ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

بقلم: كاثرين هيني

ترجمة: صالح الرزوق

***

عاد غوردي ابن ميا المراهق من العمل إلى البيت، وكان منهكا. مع ذلك قالت ميا لنفسها: يبدو سعيدا جدا. لا بد أنه يعشق عمله. وهو يعيش حياته كالمخمور.

تبدو ميا مثل أمها. لكن غوردي استثناء بين المراهقين أمثاله، ليس بسبب نباهته أو مظهره - فقد كان شديد التألق، وتعتقد ميا أنه حسن المظهر - وطبيعته لطيفة ودمثة أيضا. وهو الآن في السابعة عشرة من عمره، ولم يتسبب لميا ولو بلحظة قلق واحدة. كان نسيج وحده بين أقرانه المراهقين: من نوع نادر، وسيم وفاتن بوجه طويل، وربما موهوب، ولديه قدرات ليهب الآخرين بركاته ومعجزاته.

حينما عاد غوردي من عمله الصيفي، في السوبرماركت، كانت ميا في المطبخ، تفتح رسائلها، وتغذي وارول، وهو كلب صيد من نوع كوكر، صب غوردي لنفسه كوبا من الحليب وقال:"جاءت السيدة العجوز وطلبت سمكتي قريدس". فقد كان يعمل في قسم الجزارة، ولاحظ أن العجائز اسوأ الزبائن، دائما تطلبن ذرات قليلة من اللحوم. وتابع كلامه:" قالت 'واحدة لي والأخرى لابنتي'، فأخبرتها إن ثمنها اثنين وأربعين سنتا، وحينها نظرت لي كأنها تفكر أن لا تحسب حساب ابنتها في المرة القادمة".

حدقت ميا بغوردي، ابنها الوسيم، بابتسامته الناعسة وعينيه البراقتين ووجهه المحمر، وخطرت لها الفكرة المهينة.. أن غوردي يعيش حياته كإنسان مخدر.

كان المخدر الذي وقع عليه اختيار ميا في أيام الدراسة هو الحشيش. وحين تعود الى البيت بوقت متأخر، تفوح منها رائحة أقوى من رائحة شجرة عيد الميلاد، وعيناها كالزجاج، ولا تتوقف عن الهراء، والإحساس بالجوع. فتضع أمها جانبا حياكتها أو رقعة كلماتها المتقاطعة وتقول:" أهلا بك يا عزيزتي. هل أنفقت وقتا طيبا مع صديقاتك؟".

كان لأم ميا وجه تام الاستدارة، وأنف شامخ، وعينان واسعتان ملؤهما التفاؤل، وابتسامة لا تذبل (كانت تبدو كأنها نسخة من فروستي رجل الثلج، إذا وضعت على رأسه شعرا مستعارا أجعد). وكانت تحب طهي المعجنات في الفرن، أو ما يشبه المعجنات. وكانت تحضر مع ميا عجينة الكعك بالسكر، وتأكلها قبل طهيها، أو تخبز الجلاتين المحلى تحت الدجاج لتحضر منه السميري بالشوكولا.

وكانت ميا تزمجر لفترة طويلة وتسرد حكايات ملفقة، مثل "جاءت هذه الليلة بنت تضع أسلاك تقويم الأسنان، ولم يتعرف عليها أحد، ولم نعرف من دعاها، أو لماذا تضع الأسلاك مع أنها في مدرسة ثانوية، ولكن بعد أن هجرت ميشيل سكوت اعتادت على ذلك -". وأخبرت ميا أمها إنها تعني اعتادت على تبادل القبلات. "وكما تلاحظين أرى أن هذا مجرد هراء. والآن أود أن أخبر ميشيل أن صديقها ينجذب إلى الأسلاك، ولكن أعلم أنها ستغضب".

فتقول لها أمها:" آه يا عزيزتي". ويغطي وجهها لون زهري وتضيف:" يسعدني انك تخبرينني بكل شيء. وأنا مسرورة لأن العلاقة بيننا تقوم على الصراحة".

فتقول ميا:" تناولت هناك أفضل سميري تذوقته في حياتي كلها".

ويمكن أن تفهم أن أم ميا، التي تدير طاولة المبيعات في متجر أقمشة، لا تتعرف على المراهق المدمن، لكن ماذا عن ميا؟. كانت ميا تعمل في عالم الفن، بصفة مساعد مدير لصالة عرض في جورج تاون، ومع أن الصالة هادئة ووقورة إلى حد ما، كانت العقاقير متوفرة. واحتفظت ميا بخمس نظارات شمسية في طاولتها من أجل الفنانين الذين يأتون للمشاركة بمعارضهم مع تلاميذهم إما بعينين لا يظهر البؤبؤ فيهما بسبب تعتطي ااهروين، أو انهما متسعان بشكل قرشين من تعاطي الكيتامين. ولا تستغرق وظيفة ميا إلا أربع ساعات، وفي إحدى المراحل كانت تنفقها برفع شعر نحات مشهور وهو يتقيأ أملاح الاستحمام في دورة المياه. وكانت شهرة ميا معتدلة في الصالة، ومعروفة أنها من أوجد نظام اللاسلكي (في التسعينات) وهو ما سمح للموظفين أن يختفوا في زوايا المعرض، ويتواصلوا مع بعضهم البعض لمتابعة حركات بعض الرسامين قائلين: لديه مشروب في يديه.. إنه يترنح للأمام والخلف... قال لكلوديا وولف إنها "غير ناضجة"... يحاول أن يفتح باب إحدى اللوحات. يعتقد أنه الحمام.

والآن ها هي تفكر أن ابنها مخدر من الحياة. ضحكت ميا من هذه الفكرة. ولكن - غوردي؟. هذا يبدو مستحيلا. حينما كان طفلا كانت أم ميا تقول بصراحة:" أرى بكل وضوح أن غوردي طفل عذب المحيا والطباع، ولا يوجد مثله في العالم. أعلم أنك ستضحكين مني، ولكن أشعر بالأسف لكل الأمهات اللواتي تعتقدن أن ابنهن هو الأفضل". ضحكت ميا منها، ولكنها وافقت سرا. واستمر غوردي بهذه الهيئة.. حلو القسمات وبسيط الطباع في كل المراحل التالية من حياته.

الجميع يعلم أن الحب أعمى. ولا شك أن ميا وافقت أن الحب أعمى. فقد كانت تلتقي مع زوجها السابق بمواعيد غرامية وتفسر عبثه مع النادلات على أنه من باب حسن السلوك والمشاعر الإنسانية. ولكن لا أحد يعترف أن حب الأبوين أعمى أيضا - على الأقل لم يخبر أحد ميا بذلك. ولم ينوه أحد لميا أنها لا ترى غوردي الحقيقي. ولم يخبرها أحد أن الحب يضع غشاوة على البصر كلما نظر الآباء لأبنائهم، حتى أنه يستحيل تخيل أنهم يتعاطون المخدرات - حرفيا يستحيل تخيل حدوث ذلك. غوردي يدخن الحشيش؟. كيف يمكن لذلك أن يحصل؟.

قال غوردي من الكنبة حيث كان جالسا يتفحص هاتفه:" توقفي عن التحديق بي يا أمي. هذا يرعبني".

تدرك ميا كيف يبدأ الإدمان. فقد بدأت هي حينما دعيت إلى حفلة. كانت حفلة من النوع الذي يشترك فيه الصغار في كل عطلة أسبوعية، ولكنها دعيت لمرة واحدة، وأحبت أن تتكرر هذه الدعوة. وحينما مرر أحدهم سيجارة حشيش في الحفلة، نظر الجميع إلى ميا ينظرون لردة فعلها، فتذوقتها مرة. ثم مرة ثانية. (ميا عمليا لم تكن تقاوم ضغط العيون المسلطة عليها في المدرسة). ولكن مع الوقت بدأت تعتقد أن هؤلاء الصغار يزمعون على أمر ما - وبعد النشوة تصبح كل خلية في الجسم متراخية، ويسهل التعامل مع كل المواقف الاجتماعية. وهكذا تحولت إلى إنسانة مسلية ومنفتحة، وفجأة تزايد عدد أصدقائها، وأصبح بمقدورها الاشتراك بالعديد من الحفلات.

بدأت تشعر أن ميا الصلبة هي ميا الحقيقية. وميا الصابرة إنسانة في ظرف لا يتلقى العناية المناسبة، وتعاني من قرحة أو أوجاع الشقيقة. كل إنسان لديه الحق في معالجة معاناته. وعما قريب على ميا أن تدخن في الصباح قبل دوام المدرسة وفي ساعة الغداء، وخلال استراحات دورة المياه في فترة ما بعد الظهيرة (لأن ما بعد الظهيرة مزعجة جدا دون هذه الاستراحات)، وبعد الدوام وقبل الغداء وبعده، وقبل النوم في السرير، بغض النظر عن عطلة الأسبوع حينما تحصل على فترة تنفس طويلة من ما بعد ظهر الجمعة وحتى صباح الاثنين.

خابر ميا زوجها السابق جاك هنري، على أمل التفاهم واستعادة الثقة، متناسية أنه لا يمتلك هذه الصفات، وهي بعض الأسباب التي قادتهما إلى الطلاق.

وأخبرته بتوقعاتها عن ابنهما، فقال:" آه يا للمسيح. أتمنى أنه ليس الحشيش".

عبست ميا وقالت:" أعتقد أن الحشيش أفضل الاحتمالات".

قال جاك هنري:" ولكن الحشيش يجبرك على الاستلقاء والكسل. ولدى غوردون الكثير من الفراغ. وهو بحاجة لمزيد من الطموح".

" حسنا، أنا…"..

قال جاك هنري:" الآن الشباب في شركتي يدخنون الكوكايين إذا كانوا بحاجة لليقظة وكتابة مذكرة. إن لم يكن الكوك فهو الريتالين".

سالته ميا:" هل هذه نصيحتك؟. أنه عليه أن يتجه إلى المحفزات؟".

قال جاك هنري والذي يعمل تسعين ساعة في الأسبوع، ومرة تم تشخيصه بنقص فيتامين D بسبب نقص أشعة الشمس:" كلا. نصيحتي الحقيقية أنه على غوردون أن يخرج من البيت لفترات أطول. فهو ينفق أوقاتا طويلة في البيت".

قالت ميا:" يمكنك أن ترافقه بنزهة في عطلة الأسبوع".

قال جاك هنري:" ليس وعقد أوبرلين للتحويل قد حان وقته، لا يمكنني ذلك".

كان يحتج على طلاق ميا له. بالإضافة إلى بقية الشؤون التي تشغله.

في يوم الثلاثاء حصلت ميا ومعها غوردي على عطلة، وقاما بزيارة دمشق لرؤية أم ميا. أخبرت ميا غوردي وهما يربطان حزامي الأمان:"أخبرتني أنها أعدت مفاجأة لك".

قال غوردي:" ربما شال أفغاني". كانت أم ميا قد حاكت ملاءات أفغانية متعددة لكل صديق وعضو في العائلة، ولأصدقاء الأصدقاء، وأصدقاء أعضاء العائلة. لو أن هذه المنسوجات الأفغانية كانت عام 2020 ورق دورات مياه لأصبحوا جميعا مليونيرات.

قالت ميا وكانت متأكدة مائة بالمائة أتها أشغال أفغانية:" من يعلم".

قال غوردي:"لا بأس لو أنها كذلك. فأنا أحب المنسوجات الأفغانية".

حينما ردت أم ميا على الباب احمر وجهها المستدير بالحبور من المفاجأة التي تفوق مفاجأة الحياكة الأفغانية. وضعت أصبعا على شفتيها ثم تقدمت إلى الصالة، وأغلقت الباب وراءها.

قالت:" مرحبا يا عزيزتي. تبدين جميلة جدا يا ميا ومتماسكة. وأنت يا غوردون يا لك من شيطان وسيم".

قال غوردي:" تحياتي يا جدتي. لماذا نحن نقف في الخارج .. في الردهة؟".

قالت أم ميا:" بنجامين ينام في مقعدي". وبنجامين هو رجل الصيانة المتقاعد في المحلة، شاب أشقر، وله لحية، بالثلاثينات، ومرة ربت على ميا ببهجة. أضافت:" جاء ليوضب المفاجأة، وجهز الكاكاو، وكنا نتبادل كلاما عذبا، ثم غلبه النوم. فقد أتعبته هنا جدا لدرجة مخزية. ولكن هيا إلى الداخل. سأريكما المفاجأة".

تبعا أم ميا إلى داخل الشقة، ومروا جميعا باحتراس من أمام بنجامين، الذي كان يبدو بحالة فقدان للوعي، ومستسلما لمتكأ أم ميا. وكانت تفوح منه رائحة بودويزر قوية. (أحيانا، بصراحة، تكون كأنك تتسلسل وراء أم ميا وتلقي عليها شبكة، وتهددها بالجر إلى الخلف).

فتحت أم ميا باب غرفة النوم الاحتياطية وهمست تقول:" تفضل وانظر. أحضرت لك بلاي ستايشين لتلهو بها في أوقات زيارتك".

بدا غوردي مبهوتا وقال:" هل هذه حقيقية؟. من أجلي؟ شكرا لك يا جدتي".

وضع ذراعيه حول كتفي أم ميا، فلفت خصره بذراعيها، وتمايلا للأمام والخلف قليلا. كانا دائما حميمين في عناقهما.

قالت ميا:" أليس هذا مرتفع التكلفة يا ماما، لقاء شيء لن يستعمله غوردي إلا في فترات متباعدة".

قالت أمها:" آه منك يا ميا. كم أنت مقلقة. تقاسمت التكلفة مع عائلة داك وورث وعائلة موريسي، لديهم أحفاد بعمر غوردي. لا تهتمي. والآن يا غوردون هل يمكن أن تعلمني كيف ألعب بها؟".

قال غوردي:" حتما. ما هي الألعاب الموجودة لديك؟".

قالت أم ميا:" لدي الرجل العنكبوت 3، أضافها بنجامين للجهاز. إذا وافقت أمك على الاهتمام بغدائنا، يمكننا أن نلعب نحن لعبة سريعة. وكل شيء جاهز في الثلاجة يا ميا".

ذهبت ميا إلى المطبخ، وكانت قلقة من التكاليف. ثلاثة لبلاي ستايشن واحدة ليس أمرا "تافها". فقد دفعت ميا إيجار أمها، ومع أن لدى أمها بعض المدخرات، لكنه ليس بالكثير.

قالت أم ميا من الغرفة الأخرى:" ماذا علي أن أضغط لأجعله يقفز؟". رد غوردي بكلام غير مسموع.

فتحت ميا الثلاجة، وتطلعت لمحتوياتها: لحم بقر مشوي، خبز بيتزا، سلطة المعكرونة، رقائق خبز البيتا، طبق من الفريز، وقشدة طازجة للخفق. كل ما تشتهيه، وهذا ليس شيئا "تافها" أيضا.

صاحت أمها:" أنا أتسلق المبنى. انظر لي كيف أواصل التسلق".

قال غوردي:" أنت فعلا تحسنين صنعا".

فكرت ميا كيف أنها في أيام المدرسة الثانوية لم تسأل نفسها من أين لديهم النقود لشراء جينز جورداشي وتذاكر السينما ورحلات عطلة الربيع مع صديقاتها. ولم تفكر بالتضحيات المالية التي تحملتها أمها لتوفر لها تلك الأشياء من مرتبها الذي تتقاضاه من متجر الأقمشة، ومن تقاعد والدها الميت، حتى أصبحت هي بدورها أما. والآن ها هي أمها، تريد أن تلعب الرجل العنكبوت 3 مع غوردي، بينما ميا نفسها لم تهتم، ولو حتى بشراء كونترول. حملت ميا لوح الخشب، ولكنها تمهلت، ومسحت عينيها. زمجر بنجامين في الكرسي، وتقلب بموضعه. لم تفتش ميا غرفة غوردي، ولم تفكر بانتهاك حقه بالخصوصية، ولن تفعل ذلك. كانت ترتب له غرفته فقط - تحمل ما يحتاج للغسيل، وتوضب سريره، وتكنس من تحت السرير بقع الغبار. وإذا اعتبرت ذلك النوع من العناية بالبيت على أنه "تفتيش" فهي تنتهك خصوصيته منذ سبع عشرة سنة. بصدق لم تكن تبحث عن الماريغوانا أو الاطعمة، أو عن كيس مليء بالحشيش.

(عموما لم تجد شيئا).

ولا أحد يعرف مخاطر المخدرات أكثر من ميا. ولكنها لا تقف من مخاطرها موقفا ميلودراميا أيضا، حتى بعد أن أصبح الحشيش قانونيا. وتعلم أن الحشيش سمح لها بحرية التصرف في أمور لا تفعلها دونه. هل كانت ميا سترافق شانس دوبوز إن لم يكن مصدرا للحشيش؟. وهل كانت تسمح لكيربي ستيل (مع أنه من النمط الفاشل) أن يعاشرها تحت كومة من المعاطف في حفلة لو أنها ليست فاقدة لرشدها؟. وهل كانت تتبادل قبلة مع ذلك الولد في زقاق البولينغ مع أن أسنانه فظيعة وكأنها تقبل جورج واشنطن وهو يضع أسنانه الصناعية؟. وهل كانت تخدش سيارة أمها بجوانب المرآب حينما خرجت منه ثم قامت بطلاء الخدوش بطلاء أظافر أزرق؟. وهل كانت بطاقتها لترفض عدة مرات في تاكو بيل حينما اشترت في وقت متأخر عجينة بيتزا ونتيجة ذلك وضعوها على القائمة السوداء؟. وهل كانت لتاكل بيض أرنوب عيد الفصح المصنوع من الشوكولا مع أنه لأخت ليزا موبين الصغيرة؟. وهل كان وزنها يزداد خمسة عشر رطلا في فصل دراسي واحد؟. وهل كانت لتفشل في امتحان الموسيقا؟ (امتحان موسيقا ملعون؟). وهل كانت لتكتب مقالة من ألف كلمة عن قصة مدينتين فيما 990 كلمة من تلك الكلمات مقتبسة من الرواية؟. وهل كانت ترافق شانس دوبوز ثانية بعد أن رفع سقف طلباته؟. وهل كانت تسرق خمس دولارات من حقيبة مطرزة لصديقة أمها السيدة ستيل؟. وهل كانت تسرق عشر دولارات من خزانة المبيعات في مرآب الجيران؟. وهل كانت لتسرق خمسين دولارا من طاولة السيد تريس حينما كانت تعتني بالصغيرة ترينا تريس؟. وهل كانت لتنام وهي ترعى ترينا وتستيقظ لتجد أن المطبخ وترينا (لحسن الحظ لا تزال على قيد الحياة) ملوثين بالدقيق؟. وهل كانت تطرد من عملها في سيتي ديري (قبل أن تسنح لها الفرصة لتسرق منه) لأنها تذوقت بفمها مقدار ملعقة من إناء التسخين؟. وهل كانت أفسدت استقبال جدتها في المطار؟. وهل كانت تقبل بعرض كوش كويل لتعليمها كيف تقود علبة السرعة في الباحة الخلفية من المدرسة، مع أن أصغر بنات المتزوجين حديثا يعرفن ما هو أفضل؟. وحينما فك كوش كويل أزرار سرواله ومد يده ليدها، هل كانت لتنظر إلى الأمام وتسمح ليدها بمداعبته؟. وحينما وضع كوش كويل يده على قفا رقبتها وجر رأسها نحو شفتيه، هل كانت لتفكر فقط كيف يمكنها بعد ذلك أن تهرب من الثقافة الفيزيائية وتنتشي كلما أرادت، دون تسجيل ملاحظات أو أي شيء آخر؟.

فيما بعد ظهيرة اليوم التالي ذهبت ميا إلى السوبر ماركت، ظاهريا لشراء لوازم، ولكن في الحقيقة لتأخذ نظرة من مساعدي غوردي في العمل.

كان غوردي يقف وراء طاولة الجزار، يرتدي قناعا من طراز باندانا ومريولا أبيض مع جينز وقميص سوبرماركت. وبجانبه رجل أمريكي أسود له تسريحة شعر إفريقية وعينان مشعتان فوق قناع مكتوب عليه: من المفروض أن يخفي أنفك أيضا. لا بد أنه لازاروس - ذكره غوردي في بعض المناسبات.

لوحت ميا تلويحة خفيفة لغوردي - تلويحة قالت: لا تقلق. سألتزم بالأصول ولن أسبب لك الإحراج. ووقفت في طابور طاولة الجزارة وراء امرأة مسنة.

قالت العجوز لغوردي:" هل تعتقد أنه يمكنك تقطيع شريحة خنزير إلى أربع أرباع؟ ثم قطع أحد الأرباع إلى نصفين؟.

قالت غوردي:" تقصدين بحجم الثُمن؟".

قالت العجوز بصوت رخيم" نعم. ثُمن شريحة الخنزير. من أجل عشاء الليلة".

تبادل لازاروس وغوردي نظرة، ولكن لم يتأخر عن تلبية طلب العجوز دون تعليق. ثم حان دور ميا. قالت لغوردي:" مرحبا يا عزيزي". والتفتت إلى لازاروس وقالت:"لا بد أنك لازاروس".

ابتسمت لها عينا لازاروس وقالت:" أنت أم غوردون؟. يسعدني رؤيتك. بماذا يمكننا أن نخدمك؟".

قالت ميا جاهدة لتبدو شابة:" أريد خمس أرطال من لحم العجل المفروم". كانت خطتها أن تشتري شريحتي لحم بطن صغيرتين.

فتح غوردي بهدوء باب مؤخرة صندوق المعروضات، ولكن هز لازاروس رأسه وقال:" لا يا رجل. لو أنك أنت من ستأكلها، أحضر المطلوب من الثلاجة الخلفية".

توجه غوردي إلى الغرفة الخلفي، وحدقت ميا بلازاروس، طرف جفناها باهتمام. لو أن ميا في المدرسة الثانوية ولا تزال تطلي شفتيها بطلاء رمادي لماع يمكنها أن تقول:" مرحبا يا لازاروس. هل أعجبتك الحفلة؟" (جملة مدهشة). وسيرد لازاروس:" نعم. تماما". وستسأله ميا إن كان يود اللقاء بها عند المغاسل. عوضا عن ذلك ابتسمت بوهن من خلف قناعها، وأخبرت لازاروس كم يرغب غوردي بالعمل معه. وتساءلت ما الغاية اللعينة من شراء خمس أرطال لحمة عجل مفرومة. وماذا ستفعل بها هي وغوردي. بعد ذلك ذهبت بالسيارة إلى مرآب السوبر ماركت، تبحث عن شيء، ولكنها لم تكن متأكدة ما هو - مجموعة من المدخنين المدمنين، وموزع مخدرات يفحص هاتفه، شاب مهلهل يبدو متفائلا؟. لكنها لم تشاهد غير الكثير من السيارات المتوقفة، مع رجل بدين له لحية وصديري ناصع ويكنس. هل يمكن أنه مروج مخدرات يتنكر بشكل حارس؟. قادت ميا سيارتها لتأخذ منه نظرة أفضل، فلطم جانب سيارتها بمقبض مكنسته، وصاح:" لقد أوقعت علامة مرور يا سيدة. الفوضويات غير مسموح لهن بالدخول".

انتهت ميا من تدخين الحشيش حينما أصابها فيروس معد في ربيع أول سنة من المدرسة الثانوية. استلقت في الفراش لثلاث أسابيع، وكانت أمها تختلس خطواتها من حولها بحرص شديد وبيدها مقياس الحرارة وأقمشة مبتلة باردة وأطباق من المثلجات. كان رأس ميا ينتفض لو حركت عينيها كثيرا، والتهب حلقها حتى سال لعابها على الوسادة ولم تكن تبتلعه، وانتفخت الغدد اللمفاوية في رقبتها بشكل ثنيات ضخمة وأصبحت تبدو مثل نسخة من رامبرانت وهو في الثمانينات. ولم يكن التدخين متوفرا ولو من بعيد، ولا أمكن الخروج بحثا عن شيء تدخنه، وهذا كله بالإضافة إلى الفيروس. عانت ميا من كل أعراض الامتناع عن الماريجوانا: آلام البطن، الرعاش، السهاد، والأهم الغضب والتحسس.

وكانت تثرثر وتقول:" لماذا يا أمي أصابني الفيروس؟ توقفي عن عزف موسيقا المصاعد الغبية. لماذا تحيكين باستمرار؟ أنا لست بحاجة لكساء أفغاني آخر. ولا أريد كوكتيل الحليب. وأود أن أموت. اخرجي من هنا واتركيني وحدي".

وكانت أمها ترد بحنان:" مسكينة ميا. بائسة صغيرة".

وحينما شفيت ميا أخيرا، كان جسدها أقل باثني عشر رطلا، و عزيمتها قوية ومصممة أن لا تمر بمثل هذه الظروف. ولم تعرف ما هي الأعراض التي سببها الفيروس والأعراض التي سببها الإقلاع عن الحشيش. ولذلك تخلت عن الحشيش، وتوقفت عن المشاركة بأكواب يستعملها الآخرون. وعادت إلى المدرسة، ولكنها توقفت عن حضور الحفلات. وكانت صديقاتها المخلصات تأتين أحيانا، ولكنها تعتذر لهن أنها مشغولة بالدراسة. وهذا صحيح. عليها أن تدرس. وقد فعلت.

كان غوردي يعمل في نوبة متأخرة، وتسهر ميا بانتظاره، لتساعده على التماسك. غير أنها تسقط نائمة على الكنبة، وحينما تستيقظ، يكون غوردي قد غطاها بغطاء أفغاني، وهو يقول بنعومة:"عودي إلى النوم". فتنصاع له وتنام.

في اليوم التالي أرسلت أم ميا، التي لا تعرف كيف تكتب رسالة، إلى ميا رسالة نصية وهي في عملها كالتالي: هييي ميا. كيف حال؟ وكيف غورد؟ أنا أخبز مع جيرد هنا. أمك.

تأملت ميا الرسالة، وطرفت بعينيها بسرعة، كأن ريحا عاصفة تهب على وجهها. ثم اتصلت بأمها.

قالت: "مرحبا يا أمي. إنه أنا".

قالت أمها بصوت يدل على الحبور:" أوووه. مرحبا. هل استلمت رسالتنا؟".

"نعم استلمت رسالتك".

قالت أمها بانفعال لشخص ما:" استلمتها".

سألتها:" أمي، من معك؟".

قالت أمها: "شاب رائع جدا اسمه جاردي قابلته في غرفة المنشار. أمه تعيش هناك في الجناح الجنوبي. وبينهما خلاف صغير في الرأي، وهو لا يشعر بالراحة من فكرة العودة إلى شقتها حاليا، ولذلك دعوته إلى شقتي. أنفقنا وقتا طيبا ونحن نقلب في ألبوم صوري، ثم اقترح جاريد أن يعلمني كيف أرسل رسالة نصية بالهاتف".

"وكم عمر جاريد يا أمي؟".

قالت أمها:" هو طالب متقدم في الثانوية".

"وماذا تعني كلمة "الخبز"؟.

"جاريد أخبرني أنها تعني طهي البسكويت، ولكننا في الواقع نحضر السميري. كان جاريد يشعر بالجوع، وأنت تعرفين كيف يحب المراهقون الأكل؟".

سألتها ميا فجأة:"وكيف شكل عينيه. وهل له رائحة الأشجار ؟".

قالت أمها:"لا أريد أن أكون خشنة معك، ولكن الآن أنا مشغولة برفقته. سأرسل لك رسالة أخرى عما قريب. وداعا يا عزيزتي".

انتهت المكالمة وبعد دقيقة رن هاتف ميا برسالة أخرى من رقم أمها. ونصها: يا رجل جهزت قالب العجينة في بيت العجوز والآن سأدعها تأتي وتراني.

توقعت أن الرسالة لشخص آخر، ولكن ردت ميا ببرود، مفترضة أنه بمقدورها أن تتحلى بقوة الأعصاب في كتابة رد. قالت: من فضلك توقف عن استعمال هاتف أمي، واترك شقتها. وإلا اتصلت بالأمن حالا.

جاء الرد من جهاز ك. جاريد يقول: آسف.

ثم: سميري بالكاراميلا.

عاد غوردي إلى البيت من العمل، وهو يحمل هيئة إنسان متهالك أيضا. تنهدت ميا وفتحت زجاجة نبيذ.

وفي يوم الخميس جاء ميغيل صديق غوردي. وهما صديقان منذ اشتركا في مدرسة تحضيرية ثنائية اللغة في غلوفير بارك، وهناك يتحدث الجميع الإنكليزية حصرا. لكن ميا وغوردي يعيشان الآن في بيتهيسدا، أما ميغيل وأبواه يعيشون في فيينا، فرجينيا، ولذلك تتطلب أوقات اللهو أو التسكع أو مهما كان يفترض أنه اسمها، حافلات أوبر مرتفعة التكلفة، وعادة يتضمن ذلك يوما أو يومين من الإقامة. ولم تتذمر ميا من الاستضافة. كان ميغيل صبيا خجولا وحالما، ومهذبا، بطيء الحركة، وأيضا بطيء الكلام. ولكن ميا تنظر له حاليا بعين جديدة. هل فعلا أن ميغيل بطبيعة جيدة وحالمة أم أنه مخدر؟ (طبعا، لو هو كذلك، هذا يعني أنه كذلك منذ كان بعمر سنتين، ولا يزال).

ذهبت إلى المطبخ. كان ميغيل وغوردي يجمعان زجاجات الماء وقطع الغرانولا، ورقائق البطاطا، لحملها إلى غرفة غوردي.

سألت:"كيف الحال يا ميغيل؟".

بدا ميغيل مباغتا - بالعادة لا تكلمه عن أي شيء باستثناء الاحتياجات وأنواع الطعام المفضلة.

"لا بأس".

"هل لديك عمل في الصيف".

"نعم".

"ما هو؟".

أرسل ميغيل لغوردي نظرة يطلب النجدة. وقال:"محطة وقود".

"تعمل في محطة وقود؟".

"نعم".

قالت ميا برشاقة:" هذا يعني أنه عمل رائع. أخبرني الآن، ماذا تريد أن تصنع بوقت راحتك؟ بعد نهاية نوبة عملك؟".

"بعد نهاية نوبتي أذهب إلى البيت".

"حسنا لكن..".

"المدير لا يريد أن نتسكع بعد نهاية النوبة".

"آه، لماذا؟".

"لأن دواين استعمل أنبوب الرادياتور في كتابة 'الرأسمالية تقتل' على الرصيف".

"نعم، ولكن هل تذهب فورا إلى البيت؟ أم أنك أنت ودواين تذهبان -".

"طردوا دواين".

"حسنا، هل تلتقي مع أصدقاء آخرين في مكان آخر؟ مثلا في الخارج؟ ربما في الحديقة؟ أو خلف المبنى؟ هل يقدمون لك المساعدة، إممم، لترتاح أو لتفرغ شحنتك؟ هل قدموا لك -".

قاطعها غوردي:" أمي. أنت غريبة جدا اليوم".

"لست غريبة يا عزيزي". (قالت ميا كما لو أن أم ميا تتكلم من مكان بعيد أوت له بعد التقاعد) "أنا مهتمة بحياة ميغيل فقط. أريد فقط أن أعرف إلى أين يذهب ومن أين يأتي".

دحرج غوردي عينيه وقبض على ذراع ميغيل، وصعدا إلى غرفته، فمالت ميا بجبينها على الثلاجة. كان خداها حارين من الخجل. لاحقا رقدت في السرير مع وارول وبيدها كأس ضخم من النبيذ، وحينها اتصل جاك هنري.

سألها بصوت عميق، صوت يشبه التحرش:" هل يمكنني الكلام مع أم بابلو إسكوبار؟".

تنهدت وقالت:" أتمنى أن تتوقف عن إطلاق النكات".

"لماذا؟ هل جرى شيء خطير لغوردون؟".

قالت ميا:" كلا. أرغب أن لا تتحفني بطرائفك فقط، لبعض الوقت".

"وكيف غوردون؟".

"على ما يرام. ميغيل معه ويلعبان بالبلاي ستايشين".

قال جاك هنري:" ينفق غوردون أوقاتا طويلة مع الإنترنت. وأنت لا تعلمين نوع الشباب الذين يصادفهم". كان لجاك بطاقة عضوية بلاتينية في تيندر، وكان لعدة سنوات يتصل بموقع Match.com، وتوقعت ميا أنه يمكن عده أحد مؤسسي الموقع.

سألته ميا:" هل من سبب لاتصالك؟".

قال جاك هنري:" نعم. أتساءل إن بمقدورك المجيء إلى المكتب غدا مساء لتوقيع نقل الصلاحيات إلى عقارات أريزونا".

كانت ميا وجاك هنري قد انفصلا بالطلاق منذ اثني عشر عاما، ولكن لا يزال بينهما حزمة استثمار مشترك: سندات، وعقود، وعقارات، ونقود، وأموال سائلة وما يوازيها، وسوى ذلك... أشياء. أحيانا كان جاك هنري يبيع الأشياء وأحيانا يشتري أشياء، وكانت ميا توقع باسمها كل أشكال الأوراق لأن جاك هنري زوج فظيع، مع ذلك فهو مزود لها.

قالت له:"سأكون في المعرض على الأقل حتى التاسعة. لدينا عرض".

قال جاك هنري:" مري على المكتب بعد ذلك. أنت تعلمين أنني أتأخر في عملي".

في الواقع لا تعلم ميا إلى متى يتأخر جاك في عمله. ولكنها تعلم أنه أخبرها أنه يتأخر في العمل، ولكنها تفترض دائما أن البقاء لوقت متأخر في المكتب مجرد رمز لنكاح البنت التي تعد له القهوة. (وجاك هنري متأكد أن ميا تحل ألغازه بدقة متناهية في هذا الشأن).

قالت:"حسنا. نلتقي غدا".

وأغلقا الهاتف. أطفأت ميا النور، ولفت وارول بذراعيها، ونامت، ورأسها يدور قليلا من النبيذ.

في التاسعة من الليلة التالية ذهبت إلى مكتب جاك هنري. وأرسلت إلى غوردي رسالة مختصرة وهي في الطريق نصها: هل عاد ميغيل إلى بيته بحالة جيدة؟

كتب غوردي بالرد: أعتقد ذلك.

هل رأيته يصعد في حافلة أوبر.

نعم.

وهل نظرتما إلى لصاقة أوبر وقارنتماها بلوحة القيادة؟.

كلا، نسينا.

تنهدت ميا. وتمنت أن ميغيل لم يركب سيارة عشوائية تقوده إلى مزرعة أعمال غير مشروعة حيث سيكد لما بقي له من أيام. كتبت له: من فضلك اتصل بميغيل لتتأكد أنه عاد إلى البيت بأمان. سأتأخر قليلا. تذكر أن تخرج وارول بنزهة قبل أن تنام.

وقفت أمام مبنى مكتب جاك هنري، وأعادت هاتفها إلى حقيبتها. فتحت الباب الزجاجي الثقيل، وكانت متألقة جدا وبوهيمية، بتنورتها السوداء القصيرة، وسترتها الجلدية. وصعدت بالمصعد ذي الباب النحاسي إلى الطابق العاشر، وكان جاك هنري جالسا في مكتبه الواسع وراء طاولة عريضة.

جلست ميا في كرسي الضيوف أمام طاولة جاك هنري، ووقعت الأوراق. كان جاك هنري يشرب الويسكي، وكانت ميا تشرب النبيذ، والآن يشربان الويسكي معا. نظرت ميا من نافذة المكتب إلى أضواء المدينة المتألقة مثل مصغر قرية عيد ميلاد، وكان جاك هنري يخبرها بصوته العميق عن ضمانات الحياة المرفهة والمصادر المتنوعة ورغبته بشراء مكتبة تاريخية في كايب كود وكاسحة ثلج صغيرة.

تثاءبت ميا.

قال لها جاك هنري إذا ضجرت جدا سيعرض عليها شيئا مثيرا. وفتح صينية الطاولة، وقال هذه مخصصة للكوكايين. قالت ميا إنها اعتقدت أن هذه الصواني مجرد سطوح للكتابة، فقال جاك هنري:" كلا. اسمحي لي أن أريك". واقتطع خطين من الكوك من مكان ما تعتقد أنه احتفظ به في علبة فضية مخصصة للبطاقات. وشم واحدا من الخطين، ثم لف ورقة من عشرين وقدمها إليها، فقالت لا، شكرا، وكأنه يشجعها، هيا حاولي، لا تكوني متزمتة، مر عليك أسبوع مضغوط، فأخذت العشرين، واستنشقت الخط الثاني، لأنها عمليا، كانت دائما فاشلة في مقاومة الضغط.

سرع الكوك دقات قلبها. وأخذ جاك هنري يدها وقادها إلى كنبة جلدية في زاوية مكتبه، وساعدها على الجلوس. في البداية ارتفعت حرارتها، ثم حلت عليها فكرة عميقة تمكنها من تثوير طريقة غسيلها.

قالت لجاك هنري:" أعطني دفترا. علي أن أدون فكرة".

قال جاك هنري:"ليس الآن، فيما بعد". ومد يده تحت تنورتها.

قالت ميا:" يمكنني تدوين الفكرة وأنت تفعل ذلك". كان يشعر أنه قادر على كل شيء، وضمنا القيام بعدة مهام في آن واحد. فقدم لها دفترا رسميا وقلم حبر، ووضع يده تحت تنورتها مجددا، وجر سروالها الداخلي. رسمت ميا تخطيطا سريعا لغرفة الغسيل مع أسهم تظهر المسار المحتمل للثياب القذرة حتى تصبح نظيفة ولماعة في نظامها الجديد. ورسمت ثلاث سلات غسيل وكتبت قرب الثالثة: هام جدا. لا تنسي. ووضعت حولها دائرة عدة مرات. (لن تتذكر هذا الأمر المهم لاحقا). وتخلت عن الدفتر الرسمي وفكت أزرار سروال جاك هنري، وفعلا ذلك. فعلا ذلك مثل بشر بلغوا سنا معينا، طبعا، فجاك هنري استبدل ركبته، وعلى كتف ميا جرح قديم، وكلاهما كان يضع نظارات للقريب والبعيد. ولكنه كان لا يزال جنسا جيدا. كان الجنس هو لغة الحب بينهما، أو ربما اللغة الوحيدة منذ أن واصلا ممارسة الجنس بعد فترة طويلة من ذوبان الحب. ربما جسم كل منهما لا يزال متعلقا ومحبا بجسم الآخر؟. وربما جسماهما كيانان متفصلان عن عقليهما؟. وربما كان جسماهما كالأطفال. وقد التحم جسم جاك هنري مع ميا بموعد لهو؟ وربما كان عقل ميا وجاك هنري في غرفة أخرى، يشربان القهوة الخفيفة ويتحاوران بلغة معزولة وعدائية عن مقدار الكلمات التي يعرفها جسداهما للتعبير عن الرؤية؟ وبدت هذه الفكرة متغلغلة فيها. ورغبت ميا بالعودة للدفتر الرسمي.

هناك أجزاء رديئة أيضا، ولا تفضل الاقتراب منها. ذلك مثلما يحصل حينما تنحني ميا بإغراء فوق طاولة جاك هنري وتقول:" انتظر. لا تلمس مزرعة سانشيز".

بعد النهاية، وحينما ربت على مؤخرتها وقال:" شكرا يا حلوتي"، شعرت من أعماقها أنه يعتقد أنها موظفة تطلب ترقية. وحينما فحص جاك هنري بوليصات السوق في هاتفه كانت ميا لا تزال ترتدي سروالها الداخلي. وحينما ذهبا معا إلى "متجر سعادة كل الليل" اشترت ميا كل أصابع الخبز الأصفر المتوفر (ليس لأنها جائعة ولكن لأن ألوانه الذهبية تبدو مثل ضوء الشمس)، وغازل جاك هنري البنت البائعة بوجودها. وأرادت ميا أن تعرب للبنت أن الحياة معقدة، وأنها هي وجاك هنري يشتركان بالكثير من الأمور: ملف استثمار، وتقاعده، وعضوية في نادي السباحة في يثيسدا، وحب السباغيتي الباردة، وذكريات إصابة ميا بانهيار عصبي في إيكيا IKEA مزدحم وهي حامل في شهرها السادس، فاستلقت ووجهها على الأرض في قسم الأقمشة المنزلية. وأنجبا ولدا. وهما يحبانه جدا، حتى لو أن جاك هنري لا يعبر عن حبه بالطريقة التي ترغب بها. لا يمكن لأحد أن يهرب من كل هذه الالتزامات. (وأيضا لن تتخلى ميا عن عضوية نادي السباحة في هذا التوقيت).

فيما بعد وقفت ميا وجاك هنري على الرصيف أمام متجر "السعادة". نظرت ميا إلي هاتفها لأول مرة منذ فترة طويلة، ولاحظت أنها الخامسة صباحا. كان غوردي قد أرسل لها ستة عشر نصا وخابرها أربع مرات لكنها لم ترد على أي منها.

قالت ميا:" آه، يا إلهي".

سألها جاك هنري:"ماذا؟".

قالت ميا:"لاشيء". لأنه حينما كان غوردي في التاسعة، ونسي جاك هنري ملاقاته عند موقف الحافلات في إحدى المرات، لم يغادر غوردي حافلته، وعاد معها إلى المرآب الكائن في سيلفر سبرينغ. وتوجب على ميا أن تأتي به من هناك. وكان يثغو من الخوف والجوع، حتى وقت متأخر من تلك الأمسية. كان أسوأ مثال ممكن عن تربية الأبناء، ولم تكن لدى ميا النية للتخلي عن لقب الأم المثالية في هذا الوقت المتأخر.

أضافت:" فقط يجب أن أعود إلى البيت".

صافحته كأنهما موظفان أدركا فجأة أن كلا منهما نسي تقديم نفسه إلى الآخر. ثم رافق جاك هنري ميا إلى حافلة أوبر. وقلقت ميا على الفور من أن يعتقد سائق الأوبر أنها بغي.

قالت له:" أنا محامية". وحاولت دس أصابع الخبز في حقيبتها. ثم أضافت:" انتهيت للتو من قضية قانونية متوترة جدا".

وأرادت أن تواصل الكلام. كان يبدو من المهم جدا أن يفهم سائق الأوبر أنها ليست النوع الذي يتعاطى المخدرات أو يعاشر المحامين ويسهر الليل كله. نعم فعلت ذلك، ولكنها ليست من النوع الذي اعتاد على ذلك، أو على الأقل لن تكرر هذه الأفعال.

ثم بلغ ذهنها ما يشبه تحويلة في سكة قطار، وبدأ يتدحرج على القضبان متسائلا كيف تكون العودة إلى نظام البيت دون أن ينبح وارول ويوقظ غوردي. نظرت إلى هاتفها. آخر رسالة من غوردي تقول - أين أنت؟؟ - وكانت مسجلة في الساعة 2:16. بالتأكيد غرق بالنوم الآن. ولو أنها فتحت قفل الباب بسرعة كافية، يمكنها أن ترمي لوارول خبزة ثم تختلس خطواتها على السلالم، وترتدي منامتها، وتخبر غوردي إنها في البيت منذ الثالثة، فالعودة في الثالثة يعني التأخير، ولا يعني السهر في الخارج طيلة الليل و -

توقفت حافلة أوبر أمام بيتها. كان غوردي جالسا على السلالم الأمامية، ووجهه شاحب ومتوتر من القلق. قفز بمجرد أن غادرت الحافلة وصاح:" أين كنت؟ حتى أنك لم تتصلي".

كان الحال كأن ميا مراهقة وغوردي هو الذي أخذ دور أمها.

عبرت المرج وجلست على سلالم الشرفة. وجلس غوردي بجانبها.

سألها مجددا:" أين كنت؟".

شعرت ميا شعورا جارفا أن زمن الكذب قد ولى. أخذت نفسا عميقا واعترفت له. ولكن كان كلامها همهمة وخلاله التقطت أنفاسها وأسقطت بعض الكلمات عدة مرات، حتى أن ما قالته بشكل عملي كان غامضا ويحمل فراغات. كما يلي:" كنت ..... وقمت.......مع..،..".

قطب غوردي جبينه وفكر. ثم قال:" هل شربت فينتانيل...".

"ليس فينتانيل. كوكائين" (تمييز تلجأ له الأمهات المخلصات على ما يظهر).

"حسنا. تعاطيت الكوك ومارست الجنس مع مروض الكلاب؟".

"تعتقد أنني تعاطيت الجنس مع مروض الكلاب؟".

" ترك بطاقته في فتحة الباب ولم أجدك هنا. لذلك توقعت...".

وقفت ميا على قدميها برشاقة وقالت:" آه يا إلهي. موعد وارول. نسيت أنه من المفروض أن يأتي مربي الكلاب ليأخذه أمس. هل تعتقد أنه علينا أن ندفع لقاء حجز موعد له؟. وماذا لو وضعنا على قائمته السوداء؟،.

قال غوردي:" أوه يا أمي، تمالكي نفسك".

وجعل الكوك ميا ترغب بمتابعة موضوع موعد وارول على الأقل لعشرين جملة، ولكنها صمتت وجلست مجددا. قالت:" آسفة".

"هل يمكننا العودة لما كنت بصدده مجددا؟".

"تعاطيت الكوك، ومارست الجنس التجميلي مع والدك" (حياتها حافلة بالعبارات المدهشة مؤخرا).

قال غوردي:" آه. وماذا كنت تجملين؟".

"بالأساس كل زواجنا".

"وهل تفعلين ذلك كثيرا. تتعاطين الكوك؟".

نظرت إليه وقالت:"لا. لم أفعلها من قبل". كانت عيناه سوداوين مثلها. هذا هو حصانها الخرافي الجميل. سألته:" هل تتعاطى الكوك".

نظر غوردي إليها برعب صريح وقال:"كوك؟. حتى أنني لم أدخن الحشيش. ولا أشرب".

"توقعت فقط...".

"تبررين أسوأ شيء لم أرتكبه إطلاقا. بعد العمل أحيانا. أنا ولازاروس نربط عشر عربات معا ونجرها على طول الهضبة إلى مرآب السيارات".

"هذا..". وتمالكت ميا نفسها وتوقفت. كانت على وشك أن تقول إن هذا خطير جدا، وهو كذلك، ولكن لاحظت أن هذا هو تفسير اللغز وراء عيني غوردي البراقتين وخديه الملتهبين. قد تجعلك المخدرات تبدو بهيئة ما، ولكن يمكن للتمرين أن يقود لنفس النتيجة. ويمكنها أن تتخيل المتعة في ذلك -- العربات الثقيلة تقعقع وتتضاعف سرعتها، وحواجز موقف السيارات تتطاير بسرعة ملحوظة، ثم سمعت صوت صرختها النهائية الناجمة عن البهجة. ضحكت قليلا، وهي تفكر بذلك.

سألها غوردي:"على ماذا تضحكين؟".

قالت ميا:" أنا سعيدة وحسب". أرادت أن تقول أنا سعيدة لأن بيننا هذه الروابط. ولكنها منعت نفسها.

كانت الشمس تشرق للتو. والسماء عند الأفق تصبح برتقالية، ومن الأعلى يخيم عليها ظل كريمي مزرق، ثم أزرق داكن مخضر كغلاف الذرة، وفي النهاية بنفسجي، يتخلله عدة نجوم قليلة مرئية. فكرت ميا: يبدو كأن الله رسم صورة بالطبشور، ثم محاها بأصبعه، ولكنها لم تكن تؤمن بالله.

قالت لغوردي:" انظر. هذا شهاب. لم أشاهد نجما يخر من قبل. أو لعله قمر صناعي؟. هل حركة المراكب الفضائية تختلف عن النجوم؟. علينا أن نفكر بذلك. وأن نعرف الحقيقة. و.. أتمنى فعلا أن يزول أثر الكوك سريعا". تنهدت ومالت برأسها على كتف غوردي. منذ متى كان غوردي أطول منها ويمكنها ركن رأسها على كتفه؟.

