وأنه مهتم بأدائهم، ويتوقع منهم أن يحترموا رأيه. لذلك حذر هامس من أن يسمح لأي ضيف إضافي بتناول الغداء إذا ظهر بورتون، وسمع صوت هامس وهو يذهب إلى غرفة بيرس في الثامنة صباحا مع كوب شاي، حسب تعليماته. وحينما سمع صوت بيرس في غرفة الاستقبال، نحى التقرير الخاص بضرائب العام الماضي والذي كان يعمل عليه وخرج ليحييه. ورآه واقفا على الشرفة، يميل على دعامة في الزاوية في ضوء شمس الصباح المتأخر. كان يرتدي أحد قمصان وسراويل فريدريك، ولم يكن المقاس مناسبا له. كان القميص كبيرا جدا والسروال قصيرا بمقدار ثلاث أو أربع بوصات. وبدا له بمظهر حارس شاطئ كسول ومثقف،  أحد شخصيات ر. ل. ستيفنسون في خرائب بحر الجنوب، ولا سيما بالقدمين الحافيتين واللحية المشعثة. وابتسم لهذه الفكرة، فقد كانت مناسبة له، شيء له علاقة بهيئة بيرس وليس بالثياب، شيء من التراخي أو الاستعراض، نوع من الخصال الذاتية.

قال فريدريك:"ما كان عليك أن تقف  في الشمس كما تعلم. ليس بعد ضربة الشمس أو أي شيء آخر أصابك هناك".

قال بيرس:"آسف". وأطاعه بالابتعاد. أضاف:"هل أزعجتك؟ رجاء لا تقاطع عملك".

قال فريدريك:"يسعدني هذا الإزعاج". وأهاب ببيرس أن يلجأ إلى الداخل البارد. تابع:"أنا أكتب تقريرا عن ضرائب اللوازم لهذا العام، وأقارن الأرقام بالسنة السابقة، إحصائيات إمبراطورية هامة ولكنها تذهب باتجاه بليد. بالعادة أهتم قليلا في هذا الوقت من الصباح. هل تنضم لي لنشرب كوب قهوة أو نأكل بعض الفواكه؟ القهوة هنا لذيذة، وهامس يحمصها بمحبة ويطحنها يوميا. وهي ليست حبات بن متقنة جدا، ولكنها ذات نكهة قوية".

قال بيرس: "نعم. هذا لطيف منك فعلا. أساسا رائحة القهوة أتت بي إلى هنا".

"ممتاز. سيباشر هامس حالا. كيف تشعر؟ تبدو أفضل، وأعتقد أنك جاهز لبعض حساء الطاهي".

قال بيرس وهو يمسد لحيته:"أنا أفضل كثيرا".

قال فريدريك مبتسما:"سنرسل هامس ليأتي بالحلاق، هل توافق؟. أم أنك تريد لحية كثيفة".

"كلا، كلا. تركتها تطول حينما شرعت بالرحلة، لأتجنب مشكلة حلاقتها يوميا. نعم، سأنادي الحلاق من فضلك".

انتظر فريدريك. وتلك اللحظة كانت مناسبة لبيرس ليروي قصته، ولكنه لم يبدأها، فابتسم فريدريك سرا لنفسه. وقرر أن يحفزه. وكان جاهزا ليسمع كل شيء.

قال فريدريك:"أخشى أنني لم أتمكن من تحديد مكان أشيائك. رجعت إلى دوكا والله وسألته بعزم عنها، لكنه لم يقر. هل تتذكر ما هي؟ وربما لا تزال لدينا فرصة لاستخلاص الحقيقة منه".

نفض بيرس رأسه بتعب. قال:"لم يكن هناك شيء. استولى الدليل وجماعته على الموجود، كل شيء. وناقشوا الموضوع فيما بينهم هل يفعلونها أم لا. وحزرت ذلك في كل حال. شعرت بالتعب. ولم أهجع بسبب القلق. ثم في آخر ليلة قبل أن يتركوني، نمت نوما عميقا فاستولوا على بندقيتي. وسمعتهم يتنازعون فيما بينهم، فاستيقظت. كان أحدهم جالسا قربي والبارودة موجهة إلى رأسي. وأجبروني على الاستلقاء ووجهي نحو الأرض، ثم خلعوا حذائي وحزامي واستولوا عليهما. وتركوا لي جراب ماء وحقيبة من الفواكه المجففة. آه، كساء وصندل. سمعت صوت ابتعادهم، وهم يتجادلون فيما بينهم. وكانوا يتناقشون هل يقتلونني أم يسرقونني فقط. أحدهم أراد ذلك، أن يقتلني، ليرتاح، والبقية عارضوا كلامه. وربما لا زالوا يتناقشون حول الحكمة من وراء تركي حيا".

قال فريدريك:" اللعنة على هؤلاء الصعاليك. لكن يجب أن أقر أنك بأعصاب فولاذية. لو أنا لثارت ثائرتي. أين حصل ذلك بالضبط؟ بأي اتجاه كنت ذاهبا؟".

ارتجف بيرس وقال:"هذا الاتجاه. كنا بطريقنا إلى هنا. وبعد أن غادروا توجهت إلى الجنوب. تركت قافلة متجهة إلى الجنوب الغربي، نحو أوغندا، كما تعلم. وكان يتوجب على ثلاثة أشخاص أن يقودوني إلى الساحل الشرقي، ولكن أعتقد أنهم لم يشاؤوا المجيء إلى هنا لسبب ما، أو أنهم فضلوا مكانا آخر. عموما لا يمكنني القتل مجددا".

قال فريدريك بحدة:"قتل".

قال بيرس:"قافلة الصيد. شيء هام حقا. ثلاثة سادة إنكليز، أحدهم مع خادمه الإنكليزي، وصياد أبيض ليعتني بالترتيبات. والصياد الأبيض رتب كل شيء، الجمال، والمستكشفين، والمؤونة، مثل قائد غاضب معظم الوقت".

صمت بيرس لحظة، تنفس بعمق، وجمع قواه وقال:"السيد توملينسون. جلس وحده في خيمته في المساء يخط بسرعة، ويكتب ذكرياته في مفكرة، دون شك. وكان السادة يضعونه في مواقف تثير السخرية، يدفعونه للجنون بتلميحاتهم وشكاياتهم. قابلت أحد هؤلاء السادة في عدن. كان اسمه ويثريل. ولا أعلم إن كنت تعرفه، فقد كان في الهند. وهو شديد الثراء". صمت بيرس مجددا بسبب انقطاع أنفاسه. وحينما تابع تكلم ببطء، على مراحل. قال:"كنت أتنقل في الحبشة لأربعة شهور وكان ويثريل مهتما جدا بمعرفة ذلك. وأراد أن يعلم إذا كنا سنتوغل هناك بينما ميلينيك يلاحق الإيطاليين ويطردهم. هو رجل فضولي رغم مهاراته في الصيد والركوب، ولديه خبرات ثقافية ملحوظة. أراد أن يتكلم عن رامبو، ويسأل هل ذكر اسمه أحد من الأحباش. ثم دعاني للمشاركة برحلته إلى الصومال. ولم أتمكن من المقاومة. كنت أشعر بالتحسن بعد رحلتي السابقة، أنت تعرف يكون هذا الشعور، أنك جاهز دائما. واعتبرني ويثريل ضيفه ولذلك لم أتحمل النفقات. كنت بحاجة من وقتي لثلاثة شهور أو ما يعادلها. ولم يكن هناك سبب ملح للإسراع بالعودة، كما أنني لم أسافر كثيرا في الصومال. فعلا لم أتمكن من مقاومة الإغراء".

قال فريدريك:"وهل قرأ أحد رامبو؟ وهل يقرأه أحد الآن؟ أعتقد أنه معروف في الوقت الحالي بصفة تاجر أسلحة وليس بصفة شاعر". وارتاح للتفاصيل التي ذكرها بيرس، وشعر بتبخر الشبهات التي رافقته في الأمسية السابقة. وحينها وصل هامس وقدم كعكة الأرز والفاكهة والقهوة، ووضع كل شيء على طاولتين صغيرتين أمامهما. وحينما كانا بانتظار أن ينتهي، أنشد فريدريك:

جارية مع السنطور

قابلتها مرة في الرؤيا،

كانت جارية حبشية

وبسنطورها عزفت الأنغام.

سأل فريدريك بعد انصراف هامس:"كم حذرتك من قطاع الطريق الأحباش بينما أنت تعتقد أنهم أخوتك بالدم. ماذا كنت تفعل في الحبشة، هل بمقدوري أن أعلم؟".

اهتم بيرس بكعكة الأرز، وانحنى ليتأملها بعناية، ثم هز كتفيه وقال:" السفر، العمل على كتاب. أنا مؤرخ، شيء من هذا القبيل. في الحقيقة لي الحق في هذه الهواية. أقمت لمدة عام في مصر، وعملت في التعليم. وقطعت وعدا أمام نفسي أن أتجول في الحبشة، فالوقت قد حان لأتابع حياتي. وكنت مهتما دائما بالحبشة، منذ صباي. وأردت أن أرى كيف تبدو، وكيف يكون رنين حروف لغتها".

قال فريدريك:"مستشرق".

ابتسم بيرس. قال:"ربما بعد أن أوسع معارفي".

قال فريدريك:"نعم، تابع من فضلك".

لفت انتباهه تحفظ بيرس حول الحبشة. ربما كان جاسوسا على أعلى المستويات، ويعد تقريرا عن الحبشة لموظف رفيع في وزارة الخارجية. وربما أصاب ويثريل حين اشتبه أننا ننوي الدخول إلى هناك. لكنه لم يكن معجبا بالحبشة.

سأل بيرس :"هل تسمح لي؟". واقتطع شريحة من كعكة الأرز. مضغها ببطء، مستغرقا ما لزمه من وقت، وكان يومئ برأسه متلذذا.

قال: "لذيذة، نكهة واضحة. لها طعم الهال والخميرة. لا يمكن أن تتخيل كيف يبدو ذلك بعد محنتي في الأسابيع القليلة المنصرمة".

صب فريدريك القهوة وانتظر حتى شرب بيرس عدة رشفات. كرر:"تابع من فضلك". ومال إلى الخلف وبالغ بشحذ حواسه ليسمع كلامه.

قال:"ركبنا السفينة من عدن إلى برافا في كانون الأول. واستغرقنا أياما طوالا في الإبحار الممتع، كانت أجمل مرحلة من السفر. الرياح شمالية شرقية مستقرة. ثم تابعنا إلى الصومال مع التيار ودرنا حول القرن. أقمنا في برافا لعدة أيام وانطلقنا إلى ضيف. وهي بلدة يختلط فيها جيش صغير من الرجال والحيوانات، مسلحين كأنهم جاهزون للغزو. واستغرقنا أربع أسابيع نقتل ونذبح في جنوب الصومال. كانت مذبحة تفوق الوصف. نقتل يوميا. أحيانا أربع أو خمس أسود في اليوم، وفهودا وخراتيت ووعولا. وغرقنا جميعا برائحة الدم والأحشاء. واللحوم الميتة والمخابئ الجافة. كان الذباب يحط علينا كما لو أننا جيفة. تناولنا الكثير من اللحوم المتفحمة حتى أن الهواء المختلط بأنفاسنا ومخلفاتنا سبب لنا الغثيان. حينما وصلنا إلى ضيف أخبرت ويثريل أنه لا يمكنني المتابعة. ثار غضبه، وحذا حذوه أصدقاؤه. كانوا في كتيبة فرسان معا وأفترض أنهم اعتبروا أن قراري ليس تصرفا رجوليا. ورفض ويثريل فكرة انسحابي. قال إنني سأواجه المخاطر حتما، وهو غير جاهز للتخلي عن أي رجل لحراستي. وتبدلت الخطة، وتوجه ويثريل مع فريقه إلى أوغندا لصيد الفيلة. كنت أتشاحن مع ويثريل يوميا. هو أيضا لم يشعر أنه بحالة حسنة، لكن رآني أضعف منه. وفي النهاية أقنعته. فقد تابعنا الإطلاق والقتل ونحن بطريقنا نحو الجنوب الغربي حتى وصلنا إلى تانا. وهناك اعتقد ويثريل أنه يستطيع أن يسمح لي بالعودة، أو على الأقل أن أذهب إلى الشاطئ الشرقي. وطلب من الدليل اختيار ثلاثة رجال لمرافقتي. وحالما وصلنا الشاطئ، أجروا حسابهم، ووجدوا أن الخماسين ستهب على الجنوب الغربي  بغضون شهرين، ويصبح بمقدور الرجال العودة إلى برافا. وبعد ذلك أستطيع أن أذهب إلى الشيطان".

قال فريدريك:"نعم، أنت محق. الرياح تبدل هبوبها سريعا كما أرى". وافق بيرس بإيماءة من رأسه. وقال:"لم يكن الحراس المرافقون لي مرتاحين لواجبهم. ولا أعرف لماذا تحديدا. كنت أفهم القليل من اللغة الصومالية، القليل جدا. وتعلمته في الطريق، أنفقت بعض الوقت مع أحد الرجال. كنا نتحاور لساعة أو ساعتين في اليوم، وحينما تكلمت مع رجالي لم يفهموني. ولاحظت الخطر والغدر في وقت مبكر. لكن في الحقيقة لم أتوقع أن يهجروني أو يقتلوني. أخبرني ويثريل أن الاحتمال وارد. فهو يعرف رجاله، وهو من جندهم. غير أن كرامتهم لا تسمح لهم بالخيانة. وعلى الأرجح تأثروا بشيء أقوى من ذلك. خطر متوقع ويخشونه. واضطرارهم للسفر إلى الشاطئ كان أكبر من مشاعر عزتهم وكرامتهم، وبناء على ذلك هجروني قبل أربعة أيام من ظهوري في بلدتك الرائعة".

قال فريدريك:"الصوماليون أكثر المتمردين وضاعة يا عزيزي بيرس. لم يهجروك فقط بل سرقوك وتركوك في الصحراء لتموت. وعليك أن تعتبر أنك محظوظ لوجودك هنا".

قال بيرس: "لا فكرة عندي عن ذلك. أقصد أنهم متمردون أنذال. يوجد من يقسم بشرف الصومالي وتقواه. ويثريل تقريبا قال ذلك. لديهم كلمة شرف أو شيء من هذا النوع. ولكن خذله هؤلاء الرجال البسطاء. وربما ستسوء سمعتهمبين بقية الصوماليين لأنهم هجروني. مع ذلك لم يتركوني في عمق الصحراء كما تعلم..".

سأله فريدريك وهو يباشر بالنهوض من مقعده:"وكيف أنت الآن يا صديقي العزيز بيرس؟". ولاحظ الدموع تنبثق من عينيه وهو يقول:" توقعت أنهم سيقتلونني. هذا ما فكرت به أولا. ثم حين تركوني هناك توقعت أن عابر سبيل سيقتلني، أو سيهاجمني وحش مفترس، أو سألقى حتفي من العطش والتعب. توقعت حدوث أي مصيبة كانت. هذا كل شيء. وتمنيت أن أبقى حيا. نعم. أنا على ما يرام. نعم. أعتبر نفسي حسن الحظ لأنني هنا. وأنت ترى السعادة على وجهي".

قال فريدريك:"وفر على نفسك المزيد من المنغصات يا بيرس. لا شك أنك مرهق جدا".

وسكب له كوب قهوة آخر.

قال:"فعلا. واسمي مارتن. ورجاء نادني به. ويجب أن أشكر من أنقذني".

قال فريدريك:"أنت مارتن منذ الآن". ورفع كوبه ليشرب على شرف صديقه. أضاف:"لكن عليك بالحلاق ثم الغداء وبعض الراحة. لا يوجد ضرورة للعجلة".

***

............................

* عبد الرزاق قرنح Abdulrazak Gurnah

كاتب بريطاني من زنجبار. أصوله يمنية. حاز على جائزة نوبل عام 2021.

قصة: سلمى لاغرلوف

ترجمة: فرمز حسين

***

حين دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل قرع أحدهم جرس باب الدكتور. القرعة الأولى لم تعطي نتيجة،لكن مع القرعة الثانية والثالثة بدى أنه أمر هام جداً وخرجت الدكتورة كارين من باب المطبخ لتعرف مالخطب. كارين حاولت دون جدوى معالجة الأمر بنفسها وتأكدت بأنه لابد من ايقاظ الدكتور .

عادت لتطرق على باب غرفة النوم: انه رسول من خطيبتك دكتور، يريدونك في الحال.

هل هي مريضة؟ سمعت الصوت مستفسراً من الداخل؟

لا يعرفون ما الذي ألمَّ بها، يظنون بأنها قد رأت شيئاً ما!

طيب أخبريهم بأنني قادم.

الدكتور لم يسأل شيئاً آخر، لم يكن يريد أن يسمع النمائم عن خطيبته .

شيء غريب عن تلك الخرافة قال في نفسه وهو يرتدي ملابسه . بيتهم هناك في وسط المدينة، خال من أية رومانسية.

بيت عادي جداً، بيت قديم غير جميل، مثله مثل كل البيوت التي في الحي، لكنه مسكون بالأشباح.

لو كان موقع البيت في مدخل مظلم أو على أطراف المدينة بعض الشيء في منطقة مليئة بالأشجار الضخمة، حيث أغصان شجرة قديمة تستطيع أن تضرب زجاج النافذة في ليلة شتائية عاصفة!

لكن في هذا الموقع الذي فيه الآن في هذا الشارع العريض الذي يمتد حتى البحر والميناء ! وفيها الكنيسة ومبنى بنك التوفير والثكنة ومعمل السكر تماماً بمحاذاة البيت!

لم يعتقد أحداً بأن معمل السكر بكل الصخب والحرارة وبتلك الأفران الضخمة التي تغلي كل ذلك سوف تجعل الشبح يرتاح من البقاء هناك. لكن لا، كل شيء بصورة أو بأخرى جعل هذا الشبح يستحق الاعجاب. انها الطاقة تلك الطاقة و القدرة  العجيبة على البقاء حياً في ذاكرة الناس . كانوا يقرّون بأن الشبح لم يظهر لهم على مدى عشرون عاماً منذ أن انتقلت "الآنسات بورمان" إلى غرفة الشبح؟

لكن هل نسي أحداً ؟ فقد ظهر الآن . لذلك مرضت ايلين فجأة . لا بد أنها رأت شيئاً ما. خافت من شيء ما، نعم ليس غريباً أن يكون الأمر كذلك. لربما قد أصبح رؤية الشبح  كا القدر المكتوب لها وهي تعيش كل حياتها مع عمتاها العصبيتين العجوزتين. هناك بالتأكيد شبح في المنزل، كانت دائماً تظن وتعتقد ذلك. لقد كانت حاملة معها هذا الاعتقاد في خيالها منذ نعومة أظافرها. مؤكدُ أنها لم تنسى لأنها كبرت الآن ووصلت سن البلوغ.

أول مرة كان الدكتور في زيارة لهن، قالت له بزهو هذه غرفة الشبح بنبرة صوت وكأنها تشير إلى احدى مقنيات العائلة الثمينة. في هذه الغرفة ممنوع منعاً باتاً لعب الورق، حينها سأل الدكتور لماذأ؟

 لأن بمجرد أن يحتال أحد اللاعبين أو أن يأتي بأدنى مراوغة سوف تظهر له" يد" على الطاولة!

 أية يد؟!

يد عجوزة مصفرّة  في أصابعها المتعرجة خواتم ألماس ثقيلة  ومعصم مغطى بقماش دانتيل أصلي  . طيب وبعد ذلك ! ماذا؟

 فقط لا يمكن رؤية شيئاً سوى اليد.

 لكن كيف بدأت هذه المسألة كلها منذ البداية؟

لا أحد يعلم، كانت دائماً تظهر هنا.

 قالت ذلك بكل برود، لكن من كان يعلم، من كان يعلم؟ لابد انها كانت تؤمن بوجود الشبح.

هكذا يظهر انظر يادكتور انها تظهر خفية من على طرف الطاولة بالقرب ممن يلعب وتشير الى إحدى أوراق اللعب باصبع متعرج ضخم! وأظافر ذي مخالب حادة ملتوية.

لكنها مع ذلك اختارت غرفة الشبح لسكنها .

الدكتور بحث في كل المنطقة بمحاذاة مصنع السكر  حيث كان العمل جار على قدم وساق هناك طوال الليل. على الأقل علينا أن نفرح ولو لمرة واحدة بأن هذ المصنع الكبير المغطى بالدخان موجود هنا!

 كان من السهل الاعتقاد أن يكون إيمانها بوجود الأشباح متأصلاً لو أنها نشأت وترعرعت في مكان ريفي موحش منعزل، لكنها سكنت دائماً وسط هذا الضجيج والصخب .

استدار باتجاه زاوية مصنع السكر،الرياح كانت تهب باتجاهه بشكل عادي طبيعي، ثم استدار الى المنزل.يالطيف انه أيضاً على وشك أن يفزع . هناك في الممر يقف شخص نحيف ملفوف بشال أسود! إنها العمة" مالين" لقد نزلت مستقبلة  لانارة الدرج أمامه.

كيف حال إيلين ؟ سأل الدكتور.

لطفاً منك أنك قدمت الينا بهذه السرعة , قالت العمة مالين . لا أعلم ما الذي ألمّ بها، تعال لتراها بنفسك.

صعدت الدرج شبه راكضة، وهي في ذلك السن الكبير، العمة مالين على الرغم من ذلك وقفت في ذلك البرد في الممر بانتظاره. لقد كانت قلقة وكان تظن بأن خروجها لاستقباله سوف يسرع من أمر وصوله. الدكتور أخذ في حينها انطباعا حياً بأن هناك خطر ما قادم. سيكون من العار أن يحدث مكروه لتلك الشابة التي اختارها لتكون زوجة المستقبل . لم يلتقي طوال حياته بواحدة أفضل منها. معتدلة الجمال ودون أقارب سوى عمتاها العجوزتين. وبطبيعة الحال ذي تربية صارمة وتصلح ربة بيت جيدة وأمينة.

حين وصلا إلى البهو التفتت العمة مالين إليه وقالت: استيقظنا في منتصف الليل على صوتها وهي تصرخ بفزع شديد. ومن حينها لم نتمكن من تهدئة روعها ولم نستدل على فعل شيئ غير الارسال في طلبك لرؤيتها.

فتحت باب غرفة "إيلين" وأدخلت برأسها لتقول لها بأنه قد وصل. بعدها مباشرة دخلا الغرفة .

الداخل كان مضيئاً لتلك الدرجة التي كان صعباً عليه أن يرى شيئاً للوهلة الأولى. كانوا بالتاكيد قد أخذوا جميع المصابيح التي في البيت إلى تلك الغرفة. لم يستاء من ذلك وهو ينظر إلى تلك المرايا الجدارية الكبيرة المعلقة بين النوافذة والتي كانت ايلين قد اقتنتهم . ذلك الأثاث الأبيض القديم،تلك الاضاءة كانت توحي بأن هذه الغرفة كان يوماً ما صالة للاحتفال، حين كان هذا البيت في أوج أيامها الخوالي البراقة .

على طاولة  اللعب هذه كانوا يجلسون أيام زمان، بيت عريق كان هذا السكن، هناك كان يقيم علية القوم وكانت السعادة تعمّ المكان، رجال الحاشية كانوا يقفون خلف مقاعد السيدات اللواتي تثرثر بجنون والخدم تجوب المكان ويقدِّمون حليب اللوز على أطباق فضية. حينها كانت يد الشبح تُظهر نفسها . لابد أن ذلك كان مثيراً للعجب والدهشة. السيدات تصرخ على الرجال الذين يغادرون الطاولة بصمت.

الأطباق الفضية تسقط من بين أيادي الخدم على الأرض. الرعب من قدرات خارقة فوق الطبيعية يرتسم على جميع الوجوه. هيئة الأشباح تغطي ملامحهم وكأنهم أشباه مجانين. لكي نتخيل منظرهم حينها، كاف أن ننظر الآن إلى وجه خطيبته!

كانت جالسة في منتصف الغرفة في المقعد الخشبي . متصلبة تماماً في جلستها نظرت فيما حولها بنظرات غريبة، كانت شاحبة مصفرّة الملامح وكأنه وجه شخص ميت. ترتعش وترتجف وأسنانها تصطك ببعضها. 

الكرسي كان قد نُقِلَ إلى منتصف الغرفة .كرسي مكشوف لا أثاث محيط به ولا شيء يمكن أن يختبئ تحته ومن ثم يظهر للعيان فجأة.

لم تنتبه عليهما حين دخلا الغرفة كانت تنظر في اتجاه ثابت تماماً باتجاه ظل الخزانة الذي امتد متجاوزاً الزاوية التي فيها المدفأة . كانت تعتقد بأن الظل يخبئ لها مفاجأة مروعة. رفعت ثوبها إلى صدرها وكأنها تتأهب للهروب اذا تقلص الظل وظهر كشئء آخر، ربما يداً كبيرة بأصابع وأظافر كالمخالب .

 حينها نقل الدكتور المصباح ليضيء زاوية الظل تلك  فخارت مرة أخرى في مقعدها.

الآن جاءة العمة" بيرتا " ورددت القصة نفسها التي قالتها العمة "مالين".

لقد استيقظنا على صراخها وكأنها أصابت بمس من الجنون. وبقيت من حينها على هذه الحالة التي تراها. تريد فقط الاضاءة طوال الوقت تريد أن تكون الغرفة مليئة بالأضواء.لماذا ذلك، ماسبب ذلك في اعتقادك؟

مرعوبة، لاشئ سوى أنها مرعوبة، قال الدكتور هامساً.

الآن اتهجت بنظراتها لتراقب ما يمكن أن يأتي من خلف الستارة.

ألقى ينظرات متفحصة حول الغرفة، ربما يكتشف الأمر الذي أرعبها. على طاولة الكتابة ورقة رسائل عليها بعض الحبر. كانت قد بدأت بكتابة شيئاً ما لكن القلم سقط من يدها وتدحرج على الورقة .

تذكرة كان قد أرسله لها في وقت متأخر من المساء، كان  يريد أن يعرف اذا هي والعمتان تردن الخروج معه في نزهة في اليوم التالي كانت موضوعة بجانب ورقة الرسالة تماماً.

كان واضحاً بأنها على الطاولة لكي تكتب جواباً له. جُلّ ما لحقت أن تكتب كان: ح-ب-ي- وفزعت وسقط القلم من يدها.

الدكتور لاحظ كيف نظرات العمتان تلاحقه، كانا يتسائلان بالتأكيد كونه لم يقل شيئاً حتى حينها لإيلين. ولم يفهمان بعد بأنه مستغرب وأن أهم شيء هو أن يعرف ما الذي  جرى لها وما السر وراء رعبها  لأنه لايؤمن مطلقاً بوجود يد الشبح كان ذلك أمراً مفروغ منه بالنسبة له.

مسكينة، مثلما هي كانت مرعوبة: كان الخوف يملئ أثير الغرفة كلها . لا أحد كان ينكر في سره بأنها قد شاهدت شيئاً ما. أول شيئ يجب عليه فعله هو أن يُخرج الجميع من الغرفة، العمة مالين العمة بيرتا والصبية نفسها  لكي لا يبقى الفزع على ما عليه في المكان.

أظن بأنها سوف تحدثني بكل شيء، اذا تحدثت معها على انفراد، قالت الدكتور  وسرعان ماخلت الغرفة بهما.

سحب كرسياً وجلس إلى جانبها، عجيب كم وجهاً يكون للانسان ! كان يتعذر عليه التعرف على إيلين وهي على هذه الشاكلة . كان معتاداً أن يراها هادئة تماماً وهذا الانطباع كان من صفات شخصيتها الرئيسية . كان مذهولاً من هدؤها الدائم .فنانة حقيقية في إرشاد عمتيها وهي بالكاد كانت تراهما يتشاجران من غرفة التطريز. ذات مرة خطر له أن يسهر هناك ورأها، راى شخصها الجميل وهي جالسة على كرسي طاولة المكتب على ضوء المصباح ورأى عنقها العاري الجميل ويديها الناعمتين كانت الغرفة كلها مفروشة بالأثاث، بعد ذلك تقدم لخطبتها. 

لكنها الآن شاحبة مرعوبة وهذا تحديداً ماكان لايريده. امرأة هستيرية ! فليحفظنا الله، يحفظنا جيداً .

على أية حال عليه أن يفعل لها شيئاً الآن . لم يكن مهماً بالنسبة له أنها غاضبة عليه، فكر فيها كمريضة وليست كزوجة المستقبل.أخبريني إيلين، ما الذي حصل؟

إيلين لم تجب.

عليك أن تخبريني بما حدث، قال بحزم.

رمقته  بنظرات ثابتة وكأنها لمحت بصيص أمل في الحديث له.

سوف تشعرين بالارتياح لمجرد أن تقولي ماحدث. قال الدكتور.

كان على عينينها الجميلتين المضيئتين اصابة.  وكانتا دائماً مضيئتان اعتماداً على الشخص الذي كانت تحدثه. ربما انهما الآن أكثر لمعاناً، لكن كان لهما ذلك البريق الذي لم يكن من ضمن ما كان يسعى إليه.

كان تعارك نفسها بعنف. لكي تستطيع ايقاف فكها السفلي من الارتجاف، كانت تضع منديلاً بين أسنانها لكي لا يُسمع صريرها وهي تصطك ببعضها البعض.

أخيراً سمعها وهي تقول بعض الكلمات. كانت جالسة تضرب يد بآخر وتفكر في صوت عال.علي أن أقول له ذلك، عليّ أن أقول، علي أن أقول، وإلا سوف تظهر مرة أخرى، نعم سوف تظهر مرة أخرى.

ثم باشرت الحديث، وهو بدى مكتئباً بشكل غريب . مثل ذلك الاحساس الذي يصيب شخصاً يخرج  بلباس طويل يسير على الأرض ثم يهطل عليه زخات من المطر، حينها يشعر بأنه فقد كل كبريائه وقيمته.

اعترفت حتى بأنها لاتحبه، وأن السبب الوحيد وراء رغبتها في  الزواج منه هو الانتقال من البيت .

لو لم يكن الأمر متعلق به لكان قد ضحك على ما تعانيه هذه الفتاة التي كانت ستوافق على أول رجل يتقدم لخطبتها، كانت قد حزمت أمرها على التخلص من العيش في هذا البيت. ذلك لكي تتخلص من العيش مع عمتيها.، كانتا تحسنان معاملتها، ولم تكونان على دراية بأنهما تُجلدانها.

نظرت إليه بأعين طائشة وكأنها تريده أن يفهمها أن يحس ببعض ما تشعر به.

بطبيعة الحال كان يعرف بأن عمتاها وهو الذي كان يهتم  بأمرهما منذ سنوات طويلة، شديدتان، شديدتان، مليئتان بأفكار مسبقة، مرعبتان حقاً. العمة مالين كانت دائما تتصرف وكأنها تنتظر حريقاً هائلاً سوف يحدث. العمة بيرتا كانت دائما تعتقد بأن سيارة سوف تدهسها في الطريق. كان يعرف حالتهما ولو أن "إيلين" بقيت معهما فسوف تصبح غريبة الأطوار مثلهما تماماً. وهي كانت على دراية بذلك.

لكنها كانت تريد أن تصبح انسانة قديرة . لقد طلبت منهما أن يسمحان لها بالعمل . لكنهما بالطبع لم تسمحان لها بذلك. وقد فهم بأن المخرج الوحيد لها من تلك الحالة كان عن طريق الزواج فقط.

لم يستطع الدكتور أن يمتنع عن سؤالها إن لم تكن خائفة أن يكون الزواج مع شخص لاتحبه ربما كان  أسوأ لها من العيش مع عمتيها!

لا، لا، لن يكن أسوأ أبداً. الزوج غالباً ما يخرج من البيت لبعض الوقت، لكن العمتان دائماً في البيت. 

الآن بما أنها فتحت قلبها له وتحدث بصراحة حين سألها ان لم تكن يوماً مغرمة به، هزت برأسها دليل الموافقة . ذلك كان أكثر مما كان يتوقعه.

طيب . لماذا؟ هل هو قبيح؟

 لا أجابت وهي ترفع بعينيها-

هل هو ممل؟

 أشارت بيدها بالنفي.

 فما الغلط فيه اذاً؟

  بارد. 

ه-هه بارد.

الدكتور مشى بضع خطوات في أرض الغرفة، إنه شيء فظيع لايمكن انكار ذلك. أن تكون صبية مثلها فكرت بهذا الشكل . ودعته يقبلها دون أن تكنّ له أية مشاعر . ولم تخفق في تمثيل دورها أبداً. لقد كان بالطبع مخدوعاً . ومستاءً أن تكون صبية مثلها لم تكن توده حقاً .

بالطبع قد عانت من حياة بائسة مع العجوزتين. ويمكن تَفَهمَ ماكان يعني لها  الزواج  . كان بمثابة التحرر للحياة بالنسبة لها . لقد صارحت بكل ذلك دون اظهار أية شفقة. لم يخطر لها بأنها تجرح مشاعره. وكأنها كان تظن بأنه لا يتأثر أبداً،و أنه صلبُ جداً.

صوتها خرج فجأة مثل الصراخ " أتعلم قالت  أن كل من يخدع ويزيّف في هذه الغرفة سوف تخرج له اليد. أنا رأيتها . كنت جالسة هناك، هناك والتفتت بشدة تجاه طاولة المكتب . هناك رأيتها .

ألا تصدق أنني رأيتها؟ تابعت وهي تحدق النظر فيه . وكأنها تريد استنباط الحقيقة.

أخبريني ما الذي حدث تماماً, قال مهدئا.

تعرف بأنك كتبت لي هذا المساء وأنا كنت أريد أن أكتب لك الرد، قبل أن أذهب للنوم. لكن حين جلست على طاولة المكتب، انتابني قلق وجلست طويلاً وأنا أفكر  لأنني لم أكن أعرف ما الذي سأكتبه في مقدمة الرد . كان من المفروض أن أكتب "حبيبي" لكنني لم أرى بأن ذلك صحيحاً . كانت هي المرة الأولى التي أكتب فيها لك . كنت أرى بأنه أمر فظيع أن أكتب شيئاً مزيفاً، لايمت للحقيقة بصِلة. لكن أخيراً  رأيت بأنني لا أستطيع أن أكتب شيئاً أقل.

هل هناك فرق كبير بين ما نكتبه وما نقوله؟ تساءل.

أنت لم تسألني أبداً اذا كنت أحبك، فقط سألتني أن أكون زوجة لك. قالت.

أها ؟ هكذا إذاً. قال.

لكن في تلك اللحظة، في تلك اللحظة التي بدأت بكتابة الكلمة ظهرت لي اليد، جاءت زاحفة من على طرف الطاولة وأعتقد بأنني بقيت مذهولة أنظر اليها لبضع ثوان، قبل أن أدرك ماجرى. لم أصرخ مباشرة . لم أفهم بعد بأنه شيئ غير طبيعي . لكنها استقرت على الورقة وأشارت بأصابعها المتعرجة على تلك الكلمة .

أظن بأنها كانت فرحة وكأنها كانت ترتعش من الغبطة. وكأنها تريد أن تجذب الحروف إليها، انها لعبة مزيفة وهي تريد المشاركة فيها.

جاءت زاحفة بتلك الأصابع الصفراء مثل عنكبوت كبير. حين تكون على عجلة من أمرها. منذ زمن بعيد لم يكن لديها أي سبب لكي تخرج للظهور . والآن تتسارع في الخروج. امسكت القلم بتلك الأصابع الرطبة المعقودة، انها لعبة زائفة وهي تريد أن تشارك فيها.

أنا صرخت وكأن حية ظهرت لي، حينها غابت عن الأنظار، لا أعلم اذا كانت باقية هنا أم لا . أحس بأنها لازالت موجودة في الغرفة.  اذا ظهرت مرة أخرى سوف أموت ! أكاد أن أموت.. أموت !

لا، يجب أن لا تعود، قالت مواسية نفسها.

أعرف بأن هناك أمر علي عمله، أضافت قائلة.

لابد علي من عمله لكي لا تعود اليد مرة أخرى . ذلك أمر رهيب قاس فعلاً.

نزعت عنها خاتم الخطوبة وبأيد باردة مرتجفة  وضعتها في يد الدكتور، ثم انهمرت في البكاء من شدة مرارة الموقف.

الدكتور لم يقل شيئاً وضع أطراف أصابعه على بعضها لينتقل بالخاتم من طرف إلى آخر.

يد الشبح لم تجد صعوبة في الظهور لتقويم الخطأ فكر ملياً. اليد انحازت لصالحه  وثأرت له بعض الشيء، شعر بالتعاطف مع يد الشبح.