هز غوردي رأسه، كأن ميا حالة ميؤوس منها، ولا يمكن التعايش معها، وربما كانت كذلك. لكنه لفها بذراعه. تغلب على ميا فجأة شعور مؤكد أنها هي وأمها وغوردي ليسوا نسخا مكررة، ولا يجب عليهم تكرار نفس الخطأ. وهم فقط يدورون حول أدوارهم الموكلة إليهم بصفة أم وطفل، طفل وأم، ويتبادلون الأدوار بالرعاية والتسبب بالقلق، أو بالحاجة للرعاية ومنح الرعاية. وسيتابعون في هذا الجو طيلة حياتهم، فيزداد اللمعان والإضاءة ثم يخفت. وفكرت ميا (أو ربما كان الكوك هو الذي يتكلم) نعم، هي وغوردي وأمها مثل أضواء في مركبة فضائية، تشتعل وتنطفئ، بالتناوب، وهي تطير، وتشق طريقها، باتجاه المستقبل.

***

.........................

* كاثرين هيني Katherine Heiny كاتبة أمريكية. مولودة في ميشيغان، تلقت الماجستير من جامعة كولومبيا. وتعيش في الهافر دي غرايس، ماريلاند، مع عائلتها. لها عدة مجموعات قصصية منها "ألعاب وطقوس" 2023، و"عازبة ولامبالية ولطيفة" 2015. وكذلك عدة روايات منها "النهوض في الصباح الباكر" 2021 و"الانحراف المعياري" 2017….

* الترجمة عن مجلة / ناراتيف Narrative.

قصة: إروين شو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت الجادة الخامسة ساطعة بضوء الشمس عندما عبرا حديقة بيروفورت وبدأا فى السير نحو ميدان واشنطن. كما كانت الشمس دافئة على الرغم من أننا فى شهر نوفمبر، وبدا كل شىء يؤكد أننا فى صباح يوم الأحد، الحافلات والناس فى ملابسهم الأنيقة، يمشون ببط أزواجا أزواجا، والمبانى الهادئة بنوافذها المغلقة.

أمسك مايكل بذراع فرانسيس بإحكام وهما يسيران وسط المدينة تخت ضوء الشمس،كانا يسيران بخفة، يبستمان تقريباً، لأنها ناما متأخرين وتناولا إفطاراً جيداً، كان ذلك يوم الأحد. فك مايكل إزرار معطفه وترك جوانبه ترفرف حوله فى مهب الريح، سارا فى صمت وسط الشباب والناس اللطيفين،الذين يبدو أنهم يشكلون على نحوها معظم سكان هذا الجزء من مدينة نيويورك.

قالت فرانسيس وهما يعبران الشارع رفم ثمانية :

- احترس... ستكسر رقبتك

ضحك مايكل وضحك فرناسيس معه.

قالت :

- ليست جميلة على أية حال... على أية حال ليست جميلة لدرجة أن تكسر رقبتك عند النظر إليها.

ضحك مايكل من جديد، ضحك بصوت أعلى هذه المرة، ولكن ليس بنفس القوة :

- لم تكن سيئة المظهر، كانت ذات بشرة لطيفة، بشرة فتيات الريف، كيف عرفت أننى أنظر إليها ؟

مالت فرانسيس برأسها إلى جانب وابتسمت إلى زوجها من تحت حافة قبعتها المائلة. وقالت :

- مايكل حبيبي

ضحك مايكل، ضحكة صغيرة هذة المرة، ثم قال :

- حسنا الدليل هنا، معذرة لقد كان لون البشرة، إنها ليست من ذلك النوع من البشرة التي نراها كثيرًا في نيويورك، معذرة.

ربتت فرانسيس على ذراعه برفق و جذبته قليلًا لتسرع به نحو ميدان واشنطن. قالت:

- ما أجمل الصباح. هذا الصباح رائع. عندما أتناول الإفطار معك أشعر أنني بحالة جيدة طوال اليوم.

قال مايكل:

- نبيذ. استعادة النشاط صباحًا.. خبز وقهوة مع مايك.

- القصة أيضًا أنني نمت طوال الليل مقطوعة النفس بجوارك مثل الجبل.

- في ليلة السبت أسمح بمثل هذه الرفاهية فقط، بعد انتهاء عمل الأسبوع.

قالت:

- ستسمن.

- أليس تلك هي الحقيقة؟ الرجل النحيل من أوهايو.

قالت:

- أحب هذا. خمسة أرطال إضافية للزوج.

قال مايكل بجدية:

- أحب هذا أيضًا.

قالت فرانسيس:

- لدي فكرة.

- زوجتي لديها فكرة. تلك فتاة بارعة.

قالت فرانسيس:

- هيا لا نرى أحدًا اليوم. هيا فقط نكون وحدنا، فأنا وأنت دائمًا ما نكون مع الآخرين نشرب نخبهم أو يشربون نخبنا، نحن لا نكاد نرى بعضنا البعض إلا في الفراش.

قال مايكل:

- مكان اللقاء العظيم. ابقى في السرير لفترة من الوقت وسيظهر كل من تعرفه هناك.

قالت فرانسيس:

- رجل حكيم. أنا أتحدث بجدية.

- حسنًا و أنا أستمع بجدية.

- أريد أن أخرج مع زوجي طوال اليوم، أريده أن يتحدث معي فقط، ويستمع لى أنا فقط.

سأل مايكل:

- ما الذي يمنعنا من ذلك؟ أرى جماعة تنوي أن تمنعني من رؤية زوجتي بمفردي يوم الأحد؟ أي طرف؟

- عائلة ستيفنسون، يريدون أن تمر عليهم في الساعة الواحدة، ثم يأخذوننا فى رحلة معهم إلى الريف.

قال مايكل:

- آل ستيفنسون المرعبون. واضح. لن يحصلوا على ما يريدون، يمكنهم أن يتفسحوا في الريف مع أنفسهم، أنا وزوجتي يجب أن نبقى في نيويورك...

- أهو وعد؟

- وعد.

مالت فرانسيسن وقبلته في أعلى أذنه.

قال مايكل:

- حبيبتي... هذه هي الجادة الخامسة.

قالت فرانسيسن:

- دعني أنظم برنامجًا. برنامج يوم الأحد في نيويورك لزوجين شابيين يبعزقان فيها نقودها.

-   تمهلى.

قالت فرانسيس:

- في البداية دعنا نشاهد مباراة كرة قدم، مباراة كرة قدم للمحترفين.

قالت ذلك لأنها تعرف أن مايكل يحب مشاهدة لعب المحترفين، ثم أضاقت:

- الشياطين سيلعبون. وسيكون لطيفًا أن نكون في الخارج طوال اليوم ثم نجوع، وبعد ذلك نذهب إلى مطعم كافتاج ونتناول شريحة لحم كبيرة جدا بحجم مريلة الحداد مع زجاجة من النبيذ. وبعد ذلك، هناك  فيلم فرنسي جديد في السينما حيث يقول الجميع... يقولون، هل تنصت إلي؟

قال:

- بالتأكيد.

تابع بعينيه فتاة دون قبعة ذات شعر أسود، تقص شعرها مثل الراقصات – يبدو مثل الخوذة – كانت الفتاة تسير وهي واثقة من نفسها، تمتلك رشاقة الراقصات، وكانت بدون معطف وتبدو ثابتة جدًا وقوية، بطنها ضامر مثل بطن الصبيان تحت تنورتها، أنا ردفاها فكانا يهتزان بجرأة لأنها كانت راقصة ولأنها أيضًا كانت تعلم أن مايكل ينظر إليها، ابتسمت إلى نفسها عندما مرت به، و لاحظ مايكل كل هذه الأشياء قبل أن يعود وينظر إلى زوجته، قال:

- بالتأكيد. سنذهب لمشاهدة الشياطين وسنذهب لأكل اللحم وسنرى الفيلم الفرنسي. لكم تحبين كل ذلك!

قالت فرانسيس بشكل قاطع:

- هو كذلك.. ذلك هو البرنامج لهذا اليوم. أم ربما كنت تفضل أن تتمشى ذهابا وإيابا  في الجادة الخامسة.

قال مايكل باهتمام:

- لا. لا مطلقًا.

قالت فرانسيس:

- أنت دائمًا تنظر إلى النساء الأخريات، إلى كل امرأة ملعونة في مدينة نيويورك.

قال مايكل متظاهرًا بالمزاح:

- أوه، تعالى الآن، إلى الجميلات فقط، وبعد كل ذلك، كم عدد النساء الجميلات في نيويورك، سبع  عشرة؟

- أكثر، على الاقل أنت تفكر في ذلك، أينما سرت.

- ليس صحيحًا. أحيانًا، ربما أنظر إلى امرأة أثناء مرورها بي. في الشارع. أعترف، ربما في الشارع أنظر إلى امرأة ذات مرة للحظة..

قالت فرانسيس:

- في كل مكان. كل مكان ملعون ذهبنا إليه: مطاعم. أنفاق، مسارح. قاعات المحاضرات، حفلات الموسيقى.

قال مايكل:

- الآن، حبيتي، أنا أنظر إلى كل شيء، لقد منحني الله عينين، فأنا أنظر إلى النساء والرجال وأنفاق السكك الحديدة و الصور المتحركة و الأزهار الصغيرة في الحقول، أنا دونما قصد أفحص العالم.

قالت فرانسيس:

- ينبغي أن ترى النظرة في عينيك وأنت تفحص البشر صدفة في الجادة الخامسة.

- أنا زوج سعيد.

ثم ضعط على مرفقها بلطف، مدركًا ماذا يفعل، ثم أضاف:

- وكنموذج لهذا القرن العشرين السيد والسيدة مايك لوسيس.

- أتعنى هذا حقًا؟

- فرانسيس، حبيبتي...

- هل أنت حقًا رجل سعيد؟

قال مايكل وهو يشعر بأن صباح الأحد كله يهبط ثقيلا داخله مثل الرصاص:

- بالتأكيد. الآن ما هذا الإحساس بحق الجحيم في حديثك هكذا؟

- أود أن أعرف.

سارت فرانسيس وهي تنظر أمامها مباشرة، دون أن يعبر وجهها عن أى شيء، وتلك كانت طريقتها دائمًا عندما تناقش أو تشعر بالسوء.

قال مايكل بصبر:

- أنا زوج سعيد بشكل رائع.. أنا موضع حسد من جميع الرجال اللذين تتراوح أعمارهم بين سن الخامسة عشر وسن الستين في ولاية نيويورك.

قالت فرانسيس:

- كف عن المزاح.

قال مايكل:

- لدي بيت جميل، وأحصل على كتب رائعة ومسجل اسطوانات وأصدقاء لطاف. أعيش في المدينة بالطريقة التي أحبها وأمارس العمل الذي أحبه، وأعيش مع المرأة التي أحبها. عندما يحدث شيء ما طيب. ألا أجري إليك؟ وعندما يحدث لى شيء سيء ألا أبكي على كتفيك؟

قالت فرانسيس:

- نعم، أنت تنظر إلى كل امرأة في الطريق.

- تلك مغالاة.

قالت فرانسيس وهي تسحب يدها من تحت ذراعه:

- كل امرأة. إن لم تكن جميلة تبتعد عنها سريعًا. و إذا كانت نصف جميلة تراقبها لمدة سبع خطوات..

- يا إلهي يا فرانسيس.

- أما إذا كانت جميلة فبالتأكيد تلوي عنقك..

قال مايكل وهو يتوقف:

- هاي. هيا نأخذ مشروبًا.

- لقد تناولنا الإفطار للتو.

قال مايكل وهو يختار كلماته بعناية:

- الآن، انصتي يا حبيبتي. إنه يوم لطيف وكلانا يشعر بالرضا وليس هناك من سبب لفقد هذا الشعور. دعينا نحظى بيوم أحد لطيف.

- كان يمكن أن يكون لدينا يوم أحد لطيف إن لم تكن تبدو كما لو كنت ستموت لو لم تركض وراء كل تنورة في الجادة الخامسة.

قال مايكل:

- هيا نتناول مشروبًا.

- لا أريد شرابًا.

-  ماذا تريدين، شجاراً؟

قالت فرانسيس بحزن شديد لدرجة أن مايكل شعر بالأسف لها:

- لا. لا أريد شجارًا. لا أعرف لماذا بدأت هذا النقاش. حسنًا، لندع هذا،  هيا نقضي وقتًا طيبًا.

تأبط مايكل ذراعها في حياد وسارا معا دون كلام وسط عربات الأطفال و كبار السن الإيطاليين في يوم الأحد والفتيات في حديقة ميدان واشنطن.

بعد فترة قالت فرانسيس وهي تستعيد نبرة صوتها التي استخدمتها في الصباح وفي بداية مشيهما:

- آمل أن تكون مباراة اليوم جيدة. أحب ألعاب كرة المحترفين، يضربون بعضهم البعض كما لو كانوا مصنوعين من الأسمنت.

قالت ذلك محاولة أن تضحك مايكل، أضافت:

- إنهم يثيرون الفتنة، إنه لأمر مثير للغاية.

قال مايكل في جدية تامة:

- أريد أن اقول لك شيئًا. أنا لم ألمس امرأة أخرى، مطلقًا طوال الخمس السنوات التى قضيتها معك.

قالت فرانسيس:

-   حسنًا.

- تصدقين ذلك، أليس كذلك؟

- حسنًا.

سارا بين المقاعد المزدحمة تحت أشجار منتزه المدينة الفوضوي، قالت فرانسين كما لو كانت تتحدث إلى نفسها:

- حاولت ألا ألحظ ذلك. أحاول أن أصدق أن ذلك لا يعني شيئًا. بعض الرجال يحبون ذلك، أقول لنفسي، لابد أنهم يرون ما يفتقدونه.

قال مايكل:

- بعض النساء هكذا أيضًا. لقد عرفت في حياتي سيدتين.

قالت فرانسيس وهي تسير إلى الأمام مباشرة:

- لم أنظر أبدًا إلى رجل آخر.. منذ المرة الثانية التي خرجت فيها معك.

قال مايكل:

- لا توجد قاعدة.

- أشعر باضطراب داخلي، داخل معدتي، عندما نمر بامرأة، وتنظر إليها، فأرى تلك النظرة في عينيك، وتلك هي الطريقة التي تظرت بها إلى في المرة الأولى في منزل أليس ماكسويل، و أنا أقف في غرفة المعيشة بجوار الراديو، وقبعة خضراء، وسط كل هؤلاء الناس.

قال مايكل:

- أتذكر القبعة.

قالت فرانسيس:

- نفس النظرة، وهذا يجعلني أشعر بالسوء، يجعلني أشعر بالفزع.

- اسكتي. من فضلك حبيبتي، اسكتي.

قالت فرانسيس:

- أعتقد أنني أريد أن أتناول مشروبًا الآن.

سارا إلى بار في شارعة ثمانية دون أن يتفوها بكلمة واحدة، ساعدها مايكل لكى تجتاز حافة الرصيف ثم قادها وسط السيارات، مشي وقد أغلق معطفه. أخذ ينظر بتمعن إلى حذائه البني الثقيل اللامع، وهما يخطوان داخل البار. جلسا بالقرب من النافذة في البار، يتدفق عليهما شعاع الشمس، وثمه نار صغيرة مبهجة في المدفأة. جاء نادل ياباني صغير، وضع بعض المعجنات (بسكويت مملح) وابتسم إليهما في سعادة.

سأل مايكل:

- ماذا تطلبين بعد الإفطار؟

قالت فرانسيس:

- براندي على ما أعتقد.

قال مايكل:

- كورفوازير ( نوع من كونياك) اثنان كورفوازير.

جاء النادل بكأسين وجلسا يشربان البراندي في ضوء الشمس، أنهى مايكل كأسه وشرب قليلًا من الماء. ثم قال:

-  نعم أنظر إلى النساء، صحيح، لم أقل إن ذلك صحيح أو خطأ، أنا أنظر إليهن إذا مررت بهن في الشارع وإن قلت لم أنظر إليهن، فأنا أخدعك، أخدع نفسي.

قالت فرانسيس وهى تعبث بكأسها:

- أنت تحدق فيهن كما لو كنت تتمناهن، كل واحدة منهن.

قال مايكل بهدوء وكأنه لا يتحدث إلى زوجته:

- على نحو ما. على نحو ما هذا حقيقي. لا أستطيع أن أفعل شيئا حيال ذلك. لكنه حقيقية...

- أعرف ذلك، لهذا أشعر بالسوء.

صاح مايكل:

- براندي آخر، أيها النادل، اثنان براندي زيادة.

قالت فرانسيس:

- لماذا تهينني؟ ماذا تفعل؟

تنهد مايكل وأغلق عينيه ومسحهما برفق بأطراف أصابعه:

- أحب الطريقة التي تبدو عليها النساء، من أفضل الأشياء التي أحبها في نيويورك هي أسراب النساء. عندما جئت إلى هنا لأول مرة إلى نيويورك من أوهايو كان ذلك أول شيء لفت انتباهي، مليون امرأة راعئة في جميع أنحاء المدينة، ميشت وقلبي في حلقي.

قالت فرانسيس:

- طفل... ذلك إحساس طفل.

قال مايكل:

- خمني ثانية... خمني مرى أخرى، كبرت الآن، أنا رجل أقترب من منتصف العمر، و أميل إلى السمنة ومع ذلك أحب المشى في الجادة الخامسة في الساعة الثالثة على الجانب الشرقي من الشارع بين شارع خمس عشر  وشارع خمسين حيث يخرجن جميعًا. يعتقدن أنهن يتسوقن، في فرائهن وقباعتهن المجنونة، كل شيء يأتي من جميع أنحاء العالم في ثمان بنايات، أفضل الفراءات وأجمل الملابس وأكثر النساء جمالًا، يخرجن لإنفاق المال بشعور طيب، ناظرات إليك ببرود، ليجعلنك تعتقد أنهن لا ينظرن إليك أثناء مرورهن بك.

وضع النادل الياباني المشروبين وهو يبتسم بسعادة غامرة. سأل:

- هل كل شيء على ما يرام؟

أجاب مايكل:

- كل شيء رائع.

قالت فرانسيس:

- إذا كان مجرد زوج من المعاطف الفراء و قبعات ب 45 دولار...

- إنها ليست معاطف الفرو أو القبعات. ذلك مجرد شهد لهذا النوع من المعين من النساء. افهمي. لست مجبرة على الاستماع إلى هذا.

- أريد الإستماع.

- أحب الفتيات في المكاتب، أنيقات، بنظارتهن الشمسية، ذكيات، نشيطات، مرحات، يعرفن كل ما يدور حولهن، يعتنين بأنفسهن طوال الوقت.

ركز مايكل عينيه على الذين يمرون ببطء خارج النافذة ثم أضاف:

- أحب الفتيات في شارع أربعة وأربعين وقت الغذاء، الممثلآت. متأنقات في انتظار أن يكتشفهن المخرجون. أحب البائعات في متجر ماسي، يولين اهتمامًا بك في البداية لأنك رجل، تاركات الزبائن من النساء ينتظرن. يغازلونك بالجوارب و الكتب و إبر الفونوغراف، لقد تراكمت لدي كل هذه الأشياء لأنني كنت أفكر في الأمر لمدة عشر سنوات، والآن تسألين عنها وها أنا أجيب.

قالت فرانسيس:

- استمر.

- عندما أفكر في مدينة نيويورك، أفكر في كل الفتيات، الفتيات اليهوديات، والإيطاليات والإيريلانديات و البولنديات والصينيات والألمانيات والزنجيات والإسبانيات والروسيات، جميعهن في موكب المدينة، لا أعرف ما إذا كان هذا شيئًا خاصًا بي أو ما إذا كان كل رجل يسير في المدينة له نفس الشعور في داخله. لكنني أشعر وكأنني في نزهة في هذه المدينة. أحب أن أجلس بالقرب من النساء في المسارح، الجميلات المشهورات اللاتي قضين ست ساعات ليكن جاهزات ويبدون هكذا. والفتيات الصغيرات في مباريات كرة القدم بخدودهن الحمراء،خاصة عندما دفء الطقس، الفتيات في ملابسهن الصيفية.

انتهى من شرابه، ثم أكمل:

- تلك هي القصة، لقد طلبت ذلك، تذكري. لا يسعني إلا أن أنظر إليهن، لا يسعني إلا أن أرغب فيهن.

كررت فرانسيس بدون وضوح:

- أنت ترغب فيهن.. أنت قلت ذلك.

قال مايكل بقسوة ودون حذر لأنها جعلته يفضح نفسه:

- حسنًا. أنت من استدعى هذا الموضوع للنقاش وسنناقشه بشكل كامل.

أنهت فرانسيس شرابها وابتلعت ريقها مرتين أو ثلاثة، ثم قالت:

-  أتقول أنك تحبني؟

- أنا أحبك، لكنني أيضًا أريدهن. حسنًا.

قالت فرانسيس:

- أنا جميلة أيضًا، جميلة مثل أي واحدة فيهن.

قال مايكل مؤكدًا على ذلك:

- أنت جميلة جدًا.

قالت فرانسيس فى توسل:

- أنا طيبة معك. كنت زوجة صالحة ومدبرة منزل جيدة، وصديقة جيدة، لقد عملت كل شيء من أجلك.

قال مايكل:

- أعرف.

مد يديه وأمسك بيدها.

قالت فرانسيس:

- تود أن تكون حرًا في...

- سشششش.

سحبت يدها من يده وقالت:

- قل الحقيقة.

نقر مايكل على حافة كأسه بإصبعه وقال بلطف:

- حسنًا.. أشعر أحيانًا أنني أود أن أكون حرًا.

قالت فرانسيس في تحد وهي تقرع المائدة:

-  حسنًا.. في أي وقت، قل.

- لا تكوني حمقاء.

أدار مايكل مقعده نحوها وربت على فخذها.

بدأت في البكاء، بصمت، دافنة وجهها في منديلها، مالت بشكل كافٍ حتى لا يلحظها أحد في البار. ثم قالت وهي تبكي:

- يومًا ما، سترحل...

لم يقل مايكل شيئًا، وجلس يراقب النادل وهو يقشر الليمون ببطء.سألت فرانسيس بصوت أجش:

- أليس كذلك؟ هيا، أخبرني، تكلم. أليس كذلك؟

قالت مايكل وهويعيد مقعده إلى حيث كان:

- ربما.. كيف لي بحق الجحيم أن أعرف؟

واصلت فرانسيس:

- أنت تعرف. ألا تعرف؟

قال مايكل بعد وهلة:

- نعم.. أعرف

توقفت فرانسيس عن البكاء وتمخطت في المنديل مرتين أو ثلاثة، ثم وضعته جانبًا، ولم ينبيء وجهها عن أي تغيير. قالت:

- على الأقل أسد لي معروفًا.

- بالتأكيد.

- توقف عن الحديث عن مدى جمال هذه المرأة، أو تلك. عينان جميلتان، صدر لطيف، مظهر جميل، صوت عذب.

ثم أضافت وهي تقلد صوته:

- احتفظ بهذا لنفسك، لست مهتمة.

قال مايكل وهو يشير إلى النادل:

- معذرة... سأحتفظ بذلك لنفسي.

غمزت فرانسيس بطرف عينيها وقالت للنادل:

- براندي آخر.

قال مايكل:

- اثنان.

قال النادل وهو يتراجع إلى الخلف:

- نعم سيدتي، نعم سيدي.

نظرت فرانسيس إلى مايكل في هدوء عبرالمائدة وتساءلت:

- هل تود أن أتصل بآل ستيفنسون؟ سيكون الجو لطيفًا في الريف.

قال مايكل:

- بالتأكيد... اتصلي بهم.

نهضت من وراء المائدة وقطعت الحجرة سائرة نحو الهاتف. شاهدها مايكل وهي تمشي، متفكرًا، يالها من فتاة جميلة، يا لها من سيقان لطيفة.

(تمت)

***

.......................

المؤلف: إروين شو /  IRWIN SHAW(1913-1984)

ولد أروين شو عام 1913 في نيويورك في أسرة مهاجر أوكراني وهو ينتمي إلى الجيل التالي من الكتاب الأميركيين العظام : ( فيتزجيرالد، - همنجواي- فوكنر- توماس وولف – باسوس ) بدأ حياته الأدبية في منتصف ثلاثينات القرن الماضى، وقد أثبت شو منذ خطواته الأولى أنه صاحب أسلوب متفرد، وموهبة أصيلة وذلك عندما نشر في في عالم الأدب، 1936 مسرحية ثورة الموتى، فجلبت له شهرة واسعة، وأروين شو كاتب مسرحي و روائي وسيناريست وكاتب مجيد للقصة القصية،   ترجمت أعماله إلى معظم لغات العالم، اشتهر في العربية بمسرحية ثورة الموتي، لكنه كاتب روائي قدير وكاتب قصة قصيرة بارع، وتعد قصة الفتيات فى الفساتين الصيفية درة قصصه القصير، وربما كانت القصة القصية هى أكبر الأجناس الأدبية التصاقا بمبوهته ككاتب. حاز إرين شو على جائزة أوهنرى فى القصة مرتين وجائزة الاكاديمية الأمريكية للفنون والآداب مرة، توفى شو فى دافوس بسويسرا عام 1984م.

بقلم: برونا دانتاس لوباتو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

عادت إلى المنزل فقط من أجل حضور الجنازاة. جعلت تأشيرتها غير قابلة للعودة، ولم تتمكن من الحصول على إجازة من العمل. كانت تدين لوالدتها بثلاثة أعياد على الأقل، وثلاث ليال من ليالى رأس السنة الجديدة، وثلاث حفلات أعياد الميلاد. لتسوية ديونها، اشترت لوالدتها تذكرة رخيصة إلى نيويورك مع توقف لمدة ثماني ساعات في مدينة بنما وأربع ساعات أخرى في ميامي. لم تركب والدتها طائرة من قبل، ولم تكن تتحدث الإنجليزية ولو بكلمة واحدة، ولم تكن تعرف كيف تستعد للرحلة.

قالت الابنة:

- ما عليك سوى اتباع تعليماتي.

وكتبت لوالدتها خط سير رحلة دقيق وسيناريو للمقابلة الجمركية فى المطار. حفظت والدتها بعض العبارات بالإنجليزية: أنا أسافر وحدي. أنا أزور منذ ثلاثة أسابيع. ابنتي تعيش هنا. عبر سكايب، ساعدت الابنة والدتها على حزم أمتعتها، وطلبت منها أن تترك كل ملابسها الاستوائية وصنادلها في المنزل، ولا تحضر معها سوى السترات السوداء والبيج والأحذية المقفولة. شاهدت والدتها، بشعر أشعث وهالات سوداء تحت عينيها، شاهدتها وهي تلف جواربيها وملابسها الداخلية وتضعها في شقوق صغيرة في حقيبتها جنبًا إلى جنب مع القهوة المميزة وحلوى الجوافة التي تذكرها بطفولتها.

في الليلة التي سبقت جمع الشمل، بينما كانت والدتها الحلوة تحلق فوق المحيط وتتناول وجبة خفيفة من الفول السوداني بجانب زوجين مراهقين من بلد ما، شربت الابنة ثلاث زجاجات من الكورونا أثناء تنظيف حوض الحمام والمرحاض، وغسيل كل الأواني والمقالي المتراكمة على الموقد، وبعد أن تخلصت من حاويات الأرز واللحوم الفاسدة في الثلاجة. توجهت إلى الطابق السفلى وغسلت لحافها الوحيد المتعفن ذي الخطوط الزرقاء الباهتة، حتى تشعر والدتها بالدفء في ليالي نيويورك الباردة.

نامت الابنة في النهاية، لكن والدتها لم تنم. لقد غطت ساقيها بالبطانية الخفيفة التي قدمت لها وانتظرت. وضع الزوجان المراهقان فيلم رسوم متحركة ولم يشاهداه، وكانت أعينهما مغطاة بأقنعة العين الحريرية، فتح الصبي الزوج مسند الذراع بالكامل. بينما حملت الأم الشابة عبر الممر طفلها بين ذراعيها وهى تتناول العشاء، وكانت تهزه بلطف عندما يشرع فى البكاء. سرعان ما أنهت الأم وجبتها الخاصة: باستا بيني مع المارينارا وشريحة براوني. انطفأت الأنوار في الطائرة وواصلت الوالدة الانتظار في الظلام. تحركت الطائرة الصغيرة ببطء فوق خريطة العالم على الشاشة أمامها، وقد تمنت أن تتحرك الطائرة بشكل أسرع حتى تشعر بالراحة والأمان مع ابنتها. مع عدم وجود نص لتتذكره، ولا خرائط للمتابعة، ولا حقائب ثقيلة لحملها. أشرقت الشمس عندما كانت على وشك الهبوط في بنما. استطاعت أن ترى الجبال الخضراء والطريق الريفي قبل أن تغلق الستارة على نافذتها. حتى لا تزعج الزوجين المراهقين، لم تكن قد ذهبت إلى الحمام مرة واحدة، وكانت سروالها يضيق بشكل غير مريح حول الخصر.

في المطار الثالث، تم فحص القهوة التي كانت أحضرتها لابنتها. أمسك ضابط إدارة أمن المواصلات بالوعاء وقال شيئًا لم تستطع فهمه. عندما مدت يدها لتظهر له ما بداخله، صرخ، ثم أبعده عنها ولم يرده أبدًا. ملأت استماراتها بقلم أحضرته معها من المنزل وتمكنت من تذكر كل عباراتها الإنجليزية التى حفظتها. التقطت صورتها وفحصت بصمات أصابعها. قال أشخاص يرتدون الزي العسكري، " هذه الطريق، سيدتي"، وأشاروا بأذرعهم إلى رواق تلو رواق.

في نيويورك، رأت ابنتها أولاً، وهي تحدق في لافتة العائلة "مرحبًا بعودتك". ركضت الأم نحوها ولفت ذراعيها حولها، وأمسكت بيدها، وعانقتها بقوة، مندهشة من مدى صلابة ابنتها، كيف كانت حية و قابلة للمس، بعد سنوات من كونها مجرد صورة كرتونية على الإنترنت. ظلت الابنة تحدق في الأم، وما تزال تنتظر وصول الأم بالكامل إلى عقلها، لتبدو أقل شبهاً بالكرتون على خلفية ذلك المطار الأمريكي. قالت الابنة، "لا أستطيع أن أصدق أنك هنا"، وقالت الأم، "لا أستطيع أن أصدق أنك حقيقية." وخرجتا من المطار متشابكتى الأذرع. تعجبت الأم كيف ترى أنفاسها. تفوح من الهواء رائحة الجليد. حجب ضباب كثيف المنظر من نوافذ القطار و من مطار جون كنيدي. كانت الأشجار على طول الطريق تبدو بلا أوراق تقريبا.

حملت الابنة، وهي تلهث، الحقائب المعبأة بعناية في طريقها إلى الطابق الخامس. لقد أضىء وجه الأم عندما دخلت أخيرًا عالم ابنتها الخاص، وهو مكان لم تشاهده سوى عبر شاشة الكمبيوتر، مثله مثل معالم المدينة الشهيرة التي شاهدتها فقط على التلفزيون. سارت من مشهد إلى آخر جرمها الرمادي يتأرجح برفق من جانب إلى آخر.

- آه، تلك الوسادة! تلك اللوحة! تلك الأريكة! لقد عرفتها.

قالت الأم وهي تنتزع إناءً صغيرًا لؤلؤيًا من حافة رف الكتب، وهو عبارة عن دائرة مثالية خالية من الغبار تُركت وراءها في المكان الذي وقفت فيه لسنوات. أمسكت الابنة بيد والدتها الأخرى، التي شعرت أنها أصغر في يدها مما كانت تتذكر - لكم ذبلت - وقبلتها.

في المطبخ، وضعت الابنة الخبز الطازج في سلة وصبت الماء الساخن في إبريق الشاي العتيق، ثم وضعت أكواب الشاي على الصحون الملائمة وقدمت الشاي لأمها مع بطيخ مقطوع مسبقًا في أوعية كبيرة - كل الأشياء التي لم تفعلها بمفردها أبدًا، في حياتها من شطائر زبدة الفول السوداني فوق حوض المطبخ.

كما أنها صنعت إبريقًا طازجًا من القهوة المقطرة بينما كان الشاي، والذي كان في الغالب احتفاليًا، ذريعة لإخراج أفضل ما لديها من أدوات، والذي لم يكن أي منهما يشربه، أصبح باردًا. شربت كلتاهما قهوتهما مع الحليب وبدون سكر. أكلتا الفاكهة ثم شرائح الخبز بالزبدة بسرعة بين الرشفات.. ثم سكبت الابنة فنجان قهوة آخر وآخر.

قالت الأم:

- صادروا القهوة التي أحضرتها لك. من نوع "بيلاو"، المفضلة لك.

قالت الابنة:

- أنا آسف للغاية

وتهت مرات عديدة.

- سأل الابنة:

- هل كنت خائفة؟

- في البدايه. ولكن بعد ذلك بدأت الأمور تسير تمامًا وفق ما قلت. كانت هناك سهام في جميع أنحاء المطار وقد قادتني إليك مباشرة. لقد كنت حقًا في نهاية أطول رواق، تمامًا كما وعدت وأكدت لى.

والطيران؟  -

- اعتقدت أنني سأشعر بأنني أخف وزنا - حتى بلا الوزن - لكن الأمر لم يكن مختلفًا كثيرًا عن الجلوس في المصعد. شعرت بالضيق والثقل طوال الوقت.

سرعان ما غُطيت المائدة بالفتات وحلقات القهوة البنية من أثر قيعان أكوابهما، ورفعت الفتاة كوبها إلى شفتيها، عندها فقط أدركت أنه أصبح فارغا مرة أخرى. وضعته بجانب فناجين الشاي الصغيرة الفاخرة، التى ما زالت ممتلئة لم تمس.

أعجبت الأم بالمنزل الأنيق، وبذوق ابنتها في الفراش والأثاث، رغم أنه كان في الغالب من شركة إيكيا/ IKEA. غربت الشمس قبل الخامسة، وبدا الأمر غريباً بالنسبة لها. اقترحت الابنة تشغيل الضوء السعيد/ HappyLight لجعل هذا اليوم يدوم لفترة أطول قليلاً. ضغطت على زر وتوهج وجهاهما، وصار لون الجدران البيضاء أزرق مخيف. كانت والدتها تلهث، مسرورة ومذهولة فى ذات الوقت لأنه يمكن المرء التحكم في يومه.

قالت:

- ابنتي تعيش في صندوق أحذية في نيويورك مع مصباح لضوء الشمس.

في الليل، بعد تناول حلوى الجوافة وتنظيف أسنانهما، رتبت الابنة سريرًا لأمها على الأريكة القابلة للطي في غرفة المعيشة، أدفأ غرفة في الشقة، ووالدتها - أوه، والدتها،  والتي شعرت بالألم والتعب بعد الرحلة- نامت بسرعة. لم تتذكر أن تقول ليلة سعيدة أو تسأل عما إذا كان لدى ابنتها وسادة إضافية حتى تتمكن من رفع ساقيها.

حاولت الابنة النوم لكنها لم تستطع. شعرت بالإرهاق الشديد، رغم أنها لم تكن هي التي سافرت. تحت سريرها في غرفة نومها الصغيرة: صندوق من الأسرار لا يستحق الاحتفاظ به، ولكنه لا يستحق الكشف عنه أيضًا. هزاز أرجواني، زجاجة ويسكي، زجاجة من الحبوب المنومة مع التعليمات الطبية. في الخارج، تستريح على الرفوف في غرفة المعيشة، حول والدتها النائمة: بطاقات عيد الميلاد من رفقاء الغرفة القدامى، والبطاقات البريدية من الأصدقاء البعيدين، وكتب طاولة القهوة المليئة بالأطباق اللذيذة والأماكن البعيدة. أي شيء يجعلها تبدو أكثر إثارة للإعجاب، حتى لو شكت في أن تأثيرها ضئيل. لم تهتم والدتها بهذه الأشياء، التي تم ترتيبها بعناية شديدة من أجلها. ركزت الأم فقط على تفاصيل كيفية عيش ابنتها في هذا المكان، والأشياء التي ساعدت ابنتها على تدبير أمورها.

سألت الأم مشيرة إلى الخلاط:

- ماذا تفعلين بهذا؟ وأين تغسلين ملابسك؟

بالنسبة لها كان منزلها عمليًا. كان كل سطح مغطى ببقايا أيامها. حبوب في أغلفتها، كتب طبخ، مقص بجانب عبوة مفتوحة. لا شيء مزخرف، لا شيء سدى، باستثناء صور ابنتها في أماكن أجنبية - لندن، لشبونة، ولوس أنجلوس - والتي كانت تحب أن تعرضها على كل صديق زائر وعمال التوصيل.

أدركت الابنة بعد فوات الأوان، بعد الكثير من القلق، أنها نسيت تناول حبوب منع الحمل في تلك الليلة. بعد خمس ساعات من النوم المضطرب، قامت أخيرًا بدفع البطانيات جانبًا ونهضت على أطراف أصابعها من السرير لترى ما إذا كانت والدتها تبدو بخير. كانت الشقة بأكملها مظلمة، ولم يكن هناك سوى جزء صغير من الضوء يسطع من تحت الباب الأمامي، قادمًا من الممر بالخارج. أشعلت الابنة المصباح. أمسكت والدتها حاشية اللحاف بإحدى يديها وأخفت الأخرى تحت الوسادة. كانت ترتدي ثوب نوم أبيض بزخرفة مكشكشة جعلها تبدو مثل طفلة. ارتفع صدرها وهبط ببطء، وأبدت الفتاة إعجابها بمظهرها الهادئ، وليس كما لو أنها وصلت لتوها إلى بلد أجنبي وتنام الآن في سرير مؤقت في شقة صغيرة لشخص آخر.

ومع ذلك، لم تستطع الابنة السماح لها بالنوم، ولم تستطع مقاومة محاولة إيقاظها. لمست ذراعها وهمست:

- ماما، استيقظي. سأقوم بإعداد الإفطار.

تمتمت الأم بشيء ما واستدارت إلى الجانب الآخر، وفمها مفتوح قليلاً، وشعرها الفضي مبعثر على جميع أنحاءالوسادة، بينما كانت يداها الآن مضغوطتين تحت وجهها كما لو كانت تصلي.

قالت الفتاة وهي تنحني ويدها تحوم فوق رأس والدتها:

- آسفة. سأتركك تستريحين.

شعرت الابنة فجأة أن والدتها لا تعرف مكانها. لم تكن تعرف هذه الشوارع ولن تتمكن من إيجاد طريقها إلى المنزل بمفردها. كان من المفترض أن تحميها ابنتها، وترشدها وتساعدها على العودة عندما يحين الوقت. لقد وثقت في ابنتها للقيام بذلك وسلمت نفسها لحمايتها. لذلك كانت ابنتها تراقبها - للتأكد من أنها لم تستيقظ على الأريكة المنفردة وحدها، لتتأكد من أنها لن تشعر بالارتباك.

دخلت الابنة المطبخ المشرق. كان ضوء النهار قد بدأ للتو في الظهور عبر النافذة التى فوق الحوض، وكان المطبخ يغتسل بظل بارد من اللون الأرجواني. فتحت الثلاجة ونظرت، وهي تفكر فيما يجب أن تعده لهذا اليوم. سرعان ما تنهض والدتها وتواجهها وتتحدث كما لو أنهما لم يفترقا أكثر مما كانا معًا في حياتهما. قامت بعصر برتقالة في كوب، وسخنت قطعة خبز في المحمصة، وأعدت فنجانًا من القهوة القوية،، ورتبت كل شيء بشكل أنيق على صينية لم تستخدمها من قبل.

في غرفة المعيشة، حلمت والدتها أنها كانت تطير حقًا.

(تمت)

***

......................

المؤلفة: برونا دانتاس لوباتو / Bruna Dantas Lobato كاتبة برازيلية ومترجمة أدبية مقيمة في سانت لويس. بولاية ميسوري بالولايات المتحدة الأمريكية. رابط القصة المترجمة:

https://www.guernicamag.com/reunion/

تأليف: شيلبي هينت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أستمر في تغيير الوقت المحدد لشرب السوائل قبل النوم، لكنني ما أزال، كل يوم في الساعة الثالثة صباحًا، توقظني مثانتي للتبول. أولاً، أمشي إلى المطبخ وأفتح درج الأواني الفضية، وأخرج أكبر ملعقة، وأسحب وعاء زبدة الفول السوداني من الخزانة، وأخرج كومة، وأعيد الوعاء. آخذ ملعقتي من زبدة الفول السوداني إلى الحمام. في الحمام، أنزل ملابسي الداخلية بيد واحدة، وأجلس على المرحاض، وألعق زبدة الفول السوداني من الملعقة كما لو كانت مصاصة أثناء التبول. يبدو أن هذه الأفعال خارجة عن إرادتي. ليست زبدة الفول السوداني الشيء الوحيد الذي استمتعت به بلعق الملاعق في الحمام. قصة تحب والدتي سردها وهي كيف أنني عندما كنت طفلة صغيرة، كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تجعلني أستحم، هى السماح لي بإحضار برطمان من زبدة المارجرين كونتري كروك لأكلها بملعقة بينما كانت تغسل شعري بالشامبو. هذا الانجذاب لتناول الطعام عالي الدهون بملعقة في الحمام هو أحد العادات العديدة منذ طفولتي والتي كنت أتمنى أن أتخلص منها الآن. هذا النوع من العادة التي تجعل المرء يتساءل كيف يمكن لأي إنسان آخر أن يراها على أنها أي شيء سوى فظاظة. إنني أدرك كم هو مثير للاشمئزاز- الملابس الداخلية أسفل كاحلي، والبول يقطر في وعاء المرحاض، والملعقة في فمي- لأنني في خوف دائم من أضبط هكذا. أجلس على المرحاض، نصف نائمة، ألحس زبدة الفول السوداني، تزداد قلبي في كل مرة أعتقد أنني أسمع زوجي يسير في الممر. لقد نزل في الواقع إلى القاعة أكثر من مرة لاستخدام الحمام في منتصف الليل بينما كنت هناك ألعق زبدة الفول السوداني. عندما يحدث ذلك، يطرق على الباب ويسأل، هل أوشكت على الانتهاء ؟ أدفع الملعقة في فمي، وأصدر ضوضاء مثل أه أه، بينما أحاول التخلص من زبدة الفول السوداني المتبقية في أسرع وقت ممكن. قبل التشطيف أحشو ملعقتي النظيفة المصقولة في حقيبة المكياج. عندما أفتح الباب لأعطيه دوره، أشعر بخيبة أمل لأنني أسرعت في طقوس أستمتع بها وأتوق إلى الإقلاع عنها في نفس الوقت، ولكن من الأفضل أن تشعر بالاندفاع وخيبة الأمل بدلاً من أن يكتشف زوجك أنك مقرفة. أخرج من الحمام ويقبلني وهو في طريقه إلى الداخل. يقول إن طعمك مثل زبدة الفول السوداني، لكنه أشبه بهمس ناعم وهادئ أكثر من كونه اتهامًا. نعم، أجبت. يغلق الباب خلفه وأعود إلى الفراش. من الصعب الحفاظ على الزواج طالما لدينا. عدم لعق زبدة الفول السوداني علانية من الملعقة أثناء التبول هي إحدى الطرق التي أؤدي بها دوري. يتظاهر بأنه لم يعثر على واحدة من ملاعق زبدة الفول السوداني في الحمام، هكذا يفعل ما يفعله.

(تمت)

***

............................

المؤلفة: شيلبي هينت/ كاتبة ومعلمة ومحرر في منطقة الخليج. وهي مساهم منتظم في يمكن العثور على كتاباتها على العديد من المواقع الالكترونية ةالمجلات والدوريات الأدبية وهذه القصة من موقعها الخاص على الشبكة العنكبوتية. وفيما يلى رابط القصة:

http://www.svjlit.com/creative-non-fiction/svj-online-november-2022-where-ive-been-tonight-by-shelby-hinte/

قصة:  أوجوستا فارو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان فم دولوريس نظيفًا. كانت تغسل أسنانها حوالي ست مرات في اليوم ؛ تسلكها بالخيط واحدة تلو أخرى، اثننان تلو أخريين، لأعلى، ولأسفل، وحولها. فى كل يوم تدفع الفرشاة بين الأسنان في الزوايا الصلبة. التشطيف والمضمضة المستمرة. فم نظيف."اغسلى فمك يا فتاة!" سمعت صوت خالتها حولاء العينين، ذات التنورة المربوطة مثل زوج من الجوارب. كانت تقول دائما: "فمك هو بطاقة الدعوة الخاصة بك". "هل ماتت أمي لأن فمها كان قذرا ؟" سألت دولوريس دمياتها في صمت. ثم قامت بغسل أفواه الدمى ونظفت أسنانها بالفرشاة وكسرت أسنانها السيليلويد الصغيرة. كلمة جميلة جدا!  " سليوليد "! كانت تتمنى أن يكون اسمها سليوليد. لهذا السبب، عندما  داعب الفتى ثدييها وهمس في أذنها: "هل اسمك حقًا سيليلويد؟" أجابت وهي تذوب، "نعم، هو سيليلويد - لقب دولوريس. لم تر الصبي مرة أخرى وتساءلت عما إذا كان يكره السليلويد الناشئ. بعد وفاة سيلو السوداء العجوز كما قال، وسمعت دولوريس عن شركة طيران البرازيل وجميع الطائرات التي فقدت، اعتقدت أنه من الأفضل دفن الاسم مرة واحدة وإلى الأبد. لكنها حافظت على أسنانها نظيفة. والفم نظيفا أيضا.

***

-  منذ فترة يا دكتور، كنت أحلم بأن فمي ممتليء بالنمل. ماذا يعني ذلك؟

-  أنت لم تتزوجى قط .

-  ولكن ما علاقة الزواج بفم ممتليء بالنمل؟

- إذن أنت مصابة بداء السكري، وتتناولين الكثير من الحلويات.

- لكنني قلت لك يا سيدي، أنا لا آكل الحلويات أو اللحوم.

- ذلك هو السبب في أن أحلامك غريبة. أعني لماذا يمكن لفتاة فى الخمسين أن تعيش بدون حلويات أو لحوم وهى غير مضطرة إلى ذلك؟

- هذا مفيد لصحتك يا دكتور. قرأت ذلك في مجلة.

-  يستحسن أن تكون رأسك جيدة .

- أليست  رأسي جيدة ؟

-  حسنا، يمكن أن تكون أفضل.

***

تركت الطبيب وهى في قمة الغضب. ماذا كانت تتوقع؟ طبيب منزلى في إبط هذا العالم. حصل على شهادته منذ سنوات. يعمل فى بلدة ريفية - هذا ما تأخذ منه. كيف يمكنه أن يقدر شكواتها وأحلامها بشأن النمل؟ لقد سمعها كثيرًا، ففقد الاهتمام.

- لا أريد أية حلويات في هذا المنزل، ولا حتى للزوار أو تناول الأدوية. يمكن للزوار أن يتناولوا القهوة، وهذا كل شيء! لا أريد البسكويت، لا شيء يمكن أن يجلب النمل. هل فهمت ذلك،يا  أورورا؟

ومنذ ذلك الحين أصبحت أحلامها أكثر ورودا. كان فمها مكتظًا بالنمل يسقط قطعًا من الأسنان في الشقوق بين الألواح الأرضية. لقد عض النمل شفتيها بمناشيره الصغيرة المصنوعة من السليولويد مع وجود مسافات صغيرة بينهم مثل أسنان الدمى. قطع طرقا سريعة من فمها إلى الأرض، ومن الأرض إلى فمها. وضحك بصوت عالٍ على طريقة ضحك النمل. مصمصوا شفاههم، وطحنوا أسنانهم، وسحقوا، وكانوا في الحقيقة مثل مناشير الألعاب. كانت دولوريس تستيقظ غارقة فى عرق لزج وتتوجه للاستحمام. وتقوم  بتنظيف أسنانها مرات ومرات في منتصف الليل.

في اليوم التالي، كانت تستيقظ متأخرة، وتفتح النوافذ وتبحث في المرتفعات والمنخفضة عن النمل. لا شىء. وكانت تستدعي الخادمات، لكن لا يوجد نمل في الأفق، ولا أثر له.

***

أرسلت دولوريس فى طلب الماء المقدس وجاء الأب رومولو ليرشه في الأركان، والفرغات الموجودة فى الخزائن، والمخزن، والشقوق الموجودة في الرفوف. نامت دولوريس جيدًا، وبقت دولوريس لعدة أيام دون أن تحلم. لا فم، لا نمل، لا أسنان صغيرة متناثرة،لا قعقعة.

ثم عادوا فجأة، وهم يقضمون ويضحكون بصوت عالٍ. فى جميع الألوان والأشكال.  تأرجح ملكة النمل مؤخرتها بإثارة فجة. النمل الناري يؤطر الصور في طابور واحد مكتمل ، النمل اللاسع يحيط النوافذ والأبواب، على الجدران، يتدلى من الثريات، يحيط بأثاث غرفة الجلوس. صعد النمل المجنح على الطاولات، واحدًا تلو الآخر، في مسيرة منظمة، تمامًا مثل الجنود الصغار. سمحت دولوريس لنفسها بالصياح وامتلأ البيت بالناس. اهتزت البلدة مثل عش النمل

-  إنها بحاجة إلى علقة ضرب جيدة.

- هيا يا زي، كن منصفًة، إنها العزلة التي تدفعها إلى تصرفات الأطفال.

- هراء. إنه الخمول. هذا كل ما فى  الموضوع.

- حسنًا، قد يكون الأمر كذلك، لكنها أختك. يجب أن تشعرى بالأسف لها. دعينا نجعلها تبقى معنا

-  مستحيل. لماذا لل تتزوج ولها بيت خاص بها؟ من المفترض أن تتزوج النساء يا دول.

وهكذا كان ذلك. لم يحدث تجمع الناس فرقا ولم يجد نفعا.

***

دولوريس هادئة، مهووسة. سارت الأمور نحو الأسوأ بين عشية وضحاها. الآن يأتي الأولاد ضاحكين وينتفخ فمها فجأة بالنمل

- مرحبًا، أخرج من هنا! أنت فقط تريد أن تتحسس ثديي السليلويد وبعد ذلك ستتزوج فتيات المدينة الكبيرة. اخرج من هنا الآن "

كان الأولاد يهربون، لكنهم يعودون حاملين نملًا هائلاً ونما حتى أصبحوا بطول أسطح المنازل

***

دولوريس هادئة، مهووسة. بين عشية وضحاها سارت الأمور نحو الأسوأ، يأتي الصبية الآن وهم يضحكون، أفواههم ممتلئة بالنمل وفجأة يقذفون بها.

- مرحبًا، أخرج من هنا! أنت جئت فقط لكى تتحسس ثديي السليلويد وبعد ذلك تذهب لتتزوج  من فتيات المدينة الكبيرة. اخرج من هنا. الآن.

يهرب الصبية يهربون، لكنهم يعودون حاملين كميات هائلة من النمل،يلقون بها بطول  بطول أسطح المنازل .

***

كانت دولوريس تستيقظ وتبلل رأسها في الحمام أو تحت الحنفية، وتبكي، وتذهب وتنظف أسنانها. النوم لا يأتِ أبدًا. في اليوم التالي، عيناها مجهدتان غائرتان جافتان، تستيقظ متأخرة، صامتة. الشاي مع الخبز المحمص فقط ثم تنظف أسنانها بالفرشاة وترسل إلى إخوتها وأخواتها، ولكن لا يأتى أحد. وعندما يحضرون، بالكاد يستمعون وهي تعيد عليهم مخاوفها، ثم يغادرون، وهم منزعجون، ويغلقون الباب خلفهم فى عنف.

***

بدأت دولوريس في زيارة منازل جيرانها، لستفسر عن النمل

"   - لا، دونا دولوريس، لم يكن لدينا أي نمل هنا. فقط ألقى نظرة على شجيرات الورد. أنها سليمة. ودعينا نلقي نظرة على الحلويات في المخزن، لا، كل شيء نظيف، لا يوجد نمل هنا. أعتقد أنك لا بد أنك تتخيلين أشياء.

***

قررت دولوريس غسل المنزل بالكحول، ثم بالكيروسين. كانت تنام أثناء النهار لتتجنب الحصار الليلي. لكنهم يأتون دائما. يتمايلون أو يسيرون بوقاحة وهم يلتهمون كل شيء

ويخرجون من أنوف الصور على الجدران، ويدخلون من خلال آذانهم وأفواههم. وأحيانا  كانوا يصعدون على ذراعي وساقي دولوريس. يضحكون ويطحنون أسنانهم المصنوعة من السليلويد. يمتص النمل عيون الدمى التي كانت تزين الأرفف واحدة تلو الأخرى.

كل شيء يكرر كل شيء وكان هناك المزيد من نوبات الأرق والصراخ.

ذات صباح مشمس، استجمعت دولوريس شجاعتها وقامت بزيارة لواء الإطفاء. سعداء بالمساعدة، خرجوا، وألقوا نظرة شاملة حولهم، وتفحصوا جميع أنحاء المنزل من الخارج.

- إنه في رأسك فقط، سيدتي، أعتقد أنك ترى أشياء. كل شيء فى مكانه، لا يوجد نمل هنا.

***

هذه المرة أعلنت دولوريس الحرب. وضعت أرجل سريرها في أربع علب كيروسين مملتئة بالماء. "دعهم يحاولون الآن، سوف يحصلون على ما سيحدث لهم! ها ها! سيكون هناك الكثير من النمل الميت، ولن يصدق ذلك أحد ". لكن لم يكن سوى أيام قليلة من السلام. ليلا ونهارا، رويدًا رويدًا، عاد النمل ببطء، وأسرع  فى مسيرته ، مشوا، ومشوا، وقضموا، وقضموا، وقصوا شعر دولوريس الذهبي (تساءلت عما إذا كان من المفترض أن تصنع أعشاشًا) وسرعان ما بدا الأمر كما لو كان فمها والأنف والأذنين مغطاة بالسكر.

-  زي، هيا، لنأخذ أختك إلى مدينة أكبر لتلقي العلاج. بعد كل شيء، أنت المسؤول عنها، أيها المسكين !

- كلام فارغ. هذا ما يحدث للنساء اللواتي لا يعملن ولا يتزوجن. تحتاج النساء إلى أزواج وأطفال لرعايتهم، وإلا فإنهم يتقلبون، كل على طريقته الخاصة.

يئست شقيقة زوجة دولوريس، وتعبت من مطالبة زوجها بالمساعدة. يا لدولوريس المسكينة، من ظاهر الأشياء أنها غير قادر على التخلص من النمل.

***

كان الصمت هائلاً في ذلك اليوم في المنزل القديم الكبير وبحلول منتصف فترة الظهيرة كانت دونا فيليسبينا تتشوق لرؤية ما حدث - لم يكن ذلك شيئًا عاديًا. كانت الأبواب ماتزال مغلقة منذ الليلة السابقة، وكل شيء صامت و في مكانه

دخلت على أطراف أصابعها حتى وصلت إلى غرفة دولوريس واستقبلها مشهد مؤسف

لم تكن دولوريس تتنفس، كانت ترقد بلا حراك، بيضاء حليبية، عارية، يزحف فوقها النمل من جميع الألوان والأحجام في موجة من الحركة مثل نهاية العالم. كان ضجيج النمل هائلا. يجيء ويذهب فى جنون

أحاطت الدمى ذات الفم المفتوح بأسنانها المصنوعة من السليولويد بسريرها. العديد من الدمى من جميع الأحجام تجلس وتشكل إكليلًا حول السرير. وضحكت دولوريس على ابتسامتها المنعزلة، والفم النظيف والرائحة الحلوة، ولكن  كان منها تتدلى خيوط - خيط من النمل

الصغير - تتدلى من تحت الأغطية، عبر الأرض إلى  خارج النافذة. خيط رفيع من النمل المبتسم الصغير، الصغير جدا.

المؤلفة: أوجوستا فاروا، كاتبة قصة قصرة  وشاعرة وباحثة من البرازيل، ولدت عام 1948، وتخرجت بشهادة فى أصول التربية عام 1967، ثم ماجستير فى نظرية الأدب واللغويات عام 1992 م وهى عضو فى اتحاد الكتاب البرايزلى وأكاديمية جوياس للآداب والفنون النسائية وعضو فى هيئات أخرى عديدة ثقافية وأدبية. لها أكثر من ستين كتابا فى الشعر والقصة القصة وأدب الأطفال. تعد مجموعتها القصصية أفرياجيم أى البرد أشهر كتبها التى صدرت لأول مرة عام 1988. وقد حصلت المجموعة على تقدير النقاد فى البرازيل، وقصة النمل واحدة من قصص هذا الكتاب الذى يحتوى على ثلاث عشرة قصة قصيرة.والقصة منشورة على موقع كلمات بلا حدود مترجمة الى الانحليزية ترجمها أليسون انتركين وهو كاتب استرالى مهتم بترجمة الأدب البرايزلى، أما ترجمتنا فعن النص الانجليزى، وهذه هى المرة الأولى التى يترجم فيها عمل فى العربية للكاتبة الكبيرة المشهورة أوجوستا فارو.

***

....................................

* رابط القصة على الشبكة العنكبوتية: موقع كلمات بلا حدود

September 7, 2007

Published in September 2007

https://wordswithoutborders.org/read/article/2007-09/the-ants/

ظننت أنني أعرف زوجي منذ 20 عاما. لم أعتقد ذلك - وما زلت لا أعتقد ذلك.

بقلم: بيل بوردن

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

عندما بدأ الحجر في آذار 2020، قررت أنا وزوجي الدخول في الحجر الصحي مع طفلين صغيرين، كانا في سن 15 و 12 عاما، في منزلنا في مارثا فينيارد. وصلنا في 15 أذار واستقرينا في الإقامة لفترة طويلة، حيث قمنا بتفريغ السترات والأحذية والكتب المدرسية والتشيلو.

أقام زوجي مكتبه في المنزل على منضدة كرتونية في غرفة المعيشة، وكان ينهض من الفراش في الساعة 4 صباحا ليتمشى ويقلق بشأن الأسواق. لقد قام بتقطيع ثلاثة أنواع مختلفة من الخشب وأشعل نيرانا رائعة. وقدم لي الويسكي الحاد مع غروب الشمس (اعتقدنا وقتها أن الويسكي سيقتل الفيروس). تعلمت ابنتنا الكبرى أن تصنع النوكي ؛ تعلمت ابنتنا الصغرى لعب فورتنايت. يسعدنا استخدام منزلنا في غير موسمه ورؤية الجزيرة لأول مرة في ضوء الشتاء المتأخر.

بعد أسبوع، في 22 آذار، الساعة 6 صباحا، قال لي زوجي إنه يريد الطلاق. حزم حقيبته وركب سيارته الجيب وربط بها مقطورة المعيشة. كنا متزوجين منذ ما يقرب من 21 عاما.

عندما وصل إلى مدينة نيويورك، عرض روايته قائلا: لقد اعتقد أنه كان يريد حياتنا لكنه لم يفعل ذلك. كان يعتقد أنه سعيد ولكنه لم يكن كذلك. انقلب كل شيء. لم يكن يريد منزلنا أو شقتنا. و لم يكن يريد حضانة أطفالنا.

لم يكن لدي أي فكرة أنه غير سعيد. كان زوجي رجلا ينام الساعة 9 مساء. ويتتبع دورات نومه على تطبيق على الهاتف. كان أول من غادر حفل عشاء. عمل ولعب التنس وعاد إلى المنزل وشاهد المزيد من التنس على التلفزيون. لم يكن حنونا أو عاشقا، لكنني شعرت بتيار من الحب الدائم معه. لم يغازل النساء الأخريات أمامي قط. لم نتشاجر أبدا. بدا قانعا ومستقرا في حياتنا. لقد صمم إضافة إلى مرآبنا وزرع شجيرات التوت في العام السابق لمغادرته.

كانت هناك امرأة أخرى، كما يحدث غالبا عندما يغادر الرجال. اتصل بي زوجها في ليلة 21 آذار عندما كنت أقوم بتنظيف أرضية المطبخ بعد العشاء وترك رسالة بريدية صوتية: "يؤسفني أن أخبرك أن زوجك على علاقة غرامية بزوجتي".

في تلك الليلة، اعتذر زوجي وندم قائلا إنه يحبني وأن هذه العلاقة لا تعني له شيئا. لكن بحلول الفجر، عندما أعلن مغادرته، بدا مختلفا، مصمّما. كانت عيناه الخضراوان متحجرتان.

تمتلئ بقية القصة بمزيد من الكليشيهات. غادر في العام الذي بلغت فيه الخمسين من عمري، وهو العام الذي وصل هو فيه إلى قمة النجاح المهني في العمل. اشترى شقة أنيقة جديدة في مانهاتن، ثم وكل محامي طلاق معروف، وعاملني بجفاف دائم في التعاطف و المحبة.

ما هو مختلف في قصتي هو أن زواجي تحطم في فجر جائحة كورونا. كان ذلك في وقت مبكر من الأزمة عندما غادر المنزل. كنا نطهر أيدينا بالبيوريل، ونمسح العبوات، ونستخدم القفازات في محل البقالة، لكننا لم نرتدي الأقنعة بعد. كنا نواجه العديد من الأشياء المجهولة، بما في ذلك مدى خطورة الفيروس، ومدة إغلاق المدارس، ومتى يمكننا توقع الحصول على لقاح. كنا خائفين، واستمتعت بأمان زواجي بشدة. لكن رحل زوجي.

كان لدي منزل ومال ومكان معزول للحجر الصحي - كنت آمنة بكل المقاييس. لكن شريكي، الذي وعد بحمايتي وحماية أطفالنا، اختفى بين عشية وضحاها. ولم يتمكن الأشخاص الذين كانوا سيدعمونني ويطعمونني ويساعدون الأطفال - عائلتي وأصدقائي المقربين من الوصول إلي أثناء الحجر و الإغلاق. بكوا معي على الهاتف، لكنني كنت أستيقظ كل يوم وأنا أواجه الخوف والألم بمفردي.

قررت ألا أحتسي الخمر، مع العلم أن ذلك سيجعلني حزينة، لكنني أيضا وجدت صعوبة في تناول الطعام. في غضون أسابيع كنت قد خسرت 20 رطلا من وزني، وهي المعاناة نفسها التي تعرضت عليها على مدى عقدين من الحمل والحياة الأسرية.

لم يكن لدي أي معلومات عن زوجي ولماذا هجرنا. بعد التصريحات العامة عن تعاسته، لم يعطني شيئا - لا يوجد تفسير لما كان ينقصنا في زواجنا أو في داخلي، أو المدة التي شعر فيها بهذه الطريقة، أو حتى إعلان مشاعر تجاه المرأة التي كان يواعدها. رفض مقابلة المعالج معي. في غضون أسبوع، توقف عن الرد على مكالماتي الهاتفية. كما توقف شقيقه وشقيقته عن التواصل معي قائلين إنه لدعمه نفسيا، لا يمكنهما الاتصال بي.

لو كانت الحياة طبيعية، لو كنا في نيويورك، لو تمكنت من اللحاق به في الشارع وجعله ينظر في عيني، ربما كان لدي بعض الفهم لما كان يحدث. لكنني كنت في جزيرتي المنعزلة، وكان في مكانه، ولم أكن أعرف شيئا، إلا صدمة اختفائه.

ومن المفارقات أن ثبات زوجي وصموده هو الذي جعلني أقع في حبه. التقينا في شركة محاماة حيث كان أحد كبار المساعدين، وكنت مساعدا مبتدئا تم تعيينه في مجموعته في عامي الثاني. لقد كان محاميا عظيما ذا عقل سريع وراجح، وقادر على الإشراف على عشرات الصفقات في وقت واحد، ومدروس ومنهجي في ما يتراكم لديه من المستندات القانونية. كان طويلا، أشقرا ونحيلا، صورته ظل مماثل لوالدي. كان يرتدي البدلات ويشمّر أكمام قميصه أثناء عمله. لقد كان بالغا راشدا كل ما في الكلمة من معنى.

عندما دخل مكتبي، أغلق الباب وقبلني، وأنا استسلمت وانتهيت. كان عازما على الزواج بي في غضون أسابيع من تلك القبلة، وتعهد بالاعتناء بي، والدخول في دور والدي المتوفى كحامي. وتزوجنا، في غضون عام، كلانا كان مؤمنا (ما زلت أؤمن) في الحب.

كان ثبات زوجي أيضا جذابا لي. كان الرجال في عائلتي متقلبي المزاج ولديهم فورات عصبية. لم يؤمن زوجي بالصراخ أو حتى القتال. كان صوته دائمًا منخفضا، وغالبا ما يكون هامسا، ورفض دائما الدخول في جدال. كان منزلنا هادئا وخالٍ من الصراع، وكان ذلك بمثابة انتصار لي، و منحني شعور متعجرف بأنني كنت أعيش حياة أفضل.

لكن الماضي المتمرد يكمن خلف المظهر الخارجي الهادئ لزوجي: مراهق يتعامل مع القانون، ومشاكل في المدرسة. كان هناك الكثير من النساء يتعقبنه وقصص بعضهن تلاحقه، ولا يستسلمن لرفضه.

كان هذا السرد مثيرا بالنسبة لي، المتمرد السابق الذي كان يرتدي بدلة، ومشكلة طالبة المدرسة الثانوية التي هبطت في شركة محاماة النخبة، محطمة القلب. لكن عندما أفكر فيما حدث، أفكر في هذا الجزء منه. الولد الشرير فيه يخلع الزي الخانق للزوج و مظهر الأب الذي تبناه بشكل مفاجئ.

بعد ثلاث سنوات تقريبا، ما زلت لا أفهم سبب مغادرة زوجي. ازدادت غرابته فقط، وأصبح خصما في عملية الطلاق، وبينما كان لطيفا مع أطفالنا وأحيانا يتواصل معي عبر الرسائل النصية، كان أكثر تصميما في رغبته في عدم مشاركة الحضانة أو الأبوة والأمومة اليومية.

مع استمرار الوباء، كان هناك القليل من التفاعل الاجتماعي وتدفق المعلومات لدرجة أنني لم أسمع شيئا عنه من أي شخص. لا أعرف ما إذا كانت المرأة الأخرى لا تزال مهمة بالنسبة له أم أنها لا تهمه على الإطلاق. لا أعرف ما إذا كان قد خدع طوال فترة زواجنا أم أن هذه الخيانة كانت خيانته الأولى. لا أعرف ما إذا كان قد تغير فجأة أو إذا كنت أنام مع شخص غريب لمدة عقدين من الزمن.

كان بإمكاني التعاقد مع محقق خاص، وكان بإمكاني الاتصال بزوج المرأة التي كان يراها، وكان من الممكن أن يلاحق أهل زوجي للحصول على إجابات. لكن كل هذه الطرق أشعرتني بالدناءة، كما لو كنت أستبدل كرامتي بقصاصات من المعلومات. كان علي معرفة كيفية المضي قدما في حياتي دون أن أعرف.

إن وجود مساحات فارغة عندما تحاول تذكر ماضيك وإدراكه يبدو وكأنه شكل من أشكال فقدان الذاكرة. أو مثل مشاهدة بداية الفيلم ونهايته، وفقدان الأجزاء الوسطى الأساسية من القصة.

ليس لدي أي سر لمشاركته حول كيفية المضي قدما دون إجابات. مشيت كثيرا، ومارست شكلا من أشكال التأمل جعلني أشعر وكأنني أتقدم إلى الأمام. توليت المزيد من الأعمال القانونية، وطهي الطعام لأولادي، ومشيت مع كلبنا، واشتريت سجادة جديدا. وفي النهاية، بعد عدة أشهر، وجدت نفسي على طريق ليس له علاقة به، وتوقفت عن النظر للخلف والجانبين، ونظرت فقط للأمام.

أراه أحيانا من بعيد في حي مدينتنا المشتركة. يبدو مألوفا لي، وضعيته ومشيته، وشعره الأشقر الرملي وحذاءه الرياضي البرتقالي، ويقفز قلبي قليلا عند رؤيته. لكن بعد ذلك أتذكر أنه غريب عني وكأني لا أعرفه، وأنا أمشي.

***

........................

* عن صحيفة نيويورك تايمز، 30  حزيران 2023

النص الأصلي:

Was I Married to a Stranger? By Belle Burden, June 30, 2023,

https://www.nytimes.com/2023/06/30/style/modern-love-married-to-a-stranger.html?

قصة: بوب ثوربر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان عائدًا إلى منزله بعد أن قضى سهرة جنائزية طويلة ومراسم جنازة قصيرة عندما رآها للمرة الأولى، كانت ترتدي ملابس وردية من رأسها حتى أخمص قدميها، بما في ذلك المشابك البلاستيكية في شعرها وظلال عيونها وأحمر شفتيها الكريمى وأظافرها اللامعة. جلست في مواجهته في المقعد الطويل في مقدمة الحافلة.

قام بتسجيل ملاحظة في مفكرته، كتب: امرأة مصنوعة من حلوى غزل بالبنات.

في المرة التالية التي رآها فيها كانت ترتدي ملابس زرقاء مع أقراط بلاستيكية مدورة بيضاء اللون كبيرة، كما لو كانت أساور، وقرر أنها إما أنها أصغر بعامين أو أكبر بكثير مما كان يظن في البداية .

في المرة التالية التي رآها فيها كانت ترتدي ملابس وردية اللون مرة أخرى، ساقها العاريتان قويتان وثمة ضمادة على كاحلها، أعلى حذائها الرياضي الخال من الأربطة .

في المرة التالية كانت ترتدي ملابس منقوشة جميعها باستثناء حذاء بني، تقول لرجل  يرتدى قبعة بنية اللون، أنها أفرجت عن أسهمها وعززت أصولها المالية وأصبحت متفائلة في أمريكا.

في المرة التالية  التي رآها فيها كانت تدندن عيد الميلاد، اعتقد أنها موسيقى برامز .

في المرة التالية التي رآها فيها، كانت هي والسائق يتبادلان أطراف الحديث، وكان يرتشفان من أكواب فولاذية متطابقة تنفث بخارًا.

في المرة التالية التي رآها فيها سألته عما إذا كان بإمكانه أن يمنحها ورقة بيضاء من مفكرته وعندما أعطاها الورقة البيضاء قطعت جزءًا منها وأعادت له الباقي، بعد لحظة سألته إذا كان بإمكانها أن تستخدم قلمه، بعد ذلك رآها تعطي السائق ورقة مطوية.

في المرة التالية التي رآها فيها بدت متوترة ومنزعجة؛ وعلى نحو ما ظلت تلمس شعرها.

في المرة التالية التي رآها كانت حاملاً ولكن ليس كثيرًا .

في المرة التالية التي رآها فيها كانت تقول لسائق الحافلة أنه رجل طيب ومحترم، رجل لطيف للغاية، لكنه لن يتمكن من جعلها على الحالة التي اعتادت عليها.

في المرة التالية التي رآها فيها، ابتسمت للتو. ليس كثيرًا في وجهه كما هو الحال مع أي شخص آخر حيث كانت تفرك بطنها كما لو كان مصباحًا سحريًا.

في المرة التالية التي رآها فيها لم تعد حاملاً، وهو ما كان يعتقد أنه غريب إلى حد ما.

في المرة التالية التي رآها فيها، كانت تعاني من ألم واضح، وهي تميل إلى الأمام وتمسك بطنها، كما لو كانت تعاني من ألم شديد.

في المرة التالية التي رآها فيها كانت رابطة الجأش تمامًا.

في المرة التالية التي رآها فيها، قالت: "هذا أروع خبر سمعته منذ فترة طويلة. جيد  بالنسبة لك. يا لها من نعمة. تهانينا." لم تكن تنظر إليه أو تنظر إلى أي شخص آخر. في الواقع كانت عيناها مغلقتين ولم يكن لديه أي فكرة عمن كانت تخاطبه.

في المرة التالية التي رآها، كانت جالسة بالقرب من السائق وسمعها تهمس، "لأنك تقول ذلك. لا يا سيدي، لا أعتقد ذلك.

في المرة التالية التي رآها فيها، قالت لطفل يجلس في حجر أمه: أنت لست وحشًا صغيرا حقا، أليس كذلك ؟

في المرة التالية التي رآها فيها كانت منعزلة تمامًا إلى حد ما، وعندما أخبرها أنه كان قد سجل ملاحظات فى مفكرته،وعندما فتح المفكرة لكى يقرأ لها بعض الجمل، طلبت منه التزام الهدوء لأنها لا تشعر بالرغبة في التحدث وكانت أشعة الشمس تسبب لها الصداع.

فانتقل إلى مقعد في الخلف وأغمض عينيه، الأمر الذي كلف الكثير من الجهد، والذي تطلب طاقة أكثر مما ينبغي؛ بل الكثير من الطاقة لدرجة أن الجهد المبذول لإبقائهما مغلقتين جعله مستنزفًا وضعيفًا وفارغًا.الأمر الذي دفعه إلى الاعتقاد أن العلاقة برمتها يجب أن تكون أقل من الحب الحقيقي، وليس أكثر من الافتان.

وهو ما دفعه إلى التفكير في المرة الأولى التي رآها فيها، في ذلك الصباح بعد الجنازة، على الرغم من أنه على مدار حياته لم يتذكر إلى الآن من الذى وافته المنية.

في المرة الأخيرة التي رآها فيها كانت عارية على القمر، فقط صورة خيالها محددة بظل رمادي، ومع ذلك يمكن لأي شخص أن يرى أنها ساحرة، أو عرافة، أو روح شريرة في أبشع صورها، وقد اعتبر ذلك بمثابة تحذير.

***

.....................

المؤلف: بوب ثوربر/ Bob Thurber

كاتب أمريكي عجوز غير متعلم، لا يحمل أيه شهادات علمية أو درجات أكاديمية ولا تدريب رسمي، ولد بوب عام 1955، نشأ في فقرمدقع وتخرج من الثانوية معدمًا ثم ثضى سنواته الأولى في العمل في وظائف وضيعة وكان فى نفس الوقت يقرأ بنهم ويدرس حرفة القص، لقد أنجز فترة تدريب مهني طويلة، حيث كان يكتب يوميًا لمدة عشرين عامًا، قبل أن يقوم بنشر أول أعماله القصصية، ومنذ ذلك الحين لاقت أعماله  قبولًا واسعًا في معظم الدوريات والمجلات والمختارت الأدبية. له حتى الآن ست مجموعات قصصية ورواية واحدة، يميل إلى كتابة القصة القصيرة والقصيرة جدًا جدًا . حصل بوب ثوربر على العديد من الجوائز (أربعين جائزة)  منها جائزة: The Barry Hannah fiction prize وThe Margery bartlett sanger award، وظهرت نماذج من قصصه في أكثر من 60 مطبوعة من كتب المختارات الأدبية. يعيش بوب ثوربر في ولاية ماساتشوستس، حيث يواصل الكتابة يوميًا على الرغم من فقدانه نعمة البصر تقريبا .

 

بقلم: أشيغول سافاش

ترجمة صالح الرزوق

***

اختفى الصيف. على طول الفولغا، تم طي خيم البيرة حيث كنا نجتمع في غضون الأسابيع الأولى، وأودعت في الشاحنات. ولعدة أيام، كان طلاب البلدة يجلسون بين الأوتاد. وفي الأسابيع التالية تم تجميع الأوتاد وحملها، وأقفر الممشى فوق الماء الرمادي.  وتبدل لون أوراق الشجر وتساقطت، مثل طلاء الأبنية الصفراء في البلدة. وظهرت القبعات المستديرة الفخمة مع أول هبة ريح قادمة من النهر. وهذا مشهد تخيلناه دائما. هو ومعاطف الفراء. وأشعلت المقاهي أضواء النيون في النهار. وجلس المخمورون الوحيدون في الحديقة الفارغة. واجتمعت العجائز المرتديات ثياب القماش والصوف لبيع الخضار الملقاة في الدلاء. وأخيرا تشكل لدينا إحساس عن مكان وجودنا. وأسعدنا الجو الغائم. ورغبنا أن تتكاثر الغيوم ويشتد البرد. وأملنا بهبوط الثلج، وانتظرنا الضوء الرمادي. وتقريبا ابتهجنا بالنادلات المكفهرات، وكنا نأمل أن يهملننا لفترة أطول، وأن يجبن بهزة من رؤوسهن حينما نسأل بلهجتنا المضحكة إن كان لديهن بيلميني (الشيشبرك). ثم نتبادل النظر ونحن نبتسم بزهو ونقول:"ها نحن في روسيا".

بالعودة إلى الجامعة، كانت حجرات مساكننا مزينة ببوسترات تصور النساء الكادحات في الفترة السوفييتية، وبإعلانات شوكولا تعرض صورة كوزيا الوجه الصبياني المجعد، ولكن لم يكن لدينا شخصيات كرتونية. كنا نشعر بالحنين لتلك الأشياء التي لا نمتلكها. فقد ولدنا بعد عدة عقود منها. وكنا نشتاق لأشياء أكثر واقعية، حتى لو أن العصر تخلى عنها قليلا.

إحدانا عقدت العزم على قراءة "المعلم ومارغريتا" بالروسية، وأخرى قرأت "الحرب والسلم". وأعلنا عن هدفنا دون تردد في أول عام لنا في الجامعة، نحن نكافح لنبني أنفسنا ونتطور. وكنا نقول إننا دائما مهتمات بهذه الثقافة وشعبها، واستعملنا كلمات مثل "رواقي" و"نبالة" لنصف بها عاطفتنا.

*

وكان هناك عدد آخر محدود من الأجانب في البلدة. قابلناهم في مقهى إنترنت حيث يجتمع الأجانب يوميا. ودعانا تاجر ألماني، عاش عاما في ديلوير، إلى حفل غداء في أسبوعنا الأول، حينما كنا جاهزات لبداية ما. وكنا نجتمع بعد المحاضرة لنذهب إلى السوق، ونتذوق الأطعمة التي لها مظهر غريب جدا. وذهبنا أيضا إلى السونا قبل أن يبرد الطقس.

أخبرنا التاجر في حفل الغداء:"أنتن جماعة عظيمة". وطلب من أجلنا الشراب وقال:"أنتن تذكرنني بأيام دراستي حين كنت طالبا".

ولاحقا حينما وقفنا في الخارج نرتجف ونسعل ونحن ندخن قال:"مرحبا بكن جميعا في روسيا. لدينا الكثير من المتعة هنا". ولكن لم نره مرة ثانية. كان هناك صبيان من البعثة التبشيرية - أو هذا ما توقعناه، بسبب هيأتهم الحسنة التي لا تتناسب مع سلوكهم المباشر. كانوا يحتارون حيال نكاتنا. وهناك بنات إيطاليات حضرن للعمل في دار الأيتام. كنا نتلاقي في KFC، ربما فقط لتكون محطة في غربتنا، ولنشعر بالتقارب حينما نتناول قطع البطاطا.

قلنا: “خيرا هذا شيء دون قشدة سميكة. شيء غير مخلل".

وكنا يوميا في المحاضرة نتبادل أخبار ما حضرته العوائل لنا من طعام للغداء. الحنكليس المدخن، ملفوف من مئات الأنواع، وكعك مع جبن محلي. ولسبب ما كان ذلك يجبرنا على الانفجار بالضحك. وكنا نتبادل الحكايات عن المضيفات كأننا في منافسة، ونلاحظ كل شيء تقمن به مثل باحث أنثروبولوجي أو ممثل كوميدي. وكانت إحدانا تنام على كنبة مطوية في المطبخ. وأخرى توقعت أن "العم" الذي يزور العائلة أسبوعيا، حينما يغيب الأب في سويسرا، هو في الحقيقة عشيق الأم. وهناك حكايات كنا نتبادلها كلما عدنا بعد العطلة في العام اللاحق، وبرواية هذه الحكايات بيننا كانت تبدو مقبولة - فهي عن هذا العالم الغامض الذي نتعرف عليه. حكايات عن تجاربنا الشخصية. قبل وصولي، تخيلت أنني أستسلم لمنطق الوقت، وكأنني أدخل في شرنقة. وسأغادرها بعد التحول في غضون عام، و سأبدو نسخة مطورة من نفسي. وكنت على ثقة أن هذا العام سيمنحني كل الأشياء التي تنقصني، حتى دون أن أعرف ما هي.

عشت برفقة غالينا إيفانوفنا، وهي امرأة مسنة ذات شعر برتقالي، ينسجم لونه مع طراز الزهور الناعمة المطبوعة على ثوبها القطني. كانت تذرع الممر بخطواتها رواحا ومجيئا طيلة اليوم، وهي ترتب شبكة من الأكياس البلاستيكية المتزايدة المتدلية من مقبض السخان، وتتخلص من بقايا طعام في الثلاجة أو على الشرفة. ثم تبدل أمكنة الأكياس دون سبب واضح. وتوقعت أنها في الثمانينات من عمرها، ولكن الناس يبدون أكبر مما هم في الحقيقة (وكنا ندعو ذلك "مرض التدهور الروسي" - كل البنات الشقراوات والنحيفات ينمسخن في غضون ليلة واحدة إلى بابوشكات - جدات).

كانت غالينا إيفانوفنا تعيش في وسط المدينة، قرب الجامعة، حيث نتلقى محاضراتنا. ولبنايتها الحجرية  نوافذ مقوسة وباب صدئ مستدير ولافت للنظر. وقد أخبرتني بزهو أن فيلما تم تصويره في هذا البناء. ومن الداخل كانت تنبعث رائحة العفن. أما الشقة ذاتها فهي قديمة جدا، ذات أنابيب تسرب الماء، وذات شقوق، ولكنها مدعمة بنظام من القطع البلاستيكية، والألواح، والقطن.

كنت أنام في غرفة المعيشة على الكنبة، قرب خزانة زجاجية مليئة بتجهيزات الطعام المصنوعة من الخزف الصيني الأزرق، والأكواب الزجاجية.

وبجوارها وضعت محاليل ودهون التجميل. وفي وقت الإفطار والغداء، كنا نجلس حول طاولة المطبخ على كرسيين دون مساند، وكانت غالينا إيفانوفنا تسألتني:"هل تودين الحساء الآن؟. أم الدحاج الآن؟".

وكانت تسكب الأطباق واحدا بعد الآخر، بغض النظر عن جوابي.

من اللحظة التي قدمت فيها نفسي، وضعت اسمي جانبا وأطلقت علي اسم ماشا. قالت في أول غداء اشتمل على الحساء والكعك:"لا يوجد أحد سوانا يا ماشا".

وقد توفيت للتو أختها إيرينا، التي تقطن في الأعلى. وكانت بالنسبة لها أما حانية، أيضا، واستمرت كذلك حتى آخر لحظة. ولا أعلم هل هذه علامة طيبة، أم إشارة تدل على المصاعب. وقالت غالينا إيفانوفنا إن ابني إيرينا يعيشان في موسكو.

سألتها: "وماذا عن أولادك؟".

نفضت رأسها.

سألتها:” ولكنك تحبين الطلاب؟".

نهضت غالينا إيفانوفنا من الطاولة. وبعد دقائق، عادت ومعها ألبوم صور فوتوغرافية، جرت كرسيها إلى جواري. فتحت أول صفحة وعرضتها علي، صورة بعد صورة، وهي صور بنات في الجامعة يرتدين القمصان الرقيقة وبلوزات الحياكة اليدوية، وهن تبتسمن أمام الخزانة الزجاجية.

وبدأت تعرفني بهن:"ساشا. آليا، لارا. تانيا. كاتيا".

وهناك أيضا صور بنات تحضن غالينا إيفانوفنا أو تقبضن على يدها. كانت تلوح بيدها في الفراغ كأنها تصرفهن، وكأنها مرتبكة، ولكنها لم تسرع بقلب الصفحة. وفي نهاية الألبوم توجد عدة صور أرسلت من الولايات المتحدة، وتمثل احتفالا جماعيا بعيد الميلاد، ورحلات قريبة، وقلعة ديزني لاند.

قالت غالينا إيفانوفنا:"هذه فلوريدا. وهذه ماين".

وأخرجت الصورتين من الصفحة البلاستيكية لتعرض علي اسم المكانين المكتوبين بحروف سيريلية على الخلف. من الواضح أن هاتين البنتين، اللتين تشتركان بشيء ما يخص حياتها، هما محبوبتا غالينا إيفانوفنا، وتتذكرهما باسميهما الحقيقيين.

قالت:” هذه جيسكاتي. انظري. وهذه الجميلة ستيفاني".

في الأمسية التالية، حينما جلسنا في المطبخ بعد الغداء، سألتني إن كنت أود الذهاب إلى المسرح. كان بمقدورها أن تسأل صديقتها، التي تعمل في شباك التذاكر، لتحجز لنا مكانين.

قلت:” شكرا لك، لا ضرورة لذلك".

حاولت أن أخبرها أنني لن أفهم مسرحية ناطقة بالروسية.

سألتني:"ما رأيك بعرض موسيقي؟".

قلت مجددا:"لا ضرورة لذلك. شكرا جزيلا".

كنت أخطط للانضمام إلى الأخريات بعد المحاضرة وزيارة KFC.

قالت:"إيرينا تحب المسرح". تساءلت إن كانت تتكلم بصيغة الحاضر من أجلي.

قلت:” أتمنى لو تعرفت عليها".

"ألن تضجري هنا، دون أي تسلية؟".

فتحت يدي بشكل كتاب، وصنعت حركات صامتة كأنني أكتب.

بعد قليل قالت غالينا إيفانوفنا: "الجميع رحلوا".

وافقت بإيماءة. ثم قلت:” أنا هنا. وأنت هنا".

بعد تنظيف الطاولة، تبعتني إلى غرفتي، وأخرجت إطارا من نهاية الخزانة الزجاجية. وأشارت إلى صورة رجل له شارب، ويتقلد ميداليات عسكرية.

قالت:"هذا زوجي. رحل أيضا. كان يقرأ كثيرا، مثل البنات".

في اليوم التالي في المحاضرة أخبرت الأخريات أن أمي المضيفة شخصية رائعة.

قلت: "يا جماعة. أعتقد أنها تعيش مع الأموات".

*

في تشرين الثاني أقفرت الأشجار وأصبحت عاقرة. قمنا بما يجب علينا في البلدة. زرنا الكاتدرائية، وعبرنا من الجسر إلى الحصن القروسطي، واشتركنا بجني الفطر مع إحدى مضيفاتنا، واستمتعنا بوقتنا في أحد الملاهي الليلية. حتى أننا حضرنا عرضا مسرحيا وغادرنا بعد نهاية المشهد الأول. وزرنا البنات الإيطاليات في الميتم وأنفقنا الأمسية مع الأطفال. وذهبنا برحلة في نهاية الأسبوع إلى بيت تولستوي الريفي، واشترينا من هناك الفرو وأوشحة مطرزة بورود تشبه ما ترتديه العجائز في السوق.  وعندما عدنا من الرحلة، كان وشاحي متدليا على ظهري بشكل مثلث، فجرتني غالينا إيفانوفنا من ذراعي إلى غرفتها وأجلستني على السرير. وأحضرت بقجة من القماش كانت على الخزانة وفكت عقدتها على الأرض.

قالت وهي ترفع بيدها ملابس من القماش:"هذه أمي". وكررت الكلمة. وعرضت علي غطاء طاولة من القماش. والفوط المناسبة له، وثوبا رقيقا من الكريب. قمت بتقليد إشارة الخياطة بيدي فوافقت برأسها.

وكررت قولها:” هذه أمي".

وفي الأسفل استقر زوج جوارب أطفال، وثوب بتطريز أزرق ناعم.  وفي تلك الأمسية، طلبت مني أن أجالسها في غرفتها لنشاهد عرضا عن بنت في المدرسة الثانوية، لها نظارات سميكة، وأساور معدنية. شربنا الشاي، ثم توجهت غالينا إيفانوفنا إلى الخزانة، وأحضرت كيسا من الحلوى. وعندما بدأ العرض، أشارت إلى الممثل ذي الشعر الأسود وأخبرتني:" كانت معجبة به. ولكنه لم يهتم بها".

حسبت أن البطلة ستتعرض لبعض التبدلات في الحلقات القادمة، كما هو الحال دائما. نهضت أثناء الإعلان التجاري، وصنعت بيدي ما يشبه وسادة ووضعتهما بجانب خدي.

قالت غالينا إيفانوفنا:"حسنا". وصرفتني بحركة من يدها.

استلقيت على الكنبة، وانتهيت من اختبارات القواعد وحضرتها لليوم التالي. وأضفت بعض التفاصيل للفقرة التي تصف بلدتي. وكتبت أن هناك أشجار قيقب كبيرة مشهورة بلونها الخريفي. وأن كل أفراد أسرتي يعشن على مقربة، ومع أن بلدتنا صغيرة، فهي جميلة. وحاولت أن أستعمل كل الكلمات الروسية التي أعرفها، ولكن التركيب لم يشبه مسقط رأسي: مكتب البريد، المكتبة، الحديقة العامة، المقعد، المسبح، السينما.

بعد ذلك أخرجت دفتري الذي أدون فيه التفاصيل كل مساء: رائحة الشوندر في الشقة، وقطع الصحف المربعة المقصوصة لاستعمالها بدل ورق دورة المياه. وأضفت رزمة الثياب القديمة التي عرضتها علي غالينا إيفانوفنا، وكيس قطع الحلوى في الخزانة.

*

وهناك الضجر الذي بالغنا به - اللعنة، هذه البلدة مضجرة - هناك الضجر نفسه.

وفي كل أمسية بعد المحاضرات، كنت أمشي في الشوارع القليلة إلى بناء غالينا إيفانوفنا، ثم أعود على الأقدام إلى الجامعة لأؤدي واجباتي المنزلية في غرفة المحاضرات. وبعد ذلك أتجول في أرجاء البلدة، وأنتهي إلى الكاتدرائية. وتذهب الباقيات إلى بيوت العائلات المضيفة. وكن جميعا يقطن في الضواحي، وكن قلقات من العودة في المساء حينما يتضاءل عدد الحافلات. لكن أنا محظوظة لانني أعيش في وسط المدينة، وأتمتع بحرية المجيء والانصراف كما أشاء. وأخبرتني الأخريات أنه لا يوجد شيء في أحيائهن - لا دكاكين ولا حديقة، فقط الأبنية الإسمنتية الكئيبة المصفوفة على طول الطريق. وما أن يبلغن البيت، كما قلن، يصبحن تقريبا سجينات. وربما كان هذا السبب في مشاركتهن في حياة عائلاتهن. يرعين الأطفال، ويزرن المعارف، ويساعدن في تحضير الأطباق التقليدية التي تحتاج لوقت طويل.  واستقروا بهذا الروتين،  وهكذا اعتقدت أنني أنا غير المحظوظة، في خاتمة المطاف - لأنني خسرت هذه الحياة الأصيلة.

في المساء استلقيت على الكنبة، أفكر إن كان لدي ما أضيفه إلى مذكراتي. كنت قد وصفت البلدة، بالإضافة إلى بعض الحقائق والأساطير التاريخية، ونسخت بعض القصائد من رواية "الدكتور زيفاغو" التي حملتها معي للإلهام.

جاءت غالينا إيفانوفنا إلى حجرتي بعد نهاية برنامجها التلفزيوني، ولم تقرع الباب، وجلست مباشرة على طرف السرير. وأخبرتني بما سأتناوله في الإفطار والغداء. أيدتها. فقالت:"في هذه الحالة سأذهب في الغد إلى السوق".

وفكرت ربما هذه هي طريقتها في الاستفسار إن كنت أريد مرافقتها.  في بعض الأوقات، وهي تدردش، تفك أزرار ثوبها دون أي شعور بعدم الراحة. فهي ترتدي عدة طبقات تحته - قميص قطني مدسوس تحت سروالها الداخلي، جوارب طويلة - ولذلك لا يمكنها أن تتعرى أبدا. ولكن تملكتني الدهشة أول مرة حصل هذا أمامي، حتى أنني وقفت وذهبت إلى الخزانة للتخلص من عدساتي اللاصقة. خلعت غالينا إيفانوفنا ثوبها، ووضعته على ركبتيها. سألتها هل تستعد للنوم؟.

قالت كأنني أعرض عليها أن تتكئ علي وهي تعبر الشقة لتتمكن من الوصول إلى فراشها بسرعة: “لا تهتمي. لدي أمور يجب أن أنتهي منها". 

كان يحيرني طريقة التفكير بسرد ما يجري للآخرين. ولكن فترة التسابق على تبادل غرائب مضيفاتنا كانت قد مرت وانقضت.

*

في نهاية تشرين الثاني، وصلت علبة من أبوي إحدى الطالبات، مملوءة بألواح شوكولا سنيكرز، والحلوى القوية، والفوشار، وعدد كبير من الكتب المتنوعة. ولا بد أن الأبوين سمعا أننا استهلكنا ما لدينا من كتب ولم يتبق جديد في مكتبات البلدة، وعموما لم يكن فيها غير ثلاث مؤلفات بالإنكليزية: صورة دوريان غراي، النساء الصغيرات، ونداء البراري. في العلبة وجدنا روايات جاسوسية وتشويق، من النوع الشائع في مواطننا، وكتبا عن أماكن غريبة ومواقع تاريخية - بعضها تجري أحداثه في كابول، وشنغهاي، وسانت بطرسبورغ، وهي عن الثورات أو الخياطات.

وزعنا الكتب بيننا وكنا نتبادلها بانتظام. كنت أقرأ أسرع من غيري وأحثهن على قراءة ما لديهن بسرعة. بعضهن قدمن لي كتبهن دون قراءتها. كن حينها مرتاحات في روتينهن. لاحظت التبدل، هدوءهن، وتراجع حيرتهن من هذه الحياة الجديدة.

قرأت دون اهتمام بالحصص، كنت أسرع إلى غرفتي حالما أصل إلى البيت، ودون أن أمنح غالينا إيفانوفنا الفرصة لتأتي وتسرد لي وقائع يومها. كان قد استقر بنا الحال على روتيننا، نعيش يومنا دون أن تقلق إحدانا الأخرى. كنت أغادر البيت قبل الإفطار، وأقرأ في قاعة المحاضرات قبل وصول الآخرين. وأنضم إلى غالينا إيفانوفنا للغداء، وأنهض لغسل طبقي حالما أنتهي منه، رغم احتجاجها وطلبها المتكرر أن أتركه في المغسلة. ثم أذهب إلى غرفتي لأواصل القراءة.

كانت الشخصيات وجغرافيا الأمكنة تندمج معا - العجيب والمألوف، المأساة والملهاة. وكنت مسرورة لأنني أكتشف قدراتي على التركيز، وقراءة كل ما أجده في طريقي، كان هذا دليلا على حبي. وأخيرا كان هذا هو البهاء الناجم عن تبدلي.

*

انتسبت الأخريات إلى دوائر اجتماعية تضم أخوات وأخوة مضيفاتهن. وأصبح لبغضهن هواية: طلاء الخشب، الأيقونات، الغناء مع الفرق المحلية. إحدى البنات أسست فريقا من الطالبات الروسيات للعب الكرة اللدنة، وكانت تدربتهن في أوقات المساء.  وقد ساعدناها في ترتيب بيع معجنات لتشتري للفريق قمصانه، وجاء كل الطلاب والأساتذة، مبتهجين بهذه المناسبة. ونظمت بنت أخرى دروسا لتعليم الإنكليزية في الميتم.

أخبرنا منسق البرنامج أننا فريق مثالي. فقد تأقلمنا بشكل جيد وبسرعة. ولم ينغص علينا غير حادث سيء واحد، حينما تأخرت إحدى الطالبات في الليل، وذهبت من الملهى الليلي مع شقيق مضيفتها. أرسلت جامعتنا رسائل إلكترونية تدل على التعاطف والتحذير، ولكن أدركنا أن الأمور تجري هذا المجرى في أي مكان.

*

وفي أول ليلة مثلجة، قررت أن أقوم بنزهة. جاءت غالينا إيفانوفنا إلى الباب وأنا أرتدي بوطي وأخبرتني أن الجو قارس البرودة، ولا يصلح للخروج.