هكذا عادة مع غالبية الناس، فكر في نفسه، الضمير دائما يأتي خلسة شيئا فشيئاً بطريقة أو بأخرى، مهما حاول الناس الخداع، له طرقه الصامتة الخاصة به . هكذا كان  مع هذه الفتاة الشابة التي خطبها بعد ذلك كانت قد خططت كل شيء لكي يكون لها بيتاً مريحاً، ما كانت تحتاجه هو بعض النفاق فقط وتصبح سعادة الدنيا كلها من نصيبها. ثم يأتي الضمير خفية وبصمت يشق طريقة بعمق في الروح لكي ينفجر في نهاية المطاف. متجاوزاً  كل الحسابات والحكمة في لحظة واحدة.

نعم، نعم، لقد كانت في ذلك الاعتقاد بأن في إمكانها العيش على الكذب كل حياتها.كانت بالطبع ترى بأن غيرها نجحوا في ذلك. لكن على ما يبدو  أنها مختلفة فهي ذي معدن أصيل وتنتمي لنوع  من الناس الذين لديهم ضمير حي، وأقل ما يتوقع لهم لمجرد خدعة صغيرة حتى تكون هلوسات الضمير حاضرة.

و بالطبع يظهر بتلك الصيغ المتوفرة التي في متناول اليد وكان من الطبيعي أن يظهر الضمير هنا على شكل يد الشبح في هذه الغرفة.

جلس هناك يتحسس ثقل الخاتم وينقله  من اصبع الى آخر، كان يحس بشيء آخر غير الأذى لأنه لم يستطع كسبها. كان حزيناً تقريباً .

بدأت الآن تذكره بأنه لم يكن من العدل ماحدث له، انحنت وقبلت يده، سامحني، قالت.

كم بدت ناعمة بعد أن اعترفت بأن مافعلته لم يكن صحيحاً. ولم تكن تدرك ما الذي عليها أن تفعل لكي تتصالح مع نفسها . لم يعد هناك سبب في ايلامها أكثر وكان عليه فقط اخبارها بأنه لم في حالة أحسن منها بكثير بل كانا متساويين في الفعل والتبرير، أحدهما بحث عن بيت آخر للعيش فيه والثاني أراد أن يحصل على مدبرة منزل وأحس بأن مجرد  سماع ذلك منه سوف يهدّأ من روعها.

أراد أن يقول لها بأن ذلك لم يخلق لديه شعوراً  بمرارة التقدير وأنه هو أيضاً لم يكن واقعاً في غرامها.

بالتأكيد لم يكن لديه أي مبرر كي يستمر في جَلْدِها. كان من الأفضل أن ينتهي كل شيء، أن يرتاح كل منهما ويستيقظان في اليوم التالي أحرار غير مخطوبين.

بدأ يقول لها أشياء غير مترابطة، مثل أنها انسانة بضمير حي وتنتمي لعرق نقي من عصب الناس . وهذا مايظهر الآن هنا وهناك. باتت غالية عليه لأجل ذلك ولأجل ما حدث لها في تلك الليلة وصًعُبَ عليه أن يُفرّط فيها.

لقد أصبحت حرة بالطبع ولكن لو أنها تستطيع أو تريد.

نظر اليها مستوضحاً، إن كان ذلك لم يعذبها؟

الآن ذهب ذلك التشنج عن ملامحها وبدا الهدوء في عينيها. جلست بفم نصف مفتوح لتسمع المزيد.

تحدث عن الحياة التي يريد أن يعيش معها، عن اشتياقه لها، تحدث بصورة مختلفة تماماً عن ما كان يتحدث منذ فقط نصف ساعة خلت. لكنه رأى أيضاً شيئاً مختلفاً تماماً الآن، حين تصور بأنه سوف يخسرها. كان حديثه أجمل بكثير عما كان يظن بأنه قادر عليه. العيش المشترك مع امرأة وحبيبة ناعمة . نعم في الواقع أن مجرد فكرة العيش معها سرَّ خاطره وأخصب خياله وهو يخبرها.

حين تقدم اليها ومدّ يده مصافحاً لتوديعها، أدمعت عيناه، كانت ناعمة جداً حينها. عاد اللون الجميل لوجنتيها . كانت مثل وردة تتفتح للتو .بدت فَرِحَةً مثل من ينجو من موت محتوم.

الدكتور وقف ويدها في يديه واستخلص استنتاجاته بسرعة غير مسبوقة.

هي بالطبع لم تفهم شيئاً مما يحصل. آه، أخذ نفساً عميقاً. لقد زال كل الغم عنه وحل مكانه الفرح ونشوة الانتصار. فقط من خلال مجهود لمرة واحدة جاءه حبها. كانت فقط بحاجة لأن يُظهر لها بأنها تَهمهُ.

أخذ خاتم الخطوبة وألبسها بثقة في بنصرها . لا حماقات الآن حين أرادت أن تسحب يدها.

لكني، قالت لا أعرف، لا أجرؤ.

أنا أجرؤ، أنا، قال الدكتور. لم أكن أبداً بذلك الشخص الذي يهرب من السعادة.

ذهب الى البهو، عثر على معطفه وعاد كي يشعل سيجاره .

يا للمسكينة، قال وهو  ينفث دخان سيجاره.  أَنتِ الآن مثل المربوطة بالقيد والسلاسل كي تُحبيني على ما أظن وإلا ظهرت لك تلك اليد مرة أخرى لقبض روحك.

***

فرمز حسين - ستوكهولم

2023-02-25

....................

* سلمى لاغرلوف: 1858-1940

 

للشاعر الفرنسي جاك بريفير

ترجمة (من الفرنسية): علي القاسمي

***

ارسمْ في البداية قفصاً

وبابه مفتوح

وبعد ذلك ارسمْ شيئاً جذاباً

شيئاً بسيطاً

شيئاً جميلاً

شيئاً مفيداً

للعصفور

ضع بعد ذلك قماشَ الرسم على شجرةٍ

في حديقةٍ

في منتزهٍ

في غابةٍ

مخفياً وراءَ الشجرة

دون أن تقول شيئاً

دون أن تتحرَّك ...

أحياناً يأتي العصفور بسرعة

ولكن قد يتأخر سنوات طويلة

قبل أن يُريد ذلك

لا تفقد الأمل

انتظرْ

انتظرْ إذا لزم الأمر سنوات عديدة

فسرعة مجيء العصفور

أو بطئه لا علاقة لهما

بنجاح اللوحة

وعندما يأتي العصفور

إذا أتى

التزمِ الصمت المطبق

وعندما يدخل في القفص

أغلقِ الباب بالفرشاة

ثم َّ

امسحْ قضبان القفص واحداً بعد الآخر

مع الحرص على عدم لمس أية ريشة من ريشات العصفور

وبعد ذلك ارسمْ لوحةَ شجرة

واخترْ لها أجملَ الأغصان ٍ

من أجلِ العصفور

ارسمْ كذلك الأوراق الخضراء والنسيم العليل

وخيوط أشعة الشمس

وطنين ديدان العشب في حرارة الصيف

ثمَّ انتظرْ العصفور حتى يرغب في التغريد

فإذا لم يزقزق العصفور

فهذه علامةٌ سيئةٌ

علامة ٌ على أنَّ اللوحةَ سيئةٌ

أما إذا غنّى العصفور، فهذه علامةٌ جيدةٌ

إشارةٌ إلى أنك تستطيع توقيع اللوحة

وحينذاك انتفْ بكل لطف

إحدى ريشات العصفور

واكتب اسمكَ في زاوية اللوحة.

***

......................

* جاك بريفير (1900ـ1977) شاعر وكاتب سيناريو فرنسي؛ سيريالي في شعره، واقعي في أفلامه. حظي وما يزال بشعبية كبيرة بفضل سهولة لغته، وتلاعبه بدلالات ألفاظه، وحسه الفكاهي. ويعدّ ديوانه الأول " كلمات" (1946) أشهر أعماله، فهو يدرَّس في المدارس الناطقة بالفرنسية. والقصيدة المترجمة نموذج من قصائد الديوان.

في سن الثامنة عشر، ترك جاك بريفير المدرسةَ وعمل في سوق بباريس، واستُدعي للخدمة العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى، وبعدها عمل في المصالح الفرنسية في الشرق الأوسط.

مِن الشعراء العرب الذين تأثَروا به الشاعر العربي الكبير الراحل نزار قباني (1923ـ1998)، الذي فُتِن بشعر جاك برفيير. فعارض قصيدة " فطور الصباح" لجاك بريفيير بقصيدة عنوانها " الجريدة" التي تغنيها المطربة ماجدة الرومي، وسمّى أحد دواينه " الرسم بالكلمات". (تُنظر مقدمة ترجمتي لكتاب "الشيخ والبحر" لإرنست همنغواي وعنوانها " لماذا نترجم ما تُرجم سابقاً، وهي متوافرة في موقع (أصدقاء الدكتور علي القاسمي) على الشابكة.

بقلم: عبد الرزاق قرنح

ترجمة: د. صالح الرزوق

كان فريدريك تيرنير في طريقه إلى المزرعة حينما بلغته الأخبار. فهو يذهب إلى المزرعة كل صباح ثلاثاء حالما تسمح له الظروف. والظروف هي قراءة رسائل وتقارير، ومعظمها يتكلم عن سكينة وهدوء متوتر ومشاكل مؤجلة. ولذلك منذ وصوله إلى المدينة لم يتخلف عن رحلة إلى المزرعة. كان  يذهب صباحا، ويمكث طيلة ما بعد الظهيرة وحتى المساء، ويبكر بالعودة في صباح اليوم التالي. وساعده ذلك على أن يكون ضمن الجو، فالخروج والتجوال يوفر فرصة لرؤية أشياء رأي العين، وفرض ذلك على بورتون مدير المزرعة أن يكون حريصا، مع أنه ليس تحت أمرته مباشرة. قام بورتون بزيارته في أسبوعه الأول في المدينة، حينما جاء ليتفقد البريد، ودعاه لزيارته عندما يرغب. ولم يكن هناك أحد غير الإنكليز، ويمكن القول إنه بالإضافة لمتعة القيادة كان يؤدي واجبه. كان بورتون شخصا مرنا وحذرا بما يكفي. متوسط الطول، بوجه مستدير وضخم ومحمر من الشمس، وبخلقة ثقيلة وأخلاق عشوائية. وله هيئة مزارع إنكليزي حرقته الشمس. وهو واسع الاطلاع ومجدد في عمله الميداني، يشبه عالما لديه مشاريع تحت الاختبار، مثل أحواض الماء والمرشات والمشاتل. ولكنه يترك لديك الانطباع أنه يتثاقل من عمله المفروض عليه  مثل حارس شاطئ، وهو ما دفع فريدريك ليشتبه أنه سيجلب المتاعب لنفسه لو بقي معه لفترة طويلة. هناك تلك النظرة الغريبة أحيانا، كما لو أنه يفكر بشيء أحمق. اعتقد فريدريك أن بورتون يتوقع من زواره البساطة والثرثرة، وينتظر فرصة لجلسة أنس وشراب. لكنه لم يكن الإنكليزي الآخر الوحيد في المنطقة، إنما الشريك الآخر الوحيد، ومن تبقى مجرد شيوخ جوجارتيين وعرب، بالإضافة لخليط من المحليين. ومن العبث أن لا تأنس له. وكان كلامه يدور حول محمية أوغندا والمرتفعات الداخلية والبحيرات، وكل المزارع الكبيرة التي سيتم تأسيسها هناك بعد الانتهاء من مد خط الحديد. وبتعبير بورتون هذا هو الهدف من المحمية.  فالسياسيون والصحف مغرمون بالكلام عن المناورات الدولية بلغة مفوهة، ولذلك إن محمية أوغندا وخط الحديد، بنظرهم ونظر بقية الحكام الجالسين على الكراسي، لهما هدف وهو ضمان مياه النيل وعدم سيطرة فرنسا عليها. وبرأي بورتون وبتعبيره أيضا على العديد من الأشخاص العنيدين مثله، أن يفتحوا مرتفعات هذه البلاد الجميلة، والتي وجدت ليحتلها الأوروبيون، ولكن المستسلمة حاليا لمتشردين وهمجيين ومصاصي دماء من العصر الحجري.

 كان بورتون يتكلم بتلك اللغة  المباشرة كلما أراد أن يؤكد أنه ينظر إلى العالم بعين العقل لا العاطفة، وبعد أن يزدرد كأسا أو اثنين. لم يذهب فريدرك إلى المرتفعات حتى الآن، ولكنه يفكر بزيارتها ليأخذ نظرة في أحد الأيام، فقط ليأخذ نظرة. أما العمل الذي رغب به فهو إدارة مزرعة واسعة الحياض والحدود، مثل التي شاهدها في كايب الشرقية في جنوب إفريقيا. كان فريدريك يشك بطبيعة بورتون، فهو ذلك النوع من أصحاب الكلمة النافذة، شديد العزيمة ودمه بارد، ولم يمر مثله في جيل أو جيلين، باستثناء الموهوبين والأذكياء. كان بورتون قد أنفق وقتا كافيا مع العمال، يضرب على الطبول ويرقص، ليؤكد أنه ليس غريبا عنهم. وكان يقود مطيته إلى المزرعة ببراعة. يتوجه بها في معظم الأيام، بعد الظهيرة، شمالا على طول الشاطئ. وحينها لا تقاطعه عوائق على امتداد أميال حتى النهر، أو ينحدر جنوبا ويدور حول الخليج حتى يبلغ هدفه، ولكن يتخلل طريق المزرعة أرض وعرة تتطلب الحذر. وتوفر لفرسه مجنون فرصة الجري، التي يكون بحاجة لها مثل أي شيطان رقيق. أما سائسه إدريس فيرافقه على المهرة شريفة، ولذلك يجد الحصانان العربيان نفسيهما على الطريق مرة في الأسبوع على الأقل. وكان قد أحضر الجوادين مع إدريس من الهند، ولم يكن عليه إلا أن يندم على هذا الأمر. ليس لأن الحصانين يسببان المشاكل، ولا لأن إدريس متعب، رغم جوه الكئيب والمنهك، ولكن بسبب انتشار الحشرات الفظيعة في المنطقة. فقد أصابت الحصانين بالحمى أول الأمر، وتطور ذلك إلى وزمات، وانتهى بالشلل والموت. في هذه الأرجاء لا تحيا غير الحمير. كان جواداه بحالة جيدة، ثم فجعه أن يكتشف المصير الذي ينتظرهما، وكان قد أتى بهما، وقضي الأمر. كانت حماقة منه أن لا يكتشف ذلك قبل المصاب. وهو أمر يبعث على الأسف والندم. ولو عرف هذا وهو في الهند لاتخذ، طبعا، ترتيبات مناسبة، قد تكون مفيدة في وقت لاحق. ولا سيما أنه حصل عليهما بصفقة صغيرة. فقد عانى أحد ملاك الأراضي، وهو من السند، من مصاعب في تسليم شحنة قطن اتفق عليها مع شركة بريطانية، وأعانه فريدريك. وبالمقابل نصحه ملاك الأرض بشراء الجواد العربي، وحدد سعرا زهيدا للمهرة، كما لو أنها هدية. قال: القرار للسيدة زوجة الصاحب حينما تعود من إجازتها (اسمها كريستي - ولم ترجع). وبدا له الأمر أنه منة وكرم مفرط، ولكن يمكن إساءة فهم الكرم والامتنان الشرقي، ولا سيما إذا كان من موظف حكومي. والأمثلة المزعجة المثيرة للشك معروفة - يتذكر موظفي كلايف وهاستنغز وثاكري - سرق أولئك السادة ثروة الدولة، وأفرغوا المستودعات، بينما فريدريك مشغول ببعض الأعمال الباهتة. وفكر: كرم مالك الأرض يأتي من حياة ذات درجة عالية من القناعة، وهو سلوك وواجب فقدته إنكلترا لأن حكامها يميلون للمشاحنة والحسد. وجاء إدريس بالحصانين، ربما لأنه لم يكن جاهزا لمفارقتهما. كان اسمه يعني السريع والصادق، وهذا ما أخبره به مالك الأرض، تيمنا بشخصية من الكتاب المقدس. ولم يكن لدى فريدريك وقت للاطلاع على القرآن، ولكن يمكنه أن يرى أن الاسمين يناسبان حاملهما. وكان قاسيا ومتين البنيان، ولا يبتسم بسهولة، مع ذلك هو رقيق مع الحصانين كما لو أن دمهما يجري في عروقه. كان فريدريك يحلم بسلالة من الجياد لبعض الوقت، ولكن شريفة لم تكن مطيعة رغم الجهود التي بذلها مجنون. غير أن الحصانين المسكينين ليسا خسارة. فقد أرسل خبرا إلى النادي في مومباسا، وتلقى إجابة من السيد كوان، الذي يخدم في قلعة سميث، وكان على الشاطئ بعطلة. وبدوره دعا فريدريك السيد كوان لزيارته وفحص الحيوانين بنفسه. وكانت مومباسا على بعد رحلة يومين بالقارب. ولم يكن إدريس متحمسا للرحلات الأسبوعية إلى المزرعة، مدعيا أن الحصانين لا يألفان المكان بسبب الضفادع المزعجة. وهناك بالفعل الكثير من الضفادع نتيجة وجود العديد من حفر السقاية، ولكن لدى فريدريك إيمان قوي أن إدريس مهتم بالشركة مثل أهل راجبوتان، ولا يحب جو المزرعة. وقد رفض النوم في صالات عمال المزرعة، ومعظمهم عبيد سابقون، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها. وقد هربوا من مالكيهم قبل سنوات بالخديعة ووجدوا عملا في الشركة، وكانت هذه لا تزال أرضا للشركة. ومنذ الإعلان عن تأسيس المحمية، لم يتبق، بالطبع، أي مجال للعبودية.

كان بورتون يدربهم على لعب الكريكيت، وكان يحلم بعقد مباراة يتحدى بها المدينة، حينما يسنح له تكوين فريق من الهنود هناك. في كل حال رفض إدريس المشاركة في مأوى الرجال. وتبدل ذلك بعد أن انتهى من رعاية الجوادين، واعتاد أن يمضي مساءه في المزرعة جالسا على سلالم الشرفة، تحت أنظار مخدومه، يقرأ القرآن على ضوء مصباح، أو مخدرا بالنعاس بانتظار نهاية الأمسية. وعلى بعد حوالي مائة قدم، يتناهى صوت كلام وضحك من مأوى العمال، وكان يندلع بين حين وحين بشكل تهكم ومزاح مكشوف، على طريقة الحوار المعتاد بين رجال دون نساء. والقناديل تحترق هنا وهناك بلمعة ذهبية تأتي من فتيل زيت جوز الهند. وحاول بورتون أحيانا أن يحض إدريس على الانضمام إلى الرجال، أو أن يقدم له شرابا على سبيل الدعابة، ولكن إدريس رفض العرضين بتهذيب يخلو من أي ابتسامة. تعاطف فريدريك مع هذا الحال، ورأى أن مزاح بورتون اللاذع غير مستساغ. وحينما استعد للنوم، تسلل إدريس إلى الحظيرة التي  بناها فريدريك لزياراته الأسبوعية، والتي زودها عمدا بدكة، كان يمد عليها إدريس فراشه. وكان إدريس هو من هرع، بعد انطلاقهم مباشرة، ليخبره عن الرجل المصاب.

حينما انعطفا إلى الشمال قبل السوق، لتجنب الروائح الكريهة، والزواريب المتعرجة حوله، والحفر المزدحمة والقذرة في الجدران والتي استعاضوا بها عن  الدكاكين، مرا بالمكتب المظلم للوكيل المسن صديق. كان فريدريك يعلم تماما أن معرفة ما يجري من مهام الوكيل. وكان واحدا من اثنين فقط في البلدة. ولكنه يعلم كذلك أن الوكلاء الهنود  مراوغون وعدوانيون، ويعيشون حياة متدنية تشبه علامة محفورة على قشرة صلبة  في المخابئ التي يلجأ لها اليائسون واللامبالون. شاهدهم يكدحون في الهند، يغشون ويقرضون النقود دون أن يكون لهم اسم. وكان يجهز نفسه لتجارة رسمية مع  كائن كريه، ولكن هذا لا يعني أنه يجب أن يعرفه حينما يكون في نزهة أو رحلة. جاء الوكيل حينما شاهدهما يركبان الحصان ويمران به، وصاح بشيء ما، وتجاهله فريدريك. نادى مجددا، وفي هذه المرة رد إدريس وتوقف ليسمع الجواب. كان فريدريك يعرف أنهم يتكلمون بلغة كوتش، وسمع كلمة أنغريز، فافترض أنهما يتكلمان عنه، بطريقة طفولية أو ما شابه. ثم أسرع إدريس إلى الأمام ليخبره بلغته الإنكليزية الضعيفة أن الأنغريز مصاب إصابة خطيرة. ثم تقدمهما صديق نفسه في الطريق. أولا أغلق وأقفل الأبواب المدعمة الضخمة لمكتبه، ورتب قبعته المطرزة بالذهب على رأسه، وطلب منهما أن يتبعاه بإشارة استعراضية. نظر فريدريك للرجل الصغير الأحدب. وحينما شاهده يتقدم نحو منطقة الزواريب التي تفضي إلى السوق، طلب منه أن يتمهل. كان اسم مجنون مناسبا لتلك الممرات المزدحمة والمحفورة. هبط عن ظهر حصانه وسلم الرسن لإدريس. نظر لسائسه، وتوقع نظرة قلق أو اهتمام لأنه يتوجه على مسؤوليته إلى أحياء المواطنين المحليين، برفقة هندي مجهول سيقوده ويكون دليله، ولكن لم يلاحظ الارتباك على وجه إدريس. وترجل بدوره، وقبض على الرسن، ثم مباشرة تقريبا بدأ بالتقدم نحو ظل شجرة. تبع فريدريك الوكيل، مبتسما لنفسه، مع قليل من خيبة الأمل لأن إدريس لا يبدي المزيد من الاهتمام. كان إدريس رجلا صلبا، ولهذا السبب اختاره، ولكن شعر تجاهه بشيء من الهم والتعاطف. وتوقع أن إدريس يرى نفسه بحالة تحالف ما معه، عهد وافق عليه حينما قبل النقود منه ووافق أن يتبعه بصفة سائس. وحسب مفهومه القديم للشرف لم يكن خادما أو وضيعا. كان فريدريك أحيانا ينتبه أنه يراقبه بنظرة يمكن وصفها فقط أنها عاطفية، أو حتى مطيعة ومؤمنة، مليئة بالحب الرجولي. وتوقع أن بورتون لاحظ تلك النظرة أيضا، واهتم فريدريك لسماع بورتون يقول مرة: الرجل مستعد للموت فداء لك. وتساءل ماذا سيفعل إدريس بعد أن يبيع الحصانين. وذكر فريدريك نفسه أن يستفسر عن عائلة إدريس وأن يمنحه هدية يقدمها إليهم.

سار الوكيل على الطريق في المقدمة، وكانت بشرته حنطية ومجعدة ورقيقة، وعموده الفقري مقوسا. وافترض فريديرك أن السبب يعود للعمل الوظيفي الذي أنهك حياته. (وردد فريديرك مرتين أو ثلاث مرات عبارة: رجل مسن ومتعب. وأودع الفكرة في رأسه ليتمكن من كتابتها لاحقا). كان يرتدي سترة بيضاء قطنية مزررة حتى العنق، وسروالا ضيقا، وصندلا جلديا بنيا وقبعة مزركشة بذهب له بريق مخضر. كانت حركاته رشيقة وغير ثابتة، يتخللها عدة إشراقات وانحناءات وتكشيرة تبرز من ورائها أسنانه. وهذا كل ما علق بذهن فريديريك. شيء ما فيه دفع فريدريك للتفكير بأحد صغار الأشرار في أعمال ديكنز - شيء واضح حقا. وفي غضون دقيقة دخلا في أزقة منحنية وضيقة ضمن أعماق البلدة، حيث الأسطح تقريبا تتلاقى فوق الرؤوس. مضى عليه هنا حوالي أربعة شهور، ولكن كانت هذه ثالث مرة يدخل فيها إلى هذه الشوارع المهدمة. حتى أن الدروب تعرضت لأثر التعرية من جراء الأمطار وبفعل جداول كريهة من المصارف الصحية، كما أنها كانت مغطاة بالنفايات. وتوجب على فريديريك أن يحرص في كل خطوة يخطوها. وبمجرد أن وصلا إلى المنطقة المغطاة بالضباب والعتمة، حاصره هدير، صخب دون كلام، كما لو أنه أصبح في فضاء يدمدم فيه العديد من البشر بلهجة خافتة. وشاهد كومة تأتي منها روائح النفايات والبالوعات. كان المكان كله بحاجة للهدم والإزالة، ولكن لم يكن لديه تمويل يتكفل بنفقات وتكاليف مثل هذا العمل. 

أجبر نفسه على التقاط أنفاس سريعة، ومع ذلك كانت غريزته تهيب به أن يستنشق جرعات ثقيلة ليتخلص من الشعور بالاختناق الذي انتابه بين الزحام وخلال الأزقة الخلفية. كان الناس ينظرون له مرارا وتكرارا، وسمع صرخة تقول عنه إنه “ميزونغو” . وكل من كان يجلس أمام كوخه نهض باهتمام وربما بوجل. وتقدم رجل مسن وقبل يده. لم يكن فريديك جاهلا بمثل هذه التصرفات التي تدل على التبجيل. أحيانا بعض المسنين المحليين يقبلون يده لأنهم يعتقدون أنه الرجل الذي حرر العبيد قبل سنوات عديدة. ولم يعترض فريدريك على قناعاتهم. فهي ليست ضارة وتسهل بعض الأمور أيضا. وشاهد وجوها تتابعه، ولم يكن متيقنا إن كانت تدل على الاحترام أو على شيء غير ذلك، كأن تدل على حيرتهم من الرجل المعمر أو تنم على امتعاضهم منه. وكان أصحاب الدكاكين يخرجون من دكاكينهم، ويقتربون منه، ويحاولون إغراءه ببعض بضائعهم الكاسدة، أشياء قد توفر لهم أسباب الحياة: كومة صغيرة من الفحم، برتقالتان، حفنة من البيض، وأسوأ شيء في ذلك، أن يكون البائع قذرا مهلهل الثياب.  كان الأطفال يلوحون له ببلاهة ويحاولون قطع طريقه، وهم ينادون “ميزونغو، ميزونغو”، لكنه تظاهر أنه لم ينتبه لهم ولم يشاهدهم. وسمع أشياء أخرى ولكنها ليست واضحة. وحاول جهده أن لا يهتم. دعهم يرفعوا أصواتهم بالكلمات التافهة القذرة، إن كان هذا يفيدهم بشيء. استفزته أصواتهم مثل أزيز حشرات أو ثغاء حيوانات، مثل أنين نساء الشوارع المنهكات في أزقة باحة لندن. لوح البانيان (التاجر) الذي أمامه بذراعيه للزحام بانفعال، وهو يصيح بيأس، مؤكدا أنها حالة طارئة ولا تحتمل الصبر. وهم فريدريك أن يلمس ظهره المشدود بعصاه، وأن يخبره من بين أسنانه المطبقة أن يضبط نفسه بمزيد من الصبر قبل أن يجعل منهما مادة للسخرية. وتقدم بأفضل ما يمكنه، مع الاحتفاظ بخطوتين على الأقل بينه وبين الوكيل الذي يشق الطريق أمامه، بثقة وعزيمة قوية. لم يكن فريدريك رجلا ضخما، ولكنه كان متينا وقويا، ولذلك لم يتأثر لا بالزحام ولا الضجيج، ليس على نحو يذكر. كان خائفا من احتمال الإحراج والسخرية إذا سقط في المياه القذرة أو إذا تحرش به مأفون متدين. ولم يكن أحد بحاجة للتذكير في هذا الجزء من العالم أن الآلة البريطانية المتسلطة لا تستسلم. وفي حال التذكير بها، شأن الأحداث المذهلة التي وقعت في أم درمان في السنة السابقة، سيبدو وقعها مثل خبر يبلغ مسامع شخص آخر. لكن أحيانا تكون الجماعات المحلية مستعدة دائما للشغب، وهكذا وجد من المفيد أن ينظر إليها بشيء من الحرص والسلبية ليسيطر على انفعالاته منها. وتساءل ترى من هو الرجل الجريح. ورجح لديه أنه شخص من البعثة اللوثرية الموجودة في شمال الدلتا، والتي بقيت حتى بعد التوقيع على اتفاقية 1886 وتوزيع السلطة ورحيل المحتل الألماني. كان ذلك قبل سنوات من مجيئه، وسمع به من بورتون. فقد ارتكب الماساي هناك مجزرة، ولاقى المبشر الميثودي وزوجته وعدد من رعاياهم الموت. رجل لا يهاب، بكل المقاييس، يتجول في كل مكان، غير مسلح إلا بمظلة مفتوحة، ويبحر بقارب في النهر ذهابا ومجيئا كما لو أنه لم يسمع بالتماسيح أو السهام المسمومة. لا بد أنه كسب احترام السكان المحليين لأنهم لم يأنفوا من بعثته ولربما انضم إليها بعضهم. لم تكن النتيجة مألوفة، حسب معلوماته على الأقل، فالبعثة تبشيرية وعملها حماية الأرواح.

من المدهش أن الماساي هاجموا الموقع الموجود قرب الشاطئ، واختاروا أن يكون رجل متواضع من رعايا الرب مع أتباعه ضحيتهم. اكتسحوا منطقة واسعة في الداخل وأصبحت ساحة لهذه الأفعال الدموية. تذكر ذلك السطر في قصيدة “مونت بلانك” لشيللي عن صخور ضخمة موزعة حول الجبل، حيث تبدو الطبيعة المنهوبة مثل ساحة يلعب فيها إله الزلازل والعواصف. كان الماساي آلهة محليين لطبيعة هذه الأرض المنهكة. وتوجد حكمة شائعة تقول إن الماساي لا يغيرون إلا على المواشي، مثل أسد لا يهاجم إلا حين يجوع. ولكن يعتقد فريدريك أن لكليهما شهوة مفرطة للدم والقتل، وابتهل لربه أن لا يضطر يوما للبرهان على نظريته. هناك احتمال بغزو الماساي للبعثة اللوثرية، وإن لم تفعل الماساي ذلك ستفعله قبيلة معادية غيرها، مثل الغالا أو الصومالي أو أي جماعة متوحشة جوالة. فالنهر يجرهم إليه مثل مرور السائل في قمع، وكما جذبت الأنهار القبائل البربرية منذ بداية الأزمنة. وتلقى أيضا نبأ من مومباسا يخبره أن الميثوديين يخططون لبعثة إضافية، ستكون أقرب للبلدة في هذه المرة، لذلك سيكون بوسعهم الصيد بسهولة وأمان، وسيكون القس هوليداي جاهزا، وسيأتي حتما من مومباسا عبر النهر وليس البر. هذا الشيطان المسكين سيأتي من الداخل. لا، كانوا، في الصورة التي تداعب رأسه، يختارون طريقهم وراء أكوام النفايات والبيوت المتداعية ذات الأبواب المتعفنة، جيش منهك من المحليين المؤمنين يقفون بجانب نقالة قديمة أتوا بها لنقل القس الطيب من هذا المكان لموضع آمن. وجعله ذلك يفكر باثنين زنجباريين مؤمنين حملا منذ عدة سنوات الجسم المحنط للقديس الدكتور ليفينغستون ولمسافة آلاف الأميال من البحيرات العظيمة وحتى شاطئ باغامويو. أولا انتزعوا قلبه من صدره ودفنوه في مكان موته، ثم حنطوا جسمه. كيف فكروا بذلك؟. من أين جاءت لحارسين محليين فكرة عمل رمزي له مثل هذه الأهمية؟. تخيل مزارعين أو اثنين من عمال السخرة المحليين يفكران بهذه الطريقة. ربما ترك الدكتور الطيب تعليمات وتوصية بهذا الخصوص. ولكن حتى لو كان ذلك صحيحا، لماذا لم يلقيا الجسم في أقرب مستنقع وعادا بعد ذلك إلى البيت؟. أي قديس كان هذا الرجل ليلهم أتباعه ذلك الإخلاص. كان يتبعه جيش بائس من المتشردين والكسالى، مع ذلك لم يكن الإخلاص والوفاء في طبعهم، وكل ما في رأسهم مجرد فضول فطري يدفعهم للمكابدة، ومشاعر تؤثر بالذهن المعطوب والفارغ.

وفجأة انتهى الزقاق، وانفتحت أمامه ساحة رملية مشرقة ومضيئة. جمد من المفاجأة وصدمته السعادة الناجمة عن الفضاء المفتوح. وتقدم شخص ما نحوه من الخلف، ودون أن يلتفت ضرب بالعصا التي بيده، وتأكد أنها أصابت مخلوقا من عظام ولحم. ثم سمع صيحة ثاقبة طفولية، وتبعتها قهقهة، ولم يتمكن فريدريك من أن يلجم ابتسامته. شاهد جامعا صغيرا أبيض في الزاوية الأخيرة من الساحة وبجانبه طريق.  ونافذتاه وبابه بحالة يرثى لها، وكانت نصف مفتوحة، ومطلية بلون أزرق متوسطي مدهش، مثل لون ثوب مادونا في لوحة للفنان تيتيان. وفي نهاية الساحة القريبة منهما، وعلى الجهة اليمنى، مقهى كئيب فيه طاولات رخامية. وخارجه مقاعد طويلة تشبه الدكة. ما الغاية من طاولات مرمرية في هذه الغابة الضيقة؟. وراء المقهى بيوت من الحجر، بعضها من عدة طوابق، وما تبقى متواضعة ونظيفة وتصلح للاستعمال. ثم انفتح زقاق آخر على الساحة، وشاهد عدة أزقة أخرى تصب على الساحة أيضا. وعلى يساره المزيد من البيوت، بستائر عوضا عن الأبواب، وكانت النسمات تفح فيها وعلى ما يبدو أنها تهب من الطريق العريض الممهد على الجانب المعاكس من الجامع والذي يقود إلى مزرعة مفتوحة تلوح من بعيد. وأمكن لفريدريك أن يشعر بالنسمة من مكانه، حيث وقف، وتساءل أين هو ولماذا لم يخبره أحد عن هذا المكان البهيج في هذه البلدة المتهدمة. وحاول أن يفطن بحدسه الشخصي لموقعه على الخريطة الموجودة في مكتبه. كان الوكيل، الذي توقف بدوره واستدار نحوه نصف استدارة، يشير لما خلف البيوت المصفوفة على يسار فريدريك، وهو يبتسم ويومئ برأسه مهنئا نفسه.

قال الوكيل:”سيدي”. كان يأمل أن يتبعه فريدريك، فقد هز رأسه بدافع من الشعور بالرضا عن الذات. أما الحشد الذي رافقهما عبر الأزقة فقد تخطاهما وانتشر في الساحة، ووجوههم على الاتجاه الذي أشار له الوكيل. وما أن سار فريدريك خلف الوكيل حتى رأى “دوكا”، دكانا صغيرا، أمامه، وهو حانوت مزدحم بالبضائع ومنتشر في كل المدن الهندية، وقد أدخل هذا النظام في هذا الجزء من العالم التجار الهنود. ولكن ليس كل شيء يعود إلى الهنود، لدى تجار حضرموت هذا الأسلوب في التجارة، إنما الفكرة للهنود. وتساءل إذا كان ذلك يفسر ترتيب الباحة، إن كان هذا خليجا هنديا. في هذه الأنحاء، أينما ذهب الهنود، تتبعهم شهرتهم، ولكن طبعا تتوقف على طبقة الهنود أنفسهم. في زنجبار شاهد طبقة كناسي الشوارع التي تزدحم في المدن الهندية، وتعيش بظروف متدهورة، وتتسول في الطرقات، وترافقها دائما فوضى وأنين وصراخ، ومعظم الباعة الجوالين الذين لديهم حوانيت محفورة في الجدران، هم من بين الهنود. ولكن الحكمة العامة صحيحة: إن وجدت البائع المناسب في منطقتك ستزدهر أحوالك.