قالت:"اجلسي معي وشاهدي العرض". وابتسمت مثل بنت فمدت يدها لتقبض على ذراعي.

قالت: "لماذا تفضلين دائما أن تكوني وحدك يا ماشا؟".

أخبرتها أنني لا أستطيع عمليا متابعة ما يجري في العرض.

قالت:"هراء. راقبي كلامك".

أخبرتها أن مفاتيحي معي، ولا ضرورة للقلق حول عودتي للنوم.

تجاوزت الجامعة والحديقة إلى الكاتدرائية. كانت رقائق الثلج تعصف بصمت في الضوء الذي ينهمر من نور الشارع. كانت الساحة خالية. دخلت في واحد من الطرقات التي تتفرع كالأشعة من الكاتدرائية. كانت هذه صفة تميز تصميم المدن القروسطية وعزمت أن أضيفها إلى مذكراتي. وصلت إلى النهر، وكان متجمدا بطبقات رقيقة.  وتقدمت نحو الحصن. من الشاطئ المقابل، تناءت البلدة واستسلمت لجدار معتم من الأشجار. كنت أفكر بسطور يمكنني إضافتها إلى مذكراتي، وحاولت أن أتذكر مشهد الساحة الفارغة المحتشدة بالثلوج، وحينها سمعت صوتا ورائي، يطلب مني أن أكون متنبهة وحذرة.

وقف شاب بعمري تقريبا على مبعدة أمتار قليلة، وهو يدخن سيجارة. ابتسم ابتسامة سطحية. فأومأت برأسي.

كرر:"كوني حذرة. وإلا ستتجمدين".

ولم أستوعب هل كلماته عدائية أم صديقة فهززت كتفي.

قال:"عموما ماذا تفعلين هنا؟". واقترب. توقعت أنه مألوف. سألته:” هل أنت شاعر أو شيء يشبه ذلك؟".

قال:"لا". بدأت بالعودة إلى اتجاه الكاتدرائية وسمعته يضحك من ورائي.

صاح:"هيي. ماذا يجري؟".

لسبب ما، مع أنني لم أشعر بالخطر، أسرعت بخطواتي. وما أن بلغت الكاتدرائية شرعت بالجري. في البيت، لاحظت أن لفة النقود سقطت من جيب معطفي.

في الصباح التالي بعد محاضرة الثقافة، طلبت مقابلة المشرفة وأخبرتها أنني أيضا خدعت في الأمسية السابقة.

أضفت:” لا شيء خطير. ليست خسارة عظيمة".

ولكن أخطرتها إنني قررت أن أعود، ولن أنتظر فصل الربيع أيضا. حذرتني المشرفة من الاندفاع إلى قرار سريع. وقالت من المخجل العودة الآن، ولا سيما أنني بدأت أعتاد على اللغة الروسية. وافقتها، وكنت أهز رأسي كل الوقت وهي تتكلم.

سألتني:” متى ستسنح لك فرصة مماثلة؟".

أضفت أنه في الحقيقة هناك مشكلة أخرى: أنني لا أحظى بحظ كبير في الكلام بالروسية مع مضيفتي. قلت لها هي كبيرة بالعمر. ولست متأكدة أنها قادرة تماما على استضافة طلاب وهي بهذا العمر. وأشرت إلى حقيقة أخرى وهي ضعف قدراتها الفيزيائية المحدودة، وربما هي ليست عقليا جاهزة كذلك - ولا يمكنها أن تميز بوضوح بين الحي والميت، وفي عدة

مناسبات، كانت تتعرى أمامي.

استنفرت أحاسيس المشرفة.

قالت:” لم نكن نعلم بذلك. ولكن كل البنات كن معجبات بها على الدوام".

واقترحت أن تجد لي عائلة أخرى.

وافقت أن غالينا إيفانوفنا امرأة رائعة. ولكنها تتقدم بالعمر، وهذا ليس خطأ أحد. وأضفت ربما من الأفضل لي أن أركز على الجانب الأكاديمي المتوقع في الفصل القادم في كل الأحوال. ثم إن د اللغة الروسية ليست أول اهتماماتي. حثتني المشرفة على الاستمرار على الأقل حتى نهاية العطلة. ولاحظت أنها مهتمة، من أجلي وكذلك من أجل سمعة البرنامج.

قالت:” حسنا. وشكرا لكل شيء".

وقبل مغادرة مكتبها، أخبرتها أن غالينا إيفانوفنا حساسة جدا. ومن الأفضل أن لا ينمو لعلمها  أي

شيء مما قلت.

*

كان البعض ينفق العطلة مع المضيف. أخريات سافرن إلى موسكو. وقررت الانضمام لهن، ومن هناك أتابع برحلة أخرى، ربما إلى قازان، أو شمال أرخانجيلسك - وكان في ذهني خطة رحلة بالقطار تنتهي في مكان خرافي وأسطوري، وذلك قبل العودة إلى البيت.

خلال الأسابيع الأخيرة لي في البلدة، شاركت بالمحاضرات بحماس، وصنعت صفا من بطاقات الكلمات، وأضفت إلى مذكراتي كل المشاهد والأصوات التي كازت في طريقي. وحضرت تمارين الفرقة الموسيقية، وذهبت إلى الميتم في يوم المباراة مع الأطفال. وعندما رجعت إلى البيت، أخبرتني غالينا إيفانوفنا أنها تركت لي الطعام على الطاولة، فقط إذا كنت أريده.

سألتني في أحد الصباحات وأنا أغادر:"هل أخطأت معك يا ماشا بشيء؟".

فقد أخبرتها  أنني بعد المحاضرة سأزور مضيفة إحدى زميلاتي على الغداء.

قلت:” كلا". كنت أريد الاستمتاع بكل وقتي قبل أن أنتهي.

قالت: "ستغادرين لأنك لا تحبي هذا المكان؟".

قلت:"كلا. أنا أحبه فعلا".

ولم يكن في ذهني كلام آخر أقوله.

*

لحق بي المرض قبل الرحلة إلى موسكو بيوم واحد. وفي الصباح التالي، حينما كانت الآخريات تصعدز على متن القطار، أصبحت عليلة جدا، ولم يكن بمقدوري الوقوف. كانت غالينا إيفانوفنا تأتي إلى حجرتي  على مدار الساعة، وتضع يدها على جبيني، وتبدل كيس مخدتي، وتحضر الحساء للطعام، ولكن لم ألمسه.

قالت:"هيا يا ماشينكا. خذي القليل منه فقط".

وكنت أبكي كلما حثتني على الطعام بهدوء وأنا أشعر بالخزي.  في إحدى المساءات، حينما تمكنت من أكل عدة ملاعق، حملت كتبي إلى جانب سريري.

قلت بحركة من رأسي: كلا. وشكرتها.

قالت :"ولكنك تحبين القراءة". وجعلني هذا أبكي.

أحضرت المقعد من المطبخ، وجلست في غرفتي بقية يومها. كنت أغط بالنوم وأفيق وغالينا إيفانوفنا جالسة على الكرسي، ويداها في حضنها، دون أي علامة تدل على نفاد الصبر.

قلت لها:"ستمرضين أيضا. من فضلك لا تبقي هنا".

لوحت بيدها.

في اليوم التالي غادرت السرير وحصلت على حمام سريع. في المساء جلسنا عند طاولة المطبخ. بعد ذلك ذهبت إلى غرفة غالينا إيفانوفنا لمشاهدة العرض التلفزيوني. كانت البنت لا تزال ترتدي الأساور والنظارات السميكة. ولكنها ضمنت لنفسها مكانا في مجتمع غرفة الصف. ولا حظ الولد ذو الشعر الأسود ذلك.

حينما كنت عائدة إلى غرفتي سألتني غالينا ايفانوفنا ما هي خطتي في المساء القادم. ليلة العام الجديد.

أخبرتها:” لا شيء".

قالت:” سنأكل معا. من المهم أن نكون متلازمتين".

بعد الظهيرة ذهبت إلى الكاتدرائية، كانت جدرانها تنهض من تحت الثلج، وقبابها المذهبة مطمورة بالأبيض. اشتريت هدايا من الغرف الخشبية الموزعة حول الساحة لأحملها معي إلى بلدي. كان مرشد سياحي يتكلم عن نمط الطرقات التي تنبع من الكاتدرائية. وقبل أن أنصرف، نظرت إلى صفوف الأيقونات الكثيرة، وأياديها ترتفع للتبريك أو للاعتراف، وحاولت أن أستخلص شيئا من هذا المشهد لأحمله معي أيضا. ثم توجهت إلى السوبر ماركت واشتريت كعكة بالمثلجات.

أحضرت غالينا إيفانوفنا طاولة المطبخ إلى غرفتي، وغطتها بغطاء من قماش أحمر، ووضعت عليها أكوابا من الزجاج. وعلى طاولة صغيرة مقبلات وقارورة كونياك. كانت صورة زوجها كذلك على الطاولة، مع صورة إضافية لطفل، بعمر سنة أو اثنتين، وكان ملفوفا بملاءة من التريكو. رفعنا كوبينا لنشرب نخب العام القادم. أومأت غالينا إيفانوفنا للصورة قبل أن تأخذ رشفة. وحينما كنا ننظف الطاولة، شكرتها على حسن ضيافتها لي، وقدمت لها دبوسا عنبريا بشكل القلب، اشتريته في ذلك اليوم من أمام الكاتدرائية.  وفي الوقت الذي كان التلفزيون يعرض به الألعاب النارية من الساحة الحمراء، كانت تغط بالنوم على الكنبة.

*

لاحقا تذكرتها بحنان. وصفت مخللاتها وحساءها، وأثوابها القطنية المطبوعة، وذهنها البطيء المشتت، كما لو أنها شخصية في قصة خرافية. وقلت كانت العجوز تدعوني ماشا. بعد بعض الوقت كتبت إليها، ووقعت باسمي الأجنبي الذي خلعته علي. حتى أنني أرسلت لها صورة تذكارية - لحجرتي في المساكن، وغرفة الطعام، وبيت والدي، والشوارع، وحدائق المدينة، والكنيسة الخشبية البيضاء المشيدة على التلال.

أخبرتني بالهاتف إن بلدتي تبدو مثل بلدتها.

قالت:” لا بد أنك كنت في بيتك معنا".

وآخر مرة كلمتها فيها، كانت في عشية العام الجديد، ليس قبل وفاتها بمدة بعيدة.

صحت أقول:"عاما سعيدا. أتمنى أن أمامك كأسا من الكونياك".

"هل تتذكرين يا ماشا حينما احتفلنا معا".

"طبعا. كانت لحظة رائعة".

"كنت الأخيرة. أخبروني أنه يجب أن لا أستضيف بعدك أحدا".

قلت:"ولكن كنت مضيفة متميزة جدا".

قالت:"ما كان عليك أن تكلميهم عني، أيا كان ما قلت لهم".

ثم أضافت:"ولكنني أغفر لك".

*

بسرد تفاصيل حكاية مغامرتي الروسية، لا يفوتني أن أقول إن تلك الشهور، برفقة مضيفتي العجوز، كانت وقتا مؤثرا ترك ظله على حياتي، وعلمني شيئا عن حياة الآخرين. ولكن من بين كل التفاصيل التي لم أذكرها في القصة، ونسيتها مع الوقت، لا أزال أتذكر عصارى اليوم الذي أحضرت فيه غالينا إيفانوفنا مجموعة الكتب. ولسبب ما لم أفهم تماما، لماذا جعلني مرأى تلك الكتب أبكي.

جلست غالينا إيفانوفنا على مقعد قرب سريري وفركت لي يدي ببن راحتيها. ولاحظت أنها كانت تبكي أيضا.

وأعتقد أنها قالت لي:"هذا محزن جدا".

ولست متيقنة أنني فهمتها على نحو صحيح.

قلت:"أنا غير حزينة. أنا على ما يرام".

هزت رأسها.

قالت:"نحن هنا. الواحدة بجانب الأخرى".

وأخبرتني إنها آسفة، لأنه ليس بمقدورها أن تقدم لي مساعدة أكبر.

***

.................

* إيشيغول سلفاش Aysegul Savasكاتبة تركية تعيش في باريس. صدرت روايتها الأولى بعنوان "المشي على السقف". 

النص الإنكليزي منشور في مجلة "غورنيكا" الأدبية.

 

قصة: روبرتا ألين

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تحت سماء ضبابية، تتجول امرأة أجنبية بمفردها في يوم الإجازة في السوق الصباحي بينما يقوم الباعة بترتيب الفواكه والخضروات. ثمرة فاكهة تسقط من سلة المهملات وتُسحق تحت قدم من الرمل تجذب عين المتسول. تمسح النساء أيديهن على مآزر قذرة بينما تشم الكلاب أقدام المارة. أسراب من الذباب تلطخ ثمار الجوافة الناضجة. بينما يرفع بائع ذراعيه لضبط القماش المشمع فوق كشكه، يكشف قميصه المرتفع عن بطنه ندوبًا سوداء كبيرة. راكعة وسط الحطام، أم ترضع طفلًا من صدر يشبه الكمثرى المتعفنة. أم شابة تجري في السوق وهي تصرخ أن طفلها قد ضاع. صبي يبيع قطة مولودة حديثًا. يضع القطة في كيس ورقي ويغلق عليها. يقوم بتمزيق الثقوب في الكيس بأسنانه حتى تتمكن القطة من التنفس. عندما يضحك، تتشبث قصاصات من الورق بلسانه. وسط الضوضاء والغبار والضجيج، كان على الرجال الرابضين تحت أكياس رمادية ضخمة، وأعينهم ملقاة على الأرض، أن يمروا بصفوف من الأقفاص المليئة بالببغاوات والكناري وخنازير غينيا والطيور. فتاة في كشك خضروات تمسك أنفها وتمسحه بطرف فستانها البالي. خلف الأكشاك والشاحنات توجد منازل قديمة في الشوارع الضيقة المتعرجة. تحتوي جميع شرفات الطابق الثاني على نفس الدرابزين من الحديد المطاوع، الملتوي  إلى الخارج. لكن المرأة الأجنبية لا ترى أي شيء من كل هذا. هي قلقة فقط على صديقها. هل كان مخلصا؟ هل ستغادر طائرتها إلى الوطن بعد ظهر اليوم؟

المؤلفة : روبرتا ألين / Roberta Allen . فنانة تشكيلية وكاتبة روائية أمريكية ولدت روبرتا ألين فى نيويورك عام 1945 م، في العشرين من عمرها، سافرت بمفردها إلى أوروبا وعاشت لفترة وجيزة في أثينا وأمستردام وبرلين، ثم في المكسيك. على مر السنين، سافرت، غالبًا بمفردها، إلى منطقة الأمازون البيروفية وإندونيسيا وتركيا ومصر ومالي وبلدان في أمريكا الوسطى. ألهمت أسفارها العديد من قصصها. وهى مؤلفة لثمانية كتب، بما في ذلك مجموعات القصص القصير. كانت روبرتا ألين عضو هيئة التدريس في المدرسة الجديدة لسنوات عديدة، كما قامت بالتدريس في جامعة كولومبيا. كانت زميلة تينيسي ويليامز في الرواية عام 1998. وهى أيضا فنانة تشكيلية معروفة، عرضت أعمالها في جميع أنحاء العالم. وعرضت أعمالها في متحف متروبوليتان للفنون.

***

بقلم: فيرجينيا وولف

ترجمة: هشام علي*

***

أيما ساعة تستيقظ تسمع أصوات أبواب توصد. زوجان من الأشباح يتنقلان من غرفة إلى أخرى يدًا بيد، يرفعان هذا، ويفتحان ذاك، ويتأكدان.

تقول الزوجة: "تركناه هنا. يضيف الزوج: "أوّه، هنا أيضًا"، ثم تهمس: "وفي الطابق العلوي". يخافت بصوته: "وفي الحديقة". يقولان بصوت خفيض: "بهدوء كي لا نوقظهما".

ولكننا لم نهتم بإيقاظكم لنا. لم يكن ذلك الذي يشغلنا على الإطلاق. قد يقول قائل: "إنهما يبحثان عن شيء ما، يفتحان الستارة"، ثم يكمل قراءة صفحة أو اثنتين. وقد يجزم: "الآن قد وجداه"، ثم ينحي القلم جانبًا على الهامش. وبعد ذلك، قد ينهض منهكًا من القراءة ويتحقق بنفسه فيجد المنزل خاويًا، والأبواب مشرعةٌ على مصراعيها، وليس هناك سوى حَمامُ الغابِ ينشد أغاريده وهدير آلة الحصاد ينبعث من الحقل. "ما الذي أتيت لأجله هنا؟ ما الذي أريد أن أعثر عليه؟ يداي خاويتان. "لعل ذلك الشيء في الطابق العلوي؟" التفاح كان بالغرفة العلوية. ها نحن نعود مجددًا إلى أسفل الدار، وها هي الحديقة ما تزال على حالها منذ سنين، ولم يتغير سوى ذاك الكتاب الذي انزلق بين العشب.

لكنهم وجدوا هذا الشيء في غرفة الاستقبال. لم يكن بمقدور ذاك الشخص أن يراهما، فزجاج النوافذ تنعكس على صفحته ألوان التفاح والورود، وأوراق الشجر تزدهي خضرة ترف على كامل الزجاج. وعندما يتنقلان داخل غرفة الاستقبال، تظهر التفاحة جانبها الأصفر، غير أنهما سرعان ما ينتشران في أرجاء الطابق إذا فُتح الباب، ويتعلقان بالجدران ويتدليان من السقف، ماذا؟ يداي فارغتان. يعبر ظل طائر القلاع السجادة، وينبعث من أعماق آبار الصمت صوت حمامة الغاب. وإذا بالمنزل ينبض نبضات خفيفة وينبعث منه صوت ينادي: “أمان، أمان، أمان. "الكنز مدفون، الغرفة..." توقف خفقان المنزل فجأة. آوه، هل كان هذا حقًا الكنز الدفين؟

بعد لحظة يخفت الضوء. في الخارج بالحديقة إذن؟ لكن الأشجار ترخي سدول الظلام على شعاع شمس حائر. يبدو الشعاع دقيقًا وغريبًا وهو يغوص بهدوء تحت سطح الزجاج وإذا بي أتابعه مجددًا لأتحقق مصيره الذي سرعان ما يؤول دومًا للاحتراق خلف الزجاج. الزجاج يجسّد الموت، فشبح الموت حال بيننا، خيم على المرأة أولًا منذ مئات السنين فآل زمانها إلى خط الزوال. بعد ذلك، رحل عن المنزل مغلقًا كل النوافذ، حتى سكن الظلام الغرف. ترك المنزل وتركها وطاف العالم من شماله إلى شرقه هائمًا يرمي بنفسه المرامي، إلى أن رأى النجوم تغوص صوب الجنوب، فقصد المنزل فوجده قد انحدر بين التلال. تتعالى نبضات المنزل ومعها ينبعث ذلك الصوت: "أمان، أمان، أمان". "الكنز كنزك".

يشتد صفير الرياح في أرجاء المكان. تتمايل الأشجار وتنحني هنا وهناك. تتساقط أشعة القمر وتنسكب بشدة بين قطرات المطر، بينما تنحدر أشعة المصباح في استقامة من النافذة. تحترق الشمعة في جمود وسكون. يتجول الاثنان بين جدران المنزل ويفتحان النوافذ ويهمسان لكيلا يوقظاننا باحثين عن السعادة.

تقول الزوجة: "هنا كنا ننام" فيضيف: "وهنا كنا نغرق في بحور من القبلات." "نستيقظ في الصباح--" "نرى الأشجار وقد اكتست باللون الفضي--" "وفي الطابق العلوي--" "وفي الحديقة--" "وعندما يحل الصيف--" "وفي وقت تساقط الثلج في الشتاء--". " تنغلق الأبواب في مكان بعيد وتصدر صوتًا خفيضًا يشبه خفقان القلب.

يقتربان ويتوقفان عند المدخل. تهب الرياح، وتتساقط الأمطار بلونها الفضي اللامع على الزجاج. ويهوي الظلام بأجنحته السوداء فيغطى أعيننا. لا نسمع خطوات بجانبنا، ولا نرى سيدة تلقي عباءتها مثل الأشباح. يداه تغطيان المصباح. راح يهمس: "انظري، إنهما نائمان على ما يبدو وأمارات الحب ترتسم على شفاههما".

ينحنيان ويمسكان بالمصباح الفضي فوقنا، ويحدقان فينا برهة. ثم يتوقفان طويلًا. تمضي الرياح في اتجاه مستقيم ويتمايل لهيب الشموع تمايلًا خفيفًا. وتخترق أشعة ضوء القمر المتوهجة أرض المنزل وجدرانه وتلتقي وتلون الوجوه المنحنية، الوجوه المتأملة، الوجوه التي تتفحص النائمين بحثًا عن سعادتهما الدفينة.

"أمان، أمان، أمان" راح قلب المنزل ينبض ويردد باعتزاز. يقول الزوج "ها قد مرت سنون طوال"، وترد الزوجة "وها أنت قد وجدتني مجددًا هنا في نومنا، وأثناء القراءة بالحديقة، والضحك واللعب بالتفاح في الغرفة العلوية. هنا تركنا كنزنا". وهما لا يزالان في وضع الانحناء، انقشعت الظلمة عن أعييننا. "أمان، أمان، أمان!" راح قلب المنزل ينبض بقوة. وبعدما استيقظت صحت: "يا إلهي، هل هذا كنزكما الدفين؟ الضوء الكائن بالقلب".

***

* باحث في الدراسات العربية - جامعة لوفن، أنتويرب، بلجيكا ​

للشاعر: لوي رونيه دي فوريه

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

كم مرّة أيضا علينا أن نقول1

ما قلناه  وأعدنا قوله مرارا

كم مرّة أيضا سنحلم بلغة

لا تستعبدها الكلمات

كما في أيامنا هذه

حيث الكلّ يرتعش من رغبة محتشمة

ليس لنا ظمأ إلا لعناق صامت

ما الذي يشبعنا أفضل من أخطر التبادلات

هل علينا أن نعيد باستمرار

ما نبحث عنه ولن ندركه؟

ربما يكون أكثر حكمة أن نتخلّى عن ذلك

لكن العقل والجنون يقاومان بقوّة متساوية

دون أن ينتصر أحد هما على الأخرى

هل يصبو الفكر قليلا إلى الراحة

أن يجعل من هذه المعركة العقيمة لعبته

التي لا يربح فيها إلاّ من خسر؟

أيّ حركة تثيره وأي أخرى توقفه

لحظة يستعدّ للقفز؟

هل تكون من وراء مداورة للكلام لا تنتهي

بلوغ منفذ هاجسه الوحيد

مازال هناك ضباب كثيف يغشي بصره

لاشيء يقوده سوى علامات في الفراغ

حاملة لرسائل تتألمّ دوما

من أن تنحرف دون أن تبلغ وجهتها

كشيء تقذفه كلّ مرّة يد مرتعشة

هل علينا أن نقول بأنها لا تتطلّب جوابا؟

العثور على صيغة للخروج من المأزق

وبأقصى سرعة ، فذاك ثمن الخلاص

لكن أن ننتظر طويلا من الليل حتى يضيء

الطريق الضيق الذي به يكون المنفذ

***

* لوي رونيه " أشعار صامويل وود" (فاتا مورغانا 1988)

........................

2-

الكلمات التي يستخدمها كل فرد ويسيء استخدامها حتى وفاته2

هل رأيتموها يوما تحرّك الأوراق وتحيي سحابا؟ّ

كل من ينوي الاستفادة من السّكون

لا يمكن أن يحصّل حكمة الصمت

من الأفضل مادام اللسان لا يقصّر

الكلام عن شيء آخر دون قول شيء يذكر

بل وعن الموت الذي دون محتوى

يلتفّ بتشدّق خطابي مظلم

إلى حدّ إثارة الرعب شديد

أقدم ممّا نستخدم من الكلمات الضخمة

مثل أزهار مزيفة لتزيين قبر

نَوْرة مزركشة ، إذا ما سوّدها الزمن.

تصدأ أكثر من ذكرى الأموات.

***

لوي رونيه

5Poèmes de Samuel Wood édité chez Fata Morgana en 1968   1

La chambre des enfants en 1960 *2

قصة: لويس فيليلا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

انتهى الحلاق من لف المنشفة حول رقبة الزبون. لمس وجهه بظهر يده.

- لا يزال الجو حارا

سأل الصبى:

- في أي وقت حدث ذلك؟

لم يرد الحلاق. ظهر بعض الشعر الرمادي على قميص المتوفى شبه المفتوح. كان الصبى يراقب باهتمام. ثم نظر إلى الحلاق.

سأل الصبى مرة أخرى:

- في أي وقت مات؟

قال الحلاق:

- عند الفجر. مات في الصباح الباكر.

مد يده:

- الفرشاة والكريم.

سرعان ما أخذ الصبى الكريم من الحقيبة الجلدية التي استقرت على الطاولة. ثم أخذ إبريق الماء الذي أحضره عندما دخل الحجرة: صب القليل من الماء في كوب الكريم( الصابون ) وقلبه حتى تزبد. كان دائمًا سريعًا في الإرسال، ولكن في هذه اللحظة بدت سرعته مصحوبة ببعض التوتر.

أخيرًا، انزلقت الفرشاة من يده وسقطت على ساق الحلاق الذي كان جالسًا بجانب السرير. اعتذر التلميذ وهو لا يزال خارج نطاق السيطرة وبدون رحمة

قال الحلاق وهو يمسح بقعة الرغوة من فوق سرواله:

- لا شىء.

يحدث ذلك.

قام الصبي، بعد تنظيف الفرشاة، بتقليبها أكثر قليلاً في الكوب وحتى ذلك الحين سلمها للحلاق، الذي لا يزال يهزها سريعًا. قبل أن يبدأ العمل، نظر إلى الصبي.

سأله بلطف:

- هل ترغب في الانتظار في الخارج؟

- لا سيدي

- ليس الموت مشهدًا لطيفًا للشباب.

بدلا من ذلك، لا أحد تحرك.

بدأ يمرر الفرشاة على وجه الرجل الميت. تم إغراق اللحية البالغة من العمر أربعة أيام تقريبًا بالصابون.

وعبر الباب المغلق ثمة دمدمة مكتومة بأصوات تتلو المسبحة. كان هناك ضوء في السماء. و دخل الهواء النقي من خلال النافذة المفتوحة للغرفة.

أعاد الحلاق الفرشاة والكوب ممتليء بالرغوة ؛ كان الصبي يحمل موس الحلاقة والمسن في يده ؛ وضع الكأس بالفرشاة فوق المكتب.

قام الحلاق بشحذ الشفرة. كان أسلوبه فى الشحذ معروفًا جيدًا في الصالون، مصحوبًا بألحان الموسيقى الكلاسيكية المبهجة التي يصدر صفيرًا. هناك في الغرفة، بجانب رجل ميت، شحذ بإيقاع مختلف، وأكثر تباعدًا وبطء ؛ قد يستنتج شخص ما أن الحلاق كان يصفر في رأسه مسيرة جنازة.

قال الصبي:

- إنه أمر غريب للغاية !

توقف الحلاق عن شحذ الشفرة:

- غريب؟

.  - نعم، إننا نحلقها

نظر الحلاق إلى الميت وقال:

- ما ليس غريبا؟. هو، نحن، الموت، الحياة ؛ ما ليس غريبا؟

بدأ فى حلقها. أمسك رأس القتيل بيده اليسرى وكشطه بيمينه.

قال الفتى:

- أتمنى من الله أن أموت حليقاً.

شاهد الحلاق لتوه كيف تسير أعماله.

سأل الصبى:

- هل يمكن أنه يراقبنا من مكان ما؟

نظر إلى الأعلى، وكان السقف لا يزال مضاءً كما لو كانت روح الموتى هناك تراقبهم ؛ لم ير شيئًا، لكنه شعر كما لو أن الروح موجودة هناك.

كانت الشفرة تنظف الآن تحت الذقن. لاحظ الصبي وجه الرجل الميت، وعيناه المغلقتان، وفمه، ولونه الشاحب: بدون اللحية، بدا له الآن أكثر موتا.

تسائل:

- لماذا يموت الناس؟. لماذا يجب أن يموت الناس؟

لم يقل الحلاق شيئًا. انتهى من الحلاقة. نظف الشفرة وأغلقها وتركها على حافة السرير.

قال:

- أعطني المنشفة، وبلل قطعة من القماش.

غمس الصبي الخرقة في الإبريق وعصرها لتصريف الفائض. ثم قدمها للحلاق مع المنشفة.

كان الحلاق ينظف ويغسل وجه الميت بعناية. باستخدام طرف الخرقة، أزال بعض الرغوة التي دخلت الأذن." سأل الصبى:

- لماذا لا نستطيع التعود على الموت؟ ألا يجب أن نموت يومًا ما؟

ألا يموت الجميع؟ فلماذا لا نعتاد على ذلك؟

نظر إليه الحلاق لثانية.

قال:

- هذا صحيح.

أدار وجهه مرة أخرى نحو القتيل. ثم بدأ في تشذيب شاربه.

سأل الصبى المتدرب:

- أليس غريبا؟ لا أفهم.

قال الحلاق:

- هناك أشياء كثيرة لا نفهمها.

مد يده:

- مقص.

بدا أن الحركة وضجيج الأصوات في المنزل تزداد ؛ من وقت لآخر يمكن سماع بكاء أحدهم. اعتقد الصبى بسعادة أنهم أوشكا على الانتهاء وأنه في غضون بضع دقائق أخرى سيكون هناك، في الشارع، يسير في هواء الصباح المنعش.

نهض من كرسيه ونظر إلى وجه القتيل.

قال الحلاق: - المقص مرة أخرى.

فتح الصبي الحقيبة مرة أخرى وأخذ المقص. انحنى الحلاق وقص طرفًا صغيرًا من شعر الشارب.

ظل الاثنان يشاهدان.

قال الحلاق:

- الموت شيء غريب جدا.

في الخارج، كانت الشمس تضيء المدينة بالفعل، والتي كانت تتجه نحو يوم آخر من العمل: كانت المتاجر تفتح، وكان الطلاب يذهبون إلى المدرسة، وكانت السيارات تمر في اتجاهات مختلفة.

سار الاثنان في صمت طويلا. حتى وصلا عند باب الحانة توقف الحلاق:

- هل ندخل لتناول مشروب؟

نظر إليه الصبي بخجل. حتى الآن كان يشرب فقط سرا على خفيف، لم يكن يعرف ماذا يجيب.

قال الحلاق وهو ينظر إليه بابتسامة لطيفة:

- القليل من الشراب مفيد دائمًا لاستعادة أعصابك

قال الصبي:

- حسنا...

وضع الحلاق يده على كتف الصبي ودخل الاثنان الحانة معًا.

(تمت)

***

................................

المؤلف: لويس فيليلا / كاتب روائي خصيب له شهرته الواسعة في البرازيل. ولد عام 1943 فـي بلدة صغيرة تدعى ايتوييوتابا داخل ولاية مـيـنـاش جـيـرايـش فـي وسط البرازيل. ودرس الفلسفة ونال شهادة من جامعة ميناش في بيلو اوريزونته. قضى أوائل سنة 1968 م في سان باولو كناشر ومحرر في جريدة بعد الظهر، وهي تجربة أفادته فيما بعد فى فنه الروائى والقصصى. منذ سنة١٩٦٧م ظهر بوصفه واحدا من أكثر الكتاب الشباب في البرازيل تميزا،حيث اصدر مجموعته القصصية الولى " الزلزال " والتى فازت بالجائزة الوطنية فى القصة عام 1968 م ولعل كاتبنا يعد أفضل كتاب البرازيل في استخدام الحوار. والقصة المترجمة هنا عن الانجليزية.

***

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir, Professor of Translation and Terminology (Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar) 

***

The yellow and fading sun was looming at the far horizon, slowly coming down to its lair, when I and my little girl were returning, after a mid-year vacation, down a long, deserted road, strewn over a grey and bleak land, which had forgotten the taste of rain for years, and in which the trees were transformed into bare, scrawny skeletons. Its greenery and its birds had deserted it, leaving it to face its sad fate alone. The waters bid farewell to the canals and valleys, and the herds of cattle disappeared, and the shepherds' psalms became silent.

In the living room upstairs, a suspicious movement behind the window caught our attention. My daughter cautiously approached her, and as soon as she lifted the curtain, a terrified dove flew away in the air, and soon came to the roof of the opposite house. My daughter cried hilariously: "Ah! That pigeon had settled in here, while we were gone, and left behind two eggs." She looked at them quietly for a while. Then she sat down beside me, and tucked her little head into my chest as I continued to read my book and brush her long soft hair. It was not long before the pigeon returned to the window, after being reassured that danger was far away, to incubate her two eggs.

My daughter continued to frequent that window, watching the pigeon, which has become accustomed to her peaceful approach. It was no longer frightened by her appearance. Sometimes she found only the two eggs when the pigeon was gone, and after a while, it would carry some straw or twigs to arrange them in its nest.

In the evening I was watching the television news broadcast, while my daughter was standing by her favorite window. There followed news from all over the Arab world: horrific floods killing hundreds of children, women, and the infirm, sweep through Somalia, which has been ravaged by famine and civil war…. A new massacre by armed groups in Algeria killed 450 people in one village, mostly women, children, and the elderly... Hundreds of children dying every day in Iraq, due to the embargo and the lack of milk, food, and medicine... Suddenly my daughter screams:

- "Look, the egg is hatching, the chick is breaking it with its head, with its little beak, it is coming out of it with difficulty... Look at the poor thing, how weak it is. How small! How smooth its featherless body is! It didn't come out of the egg completely ... it's falling to the ground... It does not move ... It's a lifeless, I'm afraid it's dead... Oh my god! Where is its mother? What can I do? Papa, how can we help it?"

When I went to bed that night, I could not sleep. The pigeon in the next window had been wailing and wailing incessantly all night long.

***

................................

  This short story is a translation of  الحمامةby Ali Al-Kasimi. It first appeared in the short story collection Time to Leave (أوان الرحيل، under translation) and is also available as part of a study under this link: https://www.almothaqaf.com/readings-5/964871.

تأليف: لورى ستون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

شرح  لى صديقي أحداث برنامج تلفزيوني كنت قد نمت أثناء مشاهدته. قال، "عندما يكون لدى الناس احتياجات عاطفية، فهذا يشير إلى أنهم ضعفاء وسيخسرون في العمل." وأوضح أن الناس يمكن أن يكونوا إما ناجحين وبلا قلب أو معقدين عاطفياً ومحكوم عليهم بالفشل. كانت فيه أعماق لم ألحظها من قبل. عندما التقينا، كان يعيش مع امرأة أخرى وتفاجأ أكثر من أي شخص آخر عندما تركها فجأة. بعد ذلك فقدت الاهتمام بالمخططات التقليدية.

قام أخصائي أقدام بحقن كاحلي بنوفوكايين وحفر حوله بمشرط. قلت، "ما هو الشيء الأكثر غرابة الذي رأيته مؤخرًا؟" قال، "هذا"، مشيرًا إلى أشواك الصبار المغروسة في بشرتي. إبر البرميل الصبار شائكة مثل ريش النيص وتتحرك في اتجاه واحد فقط، مثلي تمامًا عندما قابلت صديقي. وجد أخصائي الأقدام أربع قطع من الصبار مغطاة بقطع من اللحم ووضعها في جرة. انا قلت لماذا؟" قال: في حالة احتياج شركة التأمين إلى إثبات. قلت، "هل تريد أن ترى أشياء أخرى خطأ في قدمي؟" قال: "ليس اليوم ".

مازال لدى صديقي مشاعر تجاه المرأة التي تركها. تركتهما المفاجأة لرحيلهما يدوران في باب دوار. أحاول ألا آخذ هذا على محمل شخصي، لكنني أعتقد أنني يجب أن آخذه على محمل شخصي. بعد أن انفصلا، لم يصبح صديقي والمرأة صديقين تمامًا. لا أعرف ماذا أصبحا  لأنني لم أرهما معًا أبدا. لا أعرف ماذا أفعل بهذه العلاقة. كان لدي صديقة كانت راقصة. أخبرتني عن الأزياء التي كانت ترتديها: الأبيض لكبار السن من الرجال ؛ الدانتيل الأحمر لللاتينيين. الأربطة الجلدية لراكبي الدراجات النارية. كانت تقول أن كل شخص لديه حياة سرية. صديقي حريص على إخباري عندما يتلقى رسالة نصية أو بريدًا إلكترونيًا من المرأة التي غادرها وعندما يرتبان لقاءً. كان من المعتاد أن يكون العشاء. الآن، فى الغالب يتناولان الغداء. هناك دائما  ورطة طعام ودائما يدفع. يقول إنه يشعر بالسوء حيال التسبب في ألمها، لكنني أعتقد أن فقدانها يسبب له نفس القدر من الألم. ما الفائدة لها من هذا ؟ أعتقد أنه من الأسهل أن تحب شخصًا غير موجود. أعتقد أنه وحيد بالنسبة لها. وأنا لا ألومه. أنا لا ألوم أي شخص على كونه وحيدًا بالنسبة لشخص آخر. الوحدة هي عزاء، لأنها تذكرك أنك تريد شيئًا ما. تتيح لي علاقتهما نوعًا من الحرية أيضًا، لكني أعتقد أن أفكاري السرية تدور في الغالب حول الحياة السرية لصديقي.

اليوم قال صديقى، "لقد كان اللقاء معك بالتأكيد أيسر تحولاتي." حلقت مروحية في سماء المنطقة ولم أستطع معرفة ما إذا كان يمزح. لطالما كان هناك شخص ثالث في علاقتنا، وأتساءل من الذي يبقي هذا في اللعب، وأنا متأكدة تمامًا من أنه صديقي، ويجب أن أقول إنه يجدد سعادتي به لأرى كيف يمكن أن يكون مراوغًا. عندما أتجول في شقتنا وأغرق يدي في تربة نباتاتنا،أشعر بالسعادة بغض النظر عما سيحدث بعد ذلك. أنا أحب بقايا الطعام. الأشياء جيدة جدا عند الانتهاء. أشياء تنتظر على الطريق لركوب والراحة. الشخير في نهاية ضحكتك. تم افتتاح مطعم جديد في مكان قريب بقائمة فرنسية وبار كبير.

في طريقي لممارسة اليوجا في اليوم التالى، مررت برجل كنت قد قطعت علاقتى به. كنا بالقرب من المكان الذي يعيش فيه. ابتسم كما لو كنا نتقابل عن قصد وقال، "مرحبًا فاليري". أخرجت سدادات أذني وقلت، "مرحبًا. سمعت أن والدتك ماتت ". لوح بيده وقال، "نعم، لقد مضى على ذلك وقت طويل جدًا"، وكأنه يقول إنها قد تجاوزت مدة صلاحيتها ولا تقضي عرضي في الأخلاق الحميدة في هذا المنعطف في حياته. لقد ذكرت والدته لإزعاجه. بدا ذلك لائقًا. عندما يتخلى الناس عني أو أتخلى عنهم ولكن لا يزال لدي مشاعر تجاههم، آمل أن يذبلوا في غيابي، لكنهم لا يفعلون ذلك أبدًا. كنا نقف تحت السقالات. لم تكن المدينة هي المدينة التي مشينا فيها لأميال عديدة على مدى سنوات عديدة. لم أكن أعرف قط أين وقفت معه، ولم أكن أعرف ما إذا كنت أفتقده. قلت، "هل يجب أن نقول مرحبًا عن قصد مرة أخرى؟" قال نعم." لم أكن أعتقد أن هذا سيحدث. اعتقدت أن زهور البتونيا التي اشتريتها في ذلك الصباح قد لا تفيد في رحلتنا القادمة بعيدًا، لكن هذا لم يكن سببًا فى عدم شرائها.

ذات يوم ذهبت إلى النصب التذكاري لامرأة لم أكن أعرفها وغادرت ومعى بعضا من رمادها في ظرف فضي صغير. بدا أن الناس أعجبوا بالمرأة الميتة أكثر مما أحبوها. إذا مت وكنت مهيبا، فإن الناس يكذبون عند ذكركم. إذا مت وكنت رائعًا، فلن يتمكن الناس من استحضارك بوضوح لأن الكشط يتغلغل فينا بشكل أعمق من الضوء الذي يسقط على الكرسي. تساءلت عما إذا كانت ستنسى. في الحقيقة يمكننا الخروج من حياة الأشخاص الذين تعلقنا بهم لسنوات، وعلى العكس من ذلك، يمكننا العودة في الذاكرة مرارًا وتكرارًا لشخص غريب جلسنا بجانبه بصمت في قطار. حملت رماد المرأة في جيبي، ولم أعرف فى أى مكان أنثره. عندما شعرت به في جيبي، تذكرت موتي وأسقطته. عندما كان بيكابيا يحتضر، رسم مان راي لوحة صغيرة وكتب عليها أن العرض لم يلغى، بل كان مجرد رسالة. أرسل دوشامب برقية إلى بيكابيا قائلاً إنه سيراه قريبًا مرة أخرى. عندما تهدأ عقلك، ماذا تسمع؟ ماذا لو أخبرتك أنه يمكنك الحصول على كليهما؟.

في صالة الألعاب الرياضية، قال الرجل الذي سيصبح صديقي، "ماذا تريدين أن تفعلى؟" قلت، "أود أن أصطحبك إلى الطابق العلوي وألقي بك بجوار الحائط." قال: "هل تريدين أن تتمددى؟" جلسنا على حصائر وأرجلنا ممدودة على نطاق واسع. أمسكت بذراعيه وأمسك بخصري. كان الجو متقلبًا فى الخارج، وانتشرت رقائق الدهون فى الهواء الكئيب. تساءلت عما إذا كنت سأعود في يوم من الأيام إلى هذه اللحظة وأجدها لطيفة. وحتى الآن لم يحدث ذلك.

(النهاية)

***

....................

ملاحظة: فرانسيس بيكابيا (ت 1953) و مان راى (ت 1976) ومارسيل دوشامب (ت 1968) فنانون ورسامون تشكيليون مشهورون ارتبطوا ثلاثتهم بالحركتين الدادية والسريالية فى القرن العشرين.

المؤلفة: لوري ستون / كاتبة أمريكية، من مواليد عام 1946 م، خريجة كلية بارتارد عام 1968م وحاصة على الماجستر من جامعة كولومبيا عام 1969م، مارست الصحافة والنقد المسرى والكتابة النقدية بصورة عامة إلى جانب كتابة الرواية والقصة القصيرة، عملت كاتبة مقيمة في معهد برات، جامعة أولد دومينيون، ثوربر هاوس، مركز كيميل هاردينغ نيلسون للفنون، وكلية موهلينبيرج. قامت بالتدريس في ورشة عمل كتاب باريس، والندوات الأدبية الصيفية في سانت بطرسبرغ، روسيا، وجامعة تشابمان، وسارة لورانس، وأنطاكية، وفيرلي ديكنسون، وولاية أوهايو، وجامعة ولاية أريزونا، وفوردهام، ومؤتمر كتاب ستونكوست. حصلت على إقامات قصيرة في جامعة ييل، وكال آرتس، وكلية ترينيتي، وجامعة شمال تكساس، ومركز آرت سنتر في باسادينا، وكلية ميلز، وجامعة إنديانا، وجامعة كونيتيكت، وكلية الفنون في معهد شيكاغو للفنون. عملت في مجلس إدارة دائرة نقاد الكتاب الوطنية وأدرجت في "سلسلة الكتاب الأحياء" في كلية موهلينبيرج. ألفت ستة كتب لكنها اشتهرت بكتابها "حياتي كحيوان، قصص" (2016م)،  نشرت قصصها فى معظم المجلات والدوريات الأدبية المشهورة،والقصة المترجمة هنا منشورة على موقع مجلة الأدب الالكترونى (العدد رقم 96 بتاريخ 23 ديسمبر 2019 م)، وفيما يلى رابط القصة لمن أراد الاطلاع على الأصل:

https://electricliterature.com/boyfriend-by-laurie-stone/

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar)

***

The sick dog's breaths resonate, rise, escalate, and blend with a rattle, dislodging the faltering sleep from the lashes of Samir's eyes. For seven consecutive nights, the dog Lieber has been laying dying in the adjacent room where the homeowner sleeps. The cardboard wall could not prevent the dog's anguish or the repeated expressions of sympathy of its French owner from penetrating Samir's ears, and depriving him of sleep.

How many times the idea of getting rid of the dog flirted with him, insisted on him, reminded him of the past. They used to do this in his small village, relieving a rabid or tubercular dog, and by the same token, relieving themselves. But there is no way to do this. Reaching the moon is easier than being alone with the dog Lieber these days. Madame Dupon never leaves him, she nurses him, comforts him with her touches, whispers, and sad looks, all day long. So, when will the dog Lieber die, relieving himself and everybody else?

In the morning, before going to his university, he had to help Madame Dupon carry this dog in a rug, and take him down to the ground floor, so that the dog could relieve himself in the adjacent street, as had been his habit. Then he would carry him with her, and ascend the long stairs, to reach the fourth floor, trying to conceal his panting, and control his breathing. How he wished that this lady had chosen a dog that was smaller and lighter than this huge dachshund, or that this old building had been attached to French technology in the form of an electric elevator.

- “Let's rest a little here, my dear!”

- “As you like, madam!”

- "Imagine, my dear Samir, that the second veterinarian to whom I showed Lieber for his treatment also, insolently, suggested giving him a (lethal) injection. What a horrible brutality!”

- “Maybe the veterinarian wanted to put an end to Lieber's pain and suffering, ma'am!”

- “We, French people, have lost, today, the high decency and kindness we used to have.1 I am sure, my dear Samir, that you would not be satisfied with that; You Arabs belong to an ancient civilization. My great-grandfather was one of the archaeologists who accompanied Napoleon to Egypt, and my mother could read Arabic, and I know a lot about your civilization. You consider the dog to be a living being like a human being, so his feelings must be taken into consideration.”

There is no doubt that this old woman is raving about what she does not know. Ah, if she had seen the stray dogs in the town next to his village, when the police chased them from time to time, and shot them dead. He remembers it well, and saw it with his own eyes when he was young. His older brother would joke with him sometimes, saying:

- “Don't go out, Samir, this morning, the police are hunting dogs today, and I'm afraid they will mistake you for one.”

Even in his village, where dogs are used as guards, no peasant allows his dog to enter the cottage or approach the communal council. All dogs are unclean. But here, in France, they hand-feed dogs, wash them in their baths, and do everything for them. Even the big grocers are full of delicacies for dogs.

He will not forget when he once bought himself, on the first day of his stay in Paris, some inexpensive canned goods from a large grocer. He brought them back to the house, and when Madame Dupon saw them, her face cheered up and she said:

- “Thank you, dear Samir, for your kind gift. Lieber must appreciate your gesture after eating these delicious foods. Now I know you really like me. The English proverb says, "Whoever loves me, loves my dog." You may not know that I studied English and traveled to..."

As of today, Lieber has not been able to eat for seven days. Madame Dupon has been bringing him his food on time, putting it in front of him, bringing it close to him, calling him sympathetically. He turns gently to her, and looks at her with fading sorrowin his eyes, as if he is apologizing for the annoyance and sadness, he causes her.

- “See, dear Samir? Lieber can no longer eat his food, and I'm scared, really scared this time. Oh my God, what would I do if I lose him?”

She closed her tired eyes, as if praying for Lieber. She closed her eyes for a long time, and images of her long, happy time with Lieber passed through her mind. For fifteen years Lieber has been her companion in her solitude, and her friend in her loneliness. He sits with her in the evening when darkness covers the sleeping city, and the rain gently washes her windows, and the wind caresses the branches of the trees of her surrendered gardens. Lieber puts his warm head on her thigh, and she falls asleep. In the morning, when she is getting ready to go out, she addresses him:

- “Lieber, where did you put the keys? Lieber, didn't you see my white bag? Stay here until I come back. Be wise.”

In the afternoon, he goes out with her to the nearby garden, jumping here and there. She throws the ball to him; he catches it, and quickly returns to her. On the way home, Lieber meets another dog, and he stands as if to exchange greetings with him, and she also exchanges words of courtesy with the lady who owns the other dog, if she has not met her before. And if she was one of her acquaintances, the conversation diverged.

- “Oh my God, what would I do if Lieber left me?”

The breathing of the dog Lieber increases and subsides, mixes with a sad rattle, mixes with a faint wailing, then fades little by little, leaving only the intermittent, painful wailing of the widow.

***

……………………..

* Lieber is a German word meaning dear, darling or beloved. Lieben means love.

1- This short story is a translation of : (الكلب ليبر يموت) by Ali Al-Kasimi.

It first appeared in the short story collection Time to Leave (أوان الرحيل, under translation) and is also available as part of a study under this link: https://www.almothaqaf.com/readings-5/965329

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir (Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar)

***

Darkness was enveloping the trees and plants of the public garden, giving him the impression of long and short black ghosts with many moving arms, like a huge dark octopus. Last night's rain had frozen on the ground, here and there, resulting in frost that breaks under his feet. A snowy wind blew through the cap he was wearing, stinging his ears, nose, and lips, turning them red as the mane of a rooster. His gasps of successive breaths chimed with the chatter of his teeth and the trembling of his limbs. As he was vigorously running, a dark heap appeared to him on the side of the lane. He had no time either to glimpse at or linger on that heap; he only thought of it as a heap of stones brought in to restore the fence of the public garden, or a heap of branches gathered from trimming trees. It doesn't matter.

At the dawn of the next day, he set out, as usual, to jog in the public garden next to his house. In the semidarkness, he glimpsed the heap still in place on the side of the lane. When he approached it this time, he felt a suspicious movement. He had no time to look closely or meditate too long, for he had to come straight home to shower, eat breakfast, and go to work in the factory by seven o'clock. For this reason, he contented himself with assuming that the movement came from one of the stray dogs or cats that take refuge in the garden. It doesn't matter.

On the third day, as he was running close to the same heap in the same place on the side of the lane, he saw what looked like a hand outstretched from it. After a few steps he stopped running to turn back to her, and stare at her. Behold, an old woman draped in a black cloak, was leaning her back against a large tree in the garden. He bowed his head in silence for a moment, then put his hand in his pocket, took out some money, and put it in the hand that was out in the open. But it did not take the money, so it fell to the ground. He picked up the money, put it back in her hand, and alerted her by calling her, but she remained silent, and did not take the money. He touched her palm, and moved it gently, perhaps she fell asleep while sitting. But a terrible cold ran from her hand to his fingers, spreading a wave of chill and apprehension all over his body. Before he had time to think it over, the woman's entire body tilted with that slight movement, and she fell to the ground, lifeless.

***

بقلم: فكتور هيجو

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

آن لي أن أرتاح؛

لقد أرْداني القدر.

لا تحدّثوني عن شيء آخر

لاشيء غير الظلمات حيث ننام!

*

ماذا يريدون أن أبدأ من جديد؟

لا أريد منذ الآن

من الخليقة الهائلة

سوى شيئا من الهدوء والسلام!

*

لماذا مازلتم تنادونني؟

لقد أدّيت مَهَّمتي وواجبي.

من يعمل قبل الفجر،

يستطيع أن يذهب قبل المساء.

*

حِداد وعزلة في سنّ العشرين!

عيناي، تتجه إلى الأسفل صوب العشب

فتفقد عادتها اللطيفة

النظر إلى أمي في البيت.

*

فارقتنا إلى القبر؛

وأنتم تعلمون جيدا أنّني اليوم

أبحث، في هذا الليل الذي أسدل ستاره

عن ملاك آخر هارب!

*

تعلمون أنّي أيأس

من قوّتي تدافع دون جدوى

وأتألّم مثل أب،

أنا الذي عانيت كثيرا كطفل!

*

تقولون عملي، لم يكتمل.

مثل آدم المطرود،

أنظر إلى قدري،

وأرى بوضوح أني قد أتممت.

*

الطفل المتواضع الذي أسعدني الله به

حبه لي يستطيع أن يساعدني؛

كانت سعادة حياتي

النظر إلى عينيه ترقبني.

*

إذا لم يشأ هذا الإله أن يُنهي

العمل الذي جعلني أبدأه،

إذا أراد أن أعمل أكثر،

فليس له سوى أن يتركني!

*

ليس له سوى أن يتركني أعيش

بجانب ابنتي

في هذه النشوة حيث أسكر

بأنوار غامضة!

*

هذا النور،نهار من كوكب آخر،

إلهي الغيور، أنت تبيعه لنا!

لماذا سلبتني النور

الذي لي بين الأحياء؟

*

هل تصوّرت، أيها السيد الفاتك،

أنه من فرط تأمّلك،

لا أرى قطّ هذا الكائن اللطيف،

وأن بمقدوره أن يرحل؟

*

ألم تقل بأنّ الإنسان، ظل كاذب،

يا للأسف! يفقد إنسانيته

بالنظر كثيرا إلى هذه الظلمة الرائعة

التي نسمّيها الحقيقة؟

*

وأنّنا نستطيع ضربه دون أن يتألم

وأنّ قلبه مات مللا

وأنه من فرط النظر إلى الهاوية

ليس له في نفسه سوى هوّة سحيقة

*

لِيَذْهَبْ،، ثقيلا، حيثما ترسله،

وأنه منذ الآن، صلب،

لا أفراح له في هذه الحياة،

ولا آلام أيضا؟

*

هل تصوّرت أنّ روح حنونا

تنفتح عليك لتزداد انغلاقا،

وأنّ أولئك الذين يودّون أن يفهموا

ينتهون إلى عدم الحبّ؟

*

إلهي ! هل تصدّق، حقّا

أنّي سأفضّل، تحت السماوات،

الشعاع المخيف لمجدك

على بريق عينيه المريح؟

*

لو كنتُ قد عرفتُ قوانينك الكئيبة،

وأنك لا تمنح أبدا لنفس العقل المفتون

هذين الشيئين،

السعادة والحقيقة،

*

بدلا من رفع حجبك،

والبحث، بقلب حزين ونقيّ،

لأراك في أعماق النجوم،

إلهي الخفيّ، لعالم مظلم،

*

كنت سأحبك أفضل، بعيدا عن وجهك،

أن أتبع، سعيدا، طريقا ضيقا،

ولا أكون سوى إنسانا عابرا

يمسك ولده بيده!

*

الآن، أريد أن يتركوني !

لقد أنهيت ! انتصر القدر.

ماذا الذي يستمروا في إحيائه

في الظلّ الذي يملأ قلبي؟

*

أنت من تكلّمني، تقول لي

أنه يجب، مذكّرا عقلي،

قيادة الحشود الهالكة

نحو وميض الأفق؛

*

وأنه ساعة تستيقظ الشعوب

يطلب كل مفكّر هدفا عميقا

وأنه يجب على كلّ من يحلم

يجب على كلّ من يرحل!

*

يجب على روح، و نار خالصة أن تحيي،

أن تعجّل، بضيائها،

تألّقا أسمى

للبشرية مستقبلا ؛

*

يجب أن نكون، أيتها القلوب الوفية،

دون أن نخشى المحيطات

جزءا من الاحتفالات بأشياء جديدة،

من معارك العقول العظيمة!

*

ترون دموعا على خدّي

وتقتربون منّي مستاءين،

مثلما نوقظ بذراعنا

أنسانا ينام طويلا.

*

لكن تخيّلوا ماذا تفعلون!

يا للأسف! هذا الملاك ذو الجبين الرائع،

حينما تدعونني لاحتفالاتكم،

فقد يكون باردا في قبره.

*

ربما داكنا وشاحبا،

تقول في سريرها الضيق:

"هل نسيني أبي،

ليس هاهنا، أشعر بالبرد الشديد؟"

*

ماذا! حينما بالكاد أقاوم

الأشياء التي أذكرها،

حينما أكون محطّما، متعبا وحزينا،

حينما أسمعها تقول لي: " تعالى!"

*

ماذا؟ أتريدون أن آمل،

أنا، من قُسِمْتُ بضربة صادمة،

في الإشاعة التي تلاحق الشاعر،

في الضجيج الذي يصنع الفارس التائه!

*

تريدون أن آمل أيضا

في انتصارات هادئة ومريحة!

أزفّها لنُوَّم الفجر!

أن أصيحَ: " تعالوا ! تمنّوا!"

*

هل تريدون أن، أنضمّ

إلى المعترك بين الأقوياء،

وعيناي تراقب القبّة اللامعة بالنجوم...

- أوه! العشب السميك حيث يوجد الأموات!

***

فيكتور هيجو

نوفمبر 1846 القصيد الثالث من الكتاب الرابع: التأملات"

................

أضواء على القصيدة:

" ثلاث سنوات مضت"، قصيد كتبه فيكتور هيجو الشاعر الفرنسي الشهير (- 1885-1802.) بتاريخ نوفمبر 1846، هي القصيدة الثالثة من " الكتاب الرابع: Pauca mea غدا، عند الفجر..." لديوان: " تأمّلات".

" غدا عند الفجر.." من نوع أشعار الألم، والمعاناة حيث يحتلّ موت " ليوبولدين Léopoldine ابنة فيكتور هيجو، حيزا كبيرا." ثلاث سنوات مضت " هو جواب هيجو لجمهوره الذي يطالبه بكتابة الشعر بعد توقفه عن ذلك بعد موت ابنته. يشاركنا هيجو أحزانه ويعتبر موت ابنته ظلما من الله. فيطلب من جمهوره ما يكفي من الوقت لتجاوز حالة الحداد وان يتركوه في سلام.

يشير شكل القصيدة وتقسيمها إلى مقاطع، إلى قراءة متقطعة مثل النحيب. والتعبير بصيغة المتكلّم عن نوع من " الاعتراف".

تأليف: تانيا أندروود

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

يصفعني كارلوس على إليتي في محل بيع اللحوم، حيث نعمل سويًا خلف المنضدة أقوم بتقطيع الطماطم إلى شرائح رقيقة، يبد أنها لم تكن رقيقة جدًا، أبعد كارلوس قبعة الفرن البيضاء عن جبهته وقال:

- مان. نحن لا نعمل كفريق، أريد أن نعمل معًا كفريق.

توقفت للحظة، تظرت إليه وهو يتكلم، ثم عدت إلى الطماطم.

يزعم باول، المدير، أنني أفضل من يقطع الخضروات إلى شرائح هنا، فيقول:  "الخيار يكاد لا يرى"

لا يعلم باول. أنني طوال الوقت أقطع الخيار بطريقة سيئة، في الواقع أخفي الشرائح السيئة في فمي دون أن يرى أحد. أضح كل الشرائح السيئة في فمي، وأحب طعمها، شرائخ الخيار بيضاء مثل الورق عندما تمسك بها في الضوء، وشرائح الطماطم نحيفة جدًا، لذلك تذوب في الفم وتختفي تمامًا فوق لسانك؛ أضع كل هذه الشرائح السيئة داخل فمي، لذلك ثمة الكثير من البذور بين أسناني طوال اليوم.

لم يشاهد باول كارلوس وهو يصفع إليني. يقول:

- شوان، هات لنا مزيدًا من البصل.

نزلت أتمشى إلى الثلاجة وأنا مازلت أرتدي القفازات المطاطية، ومع ذلك شعرت أن يدى جافتيين ورطبتين فى ذات الوقت. ضرب الهواء البارد وجهي وجلب رائحة ساخنة من جسدي إلى أعلى وجهى وحوله. نزلت على ركبتي والتقطت البصل الأحمر، اثنين اثنين في كل مرة، و أنا أفكر في الرائحة التي ستفوح مني، نهضت فإذا بالباب يفتح وإذا بكارلوس واقفًا، شعره الأسود ملبد حول عنقه وملموم على هيئة ذيل حصان. أمسك بي وجذب وجهي نحوه، شعرت بذراعيه القوتيين الصلبتين حول ظهري، لم تكن تلك هي المرة الأولى التي حاول فيها عمل هذا، لكني هذه المرة تركته دون مقاومة، وضع فمه في فمي، ادخل لسانه، كان حارًا، تذوقنا  معًا طعم الطماطم، شعرت بالتراب على وجهى من أثر قفازه. توقف عن تقبيلي ، فقلت:

- لدي صديق.

قال:

- شوان.. أنت لا تعنين ذلك. ما لديك مجرد مساحة أرجل.. لقد رأيت هذا الشاب. سبق أن جاء إلى هنا ببشرته الشاحبة وقميصه ذي الجيوب.

قلت:

- وأنت أيضا.. لديك صديقة.

تطلع كارلوس نحوي بعينيه الشديدتي السواد، أمسكني بلطف من وسطي بكلتا يديه وضغط قليلًا، ثم قال في أذني هذه المرة:

- لا بأس. أحب الفتيات الكبيرات.

دفعته بعيدًا، وقلت له أن يذهب إلى الطابق الأعلى ويبتعد عني. حملت البصل في سلاله البلاستيكية وأنا مازلت أشعر بطعم كارلوس في فمي.

في المنزل كان جريج أمام الموقد، يقوم بإعداد صوص المكرونة السباجيتي بمعلقة خشبية كبيرة، وكان يرتدي قميصًا كنستائيًا. وخداه حمراوان قليلًا من أثر الحرارة. بادرنى لى:

- مرحبًا.

ثم قبلني وأضاف:

- هل بحثت عن عمل هذه الظهيرة؟

قلت:

- لا. ذهبت مع جيني لشرب البيرة. لقد عملت وردية زيادة اليوم. لم تعمل أبدًا وردية زيادة.

قال:

- ألم ينوي باول أن يرقيك قريبًا؟

لم أجبه. جريج ذكي. إنه مهندس ، ظل معي يعمل لمدة عام ونصف العام في محل اللحوم بعد أن تخرجت من الكلية. أود أن أحدثه عن الطماطم وكيف إذا حركت يدك بطريقة صحيحة، يمكن أن تقطعها كما في الإعلان التجاري بالتليفزيون تمامًا.

نظر لي جريج وهو يواصل تقليب الصوص. كان ينظر نحوى غير منتظر الإجابة، ولكن فقط من أجل أن ينظر لي. يمكن أن أقول أن ثمة شيء خطأ، نعم في وقفته بهذه الطريقة خاصة وأن كتفاه منحيان، ثمة شيء ما خطأ.

قال:

- لذلك.. ذهبت إلى الدكتور اليوم.

أخبرني جريج أن قلبه صار أسوأ مما يظن، وأنا الدكتور قال إذا واصل على هذا الوضع فإنعليه أن يقوم بإجراء عملية زرع قلب. قال:

- لا زيادة في الملح في البيت، لن أستطيع أن أتذوق الملح ولا القهوة لكن انظري، يمكننا أن نتعلم كيف نطبخ معًا على هذا النظام الجديد.

كان جريج قد أصيب بمشاكل في القلب العام الماضي. وقد ظن في البداية أنها مجرد اضطرابات قلبية بسيطة ، فلا شيء يدعو للقلق في هذا. عندما أنام في الليل ورأسي على صدر جريج، أكاد أسمع قلبه يتوقف، فترة الصمت بين الدقة الأولى والتي تليها تبدو لي عدة ساعات، وقد نسيت أنني أتنفس بشكل طبيعي بينما أنتظر قدوم الدقة التالية، أرغب في النوم على صدر جريج ثانية، ويمكننى أن أقول أنه لاحظ ذلك ولكنه لم يقل شيئًا.

أقف الآن هناك وأراقب جريج ينظر نحوي، أنفه طويل معقوف ورموشه ثقيلة تجعله يبدو حزينًا دائمًا ، حتى لو لم يكن كذلك. ترك المعلقة تسقط ببطء في القدر. يمكنني رؤية العرق على جهه. ولكن فجأة تراجعت عن ذلك عندما أمسكني جريج كنت أفكر في كارلوس، سمعته يقول " نحن لا نعمل كفريق" بينما يجذبني جريج إليه ويتنهد.

في الصباح اتصلت بأمي، لا أعرف لماذا فعلت هذا؟ إنها عادة ما  تجلعني أكثر توترًا، ذهبت إلى الحمام وفتحت الدش، مازال جريج نائمًا، يداه ملفوفتان في الملاءة، حدثت أمي عن قلب جريج، ثم عن كارلوس. قالت:

- اسمعي جيدًا، عليك أن تقرري ماذا تريدين؟

أخبرتني أنه لايحق لي أن أؤذي الناس لأنني أعرف ماذا أفعل؟ بعد ذلك سألتني عن عملي  ، ثم سألتني إذا ما كان باول قد رقاني أم لا ، وإذا ما كنت بحثت عن أي عمل آخر. شعرت ببرودة قدمي على بلاط الحمام، سكت، فقالت:

- حسنًا، يجب أن أذهب.

لم تقل لي كل ما تريد أن تقوله، أعرف أنها تريد أن تقول كما أنا بطيئة بشكل مؤلم في كل شيء، وأنني فقط أجلس و أترك الأشياء تفلت منى أو تسقط فوق رأسي، دون أن أفعل شيئًا، هي لم تقل ذلك، ولكني سمعته على نحو ما.

بعد أن أنهيت المكالمة، ظللت جالسة فوق قاعدة الحمام وأنا أستمع إلى صوت ماء الدش ، إذا أنصت بشكل كاف يمكنك أن تشكل ألحانًا من صوت الماء.

التقيت جريج في الكلية بعد أنا استلمت العمل في محل اللحوم مباشرة. قال لي أنني أعظم فتاة مرحة قابلها في حياته. وقال أن ثمة شيء في يجعله يريد أن يضحك طوال الوقت. اعتدت أن أكون مرحة، واعتاد جريج أن يقول أنني يمكن أن أكون مبهجة، لأنني أجعل الناس يبتسمون لمجرد النظر إليهم. الآن عندما أنظر إلى نفسي في المرآة، يبدو وجهي جافًا، وتبدو عيناي رماديتين، لا زرقاء صافية، لا أري أي بريق تحت سطح جلدي، وأعجب أين ذلك الجزء من نفسي.

في أول شتاء تواعدنا فيه، أخذ جريج كل ستراتي الصوفية إلى ماكينة تجفيف الغسيل, وعندما قبلني، كان يلمس وجهي دائمًا. لقد جعلني جريج قوية كما كنت في الواقع هناك. اعتدت على رجال مثل كارلوس، رجال منحطون وغريبو الأطوار رائحتهم مثل البيرة ويجعلونني أشعر كما لو كنت مهزوزة. تبدو رائحة جريج مثل المطهر والمنظفات.

جريج وأنا ،على طرفى نقيض، أنا بهيكلى الضخم وطيات اللحم الناعم حول خصري. جريج، هو الذي يبدو كما لو كان يمكن أن يختفي، كما لو كان يمكنه أن يمشي عبر البنايات ويتلاشى في الهواء الرقيق. عظامه الطويلة تبدو صغيرة جدًا، أظن أنها تكاد أن تتكسر. يحب جريج هذا. يقول الناس الكبار جذابون مثل الناس الصغار, يقول أننا نتوازن مع بعضنا. لم يدعوني أبدًا بالضخمة، لكن ذلك ما يعنيه لم أحب أننا لم نفعل ذلك كثيرًا. إن ذلك يجعلني غير مرتاحة. إن ذلك يجعلني خائفة من شيء ما، لكن لم أعرف ماذا؟ ولم أعرف حتى متى توقفت عن الشعور.

لابد أن يكون هذا قبل الآن، على الرغم من أن اليوم هو اليوم الأول الذي أدير فيه ذلك الأمر فى رأسي.

مشيت تحو الحوض، وغسلت أسناني. استعملت فرشاة أسنان جريج. نظرت في المرآة وتخيلت نفسي جريج. فرشاة أسنانه يختلف طعمها عن فرشاتي. دافئة تقريبًا، تخيلت أنني شاحبة ونحيفة وأن قلبي ربما ينفجر إذا أكلت كثيرًا من الملح. نظفت ما حول فمي وتخيلت أنني قصيرة النفس. أتخيل أنني أريد شيئًا سيئا للغاية  ويمكننى أن أعطي أي شيء مقابله .

عندما وصلت إلى المحل أخيرًا ذلك الصباح، اتصلت بي أمي مرة آخرى، قالت:

- هكذا، ماذا نويت أن تفعلي؟

يدخل الزبائن يريدون قهوة، ، يريدون جبنة بالكريمة، يريدون دستة، لكن لا يوجد سوى الساخنة.

قلت:

- ماما. أنا في العمل.

عندما أغلقت الخط كنت خلف منضدة التجهيز. أقطع الخيار إلى شرائح سميكة غير متساوية. رأيت كارلوس يراقبني بينما وجهي يشتعل. قطعت إصبعي بدلًا من الطماطم، شريحة من الجلد كانت بيضاء ثم تحولت إلى حمراء.

مشي ورائي المدير باول ، ثم قال:

- شوان، ماذا تفعلين؟ الزبائن هناك. اربطي يدك بضمادة وهاتي مزيدًا من الطماطم.

راقب كارلوس كل هذا، يخرج صحيفة  من كعك البصل من الفرن ثم وضعها في سلة معدنية. وثمة نصف ابتسامة على وجهه.

بعد أن وضعت الضمادة، نزلت إلى الطابق السفلي حيث الثلاجة. اتجهت إلى الأقفاص الخشبية وأخذت قفصين اثنين ممتلئين بالطماطم. عرفت أن كارلوس سيأتي إلى الأسفل، لذلك وقفت هناك، أنتظره، والطاطم في يدي. عندما فتح الباب لم أذهب إليه. وقفت تمامًا حيث أكون، ولكنه وصل إلي، وبدأ يقبلني على أي نحو، فعل ذلك لوهلة. ولكني فقط وقفت دون أي حراك، فتوقف ونظر نحوي.

قلت:

- حسنا.

فقال:

- حسنا  ماذا؟

- لا أعرف.

جلست على الأرض، أفكر في أمي، وهي تسألني ماذا أود أن أفعل، فكرت في جريج، فكرت في ليلة من أسبوعين معي حيث كنا ننام معًا على الأريكة. يستمع إلى أغنية رقم 9 على على أسطوانة المطربة تريسى شابمان مرة بعد مرة ، رقم 9 هى أغنيته المفضلة,  يقول لى بصوت منخفض وناعم:  " أحبك أكثر من أي شيء يا شوان. أعرف أنك لا تحبيني بنفس القدر. أعرف أن ثمة شيء ما خطأ، لكن أعتقد أنه يمكننا القيام بتجاوز ذلك". أري يده تفرم التوم في قطع رفيعة، أري العضلات الصغيرة فى ذراعه تتحرك عندما يقلب الصوص. أفكر في الطماطم وكيف أن قشرها بارد ومتبل. فكرت كيف عندما أقطعها قطعا مستوية وتامة، مراقبة جلدها الندي الشاحب والضعيف. إنها تبدو تمامًا كما لو أنني لم أفكر في أي شيء.

مشي كارلوس بعيدًا عني وفتح الباب البارد. خلفه الضوء ولمبة فلورست أمكنني أن أشعر بالحرارة القادمة من البدروم ببطء. أمسك كارلوس بالباب مفتوحًا لدقيقة ثم مد ذراعيه في حركة واسعة ثم أسقطهما إلى جانبيه.

قال:

- أنا راجع إلى الطابق الأعلى. هل ستأتين؟

استدار بعد لحظة أخرى. وانغلق الباب مع ضوضاء مكتومة خلفه.

جلست تحت الضوء المعتم، أضواء باردة لدقيقة أخرى قبل أن التفت إلى يساري وأسحب مزيدًا من الطماطم من القفص. فردت مريلتي حتى المنتصف وملأتها بالطماطم بقدر ما أستطيع. فى حرص، وقفت وفتحت الباب البارد. على الرغم من حرارة البدروم الثقيلة أشعر ببرودة مريلتي على لحمى بينما أتبع كارلوس إلى الطابق الأعلى.

(النهاية)

***

.........................

ملحوظة للمترجم: هذه القصة ترجمتها من سنوات بعيدة ونسيتها ،بالضبط  كان ذلك عام 2009 م ، ولأنى وقتها لقلة الخبرة لم أكن أهتم بأسماء المؤلفين فلم أكتب شيئا عنها ، أما القصة فكانت منشورة فى ذلك الوقت على صفحة مجلة الكترونية /nidus.no 9 – 2007 . لكن من أسف لم تعد المجلة موجودة. من ناحية أخرة بحثت بجدية عن المؤلفة / Tanya Underwoodمن هى؟ وهل لها أعمال أخرى. قصص أو كتب؟ من أسف لم أعثر على شىء.

ثلاث قصص: ناتالي وارثر

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- دراجة

ذهبت للنوم وأنا امرأة واستيقظت دراجة. مفاصلي صلبة ومطوية مثل كرسي الشاطئ. مؤخرتي سرج. ثدياي هما الإطاران الآن. بقيت في المرآب وصوتي الوحيد هو الجرس. في رحلة طويلة، تمر بى امرأة أخرى هى الآن دراجة أيضا. "هذا صعب "، أقول لها، فتقول، هكذا كما كونك امرأة: االبدلات، التروس، السواعد، الإطارات المثقوبة، المقود المثني. في الليل، تُعلق عجلتى الخلفية من السقف مثل بقرة عند الجزار. بجانبي ثلاث نساء سابقات أخريات من مختلف الأحجام. تتلامس مقاودنا مثل الإمساك باليدين."دراجة جميلة "، يقول أحدهم للرجل الذي يركبني. أعتقد أنني أشعر بالفخر.

**

2- حشرة العتة

لقد ولدت من جديد كعثة وعرفت على الفور أنه لم يكن لدي الكثير من الوقت. لا تعتقد أنك ستشعر بالعمر، لكنك ستشعر بذلك. في هذا الجزء من الثانية، تستطيع أن تفهم بالضبط ما أنت عليه. لم يكن هناك شيء، ثم كان هناك ضوء، وبعد ذلك عرفت كل شيء سأعرفه على الإطلاق. عندما جاء الموت كان صغيرا، مثلي.

**

3- منشفتان للتجفيف

أعثر على قرطى زوجتك الثانية في جيب معطفي: كبيران، وذهبيان.

عندما أغادر، تأتي هى،عندما تغادر، آتي أنا.

في الأسبوع الماضي نظمت ظلال أحمر الشفاه من الوردي إلى الأحمر - قوس قزح للتقبيل.

أجد عبتوها من الشامبو في الحمام الذي تستخدمه أنت فقط.

تقوم بصنع الانتشلادا( فطيرة محشوة باللحم ) وتترك واحدة في الثلاجة من أجلك. أو ربما من أجلى.

أطلب أن أعرف من هي، لكنك تقول، هذا ليس الترتيب.

يجب أن ترتدي زوجتك الأخرى قمصانك للنوم. أشاهدك من المدخل، تفك الأساور.

إنها تتعمد أن تترك أدلة لي: كومة من بذور المانجو على منشفة في المرآب، وخصلة من الشعر البني في درج ملابسي الداخلية، وكلمة "تقريبًا" تم تسطيرها مرارًا وتكرارًا في الجريدة. تقريبًا. تقريبًا. تقريبًا.

ألبس قرطيها: ثقيلان مثل قلب الإنسان.

(تمت)

***

.......................

المؤلفة: ناتالي وارثر/ Natalie Warther كاتبة أمريكية، حاصلة على ماجستير في الفنون الجميلة من كلية بنينجتون وشهادة البكالوريوس من جامعة نورث إيسترن. تكتب القصة القصيرة جدا، و تعيش ناتالى وارثر فى لوس أنجلوس.

السيدة وقططها التى لاتحصى

قصة: هينا فاطمة خان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

وبينما كانت ذرات الغبار تتراقص وتتلألأ عبر زجاج نوافذ هذا المنزل الكبير، استيقظت السيدة المسنة (في منتصف الستينيات من عمرها) لتنفس الأمل الجديد الذي يولده كل صباح .

ينتشر الشعور بالكآبة في الهواء هنا، وكان هذا الفراغ وقططها التي لا تعد ولا تحصى هي الرفيق الوحيد للسيدة. يبدو أن ولعها بالقطط لا ينتهي أبدًا، لكنها لم تستطع الاستمتاع بها حتى الآن لأن زوجها كان يكره حتى رؤيتها. الآن فقط هي تدرك دفئهم ورفقتهم .

تبدو الجدران قاتمة، وهذه البرودة يمكن أن تزعج أي عابر سبيل. النظرة الهادئة الملساء على وجه السيدة مجرد واجهة. عليها أن تحتفظ بها لتستمر في الحياة. كل ما لديها الآن هو قططها. بعد التعافي من مرض جسدي حاد، بالكاد تستطيع السيدة التنقل في هذا المنزل الكبير.حيث يعتنى بجميع أعمالها من قبل الخادمة التي تخرج من المنزل عند حلول الغسق - في الوقت الذي يتحول فيه لون هذا المنزل إلى لون أغمق، تغني له الجنادب والصراصير فقط. هذا عندما تريد رفيق لكن السيدة ليست وحيدة أبدًا في هذا السرير الخشبي ذي الأربع أعمدة، حيث تشغل قططها التي لا تعد ولا تحصى معظم هذه المساحة؛ طوال الليالي تريح السيدة رأسها على الفراء الناعم للقطط.

بعد وفاة زوجها بفيروس قاتل، تمسح القطط دموعها، من تناول العشاء إلى الأنين، يفعلون كل شيء معًا. لا تزال الجوائز التذكارية تتألق على حافة النافذة تظهر حب السيدة لزوجها الراحل. لهذا الشوق لفإن لا يختفي أبدًا، فقط هذه القطط تعطي الحيوية لهذا المنزل العظيم الذى نادراً ما يصل إليه حتى أضعف بصيص من الأمل.

تضرب أشعة شمس الصباح الساطعة نوافذ الجار الكبير اليائس. الارتجاف والارتعاش لم يتركا جانب السيدة العجوز منذ وفاة زوجها. كل هذه الهشاشة تستمر في توليد المزيد من اليأس وتؤدي إلى مرض غير مسمى. كل ما يمكن أن تقدمه هو "الدفء العصبي" و"المودة" لقططها التي لا تعد ولا تحصى.

كانت مشغولة معظم اليوم بمشاهد القطط التي تتجول لتهدئة آلامها ومخاوفها العامة .

في بعض الأحيان، تذهب المساعي الجادة للقطط للتخفيف سدى حيث ينتهي الأمر بالسيدة المريضة بدفن وجهها في يديها ثم تنتحب؛ كان زوجها المتوفى أكثر وحشية، ولم يحب قط رؤية القطط حوله. حتى أنفاسه الأخيرة، يمكن للسيدة أن تستمتع بزوجها أو القطط .

غالبًا ما تقوم قطط السيدة بتنظيف نباتات الجوسامر بلعق جميع الشبكات البيضاء. لكنها الآن لا تشعر بالرغبة في نفض الغبار عن المنزل أو تنظيفه، فكل ما تفعله وتريده هو فقط رفاقها المخلصين القطط العديدة. لا صافرات الإنذار أو الأذان يمكن أن توقظ السيدة، ولكن رغم قلة حنان زوجها، فإنها تنام كل ليلة بشوق سري، وهو ما يتعلق برغبة الالتحاق بزوجها في الجنة. ولكن بعد ذلك تريد السيدة أيضًا أن ترافقها القطط هناك أيضًا، في عدن. هل من الممكن أن يحقق ذلك فى وقت ما؟

(النهاية)

***

.....................

المؤلفة: هينا فاطمة خان / Hina Fatima Khan  صحفية متعددة الوسائط مقيمة في الهند ولديها خبرة 7 سنوات في هذا المجال، حصلت هينا خان على درجة الماجستير في الصحافة المتقاربة من مركز أبحاث الاتصال الجماهيري فى جامعة الملة الإسلامية.

صيد السمك في نهر ساسكويهانا في شهر تموز

بقلم: بيلي كولينز

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

صيد السمك في نهر ساسكويهانا في شهر تموز

لم اصطد السمك قط في نهر ساسكويهانا

او في اي نهر قدر تعلق الأمر بذلك

لأكون صريحا تماما.

*

لم استمتع—ان كان في ذلك متعة-

لا في تموز ولا في  اي شهر

بصيد السمك في نهر ساسكويهانا.

*

الاحتمال الأكبر انني يمكن ايجادي

في غرفة هادئة كهذه-

على الجدار لوحة لامرأة ،

*

زبدية من المندرين على المائدة-

محاولا ان اصنع الاحساس

بصيد السمك في نهر ساسكويهانا،

*

مجذفا عكس التيار في قارب خشبي،

تاركا المجذافين ينزلقان تحت الماء

ثم ارفعهما ليقطرا ماء في الضوء.

*

لكنني لم اكن اكثر قربا الى

صيد السمك في نهر ساسكويهانا من قبل

الا عصر احد الأيام في متحف في فيلادلفيا

*

حين وازنت بيضة زمن صغيرة

امام لوحة يلتف فيها

ذلك النهر حول منعطف

*

تحت سماء زرقاء منفوشة الغيوم،

وعلى امتداد الضفتين اشجار كثيفة،

وشخص ملفع بمنديل احمر

*

يجلس في زورق

اخضر صغير مسطح القعر

ممسكا بصنارة الصيد النحيفة.

ذلك شيء ليس من المحتمل انني

افعله دوما، هكذا اتذكر انني قلت

لنفسي وللشخص القريب مني.

*

ثم طرفت عيناي وانتقلتُ

الى مناظر اميركية اخرى

من اكداس التبن والماء يمور ابيض فوق الصخور،

*

وحتى منظر لأرنب بري بني

بدا مشدودا متأهبا الى حد

تخيلته ينط خارجا من اطار الصورة.

***

.....................

* بيلي كولينز شاعر أمیركي من موالید مدینة نیویورك عام ١٩٤١یتمیز شعره بكسر جمیع الأشكال والأوزان التقلیدیة فھو یكتب شعرا متحررا من جمیع القیود وله أیضا آراء حول الغموض في الشعر وتعقید الشكل الشعري وفي تأویل القصائد یعبر فیھا عن انحیازه إلى البساطة ووضوح التعبیر والشعر الذي یسھل فھمه معترضا على الشعر الذي یكتبه الشعراء لغیرھم من الشعراء ولیس لجمھور عریض من القراء. شغل كولينز منصب شاعر الولایات المتحدة بین عامي 2001- 2002 وخلال فترة إشغاله ھذا المنصب حرر كولینز مختارات شعریة بعنوان (شعر ١٨٠) تتألف من ١٨٠ قصیدة على عدد أیام السنة الدراسیة. وھي مجموعة یسعى كولینز من خلالھا إلى إیصال الشعر إلى أكبر عدد من طلاب المدارس وإشاعته بین المراھقین. نال كولينز جوائز عديدة على مجموعاته الشعرية وفيما يأتي بعض عناوينها: (قصائد فيديو) 1980؛ (التفاحة التي أدهشت باريس) 1988؛ (فن الغرق) 1995؛ (الإبحار وحيدا حول الغرفة) 2001؛ (تسعة خيول) 2002؛ و(المتاعب التي يثيرها الشعر وقصائد أخرى) 2005. في القصيدة التي نترجمها هنا، يتناول الشاعر علاقة التجربة الحياتية - متمثلة بصيد السمك في القصيدة— بالفن - متمثلا فيها بلوحات يجدها الشاعر في احد متاحف الفنون بمدينة فيلادلفيا الأميركية، مؤكدا اهمية تأثير كل منهما في حياة الانسان.

بقلم: ألكساندر بوشكين

ترجمة: إسماعيل مكارم

Александр Пушкин

Отче наш

والقصيدة، يحاكي فيها نصا في (الصلاة الربانية)

***

أبانا الذي في السماوات

سَمِعتُ في الخلوة البسيطة

كيف ردَّ دَ رّجلٌ مُسن صلاته الجميلة،

كان يُرددها بخشوع، وأنا استمعُ:

*

" أبانا. أيها الأبُ الذي في السماوات!

إنَّ إسمكَ المُقدس الأبدي

يشعُّ في قلوبنا،

سَيأتي مَلكوتكَ،

وسَتكونُ مشيئتكَ معنا،

كما في السماوات كذلك على الأرضِ.

أعطنا خبزنا كفافنا

بيديك الكريمتين،

وكما نغفر نحن للمذنبين إلينا

أغفر لنا، نحن المذنبين أمامك،

أغفر يا أبانا لأبنائك .

ولا تدخلنا في إضلال،

ومن فتنة الماكر

نجنا ". هكذا أمام الصّليب،

*

كان العجوز يتلو صلاته، بينما

السّراجُ من بعيد يُرسلُ ضوءَه الخافتَ في الظلمة.

دَخلتِ المَسرّة ُ إلى القلب

بسماع صَلاةِ ذلك الشيخ المُسن.

***

.......................

* قام الكساندر بوشكين بتدوين هذه القصيدة عام 1836 أي قبل عام واحد من تاريخ رحيله. هذه القصيدة، وقصيدة (الآباء النساك والزوجات الطاهرات)، إلى جانب ثلاثيته التي دونها عن دحر الإنتفاضة في وارسو، تلك الإنتفاضة، التي جرت عامي 1830-1831، هذه النصوص كلها تدل على فهم عميق من قبل الشاعر للأمورالفلسفية، والدينية، والسياسية، التي سادت في المجتمع الروسي بتلك المرحلة..

مراجع ومصادر:

قمنا بترجمة هذه القصيدة من النص الأصلي الروسي.

وحافظنا على هيكل القصيدة كما ورد في النص الروسي.

وهذا ما تمليه أخلاقيات الترجمة.

كلاريس ليسبكتور

(مقتطف من كتاب المرأة التى أكلت السمك)

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

بعد ظهر أحد الأيام كنت أسير في الشارع لشراء هدايا عيد الميلاد.امتلأت الشوارع بالناس الذين يشترون الهدايا. في وسط كل هؤلاء الأشخاص، رأيت مجموعة تتجمع حولها، وذهبت لأرى: لقد كان رجلًا يبيع عدة قرود، كلهم يرتدون ملابس مثل الناس ومضحكون للغاية. اعتقدت أن كل شخص في المنزل سيحب الحصول على قرد صغير لعيد الميلاد. اخترت أنثى القرد الصغيرة الناعمة جدًا والجميلة، والتي كانت صغيرة جدًا. كانت ترتدي ثوباً أحمر اللون وترتدي أقراطاً وعقوداً من باهيا. كانت لطيفة معنا، وكانت تنام طوال الوقت.

تم تعميدها باسم ليزيت. بدا أحيانًا أن ليزيت تبتسم متوسلةً العفو عن نومها كثيرًا. بالكاد كانت تأكل، وبقيت ساكنة في ركن صغير، كان مخصصًا لها فقط.

في اليوم الخامس بدأت أتساءل عما إذا كان كل شيء على ما يرام مع صحة ليزيت. لأن سلوكها الهادئ والوديع لم يكن طبيعياً.

في اليوم السادس كدت أصرخ عندما اكتشفت الأمر: "ليزيت تحتضر! دعونا نأخذها إلى طبيب بيطري! " الطبيب البيطري هو الطبيب الذي يعتني بالحيوانات فقط.

كنا جميعًا خائفين للغاية لأننا بالفعل أحببنا ليزيت وأحببنا وجها الذى يشبه المرأة الصغيرة. يا إلهي، لقد أحببنا ليزيت كثيرًا! وأردنا لها بشدة ألا تموت! كانت بالفعل جزءًا من عائلتنا. قمت بلف ليزيت في منديل وركبنا سيارة أجرة وسارعنا إلى مستشفى للحيوانات. هناك أعطوها حقنة على الفور حتى لا تموت. كانت الحقنة جيدة لدرجة أنها بدت وكأنها شفيت مرة واحدة وإلى الأبد، لأنها فجأة شعرت بسعادة غامرة لدرجة أنها ركضت في جميع أنحاء الغرفة، وأطلقت صيحات من السعادة، وصنعت وجوه قردة صغيرة مضحكة، ومجنونة لإرضائنا. و عند ذلك اكتشفنا أنها تحبنا حقًا وأنها لم ترنا من قبل لأنها كانت مريضة جدًا لدرجة أنها لم تكن لديها القوة.

ولكن عندما تلاشى تأثير الحقنة، توقفت فجأة مرة أخرى وجلست في يدي هادئة وحزينة. ثم قال الطبيب شيئًا فظيعًا: أن ليزيت ستموت.

عندها فهمنا أن ليزيت كانت مريضة جدًا بالفعل عندما اشتريتها. قال الطبيب: أن علينا ألا تشتري القرود في الشارع لأنها في بعض الأحيان تكون مريضة للغاية.

سألناه بتوتر شديد:

ماذا الان؟ ماذا ستفعل يا سيدي؟ -

وهذا ما أجاب:

- سأحاول إنقاذ حياة ليزتي، لكن عليها أن تقضي الليلة في المستشفى.

عدنا إلى المنزل بمنديل فارغ وقلوبنا فارغة أيضًا. قبل أن أنام، طلبت من الله أن ينقذ ليزيت.

في اليوم التالي اتصل الطبيب البيطري لإعلامنا بوفاة ليزتي في الليل. هذا عندما فهمت أن الله يريد أن يأخذها. امتلأت عيناي بالدموع ولم أكن أمتلك الشجاعة لإخبار الآخرين بالخبر. ولكننى أخيرًا فعلت، وكان الجميع حزينًا جدًا.

لأنه افتقدها كثيرًا، سأل أحد أبنائي:

- هل تعتقدين أنها ماتت وهي ترتدي أقراطها وقلادتها؟

قلت إنني متأكدة من أنها فعلت ذلك، وحتى لو ماتت، ستظل جميلة.

ولأنه كان يشتاق إليها كثيرًا، نظر إليَّ ابني الآخر وقال بحنان شديد:

- هل تعلمين يا أمي أنك تشبهين ليزيت كثيرًا؟ 

إذا كنت تعتقد أنني شعرت بالإهانة لأنني أبدو مثل ليزيت، فأنت مخطئ. بادئ ذي بدء،لأن الناس بالفعل يشبهون القردة الصغيرة ؛ ثانيًا،لأن ليزيت كانت مملتئة بالرحمة وجميلة جدًا.

- شكرا لك يا بني.

هذا ما قلته له ومنحته قبلة على وجهه.

في يوم من الأيام سأشتري قردًا صغيرًا يتمتع بصحة جيدة.

لكن هل نسيت ليزيت؟

أبداً.

(تمت)

***

...................

المؤلفة: كلاريس ليسبكتور / ولدت كلاريس ليسبكتور عام 1920 لعائلة يهودية في أوكرانيا. للهروب من المذابح، هاجرت عائلتها إلى البرازيل عندما كانت طفلة. أمضت طفولتها في مدينة ريسيفي شمال شرق البلاد. نُشرت روايتها الأولى، "بالقرب من القلب المتوحش"، عندما كانت تبلغ من العمر 23 عامًا. اكتسبت شهرة واسعة على الفور وأصبحت بمرور الوقت واحدة من أشهر الكتاب البرازيليين. نشرت الروايات والقصص و المقالات الصحافية حتى وفاتها عام 1977. نُشرت هذه القصة لأول مرة في البرازيل عام 1971 هذا هو أول منشور لها باللغة الإنجليزية. عام 2013. كان آخر أعمالها الأدبية رواية "ساعة النجمة" التي نشرت سنة 1977 بعد وفاتها وقام بترجمتها إلى العربية د.ماجد الجبالي سنة 2017. والقصة المترجمة هنا مقتطف من كتابها للأطفال: المرأة التى أكلت السمك. والكتاب يضم أربع قصص، وهذا رابط النص المترجم:

https://lithub.com/the-woman-who-killed-the-fish

تأليف: جون سوكول

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

شعر وارين بيد ناعمة لينة تطرق أذنه اليمنى ونقرة ملحة ولكن خفيفة من إصبع فوق أذنه الأخري، قالت السيدة الشابة وهي تربت جانب وجهه:

- سيدى؟ هذا يكفي الآن. من فضلك. بدأ الناس ينظرون نحونا.

رد وارين وهو يرفع رأسه عن البطن المنتفخ:

- أوه، آسف.. اغفري لي.. لكن ذلك شعور جميل. شكرًا كثيرًا لك.

في طريق عودته إلى الاستوديو الخاص به، جلس وارين بجوار امرأة حامل في الحافلة. كان قد سألها بهدوء إذا ما كان يمكن أن ينصت إلى الحياة فى داخلها وقال: "زوجتي على وشك أن تلد طفلًا أيضًا " مقدمًا مبرره لطلب مثل هذا الفضل. وعندما وجدت الجد في نظره وافقت أن تسمح له بأن يضع رأسه فوق بطنها للحظة. وكالعادة تجاوز وارين الحد المسموح له، لذلك كان صحيحًا أن الناس قد بدأوا في النظر نحوهما.

عندما نهضت المرأة لتنزل في محطتها قال وارين:

- شكرًا مرة أخرى.

ابتسمت له متفهمة، ولوحت بيديها بخفة كما لو كانت تقول له "لا تشر إلى هذا مرة أخرى " ثم التفتت نحو النافذة، خطر لوارين أنها قد خجلت.

مبتهجا مشي وارين قدر بنايتين إلى مرسمه، وعندما وصل إلى هناك، توجه إلى جهاز التدفئة، ورفع درجة الحرارة، فبعد أقل من ساعة ستصل الموديل الجديدة، لذلك يجب أن يكون االدور العلوى دافئًا، فقد كانت الموديلات يصررن على ذلك.

وضع الماء من أجل إعداد القهوة، وأدار جهاز الكاسيت، وضع إسطوانة مخدوشة على القرص الدوار، كان وارين يستمع كثيرًا إلى موسيقى برامرز فى تلك الأيام .

عندما غلى الماء، أعد القهوة، شم رائحتها وفكر في نفسه.كيف يبدو الشىء الملموس الصغير عندما يكون لدى المرء شىء يتشوق إليه، شىء يعيش من اجله، حمل قهوته إلى مقعده القديم بجوار النافذة المغطاة بالستائر وخزانة الكتب غير المرتبة، جلس وانتظر وصول الموديل.

بعد أن انتهى من شرب القهوة، أعد الكنفاه وجهز مكان وقوف الموديل، لكنه في البداية نظر إلى عناوين الكتب على الرفوف، ووجد الكتاب الذي يريده. انتزعه والتفت إلى اسكتشات دافنشي لجنين فى الرحم، تأمل جنينا لم يولد ملتفا داخل رحم مظلم. بدا الشكل البشرى الصغير فى الرسم مثل نسخة نائمة من تمثال المفكر للنحات الفرنسى أوجست رودان (برأسه  الضخم بين ركبتيه) متأملا بداية الحياة. وقد جعلت الاوردة المتدلية الملتفة حول التجويف الأسطورى للجنين وارين يفكر في قشرة الجوز المتعرجة.

قام وارين بعد ذلك بتقليب الصفحات ليصل إلى تصوير دافنشى: تصوير الجماع ودراسات أخرى، تأمل الرسومات التشريحية، الرسومات عميقة ومفيدة: شفاه وعيون من نماذج تم تشريحها مرسومة بإتقان. ثم شعر وارين بانقباض فى الصدر بسبب الرهبة التى شعر بها فى حضور مثل هذا الفنان العظيم (على الرغم من نبذ رسوماته مرات عديدة)، وأرجع وارين أن هذا الشعور بالانقباض إلى إدراكه أنه لن يكون أبدا فى نفس المستوى بلوحاته غير الكتملة وبقعه الموحلة وأشكاله المنسية التى لطخت بشكل عشوائى على القماش. حاول عدم التمادى فى الحديث عن أدائه المتوسط، بعد كل هذا، كان مازال فى البديات، وعندما فكر فى مثل هذه الأمور أيب بالاكتئاب، لم يستغرق الأمر كثير وقت لإحباطه.

سرعان، ما كان هناك طرق على الباب، نحى وارين الكتاب جانبًا، وابتلع بقايا القهوة التى في الكوب، وأسرع يفتح الباب.

- مرحبًا

قالت المرأة الشابة ذات البطن الكبير، فقال وارين:

- مرحبًا، ادخلي.. ادخلي.