كان هناك زبونان أو ثلاثة أمام الدكان، وبعض المسنين الجالسين على منصة بجواره. وتساءل فردريك لماذا هم ذاهبون إلى الدكان أصلا، ربما للاستفسار عن الاتجاه الصحيح. ولم يشاهد إشارة تدل على مرافقه البائس والمطيع. باعد ما بين خطواته وأصبح بجوار الوكيل المسرع، واقتربا من الدكان. نهض المسنون على أقدامهم وكذلك فعل “دوكا والله - صاحب الدكان”، وهبط بسرعة من الرصيف الذي يعلو بضاعته. هم يفعلون ذلك، بانتباه واحترام كلما اقترب منهم أوروبي، وفهم فردريك لماذا. وفجأة، كما يبدو، انخرط الجميع بالكلام وألقوا نظرات حذرة عليه. ورأى الوكيل يستبدل نبرته الآمرة مع “دوكا والله” بإشارات تفاهم ولها معنى صنعها برأسه. وبعد حوار سريع متوتر ودرامي، وحينما كان فريدريك ضائعا ومحتارا عما يجري حوله، عاد “دوكا والله” إلى حانوته، وفتح باب الباحة. وغاب الوكيل في الداخل آملا أن فريدريك وراءه. وأبعد أحد المسنين الناس بعصاه، ولكنهم سدوا الباب وبعضهم تسلق على جدار الباحة.

لم يتوقع ما حصل. كان فريدريك يعلم، في اللحظة التي سبقت دخوله من الباب إلى الباحة، أن الرجل الجريح سيكون مسجى في الداخل، ولكنه أدرك ذلك في تلك اللحظة الحاسمة ولم يكن لديه الوقت ليفكر بالموضوع. وشاهد رجلا بشعر طويل مغطى من قدميه وحتى كتفيه، ويستلقي على فراش تحت السقف، وكان الغطاء ملاءة بلون كريمي بأطراف ذات لون أحمر وأبيض. كان هناك شيء كلاسيكي وقديم حيال الألوان، فهي ألوان عباءة رومانية. وكان رأسه ينظر موجها لطرف وليس نحو السقف. وفمه مفتوح قليلا، ويبدو عليه الإنهاك والسخط، وبوضع معروف يشبه المروق. وقربه على البساط جلست امرأة، ساقاها مطويتان ومغطاتان تماما بثوبها الأخضر الكئيب. وأوشكت أن تنهض ولكن لم تعزم تماما على الوقوف، وكانت متجمدة بشيء من الدهشة والتعجب.   استدارت بوجهها بعيدا وهم يدخلون وأخفت وجهها بوشاحها، ولكن شاهد فريدريك ما يكفي ليعلم أنها امرأة مليحة الوجه، في الثلاثينات من العمر، وربما نتيجة قران محلي مختلط، ولها لون بني براق شاحب يدل أنها من أصول باجونية أو صومالية. وتوقع أنها زوجة صاحب الدكان، وتمنى لو أن يستمتع معها في حياته. وفورا، بقوة وبشكل خاطف، مثل بريق مؤقت، صعدت لرأسه كريستي. لكنها لا تزال في إنكلترا. وغلبه الشوق إليها. اشتاق لها تقريبا، مثل دقة قلب يتيمة سرعان ما اضمحلت وماتت. وسيفكر بها بشكل أطول لاحقا. ركع فريدريك على إحدى ركبتيه بجوار الجريح ولمس جانب رقبته بيده. كان دافئا ونبضه قوي، ولم يكن محموما. فتح الرجل عينيه وأفلتت منه حشرجة خافتة. رنت في سمعه مثل ثغاء مكتوم، زفير بائس من حيوان يحتضر. لم تنطق المرأة. وحينما رفع فريدريك بصره إليها هزت رأسها، كما لو أنها تطمئنه. كشف الملاءة ليرى إن كان هناك دم أو جرح، ولم يشاهد علامة على الجسم، فقط تعب وغبار. وقف وتلفت حوله وأدهشه غرابة كل شيء حوله، ووجوده في هذا المكان، في باحة من بيت هؤلاء البشر، واقفا ببوط فرسه اللماع، وهو يربت على سمانته بنفاد صبر بسوط الركوب، ومحاطا بهؤلاء الأشخاص السود غير المألوفين والذين شعر بالغضب غير المفهوم منهم وبحضور رجل مريض عند قدميه. كانت غربة مفهومة، كما لو أن جزءا منه انفصل عنه ووقف بجانبه ينظر أمامه، ولكن أصبح من الضروري حاليا أن لا يهتم بذلك. حرر نفسه من هذه المشاعر، والتي يعتقد أنها دليل على الضعف والتردد رغم جانبها البشري، وطالب بنقالة بحركة من يديه. قال:"علينا أن نسعفه بإخراجه من هنا". وخاطب الوكيل أولا ثم التفت إلى "دوكا والله" البدين صاحب المظهر الحزين.  كرر بإشارة صامتة تدل على ضرورة الحمل ونقل الجثمان من الباحة قائلا:"علينا أن ننقذه في الحال من هنا. جالادي، جالادي. بسرعة. بسرعة". بطريقة ما استلم الوكيل زمام المبادرة، واتخذ الترتيبات المطلوبة، وهو يتكلم برباطة جأش وقوة، الأمر الذي أدهش فريدريك بعد تخبطه السابق.

ولم يفهم فريدريك كلمة مما قاله الوكيل، ولكن اعتقد أنه استطاع أن يجعل كل شيء يبدو كأنه محسوب وغريب أيضا. ولاحظ الفوضى والصخب المعتادين، وكان الناس يتململون، ولكن في النهاية حمل الرجال الثلاث الرجل المسكين، والفراش، وكل شيء، وجهزوا أنفسهم للانطلاق. سأل فريدريك:"أين أمتعته؟. ممتلكاته. أين ممتلكاته الشخصية؟ مقتنياته". فعل الوكيل ما بمقدوره، ولكنه لم يحصل على شيء من "دوكا والله" وزوجته. وصاح بهما الوكيل وحرك أصبعه للتحذير بطريقة دراماتيكية. وخمن فريدريك أنه يتهمهما بالسرقة، أو ما يزيد، في محاولة للتأكد أنهما سيقدمان له حصته.  وأضاف كلمات سامة من عنده وعنف رب المنزل، دون الحصول على النتيجة المرجوة. وانضم إليهم بعض الحاضرين، وهم ينعقون بما لديهم، واعتقد فريدريك أن الأفضل هو نقل الرجل إلى مأمن قبل أن تحل الهستيريا على الجميع. قال للوكيل: سيعودون لاحقا من أجل أمتعته، حينما يصبح الرجل المصاب قادرا على الكلام وتحديد مفقوداته. وحينما شق الطابور طريقا متعرجا للخروج من الزواريب، وجد فريدريك أن إدريس يجلس تحت شجرة مانغا عملاقة في الساحة، وحوله حشد من الأولاد الصغار صامتين ويحدقون بالحصانين. وقف فورا حينما شاهد الموكب، ولكن بقي بعيدا، بانتظار التعليمات. وارتاح فريدريك لذلك، للطاعة الضمنية. أشار بعصا الركوب نحو البيت، فامتطى إدريس شريفة وتحرك أمامهم. أضاف حضوره مع الموكب المزيد من الدراما للأحداث، وحالما وصلوا البيت، كان قد تحول إلى مكان قروسطي. وعانوا من المشاكل في التخلص من الجميع، وبالأخص الوكيل، ولكن تدبر إدريس وتابعه المسمى هامس محاصرة الجميع في صالة الطابق الأرضي، وفرقوهم بالتدريج، وهما يوزعان النقود على الرجال الذين ساعدوا في نقل الرجل المريض. وضعوه في غرفة الاستقبال وكان يستفيق. سجاه الرجال على السرير المربوط بفراش القش القديم، بالطريقة التي هربوا بها كليوباترا إلى غرفة أنطونيو. فك فريدريك الأربطة، ولاحظ أنه لا يزال ملفوفا بملاءة ذات لون كريمي وأحمر، وسنحت له الفرصة ليلاحظ ان القماش سميك ومن خياطة يدوية، وربما جديد. تحسس جبين الرجل ليفحص حرارته، ففتح الرجل عينيه على إثر اللمسة ونظر مباشرة إلى فريدريك.

سأله فريدريك برقة:"كيف تشعر يا صاحبي القديم".

رد:"هل زرت سيشيل في حياتك كلها؟". كشر فريدريك لهذا السؤال غير المتوقع وللهجته الإنكليزية المؤكدة. قال فريدريك:"لم يحالفني الحظ". وارتاح لأنه ليس متعصبا لوثريا.

قال فريدريك:"في هذا الجزء من العالم، عليك دائما أن تكون مفتح العينين حذرا من لعبة ضارة قليلا، كما تعلم أنت شخصيا، طبعا". ثم امتص سيجاره بتلذذ وأخذ نفسا قويا. نفخ الدخان بزفرة قوية وكبيرة وأسعده المنظر وامتلأ بالطمأنينة. ثم قال: "يجب أن أعرب عن سعادتي بعودتك إلى عالم الأحياء يا عزيزي بيرس. كانت معجزة أن نراك تجلس أمامنا متمالكا نفسك بعد ما وجدناك عليه من ضعف.  يجب أن تخبرني إذا أرهقتك. لا تتركني أتعبك. وأنا طبعا أموت من الشوق لأسمع تفاصيل مغامراتك، ولكن لدينا وقت طويل. وأعتقد أنك تحسنت بشكل كبير، أنت تقف على قدميك ثانية وبسرعة، ولكن لا يجب أن تبالغ. على الأقل لا يبدو أنك التقطت شيئا. ولكن لا بد أنك تعرضت للشمس اللاهبة لعدة أيام، وهذا تسبب لك بصداع هائل، كما أعتقد. حسنا، على كل حال لم تتضرر كثيرا. في الواقع يا صاحبي القديم أرى أنك محظوظ جدا جدا لأنك لم تتضرر. يوجد قطاع طريق خطيرون في تلك البوادي. وأفترض أنك بطريقة ما تدبرت التخفي عن الأنظار خلال رحلاتك الفردية، وإلا ما كنت هنا. كما تعلم حينما سمعت الأنباء توقعت انه أحد المبشرين عند النهر، أحد اللوثريين. وهناك وقعت غارات مميتة في السنوات التي مضت، وتنتشر شائعات دائما عن جماعة من الاحباش الأشرار، يسرقون ويستعبدون ليعيشوا. أنت محظوظ جدا لأنك لم تقع في طريقهم.  مع أن الأوروبي بمأمن منهم بالمقارنة مع أي كائن آخر. غيره يذهب مباشرة إلى سوق النخاسة في هارار على الأرجح، ولكنهم يعلمون أننا لا نتساهل مع أشياء من هذا النوع". امتص فريدريك سيجاره ثانية وبين الحين والآخر كان ينفض طرف الرماد على أرض الشرفة.

***

..........................

عبد الرزاق قرنح  Abdulrazak Gurnah: اتب بريطاني من زنجبار. له أصول عربية يمنية. يعالج في أعماله قضايا التحرر في القارة الإفريقية. ويعتبر ثاني كاتب، بعد نجيب محفوظ، يحصل على جائزة نوبل، وله علاقة بمشاكل العالم الثالث. من أهم أعماله:  فردوس 1994. ما بعد الممات 2020. ذاكرة الرحيل 1987. الهدية الأخيرة  2011 وغيرها….

بقلم: زاخار بريليبين

ترجمة وإعداد: صالح الرزوق

***

ابنان يكبران.

أحدهما عمره أربع شهور. يستيقظ في الليل، ولا يبكي، كلا. لا يبكي. بل يستلقي على بطنه، ويتكئ على كوعيه، ويرفع قبة رأسه الأبيض الصغير ويتنفس. باختصار يتنفس بسرعة. مثل كلب يجري وراء رائحة شهية.

لا أشعل الضوء.

وأصيخ السمع له.

أسأله بصوت أجش في الظلام: "إلى أين تجري يا ولد؟".

يتنفس.

ينكس رأسه، ويرتطم بفراش سريره الصغير. يا الله. اللهاية البلاستيكية تحت وجهه. وهو يفهم كل شيء، سمك البلمة الحكيم - يلف رأسه، ويتناول اللهاية بشفتيه ويمتصها. لو تعب من اللهاية، يتسرب صوت لدن - تسقط. ويتنفس مجددا.

أستنتج من تنفسه، أنه لف رأسه ليواجه بنظره الظلام: لا يمكنني أن أرى... وأريد أن أنام.

"إغنات*، أنت عفريت". أقول بتكبر.

يغرق بالصمت لدقيقة من الوقت ويصغي: أنى لي أن أعلم من أين ذلك الصوت؟.

رأسي ثقيل مثل أرقطيون مبلول في الخريف - لا شيء يلتصق به، ما عدا النوم، يجره للأسفل، نحو الوحل اللزج.

في البداية أشعلت النور حينما استيقظت على لهاثه - وأسعده ذلك. كل ليلة نتكلم حتى الفجر ونحن على الكنبة. أضع ابني بجواري، ونتكلم. هو يقطب وجهه، فأضحك، وأحتفظ بفمي مطبقا، كي لا أرعبه. ولكن الآن لم أشعل النور، فقد كنت متعبا.

ولا أذكر اللحظة التي يغط بها في النوم، لأنني أكون قد فقدت وعيي قبل ذلك.

أفيق مرة في الليل، أحيانا مرتين - وأكون مجللا برعب الخطيئة الأبوية: أين هو؟ ماذا هناك؟ لا أتمكن من سماع لهاثه.

ولكن بوغ النور، وانحسر الظلام - أجر الغطاء عن السرير لأراه هناك: وجهه يشبه درنة البصل، وهو يخرخر بهدوء. أود أن أقبله حينما يفيق. ألامس خديه بشفتي، وأمتلئ بحليب محبوبتي، وتغمرني فورة من البهجة.

يا إلهي كم هو رقيق. مثل داخل بطيخة. وأنفاسه... تتفتح أمامي بشكل ورود جميلة في الربيع - ابني ينفخ بوجهي، وهو متوهج كأنه في قداس.

رفعته لما فوق رأسي - تدلى خداه المنتفخان، وسال لعابه على صدري. وناغيته ليضحك. هل تعرف كيف هو الضحك؟. مثل الخراف: باع- ع - ع.

أرميه بتؤدة إلى الأعلى، دون أن أمد ذراعي. فلا يضحك. ويلتفت برأسه: آه، هنا أنا أعيش...

أناغيه وأقول: "هيا يا إغناتكا انخر كالخروف". ولكنه لا يفعل. فهو متعب من الاهتزاز، ويشرف على التجهم.

أضع ابني على صدري، فتركل قدمه بطني. يرفع نفسه إلى الأعلى مستعينا بكوعيه، وينظر إلى رأسي. يتعب من ذلك، ويخفض رأسه: ما يشبه لحية قريبة. لحية لافتة - للانتباه. وأتمنى أن أجد طريقة لأقضمها بأسناني.

أربت على رأسه الدافئ. ويبدو كأنه مغلف بدهن طري.

ألاعب الطفل وأتأمله حتى تصحو عزيزتي في الغرفة المجاورة.

لدينا شقة واسعة، تتكون من غرفتين رحبتين بسقفين مرتفعين يفصل بينهما ممر. في الغرفة الثانية وعلى الطبقة السفلية من سرير يتألف من طبقتين، تنام عزيزتي. أرسلتها إلى هناك في المساء كي تكسب بعض النوم. وفي الطبقة العلوية ابني الأكبر، بعمر خمس سنوات. لديه طبيعة ملائكية وعيناي. اسمه جليب.

استيقظت، زهرتي، ورأيتها تعيد الثقة لي وتهدئني. ثم اقتربت مني بخجل. قالت: "هل حصلت على أي قسط من النوم؟".

لم تكن تسأل عني، ولكن عنه. إن لم يكن نائما، لا بد أن أحصل على حصتي من الأحلام. قبلتنا بالدور، ولكن قبلته هو أولا. وهمست له بكلمات رقيقة وعاطفية. وابتسمت لي. ثم وضعت راحتيها تحت صدرها - كانا ثقيلين، ويمكنني رؤية ذلك.

قالت: "امتلأ".

أجبتها: "سيشرب كل شيء ويريحك. ولن يتأخر عن ذلك".

لم يكن يبكي، ولا حتى في حالة الجوع. ولكن أحيانا يئن، ودون أي دموع، كما لو أنه يشتكي ويقول: أنا أستلقي هنا وحدي. يا صحاب. هل يوجد صعوبة بشيء من التسلية؟ على سبيل المثال أنا أحب تأمل رفوف المكتبة، كلما حملني أحدكما قبالتها. تعجبني ألوانها الكثيرة.

وحينما ولد، لم يكن يبكي أيضا. ولاحظت ذلك بنفسي، كنت موجودا. لم يبك في المستشفى أيضا، وفي أيامه الأولى في البيت كان يتمدد بهدوء وينظر بتمعن للعالم. وفي اليوم الثالث فقط من حياتنا المشتركة، وحينما توجهت إلى المطبخ لأتحرى عن حساء اليخنة، سمعت صوت طفل غاضب يصيح.

أسرعت نحوه - واستنتجت بسرعة ماذا يجري.

سألت عزيزتي وأنا أخفي الابتسامة: "هل قمت بقرصه، أيتها العاهرة الصغيرة؟".

ردت: "اعتقدت أنه أبكم".

نسيت - ما أن أعول حتى انطفأت عيناه.

انزعجت عزيزتي من مزاجه الطيب على الدوام، فأسرعنا كلانا إلى الدكان، وتركنا الطفلين في البيت. واشترينا البسكويت المحلى لماما والنبيذ المر للوالد. وحينما رجعنا، سمعنا عويلا فظيعا، وبصوتين.

أسرعت أطير على السلالم، وكان حذائي يرتطم بالممر - كان ابني الأصغر يصرخ في سريره، وبصوت مبحوح، وابني الأكبر قد حبس نفسه في دورة المياه، ليفجر رأسه بالصراخ.

قال الوالد للابن الأصغر: "عزيزي إغناتكا".

وقالت الوالدة للأكبر: "عزيزي غليبوشكا".

ناح جليب وهو يدفن رأيه في بطن عزيزتي وقال: "ماما ساعدي اغناتكا. لا يمكنني أن أتحكم به".

شعر بالأسف لأخيه.

سيظهر جليب حالا، وهو يتجول بساقيه الطويلتين والمعوجتين، هذا هو ابني المتألق.

وسنجتمع جميعا، ثلاثة رجال وبنت واحدة. وهي مسرورة جدا لوجودنا نحن الثلاثة برفقتها. لم ترغب عزيزتي أن تلد أحدا يشبهها. ربما لأنها نفسها فتاة غريبة وعنيدة، حتى قبضت بيدي القوية على معصمها ومنحتها ابني الذي يجب أن تحمله - قمت بحقنه في لامبالاتها الصبيانية وشديدة العزيمة، ولكن كان ذلك مفيدا لوضعها البشري. والآن يقوي ويعمق الأولاد حبنا. وغالبا ما كان جليب يقول: "يجب تقسيم الخطيئة إلى نصفين".

أحيانا يسرع إلى أمه - ويقبلها بتعجل، ثم يهرع نحوي، ويقبلني أيضا.

كما لو أننا نتبادل القبلات للمصالحة - نحن لا نجلس في زوايا متنافرة من المطبخ دون سبب. وماذا علينا أن نفعل بعد ذلك؟ ثلاثتتا نضحك معا ونجري لنجيب على دعوة اغناتيكا للصلاة.

يقول دون أن يتكلم: لقد نسيتونني.

وينقل إلينا فكرته بهذا الشكل:

"إيفاو. جا**". وشيء آخر، متجنبا الحروف المعروفة.

ونقارن كيف كان الأول يكبر مع نمو الثاني حاليا. مختلفان جدا. الأكبر يحب النظام، يأكل بأوقات معينة، وينام لساعات محددة، ويستيقظ بإيقاع وقت منضبط محسوب بالدقيقة. أما الأصغر فلا يهتم بالدقة والمواعيد. ومهما بذلنا من جهد لتعليمه لا يتجاوب. يستيقظ وينام كلما رغب بذلك. وربما ينام خمس عشرة مرة باليوم، أو يطلب ثدي أربع مرات في ثلاثة أيام. تتحكم به قوانينه الداخلية، وهذا ينفعه - وأهم شيء أن يكون بمزاج طيب.

الأخ الأصغر صديق للأكبر. على سبيل المثال مهما لاعبت الصغيرلم يكن يضحك كثيرا. ولكن حالما يأتي جليب يحضر الصغير نفسه ليلعب وتقريبا يقفز على بطنه، كما لو أنه يريد أن يثب مثل ضفدع ذكي - من السرير إلى الكنبة، ومن هناك إلى الأرض. باشر جليب بالوقوف على رأسه، أو عجن الوسادة - ضحك إغنات بقوة حتى خشيت عليه.

والأهم ما أن دخل الأبوان الغرفة حتى جمدت الضحكة: لا تتدخلا، نحن نسلي أنفسنا هنا،

كان ابنانا متقاربين، ومتفاهمين، كما لو أنهما من قبيلة واحدة، بينما أنا وحبيبتي من قبيلة أخرى. ربما هي قبيلة مشابهة، ولكنها غيرها. وطبعا هي قبيلة ودودة. حتى أنها تكرمنا وتحيينا. ويسعدها أن تحترمنا. وإلا لماذا هذه القوة والصحة وحب التنظيم؟ هل يجب إقامة علاقة تبادل منفعة؟ وإلا انتهى كل شيء بسرعة.

شخر اغنات أمام الصدر المليء بالحليب.

لقد جفف حبيبتي. هذا المتوحش الصغير الأبيض. كان يقبض على صدرها برقة بيديه، كما لو أنه يخاف أن يهدر منه شيئا. وأحيانا يلتفت كأنه يقول: آه، الحليب لا يتدفق.

والآن ظهر أخوه. كان وجهه مخدرا بالنوم. وذراعاه تتدليان على جانبيه، وغصن الصباح متوتر تحت سرواله.

قال: "صباح الخير يا جليب".

قال: "صباح الخير يا بابا. صباح الخير با ماما".

واتجه إلى اغنات ولامس أذنه.

قالت أمي: "إ ش ش. لا تزعجه".

كان يرتاح لإزعاجنا ولقطع طريقنا، ويتململ دون توقف، ويوجه الأسئلة، ويجيب عليها، ويتفلسف، ويلقي التعليقات، ويصل لنتائج عامة وبعيدة- أبعد من أحكامه، ومن خبراته، وفهمه.

وشعر بتبدل في مزاج والديه بدقة ثابتة، مع علامة خفيفة تدل على التحير من والده، حيرة تحولت بالضرورة إلى حنق - إن لم يكن إلى ألم.

قال: "لا ترد يا بابا".

قلت بصوت بارد: "أنا لم أرد بعد يا جليب".

قال بثقة مفرطة: "بل فعلت...".

لا يمكن الاختباء من ثقته، ولا يمكنك الالتفاف من حولها، والقفز من زاوية أخرى، وأنت تحضن سخطك المضمون بسبب وجهك غير الحليق. فأنت حين تلتف من حوله، تنسى طعم السخط ولونه، ومن أي بكتريا على سطح الأرض جاء.

وخاطبت عزيزتي جليب كأنه معجزة، كرجل حكيم، كما لو أنه ليس وردة صغيرة على ساقين طويلتين، ولكنه سيرافيم حكيم.

قال: "ماذا تعتقد يا جليبوشكا، هل أنا أتصرف بانضباط؟".

أو - في متجر اللوازم النسائية:

يقول: "ما هي القفازات الأفضل يا جليبوشكا، تلك ذات القفل أم التي دون قفل؟".

أحبوه في روضة الأطفال، وتقبله الأولاد في باحتنا - مع أنهم أكبر منه بسنتين، وثلاثة أو حتى أربعة، كانت الفتيات الفاتنات الصغار وخلال مشاوير العائلة إلى الدكان، تلقين التحية على جليب، من نوافذ المأوى بطريقة ساخرة ولكن رقيقة لحد عجيب:

كانت الفتاة الشقراء ذات الوحه الرقيق تقول لزميلتها: " انظري. هذا جليب". ثم تردف: "مرحبا جليب".

قالت البنت الثانية بمرح: "مرحبا يا جليب".

نظرتا إليه كما لو أنهما عاشقتان. حتى أنهما لم تنظرا لي. اللعنة. كذلك لم تنظرا إلى والده.

رد جليب على البنت بهدوء، ونظر إلى سعادتهما على أنها شيء مؤكد.

سألته عزيزتي حالما ابتعدنا عن البنتين: "من هما يا جليب؟".

أخبرنا باسميهما - فيكا وأوليسيا. هذا فقط. لا مزيد من المعلومات عنهما.

وسمعتهما مرة تتكلمان - في أرض الملعب في الباحة. تجاوزت السور الخشبي ولاحظت أن الجميلتين تضحكان، وتنظران إلى جليب - ليس بتهكم، بالطريقة التي تسخر بها الصبايا من الصغار، ولكن من القلب. وتابع جليب، بانتظار أن تتوقفا عن الضحك، رواية قصته، وعلاوة على ذلك أضاف شخصيات جديدة.

وعلى ما يبدو لي أن معجمه كان أوسع من معظم الشباب الذين هم بعمر هاتين البنتين. وكلما عبرت من جانب المساكن، أرى ذكورا عند المدخل يدخنون السجائر - فتلح علي فكرة مقاطعة همهمة أحدهم قائلا: ألا يقلقك أنك بلغت عشرين عاما ولا تزال غبيا؟.

ربما أنا أتقدم بالعمر، ولكن لست سريع التحسس. منذ عشر سنين شربت كمية كبيرة جدا من المشروبات الكحولية مع شباب مثل هؤلاء - وفي تلك الفترة كنت أعتقد انهم أصحاب رائعون.

أنا أتقدم بالعمر، ولكن لا أطارد البنات اللواتي تعجبن بجليب وهو في أرض الملعب. حينما كنت أرى نفسي والدا حنونا يجلس على منصة مجاورة وعلى شفتيه كلمات حمقاء مثل: هل استمتعتن بأوقاتكن هناك؟- كلما تذكرت ذلك المشهد، أقطب وجهي باشمئزاز.

ولكن لم أبلغ حتى الآن ثلاثين عاما.

لم أبلغ ثلاثين عاما مع ذلك تغمرني السعادة.

ولم أفكر بهشاشة الحياة. ولم أبك خلال سبع سنوات - منذ اليوم الذي أخبرتني فيه عزيزتي أنها تحبني وتود أن تكون زوجتي. وبعد ذلك لم يعد عندي سبب للبكاء، ولذلك كنت أكثر من الضحك، وغالبا ما أبتسم في قارعة الطريق - لأفكاري، وللأعزة، الذين تدق قلوبهم الثلاث برشاقة مع إيقاع سعادتي.

ربت على ظهر عزيزتي، وعلى رؤوس أبنائي، وكذلك ربت على خدي غير الحليقين، كانت راحتا يدي دافئتين، وخارج النافذة ترى الثلوج والربيع، الثلج والشتاء، الثلج والخريف. هذا هو موطني. ونحن نعيش فيه.

ولكن أحيانا يفسد ابني الأكبر مزاجي بصوته، الملح كلصاقة وبقول: "أمي هل الجميع يموتون، أم ليس الجمبع؟".

قالت: "الجسد هو الذي يموت وحده يا بني. أما الروح فلا تفنى".

رد: "هذا لا يروقني".

كنت أتجنب هذه الأحادبث وأدخن في الممر.

عبث، كأنني أجمد عمدا حركة أفكاري، وأحدق بالجدار.

تبادر هذا إلى ذهني لأول مرة حينما كنت أكبر من عمره الحالي بقليل -ربما حين كنت في السابعة.

في قريتي الرمادية، والتي تصبح وردية قليلا في المساء، علقت فأسي الصغيرة برقائق الحطب المبعثرة على جذع قوي، حينما حلت هذه الفكرة دون توقع على قلبي الصغير وغلفته بالبرد الصامت - وبسبب الرعب الذي بلغ مرحلة الغضب أصبت أصبعي، وقصفت الظفر نصفين.

وخشيت أن أفزع جدتي، وكانت تقلب القش في مكان بعيد، أخفيت رأسي، وطويته بقبضتي والسبابة ممدودة، وكانت تقطر بالدم وتؤلمني جدا.

توقعت جدتي - أناديها "يا جدة"- مباشرة أن شيئا لا يسر قد حصل. وأسرعت تجري نحوي، وتسأل:

"عزيزي... ما الأمر؟ ماذا جرى... يا عزيزي؟".

لويت شفتي، وانحدرت دموعي - سالت وهبطت على طرفي وجهي الطفولي، وهو انعكاس غالبا أحاول أن أجده بوجوه أبنائي.

ضمدت الجدة أصبعي، ولم أخبرها عن أي شيء، ولم أفش الخبر لأحد في كل حياتي، وتوقفت تماما عن التفكير به.

الموت، مزعج مثل وجع الأسنان، وتذكرته فقط حينما سمعت ابني، ولكن نسيت حادث الفأس كله - لكنه عاود الظهور في ذاكرتي فجأة مع انقباض في القلب، وشعور بنزيف في البدن، وذلك حينما أخبرتني عزيزتي تقول: "وصلتنا مكالمة. تؤكد أن الجدة ماتت. الجدة".

القرية التي عشت فيها بعيدة جدا. وتحتاج لفترة طويلة لتصل إليها، والقطارات لا تذهب إلى هناك. ذهبت إلى موقف السيارات، نحو سيارتي الكبيرة البيضاء.

هناك كومة كبيرة من الثلج قرب الموقف، أنفقت فترة هامة في تنظيفها بالجاروفة، وسرعان ما تبللت وغضبت.

ثم استعملت عتلة حديدية لكسر الجليد الذي كان يبدو كأنه ينزلق إلى أرض الموقف. وترامى الجليد المكسور بشكل قطع حادة وغريبة فوق الثلج وعلى الإسفلت المكشوف.

وأمضيت فترة طويلة أسخن السيارة، وأدخن وأتعرق، وأستنزف طاقتي، وأتحول لقطع وأجزاء مكسورة - والتمعت شظية من جبين أبيض في المرآة الأمامية، ثم ظهرت من النافذة يد متجلدة بيضاء تحمل سيجارة.

بعد عشر دقائق انسحبت من الموقف، وأنا أسمع صوت الجليد وقطع الثلج تصر تحت الدواليب.

حل الظلام تماما، وأصبح من الواضح أنه يتعين علي أن أقود طيلة الليل لأتمكن من مساعدة جدي في تنظيم الجنازة.

أسرعت إلى البيت، وخرجت عزيزتي لتلقاني وتراني وأنا أنصرف، وبذراعها اغناتكا، وجليب يقف بجانبها، وشفتاه ترتعشان. لم يحتمل ذلك، واعترض وهو يبكي على انصرافي. وخاف الطفل من بكائه، وبدأ يعول عويلا ثاقبا.

شعرت بالانهيار، وهبطت على السلالم، وسمعت صوت قلبي - أصوات الولدين المؤلمة، وخفت من احتمال صوت ثالث يبكي بالإضافة لهما.

شتمت قائلا: "اللعنة. ما مشكلتك". خبط باب السيارة، ونسيت إشعال الضوء الأمامي. وكالسهم عبرت الباحة تحت جنح الظلام. وحينما أشعلت النور، رأيت كلبا يعدو وهو يتلفت حوله بذعر. كبحت الفرامل، وانزلقت السيارة. أدرت المقود باضطراب بالاتجاه المعاكس، وضغطت على عداد السرعة، وهكذا انطلقت كالرصاصة في الشارع الفارغ.

بعد نصف ساعة، هدأت قليلا، ولكن الشارع كان فظيعا. كان الثلج المتواصل ينهمر ويذوب ويتحول إلى جليد متماسك غطى الزجاج الأمامي على الفور. وكل نصف ساعة كنت أضطر للتوقف، وأخرج في الظلام البارد والمزعج، لأكشط الثلج المتجمد من أجزاء لم تكن المساحات الزاحفة تصل إليها.

لم يكن هناك ضباط عند نقاط التفتيش، وكان عدد السيارات القادمة من الاتجاه المعاكس يقل باضطراد. وقد تجاوزتتي عدة مرات، وكنت أضغط على البنزين لأتوازى مع إحداها، ولكن دون إرادتي كنت أتخلف عنها بمائة متر. وعاجلا ما تلتف هذه السيارات نحو يسار الطريق أو يمينه، باتجاه قرى على الطريق، وفي النهاية، رأيت نفسي وحدي، وسط الثلوج وفي هضبة روسيا الوسطى، على الطريق الذي يصل نيجني نوفغورود مع قرية ريازان. وأحيانا كنت أتكلم بصوت مسموع، ولكن لم ينجح الحوار، فسقطت بالصمت.

أنت تتذكر كيف كانت الجدة تأتيك بالشاي في الصباح، مع البسكويت والزبدة المحلية.. فتستيقظ وتشرب، وتشعر بالدفء والسعادة..

لا أتذكر.

بل أنت تتذكر.

حاولت إبهاج نفسي. وأن أمنع نفسي عن مزيد من الأحزان، أو التخاذل، أو الانمحاء بألم وفظاعة.

تذكر: أنت طفل. أنا طفل. وجسمك لا يزال ضعيفا وبليدا. جسمي. تذكر...

كانت الجدة بالجوار، وكانت تحبني دون حدود. وكانت حريصة ورقيقة. ومن حولي العالم، وكنت أذرعه بخطوات صغيرة، مع إيمان راسخ أنه حالما أكبر سأكتشفه كله. كنت أتكلم مع الجدة كثيرا. وكانت تلاعبني وتغني لي، وكنت أحبها كثيرا. ولكن كل ذكرياتي الحية ابتعدت فجأة عن العقل والمنطق، ولم تبق حادثة مفرحة واحدة من الماضي القريب، كلها فقدت الحيوية والدفء. ثم زعقت المكانس وأضاعت تلك الذكريات وألعدتها عن زجاج السيارة الأمامي.

كان الطريق يتلوى عبر غابات موروم***.

وكانت فيها جداول صغيرة لا تحصى مغطاة بالجليد، وتتخللها القرى المحرومة من أي ضوء مشع وملتهب.

أردت أن أشاهد على الأقل ضوء الشارع - ليغمز لي بترحيب - ولكن من يرغب بنور الشارع غيري.

وتابعت السيارة رحلتها بثبات، مع أن الطريق، كما أرى وأشعر، كان زلقا، وغير واضح ولم تهب عليه ذرات الرمال.

بعد عدة ساعات بلغت تقاطعا - وانتهى طريقي بأتوستراد بأربع معابر. وهنا أخيرا رأيت شاحنة هائلة الحجم قادمة من جهة اليسار، وأسعدتتي رؤيتها، لأنني لست تائها وحدي في هذه الأرض المتجمدة - هنا يوجد سائق شاحنة ينطلق إلى الأمام بسرعة قصوى.

كانت شاحنته فارغة، ولذلك لم يكن مرعوبا من شرطة المرور ولا من الشيطان، ولربما أسعدته رؤيتي...

هكذا فكرت وانا أضغط على الفرامل لأسمح للشاحنة بالعبور، ولكن الطريق لم يسمح لسيارتي بالتوقف، والدواليب لم تتمسك بالإسفلت. حتى الرياح، على ما يبدو، كانت تهب على زجاج السيارة الخلفي، وتدفعني، وتضع جسمي كله في عربة دافئة تختنق بالدخان وتحت تأثير لطمة هائلة.

إيفاو. جا. Ivau! Ga

صباح الخير يا بابا...

تمسكت بعلبة السرعة، وحركتها من وضعها المحايد إلى السرعة الثانية، ثم إلى الأولى - وحاولت أن أضغط على الفرامل بتلك الطريقة. اهتزت السيارة. لبعض الوقت بدا أنها تباطأت، ولكنني كنت قد أصبحت على الأتوستراد. وأنظر إلى الأمام بغباء، أتأمل الفراغ وهطول بلورات الثلج الأبيض. من وجهة اليسار، وجهي، المعكوس على المرآة الصغيرة بهيئة طائشة، كان يسبح بدائرة كبيرة من الضوء.

لم يبطئ السائق، ولكن أدار المقود وتحرك بسرعة إلى المعبر المعاكس والفارغ. وارتطمت الشاحنة وذيلها الطويل يتموج وراءها، وتابعت الحركة أمام نظري، وتجاوزت سيارتي بما ينوف على نصف متر.

وعندما اختفى الرجل الأخضر العملاق، داخل زوبعة من الغيوم الثلجية، أدركت أنني لا زلت أتأرجح ببطء. وأنني أحرك المقود بهدوء، مثل طفل يمثل دور سائق.

عبرت الشارع بالسرعة الأولى. وتابع قائد الشاحنة بالاتجاه المعاكس لحوالي مائة متر، ثم عاد إلى معبره، دون توقف، وأخبرني أنني... أنني ميت.