كان قد طلب من وكيل الموديلات، في وسط المدينة أن يرسل إليه امرأة شابة حاملا. وقد فعل حقًا، إنها تامة، لم تكن مجرد حامل، لقد كانت حاملا جدًا، على الأقل ثمانية أشهر.

- الناس في الوكالة يقولون أنك تريد موديل حامل.. حامل حقيقة، يقولون،  لذلك أنا هنا. لا أستطيع أن أصدق هذا، أنا لم أعمل منذ الشهر الثاني من حملي. لقد تصورت أنني لن أعود للعمل إلا بعد أن أضع طفلي، لكن الوكيل اتصل بي وقال مرحبًا ليندا هناك هذا الفنان الذي يحتاج إلى موديل حامل، حامل جدًا، هل أنت مستعدة ؟ لذلك قلت " أكيد لم  لا؟" هل تريد دائمًا أن ترسم الموديلات الحوامل؟

قالت المرأة الشابة ذلك ونظرت إلى وارن بابتسامة ساخرة،ابتسامة متكلفة تقريبًا.

قال وارين:

- حسنًا، في الواقع، أرسم أفكارًا تجريدية، لكن، كما ترى زوجتي حامل وأردت العودة إلى موديل حي مرة أخرى. لم أرسم موديلًا منذ أن كنت في المدرسة. أحب أن أرسم بعض الصور والرسومات لزوجتي عندما تحمل. وخلال مراحل الحمل المختلفة كما تعلمين؟ لكني فكرت أنه من الأفضل أن أتدرب مسبقًا، أعتقد أن هذا مهمًا، أقصد أعتقد أنه مهم لي كفنان. لكي أرسم زوجتي عندما تحمل. أقصد، حتى لو بقيت في العادة تجريدياً. هذه مناسبة خاصة ألا تعتقدين ذلك؟

قالت المرأة الشابة:

- حسنًا، إذا قلت ذلك. عمل الموديل وهو مجرد عمل بالنسبة لي. وأنا وزوجي بالتأكيد بحاجة إلى المال. لم يطلنى أحد للعمل منذ أن كنت حاملاً، فيما عداك بالطبع، أنا لا أشكو، لا تفهمني خطأ. إن هذا مجرد شيء قليل خارج المألوف، هذا كل ما في الأمر، لكن لكل واحد ذوقه الخاص، أليس كذلك؟

قال وارين:

- الحمام هناك.. يمكنك أن تستخدميه كغرفة تبديل الملابس؟

قالت ليندا:

- أكيد، حسنًا، إذا كنت جاهزًا للعمل، أخلع ملابسي حالًا، وعندما أخرج يمكنك أن تخبرني بما تريد.

قال وارين:

- لا بأس.

وأخذ منها معطفها وعلقه فوق شماعة حائط بجوار الباب.

بينما تخلع ليندا ملابسها، جهز وارين طبق ألوانه ومزج نصف دائرة من الألوان فوق قطعة خشب قديمة.

سرعان ما خرجت ليندا عارية من الحمام وقالت:

- حسنا.. أين تريدني؟

قال وارين وهو يشير إلى منضدة الموديل.

- على اليمين هنا. دعينا نرى. دعينا نجرب وضعية جلوس سهلة ولطيفة، كبداية.

جلست ليندا على منصة من الخشب الفينير وقالت وهي تنظر إلى وارين:

- أهكذا؟

أجاب وارين:

- أوه،.. حسنًا.

ثم ذهب إليها ووضع كلتا يديه على العروق الزرقاء المستديرة في محيط بطن ليندا، وحاول أن يلاطف بشهوة البطن المنتفخ، لذلك ارتفع ببطء بطن ليندا إلى المنتصف، عندئذ قالت وهي تؤكد على مخرج كل حرف في كلماتها:

- انتظر فقط دقيقة.

أجاب وارين في براءة:

- ما الخطأ ؟

- أنت – أكرر – لا يسمح لك بلمسي، أتفهم النزاهة والتفانى وكل ذلك، لكن  قواعد   الوكالة تقول " أن الفنان لا يلمس الموديل" إذا كنت تريديني أن أجلس بطريقة معينة، عليك فقط أن تشير بيديك، بهذه الطريقة اوتلك الطريقة، حتى أفهمها. هل فهمت ذلك؟

- ليندا. أنا آسف جدا، أعتذر، أؤكد لك أنني لم أقصد أية إساءة.

قالت ليندا:

- أنا متأكدة من أنك لم تفعل ولكن، للرجوع إليها في المستقبل....

- حسنًا، حسنًا، هذا جيد. تمامًا كما أنت، إذن. ذلك تمام..

عندئذ رفعت ليندا رأسها وابتسمت كما لو كانت تعرف طوال الوقت أفضل وضع لوارن.

خلال الساعتين التاليتين، تراجع وارين مرات عديدة عن الكنافاه لفحص عمله اليدوي، تمشى مرات عديدة لدراسة بطن ليندا من جميع وجهات النظر الممكنة، أخيرًا قالت ليندا:

- حسنًا، انتهى الوقت. لا أستطيع أن أقف فوق الساعتين. دعنا نرى ماذا ستدفع؟"

قالت ذلك ومشت إلى الكنافاه حاملة روبها. لف وارين شعر الفرشة الخشن في قماشة الورق الموحلة وانتظر رأي ليندا. حدقت ليندا إلى العلامات القليلة والبقع التي وضعها وارين على الكنافاه ونظرت بسماجة إلى النقاط واللطخات كما لو كانت تشكل جزءًا من خريطة سرية.

قالت:

- ما هذا؟

- أوه، ذلك فقط تحت الرسم، هذه الكنافاه تحتاج إلى العديد من ساعات العمل قبل أن تصبح مثلك.

- آمل ذلك.

قالت ليندا ذلك وأسرعت نحو الحمام لكي ترتدي ملابسها.

بمجرد أن غادرت ليندا المكان نحى وراين ألوانه جانبا، ونظف فرشاته في زيت التربنتين والصابون والماء، ثم اندفع ليلحق بالحافلة إلى المركز المجتمعي. حيث يبدأ فصله الدراسي في تعلم الطبخ عند الساعة الثانية. وكانت هذه حصته الأولى، ولا يريد أن يفوته أي شيء.

عرف وارين أنه كان هاويا غير محترف، دائمًا ما يندفع ويقوم بعمل جديد متصورًا أنه المناسب، ثم يتخلى عنه، لهذا كان متوسطًا في العديد من الأشياء، وليس جيدًا في أي واحدة منها، لكن تلك كانت طريقته، لا جدال في ذلك، هكذا فكر في نفسه.

في المركز المجتمعي اكتشف أن الفصل صغير، حوالي ثمانية أو تسعة أفراد، كلهن من النساء بما فيهن المدربة.

عندما انتهى التدريب، جمع كل فرد متعلقاته الشخصية، وارتدى معطفه وغادر الغرفة فيما عدا امرأة بقيت هناك في آخر القاعة، كانت تحمل طفلًا رضيعًا فوق ذراعيها، جلست في المقعد كما لو كانت تخطط للبقاء لفترة من الوقت، كان وارين قد لاحظها من قبل. الآن صمم أن يحصل على نظرة أفضل، عاد وارين إلى الخلف كما لو كان في طريقه إلى المغادرة، تجاوزته المدربة تاركة إياه وحده مع المرأة والطفل، اقترب وارين من المرأة فى خجل، وسألها:

- أيمكنني أن أجلس.

قالت:

- بالطبع.

- أوه، إنه لطيف.

صححت:

- إنها

قال وارين:

- آه إنها لطيفة، ما اسمها؟

أجابت المرأة بفخر:

- أليسون. أتمت أربعة شهور الأسبوع الماضي.

سأل وارين وهو يدرك مدى حرجه:

- لماذا تنتظرين هنا؟

أجابت المرأة:

- حسنًا.

ثم أضافت وهي ترفع رقبتها لترى الباب:

- فكرت أن أنتظر حتى يغادر الجميع، ثم أرضعها قبل رحلة الحافلة الطويلة إلى المنزل، فعندما يجوع الأطفال لا يحبون أن ينتظروا.

قال وارين بحماس:

- أتنوين أن ترضعيها؟ أوه، هل تعقتدين.. حسناً، هل تعتقدين أن باستطاعتي أن أشاهد؟ أعرف أن ذلك يعد تعديًا على خصوصيتك، إذا كنت لا تمانعين .. أتعرفين، النساء في أوروبا والبلدان الأخرى يرضعون أطفالهم في الأماكن العامة بشكل طبيعي، إنه فقط نحن الأمريكان نتكلف الحياء والحشمة في مثل هذه الأشياء،   سبب سؤالي هو أن زوجتي ستنجب طفلاً، وحسناً، إذا...

توقف للحظة ثم أضاف.

- إذا كنت ترين أنه من الأفضل أن أمشي فأنا أتفهم ذلك.

- لا لا، ابق. لا بأس أعتقد أنني أعرف شعورك. زوجي كان له نفس الأسلوب وأنا حامل بأليسون، حتى أنه ذهب إلى سيدة في محل الخضراوات وطلب منها أن يدفع طفلها للخلف وإلى للأمام في عربة الأطفال لبضع دقائق، إلى جانب ذلك أنا لا أمانع.

فتحت المرأة بلوزتها وراقب وارين بوقار وهي تمسك بثديها المنتفخ وتوجه حلمته البنية إلى فم طفلها الباحث عنه. همس وارين:

- هذا جميل. هذا جميل حقًا.

ابتسم لنفسه وهو يتذكر رسم دافنشي لمقطع عرضي للشبكة يمتد من داخل جسد المرأة عبر الغدة الثديية.

نظرت المرأة من حين لآخر وابتسمت لوارن، مفتونة أنه بدا مفتونًا للغاية، ثم سألته وقد  بدت مستريحة جدا لحضور وارين:

- كم مدة حمل زوجتك؟

- كم المدة ؟ أوه أتقصدين مدة الحمل؟ أوه فقط شهور قليلة.

ابتسمت المرأة واحنت رأسها لتراقب طفلها الرضيع.

شاهد وارين الأم والطفل حتى شبع ونعس، تحدث إلى المرأة وهو يمشي معها نحو محطة  حافلاتها. سألها:

- أأنت متاكدة أنك على ما يرام؟

- نعم أنا بخير، شكرًا لك.

شعر بالوحدة القاسية عندما تركها هناك، ثمة فراغ.

في الحافلة شعر وارين بانقباض شديد في معدته، يأس يغوص في داخله ثم ينهض، ليرقص مثل اللهب حول طوقه، ويرتع مثل الحمى إلى مناطق غامضة في دماغه، ربما ذلك لأنه قضى يومًا جميلًا ومرضيًا والآن وهو في طريقه إلى المنزل لا يصدق أنه ثمة شيء يمكن أن يفسد هذا اليوم.

نزل من الحافلة وهو يحاول نسيان اكتئابه، عندما وصل إلى بنايته، جمع بريده وصعد الدرج باتجاه شقته رقم 6.

مر بالسيدة كوفنجتون التي كانت تتحدث إلى إحدى جاراتها في الردهة، لم يحبها وارين، كانت بدينة وغريبة الأطوار، لا تشبع من النميمة، أمل وارين ألا توقفه للحديث إليه.

قال وارين في عجلة وهو يواصل صعود السلم:

- مرحبًا.. سيدة  كوفنجتون.

ردت في صوت رخيمم ممطوط:

- مرحبًا وارر ي ين.

بمجرد وصول وارين إلى مقدم مدخل الشقة، سمع السيدة كوفنجتون تهمس لجارتها، فكان صوتها بمثابة مقصلة اليوم التي هبطت على عنقه:

- وارين هو الساكن العزب فى المبنى.

انتهت

***

.........................

* جون سوكول / John Sokol كاتب ورسام أمريكى يعيش فى ولاية أوهايو، نشر العديد من القصص فى المجلات الادبية المطبوعة والالكترونية.

إحتفاء بيوم ميلاد الشاعر الروسي الكبير

الكساندر بوشكين (1799 -1837)

إعداد وترجمة: إسماعيل مكارم

***

هذا النسيم الرقيق

يداعب الأثير ليلا،

بينما نهر كوادالكويفير*

تجري مياهه متدفقة،

تصدر خريرا جَميلا.

**

وها هو القمر ذهبي اللون يطلع.

أرجو الصّمت ...أسمعُ صوتَ الجيتار

وهناك شابة إسبانية على الشرفة

تتكئ على الدرابزين.

**

هذا النسيم الرقيق

يداعب الأثير ليلا،

بينما نهر كوادالكويفير

تجري مياهه متدفقة

تصدر خريرا جميلا.

**

إخلعي هذا الشال أيها الملاك اللطيف،

واظهري كيوم مُشرق،

دعيني أرى هذا القوام الرائع

من خلال الدرابزين.

**

هذا النسيم الرقيق

يداعب الأثير ليلا،

بينما نهر كوادالكويفير

تجري مياهه متدفقة

تصدر خريرا جميلا.

1824

***

والثانية عن موسم الخريف وشجيرة الكرمة.

«Виноград»

شجيرة الكرمة

أنا غير نادم على وردات الجوري،

تلك التي ذبلت في أيام الربيع الماضي،

غالية على قلبي الكرمة وتلك الدوالي،

حين تنضج عناقيدها على سفح الجبل.

تلك أجمل صورة في وادينا ذي الغلال

وبهجة هذا الخريف الذهبي

هذي الحبات البلورية الطويلة

تذكرك بأصابع صبية شابة جميلة.

1824

***

والثالثة عن جمال الطبيعة والشتاء في روسيا في زمن الشاعر، أي في الربع الأول من القرن التاسع عشر.

Зимнее утро

صَباحٌ شتويّ

ما أحلى هذا الصّباح، حيث الصّقيعُ والشمسُ

لا تزالين نائمة يا صديقتي الحَسناء،

هيا استيقظي، حان الوقتُ يا جميلة،

إفتحي عينيك المغمضتين، يغمرهما الهناء،

وانهضي لاستقبال أورورا الشّمال، *

وكوني نجمة الشّمال ِ الرائعة.

**

أتذكرين كيف كان المساء، إذ غضبتِ العاصفة الثلجية،

وفي الأفق المعتم ساد جوّ سَديميّ

أما القمرُ فكان شبيها بنقطة باهتة،

كان يلوح بلونه الشاحب من خلال الغيوم السوداء.

وكنتِ جالسة يغمرك الحزنُ.

والآنَ .. أنظري من الشباك:

**

تحت هذي السّموات الزرقاء،

تحت هذا الغطاء الجميل الرائع

ها هو الثلج يشعُّ بنور الشمس،

والغابة بأشجارها العارية وحدها سوداءُ

أما أشجار الشوح، رغم الندى الثلجي، تزداد اخضراراً،

والنهر تحت الجليد يرسل بريقه الجميل.

**

الغرفة تشع بضوء الكهرمان الجميل

والموقد يكسرُ الصّمت

بفرقعات الحَطب، الذي يشتعل.

أمر ممتاز أن تفكرَ وأنت على الأريكة !

أتدرين، هل نأمر بأن يُسخروا لنا

الفرس ذات اللون الأحمر الداكن للسير في مركبة الثلج ؟

**

إذ أن الإنزلاق على الثلج في الصّباح،

يا صديقتي يسمح لنا أن نتنزه

بمركبة الثلج، تجرها فرسٌ غير عَجول ٍ .

سنزور تلك السّهولَ الفسيحة،

والغابات الغنية، الكثيفة،

وشاطئا عَزيزا على قلبي.

***

دونت في الثالث من تشرين ثاني عام 1829

.......................

* في السادس من حزيران من كل عام يحتفل المجتمع الروسي بأقسامه: الرسمي، والأكاديمي، والشعبي بيوم ميلاد الشاعر الروسي العظيم الكساندر بوشكين، والده سيرغي بوشكين.

وبذات الوقت يعتبر يوم السادس من حزيران يوم اللغة الروسية، كون الشاعر بوشكين أغنى هذه اللغة بمؤلفاته الناجحة، الممتازة: نثرا أوشعرا، حكاية او رواية.

وُلدَ ألكساندر في أسرة تنتمي إلى طبقة النبلاء في السادس من حزيران عام 1799 في مدينة موسكو، حصل على تعليمه الإبتدائي في بيته، أي أن الأهل استدعوا الى البيت معلمات ومعلمين قاموا بتربية الولد وأشرفوا على تعليمه: منهم من كان من فرنسا، ومنهم من ألمانيا، ومنهم من كان من بريطانيا. في عام 1811 قرر الأهل إرسال ولدهم الكساندر إلى (ليسي) المدرسة المتوسطة التي افتتحت قرب العاصمة وهي مدرسة خاصة بأبناء النبلاء، تأسست بغرض إعداد الكوادر للعمل في مؤسسات الدولة.

كان يعمل في هذه المدرسة كبار الأساتذة، وكبار المثقفين، والفلاسفة، والأدباء الروس ومنهم الشاعر الروسي غ. ر. درجافين. في عام 1817 أنهى الكساندر بوشكين تعليمه في هذه المدرسة وعين ليعمل لدى دائرة الأمور الخارجية. كان عمر الشاعر الكساندر قصيرا جدا، إذ توفاه الله في 29 كانون الثاني عام 1837 خلال مبارزة مع جورج دانتيس. ويعتقد الخبراء والمؤرخون الروس والأجانب أن الجهة التي تقف وراء وفاة الشاعر هي الحركة الماسونية.

إحتفاء بيوم ولادة الشاعر الروسي الكساندر بوشكين وجدنا من المناسب تقديم باقة من قصائده إلى القراء باللغة العربية: الأولى عن جمال إسبانيا.

إسبانيا التي سحر جمال الطبيعة فيها جعل شعراء الأندلس يتغنون يجمالها وجمال الصبايا هناك، والبساتين، والوديان، فرأينا أنه حتى نزار قباني، شاعر القرن العشرين يتغنى بهذا الجمال، من قصائده: (مذكرات أندلسية) و(أوراق إسبانية) و(أحزان في الأندلس) و(وغرناطة)، إسبانيا هذي تركت انطباعا رائعا عن بعد لدى الكساندر بوشكين.

Александр Пушкин

« Ночной зефир…»

............................

هوامش ومصادر:

* كوادالكويفير: نهر في إسبانيا، ربما ما يسمونه العرب (نهر قرطبة)،  أو ما يطلق عليه الإسبان اسم آخر (النهر الخامس).

* أورورا: اسم أخذ من الميثولوجيا الرومانية، وتعني إلهة الفجر.

ملاحظة: تمت الترجمة من النص الروسي الأصلي. في النصوص الأول  والثاني والثالث حافظنا على هيكل القصيدة وعدد الأسطر، كما تملي  علينا أخلاقيات الترجمة.

1. АЛЕКСАНДР ПУШКИН. Евгений Онегин.

Стихотворения. Проза. Москва. 2020 г.

 بقلم: كريس أباني

ترجمة: صالح الرزوق

***

"في البداية نهر. والنهر تحول إلى طريق، الطريق تشعب في كل العالم. ولأن الطريق كان في سالف الزمان نهرا فهو جائع باستمرار".

* بن أوكري- طريق المجاعة

في هذا الصباح البارد كانت نزهتي بجوار البحيرة ساحرة، هناك خصل من الضباب الذي يتلوى ويغيب في العدم، وأسراب من طيور البحر الصامتة تطير بتشكيلات عديدة، كأنها خفر سواحل طبيعيين. في البيت جهزت إبريقا من شاي إيرل غراي من أجل العمل الذي ينتظرني. الشاي الساخن يترك ضبابا، ورائحة زيت البرغموت تشعرني بالدفء، وتخلق إحساسا قديما بالراحة والأمان. على طاولتي صورة فوتوغرافية نظرت إليها. رأيت صبيا بالعاشرة أو الثاني عشرة، ويحمل صبيا آخر أصغر منه. كانا يتقدمان في طريق ترابي ريفي، وأشجار كثيفة على الطرفين. ومن بعيد أمامهما أربع بنات مراهقات تتقدمن بعرض الطريق، وتتمخترن عليه. إحداهن التفتت برأسها إلى الخلف لتتأكد من مكان الأولاد.

صورة بسيطة في إطار أنيق، وفي خلفيتها حقل رائع، لكنه بسيط أيضا. ويمثل صورة ست أولاد أفارقة يمشون على طول طريق ترابي ريفي. ولا تلاحظ أي خطر داهم، ولكن هناك جو متوتر يحيط بالأولاد، ولا يستوجب رفع راية حمراء. ومع ذلك لفتت الصورة انتباهي فورا، وتخلل أنفاسي إحساس عصبي، وعلى الفور وقفت أمامها وشردت بها. وهذا رغم حقيقة أن الصورة لفنان نيجيري اسمه فكتور إكبوك، وقد وجدتها في صفحتي على إنستغرام. ورأيت فيها مباشرة شيئا مألوفا ويسبب الارتباك، وهو مشهد منخفض أرضي غريب تماما.

وأؤكد مجددا أنني لا أعرف المشهد، ولا أعرف أي شخص في الصورة، ولا يسعني معرفة المكان. لماذا؟. فالصورة ملتقطة قبل عدة أيام، وعلى وجه الدقة في سورينام. ولكن كان أثرها مقلقا، بسبب الانفصال عن الفترة والمكان وحتى الذاكرة. ثم لمعت في رأسي فكرة. وربط دماغي الصورة بصورة في عقلي. وأنا أقول "صورة"، ولكن بالمعنى البصري الدقيق لا يمكن وصفها بذلك، وستتضح الأسباب لاحقا.

الصورة هي لأخي الأكبر مارك، عمره بصعوبة ثماني سنوات، ويحملني وأنا بعمر ست شهور، وكنا نهرب من بيتنا الكائن في ريف أفيكبو، فقط قبل ساعات من توغل الجيش النيجيري إلى مدينتنا من جهة شاطئ نديبي، حيث حطوا للتو، على بعد ثلاث أميال. هذه ليست صورة بالمعنى الدقيق جدا لأنه وأنا أتذكر الحادثة فعليا في أعماق وعيي الباطن، وحينما كان بمقدور ذاكرة من هذا النوع أن تسجل بشكل دائم حتى وأنا في هذا العمر المبكر، فإن قدراتي للتعامل معها قد تكون موضع تساؤل. لأنه لا يمكنني "رؤية" شيء تورطت به. وكما اخبرونا لا يمكن أن نكون "مشهدا" و"ننظر" بنفس الوقت إلى ذلك المشهد من الخارج.  ولذلك ما أتذكره عمليا، وهو ليس أقل وضوحا بكل النواحي من الصورة التي أنظر لها، لا يمكنه أن يكون حقيقيا. ولكن هذا قد جرى. وهذه حقيقة. وهنا نكون لحظيا بمواجهة شيء بمنتهى القسوة عن تجربة اللاجئ - أن تكون لاجئا شيء لا هو اسم و لا فعل. ولكنه تأرجح في الوقت -المكاني، وهو ما يتكرر باستمرار.  أنت دائما بوقت واحد لاجئ حتى بعد أن تكون قد فقدت هذه الصفة. وما أن تصنف بها حتى تحمل دائما هذه "الرائحة" الوجودية المرافقة للانزلاق من موضعك. وتدرك أنك تعايشت مع الحالة وحملتها معك دائما، لكن التجربة نفسها لا ترتبط دوما بما تعتقد أنه حقيقي، أو ما هو مقبول في الذاكرة. وهكذا، أنت دائما وحدك مع حالة تالية مزعجة ناجمة عن الصدمة والجرح المتكرر دون امتلاك الكلمات الضرورية الكفيلة بالتعبير عن التجربة التي مررت بها. وتتبدل التفاصيل مع كل سرد وإعادة سرد، حتى تشك بخبراتك الأصلية عنها. وتفقد اليقين بما لك، وما يعود لخبرات عائلتك، وما يعود لإعلام تلك الفترة، وما يخص الذكريات المستعادة. هل لاحظت أن صورة اللاجئ الواضحة، هي الصور التي سنتعرف فبها على حالات وظروف لاجئ هارب بشكل دائم؟. اللاجئ دائما على الطريق في مكان ما، على قارب في مكان ما، ولا يصل على الإطلاق. بعضهم يحمل مظلات، وحقائب، وأولادا، حتى أن بعضهم يربط توابيت بمؤخرة الدراجات، وآلات خياطة. وهناك أشياء، على رؤوسهم، وفي العربات، وعلى الدراجات، وتراهم تيارا طويلا مزدحما من الناس، نهرا بشريا يائسا. هناك بيت مفقود وبيت لا يمكن ترميمه أواستعادته. أنت دائما على أهبة الرحيل وغير قادر على العودة وغير قادر فعليا على الاستقرار أو الانتماء إلى أي مكان آخر.  

الجغرافيا ليست عاملا حقيقيا هنا، بل هي تتجاوز فكرة وحقيقة الرحلة. وتجربتي باللجوء هي نتيجة الحرب الأهلية بين بيافرا ونيجيريا منذ 1967 حتى 1970. وباعتبار أنني إغبو، ما يسمى العرق المتمرد، وحتى بعد انتهاء الحرب، وحتى بعد خطاب "لا منتصر ولا مهزوم" الذي ألقاه رئيس نيجيريا، الجنرال يعقوبو غاون، لا يزال الإغبو حتى يومنا هذا لاجئين وفي بلد أسلافهم. الحرب دائما هي الشبح وستبقى دائما شبحا يستحوذ عليهم. هناك شيء ما يتعلق باللاجئين، أكثر من أي نوع آخر من الناس النازحين، وهو ما يخيم على وهم الاستقرار الذي تطمح له الدولة الحديثة. ربما لأن هذا الجسد دليل على تطور أقل مما نريد أن نعتقد ضمن شبكة "إنسانيتنا". ربما لا يوجد جسد آخر يسبب كل هذا القلق مثل جسد اللاجئ. اللاجئون يطورون مجموعة من العقد أينما رحلوا في العالم، وأينما حاولوا أن يستقروا. ولا أعتقد أن هذا ببساطة نتيجة الخوف الأصلي من أن يجتاحك قطيع من المهاجرين البرابرة. وربما هو جزئيا نتيجة الذنب - معظم الأمم التي تقبل اللاجئين هي غالبا مضطرة أخلاقيا لذلك، لأنهم أكثر ثراء والاقتصاد مستقر بعد نهب خيرات بقية الأمم عبر التاريخ. أو أحيانا لأنهم مسؤولون مسؤولية مباشرة عما يجري. خلق حالة انهيار الدولة يخلق معه جماعة من اللاجئين. وهذا بشكل طبيعي يولد مشاعر المهانة، وألما عاطفيا. وربما كان أعمق أشكال الخوف موجودا في جسد لاجئ يلتقي فيه ضعف الأمة واستقرارها حتى يحصل توازن بينهما.

بعد أن أدركت أننا حين ننظر إلى وجوه اللاجئين نحن ننظر مباشرة إلى إمكانية خاصة بنا.  ولا يوجد هناك شيء ما عدا بركة وبهاء غريبان، وكيان آلي لا يرحم، واصطدامنا به، هو ما يجعلنا بمأمن من التحول إلى لاجئين. هذا الإدراك سائل، وتلك الهوية سائلة، لذلك يمكن أن تتحقق أو تستقر، وإنكارنا لهذا، هو في قلب الوضع البشري. نحن نخاف، وأحيانا نمقت، اللاجئين، لأن وجودهم هو مصدر رعبنا العميق: فنحن لم ولن ننتمي لأي مكان. وبالضد من كل الاعتراضات، أمريكا ليست فعليا أمة مهاجرين ولكنها أمة لاجئين.

صدمة، نزوح، وأمل متهور هو كل ما يحمله الأمريكيون من علامات أخذوها عن ركاب سفينة ماي فلاوير بعد وصول الجماعات المتلاحقة منهم، أو أن هذه العلامات أدخلت إلى هنا عنوة. وهذا أحيانا هو الرعب غير المعترف به والصامت، والحقيقة التي تجعل الأمريكي أمريكيا. هذا يعني أن هذه الأشباح من ماضينا عدائية، وأن هذه الأطياف المجردة من النفس والأمم السابقة لن ترحل ببساطة وستسكن في حواراتنا اليومية عن الهوية. وهي حوارات معقدة لأننا نشعر جميعا بنوستالجيا غامضة تتغلغل فينا وهمها تعريف كل أجزاء ماضينا التاريخي، ونحن ممزقون عمليا لأنه علينا أن نستوطن أي جزء من تلك المراحل الماضية. وكلمة نوستالجيا بمعناها الأصلي تحيل إلى ألم ناجم عن جرح قديم. وهذه الروح العاطفية التي ترافق غالبا النوستالجيا هي أسلول فقط لتحمل الألم حينما نتذكر الجرح. ولهذا السبب اللاجئ هو الجسد الرومنسي الذي يتحدى أكثر من سواه الحساسية الحديثة، فهو يحمل كل علامات الظل الذي دفناه أو خففنا حدته، وبنفس الوقت كل احتمالات وضعنا الحالي.

ونحن ندرك حينما نواجه اللاجئ أننا نحدق في مرآة ذكرياتنا الشخصية عن النزوح. ونتذكر الألم الناتج عن فقدانها، فهي لا تزال مقيمة في أعماقنا من الداخل، وهي تكلم معاناتنا وبالتالي تضعنا في شبكة من المصاعب القصوى: كيف نوازن عاطفتنا مع احتياجاتنا لتعريف حدود الضيافة - وكلاهما ضروري إن كان علينا مساعدة أصدقائنا النازحين حتى يستعيدوا كرامتهم مجددا.

يتعرف اللاجئ على كل أشكال الحنق والاضطراب والخوف غير الواعي. ومثله أولئك العاملون بالنيابة عن مجتمعاتهم. وتنبع هذه المشاعر من قلق تشعر بها الثقافة الأعرض والأوسع.  وهذا ليس جديدا، كما أنه ليس وقفا على أمريكا، ولكن تتفرد أمريكا بشعور الخزي والسكوت على هذه المشكلة. وإن كان علينا تحقيق أي تطور في هذا الشأن، علينا أن نتعلم كيف نعترف، وأن يكون كلامنا خارج أرض الصواب والخطأ، والأهم أن نتعلم كيف نفاوض مخاوفنا والشعور بانعدام الأمان.

***

مارك ذو الثماني سنوات، يمشي في طابور طويل من اللاجئين وهو يحملني، وهذه الصورة لا تفارقني وتخيم على علاقتنا. وحقيقة أن وزني وأنا ابن ثماني شهور ترافق مع وزن صدمة الحرب التي شردتنا، وأصبح ذلك من وجهة نظره شيئا لا يمكنه التخلي عنه ربما خشية الموت، ومعه ظهر شيء خاص به وله أهميته. أن تكون بعمر ثماني سنوات وعليك حمل أخ أصغر لعدة أميال، وأنت خائف من التعب الذي ينالك فقد يتسبب بسقوطه، وخائف من الرصاص، وخائف من الموت، وهو شيء حقيقي، لكنه غير واضح في عقل ابن الثماني، أو أنه لا يمكن تصوره. والحرب، بغض النظر عن المسافة التي تعلن عنها الأخبار والتلفزيون، نشبت فجأة وغالبا دون سابق إنذار بالنسبة للناس الذين أثرت بهم. و لا يهم كم عدد حالات الطوارئ التي تعلنها الدولة، وعدد منع التجول المفروض، وما تخبرك به الأخبار المحلية. للبشر قدرات لا محدودة لتطبيع العالم كي يعيش ويزدهر. وفي الشهور التي أفضت بنا إلى مرحلة بيافرا، تم ذبح مئات ألوف الإغبو الذين يقيمون في شمال نيجيريا خلال حملات تطهير عرقي، وتم تشويه أجسادهم وأعيدت إلى أراضي الإغبو الشرقية بشكل جثامين مبتورة الأطراف ومحزومة بعربات القطار. أضف لذلك حاول زعماء الإغبو التفاوض على السلام، وحاولوا التمسك بأمل هو البلد المولود حديثا والمسمى نيجيريا. وهكذا قاد والدي عائلتنا من مدينة إغبوغو الخاصة بالإغبو حيث كنا نعيش، وحيث كان هو عضوا سابقا في البرلمان، ولكنه في حينها كان مدير مدرسة، إلى مدينة أسلافنا وهي بلدة أفيكبو، فقد كان يعتقد أن المكان آمن ويمكننا انتظار "المشاكل" ونحن بأمان نسبي منها. ثم في أحد أوقات ما بعد الظهيرة، حينما كانت أمي تجهز الغداء، وصل أحد الأقارب وأخبرنا أنه بقي معنا نصف ساعة لنجتمع ونفر بحياتنا. وكان حزم الأمتعة في يوم عمل يحتاج لأكثر من ذلك. وغالبا أفكر بصعوبة ما جرى على الوالدة، وهي امرأة بيضاء فيرظرف حرب نيجيرية. كان عليها أن تحمل أربع أولاد، وهي حامل بولد آخر، وأن تفر على الأقدام مع طابور طويل من اللاجئين. وأن تواجه احتمال الموت المرعب كل يوم وسط واقع المجاعة والخسارات والخوف. وأن تحاول الهرب من بلد إلى آخر.  وأن تعبر عدة مئات من الأميال، مسافة تستغرق بالسيارة أربع ساعات في زمن السلم، ولكن في واقع الحرب والموت، استغرق الأمر سنتين، لأن الطريق لم يكن مستقيما على الإطلاق. فالرحلة كانت إلى مطار وحيد يعمل، وهو طريق سابق. وخلالها ولدت ابنتها في مستشفى تعرض لقصف الأعداء. ثم تركت كل أبنائها باستثناء أصغرهم وديعة عند لاجئين آخرين كي تسبق القصف وعلى أمل جمع الشمل مجددا.

احتفظت بأصغر صبي، وهو بالكاد بعمر عام، وفي ذلك المستشفى كانت القنابل تسقط عليك وأنت تحاولين الولادة. ولم يكن معك غير ممرضة خائفة وراهبة إيرلندية هادئة تشغل منصب قابلة، وهي من ساعدتك بولادة الابن على فراش قرب حلوياتها وشاي إيرل غراي. وكانت تدحرج كليهما من جناح إلى آخر لتسبق القنابل، وفعلت الممرضة نفس الشيء مع الأم. ثم كنت تقفزين من بلد إلى بلد آخر حتى يسمح لك بلدك بالدخول وبشماتة.

كل هذه الذكريات لا تفارقك. أحد أصدقائي، وهو لاجئ سابق، أخبرني أن الشعور قليلا يشبه التنقل عبر نظام دور للرعاية، أنت تشعر دائما أنك خارج أرضك، ودائما تشعر أنك عبء، ودائما تشعر أنك خارج كل شيء.

وأنا، مثل كل لاجئ، أعرف مئات القصص عن المصاعب والمخاطر واحتمال خسارة الحياة والرحلة الدائمة للشفاء. وهناك أشياء كثيرة تشعل هذه الذكريات الحلوة المرة. وبالنسبة لي رائحة شاي إيرل غراي قوية جدا. يتخللها راحة وصراع. ومعرفة مفادها أنني دائما أنفصل عن لاجئ. ولو أن الطريق متعاطف ذات يوم سوف أصل.

***

.................... 

* كريس أباني Chris Abani روائي وشاعر وكاتب مقالات وسيناريو ومسرحي. مولود في نيجيريا لأب من الإغبو وأم إنكليزية. ترعرع في أفيكبو النيجيرية، وتلقى إجازة في الأدب الإنكليزي من جامعة إمو الحكومية، والماجستير في الأدب والجنوسة والثقافة من كلية بيركبيك في جامعة لندن. ثم الدكتوراة في الأدب والكتابة من جامعة جنوب كاليفورنيا. استقر في الولايات المتحدة منذ عام 2001. من أهم أعماله السردية: "التاريخ السري للاس فيغاس"، و"أغنية من أجل الليل". من أشعاره مجموعة "سانتيفيكوم"و"لا يوجد أسماء للأحمر". أباني صوت دولي في مسائل الإنسانوية، والفن، والأخلاق، والمسؤولية المشتركة في السياسة. وهو أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة نورث وستيرن وعضو مقرر في لجنة الجامعة.

 

 

بقلم: إيفا سيمز

ترجمة: صالح الرزوق

***

منذ عام 2005 أجريت أنا وطلابي بحثا عن المجتمع المحلي. وكان همنا ترميم الفضاءات الطبيعية التي تعرضت للتدهور بسبب الصناعة وذلك في الأحياء الداخلية من بيتسبوراة. وقد قدمنا العون لإنشاء حديقة إيميرالد فيو، ويعود الفضل بها لمبادرة من سكان المنطقة. ثم تبنت مؤسسة تطوير المجتمعات المحلية CDC تطوير ورعاية 275 موقعا من سفوح مرتفعات تغطيها الغابات في جبل واشنطن، وهي محلة مجاورة لوسط بيتسبوراة. وقد سهلت معظم بحوثنا عقد حوار حول دور الحديقة والاهتمام بها وإجراء مسوحات ومقابلات عن تاريخها الشفهي. كما أننا طورنا أساليب للتعامل مع المتشردين سكان الحديقة، وخوف المجتمع المحلي من "النشاطات المشبوهة في الغابات" كما قال أحد السكان. وخلال السنوات الستة السابقة، نظف أكثر من ألف متطوع ما يزيد على 80 طنا من النفايات من 275 موقعا تقع ضمن غابات المنطقة المأهولة. وهناك رأيت سيارات وثلاجات وأسرة ذات نوابض لحق بها الصدأ. أما في السهول والأماكن المفتوحة رأيت إطارات مطاطية ودمى من البلاستيك وأكياس نايلون وعبوات زجاجية فارغة وأحجار سيراميك وإطارات من الفينيل أو الألومنيوم وعلاقات سقوف وأنابيب لدنة وأشكالا أخرى مختلفة من مخلفات المقاولين. جدير بالذكر أن 80 طنا من النفايات يعادل 173.396.81 رطلا.

النفايات ظاهرة تدل بشكلها الفيزيائي المنظور على فائض من الآخر، وعلى أحداث ومعان غير مرئية لها علاقة بها. وغني عن الذكر أنها شيء أبعد مما تراه العين. فهي "نظام مرجعي" (هوسيرل 2001. ص41) يدل على شبكة عريضة من الدلالات ويندرج بها المظهر البسيط للنفايات مع الطبيعة، وحالما نبدأ التفكير بالنفايات على أنها نظام مرجعي، تبرز أمامنا أسئلة استاطيقية واجتماعية ونفسية.

يمكن التعرف على معظم أنواع النفايات، في مكانها على الأرض، وفي الغابات، فورا: فهي تتكون من أشياء صنعها البشر، ولا تتحلل بدورة من عدة سنوات محدودة، وتشكل مخاطر محتملة على الحياة البرية، وهي دميمة بشكل واضح. وبالعادة تتعامل معها الطبيعة على فترة عقود فتصدأ أو تغطيها بأوراق متعفنة وقاذورات حتى تغوص في باطن الأرض، ومعظم من يحب القيام بنزهات في الغابات يستفزه أن يرى ثلاجة صدئة بأبواب مفتوحة تقاطع هدوء وجمال المنظر الطبيعي. ماذا يقلقنا من النفايات؟. ولماذا تعتدي على إحساسنا الجمالي وتحفز أكثر من 1000 متطوع يشعرون بالرغبة للمجيء إلى الغابات وجر هذه الأشياء إلى حدائق المنطقة، حيث يمكن تجميعها وحملها بشاحنات شركة تنظيف المدينة؟ والأهم: ما هو مفهوم سكان المدينة عن الطبيعة والذي يهيب بهم لتنظيف الفضاء الطبيعي؟.

أتذكر أول مرة رأيت فيها كومة هائلة من النفايات في الغابة منذ عدة سنوات مضت. في يوم خريفي رقيق وملون كنا نمتطي جيادنا ونعبر من ساحة السباق في بلدية إنديانا التابعة لبنسلفانيا. وكانت مشاعري منسجمة ومشحوذة وتفكيري ينصب على حصاني. وحالما واجهنا أول منعطف على الطريق، جفل الحصان إلى الخلف وتقريبا أغلق عينيه. ومباشرة رأيت في عرض الطريق أكياسا بيضاء مملوءة بالنفايات، كان رد فعل الحصان فوريا: فالأكياس البيض المليئة دخيلة على نظام الطبيعة واستفزت مشاعره، وتأهبت كل عضلاته للجري السريع. ولم يهدئه غير أساليب التسكين المعتادة: اللمسات اللطيفة على أطراف بدنه القوي، ومحاولات تشجيعه ليلتف من حول أكياس النفايات بدورة لها شكل قوس واسع. وبعد أقل من دقيقة عاود جريه.

النفايات مقلقة فعلا. والأكياس البيض المحشوة بها لم يكن مصدرها هذا المكان. إنها لا تنتمي له. ومن الواضح أنها لم تجد في المشهد الطبيعي موطنها المناسب. جذع شجرة انهار حديثا يسبب القلق أيضا لمخلوقات اعتادت على الحياة الطبيعية. ولكنه سرعان ما يتحلل ويندمج بالغطاء الأخضر ثم الأرض. ويعود من حيث جاء. وهذا ينطبق أيضا على الحيوانات النافقة في الغابة: فهي بدورها أزعجت حصاني، ولكن بعد عدة أسابيع كانت تدخل بالبيئة المحيطة ونمر من جانبها دون أن نلاحظها. ولكن ليس هذا حال أكياس النفايات. فهي لعدة سنوات تخفق وتخشخش بزوائدها البلاستيكية البيض. كما أنها لا تتحلل وتعود من حيث جاءت. وتواصل بقاءها كذكرى دائمة عن دور البشر في مقاطعة المشاهد الطبيعية المستمرة وتلوثها بأشياء هي من صنع الإنسان.

النفايات، من زاوية نظر تكوينية، مادة لا يمكن استيعابها كلها كما هي. وهي لا تتلاشى (أو أنها تتلاشى ببطء شديد) وتدخل في الخلفية وتقاطع توازن المشهد الكلي. والأسوأ، وهو نموذج أوضح، أن كومة نفايات المحيط الهادئ الكبيرة والتي تغطي في بعض التقديرات مساحة من المحيط تعادل "ضعف حجم قارة الولايات المتحدة الأمريكية" (ماركس وهاودين، 2008)، وتتكون من دوامة طافية معظمها يأتي من بلاستيك الأنهار والشواطئ. وهذا البلاستيك يتفكك إلى جزيئات أصغر ويدخل في السلسلة الغذائية. وثلث فراخ القطرس في الجزر المرجانية بين اليابان وهاواي تموت لأن آباءهم يطعمونهم البلاستيك الذي يطفو من نفايات دوامة المحيط الهادئ، وطيور القطرس والسلاحف ليس لديها غريزة تميز بين ذرات البلاستيك ومصادر الإطعام الأخرى - ولهذه المشكلة عواقب كارثية على هذه الأنواع.

الدرس الذي تعلمته من حصاني ومن فراخ القطرس عن النفايات أن البقايا الصناعية تحرف حقل جهاز الإدراك وجهاز الهضم في الكائنات الحية لأنها لا يمكن أن تندمج عضويا بالحياة ودورة التحلل في العالم الطبيعي. وهي إما تبقى مكانها في المشهد الطبيعي كاحتقان مؤلم في وعينا (مثل الثلاجة الصدئة) أو أنها تتحلل بطرق تحويلية تعمل على تسميم السلسة الغذائية (مثل المبردات التي تتسرب من الثلاجة الصدئة وتلوث الماء الأرضي).

***

...................

إيفا سيمز Eva -Maria Simms: أستاذة في قسم العلوم النفسية، جامعة ديوكسن، بيتسبوراة، الولايات المتحدة.

عن كتاب: علم النفس البيئي، الفينومينولوجيا، والبيئة. إعداد د. فاكوش، ف. كاستريلون. ص 237-250

قصة: ميرديث سو ويلس

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

فيما عدا الخصيان، رجل واحد فقط أتى بستان النساء والفتيات، كان ذلك الرجل هو كبير الوزراء. وعندما أتى غطت كل واحدة وجهها فيما عداى وأختى شهرزاد، لأنه كان أبانا، وكانت أمنا زوجته الوحيدة.

عندما نضع رؤسنا على الوسائد فى الليل اعتادت شهرزاد أن تقول أنها سئمت البستان وتتحرق لحدوث شيء ما لنا. مثل هجوم عدو يمنحنا الفرصة لإنقاذ المملكة حتى لو كلفنا ذلك حياتنا أو شرفنا، ومن جانبى اعتدت أن أبحث عن القصص فى الكتب وأقرأها بصوت مرتفع لشهرزاد، فتجعلنى أقرأها ثانية حتى تستطيع أن تحفظ تلك القصص، ثم تحكيها بعد ذلك إلى الأطفال الصغار والفتيات الكبيرات وبالطبع إلى النساء.

هناك الكثير من الأشياء فى القصص فى العالم الخارجى لا يفترض أن نعرفها أو نعملها، لكننا عرفنا وفعلنا، أحيانا نزحف تحت الأشجار ونتسلق تكعيبات العنب ونلقي بالأشياء من فوق الحائط على بستان الصبيان، وأحيانا أخرى تتسلل أشجعنا إلى خارج البستان وتستكشف ردهات القصر القريبة.

فتاة تدعى أمينة ذات نهدين بارزين قالت:

- ستتزوجين قريبا يا شهرزاد، وستكون أول مغامراتك فى سرير زوجك.

صرخت:

- قولى لها لن يكون ذلك يا شهرزاد، قولى لها سيكون لدينا مغامرات وسنقوم بأعمال نبيلة.

قالت شهرزاد:

- دعك منها.

ثم أضافت فى ثقة:

- فقط كونى مستعدة فى أية لحظة لإنقاذ المملكة.

فغر فم أمينة الكبير بالضحك، لكن سيأتى الوقت الذى تبكى فيه بدلا من الضحك.

ذات يوم حار وخاص سمعنا الأمهات يتهامسن عن مشكلة جديدة، يبدو أن الملكة خانت الملك العظيم (حفظه الله) فى فراشه ولذلك أصبح شديد الغضب والثورة، لذلك اقتص لشرفه وقتل الملكة المسيئة وكل وصيفاتها ثم قتل بعض النساء السيئات غير المتزوجات اللائى يرقصن ويغنين للغرباء من الرجال. يتزوجهن الملك العظيم (حفظه الله ورعاه) فى الليل ثم يقتلهن فى الصباح.

قالت أمينة:

- بفعل الملك هذا من المستحيل أن تحتفل فتاة بليلة زفافها. كيف تحتفلين بزفافك وهناك كل يوم جنازة؟

قلت:

- ومن يهتم؟ من يهتم بالزفاف؟

قالت شهرزاد:

- إذا ارتكبت زوجتى جريمة الزنا سأربطها على غصن شجرة شائك وأخرج أحشائها.

قالت أمينة:

- من الأفضل أن تكونى رحيمة يا شهرزاد وإلا لن تجدى من يرضى بك زوجا.

بعد ذلك بيوم واحد وصلت رسالة لامرأة فى البستان فأخذت فى الصراخ وتمزيق ملابسها، لقد طلبت أختها للزواج من الملك، وفى صباح اليوم التالى غاب عن البستان ثلاث فتيات اعتقدن فى البدء أنهن قد قتلن أيضا، لكننا سمعنا بعد ذلك أن أهلهن أخفينهن بعيدا. بدأت النظرات الغريبة والعدائية تلاحقنى أنا وشهرزاد لأن الوزير الأول – أبانا – هو المكلف بإحضار النساء للملك المعظم (حفظه الله ورعاه) فى تللك الليلة تحدثت مع شهرزاد، قلت:

- من الأفضل للمملكة التخلص من كل النسوة الشريرات.صح؟

فقالت:

- من النبل عقاب الشر ولكنه يقتل الأخيار أيضا.

- إذا قتلهم الملك العظيم ؛ فهذا ولابد لأنهم أشرار.

- نبيل وحق أن نكسر الشر والملك مريض بالشر

صرخت:

- هسسسسسسسسسس  للحيطان آذان.

عند ذلك سحبت شهرزاد من تحت وسادتها سكينا ذات مقبض من نفس معدن النصل وقالت لى أنها تخفيها فى ملابسها وتنام بها ليلا، فشرعت فى البكاء، فقالت:

- لا تبكى يا صغيرتى دنيازاد هذه السكين سحرية، تستعمل فقط لقتل الشيطان.

قلت:

- احكى لى قصة حتى أستطيع النوم.

حكت واحدة من القصص التى وجدتها أنا لها عن فتاة جريئة تذهب إلى عالم الجن لكى تنقذ أباها.

فى تلك الليلة جاءنى كابوس، شيطان يطاردنى وأن هذا الشيطان تحول إلى أبى، وبدلاً من المجوهرات على مقبض سيفه الأحدب رأيت وجوه فتيات أعرفها.

فى تلك الأثناء كانت الفتيات تقل وتقل فى البستان. إحدى الأمهات قالت لنا أن ابنتها ماتت متأئرة بالحمى ليلاً، ولكن لم يكن هناك بكاء ونواح، لذلك تأكدت أن الفتاة أختفت فى زلعة مثل الأربعين حرامى فى قصة على بابا.

قلت لشهرزاد:

- لا بد أن نفكر فى طريقة ما للاختفاء. يمكن أن نتنكر فى زى صبيين ونخرج إلى الدنيا الواسعة.

قالت شهرذاد:

- لا بد أن نفكر فى طريقة نقهر بها الشر.

وفى اليوم التالى لم يكن فى البستان سواى أنا وشهرزاد وأمينة.

وبعد ذلك بيوم واحد حضر أبى - ولم نكن قد رأيناه من عدة أسابيع – وهو يرتدى ملابسه الجميلة كالعادة وبكل المجوهرات والحلى المنقوشة على مقبض سيفه إلا أن وجهه كان مستطيلاً وعابساً، وخطواته غير واثقة، طلبت أمنا الشراب والمراوح لصد حرارة الجوف والجو فى تلك الظهيرة المتأخرة، لكنه رفض كل شىء. جلس فى المظلة وعندما أرادت أمى أن تبدأ بالحديث أشاح بيديه لأن تسكت. وأخيراً تحدث هو فقال أنه يريد الكلام مع والدة أمينة. وعلى الجانب الآخر من البستان بدأت أمينة فى الصراخ والنواح فصرخ فيها أبى فأتت وهى تمزق ملابسها وتندب وتعدد:

- إنه لشرف عظيم أن تتزوج كريمتكم الملك العظيم حفظه الله ورعاه.

بكت الأم:

- أمينة مخطوبة.

- لقد طلب الملك المعظم فتاة عذراء من أسرة عظيمة عظيمة.

صرخت الأم هذه المرة:

- لا.

فأحنى أبى رأسه وتغير لون عينيه وهو يقول:

- ستذهب إلى الملك العظيم الليلة.

عند ذلك بكت أمينة وولولت هى الآخرى. فقال أبى وهو يغطى وجهه بكلتا يديه:

- لقد أرسلت لكى أقول لك أن تجهزيها لأجل زفافها للملك المعظم حفظه لله ورعاه.

عوت أمينة وأمها، وانكبت أمى تصلى من أجل إنقاذ أمينة، ومن ناحية أخرى ولول العبيد والخدم جميعا فى البستان وأخذوا يلطمون وجوههم وصدروهم بالأيدى، وكانت ضجة عظيمة. لم يسكتها غير تقدم شهرزاد وقولها:

- أيها الوزير العظيم؟

ثم أضافت:

- أيها الوزير العظيم، زوج أمى، وأبو أختى وأبى، اسمع يا أبى.

تقدمت أكثر لتقبل يده، ولكنه أبعد يده وهو يقول:

- ليست تلك اليد.

فقالت شهرزاد:

- ليس أنت من يقتل الفتيات يا أبى. إنه قلب الملك العظيم حفظه الله. إنه شخص مريض.

الكل شهق ولكننى شهقت أكثر عندما قالت:

- سأذهب بدلا من أمينة، سأذهب وأعالج الملك.

- اسكتى.

صرخ الوزير الأول، ثم أضاف:

- أنت فتاة صغيرة وجاهلة.

وصرخت أمى:

- أنت فتاة جاهلة صغيرة يا شهرزاد.

قالت شهرزاد:

سأذهب إلى الملك.

صاحت أمينة:

- دعها تذهب. إنها تريد أن تذهب.

التوى وجه الوزير بالغضب وقال بصوت أجش:

- اسمعى هذه القصة، أيتها الفتاة الحمقاء الجاهلة.

حكى قصة عن حيوانات تستطيع أن تتكلم وتقع فى مشكلة لكونها ماهرة جدا، ثم حكى قصة أخرى عن رجل استطاع أن يفهم الحيوانات عدا النساء، وفى النهاية ضرب الرجل زوجته واستطاع أن يفهمها أيضا.

عندما انتهى قالت شهرزاد:

- سأذهب إلى الملك.

قال أبى قصة أخرى مع ذلك عن العقاب والموت، وعندما توقف هذه المرة قالت شهرزاد أنها تريد أن تذهب إلى الملك فصرخ قائلا:

- لا لن تذهبى، أنا الذى أقول من يذهب إلى الملك.

بدأت الضجة تعلو من جديد، وشوح الوزير الأول بيده وفارق المكان، ولكنه ترك الجنود فى بستاننا، فى المكان الذى لا يتواجد فيه رجال لكى يمنعن أمينة من الهرب. فى أثناء تلك الضجة لا أحد يهتم بشهرزاد أوبي، فقالت:

- إنها فرصتنا لإنقاذ المملكة.

قلت:

- لا ينبغى أن نفعل يا شهرزاد. سوف يحمينا والدنا.

لمست منطقة وسطها حيث تخبئ السكين وقالت:

- أريد مساعدتك.

قلت:

- لدى فكرة جيدة للمغامرة، يمكن أن نهرب بعيدا ونختبئ فى الأقبية.

ولأن شهرزاد لا تريد أن تسمع إلا ما تريده قالت:

ـنحن ذاهبتان لإنقاذ المملكة، وستكون هذه مغامرتنا، تلك المغامرة التى منحها الله لنا.

قلت:

- لا.

فقالت لابد أن نغادر على الفور وهكذا بينما كل شخص يندب ويبكى، تسللت شهرزاد من البستان إلى الردهة الطويلة فى القصر الكبير، تسللت أنا أيضا، فقط لكى أرى الاتجاه الذى تسير فيه، إنه كان الظلال داخل الممرات وليس هناك كثير من الناس، اختفت خلف بير السلم، وتبعتها من على مسافة قصيرة، ثم اختفيت وراء عمود أينما مشت، تبعتها فقط على بعد خطوات قليلة وراءها. وسرعان ما ابتعدنا عن المكان الذى جئنا منه. رأتنى وانا أتبعها، وعرفت انها رأتنى، ولكن الوقت طويل. قلت لنفسى لابد أن أرجع بعد لجظة أخافتنى الردهات الخالية، لذلك لحقت بها فحضنتنى وقالت لى أننى أكثر شجاعة منها، لأننى أكبر خوفا. وهذا هو الشىء الآخر عن شهرزاد، وهو أن تهيئك لكى تفعل ما تريد أن تفعله.

كان هناك قلة من الناس لذلك بعد لحظة توقفت واختفينا ثم مشينا بجرأة داخل الدهليز. قالت لى شهرزاد أنها ستعالج الملك من جنونه بقصصها. وأن عملى سيكون أن أثنى على قدرتها على القص حتى تلفت نظر وانتباه الملك.

كنت مثل شخص فى حلم، قلت:

- هل يوما سوف يحكون قصة شهرزاد ودنيا زاد؟

- يوما ما، سيكون كل شيء قصة وكل القصص ستصبح حقيقة.

عرفنا أننا بالقرب من حجرة الملك عندما رأينا المماليك فى المدخل، وكانوا اطول رجال فى الدنيا، وقد جاءوا من أركان الدنيا الأربعة.

صحنا أنا وشهرزاد بقدر ما نستطيع:

- افتح طريق.. وسع طريق لابنتى الوزير الأول، نحن ذاهبتان إلى الملك الليلة.

مررنا بصالة وراء أخرى، وفى الأخير وصلنا إلى مدخل كبير مقوس محروس بأكبر مملوكين واحد فى بياض الثلج قادم من الشمال، والثانى كالعقيق الأسود قادم من الجنوب

قالت شهرزاد:

- نحن ذاهبتان إلى الملك الليلة. لقد استدعينا للتخفيف عن متاعبه بقراءة القصص عليه.

عندئذ جاءت اللحظة التى أدركت فيها أن هذه ليست هى القصة التى عشتها فى حلم شهرزاد الذى صار كابوسا لا يمكن التراجع عنه. لكن بعد لحظة بدأ الفزع يتسرب إلى داخلى. وكانت هناك جلبة وصياح فى داخل الحجرة، وكدنا أن ندفع تقريبا ونحن نحس أن جمعا من الخدم ومعه أطباق كبيرة من الطعام المسكوب والزجاجات المكسورة.فى الداخل تحولت الصيحات إلى زئير، من فزعى تعلقت بملابس شهرزاد من الخلف.

خطت فوق الصنية الساقطة، وفوق عتبة باب حجرته، حاولت أن أظل خلفها، حيث أستطيع أن أرى. كانت الحجرة عالية ومظلمة بمنضدة واسعة واطئة، وكثير من الطعام المسكوب والزجاجات والأطباق المكسورة، ثمة رائحة سيئة هناك، إنها رائحة رجل فى سرير يحتاج إلى نظافة.

كان راقدا فى سريره وكأنه يريد أن ينام لا أن يصحو. فقط وجهه وإحدى ذراعيه الذى برز من تحت الأغطية. كل شيء حوله بدا كثيفًا ومنتفخا، أنفه ضخم وشفتاه غليظتان، إحدى عينيه حولاء والأخرى تحدق بنظرة ثابتة.ارتفعت رأسه الضخمة عندما لاحظ وجودنا، فتحول من جانب إلى آخر مثل دمية كبيرة. ماذا؟ ماذا؟ قال ذلك ثم نهض على مرفقه وقال:

- فتاة صغيرة، فتاة صغيرة وظلها. فتاتان صغيرتان.

قالت شهرزاد ذلك بصوت عال وحاد:

- لقد حضرنا بدلا من أمينة.

- من؟

- أمينة، الفتاة التى كان من المفترض أن تأتى هنا الليلة.

قال الملك:

- فتاة ؛ لا فتيات. فقط نساء..

مد إلى الأمام يدا ضحمة، مغطاة كلها بخواتم من اليقوت الأحمر وأزاح الكثير من الأطباق والطعام من فوق المنضدة، فاصطدمت كلها بالأرض. ثم صاح:

- اذهبا بعيدا. أين عشائى.

أسرع الخدم عائدية.

- لقد أبعد طعامك أيها الملك العظيم حفظه الله ورعاه.

ارتفع الملك عن أغطيته، صدره العارى أسود مشعر، ووجه الضخم يتلوى بالغضب، فى عينى صار أضخم وأضخم، ثم انكمش وتضخم ثانية. شعرت بالظلام يلفنى، لكن للحظة كان لدى القوة لأفعل ما طلبته منى شهرزاد.صرخت:

- رجاء أيها الملك، استمع إلى أختى شهرزاد. لقد حضرت أختى لتحكي لكم قصصا بديعة، رجاء استمع إلى قصتها. ستحكى لكم أفضل القصص فى الدنيا بأسرها.

وعندئذ سمح لشهرزاد بالدخول، وشعرت بنفسى أنام، غارقة فى الأرض، دارت الغرفة كلها من حولى، والشيء التالى الذى عرفته، أننى كنت راقدة على الأرض ووجهى بجوار حب الرمان. غادر الخدم، وامتلأ الجو بصوت أختى. كانت القصة عن الشيطان الذى أراد قتل رجل لأنه رمى عليه نوى التمر.

لم أدرك فى البداية، لكنها كانت بالتحديد القصة ذات نوى التمر وأيضا كان النوى بجوارى على الأرض مع حب الرمان.

جلست شهرزاد بجوار الملك فى السرير ويدها مفرودة برشاقة على صدرها، من حين لآخر يزوم الملك. استمرت القصة واستمرت. أحيانا كنت أستيقظ وأحيانا كنت أنام، ولكنى لم أفقد أبدا أثر القصة، انتهى الليل وظهر الفجر من خلال الستائر حولنا.

قالت شهرزاد:

- ذلك كل ما أستطيع أن أحكيه الآن.

قال الملك:

- أكمليها.

قالت شهرزاد:

- يمكن أن أنتهى منها فى وقت آخر إذا أردت.

قلت أنا:

- سوف تنهى هذه القصة. وتحكى واحدة أخرى أجمل منها.

زام الملك:

- تعودان الليلة لدى عمل، لم أشعر بتحسن مؤخرا. اذهبى الآن يا فتاة وخذى أختك الظل معك. لكن عودى الليلة وإلا سأغضب جدا. أعتقد لربما أحتاجك كل ليلة.

كان صوتا تقريبا كما لو كان يهزأ. لقد أعطانى لقبا كما اعتاد أبى أن يفعل معنا.

تثاءب وأشار إلينا بالخروج وهو يقول:

- لا تنسيا. عودا الليلة وإلا سأغضب.

بينما خطونا عبر الأبواب الضخمة والدهاليز المغطاة فى الخارج والملئية بالناس. كان أبى هناك بملابسه الممزقة وأمنا ذات الوجه نصف المغطى. العديد من المماليك والخصيان أكثر مما توقعت. أمينة وكل عائلتها يرتدون أفضل ثيابهم والخدم نائمون فوق الأرض. من الداخل كان الملك يصيح من أجل الطعام، ومن أجل حمامه و من أجل كاتبه. كان يريد أن يصدر مرسوما ملكيا، يريد أن يراجع كتائب الجيش. أين الوزير الأول؟

قال أبى وهو يركض نحو الباب:

- أنتما على قيد الحياة؟ كلاكما؟

كانت شهرزاد متعبة جدا لذلك أومات فقط. أما أنا فقلت:

- عليها أن تعود الليلة لكى تكمل القصة.

تمهل الوزير الأول، وقال:

- أهى تلك عن التاجر الذي ضرب زوجته بالعصى؟

قلت:

- لا. إنها تلك التى عن الشيطان ونوى التمر.

عانقتنا أمى، وجعلت الخدم يحملاننا إلى المنزل، نمنا لساعات وساعات ثم استيقظنا وأكلنا زيتونا وخبزا وفاكهة ثم أخذنا حماما وتفرجنا على اللعب والملابس الجديدة التى أرسلها الملك المعظم. قالت رسالته أنه شعر بتحسن لأول مرة منذ عام. وهو يريد أن تعود شهرزاد بكثير من القصص. إنه يريد الليلة قصصا وكل ليلة. وأن الأخت الظل لا بد أن تاتى أيضا.

عبست شهرزاد:

- لا أعتقد أننا يجب أن نذهب كل ليلة.

- هل تعتقدين أننا لن نعود مطلقا للعب فى البستان مرة أخرى؟

هزت كتفيها:

- لا أعرف.

- فى القصص تعرفين ما سوف يأتى بعد ذلك. في الحياة الواقعية، هذا لغز.

هنا بقية الحكاية عن شهرزاد ودنيازاد ؛

فى البدء كانت هناك مئات الحكايات التى تليت على الملك. فى بعض الليالى كان يسقط نائما مبكرا، وفى بعض الأحيان كان سيء المزاج ولا يحب الاستماع إلى القصص ويهدد بقتلنا، لكنه أبدا لم يفعل. صارت شهرزاد امرأة، تواصل الذهاب إلى الملك كل ليل، ومر الوقت وصار لى ولها أولاد وبنات. ولكثير من السنوات ظل الملك هادئا. والوطن سعيدا. عين الابن الأكبر لشهرزاد لولاية العهد وأحب الناس الولد. وأحبوا الملك أيضا. وبعد ذلك عاد المرض للملك ثانية، فبدأ يثور ويهدد ثانية، وأحيانا يقتل الخدم والغرباء، ثم بدأ يقول أنه يريد قتل أطفاله لأنهم يخططون للاستيلاء على الحكم.

وذات ليلة وبعد أن قصت على الملك حكاية عن رجل يحلم ويحلم أثناء أحلامه، سقط نائما. كنت أنا غافية فى الأريكة، ومثل الحلم وأقل الحلم شيءما حدث فى تلك الليلة.

يبدو أن سكينة شهرزاد السحرية قد ظهرت وضربت وأنقذت المملكة.

فى الصباح صرخت شهرزاد وأنا معها على المماليك لأن الجن جاء فى الليل وقطع رقبة الملك. وافق المماليك على أنه لا يستطيع فعل ذلك سوى الجن. وافق على ذلك الوزير الأول أبونا وأعلن الحداد فى المملكة لمدة عام.

أصبح ابن شهرزادة هو الملك الجديد (حفظه الله ورعاه)، وعندما توفي والدنا، أصبح ابني الأكبر هو الوزير الأول. لقد أتى هذا بفترة سلام كبير لمملكتنا، ووجدنا رجالا صالحين ومثقفين ليكونوا أزواجًا لبناتنا، وعلمنا جميع أطفالنا أن يكونوا بطيئين في الغضب والولاء لبعضهم البعض، وبما أن أطفالنا مخلصون، فإن أهل المملكة مخلصون، وسنعيش جميعًا في سعادة دائمة.

(تمت)

***

........................

المؤلفة: ميرديث سو ويلس Meredith Sue Willis كاتبة أميركية مولودة فى ولاية فيرجنياً عام 1946. وهى كاتبة ومعلمة لها العديد من الأعمال الروائية والقصصية والكتابة الإبداعية عن فن القصة القصيرة وفن الرواية. من أشهر أعمالها فى القصة القصيرة:

(فى جبال أمريكا ـ 1992)، (منزل ديوات وقصص أخرى ـ 2002) (والقصة المترجمة هنا منشورة فى مجلة (the pedestal) العدد رقم 27 لسنة 2005).

قصة: ليزا ثورنتون

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

أؤخر زياراته لآخر اليوم حتى يتمكنوا من العمل وقت إضافيا. يهتف العمال عندما يرونني لأنه لا يحب الجميع ويسبهم أحيانًا ويحاول طعن أيديهم بسكين الزبدة.

يقول:هل أنت فتاتى؟ وينظر إلي وكأنني ملكة جمال أمريكا.

لا، أنا ممرضتك، وأضع سماعتى الطبية على صدره لأريه، وألف شريط ضغط الدم حول ذراعه النحيفة.

يومىء برأسه ويقول إنه كبير جدًا بالنسبة لي على أي حال. ثم ينظر إلى مرة أخرى.ويقول: هل أنت فتاتى؟

نقوم بتلوين الصور باستخدام أقلام التلوين على الطاولة في عيد الميلاد، ثمة سيدة على كرسي متحرك يسيل لعابها بجانبنا. يغطي فمه بيده وهو يميل ويهمس لى، انظرى إليها، إنها من دار لرعاية المسنين.

*

في المرة الأولى التي قابلته فيها كان يرقد في السرير ويحدق في الحائط. لا يرد على اسمه،عيناه كابيتان ومخططتان بالجيل. لذا أشغل أغنية "حلقة النار" لجوني كاش، وأمسك بهاتفي وأضعه على أذنه لأنه كان في الأربعينيات من عمره في الستينيات، لذا لا بد أنه يعرف ذلك، على ما أعتقد.

عندما تندفع أصوات الأبواق، تتحول عيناه، عائدتين إلى الغرفة، و الحاجز ذى الستارة والخزانة الخشبية الرخيصة. النافذة المطلة على الحقول والثلج بالخارج.

*

سأرى يسوع، أخبرني بمجرد تسجيل أصوات رئتيه وأبعاد الجرح. لكنه يقول إنه قلق من أن أسرته لا تريده هناك.

أجبته أن الجنة مفتوحة للجميع، وتخيلينا شجرة كبيرة يجلس تحتها والداه يناديان اسمه وعندما يصل سينهضان فى نشاط للترحيب به.

يقول: لا أعرف، وهو يتامل يديه المشدودتين. ثم يضيف: لا أعرف.

أتخيله شابًا، يرتدي قميصًا أحمر من الفانيلا وبنطلون جينز أزرق بحزام جلدي، مثل كان يرتدي أصدقائي في المدرسة الثانوية، وكما كان يرتدي أبى عندما اصطحبنا جميعًا للتنزه خارج المنزل. يسير في الشارع الرئيسي في المدينة، يتقاطر المتسوقون داخل وخارج متجر الأجهزة، المطعم مليء بالسكان المحليين الذين يصطدمون ببعضهم البعض في طريقهم إلى الموائد. يستقر لتناول الجعة في الحانة، ورفاقه يقذفون بالنظرات الحادة على بعد أمتار قليلة. يأخذني في جولة بشاحنته الحمراء، الشاحنة التي يشعر بالقلق الشديد حيالها دائمًا. نذهب للرقص.

أو يضربها. الزوجة التى في الجناح المجاور تصرخ كلما رأته. من ينسى أنه يعيش هنا ويترك الأمر على هذا النحو. خلع الحزام الجلدي وضربها به مرارًا وتكرارًا.

*

هذا مكان بين بين، هكذا قال لي من كرسيه المتحرك في ظهيرة أحد الأيام عندما كان يتعرف اسمه.

يشير إلى الكراسي المتحركة الأخرى الموجهة إلى التلفزيون، ومنضدة البطاقات، والنوافذ، وهي متنائرة فى جميع الاتجاهات مثل كرات البلياردو بعد الاستراحة. يقول إننا لسنا أحياء ولا أموات هنا.

أقضي أيامي في مساعدة الآخرين على الموت حتى يحين دورهم، ونجلس بجانب النافذة. أقول لزوجي أنني وقعت في حب مريضي. أم أنه مجرد غموضه الذى أحبه؟ يبتسم زوجي دون أن يعلق.

*

هل تريدين أن تأتي؟ سألنى ذات يوم ونحن نجلس بجانب النافذة. سنكون طائرين ونطير فوق هذا الحقل والنهر.

لدي عائلة، أذكره. أنا أم، علي أن أبقى. نعم، أومأ برأسه متذكرًا، على أي حال أنا بالنسبة لك عجوز جدًا.

سيدفنوه في مقبرة صغيرة في ساحلبحر فول الصويا. يقول نظام تحديد المواقع العالمي (جى بى إس) أمامى إننى فى طريقى إلى هناك ولكنى أشك، لذلك أتوقف عند مزرعة وأسأل عن الاتجاهات.

هل أنت قريب له ؟ يستهجن الرجل. أجبت أنني كنت ممرضته، وأنا أتذكر الشتائم وسكاكين الزبدة. والزوجة.

وضعوه في صندوق تعلوه أزهار حمراء و حفنة من الأقارب الحقيقيين حوله. الغطاء ضخم بمفصلات ضخمة مطلية بالفضية. لا يمكنني الوصول إليه لوضع الكريم على ذراعيه أو ضمادة عليهما، أو إحضار شراب الماونتن ديو له أو اختيار لحن نسمعه معا.

لا توجد شجرة في الأفق. تهب الرياح فوق سقف الخيمة القماشية التي نتجمع تحتها جميعًا، فتبدو مشدودة.

يقرأ قسيس من الكتاب المقدس. قاموا بإنزال الصندوق في القبر بسلاسل معدنية سميكة بينما الطيور تنهض من الحقول مثنى وثلاث.

(تمت)

***

..............................

* المؤلفة: ليزا ثورنتون تعيش ليزا ثورنتون في إلينوي مع زوجها وابنها. حصلت على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة ولاية كولورادو وبكالوريوس العلوم في التمريض من جامعة لويزيانا في لافاييت.

 

قائمة غير مكتملة بالأشياء القادرة على ادارة البلاد افضل من الحكومة الحالية

بقلم: براين بيلستن:

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

قائمة غير مكتملة بالأشياء القادرة على ادارة البلاد افضل من الحكومة الحالية

مربط حبال السفينة. كشتبان. حبيبات مرق اللحم.

مضخة تفريغ جوف المركب. ريشة العازف. مجلة بوكيمون.

قبضة باب. عصفور. ابريق عتيق صدئ.

مغطس اقدام. مشبك ملابس. لطخة نبيذ. حصاة.

حمالة ملاعق خزفية.  قرص نعناع بالفاكهة.

منديل ورقي مرمي. بركة آسنة. ضمادة.

خرطوش حبر طابعة مستعمل. بضع جوارب عليها نقوش آلات موسيقية.

كوم طين. ثعلب محنط مذعور.

حذاء مطاطي. صمولة مجنحة. طقم اسنان مزيفة.

ساعة جدارية غير مألوفة عليها وجه (برو ليث).

خنفساء. كثيب جليدي. قطعة سلك قصيرة.

علبة فطائر الذرة بالجبنة. أصيص. معظم الأشياء.

***

.................

* عرف الشاعر براين بيلستن خلال السنوات القليلة الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما بوصفه صوتا شعريا متميزا حتى أطلق عليه لقب (أمير شعراء تويتر) على الرغم من كونه شخصية يلفها الغموض ولا يعرف عنه الا النزر اليسير. ظهرت له أول مجموعة شعرية مطبوعة بعنوان (استقللتَ الحافلة الأخيرة الى الديار) في عام 2016 ورواية بعنوان (يوميات احدهم) في العام الحالي. يواظب بيلستن على نشر قصائده على مواقع التواصل على نحو شبه يومي. (ملاحظة: يشير "برو ليث،" الاسم الوارد في القصيدة، الى مالكة سلسلة مطاعم واذاعية ومؤلفة كتب طبخ جنوبافريقية شهيرة.)

 

 

 بقلم: دافيد قسطنطين

ترجمة صالح الرزوق

***

رن الهاتف.

قال: سأرد عليه.

بالعادة يترك الهاتف لها، ولكن كانا بمكان واحد، وأراد أن يتصرف بشكل لائق. بقيت هي عند الطاولة. فكرت: هذا يتكرر مؤخرا. آه، حسنا. وماذا في ذلك؟.

عاد. قال: إنه لك.

- من؟

هز كتفيه وقال: رجل ما.

وحينما عادت كان قد نظف الطاولة، وغسل الأطباق، وبدأ بغسل الفاصولياء - فاصوليائه - الموجودة في آخر الحديقة. وقفت عند خزان الماء، تراقبه وتحاول أن تفهم المكالمة. كانت أمسية صيفية طويلة، العصافير تزقزق، وكل شيء في الحديقة على أتم ما يرام. ولكن لم يكن بوسعها أن تؤكد، أو توقعت أنها غير متأكدة، وهل هو يروي الفاصولياء حقا مثلما نظف الأطباق: لتكون محقة دون تحير. وكان بإمكانها تقريبا أن تسمع الصوت الذي في رأسه، اللحن المتفجع. ولكن بضوء الظروف الحالية لا تجد سببا يدفعها للحزن عليه، أو عليها أيضا. ولكنها لم ترغب أن يستمر حتى يخيم الليل ويحين وقت النوم. تقدمت في الحديقة، ووقفت قرب الفاصولياء، التي استطالت وأزهرت ورودها القرمزية. شمت رائحة التراب المبلول. استدار وعاد من خزان الماء ومعه علبة ممتلئة. قالت: جيد. ولكنه لم يحرك رأسه. ورأت أن العمل، الذي يحب، يتملكه. بعد أن أفرغ العلبة قال: أحتاج لعلبة أخرى. وقفت تراقبه، وتفكر بالمكالمة، وحينما انتهى من الأخدود قال من فوق كتفه: من كان؟.

ردت: رجل ما. قال إنه تعرف علي قبل عشرين عاما في أيام الدراسة.

أفلت الزوج العلبة الفارغة ونظر إليها متسائلا.

قال: أي دراسة؟

-درس انت أهديته لي في عيد ميلادي، درس الشعر في منطقة البحيرات. قلت إنني سأسقط في الحفرة إن لم أتبع الحصص الدراسية عن كتابة الشعر في منطقة البحيرات. وكل رفيقاتي قلن إنها هدية رائعة.

قال الزوج: آه، تلك الحصة. والرجل الذي كلمك للتو كان معك، أليس كذلك؟

- حسنا. ادعى ذلك. ولكن لم أكن بعمر يمكنني من تذكره. قلت له ربما كنت معه، ولكن تلك كانت كذبة.

- لكنه يتذكرك جيدا، بما يكفي ليكلمك بعد عشرين عاما.

- لأكون صادقة تماما، أنا لست متأكدة أنه يتذكرني، ليس أنا، إن كنت تفهم ما أقصد.

قال إنه يفهمها، ولكنني لست متيقنا.

واستدار الزوج ليعيد العلبة إلى قرب خزان الماء حيث يجب أن تكون. راقبته، وهي تفكر بالرجل الذي كلمها، وليس بزوجها وأسئلته.

عاد وسألها: هل لهذا الرجل اسم؟.

ردت: نعم. له اسم. قال اسمه ألان إيغليستون. ولكن لا أتذكر أحدا بهذا الاسم من أيام حصة الشعر. أتذكر من هم المدرسون، واثنين أو ثلاثة من الطلاب. ولكن ليس ألان إيغليستون.

ثم قال الزوج: حسنا كانت مكالمة طويلة مع رجل لا تتذكرينه. لا بد أنك وجدت شيئا مشتركا بينكما، لتستمري معه طويلا.

ردت: نعم. وآسفة جدا لأنني تركتك مع غسيل الأطباق. لم أجد طريقة لإنهاء الكلام بسرعة. ولم أكن مستعدة لمقاطعته.

نظر إليها الرجل، لبعض الوقت، كأنه لا يراها كما هي على حقيقتها.

قالت: لا تنظر لي هكذا يا جاك.

رد: ولكنني لا أنظر لك بطريقة مشينة. فقط لا أعلم عما كنت تتكلمين مع شخص غريب كل هذا الوقت. ربما كنت في ذهنه منذ عشرين عاما. وربما كتب لك القصائد لعشرين عاما.

ردت: أشك بذلك.

وشعرت بالتعب، ليس من الكلام الذي دار عن المكالمة، ولكن من كل شيء يحصل بين حين وآخر. ولا شك أن جاك لاحظ ذلك. فهو واضح جدا. لم يفقد أحد من معارفه صبره فجأة، وبشكل ملحوظ، مثل زوجته.

قال: أنا لا أفهمك يا كريس.

لست مضطرة لتخبريني بأي شيء لا تريدين أن تخبريني به. كنت أتساءل ماذا لدى السيد إيغليستون هذا ليقوله لك طيلة هذه الفترة.

بسبابة يدها اليسرى جرت كريستين شفتها السفلى عدة مرات وأفلتتها. ولا تفعل ذلك إلا إذا كانت بحالة عصبية أو محتارة أو الاثنين معا. وهي عادة سيئة، وتثير حفيظة الآخرين، وغالبا ما تلقت التوبيخ بسببها من أمها حينما كانت بنتا صغيرة.

قالت: أخبرني أنه مصاب باللوكيميا. وقال إنه ربما بقي لديه ثلاث أسابيع في هذه الحياة. ونظرت إلى جاك كما لو أنه يعلم كيف ينفق هذا الوقت. ولكن جاك هز رأسه. وقال: لا تكذبي علي. لا أحد يتصل بإنسانة غريبة تماما ليخبرها أنه سيموت في غضون ثلاث أسابيع.

ردت: لم أقل إنه غريب تماما عني. قلت أنا لا أتذكره. ولو أنه غريب عني، فهو لا يعتقد أنني غريبة عنه. وقال إننا كنا معا في حصة الشعر في منطقة البحيرات. واسمي موجود في دفتر أرقام الهاتف الخاص به.

- هل اسمك مدرج في دفتر هواتفه؟.

- -حسنا. لا شيء عجيب في ذلك. لماذا لا يتبادل الزملاء في الدراسة العناوين في نهاية الفصل إذا شعروا أنه كان وقتا ممتعا؟ وحقيقة أنني لا أستطبع أن أتذكره لا يبدل من الأمر شيئا. ولنكن صريحين بهذا الشأن. هو لم يخصني بالمكالمة. بل اتصل بكل الأسماء الموجودة في دفتره، وأخبرني بذلك منذ البداية.

قال جاك: لا بد أنه وصل إلى حرف واو، ولم يبق أمامه الكثير.

ردت كريستين: كلا. لم يشارف على حرف الواو. وهو لا يزال في حرف الباء.

- هل يمكن أن أسال إذا لماذا اتصل بك أولا؟

- لأنني أثناء الدراسة كنت أستعمل اسم العائلة. لا أقصد أنني لم أخبر الآخرين أنني متزوجة. ولكن استعملت اسم العزوبية لأنني كنت أعتقد إنه الاسم الذي يجب أن أنشر به إن نشرت أي شيء.

قال جاك: لم تخبريني بهذا على الإطلاق.

ردت: متأكدة أنني أخبرتك. ولكن المسألة ليست إن أخبرتك أم لا.

قال جاك: لم تخبريني فعلا.

ومنحها نظرة أخرى وتراجع عمدا إلى داخل المنزل. مكثت كريستين في الحديقة. كان الجو سارا هناك بالنسبة لمنطقة في الضواحي، كأنها تعيش في الريف. الثعالب تأتي مع جرائها في بواكير الصباح من أيام الصيف، وتسمع أصواتها، وكذلك الكلاب وإناث الذئاب، تعوي وتصيح في ليالي الشتاء. والبوم أيضا أحيانا، وتعشش في أشجار المستشفى الضخمة. بقيت في الخارج، تدغدغ شفتها بأصبعها. وطال بقاؤها حتى لف كتفيها إحساس بالبرد. في الداخل كان جاك يتابع الأخبار. سمعت بمجزرة أخرى.

قالت كريستين: أعتقد أنني مزمعة على الإخلاد للسرير.

أغلق التلفزيون وقال: أنا حزين لهذا السيد، المسمى إيغليستون. بكل تأكيد أشعر بالأسف له. ولكن لا أرى مبررا ليخبر كل الأسماء المذكورة في دليل هواتفه أنه مشرف على الهلاك. ألا يكفي تمرير النبأ لعائلته وأصدقائه المقربين؟. أتساءل: كم من الأغراب يتوجب عليه الاتصال بهم كل يوم، يصعب أن يخبر الجميع، أليس كذلك، فكل ما بقي له ثلاث أسابيع.

في منزل آل ويكلين أصبحت كريستين المرجع فيما يتعلق بإيغليستون الذي يحتضر.

قالت: له عائلة. من ثلاث بنات على وجه الدقة. ولكن هجرته زوجته، وأخذت معها البنات وهن طالبات صغيرات في المدرسة. وعلى ما يبدو كانت تدعي أنه أناني. ولذلك نادرا ما يجتمع بعائلته، ولم يخبر أحدا عن حالته الصحية. وربما لا يوجد الكثير من الأسماء في دليل هواتفه، وربما نصفهم من الأموات. وهذا هو حال دليل هواتفنا. وربما هو دليل هاتف قديم تركته زوجته حينما غادرت وبدأت بدليل جديد، ومعظم العناوين القديمة، التي يتصل بها الآن، تخصها هي، أسماء عائلتها وأصدقائها على وجه العموم، وهذا هو الحال في دليل هواتفنا كذلك، يجب أن تعترف بذلك، ولن يبقى أحد منهم على قيد الحياة إن انتظرت إضافاتك. فأنت لا تضيف أسماء جديدة.

- ولكن كيف لي أن أعلم بأحواله. أصلا لم أقابل الرجل وإن قابلته لا أستطيع أن أتذكر كيف يبدو أو أي شيء آخر عنه.

- أخبرني أنه تبقى له ثلاث أسابيع من حياته، وهو يتصل بالأسماء الواردة في دليل هاتفه بالترتيب الهجائي، وأنه وصل إلى حرف الباء، ووجد اسمي فيه. هل بمقدورنا الآن أن ننسى هذا الموضوع.

في السرير استغرقت كريستين بالتفكير. ورأت أنه من غير المستحب أن تغرب الشمس وهي حانقة لأن الموت قد يخطف واحدا منهما في الليل فلا يتبقى وقت للتسامح. ثم قررت أنه لا ضرورة الغضب، وليس بينهما شيء للتسامح. وفي كل حال كان جاك قد غرق بالنوم. استلقت كريستين مستيقظة تحاول جهدها أن تتذكر أي شيء مهما كان عن ألان إيغليستون، ولكن لم يخطر لها شيء. وعوضا عن ذلك وبلفتة مفاجئة تذكرت شخصا آخر كان معها في حصة الشعر تلك في منطقة البحيرات. اسمه ستيف الفلاني، أو اسم آخر، ولكنه شاب هادئ، على الأقل أصغر منها بشكل ملحوظ. ولم يردعه ذلك، واقترح أن يشتركا بنزهة في فترة بعد الظهيرة من أحد الأيام، ولم يكن لديهم حينها ورشة عمل والمفروض أن الجميع مشغولون بقصائدهم دون مزيد من الصخب والضجة.

كان يعلم ما ينتظره في طريق التابوت القديم حتى بحيرة ألكوك وما بعدها، وحتى التلال، المعروفة باسم تل مايكل، والمذكورة في قصيدة ووردزورث، وهي عن رجل عجوز كان يبني حظيرة للخراف، ولكن ساء حال ابنه، وفطر قلب والده، وفي أحد الأيام تسلق التل وجلس خامدا قرب عمل قيد الإنجاز 'ولم يرفع حجرة واحدة'.

غرغرت الدموع في عيني كريستين بسبب بيت الشعر من القصيدة المشهورة، عن الأب المسكين، والابن المسكين اليائس، والشاب المدعو ستيف الذي وجدها كما هو واضح بمنتهى الجاذبية ودعاها لنزهة برفقته إلى أماكن لا تفكر بزيارتها إذا كانت بمفردها.

تناول جاك في اليوم التالي إفطاره كالعادة. فكرت كريستين: ليس هناك ما يقلق كثيرا، وبحثت بغوغل عن ألان إيغليستون، لتتأكد إن كان معروفا في السنوات الأخيرة. ولكن لم تجد شيئا، يمكن أن يكون له به أي علاقة. بعد الإفطار، وإن شئت الحقيقة وهي تغادر البيت لنوبة عملها الصباحية في أوكسفام، أخبرت جاك أن غوغل لم يتعرف على ألان إيغليستون.

قال جاك: هذا يعني أنك أهدرت نقودك من أجله.

ورأت كريستين أن جاك علم فورا أنه لا يجدر به أن يقول ذلك. ولكنها تركت البيت بوداع بسيط قبل أن يعتذر.

في الشارع كانت تمشي بسرعة، وهي تفكر أنه لا يجب مغادرة البيت بسخط، فهذا مثل أن تستدير وتنام غاضبا مع احتمال أن تموت تحت عجلات حافلة، والخطأ الذي يحتاج لتصويب، سيبقى خطأ إلى الأبد.

ثم في نهاية الدكان مع سيدات يوم الثلاثاء، اللواتي كن ترتبن أطنانا من اللوازم لترسلها العائلات إلى أوكسفام، أو لتعين بها المسنين بعد وفاة أحدهم، تعمدت أن تفكر بهدوء بأحوال ستيف وبحيرة ألكوك والسفح الصاعد نحو تل مايكل.

كان الوقت في مطلع حزيران، والمياه حول ضفاف البحيرة سوداء تماما وراكدة، وفيها ضفادع كبيرة جدا. عادت إليها كلمة "أطراف" من قصيدة لهاردي كتبها لزوجته بعد موتها واستيقاظ الحب الذي مات. أطراف البحر الأبيض، وأطراف البحيرة السوداء.

نطق ستيف ذلك بلهجة كثيفة، ولكن كل كلمة منفصلة عن غيرها، وكل منها في السياق احتمال منفصل عن حياة تالية، وكل منها تتحرك منعزلة باتجاه الطور اللاحق من حياتها، وهي تشبه النطاف، أطراف البحيرة كانت نطافا. ولم تجد في ذلك شيئا غير محترم أو يسبب الارتباك. عالمها وعالمه مثل شيء يخطر لك فجاة إن رأيت دون إنذار شيئا جديدا أمامك. وحينما شرعا بتسلق تل مايكل، برزت من وجه الصخرة أشجار غبيراء، برزت وارتفعت فجأة، من الصخور، دون مهلة، وإلى أعلى، كما لو أنها ترغب بذلك، وكانت مزهرة بغزارة، وذات لون كريمي، ولها رائحة عطرية غريبة، عالية في الفضاء، إلى الأعلى والأمام لتخيم على الفراغ، في الفضاء الرقيق، ولتشرف على هاوية سحيقة، وهي ترتفع. وأصر ستيف أنه قبل أن يبدأ التسلق، إلى التل، عليهما الاقتراب بقدر الإمكان إلى مكان نمو الأشجار أفقيا من صخرة تغطيها السراخس، لحين يمكنها أن تنمو نحو السماء.

أمسك بيدها، وساعدها، كان الأمر مثل تسلق الصخور، وحينما وصلا إلى المكان المقصود، نفس مكان الأشجار في المرتفعات، ركزت على المشهد، على الشيء، على الطبيعة الظاهرة، وشعرت بمشاعر مريحة، كانت قد نسيتها تماما، وهي مريحة لأنه كان يفكر بها مبتهجا وسعيدا. أصبحت أمام وجوده ووعيها الشديد بنفسها، وأشجار الغبيراء التي تأثر بها.

في البيت كان جاك قد حضر الطاولة للغداء، ولم يسبق له أن فعل ذلك. كان يبدو مثل كلب ينتظر وقال فورا: أنا آسف يا كريس. ما كان يجب أن أقول ما قلت.

-وأنا أعرف دروسك جيدا، لم تكن هدرا للنقود.

-استمتعت بها أليس كذلك. أليس كذلك، وهذا كل ما يهم.

ردت: نعم. استمتعت بها. وأفادتني. وكل صديقاتي النساء لاحظن التبدل الذي طرأ علي. وشعرت بالتحسن بعدها لحوالي سنتين. هل تذكر.

ابتهج جاك وسأل: والآن ماذا علينا أن نفعل مع الأحمق المسكين إيغليستون. هل نفعل شيئا أم نهمله.

قالت كريس: لا شيء. وماذا يمكننا أن نصنع؟. لا شيء.

-أقصد أنه لم يذكر أنه سيتصل بك ثانية. ليخبرك عن أحواله؟. وأنت لم تقولي إنك ستتصلين به.

قالت كريستين: كلا. كلا هو لم يذكر شيئا و أنا كذلك.

وهكذا تابع جاك وكريستين ويكلين طريقيهما البطيئين نحو نهايتين منفصلتين. وتابعت المكالمة الهاتفية، في نفس الوقت، عملها في رأسيهما، كل على حدة. كانت كريستين لا تستطيع إخراج صوت ألان إيغليستون من رأسها. ويوما بعد آخر أصبح أعلى، وأكثر إلحاحا. وكانت مكرهة للإصغاء للرعب واليأس الذي يأتي بعد كلامه. وتذكرت كيف كان كلامها محدودا معه، وكيف لم يسمح لها إلا قليلا بالكلام، وما وفر لها كلامها من فائدة أو راحة؟. ماذا أراد، بالإضافة إلى أن لا يلقى حتفه؟.

هل الاتصال حسب الترتيب الأبجدي في دليل الهاتف الشخصي ساعده ولو قليلا؟. وكل ما سمعته الآن هو كلام رجل وحيد مع إنسانة لا تذكره. ومع أنها أشفقت عليه، ولكن الإحساس المسيطر عليها كان الرعب فقط. ورأت أن جاك يراقبها. وعلمت أن ألان إيغليستون أصبح مشتركا بينهما، وهذا ما تسبب لها بالغثيان.

اثناء الطعام أو النوم في السرير أو الوقوف معا لغسيل الأطباق، أحدهما دون مقدمات، وكان هذا هو الموضوع المحتمل الوحيد الذي يستحق التفكير أو الحوار، يتساءل بصوت مرتفع عن مصيره، ويقترح سؤالا، بلغة خطابية، دون أن يتوقع ردا. أو يصدر عن جاك أو كريستين تكهن.

قال جاك: ربما يأمل بمعجزة. وهذا مفهوم تماما. لنقل في دفتر هواتفه خمسون اسما، وقد يكون أحدهم سمع بشخص أوقف أثر اللوكيميا قبل النهاية، جمدها، بأساليب خارقة، وجعلها على الأقل تتأخر بمفعولها، وربح للشخص المحتضر خمس سنوات إضافية، أو عاما، أو حتى ست شهور؟.

قالت كريستين: ربما أنت محق. ومع أنه لم يسألني إن كنت أعرف أحدا من هذا النوع. ولاحظت أن هذا الكلام جعل جاك يتساءل لماذا خابرها ألان إيغليستون أساسا.

ثم فجأة بعد يوم أو اثنين قالت: صدمني أنه ربما كان يتابع بتلك الطريقة المنهجية ليتأكد أنه لا يوجد أحد في دليل الهواتف يدين له باعتذار أو هو مدين له باعتذار، وخابره ليقول له أنه لم يبق وقت طويل له لتصويب أخطائه.

وعند ذلك وبشكل واضح قال جاك والشك يخامره: هل قال لك ذلك؟.

- كلا، لم يفعل. ولكن تبادر ذلك إلى ذهني.

ولاحقا في نفس اليوم، قاطعت جاك الذي كان يتكلم عن أمر آخر وقالت: أرى أنه أخطا لأنه لم يخبر زوجته وأولاده بحالته الصحية. لا شك أنه يريد أن يتألموا بعد أن يكتشفوا أنه مات.

قال جاك فجأة: ولكن لا أحد يكون ساخطا ويفكر بالانتقام وهو يلفظ أنفاسه. اتصلي به، وأخبريه.

- لا أعرف رقمه.

- توجد طرق لمعرفة رقمه.

- لا أريد. ولا أود أن أتكلم معه مجددا. ولا أريد أن أسمع صوته. وطيلة الوقت صوته يرن في رأسي يا جاك. ولا أريد أن يزيد من متاعبي بنفسه.

مرة أو اثنتين قال جاك إن السيد إيغليستون هراء لا معنى له. ولا يجوز مكالمة الناس هكذا وإفساد حياتهم لأنه شارف على النهاية. قال جاك: الجميع يموتون. فلماذا موته له طعم خاص؟.

ونظر بمزيد من الشك إلى كريستين، فتوقعت أنه يعتقد بوجود أشياء لم تخبره بها عن حصص الشعر اللعينة.

وفي المدينة في أحد الأيام وهو يتبعها أثناء التسوق، سأل بطريقة عادية إن كان لديها شيء من تلك الحصص، رسائل قديمة، قصائد، صور، أية ذكريات لها معنى، وفهم بدوره لماذا خابرها السيد إيغليستون ليقول لها إنه يموت.

ردت: لا.

ووضعت الكبد والنقانق في سلتها، وأضافت: إن كنت تريد أن تعرف حقا، أنا ألقيت كل شيء في النفايات في أحد الأيام بعد سنتين منه حينما تعكر مزاجي. كل شيء بقي لي من ذلك الأسبوع - وكان كل شيء في مغلف مربوط بشريط - ألقيت كل شيء في النفايات، واحتفظت بعيني على سلة النفايات حتى جاء رجال التنظيفات ووصلوا إلى بيت الجيران، وهناك غادرت وألقيت المغلف في النفايات لأتأكد أنهم حملوه معهم، ولا مجال لتبديل رأيي. هذا ما فعلت بذكرياتي عن حصص الشعر.

قال جاك: لم تخبريني بذلك.

قالت كريستين: كلا. لم أخبرك بذلك.

ويوما بعد يوم لاحظت كريستين أن جاك ينظر بمزيد من الشك إليها.

قالت لنفسها: أعلم بماذا يفكر.

ثم بعد ثلاث أسابيع من الاتصال الهاتفي مرت أمسية جميلة، وذهب إلى الفاصولياء، وبدأ يسقيها، فوقفت بطريقة مريبة إلى جانبه، تراقبه بنصف وعيها. ونصفها الآخر مشغول، وكانت تلهو بشفتها بطريقة لم تكن تتبعها في السنوات السابقة.

أفلت العلبة الفارغة وقال: كريس، لا تلعبي بي مجددا، هل هذا ممكن؟.