فتحت النافذة قليلا وتابعت بالسرعة الثانية. ثم الثالثة. وتقريبا قفزت بها إلى السرعة الرابعة مباشرة.

***

........................

* اختصار اغناطيوس.

**Ivau. Ga

*** مدينة روسية.

زاخار بريليبين Zakhar Prilepin: كاتب وسياسي روسي معاصر. شارك في حروب الشيشان وكتب عنها. من أهم أعماله رواية "سانكا" التي ترجمها إلى العربية تحسين رزاق جاسم ونشرها مشروع كلمة، في أبو ظبي. وهذه الترجمة فصل من رواية قصص بعنوان "خطيئة". تدل قصصه على روح إنسانية ووطنية وعلى إحساس شعري وبشري بالحياة وبالأرض وبروسيا الأم. تقول أولغا زلبربورغ - من بطرسبورغ عن بريليبين: إنه كاتب إشكالي. ويتحرى متابعة وخلق الأزمات. وتعتبر روايته "سانكا" من الأعمال التقليدية المعارضة التي أثارت عدة زوابع حول الوجود الروسي في العالم. ومفهوم الأنوثة والذكورة في المجتمع. وقد يفهم من كتاباته أنه لا يشجع على استضافة الأجانب في الأوساط الروسية. فهو انتقائي وينطوي على تاريخ الشعوب السلوفينية لدرجة الانغلاق.

بقلم: إدغار ألِن بو

ترجمة نزار سرطاوي

***

صحيح! – كنت متوتّرًا – متوتّرًا بصورةٍ مريعة، كنت ولم أزل. لكنْ لِمَ ستقولون إني مجنون؟ لقد شحذ المرضُ حواسّي – ولم يدمّرْها – ولا أضعفْها، خصوصًا حِدّةَ حاسةِ السَمْع. سمعت الأشياءَ كلَّها في السماء وفي الأرض. سمعتُ أشياءَ كثيرةً في الجحيم. فكيف إذًا أكون مجنونًا؟ أنصِتوا! ولاحظوا كيف أني قادرٌ على أن أحكي لكم القصةَ من أولها إلى آخرها وأنا بكامل عافيتي وهدوئي.

من المستحيل أن أصفَ كيف دخلَتِ الفكرةُ عقلي في البداية. لكنْ بمجرد أن استوعبتها، راحت تطاردني ليلَ نهار. لم يكن ثمّة هدف. ولم يكن ثمّة تَعلُّق. لقد أحببتُ الرجلَ العجوز. ولم يحدثْ أن أساء إليّ قطُّ أو وجّهَ إليّ أيةَ إهانة. ولم أكن أطمعُ فيما لديه من ذهب. أظنّ أنها كانت عيْنُه! نعم كانت هيَ! كانت إحدى عينيه تشبهُ عينَ النسر – عينٌ زرقاءُ شاحبةٌ فوقَها طبقة. كلما وقَعَتْ عليّ عيناه، جرى الدم باردًا في عروقي. وهكذا خطوةً خطوة – بشكل تدريجي – اتخذت قراري بإنهاء حياةِ الرجلِ العجوز، وبذلك أريحُ نفسي من العين إلى الأبد.

المسألة الهامة هي هذه. أنتم تتصوَّرون أنّي مجنون. المجانين لا يعرفون شيئًا. ولكن لو رأيتموني. لو رأيتم حكمتي في التصرف – كم كنتُ حَذِرًا – كم كنتُ بعيدَ النظر – كم كنت مُرائيًا حين شرعتُ في العمل! لم أكن أبدًا أعامِلُ الرجل العجوز بعطفٍ أكثر مما كنت أفعل خلال الأسبوعِ الذي سبق قتلي إياه. وفي كل ليلةٍ في حوالي منتصف الليل كنت أدير مزلاجَ بابه وأفتحه – آه، بكل لطف! وبعد ذلك، عندما تكون الفتحةُ كافية لإدخال رأسي، أدخِلُ مصباحًا مُعتِمًا مُغلقًا، مغلقًا كي لا يَصدُرَ عنه أيُّ ضوء. ثم أدفعُ برأسي. آه، كنتم ستضحكون لو رأيتم كيف كنت أدفعُ بهُ بطريقةٍ ماكرة! أُحرّكُه ببطء - ببطءٍ شديد، حتى لا أقلِق نومَ الرجل العجوز. استغرق الأمر مني ساعةً لأدخِلَ رأسي كاملًا عبر الفُتحة لأتمكن من رؤيته مستلقيًا في فراشه. ها! – هل كان في مقدور المجنون أن يكون حكيمًا هكذا؟ وبعد ذلك، عندما أدخِلُ رأسي بكامله في الغرفة، أعمدُ إلى فتحِ الفانوس بحذر – آه، بحذرٍ شديد – بحذرٍ (لأنّ المُفَصَّلات كانت تُصدِر صريرًا) – أفتحُه قليلًا بما يكفي لشعاعٍ رفيعٍ واحدٍ أن يسقط على عينِ النسر. كرّرْتُ هذا الفعلَ لسبعِ ليالٍ طوال – كل ليلة في منتصف الليل – لكنني كنت أجدُ العين دائمًا مغمَضةً. لذا كان من المستحيل القيام بالعمل، لأن الرجلَ العجوزَ لم يكن هو من يثيرني، بل عينُه الشريرة. وفي كل صباحٍ مع بداية النهار، كنت أذهبُ إلى الغرفة بكل جرأة وأتحدثُ إليه بجسارة، مناديًا عليه باسمه بنبرةٍ حانية، وأسأله كيف قضى ليلته. لذا لا بد أن يكون شيخًا عميق التفكير حتى تساورَه الريبةُ في أني كنت كلَّ ليلةٍ في تمام الساعة الثانية عشرة أطيلُ النظرَ إليه أثناء نومه.

في الليلة الثامنةِ كنت أشدَّ حذرًا من المعتاد في فتح الباب. عقربُ الدقائق داخلَ الساعة يتحرك بسرعةٍ أكبرَ مما كان يتحرك في ساعتي. لم يسبقْ لي أن أحسستُ قبل تلك الليلةِ بمدى قوتي – قوةِ حصافتي. أكاد لا أقوى على احتواء شعوري بالانتصار، أن أتصوّر أنني هناك، أفتح الباب شيئًا فشيئًا، وهو لا يتخيّل أفعالي أو أفكاري الخفيّة حتى في أحلامه. ضحكت قليلًا حين راودَتْني تلك الفكرة. وربما سمعني. إذ أنه تحرّك فوق السرير بغتةً كأنما أصابه الفزع. قد يخطر ببالكم الآن أنني تراجعت – لكن لا. كانت غرفتُه سوداءَ كالقار في الظلمة الحالكة، (إذ أن المصاريع كانت مقفَلَةً بإِحكام خوفًا من اللصوص،) ولذا أدركت أنه لم يكن بإمكانه أن يرى فتحة الباب، فواصلت دفعَه بلا توقف.

كان رأسي في الداخل، وكنت أوشك أن أفتح الفانوس، عندما انزلق إبهامي على القفل القصديري، ونهض الرجل العجوز من الفراش صائحًا – "من هناك؟"

تجمّدتُ في مكاني ولم اقل شيئا. لساعةٍ كاملةٍ لم أحرك عضلةً واحدة، وفي الأثناء لم أسمعْه يستلقي. كان لا يزال جالسًا على الفراش يتنصّت – كما كنت أفعل ليلةً إثرَ ليلة، أستمع لساعاتِ الموت المعلقةِ على الجدار.

بعد قليلٍ سمعت أنينًا خافتًا، وعرفت أنه كان أنينَ الفزعِ الشديد. لم يكن أنينَ ألمٍ أو حزن – كلا! – بل كان الصوتَ الخفيضَ المخنوقَ الذي ينبعث من أعماقِ الروحِ عندما تملأها الرهبة. أعرف ذلك الصوتَ جيدًا. وكم من ليلةٍ، حين كانت الدنيا كلُّها نائمةً في منتصف الليل، كان يتدفق خارجًا من صدري وبصداه الرهيبِ يعُمّقُ الذُعرَ الذي يُشَتّتُ ذهني. أقول إنني كنت أعرف ذلك جيدًا. أعرف ما يشعر به الرجل العجوز، وأشفق عليه، على الرغم من أنني كنتُ أضحكُ في سِرّي. كنت أعلم أنه كان يستلقي مستيقظًا منذ أن سمعَ أوّلَ ضجيجٍ خفيف، عندما تقلّب في فراشه. كانت مخاوفُه تتزايد منذ ذلك الحين. كان يحاول أن يتصوّرَ أنها كانت بلا مبرر، لكنه لم يستطع. كان يقول في نفسه – "إنها ليست سوى الريحِ في المدخنة – إنه مجردُ فأرٍ يعبر الغرفة"، أو "إنه مجردُ صرصارٍ هسهس مرةً واحدة." نعم، كان يحاول أن يُطمئن نفسه بهذه الافتراضات: لكنه وجد أن كل ذلك كان بلا جدوى. بلا جدوى لأن الموت في اقترابه منه راح يتهادى أمامه بشبحه الأسود، ثم غشِيَ الضحية. وكان التأثيرُ الكئيبُ للشبحِ اللامحسوسِ هو ما جعله يشعر – مع أنه لم يرَ أو يسمع – يشعر بوجود رأسي داخل الغرفة.

بعد أن انتظرت وقتًا طويلاً بكلِّ صبر، دون أن أسمعَه يستلقي، قررت أن أفتح فُتحةً – فُتحةً بالغة الصِغر في الفانوس. لذلك فتحته – لا يمكنكم أن تتخيلوا كيف فعلت ذلك بخفّة، بخفّة – إلى أن انطلق من الفتحةِ أخيرًا شعاعٌ واحد خافت مثل خيط العنكبوت، وسقط على عين النسر.

كانت مفتوحةً – مفتوحة على أقصى تساعها – واجتاحني الغضب عندما حدّقْت بها. رأيتها بوضوحٍ تامّ – زرقاءَ باهتةً كلَّها، وفوقها حجابٌ شنيعٌ جعل البردَ يجتاح نخاعَ عظامي. لكني لم ستطعْ أن أرى أي جزءٍ آخرَ من وجه الرجل العجوز أو جسمه. فقد وجهتُ الشعاع كما لو كان ذلك بالفطرة، على البقعةِ اللعينة تمامًا.

ألم أقلْ لكم إن ما تحسبونه جنونًا ما هو إلا زيادةٌ في حدّة الحواس؟ – أقول، وصل إلى أذنيَّ صوتٌ خفيضٌ خافتٌ سريع، أشبه بالصوت الذي تصدره الساعةُ حين تكون مُغَلّفة بالقطن. كنت أعرف هذا الصوتَ جيدًا أيضًا. إنّه دقات قلب الرجل العجوز. وقد زاد من اشتعال غضبي، كما يستنهضُ قرعُ الطبلِ شجاعةَ الجندي.

لكن حتى تلك اللحظة أحجمتُ عن فعلِ أي شيءٍ وبقيت ساكنًا. بل إنني لم أتنفس إلا قليلًا. جعلت الفانوسَ ثابتًا لا يتحرك. حاولت ما أمكنني أن أثبّتَ الشعاعَ على العين. في غضون ذلك، تعاظمَتْ دقاتُ القلبِ الجهنمية. راحت تسرع أكثر فأكثر ويعلو صوتها أكثر فأكثر في كل لحظة. لا بدّ أن رعبَ الرجل العجوز كان في أوجه! أقول يعلو صوتُها أكثر في كل لحظة! - هل تَعونَ ما أقول جيدا؟ لقد أخبرتُكم أني متوتر، وأنا حقًا كذلك. والآن في الساعة الميّتة من الليل، وسطَ الصمت الرهيب لذلك البيت القديم، أثارَ مثلُ ذلك الضجيج الغريب فيّ رعبًا لا سبيل إلى السيطرة عليه. ومع ذلك أحجمتُ لبضعِ دقائقَ أخرى عن فعلِ أي شيء ووقفت ساكنًا. لكنّ ضرباتِ القلب ظلت تعلو أكثر فأكثر! تخيلت أن القلبَ لا بدّ أن ينفجر. والآن استحوذ عليّ قلقٌ جديد – أحدُ الجيران سيسمع الصوت! حانت ساعة الرجل العجوز! بصرخةٍ عالية فتحت المصباح وقفزت إلى داخلِ الغرفة. زعقَ مرةً واحدة - واحدةً لا غير. قمتُ بسحبه إلى الأرض، وسحبت الفراش الثقيل فوقه. ثم ابتسمت فرحًا أن أرى ما أنجزتُ من الفعل حتى تلك اللحظة. لكنْ، لبضع دقائقَ، ظلَّ القلب يدقّ بصوتٍ مكتوم. غير أن هذا لم يزعجْني. لن يسمعَه أحدٌ من خلال الجدار. وأخيرًا توقف. مات الرجل العجوز، مات تمامًا. رفعت الفراشَ وتفحصت الجثة. نعم، كان ميتًا، ميتًا تمامًا. وضعت يدي على القلب وأبقيتها هناك عدةَ دقائق. لم يكن ثمّة نبض. كان ميتًا تمامًا. لن تزعجَني عينُه بعد اليوم.

إن كنتم لا تزالون تحسبونني مجنونًا، فلن تحسبوني كذلك بعد الآن حين أصف لكم الاحتياطاتِ الحكيمةَ التي اتخذتها لإخفاء الجسد. اقترب الليل من نهايته، فرُحتُ أعمل بسرعةٍ ولكن بصمت. بدايةً قمت بتقطيع الجثة. فصلتُ الرأسَ والذراعين والساقين.

ثم تناولت ثلاثةَ عوارضَ من أرضية الغرفة، ووضعتها جميعًا بين الألواح الصغيرة. ثم استبدلت الألواحَ بمهارةٍ ومكرٍ شديدين، بحيث لا يمكن لأي عين بشرية - ولا حتى عينه - اكتشاف أي خطأ. لم يكن ثمّة ما يحتاج لأن يُغسل – لم تكن هناك أية بقعة – ولا نقطةِ دمٍ إطلاقًا. لقد كنت في غاية الحذر في تلك المسألة. فقد استوعبَتِ المغسلةُ كل شيء – ها! ها!

عندما أنتهيتُ من هذه الأعمال، كانت الساعة تشير إلى الرابعة – والعتمةُ ما تزالُ كما كانت في منتصف الليل. عندما دقت الساعة معلنةً تمام الساعة، سمعتُ طَرقًا على الباب الذي يُفضي إلى الشارع.  نزلت لأفتحَه وأنا أشعر بالفرح، – فما الذي أخافه الآن؟ دخل ثلاثةُ رجالٍ قدّموا أنفسهم في غاية اللطف على أنهم ضباطُ شرطة. كان أحد الجيران قد سمع صرخةً أثناء الليل، الأمر الذي أثار الشكوكَ في أن جريمةً قد وقعت؛ وصلت المعلومات إلى مكتب الشرطة، وتمّ تكليفهم (الضباط) بتفتيش المبنى.

ابتسمتُ، فما الداعي للخوف؟ استقبلتُ السادةَ بالترحاب. قلت إنّ الصرخة صدرت عني في المنام. وذكرت أن الرجل العجوز كان غائبًا في الأرياف. أخذت زُوّاري في جولةٍ في أنحاء المنزل كافّة. طلبت منهم أن يُفتشوا – أن يُفتشوا جيدًا. أخذتهم في الختام إلى غرفته. أطلعتُهم على كنوزِه، كانت في الحفظ والصوْن، لم يمسسها أحد. وفي اندفاع الواثق من نفسه أحضرت بعض الكراسي إلى الغرفة، وطلبت إليهم أن يستريحوا هنا من التعب، بينما أنا نفسي، بجرأتي الجامحة التي وَلّدها انتصاري المثالي، وضعت مقعدي فوق المكان عينِه الذي كانت جثةُ الضحيةِ ترقد تحته.

كان الضباط راضين. فقد أقنعهم سلوكي. أحسستُ براحة لا مثيل لها. وجلسوا، وفيما كنت أجيب بمرح، راحوا يتحدثون حولَ أشياءَ مألوفة. لكنْ، قبل أن يمضيَ الكثير من الوقت، شعرت أني أصبحت شاحبًا وتمنيت أن يذهبوا. شعرت بصداعٍ في رأسي، وتخيلت طنينًا في أذنيّ. لكنهما ظلوا جالسين يتحدثون. ازداد الطنين وضوحًا. –  استمر وصار أكثر وضوحًا: رحتُ أتحدث بحريةٍ أكبرَ للتخلص من ذلك الشعور. لكنه استمر وازداد قوةً – إلى أن اكتشفتُ أن الضجيج لم يكن في أذنيّ.

لا شك أنني أصبحت الآن في غايةِ الشحوب. لكني كنت أتحدثُ بطلاقةٍ وبصوت عالٍ. ومع ذلك، ارتفع الصوت – وما الذي كان في وسعي أن أفعله؟ كان صوتًا خفيضًا وباهتًا وسريعًا – يشبه إلى حدٍّ كبير الصوت الذي تصدره الساعة عند تغليفها بالقطن. شهقتُ لألتقطَ أنفاسي – ومع ذلك لم يسمعِ الضباطُ ذلك. رحتُ أتحدثُ بسرعة أكبر – بحدّةٍ أكبر؛ لكن الضجيجَ كان يعلو باطَّراد. نهضتُ وشرعت أجادل في أشياءَ تافهة بنبرةٍ عالية وإيماءات عنيفة. لكن الضجيجَ ظلّ يعلو. لمَ لا يريدون أن يرحلوا؟ بدأتُ أذرعُ الغرفةَ جيئةً وذهابًا بخطواتٍ ثقيلة، وكأنّ ملاحظاتِ الرجال قد أثارت حماسي إلى حد الغضب – لكن الضجيجَ ظلّ يعلو. يا إلهي! ماذا عساي أن أفعل؟ أرغيتُ وأزبدتُ – هذيتُ – أطلقتُ الشتائم! حرّكت الكرسيَّ الذي كنت أجلس عليه، جعلته يحتك بالألواح، لكن الضجيج علا في كل مكان وتزايد باطّراد. ازداد ارتفاعًا – أكثرَ – أكثرَ! الرجال ما زالوا يتحدثون بلطفٍ ويبتسمون. أيُحتملُ أنهم لم يسمعوا؟ يا الله! - لا لا! بل سمعوا! ! – ارتابوا – عرفو! - كانوا يسخرون من فَزعي! - هذا ما تصورته وهذا ما أعتقده. لكنْ كان أيُّ شيءٍ أفضلَ من هذا العذاب! كان من الممكن تحمّلُ أي شيءٍ أكثر من هذه السخرية! لم أعد أقوى على تحمُلِّ تلك الابتسامات المنافقة! أحسست أنه لا بد لي أن أصرخَ أو أموت! – والآن – مرة أخرى! – أصيخوا السمع! الصوت يعلو أكثر! أكثر! أكثر! أكثر! – "أيها الأوغاد!" صرختُ، "كفاكم تظاهرًا! أعترفُ أنني الفاعل! – حَطِّموا الألواح! – هنا هنا! - إنها دقّات قلبِه البشع!"

***

..........................

نبذة عن حياة الكاتب

ولد بو في 19 يناير 1809 في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس. تيتم في سِنٍّ مبكرة، فقد تخلّى والده عن الأسرة بعد سنةٍ من مولده. أما والدته فقد أصيبت بالسلّ وتوفيت في أواخر عام 1811، قبل أن يتم عامه الثالث. وإثر ذلك تبناه جون آلان وزوجته فرانسيس من ريتشموند بولاية فيرجينيا دون أن يمنحاه اسم عائلتهما. وكان جون تاجرًا ثريًا، وقد انتقل مع زوجته وبرفقتهما بو عام 1815 إلى إنغلترا. وهناك التحق بو بمدرسة داخلية، حيث تفوق أكاديميًا. وبعد خمسة أعوام عادوا جميعًا إلى ريتشموند، ليكمل بو دراسته. وقد أظهر ميلًا كبير إلى اللفة اللاتينية والشعر.

أراد جون أن يجعل من إدغار رجل أعمال مثله، لكن بو كان يحلم منذ طفولته بأن يصبح شاعراً. وقد كتب وهو في سن الثالثة عشرة ما يكفي من الشعر لتأليف كتاب. حدثت بينه وبين جون خلافات بسبب رفض الأخير أن يجعله ابنه بالتبني بصورة رسمية. وهكذا فإن بو بقي محتفظًا باسم عائلته الأصلي.

في عام 1820 التحق بجامعة فيرجينيا. وهناك انجذب إلى اللغة اللاتينية والشعر. لكن ارتباطه بالجامعة لم يستمر، حيث اضطر إلى المغادرة بسبب مشاكل مالية. وكان لحالته المالية تأثير كبير على علاقته بوالده بالتبني. إذ أن جون امتنع عن توفير أموال كافية لرسوم جامعته. وبسبب هذا التوتر بينهما غادر بو منزل جون سعيًا إلى تحقيق حلمه في أن يصبح شاعراً عظيماً.

في عام 1827 ، عندما كان عمر بو ثمانية عشر عامًا، نشر ديوانه الشعري الأول بعنوان "تيمور لنك." وبعد حوالي عامين، أصدر ديوانه الثاني "الأعراف"(1829).

التحق بو بالأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت. لكنه ُطرِد منها بعد ثمانية أشهر من التسجيل، وذلك بسبب مشاكله الماليه. وفي عام 1831، انتقل للعيش مع خالته ماريا كليم في بالتيمور بولاية ميريلاند. وهناك ارتبط بابنتها فيرجينيا إليزا كليم بالخطوبة، ثم تزوجها لاحقًا.

بدأ بنشر قصصه القصيرة وقصائده في عام 1833 في مجلة أسبوعية تصدر في بالتيمور. وبعد ذلك بعامين عمل محررًا لمجلة "المراسل الأدبي الجنوبي"، كما كان ينشر فيها إنتاجه الأدبي. وقد شكّل ذلك نقلة نوعية في حياته العملية. ففي غضون عام، بدأ يكتسب شهرة عالية من خلال قصصه ومراجعاته الساخرة للكتب. وكانت له مساهمات في مجلات أخرى.

في عام 1837 انتقل بو إلى نيويورك وفي العام الذي يليه إلى فيلادلفيا. واستمر في تقديم مساهماته في مختلف المجلات. لكن على الرغم من نجاحه وشهرته الصاعدة، ظل يعاني من الأزمات المالية.

في عام  1845 نشر بو قصيدته المطولة الشهيرة "الغراب". وفي العام نفسه نشر  كتابين. كما أنه كان يلقى محاضراتٍ تجذب أعدادًا كبيرة من المهتمين. وقد حاول إحداث تغيير في صناعة المجلات، وحاول أن يصدر مجلته الخاصة. لكنه لم يقدر على تحقيقه.

توفي بو في طروف غامضة في 7 أكتوبر 1849، ودفن في مدينة بالتيمور.

 

إيمانويل جيسي: يدي ملفوفة حول خصرها: هايكو

بقلم: إيمانويل جيسي كالوسيان

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1)

التجول في المساء:

يدي ملفوفة حول خصرها

لأول مرة

(2)

ثمة أضواء صفراء

انتشرت على مقربة من النجوم -

اليعاسيب

(3)

زمهرير

تفوح رائحة أخي الراحل

من غرفة نومه

(4)

حديقة أسماك في الربيع

يظهر إبني لقناديل البحر

كتاب اختباراته المدرسية

(5)

عبق الريح

ترحيب

بالهرمتان *

(6)

هجمات طائرات بدون طيار

يذهب طفلي إلى فراشه

حاملا بقايا حجارة

(7)

رجل بلا مأوى

ينظم مسكنه الجديد

مع قرب هبوب العاصفة

(8)

أمواج –

ثمة رجل يتبول

في المياه الراكدة

(9)

انقطاع التيار الكهربائي

شرعت حشرة السيكادا تغني

في الجوار

(10)

ضجيج صادر عن احتفال

لغو لغو لغو

دجاج

***

...................

* الهرمتان: ريح حارة جافة تهب على غرب أفريقيا من الصحراء الافريقية الكبرى.

- (إيمانويل جيسي كالوسيان): شاعر هايكو ومحرر نيجيري معروف عالميا. ولد في 8 شباط 1996 (بورت هاركورت – ولاية ريفرز). نشر قصائده في الدوريات والصحف الافريقية والدولية. أسس مع الشاعر الغيني (أدجيي أجيي باه) مجلة (مامبا) المعنية بالهايكو في أفريقيا. حصل على إشادة في مسابقة (فلاديمير ديفيدي) الدولية للهايكو 2015 ، وحل بالمرتبة الثالثة في مسابقة (كوكاي) الأوروبية في نسختها ال (12). مترجمة عن الإنكليزية: -

1 – Emmanuel Kalusian – The Haiku Foundation. https: // thehaikufoundation.org

2 – Haiku – a poem by Jessie Kalusian – All Poetry. https: // allpoetry. com

3 – Family Haiku – brass bell: a haiku Journal. http: // brassbellhaiku. blogspot. com

4 – Volume XVIII. Number 1: March 2016 – page 2 – The Heron’s Nest …. https: // www. theheronnest. com

5 – SPRING 2018 I home Wales Haiku Journal. https: // www. waleshaikujournal. com

6 – Afriku ‘ Mwamba. A gathering African pebbles I Ayush’s …. https: // medium. com

7 – Creatrix 31 Haiku – WA Poets Inc. https: // wapoets. com

بقلم: أنطون تشيخوف

ترجمة: نزار سرطاوي

***

"سيدي الطيب، من فضلك، ارأفْ بحال فقيرٍ جائعً. لم أذُقْ للزاد طعمًا منذ ثلاثة أيام. لا أملك خمسة كوبيكات للمبيت هذه الليلة. أقسم بالله! طوالَ خمسةِ أعوامٍ عملتُ مُعلِّما في قرية وفقدت وظيفتي بسبب مكائدِ زِمْسْتوف. كنت ضحيةَ شاهدِ زور. وها أنا الآن في المكان غير المناسب".

نظر سكفَرتسوف، المحامي من بطرسبورغ، إلى المعطفِ الأزرق الداكن الممزق الذي يرتديه المُتكلم، وإلى عينيه الموحِلتين المخمورتين، وإلى البقعِ الحمراء على وجنتيه، وبدا له أنه رأى الرجلَ من قبل.

تابع الشحاذ: "والآن عُرِضَتْ عليّ وظيفةٌ في مقاطعة كالوغا، لكنّني لا أملك ما يساعدني على السفر إلى هناك. ساعدني لو تكرّمت! أشعر بالخجل من السؤال. لكنْ... الظروف تضطرني".

نظر سكفَرتسوف إلى خُفّيهِ المطاطيّين. كان أحدهما قليلَ العمق مثل الحذاء، بينما الآخر عاليًاً يصل إلى ساقه مثل الجزمة، وفجأة تذكّر.

قال: "اسمعْ، التقيت بك أولَ أمس في شارع سادوفوي، ولم تخبرَني أنك معلِّمٌ في قرية، بل طالبٌ مفصول. هل تَذكر"؟

"لا، لا، لا يمكن أن يكون الأمر كذلك!" تمتم الشحاذ مرتبكًا. "أنا معلمُ مدرسةٍ في قرية، ويمكنني أن أريك الوثائق التي تثبت ذلك إن أردت."

"كفاك كذِبًا! لقد قلتَ إنك طالب، حتى أنك أخبرتني بالسبب الذي فُصِلتَ من أجله. هل تذكر؟"

احمرّ وجه سكفَرتسوف، وبنظرةٌ مليئة بالاشمئزاز أشاح بوجهه عن الكائن ذي الملابس الرثّة.

صاح غاضبًا: "هذا شيءٌ مُزرٍ أيها السيّد! هذا احتيال! سأسلمك للشرطة. عليك اللعنة! أنت فقيرٌ وجائع، لكن هذا لا يعطيك الحق في أن تكذبَ هكذا بلا حياء!"

أمسك الكائنُ ذو الملابس الرثّة بمقبض الباب وتجوّل بنظره في أرجاء القاعة بيأسٍ مثلَ طائرٍ وقعَ في فخ.

تمتم: "أنا ... أنا لا أكذب". "يمكنني إبراز الوثائق".

"من يصدِّقك؟" تابع سكفَرتسوف وهو ما يزال حانقًا. "تستغلُّ تعاطفَ الناس مع المعلمين والطلبةِ في القرى – هذا منتهى الانحطاطِ والدناءةِ والقذارة. إنه شيءٌ مثيرٌ للقرف!"

استشاط سكفَرتسوف غضبًا، وراح يوبِّخُ الشحاذ توبيخًا قاسيًا. فقد أثار الرجلُ ذو الثياب الرثّة اشمئزازَه ونفورَه، إذ رأى فيه إهانةً لما كان هو، سكفَرتسوف، يحبّهُ ويقدّرُه في نفسه: الشفقة، القلبَ الرقيق، والتعاطفَ مع البؤساء. وهذا الشخص بكَذِبه واعتدائِه الغادر على الرأفة، دنَّس الصَدَقَة التي كان يُحبّ أن يهبَها للفقراء دون أن تساورَ نفسَه الريبة. دافع الشحاذ عن نفسه في البداية، واحتج بحَلْفِ الأيْمان، ثم غرق في الصمت وطأطأ رأسَه وقد غمره الإحساسُ بالخجل.

قال وهو يضع يده على قلبه: "سيدي، أنا حقًّا كنت... أكذب! لست طالبًا ولا مُعلّمًا في قرية. هذا كله مجردُ تلفيق! كنت في الجوقة الروسية، وطُردتُ بسبب السُكْر. لكنْ ماذا أفعل؟ صدقني، وأقسم بالله، لا أستطيع أن أتدبّرَ أمري دون أن أكذب – عندما أقول الحقيقةَ لا يعطيني أحدٌ أيَ شيء. مع الحقيقة قد يموتُ المرءُ جوعًا ويتجمدُ دونما سكنٍ يقضي فيه لَيْلَهُ! ما تقوله صحيح، أفهم ذلك، لكن... ماذا عساي أن أفعل؟"

"ماذا عساك أن تفعل؟ تسأل ماذا عساك أن تفعل؟" صاح سكفَرتسوف وهو يقترب منه. "العمل – هذا ما ينبغي عليك فعلُه! عليك أن تعمل!"

"العمل... أعلم ذلك، ولكن أين يمكنني الحصولُ على عمل؟"

"هراء. أنت شاب وقوي وبصحةٍ جيدة، وفي وسعك دائمًا أن تعثرَ على عمل لو أردت ذلك. لكنك تعلم أنك كسولٌ واتّكاليٌّ وسِكيّر! رائحةُ الفودكا تفوح منك مثل الحانة! لقد أصبحتَ زائفًا وفاسدًا حتى نخاعِ عظامك، ولا تصلحُ لشيءٍ سوى التَسَوّلِ والكذب! وإن تكرّمتَ وتنازلتَ وقبلتَ بعمل، فلا بد أن تعملَ في مكتبٍ أو مع جوقةٍ روسية، أو أن تكون مشرِفَ بلياردو، حيث سيكونُ لك راتبٌ دون أن يكون عليك أن تفعل شيئًا! ولكن ما رأيك أن تقوم بعملٍ يدوي؟ أنا على يقينٍ أنك لن تقبل أن تكون بوّابًا في منزلٍ أو عاملًا في مصنع! أنت أرقى من ذلك!"

"ما هذه الأشياء التي تقولها، حقًا..." قال الشحاذ وابتسم ابتسامة مريرة. "كيف لي أن أجد عملًا يدويًا؟ لقد فات الوقت لأكون صاحبَ دكّان. ففي التجارة يجب أن يبدأ المرء من مهنة صبي؛ لا أحد يقبل بي بوّابًا في منزل لأنني لست من تلك الفئة... ولم أستطع أن أجدَ عملًا في مصنع؛ يجب على المرء أن يتقن صنعةً، وأنا لا أعرف شيئًا".

"هراء! دائمًا تجد لنفسك مبررًا! ألا ترغب في تقطيع الخشب؟"

"لن أرفض ذلك، لكنّ العاملين في تقطيع الأخشاب عاطلون عن العمل الآن."

"آوه، العاطلون عن العمل جميعًا يجادلون بهذه الطريقة! بمجرد أن يُعرضَ عليك أيُّ شيء ترفضه. هل تقبلُ أن تعمل عندي في تقطيع الخشب؟"

"بالتأكيد أقبل..."

قال سكفَرتسوف بعصبيةٍ متسرّعة: "جيد جدًا، سوف نرى... ممتاز. سنرى!" فرك يديه وهو يشعر بفرحةٍ ماكرة، واستدعى طاهيته من المطبخ.

قال لها: "إليكِ يا أولغا، اصطحبي هذا الرجل إلى السقيفة ودعيه يُقَطِّعْ بعض الخشب".

هزَّ الشحاذ كتفيه كما لو كان مشدوهًا، ولحقَ بالطاهية مترددًا. كان واضحًا من سلوكه أنه وافق على الذهابِ وتقطيعِ الخشب، ليس لأنه جائعٌ ويريد أن يكسب المال، ولكن ببساطة بدافع الخجل والشعور بالخزي، لأنهم وثقوا بكلمته. كان جَلِيًّا أيضًا أنه يعاني من آثار الفودكا، وأنه ليس على ما يرام، ولم يكن لديه أدنى شعورٍ بالرغبة في العمل.

سارع سكفَرتسوف إلى غرفة الطعام. وهناك من النافذة التي تطلُّ على الفناء كان يرى سقيفةَ الأخشاب وكلَّ ما يحدث في الفناء. وقف سكفَرتسوف عند النافذة، حيث رأى الطاهيةَ والشحاذ يأتيان من الممر الخلفي إلى الفناء ويعبران الثلجَ الموحلَ وصولًا إلى سقيفة الأخشاب. ألقت أولغا نظرةً فاحصةً على رفيقها وهي غاضبة، وفتحت سقيفةَ الأخشاب بكوعها وطرقت الباب بغضب.

قال سكفَرتسوف في نفسه: "لقد قاطعنا المرأةَ وهي تشرب قهوتَها على الأغلب. يا لها من مخلوقةٍ عصبية المزاج!"

ثم رأى المُعلمَ الزائفَ والطالبَ الزائفَ يجلس على كتلةٍ خشبية، ثم يميل بخديه الأحمرين على قبضتيه ويستغرق في التفكير. ألقت الطاهيةُ بفأسٍ عند قدميه، وبصقتْ على الأرض بغضب، ومن تعبير شفتيها، بدا أنها قد أخذت تشتمه. جذب الشحاذ نحوه جذعًا خشبيًا بتردد ووضعه بين قدميه، ومرّر الفأس عليه بصورة معاكسة. سقط الجذع أرضًا. جذبه الشحاذ نحوه، ونفخ في يديه المتجمدتين، ثم سحب الفأس مرة أخرى بحذر كما لو كان خائفًا من أن تصطدم به أو تقطع أصابعَه. سقط الجذع مرة أخرى.

كان غضب سكفَرتسوف قد تلاشى في تلك اللحظة، فشعر بالضيق والخجل من فكرة أنه أجبر رجلاً اتكاليًا مخمورًا وربما مريضًا على القيام بعمل قاسٍ وشاقٍّ في البرد.

قال في نفسه وهي ينتقل من غرفة الطعام إلى مكتبه: "لا يهمّ، فليكملْ عمله. إنّي أفعل ذلك من أجل مصلحته!"

أطلّت أولغا بعد ساعة وأعلنت أنه قد تم تقطيعُ الخشب.

قال سكفَرتسوف: "إليكِ، أعطيه نصف روبل، وإن كان يرغب فليأتِ ويُقَطع الخشب في الأول من كل شهر .... سيتوفر له العمل دائمًا."

في اليوم الأول من الشهر ظهر الشحاذ، ومرة أخرى كسب نصف روبل، رغم أنه لم يكن يقوى على الوقوف. من ذلك الحين فصاعدًا، كان يحضر كثيرًا، وكان العمل متوفرًا له دائمًا: أحيانًا كان يجمعُ الثلج في أكوام أو ينظفُ السقيفة، وأحيانًا أخرى كان ينفضُ السجّادَ والمراتب. كان يحصل دائمًا على ثلاثين إلى أربعين كوبيك مقابل عمله. وذات مرة أرسلوا له بنطالًا قديمًا.

وعندما انتقل سكفَرتسوف من منزله، طلب منه أن يساعدَ في تعبئة ونقل الأثاث. وفي هذه المناسبة كان الشحاذ صاحيًا ومتجهمًا وصامتًا. لم يلمس الأثاث إلا لمامًا، ومشى مُطَأطئ الرأس خلف عربات الأثاث، ولم يحاول حتى أن يبدو مشغولاً؛ كان يرتعش من البرد، وقد استحوذ عليه الارتباك عندما ضحك الرجال المرافقون للشاحنات من كسله وضعفه ومعطفه الممزق الذي كان ذات يوم لرجل نبيل. وبعد الانتقال أرسل سكفَرتسوف في طلبه.

قال وهو يعطيه روبلًا: "أرى أن كلامي كان له أثرٌ عليك. هذا مقابل عملك. أرى أنك صاحٍ وغير راغب في العمل. ما اسمك؟"

"لوشكوف".

"يمكنني أن أعرض عليك عملاً أفضل، وليس شاقًّا يا لوشكوف. هل يمكنك الكتابة؟"

"نعم سيدي."

"إذًا اذهب بهذه المذكرة إلى زميلي غدًا وسيعطيك بعض ما تنسخه. اعملْ ولا تشربْ ولا تنسَ ما قلتُ لك. إلى اللقاء."

كان سكفَرتسوف سعيدًا لأنه وضع رَجُلاً على طريق الاستقامة، وربّتَ على كتف لوشكوف بلطف، بلْ إنه صافحه عند فراقه.

أخذ لوشكوف الرسالة وغادر، ومنذ ذلك الوقت لم يأتِ إلى الفناء الخلفي للعمل.

مرت سنتان. وذات يومٍ بينما كان سكفَرتسوف يقف في مكتب التذاكر في المسرح، يدفع ثمن تذكرته، رأى بجانبه رجلاً ضئيلًا بياقةٍ من جلد الخراف وقبعةٍ رَثّة من جلد قطة. طلب الرجل من الكاتب بشيءٍ من الخجل تذكرةً لدخول العرض ودفع بضعةَ كوبيكاتٍ ثمنًا لها.

"لوشكوف، أهذا أنت؟" سأل سكفَرتسوف، وقد عرف الرجلَ الصغيرَ قاطعَ الأخشابِ السابق. "ماذا تفعل؟ هل تسيرُ حياتُك على ما يرام؟"

"الوضع جيد ... أنا الآن في مكتبِ كاتبِ عدل. أكسب 35 روبلًا."

"الحمد لله، هذا رائع. أشعر بالفرح من أجلك. أنا في غاية السرور يا لوشكوف كما تعلم، بالنسبة لي أنت بمثابةِ ابنٍ على نحوٍ ما. كنت أنا من دفعك دفعًا إلى الطريق الصحيح. هل تذكر توبيخي الشديد لك. لقد كدتَ أن تغورَ في الأرض حينها. شكرًا لك، صديقي العزيز، لأنك تذكرتَ كلماتي".

قال لوشكوف: "شكرًا لك أنت أيضًا". "لو لم آتِ إليك في ذلك اليوم، لربما بقيتُ أُسمّي نفسي مُعلمًا أو طالبًا. نعم، في بيتك جرى إنقاذي، وخرجت من الحفرة."

"أنا في غاية السعادة."

"أشكرك على كلماتك وأفعالك الطيبة. ما قلتَه في ذلك اليوم كان ممتازًا. أنا مُمتنٌ لك ولطاهيتك، بارك الله في تلك المرأة الطيبة النبيلة. ما قلتَه أنت في ذلك اليوم كان ممتازًا؛ أنا طبعًا مدينٌ لـك ما حييت، لكنَّ طاهيتك أولغا هي التي أنقذتني حقًا".

"كيف كان ذلك؟

"كان الأمر على هذا النحو. كنتُ آتي إليك لتقطيع الخشب وكانت هي تبدأُ هكذا: "آه، أيها السِّكير! أيها الرجل الذي تركه الله! ومع ذلك فإن الموت لا يأخذك"! ثم تجلس قبالتي وتروح تندب وتحدّق في وجهي وتنوح: "أيها الرجل سيءُ الحظّ! ليس لديك ما يُفرِحك في هذه الدنيا، وغدًا سوف تصطلي بنار جهنم، أيها السِكّير المسكين! أيها المخلوق المسكين البائس"! وكانت دائمًا تسترسلُ على هذا النحو، كما لا يخفى عليك. لا أستطيع أن أقولَ لك كم كانت تزعج نفسَها، وكم من الدموع ذرفت من اجلي. لكنّ أكثرَ ما أثّر فيَّ هو أنها كانت تُقَطِّع الأخشاب نيابةً عني! هل تعلم يا سيدي، لم أُقَطِّع لك جذعًا واحدًا– كانت هي تفعل كل شيء! كيف أنها هي التي أنقذتني، وكيف تغيّرْتُ وأنا أنظر إليها وتوقفت عن الشرب... لا أستطيع أن أُفسِّر ذلك. كلُّ ما أعرفه هو أن ما قالته والطريقة النبيلة التي تصرفت بها أحدثا تغييرًا في نفسي لن أنساه ما حييت. ها قد حان الوقت للصعود على أية حال، فسيقرعون الجرس الآن".

انحنى لوشكوف ومضى إلى المعرض.

***

........................

* نبذة عن الكاتب

يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. ولد في تاغانروغ في جنوب روسيا على بحر آزوف في 17 يناير 1860، لأسرة فقيرة، وكان ترتيبه الثالث بين ستة أطفال. كان والده صاحب محل بقالة، أما جده فكان من الأقنان. لكنه اشترى حريته في عام 1841.

التحق تشيخوف بالمدرسة الثانوية في تاغانروغ وفي عام 1879 التحق بكلية الطب في جامعة موسكو. وكان عليه أن يكسب المال ليتابع دراسته ويعيل أسرته. وقد استطاع أن يحقق دخلًا متواضعًا بكتابة القصص والطرائف في المجلات والصحف. وفيما بعدُ التقى بالكاتب ديمتري جريجوتوفيتش، الذي تنبّه إلى موهبته في الكتابة، فوقف إلى جانبه وساعده على تحسين جودة قصصه. ومن هنا بدأ نجم تشيخوف يسطع.

بعد تخرجه في عام 1984، وممارسته لمهنة الطب، بدأت أولى أعراض الإصابة بمرض السل تظهر عليه. لكنه تابع الكتابة، وفي عام 1886 تولت إحدى دور النشر طباعةَ كتابٍ له بعنوان قصص موتلي. وقد حقق الكتاب شهرة واسعة، ومنذ ذلك الحين ازداد تركيزه على الكتابة على حساب ممارسته مهنةَ الطب.

في عام 1988 ذهب تشيخوف إلى أوكرانيا، حيث مات شقيقه نيكولاي، وقد استوحى من تلك الزيارة روايته القصيرة "قصة كئيبة" (1989)، التي يتحدث فيها رجل عجوز عن حياته وهو في سكرات الموت، حيث يعتبرها عديمة القيمة. ثم سافر تشيخوف إلى يالطا في جزيرة القرم. وهناك التقى الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي.

في عام 1890 قام تشيخوف برحلة إلى سجن جزيرة سخالين الواقعة في الشرق الأقصى إلى الشمال من اليابان. وبعد عودته إلى روسيا، كرّس نفسَه لأعمال الإغاثة خلال مجاعة عام 1892. ولم يلبث أن اشترى عقارًا في ميليخوفو وانتقل إليه ليعيش هناك مع أسرته، حيث استقرت أوضاعه الماليه.

كوّن تشيخوف صداقاتٍ مع الكثير من النساء الجميلات والموهوبات، لكنه لم يتقدم لخطبةِ أيٍّ منهن، إلى أن التقى الممثلةَ أولغا كنيبر، ووقع كلاهما في حب الآخر، واقترن بها في أيار/ مايو، 1901. لكنها بقيت في موسكو تعمل في التمثيل، بينما أقام هو في يالطا للنقاهة. وفي عام 1904 ساءت صحته كثيرًا وسافر إلى مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. وفي 2 تموز/يوليو 1904 توفي في أحد فنادق بادِنْ وايلر. وتمّ نقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.

كتب تشيخوف أكثر من 500 قصة قصيرة ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة و 17 عملًا مسرحيًا، حظيت أربعٌ منها على الأقل بشهرة عالمية، وهي: نورس البحر (1895)، العم فانيا (1899)، الشقيقات الثلاث (1900)، بستان الكرز (1903). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدب الرحلات، والثاني كتاب مذكرات.

قصائد للشاعر الروسي الكبير

الكساندر بوشكين، يتغنى فيها بالروح التواقة للحرية

ترجمة الدكتور إسماعيل مكارم

***

إليكم هناك ....*

إليكمْ هناكَ في أعماق مناجم سيبيريا

تمَسكوا بهذا الصّبر الجَميل،

فلن يذهَبَ سدى عملكمُ الجَبّارُ هذا،

ولا طموحاتكمْ وأفكارُكمُ النبيلة.

**

واعلموا ... أنّ الأمَلَ

رفيقُ مأساتِكم في تلكَ المَناجم

سَيبعَثُ فيكم الهمّة َ والنشاطَ َ،

حتى يأتيَ وقت ُ الخلاصِ المَأمولْ .

**

المَحبة ُ والودّ ُ سَيجدانِ طريقهما إليكمْ،

رغمَ هذه البوابات المُظلمة،

مثلما يَصلُ إليكم في تلك الزنزانات..

صوتي َ الحُرُّ هذا ....

**

واعلموا أنّ القيودَ الثقيلة َ سَوفَ تنكسِرُ

وهذه الأقبية ُ المُعتِمَة ُ سَوفَ تنهارُ،

بالفرَح ِ والغِبطة ِ سَوفَ تعانقونَ الحُرّية َ

وإخوة ٌ لكم سَوف يُسَلمونكمُ سُيوفَ العِز.

1827

***

Арион

أريون*

على ظهر القاربِ كنا فريقا كبيرا

جماعة تشدُّ الشّراعَ لترفعه

وأخرى تقوم بقوةٍ

بإسناد المَجاديف إلى الدّاخل

وكان الكابتن يُمسِكُ بعزم بالمقود

ويُسيّرُ القاربَ بهدوءٍ وحكمةٍ .

أنا لم أكن مباليا بشيء

وأردّدُ واثقا تلك الأغاني على مسمع البحّارة،

وفجأة هبّتْ عاصفة قويّة، وارتفعَ الموجُ،

قتِلَ رئيسُ البَحّارةِ ورفاقهُ،

أما أنا فقط، المُغنيّ ذو السّرّ الكبير،

المرميّ إلى الشاطئ،

تراني أردّدُ تلكَ الأناشيدَ المعروفة،

وأنشّفُ ثيابي المُقدّسة،

بجانب صَخرةٍ، تحْتَ أشعةِ الشَّمس.

1827

***

.....................

لمحة تاريخية

عندما جاء القيصر الكساندر الأول إلى الحكم عام 1801 وعد باجراء اصلاحات في البلاد، وأول وعد من قبله كان − العمل على إيجاد صيغة للحكم ذات طابع دستوري، مع التخلي تدريجيا عن صيغة الحكم القيصري المطلق. وفعلا في عصره بدأت تظهر بوادر الاصلاح، وأول قانون صدر بهذا المنحى - هو (قانون حرية الحصادين)، الذي صدر عام 1803، وقد أجري الاصلاح في مجال التعليم أي تم إحداث مؤسسات تعليمية تابعة للدولة، وفي عهده تم اصلاح الادارات في دوائر الدولة، وتشكلت وزارات جديدة، وتم تكليف ميخائبل سبيرانسكي لإعداد نص للدستور، بحيث يصبح نظام الحكم نظاما ملكيا مقيدا بالدستور، الذي ينص على فصل السلطات، غير أن وجود نظام الرق، وسطوة العادات الاجتماعية السائدة في البلاد شكلا أرضية خصبة استندت إليها القوى المحافظة، التي وقفت ضد القيام بالاصلاحات. وفي عام 1812 كانت حملة نابليون على روسيا، هذه الحملة التي أدت الى نشوء مقاومة شعبية ورسمية لهذه الجيوش الغازية، الغربية قوامها كل أبناء الشعب الروسي، إذ انتهت بهزيمة الغازي الفرنسي- الغربي، ومن حاربوا إلى جانبه، وبوصول الجيش الروسي الى قلب باريس.. من الحكمة أن نشير هنا أن ممثلي الأقليات القومية في روسيا القيصرية آنذاك شاركوا بجد وفعالية في مقاومة الغزاة: من فرنسيين وغيرهم، نذكر منهم الشعب في بشكيريا، هنا تم تجنيد كل الرجال في المقاومة الشعبية من سن الخامسة عشرة وما فوق، وكان الفرنسيون يهابون مواجهة رجال المقاومة الشعبية. غير أنّ هذه الحرب أدت إلى انخفاض ملحوظ في عدد السكان، والى تدهور اقتصادي كبير في المجالين الزراعي والصناعي. وقد استغلت القوى الرجعية هذه الظروف وتمكنت من اقناع القيصر بأن الاصلاحات لن تخدم القصر والحكم، بل ستكون أداة للإنقضاض على القيصر والمقربين منه.

أما الضباط الذين داست أقدامهم شوارع باريس، وأقاموا هناك فترة من الزمن، واحتكوا بالأوروبيين، وتأثروا بمفاهيم الحريات، والقانون المدني للمواطنين... ذهبوا بعد عودتهم الى وطنهم نحو تشكيل جمعيات سرية تدعو الى التغيير.

توفي القيصر ألكساندر الأول في تشرين الثاني عام 1825

وفي الفترة مابين وفاة القيصر الكساندر الأول وقبل تولي الحكم من قبل نيكولاي الأول قامت (انتفاضة الديسمبريين) المسلحة لأجل تغيير طبيعة الحكم في البلاد وذلك في 14 (ديسمبر) كانون الأول عام 1825 .

اتصف القيصر نيكولاي الأول بحبه لكل ما هو عسكري، لأن من قام بالاشراف على تربيته كانوا من الضباط وليس من المدنيين. مع الأسف استغِلتْ عملية القضاء على الانتفاضة بقوة السلاح للتخلي كليا عن فكرة الاصلاح ولهذا نرى كيف الكساندر بوشكين يدعو في كثير من قصائده إلى التخلي عن نظام الحكم المطلق، وانهاء نظام الرق. من الجدير بالذكر أنّ الكساندر بوشكين لم يشارك في تلك الإنتفاضة، وكان الشاعر من منتقدي أصحاب التوجه الديمقراطي من النبلاء، الذين أرادوا صادقين العمل لأجل الشعب، وفي ذات الوقت كانوا بعيدين بعدا كبيرا عن أبناء الشعب. ولا يفوتنا القول أنّ هذا الشاعر الروسي الكبير كان من الناس شديدي الارتباط بأرض روسيا، ومن العاشقين للوطن الروسي وقد كان من القامات الوطنية الشامخة في روسيا .

ففي رسالة أرسلها إلى الفيلسوف تشادايف يعترف فيها بحبه لهذا الوطن، ولتاريخ هذا الوطن.

هوامش ومصادر:

* تلك كانت رسالة من الشاعر بوشكين إلى الديسيمبريين، ممن شاركوا في إنتفاضة م 1825

* راجع الأسطورة الإغريقية عن المغني أريون، الذي أراد طاقم القارب، الذي رجع بواسطته إلى وطنه، أراد بالتعاون مع الكابتن رميه بالبحر ليصير طعاما للأسماك بغرض الاستيلاء على ما بحوزته من أموال وهدايا، وفعلا حدث ذلك، ولكن الدلافين، التي كانت معجبة بصوته وغنائه، قامت بانقاذه وإيصاله إلى الشاطئ سالما.هنا بوشكين يتكئ على هذه الأسطورة الإغريقية ليحكي قصة الديسمبريين، الذين قاموا بالإنتفاضة المسلحة ضد الحكم القيصري المطلق، ولكن هذه الإنتفاضة تم قمعها بقوة السلاح، ومن قتل قتِل، ومن بقي حيا تم إبعاده إلى سيبيريا، حيث السجن والأشغال الشاقة، بينما الشاعر بوشكين، الذي هو ممن كانوا يتعاطفون مع أفكار الديسمبريين فقد بقي حيا..في هذه القصيدة يستعمل الكساندر بوشكين وزن (يامب) المعروف في الشعر الروسي، إذ في الرباعية نهاية الشطر الأول والرابع واحدة من حيث القافية، بينما نهاية الشطر الثاني والثالث واحدة.

А.С. Пушкин. Сочинения в трех томах. Том первый. Москва .1954.

بقلم: فيليب تيرمان

ترجمة: صالح الرزوق

***

ولكن كيف يمكننا بغير ذلك أن نحيا،

إن لم يكن في الطابق العلوي من هذا المأوى

المهجور،

حيث أسندت لنا مهمة تحذير المدينة

من لحظة

تحويل المطر إلى ثلج؟.

ومتى كانت آخر مرة جلست فيها قبالة

نافذة

ولم تفعل شيئا

سوى مراقبة التراكم على مدار اليوم؟.

هل ذلك حينما كنت طفلا،

وترتدي البيجاما، لتوقف الدراسة،

وحياتنا كلها تتفتح مثل تلك الرقاقات

التي تتهادى بعيدا عن متناول يديك؟.

والآن الثلج يستنزفنا،

ومع ذلك يبدو جميلا.

أحيانا لا أريد متابعة الخبر.

وأود أن أتجول على عرض الصفحة مثل أفكاري

المبعثرة التي تتضمن

الذكريات والرغبة حين تكون عشوائية وليس لدينا

مكان نكون فيه

ولا شيء ننجزه

ولا موت أحد يضنينا باللوعة،

ولا حتى موتنا.

الثلج لا يزال يهطل وأنا أكتب بإيقاع

أوجده أسلافي

في مناطق معتمة من العالم الآخر.

نحن نراقب الثلج بحثا عن أجوبة

ونكتشف سعادتنا، وهو ما

يريحنا -

ونضع ثقتنا بالصمت الهندسي في كل

رقاقة ثلج

وبالأخص حين ترسم رؤياها التجريدية في الهواء.

ونعود للنص الموجود،

هذه الصباحات - تنحدر في - بعد الظهيرة - وتقفز في - بهجة

المساء.

يمكن أن تقول عنها لعنة

أو تستطيع أن تسميها رحمة من الله -

*

وهي تتحداك لتلاحظ كيف تتكوم.

وتريد أن تثبت لنا أن قلوبنا ما هي إلا مليون

ملاك يهبط.

*

وتقول: استدر للباطن -

اليوم لنا، اصمد في الداخل واستفد من كل هذه

الساعات الإضافية -

لم يعد معنا غير قليل جدا - لنحب.

هذه الساعات، بعد أن نموت، سوف نستميت

لنستعيدها.

الثلج هو توقيع الصامت.

وهو يدون قصيدة

تمحو وتنقح لتكتب غيرها، و

غيرها.

ابنتنا تحدق من النافذة

باتجاه ذاكرة مستقبلها - عاصفة هوجاء، إيقاف

الدراسة، أي شيء ممكن،

ورائحة دخان موقد الطهي، والنعاس يتململ

في شعرها.

فقط لو يمكنها أن تقبض على رقاقة بلسانها الممدود

خارج فمها…

فقط لو يمكنها أن ترى الصيف وراء

هذه الثلوج…

بمقدورها الجلوس على السلالم كل اليوم وحدها

تراقب سقوطه على حديقة أمها.

ولو نظرت بعمق في هذه الدورات

اللامتناهية،

هل سيتجلى لها اللغز الغامض؟.

***

.........................

عنوان القصيدة A Million Angels Falling. من مجموعة ستصدر قريبا.

فيليب تيرمان  Philip Terman شاعر أمريكي معاصر. مقيم في كليفلاند / المصدر مراسلات شخصية

بقلم: جرنايل أناند

ترجمة نزار سرطاوي

***

في طفولتي كنت أعشقُ الدُّمى

وحين كبُرْتُ،

تغيّرتْ أشكالُ الدُّمى

كم كنت بريئٍا

حين خِلتُ أنني

أنا الذي ألعب بالدّمى.

والحقُّ أنها

هي التي

كانت تلعب بي.

ما زلت أتساءل

حين أنظر إليها

من منا كان يُسليّ الآخر

لقد جعلوها صامتةً ساكنةً َ

لكنها تتحرك أحيانًا

بالبطاريةِ حركاتٍ محسوبة

نظرَتْ نحوي

وابتسمتْ ضاحكةً

أنا أيضا كانت حركاتي محسوبة

إلى أن جاء يومٌ ووجدتُني

أُحِلتُ إلى الصمتِ والسكون

بعد بضعِ حركاتٍ محسوبة.

*

الأشجار والفواكه والرياح والقمر،

ضوء الشمس وضوء القمر،

الأحلام والعواطف

الحَمائم وطيور الوقواق،

العنادل والعصافير

الحملان والأسود – تلعب معي.

*

من أرسل هذه الدُّمى

التي لا تعمل بالبطارية؟

سمعت صوتًا يهتف بي:  لستَ بلا أب.

.................

TOYS

Jernail S Aanand

I loved toys as a child

And when I grew up,

Toys changed shape.

How innocent I was

When I thought it was I

Who was playing with the toys.

The facts are otherwise.

It was rather the toys

Who were playing with me.

Who is amusing whom

I still wonder

When I look at them.

They are silenced and stilled

Sometimes make

Measured movements on battery

They looked at me,

And smiled, at the similarity .

I too made measured movements

Till one day I found

I too was silenced and stilled

After a few measured movements.

*

Trees, fruits, winds, moon,

Sunshine, moonshine,

Dreams and passions

Pigeons, cuckoos,

Nightingales, sparrows,

Lambs and lions, play with me.

*

Who sent these toys

Which do not run on battery?

You are not Sireless, a voice tells me.

***

.....................

الدكتور جيرنايل سينغ أناند  شاعر وفيلسوف وباحث هندي يحظى بشهرة عالمية. ولد في عام 1955 في بلدة لونغوال في إقليم البنجاب. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة البنجاب في مدينة شانديغار. صدر له أكثر من 100 كتابٍ باللغة الإنكليزية تتنوع بين الشعر والنثر والقصة والروحانيات وغير ذلك، علاوةً على العشرات من الأوراق البحثية.

نشرت الباحثة الإيرانية الدكتورة رقية فارسي 20 ورقة بحثية حول أعماله. وقد اشترك مع الدكتورة فارسي في ابتداع نظرية البيوتكست (النص المتعلق بالسيرة)، كما ابتدع نظرية "مرض الغيمة" في النظرية النقدية.  ونشر ثلاثة أعمال ملحمية رئيسة، أولاها "غيت، أغنية الخلود التي لم تُغنَّ"، وهي بمثابة تكملة لملحمة "الفردوس المفقود" للشاعر الإنكليزي ميلتون. والثانية هي"حكايات غانتربري"، وهي تكملة حديثة لحكايات كانتربري للكاتب الإنكليزي تشوصر؛ أما الثالثة فهي "الإمبراطورية الشيطانية"، وهي تكملة لملحمة "الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي دانتي. كذلك أصدر بعض الأنثولوجيات الشعرية مثل "محاربة اللهب" و "أصوات من الفراغ" و "الاحتراق المشرق" و"وراء الحياة وراء الموت". وقد ترجمت أعماله الروحانية "النعيم: الجمال الذي ما بعده جمال" و "أنا مِلك يمينك" إلى الفارسية ونشرت في إيران.

شغل الدكتور أناند منصب السكرتير العام للبرلمان العالمي للشعر، كما تم اختياره سفيرًا للاتحاد العالمي للشعراء وسفيراُ لأكاديمية الخيال العلمي المقدونية. كذلك فهو الرئيس المؤسس لجماعة الشعر الفلسفي. وقد فاز بالعديد من الجوائز منها: سيد السلام العالمي والأدب،  جائزة التفوق الأعلى [فيشوابهاراتي] ، صليب السلام، صليب الأدب [إيطاليا]، أيقونة السلام العالمية [نيجيريا]، جائزة الدكتور موهيندر سينغ راندهاوا لدعم الفن والثقافة، وجائزة الإنجاز مدى الحياة من مجلس أدبتي كوزموس ، ومؤخرا جائزة الشعر الدولية الإفريقية ، وجائزة الميدالية الذهبية للإبداع.من الاتحاد الأدبي الدولي في الولايات المتحدة الأمريكية وجائزة غاندي الفلسفية.

بقلم: جيلينا كوكس

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(لا يتبع الهايكو وصفة محددة، لكن يتبع شعراء الهايكو حدسهم وجماليتهم الشعرية. إن الهايكو هو عبارة عن الحد الأدنى من بناء الكلمات مع وظيفة استحضار وعي مكثف للوجود – ماكس فيرهارت)

(1)

ليلة طويلة

يراع

في الغرفة المظلمة

(2)

باكورة الصباح

غمامة

ترعى الضباب

(3)

التمثيل الايمائي

الأشجار التي تغطيها الظلال

في الهزيع الأخير

(4)

يوم ماطر

انتقال الإشارة المرجعية

بين الصفحات

(5)

الغور في صوت المطر

ثمة أصوات أخرى

تبدو مألوفة

(6)

أوصد الباب

تشتد قعقعة

الرعد

(7)

المطر مجددا

موسم الجبال

الخضراء

***

..........................

- (جيلينا كوكس): شاعرة هايكو من ترينيداد وتوباغو. ولدت في عام 1950. تعيش في (بورت أوف سبين) العاصمة. تكتب باللغة الإنكليزية. منحت جائزة في مسابقة اكيتا الدولية للهايكو 2020. صدرت لها مجموعة هايكو بعنوان (لحظات 2007). ترجمنا لها إلى العربية قصائد أخرى ضمن إضمامات مشتركة.

1 – Haiku by Gillena Cox. https: // akitainternationalhaiku

2 – An E – Journal. https: // simplyhaiku. com

3 – Haiku – tempslibres: Gillena Cox. https: / www. Tempslibres..

4 – Shamrock Haiku Journal: 2007 – 2011 – Page 63 – Google Books. https: // books google. iq

بقلم: أنطون تشيخوف

تجرمة: نزار سرطاوي

***

التقى صديقان – أحدهما رجلٌ بدينٌ والآخر رجلٌ نحيف – في محطة نيكولايفسكي. كان الرجل البدين قد تناول عشاءَه للتوّ في المحطة. شفتاه الغارقتان في الدهون تلمعان كالكرز الناضج، وتفوحُ منه رائحة نبيذ الشيري وماء الزهر. الرجل النحيف كان قد ترجّل للتوّ من القطار. وكان مُثقلًا بحقائبِ السفرِ والحُزَمِ والصناديق، وتفوح منه رائحةُ لحمِ الخنزير والقهوة. أطلّتْ من ورائه زوجتُه – امرأةٌ نحيفةٌ بذقنٍ طويلة – يرافقها تلميذٌ مديدُ القامة، وقد زُرَّتْ إحدى عينيه. صاح الرجلُ البدينُ حين رأى الرجلَ النحيف: "بورفيري. أهذا أنت؟ صديقي العزيز! كم من صيفٍ مرّ وكم من شتاء"!

صاح الرجل النحيف وقد اعترته الدهشة: "بحق القدّيسين!ميشع! يا صديق الطفولة! من أين جئت"؟ تعانق الصديقان ثلاثًا، وحدّق كلٌّ منهما بالآخر وقد اغرورقت عيناهما بالدموع، فقد اعتراهما ذهولٌ مِلؤُه الحبور. "آه يا ولدي العزيز"! هكذا بدأ الرجل النحيف يتحدث بعد القبلات. "هذا أمرٌ غير متوقع! هذه مفاجأة! تعالَ وألقِ نظرةً فاحصةً عليّ! لم أزل وسيمًا كما كنتُ دائمًا! ساحرًا ومتأنّقًا! كم أنا مندهش! وأنت، كيف حالك؟ هل جمعتَ ثروة؟ هل تزوّجت؟ أنا متزوجٌ كما ترى... وهذه زوجتي لويز، واسمها قبل الزواج فانتسنباخ... لوثرية العقيدة... وهذا ابني نافانيل، تلميذٌ في الصف الثالث. هذا صديق طفولتي يا نفانيا. كنا أولادًا في المدرسة معًا"! فكر نفانيل قليلا ثمّ رفع قبّعتَهُ. أردف الرجل النحيف: " كنا أولادًا في المدرسة معًا! هل تذكر كيف كانوا يمازحونك؟ لقد لقبوك بـ هيروستراتوس* لأنك أحدثت ثقبًا في كتاب مدرسي بسيجارة، ولقبوني بـ إفيالتيس* لأنني كنت مولعًا برواية الحكايات. هوه – هوه!... كنّا أطفالًا!... لا تخجل يا نفانيا. اقترب منه. وهذه هي زوجتي، اسمها قبل الزواج فانتسنباخ، لوثرية العقيدة..." فكر نفانيل قليلاً ثم اختبأ وراءَ والده.

"آه، كيف حالك يا صديقي"؟ سأل الرجل السمين وهو ينظر بحماسٍ إلى صديقه: "هل تعمل في الخدمة المدنية؟ ما الدرجةُ التي وصلتَ إليها"؟

"نعم أيها الولد العزيز! لقد عملت مُقَيّمًا خلال العامين الماضيين، وأحمل لقب ستانيسلاف. الراتب قليل، لكن هذا ليس بالأمر الهام! الزوجة تعطي دروسًا في الموسيقى، وأنا أمارس هوايةَ نحتِ علبِ السجائرِ الخشبيةِ لحسابي الخاص، علبِ سجائرَ كبيرة! أبيع الواحدةَ بروبل. وإذا اشترى أحدٌ عشرَ علَبٍ أو أكثر، أمنحه حسمًا بطبيعة الحال. وهكذا نتدبر أمورَنا بشكلٍ ما. لقد عملت كاتبًا، والآن تم نقلي إلى هنا لأعمل رئيسًا للكَتَبَة في القسم نفسه. سأعمل هنا. وماذا عنك؟ أراهن أنك قد أصبحت مستشارًا مدنيّا الآن؟ أليس كذلك"؟

 قال الرجل السمين: "لا أيها الولد العزيز، اذهبْ إلى أعلى من ذلك". لقد رُقّيتُ إلى عضوِ مجلسٍ خاص... أحمل نجمتين." أصيب الرجل النحيف بالشُحوب والتَخشّب مرةً واحدة. لكنه سرعان ما لوى وجهه في الاتجاهات كلِّها بابتسامة واسعة. بدا كما لو أن البروق كانت تُشعُّ من وجهه وعينيه. ترنّح، تضاعفَ حجمُه، تكوّم... بدا أن حقائبَ السفرِ والحُزمَ والصناديقَ هي الأخرى تنكمش وتتكوّم... ذقنُ زوجته الطويلةُ استطالت أكثر؛ واستجمع نفانيل نفسَه وتهيَّأَ وربط أزرارَ بدلتِه جميعًا.

"يا صاحب السعادة، أنا... في غاية السرور! صديقُ طفولتي، كما يمكن للمرء أن يقول، غدا رجلًا عظيمًا! هه – هه"!

"ما هذا الذي تقوله"! عبسَ الرجل السمين. "ما الداعي لهذه النغمة؟ أنت وأنا كنّا صديقين في صِبانا، ولا داعي لهذا الخنوع الرسمي"!

"أَستغفرُ الله يا صاحب السعادة! ماذا تقول..."؟ ضحك الرجل النحيف، وراح يتلوّى أكثر من ذي قبل. "الاهتمامُ الكريم من سعادتك كعسلِ الندى المُنعش... هذا يا صاحبَ السعادة، هو ابني نافانيل،.. زوجتي لويز، لوثرية إلى حد ما". كان الرجل البدين على وشك أن يبدي شيئًا من الاعتراض، لكنّ وجهَ الرجل النحيف راحَ يُعبِّر عن تبجيلٍ وتزلّفٍ واحترام مُقزز إلى حدّ أن المستشارَ الخاص أصيب بالغثيان. أشاح بوجهه عن الرجل النحيف، ومدَّ إليه يده مُوَدّعًا. ضغط الرجلُ النحيفُ عليها بثلاثة أصابع، وأحنى جسده كلّه وضحك كأنه رجلٌ صيني: "هه – هه – هه"! ابتسمت زوجته، حكَّ نفانيل الأرضَ بقدمه وأسقط قبعتَه. طغى على ثلاثتهم ارتباكٌ ملؤه الحبور.

***

...................

* هيروستراتوس رجلٌ إغريقي من القرن الرابع قبل الميلاد. اتُهِم بالبحث عن الشهرة بإحراق وتدمير معبد آرتيمِس في مدينة إفِسوس.

** إفيالتيس رجل إغريقي من القرن الخامس قبل الميلاد؛ ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوتس أنه خان بلاده طمعًا في أن يكافئه الفرس الذين غزوا اليونان عام 480 ق.م.

نبذة عن تشيخوف

يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. ولد في تاغانروغ في جنوب روسيا على بحر آزوف في 17 يناير 1860، لأسرة فقيرة، وكان ترتيبه الثالث بين ستة أطفال. كان والده صاحب محل بقالة، أما جده فكان من الأقنان. لكنه اشترى حريته في عام 1841.

التحق تشيخوف بالمدرسة الثانوية في تاغانروغ وفي عام 1879 التحق بكلية الطب في جامعة موسكو. وكان عليه أن يكسب المال ليتابع دراسته ويعيل أسرته. وقد استطاع أن يحقق دخلًا متواضعًا بكتابة القصص والطرائف في المجلات والصحف. وفيما بعدُ التقى بالكاتب ديمتري جريجوتوفيتش، الذي تنبّه إلى موهبته في الكتابة، فوقف إلى جانبه وساعده على تحسين جودة قصصه. ومن هنا بدأ نجم تشيخوف يسطع.

بعد تخرجه في عام 1984، وممارسته لمهنة الطب، بدأت أولى أعراض الإصابة بمرض السل تظهر عليه. لكنه تابع الكتابة، وفي عام 1886 تولت إحدى دور النشر طباعةَ كتابٍ له بعنوان قصص موتلي. وقد حقق الكتاب شهرة واسعة، ومنذ ذلك الحين ازداد تركيزه على الكتابة على حساب ممارسته مهنةَ الطب.

في عام 1988 ذهب تشيخوف إلى أوكرانيا، حيث مات شقيقه نيكولاي، وقد استوحى من تلك الزيارة روايته القصيرة "قصة كئيبة" (1989)، التي يتحدث فيها رجل عجوز عن حياته وهو في سكرات الموت، حيث يعتبرها عديمة القيمة. ثم سافر تشيخوف إلى يالطا في جزيرة القرم. وهناك التقى الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي.

في عام 1890 قام تشيخوف برحلة إلى سجن جزيرة سخالين الواقعة في الشرق الأقصى إلى الشمال من اليابان. وبعد عودته إلى روسيا، كرّس نفسَه لأعمال الإغاثة خلال مجاعة عام 1892. ولم يلبث أن اشترى عقارًا في ميليخوفو وانتقل إليه ليعيش هناك مع أسرته، حيث استقرت أوضاعه الماليه.

كوّن تشيخوف صداقاتٍ مع الكثير من النساء الجميلات والموهوبات، لكنه لم يتقدم لخطبةِ أيٍّ منهن، إلى أن التقى الممثلةَ أولغا كنيبر، ووقع كلاهما في حب الآخر، واقترن بها في أيار/ مايو، 1901. لكنها بقيت في موسكو تعمل في التمثيل، بينما أقام هو في يالطا للنقاهة. وفي عام 1904 ساءت صحته كثيرًا وسافر إلى مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. وفي 2 تموز/يوليو 1904 توفي في أحد فنادق بادِنْ وايلر. وتمّ نقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.

كتب تشيخوف أكثر من 500 قصة قصيرة ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة و 17 عملًا مسرحيًا، حظيت أربعٌ منها على الأقل بشهرة عالمية، وهي: نورس البحر (1895)، العم فانيا (1899)، الشقيقات الثلاث (1900)، بستان الكرز (1903). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدب الرحلات، والثاني كتاب مذكرات.

بقلم: موسى رحوم عباس

ترجمة: نزار سرطاوي

**

كلَّما

اصفرَّتِ الأوراقُ في خريفِ هذه البلاد

وأصبحتْ أغصانُها شاحبةَ الوجوه

رحتُ أُلبِسُ الأشجارَ ثوبيَ الوحيد

وأرشدُ الطَّيرَ إلى أعشاشِها البعيدة

عَلَّها تعودُ قبل النَّوْءِ

فدربُها طويلةٌ

طويـــــــــــــــلة

وحرسُ الحدود لا ينقصه الرَّصاصُ والبارود

أخلعُ قلبي كي أهشَّ بالدَّمِ السَّخينِ للرياح

أنِ ابتعدي، مازالَ للخريفِ بِضْعُ يومٍ

وأغمضي عينيك حين تبدأ الأشجار بالتعري

فقلبي الوحيدُ

حارسُ الفصولِ والظِّلال

وهو مَنْ يقاسمُ الخريفَ حُزْنَه

وربَّما يصيرُ نَايًا للرِّياحِ في المساء

أو غيمةً ينبتُ دمعها كشجرِ الصَّبَّارِ

إذا ما أقبلَ الشِّتاء

لكنْ!

لماذا يُقبِلُ الشِّتاءُ بَغْتةً كحرسِ السُّجون؛

ليجعلَ الأغصانَ في أيديهمُ مثل الهراواتِ

التي تنوس  فوق رأس الخائفين المُدلجين

على ذُرا التِّلال في بلادنِا البعيدة

أقولُ

هذه حبيبتي تمتدُّ في البَياض

تطوي طيورَ رغبتي في جُنحِها الطَّويل

وتمنحُ الدِّفْءَ لها إذْ يجثمُ الشِّتاءُ هكذا

كحرسِ السُّجون!

وعندما تنبجسُ العيونُ والأنهارُ من سمائنا

كأنَّها الدِّماء

أشرعُ في بناءِ ألفِ سدٍّ حولَ الجسدِ المُمتد في البياض

في وِدْيانِهِ الصَّغيرة

بالقربِ من هِضَابه الجميلةِ الصَّقيلة

يا لهذا الجسد المُحاط بالوديان والهضاب!

أنتظرُ الرَّبيعَ؛ لينبتَ الرُّمان في حدائق الصُّدور

والجُلَّنارُ يُعلنُ الحياة

كي أحرسَهُ

أمَسَّهُ كمذنبٍ في غُرفةِ اعتراف

وكلَّما مَسَسْتُهُ فَرَّتْ زرازيرُ الهوى مِنْ خوفِها

وأزهرَ الليمونُ والزيتونُ في أحواضِهِ الخضراء

عندها يحملُ القلبُ فؤوسَ حُزنِهِ الشَّفيف

فلاحًا يُقلِّبُ تُرْبَةَ العشقِ بِمعْوَلِ المَجاز

يرشُّ ماءَ الحُبِّ

في تشقُّقِ الشِّفاه

وتجثو الشُّمسُ كاهنةً تباركُ توبتي للمرَّةِ الألفِ

لكنَّني أعودُ لمثلها لألفِ ألفٍ

لأبنيَ من غُبَارِ الوقتِ سورًا مثلَ سُورِ الصِّين

يمنعُ عنِّيَ الأحلامَ

والأوهامَ

ويمنعَ ما تناسلَ مِن جرادِ الخَوْفِ

يمضغُ خُضرةَ الأشياءِ

رغم أنَّا نقرعُ الطبولَ في الشَّوارعِ المُضاءةِ الأرجاء

لا الصَّيف تَحْملُنا على جُنْحِ السَّراب

وعندها ننجو

ولا قَرُّ الشِّتاء!!

***

The Guardian Of Seasons And Shadows

Musa Rahoum Abbas

Translated by Nizar Sartawi

***

Whenever

the leaves turn yellow in the autumn of this country

and the faces of the branches turn pale

I dress the trees in my sole garment

and guide the birds to their nests far away

so that they may return before the tempest

since their path is so long

so long

and the border guard is never short of bullets and gunpowder

I rip my heart out to send away the wind’s hot blood

Away with you, for autumn has yet a day or two

and shut your eyes when the trees begin unclothing

For my lonely heart

is the keeper of seasons and shadows

who partakes in the sadness of the autumn

and might become a flute for winds in the evening

or a cloud whose tears sprout like a cactus tree

when winter comes 

But!

why comes the winter without a warning like prison guards;

and places branches in their hands like batons

that move above the heads of the frightened, who spend their nights

on hilltops in our distant homeland

I say

There goes my beloved expanding in the white

folding the birds of my desire beneath their long wings

giving them warmth while winter lies heavy like this

like a prison guard!

And when the springs and rivers burst forth from our sky

like blood

I start to build a thousand dams around the body expanding in the white

in its little vales

beside the lovely, shining hills

Oh that body surrounded by vales and hills!

I wait for spring; when pomegranates grow in the gardens of the breasts

and their blossoms announce the birth of life

so that I may guard them

I touch them like a sinner in a confession booth

And when I do, the frightened starlings of passion flee.

and lemons and olives bloom in their green beds

then the heart holds the axes of its transparent grief

like a farmer stirring the soil of love with the shovel of metaphor

sprinkling the water of love

on the chapped lips

and the sun lies down like a priestess, blessing my repentance for the thousandth time

But I do it again for the millionth time

to build a wall from the dust of time like the wall of China

that expels dreams

and delusions

expels what has been born of the locusts of fear

chewing the greenness of things

Even though we beat the drums in the lit streets around

neither does the summer carry us on the wings of the mirage

so that we may survive

nor does the coldness of the winter do!!

......................

الدكتور موسى رحوم عباس: أديب سوري، يقيم في السويد، متخصص في علم النفس العلاجي، صدر له في الشعر: الآفلون،  فبصرك اليوم حديد، وفي القصة: بروق على ثقوب سوداء، العبور إلى مدين، هداليش وقصص أخرى، وفي الرواية: بيلان، وفي المقالة: ليلة إعدام دمشق، وفي علم النفس: الوسواس القهري (بالاشتراك).

 

الادب الكردي

بقلم: بشكو نجم الدين

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

الوطن

وأنت بعيد عني

تكون أقرب إلي

من نبضات القلب

وأنت قريب مني

يكون شعرك

أبعد من أن تلمسه

يدي

كما هي أنجم أحلامي

أنت جنة

متعددة الألوان

عندما أعجز عن بلوغك

أنت هاوية محتومة

عندما القاك ..

***

.................

* بشكو نجم الدين: شاعر كردي مغترب. صدر له:

- صدرت له في عام 1992 مجموعته الشعرية البكر.

- صدر له في عام 1995 عمله الموجه للأطفال الموسوم (كرنفال الغاب) عن إحدى دور النشر السويدية، وقد اعيد نشره في السليمانية في عام 2000 .

- أصدر في عام 1996 مجموعته الشعرية المسماة (البحث عن سراب الوطن) عن إحدى دور النشر السويدية .

- في عام 1998 أصدر عمله الموسوم (في ظل الطرف الداخلي للأحداث) في مجال النقد والبحث الادبي .

- وقصيدته التالية (الوطن) مترجمة عن ديوانه (قطعة غربة من العمر) الصادر في أربيل ضمن سلسلة (كولان) .

قصيدة للشاعر الاسباني:

فريدريكو غارسيا لوركا

ترجمة: سالم الياس مدالو

***

اذا مت

دعوا الشرفة

مفتوحة

*

حيث الطفل

الصغير

الذي ياكل

البرتقالة

(يتسنى لي من شرفتي رؤيته)

*

وحيث الحاصدة التي

تحصد القمح

(من شرفتي يتسنى لي سماع صوتها)

*

لذا اذا مت

اذا مت

دعوا الشرفة

دعوا شرفتي

مفتوحة

***

.................

فردريكو غارسيا لورك - 1898 – 1936: شاعر وكاتب مسرحي حقق اعترفا دوليا هو ومجموعة من الشعراء الاسبان. في الغالب قدموا مباديء للحركات الاوربية امثال الرمزية والسريالية في الادب. اغتيل الشاعر في عام 1936  من قبل القوات القومية انذاك ولم يتم العثور على جثته لحد الان .

سالم الياس مدالو

 

كانت هناك بنت تحبها أمها فقط. واعتادت البنت على ذلك ولم تشعر بالقلق. اسمها أوكسانا - اسم براق وحديث - ولكن رغبت بطلتنا باسم بسيط: تانيا أو لينا أو حتى زينيا. وكانت سيدة حصيفة وشابة وطويلة، ولكنها ليست قريبة من الرب. درست أوكسانا علم الغابات في جامعة من الدرجة الثالثة - وهي الوحيدة المتاحة لها مجانا. وبعد التخرج توقعت أن تحصل على عمل كتابي في وكالة حكومية تصنف به البتولا والتنوب على الورق. تقاسمت مع  أمها شقة من غرفتين في مبنى إسمنتي عادي. وكان لوضع المسكن مشكلة: تحتهما مباشرة في الطابق الثالث، تسكن عائلة شديدة الصخب أفرادها كحوليون يتسمون بالعنف. ويوميا يهتز المبنى من الصياح والخبط والركل: وكانت سيدة البيت تترك جماعتها بانتظام وتتخبط في الممر وتصيح "مجرم" و"النجدة". وكانت أوكسانا تمر خلسة من أمام بابهم المحطم. وكانت ترتدي ثيابا سوداء في الخارج وتعتمر قبعتها لتغطي بها وجهها. فقد كانت تعود إلى البيت في وقت متأخر، بعد هبوط الليل: وكانت لديها فرصة ثمينة أن تتلقى دروسا مسائية في اللغة الإنكليزية بأجر معقول توفره مدرستها.

وروت لها أمها حكاية عن شخص يدعى فلاديمير لينين، تعلم لغة جديدة بترجمة صفحة إلى اللغة الروسية ثم مجددا إلى لغتها الأصلية، فتبنت أوكسانا طريقة لينين، وترجمت نصوصا عن  التحطيب والتعويم والانزلاق - وتوقعت جامعتها من طلابها أن يحملوا الخشب على التيمز. اعترض الطلاب، مؤكدين أن إنكلترا لا تحتاج إلى حطابين روس يحملون شهادة جامعية، وتوسلوا أن يكون التعليم بلغة  إنكليزية عادية. في تلك الفترة كانت أم أوكسانا عاطلة عن العمل. وتخلت عن أملها بالعمل بصفة محررة مطبوعات وتعبت من مراجعة المسودات. اتصلت بالناشرين وأرسلوا لها "موادا اختبارية": رواية من جزئين، رواية تشويق وإثارة من خمسمائة صفحة، كتابا في العلوم الصيدلانية. وكانت مدة كل مشروع أسبوعين. في البداية سخرت نينا سيرغيفنا من هذه المواد ومن لغتها التافهة واختارت أفضل الشواهد لترويها على مسامع روكسانا:" عابر سبيل مر بالجوار" أو "كان قاعدا على مقعد". استسلمت لنداء إنسانة محترفة تعتز بنفسها وسهرت الليل وأعادت صياغة هذه العبارات البائسة حتى آخر فاصلة فيها. ولكن حينما حاولت الاتصال بما يسمى مخدومها، كانت تجيب عليها السكرتيرات فقط، وأخبرنها أنها، بكل أسف، لم تنجح في الاختبار. اشتبهت أوكسانا، وهي محقة، أن هؤلاء المدعوين بلقب ناشرين استغلوها بالمجان. عملت نينا سيرغيفنا كمحاولة أخيرة ملاحظة في مركز رعاية نهاري، وتقاسمت غرفة ضيقة باردة مع كلب بدين، وهو نوع من كلاب الحراسة لم يفارق الغطاء الذي تلتف به، ويرد بنباح عصبي على صوت المعلمة التي تعمل وراء جدار رقيق.

وسرعان ما تبدل هذا الحال الوضيع وغير المفرح للأسوأ. في واحدة من الليالي جاءت مكالمة من مسافة بعيدة: كانت من كلافا، أم أول زوج لنينا سيرغيفنا، الذي توفي في مطلع شبابه. والاتصال كان من بولتافا في أوكرانيا. وقامت كلافا هذه بزيارة نينا حتى بعد زواجها الثاني وإنجاب أوكسانا. وكانت معتادة على إحضار حقيبة من ملابس الصبيان وهي لحفيدها ميشا. قبل مرور فترة طويلة فقدت كلافا ابنها الأصغر أيضا. وتزوجت أم ميشا مجددا وسافرت إلى إسرائيل، ولكن ميشا رفض أن يغادر مدرسته وأن يبتعد عن أصدقائه وعاش مع كلافا. ولعدة سنوات توجب على  أوكسانا أن ترتدي ثياب ميشا المستعملة، ومنها توكسيدو زمردي بكتفين مبطنين وكان هذا يبكيها. فأوكسانا لم تقابل ميشا أبدا، ولكنها لم تحتمل هذا الحال.  وها هي خلفيات مكالمة منتصف الليل.

أخبرتها أم زوجها سابقا بصوت بارد ومعدني أن ميشا أضاع كل شيء: والناس الذين يدين لهم بالنقود استولوا على شركته، وتوجب عليها بيع شقتها والانتقال إلى كوخ صيفي. وأضافت كلافا إن الكوخ مصنوع من الخشب.  وهو دون كهرباء وماء منذ الصيف. وأحدهم سد بئرها بالنفايات. وحطب التدفئة قد نفد.  حاولت أن تحرق أغصان الشجر، ولكنها لم تشتعل. وكان البرد لا يصدق في هذا الشتاء - وبدأ الثلج بالهطول. وقد ذهبت إلى المدين لتقبض تعويضها ولكن قادوها بعيدا عن مبناها السابق: وأخبرها ميشا أنه يمكنهم احتجازها رهينة لو تعرف أحدهم عليها. وأنهت كلافا مونولوجها بقولها: عام سعيد لكم جميعا. اعتادت نينا سيرغيفنا أن تدعو كلافا للمجيء والمكوث معهم، ثم أغلقت الهاتف وحدقت بعينيها الواسعتين في ابنتها الطويلة، والتي ردت لها النظر. قالت أوكسانا مع تنهيدة:"ها نحن هنا مجددا".

كانت معتادة على تصرفات أمها اليومية تقريبا بخصوص التبرعات غير المتعقلة. وأحدثها مافعلته أمس في محطة بيلوروسكي. كانت نينا سيرغيفنا تعبر الجسر، وتفكر بحزن بمهنة المحرر التي انتهت على أعتاب غرفة الحارس، وحينها لاحظت أمامها امرأة طويلة ذات قوام صلب ومستقيم وتسير متخشبة وتحمل كومة من الثلج على رأسها كأنها تمثال بوشكين. مرت نينا سيرغيفنا بالمخلوقة العجيبة وأسرعت إلى محطة المترو الدافئة. ولكن لحقت بها المرأة وسألتها إن كانت ذاهبة إلى مينسك - فهي تتوجه إليها، بالأحرى ترغب بذلك، ولكن ليس معها نقود - وكانت ضحية للغش. قالت إنها جاءت من بيلاروسيا ومعها بعض مواد التجميل للبيع، ولكن المشتري لم يحضر، ولم تحصل على نقودها. وعرضت عليها المرأة جواز سفر بيلاروسيا. طلبت منها نينا سيرغيفنا أن تدخل إلى محطة المترو، فالجو بارد جدا ولا يسمح بالكلام في الشارع، نظرت لها المرأة برعب وقالت:"هل ستدلين الشرطة علي؟". آه. طبعا.  فالمسكينة لا تمتلك سجلا في موسكو ويمكن اعتقالها عند مدخل الأنفاق. سألتها نينا سيرغيفنا كم تحتاج من النقود لتعود إلى بيتها. تعبت المرأة الضعيفة من الحساب: خمسمائة ألف، كلا، ثلاثمائة ألف، كلا، ثلاثمائة روبل. قدمت لها نينا سيرغيفنا المال وكذلك خبزا كانت تحمله إلى البيت. وثلاثمائة روبل هو بالضبط ثلث ما تبقى من تقاعدها بعد دفع الإيجار. والحمد لله أن العجوز لم تطلب خمسمائة أو ألفا- كانت نينا سيرغيفنا ستلبي طلبها للمساعدة. وغالبا لا تنتظر أن يتسول الآخرون منها وتقدم مما تملك. بعد يومين اعتقلوا بابا كلافا في المحطة. كان مع بابا كلافا بعض الأمتعة: الرزمة المعروفة وتتضمن ثياب العمل الصيفي وحصلت عليها من المأوى، أيقونيتين ورقيتين، وكيس من التفاح. وكان حفيدها ميشا قد منعها من العودة إلى الشقة. ونتيجة ذلك لم يكن لديها قطعة ثياب شتوية واحدة، وكانت ترتدي القميص الصيفي في شهر كانون الأول.

علقت كلافا في بيت نينا سيرغيفنا الأيقونات الورقية وراء زجاج خزانة الكتب. وكانت تصلي لها باستمرار. ولكن بالسر كما كانت تعتقد. وبقيت تفاحاتها ليأكلها التعفن تحت طاولة المطبخ: كانت كلافا تتوقع أن تنضج في ليلة أول العام الجديد. وتقاسمت مع نينا سيرغيفنا كنبة تتحول إلى سرير. وكانت في الصالة ولكن لم تنم - حاولت جهدها أن تستلقي هامدة بين نينا سيرغيفنا والجدار. في نفس الوقت كانت الأم المتعبة والابنة تنامان دون أحلام، لاستغلال كل لحظة ممكنة للاستراحة. وعاودت نينا سيرغيفنا الاتصال بصديق نصف منسي كان يحاول تحسين أوضاعه. وساعدها بالحصول على موعد في متجر للأشياء المستعملة، ومنه حصلت نينا على جاكيت دافئ وثوبين منزليين سميكين من أجل كلافا. ومادة رقيقة ناصعة مطرزة بالذهب أيضا - كانت في السابق ستارة. سالت أوكسانا أمها بصوت ثاقب: ما النفع من هذه الأسمال - فهم يمتلكون ما يكفي من الرقع القديمة. ردت نينا سيرغيفنا ببراءة:"أتيحت لي فأخذتها. وتقريبا تبدو كأنها من الحرير".

لاحقا أعادت كلافا سرد الأحداث المأساوية التي قادتها إلى التشرد. فحفيدها ميشا يدير دار نشر صغيرة تطبع التقويم السنوي. وأراد التوسع، ولذلك وضع كراسة غالية التكلفة صممها فنان من موسكو (الذي أقنع ميشا أنه فنان عصره وأوانه). ولكن الكراس لم يحالفه النجاح في السوق، وأصبح ميشا دائنا للجميع. كان العداد يدور، وفي الختام أرسل له ممولوه "القبضايات" - عتاة مختصين بعصر النقود.

بعد ذلك انتسبت أوكسانا لدروس مسائية، ووجدت عملا في شركة تصميم للمساحات المفتوحة. وتأجل تخرجها حوالي سنتين. كان أجرها قليلا جدا، ولكنها أنجزت أعمالا هامة للمول والمكتبة. وتخلفت أوكسانا كثيرا عن حصص اللغة الإنكليزية. وكانت تحمل دائما في محفظتها نفس الكتاب: "كلب  آل باسكرفيل". وحاولت أن تقرأه على متن القطار. ولكنها كانت سريعا ما تغفو. وفي أوقات فراغها عملت نينا سيرغيفنا قدر المستطاع لإعادة الاعتبار إلى بابا كلافا بصفة مواطنة روسية، أو على الأقل مقيمة شرعية، لتتمكن من رؤية الأطباء. ولكن عاملها بلوتوقراطيو موسكو على أنها جاسوسة، ببساطة لأنها أوكرانية، وحرموها من حقوقها. تكلمت نينا مع محرومين كثيرين تعرفهم وقررت أن تذهب إلى بولتافا لتحصل على قطعة من الورق من الأرشيف المحلي تؤكد أن كلافا ولدت في ستافروبول ولذلك هي مواطنة روسية.  وتجمدت كلافا. خافت أن يستدل القبضايات على عنوانها في موسكو. ولدى عودة نينا المجهدة وبحوزتها الثبوتيات سألتها كلافا بهمسة خائفة إن قامت بزيارة بيتها. قالت نينا بمرح:"طبعا كلا. ذهبت إلى بلدية المدينة فقط وعدت مباشرة. والآن ستصبحين مواطنة وتكسبين تعويضاتك".

ذهبت كلافا لمشاهدة التلفزيون وشرحت نينا لأوكسانا أنها زارت بناء كلافا وثرثرت مع بعض الجيران. وهذا كل شيء: أخبرتهم أنها موسكوفية وتريد الانتقال إلى بولتافا - هل يوجد شقق للبيع في المبنى؟. قالوا لها: لا يوجد. قالت: ولكن سمعت أن الشقة العاشرة بيعت للتو. لم يعلق أحد. وساعة مغادرتها لحقت بها إحدى النساء وطلبت رقم هاتفها. وتقريبا أغمي على أوكسانا.

قالت:"متى ستفكرين بعقلك؟ لماذا أعطيت تلك المرأة رقم هاتفنا؟".

"أنت تعلمين كيف أخمن نوع الناس".

"هذا صحيح. عرفت نوع تمثال بيلاروسيا في ذلك اليوم فعلا".

"هذه المرأة المسماة فالنتينا ذكرت كلافا. وتذكرت ميشا وأمه كذلك. وأنها مهاجرة وتذكرت والده الميت. ابن كالفا. وكانت تعمل ممرضة في عيادة أطفال وعالجت ميشا في طفولته. تكلمت معها، فعلا، ولكن كنت أعلم ماذا أفعل".

"آه يا أمي. أراهن أننا سنستقبل قريبا بعض الزوار".

وكانت أوكسانا محقة.

في وقت متأخر من الليل من يوم 28 كانون الأول رن الهاتف بمكالمة بعيدة. قالت أمها:"أوكسانا تصرفي مع كلافا بسرعة".

تكوم جسم كلافا تحت الغطاء السميك. وارتعشت الكومة.

قالت:"من هم. القبضايات؟".

ردت:"لا. لا. هذه أم ميشا تكلمنا من القدس".

وما أن قالت كلافا ألو بصوتها المعدني انقطع الاتصال. قالت كلافا:"لم تحتمل الكلام معي. أخيرا تذكرت ميشا. فات الأوان - ربما رحل". وزحفت نحو الحمام.

في اليوم التالي أحضرت أوكسانا إلى البيت من مكتبها أصيص عرعر صغير - شجرة عيد ميلاد. همست كلافا بصوت ثابت:"آه عرعر. مثل شجرة شاهدة مدافن العائلة. كان ابناي هناك، وزوجي العزيز. شكرا يا أوكسانوشكا". كان مزاج كلافا في هذه الأيام مستقرا. تحب مشاهدة برامج التلفزيون البوليسية والتي ينتصر فيها العدل مؤقتا. كانت تهدئها ولكنها لا تزيد من تفاؤلها.

كانت نينا سيرغيفنا تعمل بجد على قطعة مثل الحرير تقريبا حصلت عليها من متجر أشياء مستعملة. كان "المطرب" الطليعي يملأ الشقة بالدق. وكانت كلافا في المطبخ تحضر فطيرة العطلة مع ما تبقى من تفاح المأوى.  وكانت أوكسانا تحاول الدراسة في غرفتها الضيقة حينما ظهرت نينا سيرغيفنا مع كومة من الأقمشة الذهبية. قالت لابنتها العنيدة بحذر:"هذه هدية العام الجديد لك. البسيها حالما تخرجين".

"ماما. توقفي عن تخيل الأشياء. لن أخرج. ولن أرتدي هذا".

"ولكن يا حلوتي كلافا تعبت بها أيضا. كانت خياطة محترفة. هل تذكرين التوكسيدو الأخضر؟ هي من صنعته".

"التوكسيدو؟ماما. لدي امتحانات بغضون أسبوعين. ومديرتي لا تمنحني إجازة. تقول ليس لديها الإمكانيات للاستغناء عن أي عاملة. وهي ترعى زوجها. وبختني طيلة ساعة. والآن فكري يا ماما. هل تعتقدين أنني مهتمة بملابسك المستعملة؟".

دخلت كلافا إلى الغرفة، وشاهدت كومة الحرير. همست من بين شفتيها:"آسفة يا أوكساندا. كنت أخيط بشكل ممتاز. ولكن يدي تعبتا. وأخبرتك يا نينا أنها لن ترتديه".

وانسحبت إلى الردهة وبدأت تصلي بصوت جهوري.

رمقت أوكسانا الساعة: بقيت ساعة للعام الجديد. استحمت، وجلست بشعر مبلول أمام الكمبيوتر القديم. لمست نينا سيرغيفنا كتفها. قالت:"من فضلك ياعزيزتي. كلافوشكا منزعجة جدا لأنك لم تجربيه. ماذا يكلفك ذلك؟ عمرها بلغ الثمانين".

جاء من غرفة كلافا دمدمة مرتفعة. استسلمت أوكسانا. في الحمام، وأمام المرآة، ارتدت الثوب الجديد. كان ثوبا مفتوحا مسائيا بعنق مكشوف ولفاح خفيف لتغطية ذراعيها العاريين. وكانت الأطراف قد طرزتها نينا سيرغيفنا.  فكرت أوكسانا: يا رحيم. لماذا هدرت وقتها على هذه التوشية؟ من سيراها؟ بل من سيراني؟. كان كفاحها المستقبلي اللامتناهي يخلو من العاطفة والفرح. وقد مر مثل لمعة برق خاطف أمام عينيها. مكتب دبت فيه الفوضى، مع أمينة مكتبة هي ديانا، ريفية جميلة ومسنة، ولكن ابنتها ترفض مكالمتها، وربة عملها أولغا حصان عمل لا يكل مع جيوب تحت عينيها، تقفز من عميل إلى آخر، بسيارة محطمة. والعملاء، زوجات الروس الجدد، بأحلامهم عن حدائق يملؤها عرعر قزم ينمو في أحواض نراها في الأوبرا الشعبية، وتزدحم بأشجار روسية بسيطة قميئة. لمست أوكسانا فجأة حافظة مواد التجميل غير المستعملة ومشطت رموشها عدة مرات بمكحلة. ونفضت شعرها المبلول بشكل موجة، وأضافت مسحوق وجه أمها لخديها، ووضعت الطلاء على شفتيها بكمية كبيرة. لماذا تفعل ذلك. لمن، لا تعرف. ليلة العام الجديد. الثوب الجديد. شعرها الأسود وصل حتى خصرها. فمها كبير ومتورد. ذهبت أوكسانا إلى الصالة. أمكنها سماع القرعات والصرخات المعتادة القادمة من الشقة السفلية. فتحت باب غرفة أمها. اتسعت عينا نينا وصاحت بانفعال نحو المطبخ:"كلافوشكا. تعالي. أميرتنا ارتدت ثوبك".

ضمت أوكسانا شفتيها بابتسامة ضيقة، وأعلنت تقول:"مثل بينلوبي كروز". نصف الموسكوفية أصبحت صورة تعبر عن أصل كلافا الجياش بالعواطف.

ضحكت نينا سيرغيفنا بمرح وقالت:"مرة في المساكن قبل سنوات قررنا جني الفطر. هرعت جارتنا فيرا - على الأقل في الثمانين - إلى المرآة وبدأت تطلي شفتيها. قالت أمي لها 'يا خالة فيرا نحن ذاهبات إلى الغابة، لمن أحمر الشفاه؟'. لن أنسى ذلك ما حييت. ردت 'من يعلم، ربما هناك ستقع المعجزة".

ضغطت كلافا شفتيها مجددا، تنهدت أوكسانا، ورن جرس الباب. فتحت نينا ضلفة الباب قليلا فرأت شابا غريبا.

قال:"عام سعيد يا سيدتي. يجب أن تنادي الشرطة. أحدهم يذبح تحت".

قالت أم أوكسانا:"لا تتعب نفسك. الشرطة لا تأتي إلى هنا منذ عهد بعيد. أخبرونا أنهم يأتون إذا مات أحدهم في نهاية المطاف". وأغلقت الباب وأسرعت إلى المطبخ وكان الفروج يحترق. رن جرس الباب مجددا دون انقطاع. تنهدت أوكسانا، حملت الهاتف، وتحركت إلى الباب.

الكحوليون بشر أيضا. فكرت بصمت. دعيهم يستعملون الهاتف اللعين.

كان الشاب لا يزال واقفا على عتبة الباب. وبيده حقيبته الجلدية الثمينة. وحينما شاهد أوكسانا سقط فكه. همهم:"معذرة. هل يمكنني الكلام معك؟".

سالت أوكسانا بنفاد صبر:"ماذا؟".

وفجأة باشرت كلافا بالصياح:"ميشا".

صاح من الأسفل رجل مخمور:"يا صديقتي. يا صديقتي عودي بالحال". وتوسلت امرأة أن ينادوا الإسعاف لأن هاتفهم مقطوع عن الخدمة. تابعت كلافا العويل قائلة:"ميشا، هل هذا أنت؟".

أومأ الغريب بصمت وهو ينظر بأوكسانا، دون أن يتمكن من نطق كلمة. أخيرا سأل:"هل يمكنني الدخول؟". اقتربت الأصوات من الأسفل. تنهدت أوكسانا وأفسحت له الطريق.

قال ميشا:"من فضلك يا بابوشكا توقفي عن الصياح. اسمحي لي أن أبدل ثيابي أولا".

ثم خاطب أوكسانا:"هل بوسعي معرفة اسمك يا آنسة؟".

نظرت أوكسانا له بعينيها العريضتين، وشدت رقبتها الطويلة، وردت بهدوء:"زينيا". كرر ميشا:"زينيا. يا له من اسم جميل. لا أريد غير ذلك في هذه الحياة".

شاهدت كلافا الموقف. وتبع ذلك تأوهات وصيحات تعجب وعناق وقبل. وأكد ميشا أن كلافا ستحصل على شقة جديدة. وفي تلك الأمسية سيعتني بها - وهنا هدايا للجميع.

لاحظت ماما نينا ابنتها وتساءلت من أين جاءتها هذه الحركة المباركة البطيئة، والبريق في ضحكات عينيها السوداوين. وتموجات انسياب شعرها. أما هذا الثوب الرائع… طبعا، لقد فصلته هي بنفسها.

***

........................... 

* ترجمة عن الروسية آنا ساميرز Anna Summers.  2013

* لودميلا بتروشيفسكايا  Ludmilla Petrushevskaya

روائية روسية معاصرة من جيل البيروسترويكا.

ترجمة صالح الرزوق

بقلم: ماتسو باشو

ترجمة : حسني التهامي

***

مولد الخيال!

أغنية لزراعة الأرز

في أقاصى الشمال

كانت تلك الكلمات مفتتحا لقصيدة ثانية وثالثة حتى أتممنا ثلاث متتايات.

في ضواحي المدينة، تحت ظل كستناءة ضخمة، أدار أحد الرهبان ظهره للعالم، وآثرالاعتكاف في صومعته المنعزلة التي ذكَّرني هدوؤها بمكان في أعماق الجبال، يقتات الخيل من كستنائه. خطر على ذهني بعض كلمات، فقمت على الفور بتدوينها:

هناك ثمة ارتباط بين شجرة الكستناء والفردوس الغربي، لذا يطلق عليها "الشجرة الغربية،  يقال أن الراهب جيوجي اتخذ من أخشابها عِصيا يتكئ عليها ويشيّد بها أركان بيته:

الناس في العالم

بالكاد يلتفتون إلى تلكمُ الأزهار -

كستناء الأفاريز

**

على بعد اثني عشر ميلاً أو نحو ذلك من منزل توكي، خلف هيوادا مباشرة، يقبع جبل أساكا محاطا بالأهوار.. حين أوشك موسم قطاف أزهار السوسن "كاتسومي"،تساءلنا:  "إلى أي نوع من النباتات تنتمي كاتسومي ؟"  لم يجبنا أحد. فتجولنا في الأهوار، علنا نجد جوابا لسؤالنا، حتى توارت الشمس خلف حافة التلال. انعطفنا إلى اليمين في  نيهونماتسو، وقمنا بزيارة خاطفة إلى الكهف في كوروزوكا، وأخيرا مع هدأة  الليل هجعت أبداننا بفوكوشيما.

**

انطلقنا إلى شينوبو في صبيحة اليوم التالي، بحثًا عن صخرة السرخس، حتى عثرنا عليها نصف مدفونة

بتربة قرية نائية تحت ظل جبل. حكى بعض أطفال القرية أن الحجر كان يعتلي قمة الجبل في غابر الأزمان. فلما صعد الناس ووضعوا قطعة قماش وفركوها بالسراخس، ثم قاموا بتمزيق أوراق الشعيرأيضًا، تضايق المزارعون كثيرا، ودفعوا بالحجر إلى أسفل الوادي – وهذا ما يفسر حالته الحالية على وضعها المقلوب. لم تكن القصة ضربا من المستحيل:

أياد تغرس الشتلات

كانت ذات يوم تفرك الأشكال

بالسرخس

**

أقلتنا عبَّارة لاجتياز النهر في تسوكينوا (هالة القمر) إلى بلدة سينوي [رأس السرعة]. على اليسار قريبا من الجبال، وعلى بعد أربعة أميال، في قرية إيزوكا، يقع القصر الُمدمَّر، الذي كان يقطنه ساتو شوجي،

أثناء سيرنا سألنا عن وجهتنا، حتى وصلنا إلى مكان يسمى ماروياما، تقع بوابته الكبرى عند سفح الجبل. اغرورقت عيناي بالدموع عند رؤية شواهد قبور العائلة التي كانت لا تزال قائمة في معبد قديم؛ كان للنصب التذكاري للزوجتين الصغيرتين  بالغ الأثر.

على الرغم من كونهما امرأتين، فقد تركتا وراءهما اسمين يرمزان للشجاعة. ابتلَّ كُمي بالدموع عندما رايت شواهد القبور تملأ المكان. 

دلفنا إلى داخل المعبد لاحتساء الشاي، كان من بين كنوزه سيف يوشيتسون وسلة كان يحملها بينكي:

كلا السيف والسلة

في احتفالية الصبية ، وقتما

تتطايرُ اللافتاتُ الورقية

كنا في اليوم الأول من الشهر الخامس

 [18 حزيران

**

قضينا ليلتنا في إيزوكا؛ استحممنا في الينابيع الساخنة، واستأجرنا غرفة أشبه بكوخ بائس، تناثرت على أرضيته الترابية حصائر من القش. لم يكن ثمة مصباح بالغرفة، لذا هيأنا أسرَّتنا علي ضوء الموقد الخافت. ظل الرعد يزمجر والمطر يتساقط سيلا هادرا. أرَّقنا سقف ظل ينز طيلة الليل فوق مرقدنا، ولدغات البراغيث والبعوض. وما زاد الطين بلة، عودة شكواي القديمة مرة أخرى وهي تضطرم كالنار مخلفة آلاما كدت على أثرها أفقد الوعي.

أخيرا مضت ليلة الصيف القصيرة، وانطلقنا مرة أخرى. استأجرت حصانًا إلى محطة البريد في كوري، ولا زلت أشعر بآلام ليلة البارحة. زادت حالتي المرضية من قلقي، خاصة أن أمامنا طريقا ممتدا وطويلا. عندما بدأت هذه الرحلة القصية، أدركت ضرورة التجرد من كل شوائب العالم وعرفت حقيقة الحياة الزائلة.  منحني هاجس احتمالية الموت على الطريق دافعا معنويا لمواصلة المسير، لا سيما أن كل شئ يسير وفقا لإرادة السماء. مررت عبر "بوابة التاريخ الكبرى" وقد دفعتني الجرأة كي أغزَّ الخطى.

**

مررنا بقلاع أبوميزوري وشيروشي، حتى إذا ما وصلنا إلى مقاطعة كاساجيما، تساءلنا عن قبر الحاكم سانيكاتا، من أسرة فوجيوارا، فدلَّنا رجل قائلا: في قريتي مينوا وكاساجيما  الواقعتين عند سفح الطريق الجبلي أقصى اليمين لا يزال الضريح  والنصب التذكاري وسط أعشاب الحلفا قائمين.

في الأيام الماضية تهاطلت الأمطار، وأصبح الطريق موحشا، فمضينا نستكشف معالم الطريق، ونحن نكابد من فرط الإعياء. 

أوحيتا لي كلمتا مينوا (معطف, واق من المطر)  وكاساجيما (مظلة) اللتان تعبّران عن موسم الأمطار، بكتابة تلك الأبيات:

أين

جزيرة قبعة المطر؟

يا لامتداد مسارات يونيو الموحلة

أخيرا قضينا ليلتنا في إيوانوما.

**

كم كان منظر شجرة الصنوبر في تاككوما مذهلا؛ حيث يتشعب الجذع إلى شقين من الأرض،

وهذا هو شكل الصنوبر العتيق.

منذ زمن بعيد، في بداية عهده كحاكم لمدينة موتسو، قام أحد النبلاء باجتثاث الشجرة واستخدام أخشابها  دعائم لجسر فوق نهر ناتوري. على الفور خطر بذهني كلمات قصيدة للكاهن نوين: "لا أثر الآن لخشب الصنوبر." قيل لي أن الناس قد توارثوا عادة قطع الشجرة جيلا بعد جيل، ثم عاودوا غرسها من جديد. ولا تزال أشجار الصنوبر الحالية بشكلها المميز حتى بعد مرور ألف عام.

في بداية رحلتي، أهداني كيوهاكو قصيدة وداع:

آخر أزهار الكرز...

دع سيدي يطالع الصنوبر

في  تاككوما

فرددت قائلا:

منذ إزهار الكرز

كنت أتوق للصنوبرتين التوأمتين  ...

مضت أشهر ثلاثة طوال

**

عبرنا نهر "ناتوري" حتى وصلنا إلى "سينداي"، في ذلك اليوم كان الناس يعلقون قزحية زرقاء

تحت الأفاريز. مكثنا قرابة أربعة أو خمسة أيام داخل منزل في تلك المدينة التي سمعت فيها برسام ذي حسٍ فني رفيع، يدعى كايمون، أخبرني، عند لقائنا، أنه ظل لعدة سنوات يبحث عن أماكن قرأ عنها في الأعمال الشعرية، وأصبح من الصعب تحديد وجهتها؛ لكنه ذات يوم، اصطحبنا لرؤية بعض ما عثر عليه من تلك الأماكن.

كانت حقول جياجينو مليئة بأعواد البرسيم، في الخريف لا يمكنك تخيل أي مشهد في مدن تمادا، يوكونو، وتسوتسوجي - جا - أوكا و دون أزهار "البيرس" البديعة.

 مشينا عبر غابة كونوشيتا [تحت الأشجار] المكتظة بأشجار الصنوبر الكثيفة التي حالت دون اختراق ضوء الشمس.

كان تساقط الندى غزيرا، ويبدو أنه كان على تلك الحال منذ عصور قديمة، دلَّ على ذلك أن خادما أوصى سيده بارتداء قبعة من القش، في إحدى القصائد التي قرأتها. أقمنا صلواتنا في ضريح ياكوشيدو

تينجين قبيل غروب الشمس.

كهدية وداع، قدم لنا كايمون رسومات تخطيطية لماتسوشيما وشيوجاما وأماكن محلية أخرى عديدة، كما أهدانا زوجين من صنادل قش، بأربطة زرقاء قزحية داكنة.

تشي تلك الهدايا برقي ذلك الرجل ومدى ذوقه الرفيع:

سأعقدُ أزهارا قزحية

حول أقدامي -

أحزمة لنعالي

***

يتبع ...

حسني التهامي

بقلم: د. جرنيل أناند

ترجمة: نزار سرطاوي

***

حين لا أجد سبيلًا

إلى أن أراك

وأكونَ معك

وأجمعَ هذا الكونَ كلّهُ

بأفراحه وأحزانه في نَفَسٍ واحد

*

حين أعلم أنك لست قريبةً

ولا حتى بعيدة

لتواعدينا أنا وعقلي

*

حين يذوبُ الوجهُ الساحرُ

والعيونُ الناعسةُ والصدرُ الرخامي

جميعًا وتغدو محضَ خيال

*

حين يتحرك الوقت إلى الأمام

ويتركنا أنتِ وأنا وراءه

ثمّ يدفعني الآن وحدي إلى الأمام

والتفت إلى الوراء

ولا أجد سوى مساحاتٍ فارغةٍ تتفشّى

كالأبدية –

*

حينئذٍ يتملكني

الشعور بالوحدة

في غمرة هذا الاحتفال الطافح بالأفراح والأحزان.

أتافّتُ حولي ولا أجدك

ولا ألبث أن أجدَه وقد ضاع معناهُ

من عقلي... من وجودي ...

*

وحينها أتمنى أن أمضيَ وراءك

وأغيب سريعًا في غياهب النسيان.

***

..........................

When Time Has Moved Ahead

DR Jernail S Aanand

***

When I have no means

To see you

And be with you

And wrap this whole universe

Of joy and pain in a single breath

When I know you are not around

Nor even far away

To date me and my mind

When the charming face and

Downing eyes and the marble breast

Have melted into fiction

When time has moved ahead

Leaving you and me behind

And is now pushing me alone ahead

And when I look behind

Only to find empty spaces spreading

Like eternity

A feeling of being alone

In this festival of joy and pain

Grips me.

I look around and find you not

Soon I find all sense subtracted from

My reason... my being...

And I wish to follow you

Fast into oblivion.

.........................

الدكتور جيرنايل سينغ أناند  شاعر وفيلسوف وباحث هندي يحظى بشهرة عالمية. ولد في عام 1955 في بلدة لونغوال في إقليم البنجاب. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة البنجاب في مدينة شانديغار. صدر له أكثر من 100 كتابٍ باللغة الإنكليزية تتنوع بين الشعر والنثر والقصة والروحانيات وغير ذلك، علاوةً على العشرات من الأوراق البحثية.

نشرت الباحثة الإيرانية الدكتورة رقية فارسي 20 ورقة بحثية حول أعماله. وقد اشترك مع الدكتورة فارسي في ابتداع نظرية البيوتكست (النص المتعلق بالسيرة)، كما ابتدع نظرية "مرض الغيمة" في النظرية النقدية.  ونشر ثلاثة أعمال ملحمية رئيسة، أولاها "غيت، أغنية الخلود التي لم تُغنَّ"، وهي بمثابة تكملة لملحمة "الفردوس المفقود" للشاعر الإنكليزي ميلتون. والثانية هي"حكايات غانتربري"، وهي تكملة حديثة لحكايات كانتربري للكاتب الإنكليزي تشوصر؛ أما الثالثة فهي "الإمبراطورية الشيطانية"، وهي تكملة لملحمة "الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي دانتي. كذلك أصدر بعض الأنثولوجيات الشعرية مثل "محاربة اللهب" و "أصوات من الفراغ" و "الاحتراق المشرق" و "وراء الحياة وراء الموت". وقد ترجمت أعماله الروحانية "النعيم: الجمال الذي ما بعده جمال" و "أنا مِلك يمينك" إلى الفارسية ونشرت في إيران.

شغل الدكتور أناند منصب السكرتير العام للبرلمان العالمي للشعر، كما تم اختياره سفيرًا للاتحاد العالمي للشعراء وسفيراُ لأكاديمية الخيال العلمي المقدونية. كذلك فهو الرئيس المؤسس لجماعة الشعر الفلسفي. وقد فاز بالعديد من الجوائز منها: سيد السلام العالمي والأدب،  جائزة التفوق الأعلى [فيشوابهاراتي] ، صليب السلام، صليب الأدب [إيطاليا]، أيقونة السلام العالمية [نيجيريا]، جائزة الدكتور موهيندر سينغ راندهاوا لدعم الفن والثقافة، وجائزة الإنجاز مدى الحياة من مجلس أدبتي كوزموس ، ومؤخرا جائزة الشعر الدولية الإفريقية ، وجائزة الميدالية الذهبية للإبداع.من الاتحاد الأدبي الدولي في الولايات المتحدة الأمريكية وجائزة غاندي الفلسفية.

 

 

بقلم: د. إبراهيم السعافين

ترجمة: نزار سرطاوي

***

قال لي صاحبي

لهمُ كلً شيءٍ،

لَهُمْ كلّ صنفٍ من الأطعمة

ولهمْ ما تعالى من الأوسمة

ولهمْ ما يشاؤون من أُعطياتٍ

ومنْ مكرمة

ولهم من رفيع المراتب دومًا

ولهمْ شارة العزُّ  والتّقدمة

قُلْتُ يا صاحبي،

لم الآن يا صاحبي؟!

قد رضيتَ زمانًا، فلا، لا تمدنّ طرفكَ

خلف الحجابْ

فهل تقف اليوم ( عبدًا ) بباب الموالي

ولم تطرق، العمر، يا صاحبي

أيّ بابٌ

لهمْ ما يشاؤون يا صاحبي،

ولك المكرمات  جميعًا

وحسبكَ من عزّةِ النّفس عند ازدحامِ

الموائدِ،

عند ارتعاشِ الأيادي، وعندَ تهاوي

الخطابْ

تنهّدَ، حينئذٍ، صاحبي، واستراح ،

كأنّْ مدّ رجليْهِ فوقَ السّحابْ

.....................

As If He’d Stretched His Legs Above The Clouds

Ibrahim Alsaafin

Translated by Nizar Sartawi

***

They own everything

my friend told me,

they own all sorts of delicacies

accolades of the highest order

All gifts or honors that they desire 

they acquire

They always hold the highest ranks

The badge of glory to them goes;

and only theirs are the forefront rows

 *

I said: My friend

why now?!

For long you’ve been content

Do Not, Do Not ever cast your eyes 

on what’s behind the curtain

*

Would you now stand like a humble slave

at the doors of the serfs

Never ever have you my friend knocked

on any door

Yours are all honors

Sustained you are by pride and self-esteem

when feasts are attended by the crowds

when hands quiver and

speeches fall

*

My friend then sighed in great relief  

as if he’d stretched his legs above the clouds

.......................

Ibrahim Al-Saafin Bio

Ibrahim Alsaafin, a Jordanian poet, critic essayist, novelist, playwright, and academician, received his PhD from Cairo University in Arabic literature in 1978. After graduation he worked at different universities, including Yarmouk university (Jordan), the University of Tennessee, Knoxville (USA), King Saud University (Saudi Arabia), UAE University (UAE), and Sharjah University (UAE). Currently he is a professor of modern Arabic literature and criticism at the University of Jordan. He also serves as a chair and member of numerous editorial boards, a member of the board of trustees at several universities and cultural institutions, and a member of the Jordan academy of Arabic.

Alsaafin has to his credit six collections of poetry, two plays, and two novels, as well as a few unpublished MS’s. He also has penned 35 books of literary studies and literary criticism, and hundreds of literary articles published in prestigious literary journals in different Arab countries. Moreover, he has supervised more than a hundred M.A theses and Ph.D. dissertations in Jordanian and Arab universities.

  Alsaafin has received several literary awards, including Jordan State Award (1993), King Faisal International Prize (2001), and Palestine State Award for Literature (2020).

 

قصة: كارين بويه

ترجمة: فرمز حسين

***

بالتأكيد كان يتعقبها، من غير المعقول أن تخطئ في أمر كهذا. لو كانت فقط تملك الشجاعة لكي تلتفت وتنظر اليه، فقط لتتعرف على ملامحه، جبان أم مرعب، ضخم، خشن وخطير أم نحيف ومسموم- لكنها لم تتجرأ خشية أن يفهم ذلك استحساناً منها ويكون تشجيعاً له . عوضاً عن ذلك بدأت تتسارع في مشيتها أكثر ثم أكثر حتى في نهاية الأمر بدت شبه راكضة حتى توصلت إلى تقاطع شارع عريض، هناك كان لا يزال الشارع مليئاً بالناس رغم تلك الساعة المتأخرة. هناك بدأت تتباطئ في خطواتها المسرعة. كانت مضطرة أن تسير مثل بقية الناس كي لا تلفت الأنظار إليها.

لكن طوال الوقت كان تحس بأنه معها لكن عن مسافة بعيدة دون أن يجعلها تغيب عن أنظاره بالطبع، ولكي تختبر ذلك انعطفت عن الطريق حين وصلت إلى تقاطع طريق جانبي، توقفت لحظة لتستمع: كل شيء بدا ساكناً، تابعت السير لبضع خطوات أخرى: السكون نفسه . ببطء شديد ودون أي ضجيج صعدت في الطريق باتجاه المدخل , سكون أكثر صوت خفيف لخطواته تقريباً مثل صوت مروحة تدور ببطء وتردد. أرادت أن تتوقف لكي تسمع فيما اذا هو أيضاً سوف يتوقف ولن تسمع وقع خطواته من خلفها. ولكن ذلك الخوف الغبي للتو منعها عن جديد: إذا هي توقفت لتنظر إلى شتلات العنب البري المزروعة حديثاً كي ترى بأنها بدأت تنمو، حينها سوف لن يفسر ذلك على أنه فضول من قبلها فقط بل أيضاً على أنه تقبل واستحسان وهذا ما لاترغب المجازفة فيه، ولن تجني شيئاً بهذا. لاهثة وبقلب يخفق استمرت في سيرها.

كيف لها أن تعرف بأنه رجل مخيف؟ كيف لها أن تعرف بالأساس بأنه رجل؟ لكنها عرفت ذلك ربما أنها رأت بعض ملامحه قبل أن تعرف بأنها سوف تصبح ملاحقة منه، أياً كان فهي تريد تجنبت أية صحبة في ذلك المساء.

فجأة خطر لها فكرة رائعة. بسرعة مثل الذي نسي شيئاً ما، استدارت تماماً وعادت مسرعة إلى الخلف في الطريق ذاته وقبل أن يتمكن الشخص الذي يلاحقها أن يختفي عن الأنظار، كانت قد رأت بعضاً من ملامحه. نعم إنه رجل، ليس صخماً مثلما رأته بل على العكس بدا صغيراً ونحيلاً وبلباس رث ينمُّ على أنه فقير الحال.

خوفها أصبح أقل . فهو ليس بذلك الشخص الضخم المخيف الذي يستطيع أن يرميها أرضاً ويرمي بثقله عليها فيما لو خلا بهما الطريق. لكنه رجل فقير وليس بذاك الرجل الأنيق الملبس الذي يتصيد الفتيات- بنفس الوقت الذي لم تعد تحسب له الكثير من المخاوف ازداد عندها موجة من التعاطف معه وكأنهما بشكل من الأشكال يتقاسمان قدراً ا واحداً، هي-- تلك الفتاة الأنيقة الملبس -هو --ذلك الرجل الفقير الضئيل – الاثنان على أية حال ينتميان إلى فئة المظلومين في هذه الدنيا. قبل كل شيء ربما كان على أية حال شيء آخر أزاح ذلك الانقباض عن صدرها، كان يمكن أن يكون شخصاً آخر مخيف.

لكن لماذا هذا الشخص الغريب يلاحقها هي وليس غيرها؟ انها ليست بتلك الفتاة الجميلة، أنيقة نوعا ما ولكن ليس إلى ذلك الحد الذي يلفت الانتباه، ودون أن يكون هناك شيء متميز بأي شكل من الأشكال، كما أنها كانت تمشي مسرعة طوال الوقت ولم تكن بفتاة الشوارع تلك التي تتلفت يميناً وشمالاً بنظرات تستقطب الآخرين. في الواقع كانت خارجة من أجل مسألة لم تكن بذات الأهمية بمن سوف تلتقي معهم . ربما على الرغم من كل هذا أن يكون هذا الشخص واحداً من المعارف ؟أو ربما هو مختلاً؟

عليها أن تعبر الجسر، إلى الشاطئء المقابل . هناك كانت العتمة أكثر وخالية من الناس في ذلك الوقت من اليوم . رمت بنظرة فاحصة إلى ذلك الاتجاه: نعم لم يكن هناك شيئا مرئياً في ذلك الظل الداكن . كان يمكن الوصول إلى هناك عن طريق مختصر من جانب آخر . ذلك كان أفضل وكان في المقدور خداعه. لم تكن قد سارت مسافة بعيدة في طريقها، قبل أن تلاحظ بأنه كان الطريق الصحيح، لانه الآن قد اختفى، ولم تعد تسمع وقع خطواته من خلفها.

أخيراً، أخيراً، وصلت . وحيدة تماماً، غيرة مرئية من المدينة هناك وقفت عند الشاطئ، هناك حيث تتدفق المياه وأمواج البحر تتلاطم مع بعض الصخور. الآن حان وقت التنفيذ.

بتألم واضح نظرت إلى أضواء تلك المنازل الشاهقة وهي تتلالأ على مياه الشاطئ المقابل مع انعكاس بريق خفيف من نور السماء الذي لم يغلب عليه بعد عتمة ليل الصيف المتأخرة، وبعض الانعكاسات الصغيرة من مصابيح الشارع، والشوارع الفرعية الغارقة في عتمة بنية مخملية. الأرض كان جميلاً جداً—جداً ولكن مالفائدة عندما لا يكون الانسان نفسه سعيداً مثلما هي حالها الآن . كانت فَزِعَة عندما تخيلت بأنها لن تستطيع التنفس واستنشاق الهواء- لكن ذلك التفكير زال سريعاً.

سمعت حفيفاً من أسفل الأشجار . نظرت إلى ذلك الاتجاه . هناك في الغابة يقف شخص . تستطيع أن تُقْسِم بأنه الشخص نفسه الذي كان يتعقبها. لابد أنه سبقها الى المكان ووقف ينتظرها.

كنت أعرف بأنني سوف ألتقي معك هنا، قال الرجل بهدوء. كان واضحاً بأنه شخص أجنبي، لأنه كان يتكلم بلكنة قوية. ولكن بصوت خافت هادئ وودي، من ذلك النوع الذي لا يثير أية مخاوف.

حتى لو كان شخصاً مختلاً، فقد يتحلى بروح طيبة .و لذلك أرادت الحديث معه من على تلك المسافة.

كنت تعرف ذلك ؟ ردت قائلة دون أنت تعير اهتماماً. تريد أن يعرف بأنها لم تكن خائفة منه- وهي حقيقة كذلك الآن. ماكانت مقبلة عليه كان قد أخذ جلّ اهتمامها ولم يكن هناك حيزاً للشعور بالخوف.

 مشى خارجاً من ظلال الغابة . الإضاءة كانت ضعيفة جداً على أية حال لتلك الدرجة التي لم تستطع أن ترى سوى عينين سوداوين كبيرتين في وجه نحيل، نعم لقد تخيلت ملامحه أيضاً، وتستطيع تمييزها، ملامح شخص جاد، متعاطف عليها أثار مرارة الصعاب التي مرت عليه.

نعم تابع باللغة المشوبة باللكنة القوية ذاتها، لكنه من ناحية أخرى فقط كان يتحدث بطلاقة. أنت سرتِ من أمامي ورأيتك على أضواء أعمدة الانارة في الشارع وانتبهت بسرعة على ما أنت مقبلة على فعله. ولذلك تتبعتكِ . وقلت في نفسي حتى لو كنت قد أخطأت الظن، فان ذلك لا يضير.

لا، إنه ليس مختل العقل، شعرت بذلك من حديثه، لم يكن ضامراً لشيء في دواخله, انه فقط مهتم بها. لكن لم يكن لديها أية رغبة في تلقي المساعدة من أحد. لكن على فكرة ماذا يستطيع فعله لمساعدتها؟

من حقي أن أفعل ما أشاء قالت بصوت أجش.

بعد لحظة سوف أذهب، قال بجدية. لا تظني بأنني سوف أمنعك القيام بما تريدين بالقوة. أريد فقط التحدث معكِ أولاً.

تفضل، فقط على ألا يأخذ ذلك وقتاً طويلاً، قالت ببرود. ولكن بنفس الوقت شعرت بخذلان كبير وأجشهت بالبكاء.

أمسك بيديها ليس بشدة بل برفق واحترام.

لماذا تريدين فعل هذا؟ قال سائلاً

لماذا؟ لأنني لا أجد مخرجاً آخر للعيش طبعاً.

هل لأن هناك شخصاً تهتمين لأمره وهو لايبادلك المشاعر؟

لا، لا ليس كذلك بل على العكس . هناك من يريدني وأنا من لا أريده!

أولا تستطعين أن تخبريه بذلك؟

لا، لا أعرف كيف سا أقول له. لا أملك الجرأة الكافية لذلك!

لقد كُنتُ على صواب قال محدثاً نفسه وهو يهزّ براسه.

قلقها السابق بأن يتعرف عليها أحد ما، عاد اليها من جديد.

كيف لكَ أن تعرف ذلك؟ سألت بحدة. هل تعرفني؟

لا، لكنني خَمَّنْتُ أن الدافع الذي يجعل أحداً يقدِمُ على هكذا عمل هو في الحقيقة دائماً الخوف، تسعة وتسعون بالمائة من تلك الحالات تأتي نتيجة الخوف المبالغ فيه، الخوف الذي هم بأنفسهم كانوا سيضحكون عليه لو كانوا في حالة صحية سليمة. لأجل ذلك تعقبتكِ، أريد أن أقول لك بأن لا داعٍ للخوف.

بقيت صامتة . بماذا تجيب؟من ناحية كانت لديها الرغبة لكي تصبح قاسية فَظة- ما دخله في خصوصياتها؟ ومن ناحية أخرى كانت ترغب في الدفاع عن نفسها ليس إلا، ولكن لم يكن لديها أية أسباب مقنعة تقدمها. لو كان بامكانها مثلاً أن تقول بأنه أي العم يوناس: سوف يُقدِم على قتلي! كان كل شيء يصبح واضحاً. لكن الأمر ليس كذلك. العم يوناس لم يكن له أن يقتلها.

ربما ليس هناك داعٍ للخوف، قالت ببطء. لكنني على صواب!

الآن جاء دوره في أن يسكت، شعرت وكأنه لا يوافق على ماقدمته من أسباب.

عليها أن تكمل: أريد القول بأنه أحد الأقرباء البعيدين، رجل كبير السن، أخذ على عاتقه أمر الاهتمام بي بعد أن توفيت والدتي أيضاً. إنه غريب الأطوار وقاسٍ، وأنا كنت دائماً أخشاه. ولكني بالطبع ممتنة له أيضاً لأنه اهتم بي وتكفلني . خائفة وممتنة . لا أعرف فيما إذا كنت قادرة على توضيح أسباب معارضتي له.

كم عمركِ؟ سأل الغريب.

أنا بالغة با التمام والكمال . قانونياً لم يعد له أية سلطة عليَّ. لكني بحاجة إلى الاعتماد عليه، أنا معتمدة كلياً عليه.

كلياً؟ قال الغريب بتكلف.

اقتصادياً أعني، اذا كان ذلك التعبير أكثر دقة. لو أقوم على معارضة أوامره غداً فبامكانه أن يرميني في الشارع في أية لحظة يشاء .

عندها نترافق، قال الرجل مبتسماً. أنا في الوقت الحاضر أتجول مثل "مراقب حريق" كما يقال . انه فصل مناسب أريد القول . لو كان فصل الشتاء لكان الأمر أسوأ. تفاجأت ونظرت اليه. حتى هذه اللحظة بالكاد فكرت في وضعه. شعرت بالخجل بعض الشيء. لأنه ربما شعر بأنها تتباكى دون داعٍ حيث وأنها في وضع جيد. ندمت على ثقتها به: من عانى بؤساً سطحياً لا يستطيع بالتأكيد أن يتفهم ذلك الانسان الذي يعاني البؤس في أعماقه. على الأغلب أعتقد بأنه يفكر بأن عليّ أن أقبل راضية بالعم يوناس وهكذا تنتهي المشكلة. المأوى والمأكل أهم أمرين في الحياة لمسكين لا يمتلكهما.

تظن بأنني جاحدة، وغير آبهة بما لديها؟ بمزيج من القلق والاشمئزاز قالت:

بل من المؤسف أنك خائفة الى هذه الدرجة، قال. ليس هناك ما يستوجب كل هذا الخوف. بامكانكِ الحصول على عمل متى تشائين، تابع قائلاً.

أي عمل تقصد؟ قالت . خادمة في البيوت ربما؟ لأجل اتمام تعليمي يدفع العم يوناس، وإلا لن أستطيع المتابعة.

لماذا ليس العمل كخادمة في البيوت ؟ أمامك الحياة كلها وحينها تصبحين حرةً . هل أنتِ خائفة إلى هذا الحد من العمل لدرجة أنك تريدين أن تُغرقي نفسك؟

لدي في الواقع تعليم آخر- حصلت عليه قالت بتلعثم مفاجئ، على فكرة أضافت قائلة بسرعة، ليس العمل بحد ذاته ما يخيفني، فذلك بالتأكيد أستطيع القيام به .... لكن كل معارفنا .... ماذا سيقولون عني . لا تستطيع تصور ذلك: أنت تظن بأنني لا أملك الشجاعة، وهذا صحيح، بمجرد أن يقول أحدهم شيئاً سيئاً عني أفقد توازني. على أقل تقدير لا أريد أن يقول العم يوناس شيئاً سيئاً عني . لا أريده، ولكنني أريده أن يحبني.... الجميع عليهم أن يحبونني.

لاحَظَت بأن ما قالته قد يُفهَم على أن فيه غباء كبير وربما كان الأمر كذلك. بيأس مفاجئ انتقلت من حالتها الدفاعية المرتبكة إلى وضعية الهجوم.

لكن من أنتْ ؟ وماذا تفعلْ؟ سألت بحدة غير متوقعة.

مُعلِم، أجابَ وهو يهز بكتفيه . أكاديمي، مؤرخ، فيلسوف. ولكن هذا كله كان منذ زمن مضى . الآن أنا لاجئ فقط.

لكن ماذا تعمل؟ كيف تعيش؟

أنا عاطل عن العمل. غير مسموح لي أن أعمل، أجاب بهدوء. وأعيش على الاعانات. لكنني على قيد الحياة على كل حال.

شعرت وكأنها لُسِعَتْ . أيهما أفضل: أن تفرض شروطاً كبيرة على الحيا ة مثلها. ثم تتخلى عنها لسبب ما، ربما الآخرين يرون ذلك دون أية أهمية، أو مثله حيث لا يفرض أية شروط وراضٍ بقسمته حتى لتلك الدرجة التي لا يسمح له بالعمل ويعيش على الاعانات؟على أية حال لا يظهر عليه اللامبالاة وقلة الشعور بالتعاطف، لذا قالت: كثيرون على هذه الحالة في أيامنا هذه، وكثيرون أسوأ حالاً أيضاً.

هزّ رأسه بجدية وصمت، وهي نظرت إلى عيناه الواسعتين السوداوين وهما تغمضان وتفتحان وكأنه يشاهد رؤئً.

لقد سمعتُ ورأيتُ أشياء فظيعة، قال الرجل بهدوء . لقد رأيت الكره الذي يجعل من البشر أسوأ من الحيوانات المفترسة، ومن خلف تلك الكراهية رأيت دائماً--- دائماً ذلك الخوف الشديد. الخوف هو ما يحوِّل الناس إلى أشرار . لو أننا لسنا خائفين لما كمن في دواخلنا كل هذا الشر.

أحقاً كل هذه الناس خائفة؟ سألت باهتمام. كنت طوال الوقت أظن بأنني الخائفة الوحيدة.

الجميع ----الجميع خائف، قالها وهو يهز برأسه. الوالدان الخائفين يربيان أطفالاً خائفين.

و أية ثقافة تجري بين الناس اليوم غير تلك المليئة بالذعر والحذر من الأعداء--- والكراهية للأعداء وأكثر من كل شيء هو الحذر من أن يظن الآخرون بأنهم خائفون جبناء؟ الهواء كله ملوث بسموم الخوف.

لم تستوعب تماماً ما الذي يقصد من كلامه لكنها كانت تحب أن تستمع لحديثه. صوته كان هادئاً، لكن فيه نبرة من الحزن، وكأنه كان يروي لها حكايات--- حكايات مفزعة ومع ذلك جميلة للاستماع، تمنت لو أنه يأخذ بيديها مرة أخرى ليس لأنه رجل وهي امرأة ولكن لأن القرب منه منحها الهدوء وكأنه أباها أو أمها. شعرت بالأمان، حين سمعت صوته.

و لكن تابع قائلاً من هناك حيث الانسان يتخلص من خوفه ولو بعضاً منه يلقى الشفاء.

أنتَ تريد أن يكون المرء شجاعاً، قالت بتباطئ.

لا، قال بحدة. لا أريد أن يكون المرء شجاعاً. أنا أكره كلمة شجاع لأن هذه الكلمة تم سوء استخدامها كثيراً.

أليس هي الكلمة نفسها التي قولها دائما بمناسبة وبدون مناسبة من قبل هؤلاء الذين يريدون اخفاء جبنهم؟

 من كان بحاجة الى التظاهر بالشجاعة فهو خائف. شجاعة، بطولة غالباً مايكون الوجه الآخر لذلك الخوف القديم. الحرية الطبيعية البديهية الخالية من الخوف تكون عادة هادئة وغير مرتهنة.

الآن بدأت تقريباً تفهمه، لكن ليس من خلال ماقاله ولكن من خلال نبرة صوته ومن خلال صورته، في البداية تأثرت وتعاطفت مع حالة الفقر الذي بدا عليه وفي الوقت نفسه احتقرته بسبب ماظنته من سوء نوايا لديه. الآن ليس بامكانها ان تفعل أي منهما، انها فقط سعيدة لأنه موجود هناك معها.

وقفت ساكنة وهي تسمع صوت حفيف الشجر من فوقهما، الحفيف لم يكن مزعجاً ولاغريباً بل كان لطيفاً وكذلك صوت تلاطم الأمواج وتلك البيوت الشاهقة في الطرف الآخر للشاطئ بأضوائها الفريدة. كانوا يتمنون لها الخير مثلما هو أيضاً كان يتمنى لها الخير.

طوال الوقت كان يتحدث بهدوء وبصوت خافت، الأن انخفض الصوت أكثر حتى أصبح من الصعب سماعه

لأجل ذلك أنا تعقبتك، لأنني كنت أريد أقول لك ذلك .. عني أنا فقد أصابني القدر بكثير من الألم هذا مايراه الآخرون ولكن ما أراه أنا القدر منحي أكثر مما أخذ حيث أزال عني الكثير من الخوف الذي كان لديّ. ولأجل ذلك أحس نفسي مديناً لذلك القدر الذي منحني الشفاء وأضع نفسي في الخدمة- ولا أبقى بدون مهمة على الأرض.

بقيا صامتين، مع حفيف الأشجار وقرقرة المياه.

نعم، والآن أريد الذهاب، قال. لم أقصد أبداً أن أمنعك من القيام بأي شيء.

لكن أنا ذاهب معك لأنني أفهم الآن أنه من الغباء الخوف من العم يوناس وأفهم أنه من الغباء الخوف من اتخاذ الخطوة باتجاه شيء جديد وكم من الغباء الفظيع ان نحسب حسابات جمةً لما يفكر به الناس. غدا ربما أكون قد نسيت هذا

، حينها سوف أفكر بما حصل في هذه الليلة، ربما أتذكر كل ذلك من جديد.

الاثنين بقيا صامتين، بينما ثابر هو على مرافقتها حتى مدخل بيتها . حينها مدت يدها مودعة وبادرت بسؤاله: هل تظن بأننا سنلتقي مرة أخرى؟

قال اسمه.....

تستطعين دائما السؤال عني لدى الشرطة اذا أردتِ ذلك،قال الرجل بنبرة حزينة. حينها ربما أكون باقياً هنا أو أنني اضطررت للرحيل إلى ديار آخر. أنا لا أريد أن أبحث عنكِ مرة أخرى فذلك سوف يجعلك تعتقدين ببساطة بأنك ملاحَقَة.

حاولت الاعتراض على ماقاله لكنه كان مصراً.في النهاية صافحها ومضى في طريقه. تركها متعبة من كل المشاعر، فيما هي هكذا تعبة وخاوية من الأفكار فتحت باب المدخل وأضاءت مصابيح الدرج... لمحته وهو يغيب عن الأنظار بعيداً في نهاية الشارع .

سوف أنسى ما جرى تمتمت مع نفسها وهي تغلق باب المصعد . ولكنني سوف أتذكر بأن شيئاً ما قد حدث – شيئاً مميزاً- شيئاً له علاقة بالحياة.

***

فرمز حسين

كاتب ومترجم سوري - ستوكهولم

2023-01-08

.....................

كارين بويه 1900-1941

شاعرة وروائية سويدية

لها خمس مجموعات شعرية: الغيوم 1922، الأرض المخباة 1924،المواقد 1927، من أجل الشجرة 1935، الخطايا السبعة القاتلة 1941.

خمس روايات: عشتروت 1931، ميريت تستيقظ 1933، الأزمة 1934، قليل جداً 1936، كالوكائين أو "المصل" 1940 وتعد هذه الأخيرة من أشهر رواياتها وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني 1981.

ثلاثة مجموعات قصصية: تسويات 1934، خارج الخدمة 1940، البشارة 1941،القصة المرفقة من مجموعتها القصصية البشارة.

نرفع القبعة أمام الشاعر الروسي المعاصر

دميتري دارين

أحتفاء بيوم ميلاده الثامن والخمسين *

إعداد وترجمة الدكتور إسماعيل مكارم

***

Родина Моя

بلادي

وُحولُ الخريفِ في كلّ مكان،

ولا تُسمَعُ أصواتُ طيور الغرنوق الحبيبة.

إني أرى تمَوّجَ أرواح الرّوس العاتمَ،

إنها تفيضُ بأحاديثِ زوّار الحانة.

**

أما أشجارُ البتولا، التي كانت ترقصُ رقصة الحلقة

أراها قد اختبأت خلفَ المنعطف.

الناسُ هنا يلجؤون إلى شرب الكأس،

ناسينَ ما قد أمرَ به الرّبْ.

**

إني أستنشِقُ نسيمَ سهولنا البارد،

ولديّ أملٌ بأنَّ كلّ شيء سوفَ يتعدّلْ.

لا يمكنَ لي، ولا لطيور الغرنوق

أن نتخلصَ من جذورنا الرّوسيةِ الأصيلة.

**

نعم، إنّكِ حزينة اليومَ يا بلادي،

وتعرفين منذ القدم هذه الآلام،

و إذا كان نصيبُكِ من المآسي كبيرا −

هذا يعني أنَّ في ذلك إرادة الخالقْ.

**

إني سأخرُجُ عاريَ القدمينْ

كي أتنعمَ بذلك الندى،

ها هو الضّبابُ يُغطي النهر.

آه يا موطني الغالي،

إني لأجلِكَ أحيا.. حقاً

من هنا تبدأ أراضي بلادِنا روسيا.

2002

***

Бескрестье

غِيابُ الصّلبان

برجُ الأجراس يعلوه غطاءِ الرأس الرّوسيّ المُذهب،

في الرّوح إحساسٌ بالألم، ويُسمعُ ثِقلُ الآثام،

ما كنتُ أؤمن، وقد فقدتُ الثِقة بالناس،

فقدانُ الإيمان أكثرُ سوءا من الهرطقة.

**

عندنا – إذا أنتَ لم تقتلْ لا تطلب التوبة،

ربما التوبة والعناءُ أمران مُتساويانْ،

خَفرُ الحراسة والخوارنة – في الزي الجميل،

والمسيرُ ليسَ منتظما − بل سريعُ الخطى.

**

كم من المآسي ارتبطت بالموت،

ها هي ستارتي قد أسدِلتْ.

التبصيرُ بزهرة الأقحوان أمرٌ عَبثيّ،

ما المَصيرُ سوى شيء بلا معنى...

**

التكفيرُ عن الآثام – أمرٌ أقرّهُ الخالقْ

عَملُ الرّهبان مع مساعديهم كان واضحاً

أما القديسون، ممن رضي عنهم الخالق، فقد عُذ بوا –

نرجوا أن تصلوا لأجلنا، لأجلنا نحن المُعتقلين.

**

أنظرُ من فوق الصّلبان،

أنظرُ إلى هذه السّماء الزرقاء

أنظرُ من فوق هذه الرّؤوس

أنظرُ أنا إلى روسيا .

غير قادر على التعرّف على هذهِ الوجوهِ،

كأنها قد اعوجّت وتكرنشتْ.

لا يمكِنكَ تقبيل الصّليبَ

فإنّ الصّلبانَ قد غابتْ.

2002

***

Я сдамся последним

سأكون آخر المُستسلمين

كم من الناس حولي قالوا:

كفاكَ عذابا، كنْ كما الجميع،

لقد وجَدتَ لِنفسِكَ مَكانا تحتَ الشمس،

لماذا لا تستقبل فجرَكَ الجَميلَ.

**

ذكرتهم بالحربِ، ولكنْ دونَ جدوى،

قالوا: لقد بيعَ كلّ شيء دون مشاركتِنا،

الحربُ.. نعترفُ بها وحدها،

نعترفُ بذاك النصر العظيم، وحده يُؤخذ بالحسبان.

**

قلت: لقد بقيت لدينا المُقدساتُ،

بقيت تلك الكنائِسُ، والأسماءُ الشهيرة ُ.

قالوا: لقد استسلمَ الجَميعُ،

أنتَ وحدك فقط غريبُ الأطوار.

**

أيها الإخوة.. عَبثا تحاولون..نحن لسنا قوما

نبيعُ أرواحَنا لأجل العيش الرّغيد،

حقا أنهم ضُعَفاءُ، يشيرون إلى الزمن،

حيث ضاعَ كلّ شيء، حسبَ ظنهم، وغابت الحقيقة.

**

نظرتُ حولي فوجدت أنّ الجناحين قد اضمَحَلا..

قام البعضُ هناك برفع الأيدي، وآخرون باطلاق النار على الأرجل.

ناديتهُم: " لا تستسلموا، العَدوّ لن يَرحَمَكم،

إنهم يقومون بشرائِكم لأجل كروشكم" .

**

أجابوا من ذلك الخندق: " توقفْ عن كلامِكَ الخشبي،

لقد وُعِدنا بالترفيع في هذا الأسر...".

إثنان لامنتميان فقط – شاعِرٌ، وكاتبٌ

قاما بتجَنيد القمَر في فصيل ٍ وطنيّ.

**

ألا ترون أنّ قيمة روسيا أكثرُ من قداسٍ يُقامُ (1)

هذا العدو قد عَرّى الضّميرَ، وأراهُ يتقدّمُ

بسهولة في أراضي وطني، نعم سأستسلِمُ،

نعم سأكون آخِر المُستسلمين – وبيدي قنبلة يَدويةٌ .

2006

***

В России

في بلادنا روسيا

مع رسمنا الدائم للصليب، غير أننا نعيش بلا خجل،

هذا الكأسُ كأسي، وقد غطوهُ بقطعةِ خبز، (*)

ليس الموتُ صَعبا في بلادِنا روسيا -

كأنما القلبُ لا يطالهُ الوجَعُ.

**

هذا السيدُ المتغطرس يقودُ سيارته بصَلفٍ،

يَدفعُ العامة إلى حافة الطريق، حيث الوَحل،

ليسَ المَوتُ - بالأمر المُخيف في روسيا،

بل الخوفُ الأكبرُ أن تعيشَ على الهامِش.

**

ها هم من جديد يقسّمونَ الحِصَصَ..

لهذا أرشين واحدٌ، ولذاك فِرستا (2)

أن يَموتَ المرءُ في روسيا ليس بالأمر الكامل،

قبل أن يقوموا بزرع الصليبِ على قبرهِ.

**

أه يا أشجار البتولا، ذات المناديل،

لقد كنت ضيفا بقربكِ بعضَ الوقت،

في بلادنا روسيا يقومون بتقسيم الأراضي بالعدل والإنصاف

هناك.. خلفَ جدار المَقبرةِ فقط .

**

هذه النفسُ مُعذبة كما الزجاج المَكسور،

لم يبقَ لي من الأيام سوى القليل القليل.

الموتُ ليسَ بالأمر البعيد في روسيا،

غير أنه دون البلادِ أقرَبُ.

2005

***

Крысы

الجرذان تغادر السفينة

السفينة لن تغرقَ، والشاطِئ قريبٌ

هاهي الجرذان الغريبة تغادر السّفينة َ

كون إتجاه السفينة لا يناسبها،

ويبدو أنّ عنبرَ السّفينةِ قد أصبحَ فارغا.

**

الجرذان تهربُ إلى أرض اليابسة الموعودة

كي تجدَ لذواتها الفاسدة الدّفءَ والرّاحة

وتسمَعُ صأصأتها اليائِسة:

لا تحرمونا من التأشيرة !

**

ما هو بالنسبة لهؤلاء أرض خصبة، إنما هو لنا مكانٌ ضحلٌ.

وما هو أمرٌ سامٌ لنا، بالنسبة لهم حبّاتُ كراميلا !

لذا تراهم مقابل حفنة قمح من يد غريبةٍ

مستعدون أن يرموا بنا إلى قاع البحر.

**

من غرائب الأمور عند وصول السفينة إلى الشاطئ،

عندما ترسو في الميناء، تسمَعُ جلبة هناك

كأنما يُرادُ بها إغاضة البحّارة

وما هذه الجلبة سوى جلبة تلك الجرذان.

**

ومن جديد نقوم نحنُ باستقبال من هربوا

ونقدم لهم الفرصة من جديد للقيام بفعل الخيانة !

من يعتز بوطنه الأم يدرك حتما

أن لا حاجة للإقتراب من سلالاتِ تلك الجرذان !

2022

***

* دميتري دارين في قصيدته التي نشرت فقط في وسائل الإعلام تحت عنوان (الجرذان)، التي قمنا بترجمتها وتسميتها (الجرذان تغادر السفينة)

الشاعر هنا يسخر من ضعيفي النفوس، يسخر من أولئك الذين ربطوا مصيرهم بالغرب وبالبنوك الغربية، إذ أنهم غادروا وطنهم روسيا ليس خوفا من قذائف قد تدمر بيوتهم في موسكو أو في إحدى المدن الروسية ...!! لا.. بل خوفا من غضب المؤسسات الغربية، وخاصة العم الأمريكي.

......................

* ولد دميتري دارين في 31 كانون أول عام 1964، في مدينة لينينغراد، وهناك نال تعليمه وحصل على شهادة الدكتوراه بالإقتصاد، غير أن الجماهير عرفته من خلال قصائده، و تلك المجموعة الكبيرة من الأغاني الروسية الجميلة والقريبة إلى القلب، التي هي من كلماته. لا يغيب عن البال أن للشاعر دميتري دارين تجارب وازنة جميلة ورائعة، وناجحة في عالم الدراما والمسرح.

الشاعر دميتري دارين، هذا الأديب والصحفي- قامة وطنية معروفة في روسيا ما بعد الإتحاد السوفييتي، فقد وقف ضد عملية هدم الإتحاد السوفييتي، وحارب النيوليبرالية القادمة من الغرب، وقاوم سلوك الإنحناء أمام سياسة أمريكا، وزلم أمريكا في الوطن الروسي، ودعا إلى عدم الإستسلام أمام قوى الناتو، هذه القوى التي عملت على هدم الإتحاد السوفييتي، وقسّمَت يوغوسلافيا، وقصفت المدن في صيربيا، ودخلت بغداد، وعملت على تحطيم الدولة الوطنية في ليبيا بزعامة القذافي، وكانت خلف ما سمي بالربيع العربي، وأشعلت نيران الحرب الكونية ضد الدولة الوطنية في سورية، ونراها اليوم تحيك المؤامرة تلو الأخرى ضد روسيا، والصين، وإيران، وسوريا، والعراق، ولبنان، وضد الشعب الفلسطيني. ويقف هذا الشاعر الفذ، بقامته العالية ضد الظلم، والعبودية، وضد سلوك القطط السمينة، والأخلاق الكومبرادورية، وما قدم من الغرب من إنحرافات وبدع، وما نشأ ونما في روسيا من شرائح باعت أرواحها للشيطان، وعملت ولا تزال تعمل لخدمة الغرب. بعد إعلان بدء العملية الخاصة ضد الفاشية الجديدة، والنازيين الجدد في أوكرانيا رحلت تلك القطط السمينة نحو الغرب، وإلى إسرائيل، ووصل عدد هذه (القوارض الهاربة) إلى دولة الإحتلال الصهيوني، كما جاء في إحدى قصائد الشاعر، إلى 32 ألفا.

دميتري دارين يُمجِّد التاريخ الروسي، ومنظومة القيم الروحية للكنيسة الرّوسية، والأعراف، والتقاليد الروسية، ويتغنى بروح المحبة والتسامح وهو يطالب بالوقوف إلى جانب الإنسان الضعيف، المظلوم.

نقدم للقارئ المحترم اليوم باقة من أشعار دميتري دارين - صديق حركات التحرر الوطني في أنحاء العالم، هذا الرجل المُحب لوطنه الكبير- روسيا.

هوامش ومراجع:

* دميتري دارين شخصية محترمة في روسيا الإتحادية، كان لي شرف التعرف عليه عام 2019 . قمت بترجمة عدة قصائد له، منها ما نشر في الأردن، ومنها ما نشر في سورية، وفي روسيا، ومنذ شهر آذار لهذا العام تنشرهذه الترجمات في صحيفة المثقف الغراء. أنا لا أقوم كما البعض بترجمة قصائد حسب الطلب. البعض مع الأسف قام بترجمة قصائد للشاعر المعارض يوسف برودسكي، الذي تقدم بطلب إلى القنصلية الإسرائيلية بنيويورك في أكتوبرعام 1973 كي يقبلوه متطوعا للذهاب إلى الأرض المحتلة كي يشارك في الحرب ضد العرب.

1. إشارة إلى أحد ملوك فرنسا، الذي قال: إن باريس تساوي القداس .

2. . أرشين: هو قياس روسي قديم يساوي ( 71 سم)، بينما فِرستا:

هو قياس طوله ( 1060 مترا).

* وضعُ قطعةِ الخبز على الكأس - هو تقليد روسي، وهو وفاء لروح الفقيد، وتوديع لها.

* قمنا بنشرهذه القصائد بمعرفة وموافقة الشاعر الروسي دميتري دارين.

3. Дмитрий Дарин. Безымянный Батальон. Москва. 2018 г.

4. Дмитрий Дарин. В Родных местах. Москва. 2019 г.

مقتطف من "تأملات شعرية" :

من قصيد: الشاعر يحتضر

ألفونس دي لامارتين

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

ما الأيام إذن حتى نَبْكِيها؟

شمس، وشمس، ساعة ثم ساعة؛

الساعة التي تؤون تشبه التي ولّت

وما تحمله لنا هذه ترفعه أخرى:

شغل، راحة، ألم وحلم أحيانا،

هذا هو اليوم ؛ ثمّ يحلّ الليل .

*

آه! فلتمطر، يتمسّك  ببقايا السنين

من يداه شديدتان مثل نبات اللّبْلاب

يرى حلمه ينهار مع الأيام!

أمّا أنا، من لم  يعرِق  في الأرض

سأرحل دون جهد، مثل نبتة رقيقة

يقتلعها نسيم المساء.

*

يشبه الشاعر عصافير عابرة،

لا تبني عشّها أبدا على الساحل،

ولا تحطّ على أغصان الأشجار:

متراخية يهدهدها تيار الموج،

تمرّ وهي تغنّي بعيدا عن الحوافي،

ولا يعرف العالم عنها سوى صوتها.

***

....................

* لامارتين " الأعمال الكاملة " 1860،1 (ص347-35)ّ.

- المصدر :

https://www.lalanguefrancaise.com/litterature/lamartine/le-poete-mourant .

بقلم: كـَن نزبـَت:

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

غزال رنة لأعياد الميلاد

عزيزي بابا نويل، قائمتي لأعياد الميلاد هذا العام صغيرة جدا.

في الحقيقة، عمليا لا احتاج اي شيء مطلقا.

قائمتي صغيرة جدا وسهلة القراءة جدا

لأن هناك شيء واحد فقط احتاجه فعلا.

*

غزال رنة لأعياد الميلاد كل ما اطلبه؛

غزال رنة يستطيع الطيران على نحو ممتاز طبعا.

انا حقا لا يهمني ان كان اسمه المندفع او الراقص.

وسأرضى بكيوبيد او المذنـّب او الوثاب.

*

رجاء لا تظن انني طماع؛ اريد واحدا فقط.

فأنت حتى لن تفتقده، وانا سأمرح كثيرا.

اعدك انني سأطعمه واعامله جيدا،

واخرج به كي يطير في الأنحاء كل ليلة.

*

كما ترى، انني لست انانيا. لذا لتجعلها مفاجئة لي

في اعياد ميلاد هذا العام، ارجو ان تجلب لي غزال رنة يطير.

ولكن ان كان طلبي كثيرا بعض الشيء عليك،

فأظن ان آيباد سيفي بالغرض.

***

.......................

كـَن نزبـَت: شاعر اطفال اميركي من مواليد عام 1962. لقب بأمير شعراء الأطفال في العام 2013. يتميز شعره بروح الفكاهة. اصدر اكثر من 20 مجموعة شعرية. من عناوين مجموعاته: (الكائنات الفضائية قد هبطت) 2001؛ (انتقام سيدات الغداء: كتاب شعر المدارس المرح) 2007؛ (مزيد من الدببة!) 2010؛ (صدق او لا تصدق: أخي يملك وحشا) 2015 و(كلبي يحب ان يرقص ديسكو)2021.

 

بقلم: ألن هوب (متباركة)

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

هذه القصيدة

سوف تتكلم عن البحر البائس

الذي جرف السفن نحو هذه الشواطئ

عن الأمهات اللواتي يبكين صغارهن

الذين ابتلعهم البحر

هذه القصيدة لن تقول شيئا جديدا

هذه القصيدة سوف تتكلم عن الزمن

الزمن غير المحدد

الزمن غير المعرف

هذه القصيدة سوف تسمي اسماء

اسماء مثل

لومومبا

كنياتا

نكروما

هانيبال

اخناتون

مالكولم

غارفي

هيلا سي لاسي

هذه القصيدة حانقة

حول التمييز العنصري

العنصرية

الفاشية

الكو كلوكس كلان

اعمال الشغب في بريكستن

اتلانتا

جيم جونز

هذه القصيدة تثور ضد

العالم الأول

العالم الثاني

العالم الثالث

التقسيم

القرار الذي يصنعه الانسان

هذه القصيدة مثل كل القصائد

هذه القصيدة لن تكون من بين الأعمال العظيمة

لن يلقيها المتحمسون للشعر

لن يقتبسها السياسيون

ولا رجال الدين

هذه القصيدة سكاكين... قنابل... بنادق...

تنفجر من اجل الحرية

اجل هذه القصيدة طبل

اشانتي

ماو ماو

ايبو

يوروبا

محاربو نيابينغي

اوهورو... اوهورو

ناميبيا اوهورو

اوهورو

افريقيا!

هذه القصيدة لن تغير الأمور

هذه القصيدة بحاجة الى تغيير

هذه القصيدة هي ولادة جديدة لشعب ينهض...

يستيقظ... يرفض الاستعباد

... هذه القصيدة تتكلم

هذه القصيدة تواصل الكلام... قد تكلمت

هذه القصيدة سوف تستمر

حتى حين يتوقف الشعراء عن الكتابة

هذه القصيدة سوف تبقى حية... بعدك... بعدي

سوف تلبث في التاريخ

في عقلك

في الزمن...

الى الأبد

هذه القصيدة هي الزمن

الزمن فقط سيروي

هذه القصيدة لم تكتب بعد

هذه القصيدة ليس لها شاعر

هذه القصيدة هي مجرد جزء من تاريخ حكايتنا...

حكايتها... حكايتنا

الحكاية التي ما زالت لم تروَ

هذه القصيدة الآن ترن... تتحدث

تثير

تجعلك ترغب بإيقافها

لكن هذه القصيدة لن تتوقف

هذه القصيدة طويلة

لا يمكنها ان تكون قصيرة

هذه القصيدة لا يمكن ترويضها

لا يمكن توجيه اللوم لها

الحكاية لم ترو بعد عن هذه القصيدة

هذه القصيدة قديمة

جديدة

هذه القصيدة منسوخة

من الانجيل

من كتاب صلواتك

من النيويورك تايمز

من الريدرز دايجست

من ملفات السي آي أيه

من ملفات الكي جي بي

هذه القصيدة ليست سرا

هذه القصيدة ستوصف بأنها

مملة

حمقاء

بلا معنى

هذه القصيدة تراقبك

وانت تحاول ان تجد معنى في هذه القصيدة

لكنك لن تتوقف عن الاصغاء لهذه القصيدة

هذه القصيدة سوف تخيب ظنك لأن...

هذه القصيدة سوف تتواصل

في عقلك...

في عقلك...

في عقلك...

***

.....................

* ألن هوب، الذي اشتهر باسم "متباركة" المشتق من اللغة الرواندية والذي يعني "المنتصر دائما"، شاعر وموسيقي وممثل وتربوي أميركي من اصل جامايكي ولد في العاصمة الجامايكية كنغستن في عام 1952.  يتناول شعره موضوعات سياسية واجتماعية وثقافية متنوعة يدين فيها مختلف أشكال الاضطهاد والتمييز العرقي والجنسي والديني في الولايات المتحدة وفي العالم.

 

(من وحي لوحةِ "السعادة"

للرسام التركي عابدين دينو)

بقلم: الشاعرة الهندية لاكسميسري بانيرجي

ترجمة: نزار سرطاوي

4669 لوحة السعادة

أخيرًا يا بيتي الهانئ

يا خيمةَ النعيم المقيم

يا مأوايَ الذي تتسرب إليه المياه

فأعومُ فيه

مع قطرات المطر والأثير

بينما تمرُّ عبرَ أحلامي

سحاباتٌ لطيفة حميمة

من الدفء.

هنا أبتعد عن الأضواء

عن المآزق والمعارك

العاصفةُ تُوَلّي الأدبارَ

بينما أنعمُ بنومٍ هادئ عميق

تحت أغطيةٍ مريحة

بين أهلي وأحبائي

عائلة مُتراصّة من الحيوانات الأليفة والأطفال

متدثّرين جميعًا

بخرَقٍ باليةٍ تفيضُ حُبًّا وحنانًا

وقد علت وجوهَنا الابتسامات

في جنة من الأحتضان

والعناق المقدس

لا نعرف العوز ولا الجشع،

ولا تعترينا الشهوة الجامحة

إذ يضمُّ بعضُنا بعضًا

ونغني رغم النزيف –

غير عابئين بالفقر

لأننا نتنفس الحرية

المفعمة بالفرح –

4661 لاكسميسري بانيرجي

Happiness (Courtesy Painting by Abedin Dino

Laksmisree Banerjee

*

home sweet home

my canopy of bliss

a leaking shelter

where I swim with

the raindrops and ether

cool and cosy wisps

of warmth in my dreams---

where I shun the glitz

the glitches and the blitz

the blizzard returns in defeat

as I sleep safe and deep

in my comfort quilts

*

with my near and dear ones

snuggling family of pets and kids---

all in swaddles of

loving rags in smiles

a heaven of cuddles

with embraces divine

no want, no greed,

no rapacious lust

in each other's arms

we sing despite the bleed----

no penury

for we breathe free

rich in glee---

***

..........................

تعدُّ الدكتورة لاكسميسري بانيرجي واحدة من الأصوات الشعرية البارزة في الهند. وهي أستاذة جامعية وكاتبة وناقدة أدبية ومحررة وتربوية ومغنية. تولت سابقًا منصب نائب العميد، وتُدّرس اللغة الإنجليزية والدراسات الثقافة. وقد صدرت لها ثمانية كتب شعرية وحوالي 160 بحثًا وكتابًا أكاديميًا حول مجالات متنوعة في الأدب والفن والثقافة، وفازت بالعديد من الجوائز.

والدكتورة بانيرجي خبيرة على المستوى المحليّ والدولي في برنامجيْ فولبرايت والكومنولث، حيث تقوم بتدريس الشعر والموسيقى وإلقاء المحاضرات، علاوةً على قراءة الشعر في الجامعات والمهرجانات في العديد من دول العالم. تؤمن باستخدام قلمها وصوتها من أجل التغيير الاجتماعي.

يُذكر أن الدكتور بانيرجي هي المرشح الهندي لرئيس الدولة في مجالس إدارة الجامعات المركزية.

بقلم: ريموند انتروباص

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

مكبرتا الصوت في أذنيّ تصفران كأنهما تغنيان

لإيكو، إلهة الضوضاء،

عقدة الألسن المحلولة،

عن الطيور الصداحة، كـِسـَر الصوت الصحيح

لأجراس الأبواب المكتومة، الأصوات الغارقة

في أنبوبتي المساعدتين للسمع غير الواضحتين.

كان غاودي يؤمن بالصوت المقدس

فشـيـّد كاتدرائيةَ لتحتويه،

ساحبا الناس الذين يسمعون من ركبهم

وكأن الإلحاد نوع من أنواع الصمم.

من سيخذل الرب؟

ولو أنني لم اسمع

ديسبلات الصوت الذهبية للملائكة،

فلقد عشت في قصر خال من الضوضاء

يبعث جرسُ بابـِه

ضوءا فأستطيع أن أجيب.

2

ماذا؟

كلمةٌ تواصلُ النظرَ

في مرايا كأنها عاشقة

لحجم صوتها.

ماذا؟

انا سؤالٌ من كلمة واحدة،

فحص مريض

لشخص واحد.

ماذا؟

أية لغة

سنتكلم

من دون آذان؟

ماذا؟

هل الفردوس

عالمٌ اسمعُ فيه

كلَ شيء؟

ماذا؟

كيف سيعرف دماغي

بأي شيء يمسك

إن كان لديه اذرع عديدة؟

3

يوم أفرغت شقة والدي المتوفى

رميت صناديق الألبومات، كتب غارفي،

مالكولم أكس، مانديلا، والخطابات المسجلة على الاسطوانات.

وجدت شريط كاسيت تي دي كي على الرف،

ملصقة عليه رقعة تقول "ريموند يتحدث."

اشغل الشريط في مشغل أبي القديم

واسمع صوتي وأنا بعمر سنتين يترنم باسمي "أنتروب"

وضحكات أبي تجلجل في الخلفية

غير عارف بأني لم استطع سماع كلمة "باص"

ولم أتمكن من ذلك حتى حصلت على مساعدات السمع.

والآن اجلس هنا أصغي الى فضاء الصمم—

"انتروب انتروب انتروب"

4

ولم يعرف احد ما الذي كان يتقصني

الى ان أعطاني احد الأطباء مجموعة من مكعبات اللعب

وطلب مني ان أضع مكعبا على الطاولة

كل مرة اسمع فيها صوتا.

بعد الاختبار بقيت امسك بيدي

بمكعبات تكفي لأشيد بها منزلا

واسميه محرابي،

اسميه السبب الذي جعلني اجلس في صمت قدسيّ

خلال عظات والدي التي كان يعظ بها الناس،

والخبر الجيد هو إنني لم أكن اسمع

إلا كما تترد أصداء بلبلة بابل.

5

وان كنت لا تلقط شيئا"

فإذاً هناك خلل في أذنيك—

لقد ضبطتا على التردد الخاطئ"

--كاي ميللر

إذاً فربما انتمي الى الكون

تحت الماء، حيث تكون جميع الأغنيات

عويلا مفضوحا لسلاكيا،

إلهة المياه المالحة، شافية،

الآذان المصابة بالالتهاب،

وهو ما ظن الطبيب

انه علتي، لأن الصمم

لم يصب أحدا في العائلة

بل جاء من مكان مجهول،

لذا فقد زرقوا فيهما زيت الزيتون

والماء المالح، وبتنا جميعا ننتظر

لنرى ماذا سيخرج منهما.

***

...................

ولد الشاعر ريموند انتروباص في هاكني بلندن عن أم بريطانية وأب جامايكي. اكتشف والداه إصابته بالصمم وهو في سن السادسة. واصل تعليمه ليصبح معلما وليكون واحدا من أوائل الحاصلين على شهادة الماجستير في برنامج (التعليم بالكلمة المنطوقة) في العالم من كلية غولدسميثز بجامعة لندن. ظهرت أشعاره في مجلات شعرية مرموقة كما قرأ قصائده في محافل ومهرجانات وقنوات إذاعية وتلفزيونية عديدة داخل وخارج بريطانيا. منحته جمعية الشعر البريطانية في العام الماضي جائزة جيفري ديرمر على قصيدته المعنونة (آلة الأصوات)، وفاز مؤخرا بجائزة تد هيوز للشعر لعام 2019 عن مجموعته (المثابرة) التي نترجم هنا إحدى قصائدها بمناسبة فوزه بهذه الجائزة.

 

3142 caraبقلم: كارا بلو أدامز

ترجمة: صالح الرزوق


عملت هي وأختها معا بصمت. لم تكن توجد حاجة للكلام. وركزتا تفكيرهما على الكلب، وكانتا تتعاملان معه كأنه فراش. كان نصف كولي، ونصف ألماني، ونصف كلب رعاة، ويبلغ وزنه ثمانين رطلا. وكانتا تتعاونان معا على جر قدميه الأماميتين على السلالم كي يصعد إلى الطابق الثاني من البيت. وخلالها ينوح بهدوء كلما رفعتا ساقه ليتمطى باتجاه السماء.

وضعت طبق طعام الكلب قرب فمه. السابع. هذا سابع يوم لم يتمكن من تناول الطعام بشكل مناسب، وبلعومه امتنع عن أداء عمله، وتوجب عليها وعلى أختها أن تمسكا به بطريقة تساعد الجاذبية على إلقاء الطعام في بلعومه ليستقر في بطنه. وهكذا لا يتضور من الجوع إلا بالتدريج. انتشرت رائحة لحوم قوية من الطبق الذي وضعته قرب أنفه. ونبح الكلب بضعف بالغ، ثم نقر الأرض بقوائمه، وكشر لها. لو تركت له الحق بالاختيار لتوقف عن الطعام منذ أيام، ولسمح لضعفه أن يتحكم به، ولغاب عن عينيها في مكان لا تعرفه: الغياب عن الوعي ثم الموت. الموت: يمكنها أن تذكره، لكنه لا يعرف كيف ينطق، وتساءلت، لفترة قصيرة، كيف امتلكت هذا الكلب لتقاوم به زوجها السابق، حتى الموت، ولذلك لن تتخلى عنه ولو حاولت الطبيعة أن تعدمه بطريقتها المسالمة. قال لها البيطري في إحدى المرات: الكلب لا يشعر بالألم مثلنا. وبالتأكيد هو يعني أن الكلب لا  يتأمل نفسه، ولا يتساءل كيف سيتصرف إذا تطفل عليه غريب، وبمن سيضحي - بحياتها، أم بزوجها السابق، أم بابنتهما، أم بحياته - ومن سيكون الثاني والثالث والرابع ومن سيحل في المرتبة الأخيرة - إن الاستلقاء والذهن متيقظ وتدور فيه هذه الأفكار ليس مصدرا للألم عند الكلاب. والكلب لا يمكنه أن يعتاد على الألم، ولا يستطيع أن يرى أنه ضيف محتمل ومحترم. وكلما أطعمت الكلب بهذه الطريقة، كانت تؤلمه مع أنها تبذل جهدها لجره بلطف من صدره العظمي النحيل على السلالم المكسوة بالسجاد، وحتى لو تركته قريبا من أحضانها، كان ينظر إليها بعينيه البراقتين نظرة تقول: لم أتوقع كل هذا منك.

بعد أن انتهى الكلب من الطعام، شعر بالتعب بخلاف أمس وهذا الصباح - وأراح مقدمة فمه على الطبق، وترك نصف المحتويات من الطعام المهروس مكوما تحت أنفه - ثم تعاونت مع أختها لحمله على السلالم. عرج نحو النافذة، ودار حول نفسه ثلاث مرات، ثم انهار مع تنهيدة على الغطاء القديم الذي فرشته من أجله. تحامل الكلب على نفسه بكرامة ولكن دون اعتزاز، واستلقى كما لو أنه يتخذ وضعا لنفسه فوق البقعة التي سيرتاح عليها للمرة الأخيرة. كانت تفكر باستعمال لحافها القطني - فهو على الأقل يستحقه - لكن لم يكن بمقدورها شراء آخر جديد، والكلب لا يعرف الفرق بين نعومة غطاء ولحاف. نقلت ثقلها من وركها الأيمن المتورم لوركها الأيسر، وهي تمعن بالتفكير. وفي الخارج كانت شجرة البتولا تخشخش وتلمع بألوانها الخريفية. تحرك خيال فوق ذيل الكلب ثم تراجع. ورسمت الشمس شكل حدوة حصان على شعره الغزير. يمكنها تأجيل موته ليوم آخر لو أرادت أو يومين. ولها الحق بالاختيار. غير أنه عليها أن تسرع باختيارها، إنما لا توجد لديها فرصة مع القدر، بل مع الوقت فقط. وحينما غادرت أختها، ومعها البنتان لتناول كوكتيل الحليب ثم النوم. طبعت كل منهما قبلة على رأس الكلب، وثانية، والشعر الطويل والأسود يلامس الغطاء. ثم عانقتاه وربتتا على أقدامه. وأخيرا حل الهدوء على البيت. فاستدعت البيطري للبيت. وجاء فعلا في وقت متأخر من تلك الأمسية. 

من هذا المطبخ، سمعت صوت شاحنته تدوس على الممر المفروش بالحصى. هو رجل كبير ووسيم. وقفت قرب النافذة بعيدا عن الأنظار تراقب قدومه. كان فمه مطبقا كأنها تهم بتقبيله، وكلما اقترب، كانت تسمع صفيره. تسلق السلالم الخشبية التي جهزها زوجها السابق ولكنه تردد عليها قليلا، وتراجع، وتوقف، وفحص المواضع الضعيفة. كانت قد انتبهت لبداية تعفنات، واستعارت كتابا من المكتبة العامة يشرح صيانة المنازل. وهي تحتفظ بهذا المشروع لوقت آخر. حينما لا يجافيها النوم. وهي لا تثق بنفسها والمنشار الكهربائي بيدها. وصلت إلى الباب قبل أن يقرعه.

قالت: ”شكرا لأنك أتيت، ولا سيما أنه يوم أحد”.

كانت تعيش على أطراف طريق ترابي، وبعيد عن العيادة. وكان يعمل ويسكن في عيادته. فشقته فوقها في الطابق الثاني.

ابتسم البيطري. هز منكبيه. وقال:”لم أكن مشغولا. أمرر الوقت فقط”.

قادته لغرفة المعيشة.

سألها:”هنا أم في الخارج؟”.

قالت:”هنا”. سألها إن كانت تفضل أن تكون مع الكلب فقالت: ”نعم”. جلست القرفصاء. وشعر الكلب بألمها فاضطرب. لحس وجهها بغيظ. وفك البيطري علبة أدواته، وعبس بالإبرة التي جهزها حتى يستقر السائل في الأنبوب. واستعمل الكلب قائمتيه الأماميتين ليجر جسمه نحو الأمام حتى أصبح نصفه في أحضانها.

قالت: ”وداعا”. وربتت على أذنتيه الناعمتين، وتحسست مفاصله وهي تجر أذنيه للخلف بالطريقة التي يحبها، بمحاولة لترافق هذا المخلوق، وهو يغادر وعيه الرقيق دون أن يفقد الطمأنينة المعتادة التي تشعر بها دائما بسهولة. ولكنها فشلت. ولم تكن تفكر إلا بنفسها. وجد البيطري شرايينه، نبح الكلب، وتوتر، ثم تراخى، وبقيت عيناه مثبتتين عليها بقلق. كأنه لا يزال يسأل: ما هذا؟. ماذا يقلقك؟.

وطبعا كانت تعرف أن البيطري سيحمل معه جثمان الكلب بعيدا كما طلبت منه. وحينما سألها: ”جاهزة؟”. لم تفهم ماذا يقصد. هزت رأسها بكل الأحوال، واستوعبت الموضوع حينما رفع الكلب بين ذراعيه بحركة واحدة. وبعد أن وقفت، حرك البيطري الكلب بيده ليخفف من ثقله. وبدل جثمان الكلب موضعه بخمود كأنه كيس يضم ترابا مفككا.

قالت: ”شكرا”. لم تكن متيقنة لمن توجه شكرها. ولماذا.

فتحت الباب الأمامي للبيطري.

قال البيطري موجها كلامه للكلب: ”حان الوقت لتعود إلى بيتك أيها الرجل الطاعن بالسن”. ثم قال لها: ”سأرسل لك الفاتورة”.

قالت مجددا: ”شكرا”.

راقبت البيطري يحمل الكلب إلى شاحنته، وآمنت أن الأسوأ قد انتهى، هذه الأمسية على الأقل. ولكن البيطري توقف فجأة، وفتح الكلب فمه، وانسكب منه على الأرض سائل أبيض. ولاحظت اسوداد التراب. وانتظر البيطري حتى انتهى التقيؤ ثم تابع مع الكلب بقية الطريق إلى شاحنته. وألقى الجثة في الخلف.

نادت من الباب: ”انتظر”.

وأسرعت على السلالم، ثم عادت ومعها اللحاف. حملته إلى الشاحنة، وهي تقول لنفسها: أنا امرأة حمقاء.

سألته: ”هل هناك مانع؟”. نفض البيطري رأسه. وتراجع، وسمح لها أن تغطي الكلب باللحاف. كانت أقدامه متناثرة بطريقة غير ودودة كأنه ينام على أرض رطبة. وكان جسمه قد تصلب. وبعد أن لفت بإحكام أطراف اللحاف حول خصره، لم تستسلم لها مؤخرته. قالت لنفسها أيضا: أقدم كل شيء في الوقت غير المناسب.  وللشخص غير المناسب. في الغد، حينما تأتي البنتان، ستخبرهما أن الكلب رحل. وستغضبان لأنها لم تخبرهما من قبل لتتمكنا من توديعه. وستقضم الكبرى شعرها، وستضربها الصغرى كما حصل حينما أخبرتهما أنهما لن تلتقيا بأبيهما لبعض الوقـت. وسألتاها: بماذا أخطأت معه؟. ولكن لا يزال أمامها وقت حتى الغد. الآن هي وحدها. وعليها أن تدع الدجاجة المتجمدة أن تذوب لتحضير الغداء، وأن تغسل اللحاف القديم الذي استلقى عليه الكلب قبل ساعة عندما زحف الظلام على البيت، وجر وراءه برد الليل، غير أنها بالتأكيد ستكون آمنة.

سلحت جهاز الإنذار بإضافة الرمز السري بضربات من أصابعها. وغسلت طبق الكلب في المغسلة. وتركت الماء ينسكب حتى ارتفعت حرارته، ووضعت يديها تحته. وأشعلت النور وهي تدخل إلى الغرفة. وأطفأته وهي تغادرها. وأغلقت الستائر بوجه الظلمات.كارا بلو أدامز CARA BLUE ADAMS: كاتبة أمريكية مولودة في هامبشير الجديدة. عملت بتدريس فن الرواية في جامعة أريزونا. تعيش حاليا في لويزيانا. أصدرت أول كتاب لها بعنوان “لن تستعيدها أبدا” في نهاية عام 2021 وحازت به على جائزة جون سيمونز للقصة القصيرة. 

 

 

خيري حمدانبقلم: كالويان خريستوف

ترجمة: خيري حمدان


разговор

حديث

عندما يتوقّفُ المطر

يظهرُ الحمامُ للعيان.

نادرًا ما يلحظه أحد

لكنّ الحمامَ لا يفتأ يذكّرُ بحضوره.

وأنا أريدُ مثله

أن أتربّع بين غصونِ الصمت،

المغطّاة بماءِ المطر

لأذكّرك بين الحين والآخر

أهميّة الاستماعِ لصوتك.

وأذكّرك أن الوقتَ ما بعدَ المطر

حين يملأ الدفْء الأنحاءَ ثانية

بطيفٍ من خيوطِ الذكريات،

لن يكرّرَ المشهد ذاته

إذا لم يتماهى صوتك مع رحابةِ الفضاء

**

دعنا نتحدّث. 

Церква

كنيسة

تُقرعُ الأجراسُ عندَ اكتمالِ الساعة.

رائحة البخّور،

رائحة الفتيل المنطفئ.

تُضاءُ الشموعُ

تلمعُ الأعينُ الرطبة.

الأبسطةُ المغبرّة ترحّبُ

بخطواتِ المصلّين.

شخصٌ ما يقف في المدخل الخارجي

في العتمة.

يتردّد، هل يدخلُ الكنيسة؟

تُقرعُ الأجراسُ عند اكتمالِ الساعة.

**

съвпадения

مصادفات

تصادفتْ خطواتهم

في طرق عديدة

توقّفت أنظارُهُم

في أماكنَ واحدةٍ

متماثلة.

لكنّ حواسهم

لم تلتقِ

أبدًا. 

**

Крепост

حصن

غصنانِ منكسران

حجارةٌ متساقطة

رأسُ مالٍ مهدور.

وهناك عند المدخلِ

ما بين الحجارةِ المرصوفة

انبثقتْ شجرةُ جوزِ هند

بلغَ جذرُها القرنَ الرابعِ الميلادي

وأوراقها تبثُّ

فيلمًا تاريخيًا

في ظلال المدخل.

**

Гара

محطّة

انطلقَ رصيفُ المحطّة

وبقي القطار.

ابتعدت باقةُ الورد

ولم تظهر اليدان.

وسكّةُ الحديد تراقب صدأها الكامن

بخجل.

***

.....................

* ولد الشاعر كالويان خريستوف عام 1997، أنهى دراسته الثانوية في مدينة غابروفو في قسم اللغة البلغارية والآداب. درس الأدب البلغاري في جامعة صوفيا "القديس كليمنت أوخريدسكي" ويعدّ أحد مؤسّسي الموقع الأدبي “Tetradkata.com”. نشرت قصائده في "الصحيفة الأدبية"، مجلة "الشعر الاجتماعي"، "عالم الأدب"، المناخ "زورنيتسا" وغيرها. كتب القصائد المغنّاة. صدر له ديوان "مبارزات ودّيّة" عام 2018، "مصادفات" عام 2018، "جزيئات مالحة" عام 2020. فاز بالجائزة الوطنية "نيكولا فابتساروف" عام 2019.   

 

في نصوص اليوم