***

..............................

دافيد قسطنطين David Constantine: مترجم وشاعر وروائي إنكليزي. ولد في سالفورد ويعيش في أوكسفورد. له روايتان هما "دافيز" و"كاتب مدى الحياة"، وسيرة أدبية هي "حقول النار: حياة السير وليام هاملتون". وعدد من المجموعات القصصية ومنها "في الخلف عند الشوكة" و"تحت السد" و"حفل شاي في الميدلاند" و"الحظيرة" و"صندوق الملابس". اشترك مع زوجته هيلين في تحرير كتاب "الشعر الحديث المترجم". ترجم أعمال هولدرلين وبريخت وغوتة وكلايست وميشو وجاكوتي.

 

 

بقلم: بابلو نيرودا

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

ليتركوني وشأني الآن

ليعتادوا غيابي الآن

سأغمض عينيّ

لا أريد سوى خمسة أشياء،

خمسة جذور مفضّلة

أولاها الحبّ بلا نهاية.

وثانيها أن أرى الخريف

لا يمكن أن أكون دون أن

تطير الأوراق ثم تعود إلى الأرض.

وثالثها الشتاء القارس،

المطر الذي أحببته، مُلامسةُ

النار في البرد الغابيّ.

رابعها الصيف

مستدير مثل بطيخة

خامس شيء هو عيناك

عزيزتي ماتيلدا،

لا أريد النوم دون عيناك،

لا أريد أن أكون دون أن تنظري إليّ:

أُغيّر الرّبيع

كي تواصلي النظر إلّي .

أصدقائي ، هذا ما أريد.

هو تقريبا لاشيء وتقريبا كلّ شيء.

الآن ارحلوا إن رغبتم.

عشت طويلا حتى يوم

عليكم فيه نسياني لا محالة،

سوف تمحونني من اللّوحة:

فليس لقلبي نهاية.

لكن، لأني أطلب الصمت

فلا تعتقدوا أنّي سأموت:

ما يحدث لي مخالف تماما

يحدث أن أعيش نفسي.

يحدث أن أكون وأتابع.

لن يكون إذن سوى بداخلي

تنمو المزارع،

أوّلا هي الحبيبات تمزّق

الأرض كي ترى النور

لكن الأرض الأمّ مُظْلمة،

وأنا مظلم في داخلي:

أنا  مثل بئر على ماءه

يُوِدع الليل نجومه

ويتابع سيره وحيدا عبر الحقول

الحقيقة أني عشت طويلا

حتّى أنّي أريد أن أعيش أكثر

لم أشعر أبدا بمثل هذه الحيوية

ولم أحظى أبدا بمثل هذا القدر من القبلات

الآن، الوقت مبكّر، مثلما هو دائما .

يطير الضوء بأجنحته.

اتركوني وحيدا مع النهار.

أطلب الإذن بالولادة.

***

...........................

* بابلو نيرودا "اكسترافاغاريا" (1958) "موجة تنحرف عن مسيرها" ص9، ترجمة جاي سيوراس، شعر، غاليمار، ماي 2003.

ثلاث قصص قصيرة جدا

تأليف: إدموندو باز سولدان

ترجمها عن الاسبانية: كيرك نيسيت

ترجمها عن الأنلكيزية: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- أسطورة وي لي وقصر الإمبراطور

ذات صباح استدعى وي لي المسن إلى قصر الإمبراطور. لقد عاش حياته كلها في قرية صيد صغيرة ولم يكن يعرف مكان القصر، لكنه تخيل أن يكون في مبنى الكابيتول بالولاية، والذي لم يزره من قبل. عندما سأل عن الاتجاهات في السوق، أخبره أحد الضباط أن القصر في كل مكان، وأن القصر هو البلد. قال لـ وى لى ؛ كوخك في إحدى حدائق القصر. قال إن القرية كلها قطعة من القصر. لا يوجد سبب للذهاب إلى الكابيتول للبحث عن القصر لأن القصر هنا .

نظر وي لي في الأمر، وقرر أن أفضل طريقة لإطاعة الأمر هي العودة إلى كوخه والانتظار في غرفته حتى يأتي أمر جديد .

في الأسبوع التالي، ظهر زوجان من الضباط في كوخ وي لي وأخرجوه. تم إعدامه على الفور، ورأسه مثبت على عمود في ساحة القرية، وهو درس لمن تجرأ على عصيان دعوة الإمبراطور .

**

2- الدكتاتور والبطاقات

في هذه، على أية حال، امتلك الدكتاتور خواكين إيتوربيدي مصنعًا لبطاقات المعايدة واحتكر مبيعات البطاقات في البلاد، وقرر يومًا ما إعلان يوم الصداقة في 26 يونيو، وحققت البطاقات المصنوعة لهذا اليوم نجاحًا غير متوقع مع للجمهور، وحقق مثل هذه المكاسب المذهلة للشركة، أعلن الديكتاتور يوم 14 أغسطس يوم الغيرة، والذي كان ناجحًا أيضًا. بمحض إرادته، حقق النجاح النجاح، وفي أقل من خمس سنوات، تم أخذ كل يوم من أيام السنة - كان هناك يوم مرارة ويوم صديقة خائنة ويوم الأجداد العظيم، الأزواج المحبون الذين يكرهون في الواقع يوم ويوم أونان المتحمسين، اليوم من أولئك الذين ينامون بمساعدة، يوم قراء ماركيز دو ساد، ويوم الذين يحلمون بالقنطور. لإفساح المجال للمناسبات الجديدة، قسم الديكتاتور الأيام إلى أجزاء: أُعلن غروب الشمس في الثالث من يناير على أنه ساعة أولئك الذين يحبون ممارسة الحب في المسارح المظلمة، و 16 أكتوبر عند الفجر كانت ساعة أولئك الذين لن يقتلوا حتى ذبابة، وظهر يوم 21 ديسمبر، ساعة الحنين إلى تشا تشا. وما إلى ذلك وهلم جرا. لقد جنى الديكتاتور في هذه المرحلة أموالاً من بيع البطاقات أكثر مما كان يسرق من خزائن البلاد، لكنه لم يرغب في التخلي عن سلطته. أراد أن يموت معها، البطريرك القديم الجليل الذي كان عليه .

عندما جاء الموت كان بالفعل كبيرًا جدًا. تكريما له، أعلن مجلس الأعيان في البلاد بعد ظهر يوم 2 أبريل في تمام الساعة 4:27 و 15 ثانية اللحظة الزائلة للديكتاتوريين الأبديين .

**

3- الإيمائى (الممثل الصامت)

عندما بدأ في عرض قصته التمثيلية بجوار النافورة الخالية من الماء، كان الممثل الصامت في ساحة أباروا يستخدم إيماءة أو حركة لكل كلمة. ساعدت حركات ساقيه ويديه، وتنوع  التعبيرات التي رسمتها من عيناه وشفتاه، على سرد القصص الطويلة بالتفصيل: يمكن أن تستمر القصة بعد ظهر يوم كامل. سيتوقف المارة، ويستمتعون بجزء من القصة،ثم يمشون، تاركين المال في قبعة مصنوعة من اللباد ترقد على الرصيف فوق سترة سوداء .

لم يرد الممثل الصامت لجمهوره أن يغادر بنصف قصة فقط. لقد كان يتعلم تكثيف الخطب الطويلة في إيماءاته، لجعلها أكثر تجريدا. والآن بحركة طفيفة من جفنه الأيمن يروي قصة لي شانغ، التي تخلى عنها والداها عند باب معبد فى ضواحى شنجهاي، لكنها، بفضل رعاية رهبان المعبد، كبرت لتصبح مشرقة، شابة جميلة وذكية للغاية، مما أدى إلى هلاك أحد الرهبان، وقع في الحب وفضل حرق المعبد بدلاً من الاعتراف به - لقد احترم وعوده الدينية كثيرًا - لدرجة أن لي شانغ، شاعرة بالذنب والندم، عقدت العزم على قطع لسانها، معتقدة في أن هذا سيكون عقابها، فلماذا لا تفي به .

يصفق المارة، ويناقشون بحرارة المعاني المبهمة للحركة الطفيفة للجفن الأيمن، ثم ينتهي بهم الأمر بالاتفاق على شيء ما: ربما إذا كان من الممكن سرد القصة بشكل أكثر تكثيفًا، فإنها ستكون أكثر إمتاعًا .

يحرك الممثل الصامت رأسه، من اليسار إلى اليمين - علامة لا لبس فيها على اليأس والاستسلام - ويعود إلى الفور إلى العمل الذي يقوم به .

المؤلف: إدموندو باز سولدان / روائى وقصاص وأستاذ جامعى من بوليفيا من مواليد عام 1967 م، يعد من أشهر كتابها، ألف إدموندو باز سولدان عشر روايات ومجموعتين من القصص القصيرة. حصل على جائزة الكتاب الوطني البوليفي لعام 2002 عن هذيان تورينج وزمالة مؤسسة جوجنهايم لعام 2006. كما فاز سولدان أيضًا بجائزة خوان رولفو المرموقة فى القصة القصيرة . هو أحد أكثر المؤلفين تمثيلاً لجيل أمريكا اللاتينية في التسعينيات، المعروف باسم ماكوندو. تُرجمت أعمال باز سولدان إلى عدة لغات وظهرت في مختارات في بلدان مختلفة، في كل من أوروبا وأمريكا. يعيش في الولايات المتحدة، منذ عام 1991، حيث يدرّس الأدب الأمريكي اللاتيني في جامعة كورنيل.

***

.....................

* القصص الثلاثة المترجمة هنا منشورة على موقع مجلة بوسطن رفيو الالكترونية، وترجمها عن الاسبانية الكاتب الامريكى كيرك نيسيت، وفيما يلى رابط القصص لمن يريد الاطلاع على الأصل:

https://www.bostonreview.net/authors/edmundo-paz-soldan/

بقلم: حنيف قريشي

ترجمة: صالح الرزوق

***

كانت سوشيلا تمشي في الحديقة، حينما شاهدت ماتيو ومساعده يجلسان على مقعد متطاول. اقتربت منهما، ولاحظت أن ماتيو يرتدي بذته السوداء. في الواقع كان مخمورا جدا، وهو شيء غير معتاد منه في هذا الوقت من اليوم، وكان في أواخر ما بعد الظهيرة. ألقت عليه التحية، وقبلته من خديه، فسألها إن كانت تقبل أن تنام معه. وتابع: لماذا لا ينامان معا؟. ويمكنهما أن يفعلا ذلك الآن، في بيته، إن لديها الوقت الكافي.  وأخبرها لطالما اعتقد أنها جذابة، ولكنه لم يكن جاهزا للكلام. ومع أنهما متعارفان منذ ثماني عشر عاما على الأقل، لم يكلمها بهذه الصراحة.

فاجأها كلامه، وحاولت أن تبدو مرتبكة. فهي معجبة به، وتراه لماحا وذكيا. كان ماتيو يعمل مع لين زوجها. وكانت مارسي زوجته مرتاحة لذلك، وقاموا معا بنزهات إلى الشاطئ.

في الصباح التالي قابلت ماتيو، مجددا، في السوبرماركت. لم يكن مع مساعده، ولا مخمورا. اقترب منها فورا، وكرر كلامه تقريبا بنفس المفردات، وأضاف إنها عاشت مع لين لفترة طويلة، ولا شك أنها ضجرت منه. قال لها: النساء تفضلن التغيير، وهو يقدم لها فرصة لذلك. وعليهما أن يتشاركا الفراش، حتى لو لمرة واحدة. ولا ضرورة للتصريح بالمزيد. أمسكت سوشيلا أعصابها، واخبرته إنها لن تنام معه أبدا. ولا حتى إن عاشت ألف حياة وحياة. هذا غير وارد على الإطلاق. ولو أن هذه هي طريقته بالإغواء لا تستغرب أنه لا يزال بكرا لم يدنس نفسه بعد.

واتصلت بلين فورا، ونقلت له ما قاله ماتيو في اللقائين. حينما عاد لين إلى البيت كان شاحبا وثائرا. سألته سوشيلا: هل هو على ما يرام، ثم كتبت إلى ماتيو رسالة قصيرة تخبره أن لين يريد لقاءه. رد ماتيو: أنه في طريقه إلى خارج البلدة  ولكنه يأمل أن لدى لين عملا فنيا جديدا يعرضه عليه. ويمكنه أن يأتي به في الأسبوع التالي؟. كان لين يرسم بشكل جيد، ووصلت أعماله الى مستوى أفضل.

استغرب ماتيو عندما جاء لين فارغ اليدين.

أين الرسومات الجديدة؟.

كانت قد مرت أربع أيام، ولذلك هدأ لين. وخلالها ناقش المسألة مع سوشيلا، وأمكنه أن يخبر ماتيو برزانة عما سمعه عن سلوكه، أول مرة حينما كان مخمورا في الحديقة، ولاحقا حينما كان بتمام وعيه في السوبر ماركت. اعتذر ماتيو دون إنكار، وطلب المغفرة منه. ولكن قال لين إنه غير مستعد للتسامح. التسامح، أو النسيان، شيء لا يفكر به. وهو لا يفهم لماذا تصرف ماتيو - الذي يعتقد لين أنه يفهمه - بهذه الطريقة.

رد ماتيو أنه لا يعلم مثله أيضا، ولذلك الأفضل أن يتركا الموضوع وراءهما.

سأل لين ماتيو لماذا كرر طلبه من سوشيلا حينما استعاد وعيه وكان بتمام نباهته وإدراكه.

قال إنه أراد أن لا تعتقد سوشيلا أنه غير جاد. وأنها ليست موضوع رغبة حقا.

شكر لين ماتيو على رأيه الصريح. وبعد هذا اللقاء تجول في الحديقة لفترة طويلة، دون أن يتمكن من تجاوز الحوار الذي يرن في ذهنه. مع الصمت تتوالد السموم. قال لنفسه. وما جرى ألح عليه كثيرا، حتى استقر على رأي.  عليه أن يناقش المسألة مع مارسي زوجة ماتيو. كانت لا تزال مقترنة بماتيو، ولكنهما منفصلان، وهي تعيش في البيت المجاور وكأنهما صديقان فقط. وكانت مارسي مريضة بمرض خطير، وكان لين مهتما جدا ليعرف كيف تعيش، وهل تنظر لمغامرات زوجها نظرة احتقار، وتعتبر أنه سلوك أحمق، أو ما شابه ذلك.  لربما يعاني من خلل؟. أو أنه مجرد وضيع ولم يلاحظ لين ذلك؟.

وهكذا ذهب لين ليقابل مارسي، وكانت طريحة الفراش. كان لين يعلم أنها متعبة من سخافات ماتيو مع بقية النساء، وذلك حينما كانا في بيت واحد. وشعر أنه ليس عيبا أن يخبرها بما قال ماتيو لسوشيلا. كانت مارسي تعرف ماتيو. وربما هي عادلة ومتفهمة. وبعد أن روى لها الحكاية أضاف خلال حديثهما أن سوشيلا كشفت له عن أمور جديدة، لم يكن يعرفها، ولم يخبره بها أحد. فقد وبين لها أن ماتيو في آخر سنتين تحرش بنساء أصدقاء آخرين، بطريقة استفزازية مماثلة. مثلا نقلت سوزان لسوشيلا كيف تحرش ماتيو بها، وكذلك فعلت زورا. وربما هناك أخريات.

هل سمعت ميرسي أيضا عن سلوكه؟. وأراد لين أن يؤكد لمارسي أن سوشيلا لطيفة، وكتومة وبالتأكيد لا تعاني من أعراض هستيرية. وليس من عادتها أن تبالغ وتكثر من الكلام في الحدائق والسوبرماكت. ولكن في هذه المرة تعرضت للإهانة والتحرش.

ماذا كان رأي مارسي؟. لقد استمعت ولكن لم تنطق بشيء يذكر. حتى أنها لم تحرك رأسها لا بالإيجاب ولا النفي. وسيطرت على انفعالاتها بشكل ملحوظ. بالعادة الإنسان يهمهم إذا واجهه فراغ أو صمت خلال المحادثة. ولكن ليس مارسي.

وفي النهاية اقترح لين أن يعرض ماتيو نفسه على طبيب معالج، ليعرف سبب هذا القلق - وهذا في هذه الأيام هو الأسلوب المعتاد لتجاوز الأفعال الخاطئة.

قالت مارسي إن ماتيو كان تحت العلاج لعشرين عاما.

قال ماتيو: من الواضح أن هذه الأمور تحتاج لوقت.

همهمت مارسي: نعم تحتاج لوقت.

وعندما عاد لين إلى البيت أخبر سوشيلا أنه قابل ميرسي في مسكنها، فغضبت منه. وقالت إنه لا يمثلها، لماذا لم يناقش الخطة معها أولا؟. فهو ليس ضحية التحرش. حتى أنه لا علاقة له بالموضوع. ماذا يعتقد أنه صنع؟. قال لين إنه لم يكن هناك شيء فكاهي أو ودي بتحرش ماتيو، كما فهم. وأهان ماتيو طبيعته البشرية أيضا. ومن حقه أن يشعر بالاعتداء عليه، وأن يبحث عن مبرر، إن لم ينتقم. وقال ليس أمرا شائعا أن تكوني هدفا لاعتداء متعمد. ومن صديق.

ورأيه عن ماتيو - هو واحد من أقدم الأصدقاء، وشخص وثق دائما بنصيحته - ولكنه تبدل إلى الأبد. وأصبحت الإهانة الآن عامة. ولم تعد تخص أحدا، ويمكن أن تتكرر. النساء أصبحن في مرمى الخطر. وسيكره لين نفسه إن لم يصرح برأيه. أخبرت سوشيلا لين أنه أصبح جامدا. وقد مرت فترة. وعلى النساء الاعتياد على هذه الأمور في كل الأوقات. وهذا لا يعني أنها لم تتحسس أو يؤثر بها موقف لين. ولكنها لا تعتقد أن ماتيو سيكرر فعلته: فهو خائف مما فعل. وندمه حقيقي، وسلوكه كما هو واضح يدمره ويضاعف من كربه.

قال لين تدمير الذات شيء يستمتع به الناس.

وافقته سوشيلا، وأضافت أن ماتيو يشبه المقامر الذي يخاطر مرارا وتكرارا بأمانه. ولكن هي نفسها تحب تسلق المرتفعات، وأحيانا تعرض نفسها للمخاطر.

وكانت تعتقد أن  مارسي ستكلم ماتيو. فهي الوحيدة التي بمقدورها أن تؤثر به. وفي الأيام القادمة سيتردد ماتيو قبل ارتكاب هذه التصرفات لأجل خاطر مارسي.

غير أن لين يشك بذلك. وهو لا يفهم كيف بمقدور مارسي أن لا تفعل شيئا، وتتعايش مع هذا الحال المربك.

قالت سوشيلا ولكن من فضلك تذكر أنه يعرف أن مارسي مريضة. وربما هي فكرة طيبة أن يعتذر لها عن تطفله بهذا الشكل. وهل هو مستعد لذلك؟.

وقبل أن يبدأ بالتفكير بالمسألة ذهبت سوشيلا نحو خطوة تالية.

وأرادت أن تتكلم بصراحة. ولكن يميل لين للمعنى التقليدي بخصوص أفكاره عن الحب أحيانا، إن لم يكن صادقا في بعض الأوقات.

سألها: هل يمكنه ذلك. كيف حصل ذلك؟.

حسنا. كانت مارسي متمنعة وباردة، وهما يعتقدان، أن ماتيو لا يكف عن التحرش بامرأة بعد أخرى. نوع من المتحرش المتسلسل. وإلا لكانا نموذجا لزوج معاصر. ورغم كل شيء، هما شريكان أصيلان وبينهما رابطة لا تنفصم، حتى أن لين لم يتمكن من إدراكها. ولا يوجد أحد أحب مارسي بقدر ماتيو، ومارسي مخلصة لماتيو. وحتى لو فعل شيئا أحمق بين حين وآخر، كلنا نتورط بذلك أحيانا، لقد كانت تدافع عنه.

عليك أن تحترم ذلك. استهزأ لين من فكرة حب بلا عاطفة. هذا لا معنى له، وربما هذا سبب تذمر ماتيو. النساء المتحرشات يحرضنه ويشعر بطاقاته. قالت سوشيلا إنها لا تعتقد أن هذا هو الحال. ولكن فيما يتعلق بمارسي، أرادت أن تقول أننا غالبا نحب الآخر بسبب ضعفه. وإذا أمكننا أن نمنع الحمقى أن يعربوا عن حماقاتهم، حسنا، من سيقبل الحياة في ذلك العالم البليد والبيروقراطي؟.

وتعبا من الكلام بالموضوع، ولم يكن هناك شيء إضافي، وبدا كأن الأمر سقط من حياتهم، لأنه بعد أسبوع وصلتهما دعوة. كان عيد ميلاد ماتيو في الأسبوع التالي، وهما مدعوان للحفل. ذهبت سوشيلا إلى المدينة، وأنفقت ما بعد الظهيرة تبحث عن هدية. لم تكن الحفلة مناسبة للموضوت لا من ناحية التوقيت ولا المكان. وتعهد لين أن يقفل فمه، وأضاف إنه سيتماسك قليلا، ويبتعد، ومن سمع بالمشكلة فقد سمع بها، ولكن هذا لم يعد يؤثر به. عموما ما أن وصلا إلى الحفل، اقترب ماتيو، أو على الأقل شخص يشبهه، من لين مباشرة. فقد حلق ماتيو لحيته، وشذب شعره، و يبدو أنه صبغه أيضا. وقبل أن يتسنى للين أن يكتشف هل هذا تنكر،  ماتيو ذراعه حول كتفيه، ووضع فمه بمحاذاة أذنه. كان يريد أن يكلمه، هناك، في زاوية الغرفة.

هل يمكن للين أن يتبعه؟. قال ماتيو إن لين أخبر العديد بالحكاية. وذكر شخصا ما في مكتب ماتيو. ولذلك تضخمت الإشاعة وانتشرت. ألم يقبل لين اعتذاره، ووافق على إنهاء الموضوع؟.

قال ماتيو:"هل تريد أن تطعنني في القلب وتجبر زوجتي على البكاء طيلة الليل؟. وقد حصل ذلك. هل تفهم؟. بكت بعد أن اقتحمته خلوتها و ازعجتها. ومساعدي، الواقف هناك، شاهد ما حصل في الحديقة. أعترف أنها مشكلة، ولكن ليس أكثر من ذلك".

دفعه لين بعيدا وقال:"لا تقف بقربي هكذا. أنت لا تعرف ماذا فعلت. أنت متوحش عمليا. وماذا عن سوزان وزورا وبقية النساء؟".

رد ماتيو إن الجميع يعلم أن الإغراء صعب في هذه الأيام. وفي هذه الأوقات المستحيلة، طقوس المعاشرة تتعرض للتصويب. وفي هذه المعمعة، من يبحث عن الحب، لا بد أن يقوم بخطوة غير محسوبة. ومجال سوء الفهم وارد، والليل يأتي قبل النهار. واحتمال الغضب قائم دوما. ولكن من المهم أن يحاول الناس أن يتواصلوا، ولو لساعات، وأن لا يقنطوا من الحاجة للتواصل. وإلا سنتحول إلى مجتمع من الأغراب. ولن يزور أحد الآخر أو يقترب منه. ولن يحصل أي شيء. ومن بحاجة لذلك؟. طبعا كان لين معروفا في دائرته بمشاكل تنفر منه الناس. وإن سنحت له الفرصة ليكون موضع اهتمام، سيفوتها بالتأكيد. ألم يحلم دائما أنه ذهب إلى المطار ورأى أن الطائرات أقلعت وتركته. على الأقل هذا ما رواه بإلحاح خلال العشاء في إحدى الليالي.

هو مولود من البؤس.

اخبر لين سوشيلا أنه سيخرج ليستنشق الهواء، ولكن حالما أصبح في الخارج، لم يفكر بالعودة. وشعر كأنه لم يعد يفهم أي شيء. هذا العالم غبي، وليس هناك طريقة للالتفاف حول ذلك. وبدأ بالإبتعاد بسرعة، ولكنه يعلم أنه مهما ابتعد، عليه أن يعود إلى هذا المكان - إن تمكن من العثور على طريقه إليه.

***

.........................

حنيف قريشي Hanif Kureishi: كاتب بريطاني مولود في جنوب لندن من زواج مختلط بين أب باكستاني وأم إنكليزية. يعيش حاليا في لندن. تأثر في كتاباته بوودهاوس وفيليب روث. من أهم أعماله: بوذا الضواحي، الجسد، اللاشيء، ماذا جرى (مجموعة قصص ومقالات)، إلخ....

شهرزاد وقصص أخرى

تأليف: إدواردو جاليانو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

(1) حظ سيء

طالما لازمنى الحظ السيئ. أفقد كل شيء، تسقط الأشياء من جيبي ومن ذاكرتي: أفقد المفاتيح والأقلام والمال والمستندات والأسماء والوجوه والكلمات. لا أعرف ما إذا كان ذلك مؤامرة ضدى من شخص لا يحبني ويعتقد أنني أستحق هذا أم أنه مجرد مصادفة،، لكن في بعض الأحيان تستغرق الأزمة وقتًا وأنتقل من خسارة إلى خسارة، وأفقد ما أجده، ولا أستطيع العثور على ما أبحث عنه، وأخشى بشدة من أن حياتي قد تكون فاسدة.

**

(2) شهرزاد

للانتقام ممن خانه، قطع الملك شهريار رقاب الجميع. تزوج عند الغسق وترمّل عند الفجر. فقدت العذارى عذريتهن ورؤوسهن واحدة تلو الأخرى. كانت شهرزاد هي الوحيدة التي نجت من الليلة الأولى، وبعد ذلك تغيرت القصة مع كل يوم جديد في الحياة. هذه القصص، التي سمعتها شهرزاد أو قرأتها أو اختلقتها، أنقذتها من قطع رأسها. قالتها بصوت خافت في غرفة النوم شبه المظلمة، حيث لا من ضوء سوى ضوء القمر. سره أن تحكى، فمنحها الحياة، لكنها كانت شديدة الحذر. في بعض الأحيان، في منتصف القصة، شعرت بالملك وهو يتأمل رقبتها. فإذا ضجر الملك ضاعت، ومن الخوف من الموت نبع إتقان السرد..

**

(3) مخترع الحروب الوقائية

في عام 1939 غزا هتلر بولندا لأن بولندا أرادت أن تغزو ألمانيا.

مع تدفق مليون ونصف من الجنود الألمان عبر الخريطة البولندية والقنابل تنهمر من الطائرات، شرح هتلر مذهبه في الحروب الوقائية: الوقاية خير من العلاج، أنا أقتل قبل أن يقتلوني.

أنشأ هتلر المدرسة. منذ ذلك الحين،وكل حروب الجهاز الهضمي، الدول التي تأكل الدول، تدعي أنها حروب وقائية.

**

(4) العالم رأسا على عقب

في 20 مارس 2003 قصفت الطائرات العراقية الولايات المتحدة.

بعد القصف، غزت القوات العراقية أراضي أمريكا الشمالية.

كانت هناك العديد من الأضرار الجانبية. العديد من المدنيين الأمريكيين، ومعظمهم من النساء والأطفال، فقدوا حياتهم أو تعرضوا للتشويه. الرقم الدقيق غير معروف، لأن التقاليد تأمر بإحصاء ضحايا القوات الغازية وتحظر إحصاء ضحايا السكان الذين تم غزوهم.

لقد كانت الحرب حتمية. فقد تعرض أمن العراق، والبشرية جمعاء، للتهديد من جراء أسلحة الدمار الشامل المتراكمة في ترسانات الولايات المتحدة.

من ناحية أخرى، فإن الإشاعات الخبيثة بأن العراق كان ينوي الاستيلاء على نفط ألاسكا ليس لها أساس.

**

(5) الحب

في غابة الأمازون، نظرت المرأة الأولى والرجل الأول إلى بعضهما البعض بفضول. كان غريبًا ما بين أرجلهم.

سأل الرجل:

- هل قطعت؟

قالت:

- "لا". لطالما كنت هكذا.

فحصها عن كثب. حك رأسه. كانت هناك قرحة مفتوحة.

- لا تأكلى الكسافا أو الموز أو غيرها من الفواكه التي تتشقق عندما تنضج. سوف أعالجك. استلقى على الأرجوحة الشبكية واستريحى.

أطاعت. بصبر ابتلعت الخلطات العشبية وسمحت لنفسها بوضع المرهم والمراهم. كان عليها أن تضغط على أسنانها حتى لا تضحك عندما قال لها:

- لا تقلقي

أحبت اللعبة، على الرغم من أنها بدأت تتعب من الصيام والاستلقاء في الأرجوحة الشبكية.

جعلت ذكرى الفاكهة فمه يسيل.

بعد ظهر أحد الأيام جاء الرجل راكضًا عبر الغابة. قفز بنشوة وصرخ:

- لقد وجدتها! لقد وجدتها

لقد رأى للتو القرد يعالج القرد في أعلى الشجرة.

قال الرجل واقترب من المرأة:

- هذا صحيح.

عندما انتهى العناق الطويل، ملأت رائحة كثيفة من الزهور والفواكه الهواء.ومن الجسدين المتشابكين، انبعثت أبخرة وإشراقات لم يسبق له مثيل من قبل، وكان جمالها رائعًا لدرجة أن الشمس والآلهة ماتت من العار.

**

(6) تحية

اليوم هو يوم المرأة

على مر التاريخ، تعامل العديد من المفكرين، البشر والإلهة، وجميعهم من الذكور، مع النساء لأسباب مختلفة:

1- لتشريحه

أرسطو: المرأة رجل غير مكتمل.

سانتو توماس دي أكينو: المرأة خطأ في الطبيعة، فهي ولدت من نطفة قذرة.

مارتن لوثر: الرجال لديهم أكتاف عريضة وأرداف ضيقة. لقد وهبوا الذكاء. النساء لديهن أكتاف ضيقة وأرداف عريضة، لإنجاب الأطفال والبقاء في المنزل.

2- بحكم طبيعتها

فرانسيسكو دي كيفيدو: الدجاج يضع البيض والنساء القرون

سان خوان الدمشقي: المرأة حمار عنيد.

آرثر شوبنهاور: المرأة حيوان طويل الشعر وقصير التفكير.

3- لوجهتك

قال الرب للمرأة حسب الكتاب المقدس: زوجك يسيطر عليك.

قال الله لمحمد في القرآن: إن النساء الطيبات مطيعات.

**

(7) الاكتشاف

في عام 1492، اكتشف السكان الأصليون أنهم هنود،

اكتشفوا أنهم يعيشون في أمريكا،

اكتشفوا أنهم كانوا عراة

اكتشفوا وجود الخطيئة،

اكتشفوا أنهم يدينون بالولاء لملك وملكة من عالم آخر وإله من سماء أخرى،

وأن هذا الإله قد اخترع الذنب واللباس، وأمر أن بإحراق من يعبد الشمس والقمر والأرض والمطر الذي يبللها.

**

(8) حضارة الاستهلاك

في بعض الأحيان، في نهاية الموسم، عندما غادر السياح كاليلا، سمعت عواء من الجبال. لقد كانت صرخات الكلاب المقيدة بالأشجار.

استخدم السياح الكلاب للتخلص من الشعور بالوحدة، أثناء قضاءالإجازات ؛ وبعد ذلك، عندما حان وقت المغادرة، قاموا بتقييدها في الجبال حتى لا تلحق بهم.

**

(9) السجناء

كلنا سجناء. من لا تسجنه الضرورة يسجنه الخوف. والأطفال هم الأكثر سجنًا: المجتمع الذي يفضل النظام على العدالة، يعامل الأطفال الأغنياء كما لو كانوا مالًا، والأطفال الفقراء كما لو كانوا قمامة، وأولئك الذين في الوسط مقيدون بشاشة التلفزيون.

**

(10) الخوف

ذات صباح أعطيت أرنبا غينيا. لقد عدت به إلى المنزل في قفص. وفي الظهيرة فتحت باب القفص. عند حلول الظلام عدت إلى المنزل لأجده كما تركته: في القفص، ملتصقًا بالقضبان، يرتجف من الخوف من الحرية.

***

....................

* إدواردو جاليانو (1940-2015)، من مواليد مونتيفيديو، أوروجواي، كاتب مقالات وصحفى ومؤرخً وسياسى، بالإضافة إلى أنه أحد أكثر الشخصيات الأدبية المحبوبة في أمريكا اللاتينية. تتضمن كتب جاليانو ثلاثية "ذاكرة النار". كتاب المعانقات. نقول لا. كلمات المشي والمرايا: قصص للجميع تقريبًا. نُشر كتابه الأخير، أطفال الأيام (...)، باللغة الإنجليزية في عام 2013. كان غاليانو ناقدًا صريحًا للآثار غير الإنسانية المتزايدة للعولمة على المجتمع الحديث، وظل مدافعًا شغوفًا عن حقوق الإنسان والعدالة.

للشاعرة البولندية ماريلا فولسكا

ترجمتها عن البولندية: مريم لطفي

***

روحي ستكون فتاة الى الابد

من ذهب الغابة عند الفجر

ومعها أبريق من أجل التوت

جريئة.. جميلة.. وواثقة إنها رغم مرور السنين

ستعيش بجمال وجهها الشاب الابدي

روحي ستكون فتاة إلى الابد

روحي في إكليل أخضر على الضفائر

تمشي في طريق وحيد

حرة مثل طائر الغابة

في وسطه تنحني الشمس في الصباح

مثل الرياح الحرة تهب على الحياة

روحي إكليل أخضر على ظفائر

لن تسمح روحي لأحد بأخذها

ملك..لاأحد

في حياة الله الاخرى

سيُحمل قلبها

مثل توت العليق في المساء

وأبريق ممتلئ

روحي في إكليل إخضرعلى الضفائر

***

.......................

* ماريلا فولسكا: شاعرة بولندية  ولدت في 13 مارس-1873 في لفيف وهي تنتمي الى الجيل الذي عرف ب حركة" يونغ بولاند" تمتعت بحبها للحياة والشعر والفنون وهو ما بدا واضحا بكتاباتها الشعرية   التي امتازت بحب الطبيعة ووصفها  وقد كتبت اجمل القصائد ومنها الساعة التي لم تكن،لست نادما،عبر الغابة الذهبية ،حظ،حلمت،نفس، ست قصائد وغيرها من الاعمال التي تستحق ان تصنفها كشاعرة مبدعة  تغنت بالطبيعة والحياة  ،والحقيقة أن الشاعر ابن بيئته فالطبيعة البولندية تفرض على الشاعر ان يتغنى بمفرداتها وهو ماانعكس على كتابات الكثير من الشعراء البولنديين .

كان أشهر أعمالها كتاب شعر بعنوان "إبريق من توت العليق" نشر عام 1929 وتلك الموهبة التي اورثتها لابنتيها الكاتبة بياتا أوبيرتيسكا والرسامة أنيلا باوليكوفسكا ، وكما عاشت وتغنت وكتبت الشعرتوفيت بنفس المدينة تاركة ارثها الشعري في عام 1930

مريم لطفي

أبانا الذي في السماء وقصص أخرى

تأليف: خوسيه لياندرو أوربينا

ترجمتها إلى الانجليزية: كريستينا شانتز فريدريك

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- أبانا الذي في السماء

بينما كان الرقيب يستجوب والدته وأخته، أخذ النقيب الصبى من يده إلى الغرفة الأخرى.

سأله:

- أين والدك؟

همس:

- إنه في الجنة.

سأل النقيب المذهول:

- كيف؟ مات؟

قال الصبى:

- لا. كل ليلة ينزل من السماء ليأكل معنا.

نظر النقيب لأعلى ورأى الباب الصغير المؤدي إلى العلية.

**

2- بورتريه لسيدة

في ضوء الفجر الذي تسلل بخجل عبر النافذة، قامت بتسوية ثوبها بعناية. كان أحد أظافرها ينظف باقى الأظفار. بللت أطراف أصابعها باللعاب وصقلت حاجبيها. عندما انتهت من ترتيب شعرها، سمعت حراس السجن يأتون على طول الممر. أمام حجرة الاستجواب، تذكرت الألم، ارتجفت ساقاها. ثم وضعوا غطاء محرك السيارة عليها وتجاوزت العتبة. كان الصوت في الداخل هو نفس الصوت في اليوم السابق. و كانت الخطى نفس خطى اليوم السابق، وصلت إلى مقعدها، اخترق الصوت اللزج أذنها.

- أين كنا بالأمس يا آنسة جيمينيز؟

قالت:

- كنا نقول إنه يجب أن تتذكر أنك تتعامل مع سيدة.

تلقت ضربة في وجهها. شعرت بطقطقة في عظام الفك.

- أين كنا يا آنسة جيمينيز؟

قالت:

- كنا نقول إنه يجب أن تتذكر أنك تتعامل مع سيدة.

**

3- علاقات

قال لي إنني مثير للقلق وأخبرته أنه أعمى. أخبرني أنه إذا كان الأمر كذلك حقا، فستعرف الحكومة ما يجب فعله وليس هناك ما يدعو للقلق. أخبرته أن موقفه كان أنموذجا للأشخاص الذين يعتقدون أن جميع المشكلات يمكن حلها من أعلى، وشعرت أن هذا تصرف غير مسؤول للغاية. أخبرني أنه من غير المسؤول أن نتحايل على التشهير ونشر الفتنة. قلت له إنه من الحقير أن يقود الناس إلى الذبح بالكذبة البيضاء لمشروع أيديولوجي لم يعد صالحًا. أخبرني أن مواقف مثل موقفي ستؤدي إلى كارثة وسيحكم علينا يومًا ما. أخبرته أخيرًا أن يذهب إلى الجحيم. لم نتحدث مع بعضنا البعض مرة أخرى. بالأمس علمت أنه كان في الزنزانة المجاورة لي وفي هذا الصباح رأيته عندما سمحوا لنا بالخروج إلى الفناء. لم نقل مرحبًا، لكنني أعلم أنه كان ينظر إلي. نظرت إليه بطرف عيني أيضًا. يبدو أنه في حالة صحية سيئة، مثلي تماما.

**

4- استجواب

في تشرين الثاني (نوفمبر)، بعد أن أمضيت أكثر من شهرين في المنزل، قررت المخاطرة بالزيارة. كان الوقت مبكرا بعد الظهر، والشمس مشرقة، ولا يوجد أحد تقريبًا في الشوارع. تفتح أمي الباب وأدخل بسرعة. البيت الكبير فارغ. والدي وإخوتي ما زالوا في السجن. كانت أمى بمفردها طوال هذا الوقت، وتذهب ثلاثة أيام في الأسبوع لتطلب أخبارًا عنهم. وبينما نعبر الفناء باتجاه المطبخ، أخبرتني أنها تأمل أن يتم إطلاق سراحهم في اعياد الميلاد. قبل أن تخطو فوق العتبة، توقفت، وأخذت يدي و سألتني: هل تؤمن بوجود إله، يا بني؟ أنظر إليها، هى أصغر حجما وأكبر سنا الآن، وأعتقد أن هذه المرأة التي تنظر إلي بعيون قلقة كما لو أن إجابتي كانت نوعًا من الحكم، هذه المرأة، أمى، تذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد وفي العطلات الدينية الأخرى لأكثر من خمسة وأربعون سنة. ثم، عندما أراها هكذا، أنا الذى لم أبك منذ فترة طويلة جدا، احتضنها دون إجابة وأبكي بلا خجل.

(تمت)

***

.......................

المؤلف: خوسيه لياندرو أوربينا / ولد خوسيه لياندرو أوربينا في سانتياغو دي تشيلي عام 1949 م. عندما كان طالبًا في الآداب، نفي إلى الأرجنتين عام 1974. ومنذ عام 1977 يعيش في كندا، عاد إلى تشيلي عام 2005 لكنه ما زال يشير إلى نفسه بأنه منفى دائم..نشر مجموعته القصصية الأولى تحت عنوان: قضايا مفقودة. تدور أحداثها في تشيلي تعاني من القمع الذي أعقب اغتيال سلفادور أليندي في الانقلاب الذي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه والقمع ضد أنصار أليندي. إنهم غارقون في روح الخوف والعنف المخمر مع روح الدعابة الكئيبة. وقد ترجمت كريستينا شانتز فريدريك هذه المجموعة إلى الانجليزية عام 1987 م. القصص المترجمة هنا من موقع كتب مهملة وهذا رابط الموقع والقصص:

https://neglectedbooks.com/?p=4792

The Neglected Books Page

بقلم: جي دي موباسان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان القطار قد غادر للتو جنوة في طريقه إلى مرسيليا وكان يتبع المنحنيات الطويلة للساحل الصخري. انزلق مثل ثعبان حديدي بين الجبال والبحر، مرورا بشواطئ من الرمال الصفراء تتناثر عليها موجات فضية صغيرة، قبل أن تبتلعه في فم نفق مثل حيوان ينطلق نحو عرينه.

في العربة الأخيرة، كانت امرأة ممتلئة الجسم وشاب يجلسان مقابل بعضهما البعض في صمت يختلسان النظرات الخفية لبعضهما البعض من حين لآخر. ربما كانت في الخامسة والعشرين من عمرها وكانت جالسة على جانب باب العربة وتنظر إلى منظر الطبيعة عبر النافذة. كانت امرأة فلاحة صلبة العود من بيدمونت، ممتلئة الجسم ممتلئة الخدود بعينين سواداوين وصدر ممتلئ. بعد أن دفعت عدة طرود تحت المقعد الخشبي، تحمل والآن سلة على ركبتيها.

كان الشاب في العشرين من عمره، نحيفًا جدًا وله سمرة عميقة لشخص يعمل في الحقول تحت أشعة الشمس الحارقة. وبجانبه مربوط في يقجة كانت ثروته بأكملها: زوج من الأحذية، وقميص، وزوج من بناطيل العمل الخيشية وسترة. تحت مقعده كان يخزن معولًا ومجرفة مربوطة بحبل. كان يأمل في العثور على عمل في فرنسا.

صبَّت الشمس الساطعة مطرًا من نار على الساحل. كان ذلك في أواخر شهر مايو، وامتلأت الأجواء بالعطور المبهجة وانتشرت عبر نوافذ العربات المنخفضة. تنفث أشجار البرتقال والليمون المزهرة في السماء الهادئة، روائح حلوة، نفاذة، عسلية تختلط بعطر الورود البرية التي تنمو على طول الطريق، تتجول فوق الحدائق الغنية التي مروا بها، حول أبواب الأكواخ الريفية المتداعية وفي الريف أيضا. هذا الساحل هو موطنهم الطبيعي. يملأون المكان برائحتهم الخفيفة والقوية ويجعلون الهواء شهيًا، مثل شيء ألذ من النبيذ ومسكر مثله.

كان القطار يتحرك ببطء كما لو كان يريد أن يظل ممتدا،مطيلا مشيته ويتذوق السحر اللطيف لعدن. وظل يتوقف عند المحطات الصغيرة حيث توجد بعض البيوت البيضاء، ثم انطلق مرة أخرى بوتيرته الهادئة، بعد أن أطلق صفيرًا لفترة طويلة. لم يدخل أحد. كان الأمر كما لو أن جميع السكان كانوا نائمين ومترددين في التحرك على الإطلاق في ذلك الصباح الحار من فصل الربيع.

من وقت لآخر، كانت المرأة الممتلئة تغلق عينيها، ثم تفتحهما فجأة، بينما تمكنت من إنقاذ السلة من السقوط من على ركبتيها. كانت تفحص المحتويات لفترة ثم تغفو مرة أخرى. وقفت حبات العرق مثل اللؤلؤ على جبهتها وكانت تتنفس بصعوبة وكأنها تعاني من انقباض مؤلم.

سقط رأس الشاب إلى الأمام على صدره وقد غرق في نوم عميق لصبي ريفي.

فجأة، عند مغادرتهما محطة صغيرة، بدت الفلاحة وكأنها استيقظت، وفتحت سلتها، وأخذت قطعة خبز، وبيضًا مسلوقًا، وقارورة من النبيذ، وبعض الخوخ، برقوقا أحمر جميلا  وبدأت تأكل. استيقظ الشاب أيضًا فجأة ونظر إليها، وكان يشاهد كل قضمة تنتقل من الركبتين إلى الفم. جلس، وذراعاه مطويتان، وعيناه مثبتتان، وشفتاه مضغوطتان معًا. كانت خداه أجوفان.

كانت تأكل مثل امرأة كبيرة جشعة، وهي تتناول باستمرار رشفة من النبيذ للمساعدة على بلع البيض، وتوقفت لأخذ قسط من الراحة. ثم جعلت كل شيء يختفي، الخبز، البيض، البرقوق، النبيذ. وبمجرد أن أنهت وجبتها أغلق الشاب عينيه مرة أخرى. لذلك، شعرت ببعض الإحراج، خففت المرأة صدرها لتكون أكثر راحة وفجأة نظر إليها مرة أخرى. لم تقلق بشأن ذلك، استمرت في فك أزرار فستانها. أدى ضغط حضنها إلى شد النسيج بحيث، مع اتساع الفتحة، تم الكشف عن بصيص من الملابس الداخلية البيضاء وقليل من بشرتها. عندما شعرت المرأة القروية براحة أكبر، قالت بالإيطالية:

- الجو حار جدًا لدرجة أنك لا تستطيع التنفس.

أجاب الشاب بنفس اللغة وبنفس النطق:

- إنه وقت جيد للسفر.

سألت:

- هل أنت من بيدمونت؟

- أنا من أستي

- أنا من كاسال

لقد كانا جيران.

على الفور، بدأا في الدردشة معًا كجيران. لبعض الوقت، كما هو الحال في كثير من الأحيان بين الناس العاديين الذين لم يعتادوا كثيرًا على إجراء محادثة مع الغرباء، كانت محادثاتهما صارمة ورسمية. ثم ناقشا الشؤون المحلية واكتشفا معارف مشتركة. مع نمو قائمة الأشخاص الذين اصطدما بهم مؤخرًا، أصبح الاثنان صديقين. سقطت كلمات موجزة ومتسارعة بنهايات رنانة من شفاههما باللغة الإيطالية البسيطة. ثم انتقلا إلى الأمور الشخصية.

كانت متزوجة ولديها ثلاثة أطفال أصبحوا الآن في رعاية أختها. لقد وجدت لنفسها وظيفة مربية، وظيفة جيدة لسيدة فرنسية تعيش في مرسيليا. كان الرجل يبحث عن عمل. قيل له إنه سيجد البعض أيضًا هناك فى مرسليا، حيث يبدو أن هناك قدرًا كبيرًا من أعمال البناء المعروضة.

ثم صمتا.

كانت الحرارة شديدة، حيث تنهمر بشدة على أسطح العربات. وحلقت سحابة من الغبار خلف القطار واخترقت الداخل. وأخذت روائح أشجار البرتقال والورود نكهة أقوى وأكثر انتشارًا وأثقل.

راح المسافران ينامان مرة أخرى.

فتحا أعينهما في وقت واحد تقريبًا. كانت الشمس تغرق في اتجاه البحر، وتلقي بريقًا لامعًا على مياهه الزرقاء. انتعش الهواء وأصبح أخف وزنا.

كانت الممرضة تلهث، صدرها مفتوح، خداها مترهلان، عيناها باهتتان ؛ قالت بصوت ضعيف:

- لم أرضع منذ الأمس ؛ ها أنا أشعر بالدوار وكأنني سأصاب بالإغماء.

لم يرد، لا يعرف ماذا يقول. وتابعت:

- عندما يكون لديك لبن مثلي، عليك أن ترضع ثدياك ثلاث مرات في اليوم، وإلا ستشعر بالألم الشديد. إنه مثل وزن ثقيل على قلبي. ثقل يمنعني من التنفس ويكسر أطرافي. من المؤسف أن يكون لديك هذه الكمية الكبيرة من الحليب.

قال:

- نعم، هذا مؤسف. لابد أن يكون ذلك مصدر إزعاج لك.

بدت مريضة للغاية بالفعل، مرهقة وبائسة. همست:

- فقط أعصره فيخرج الحليب مثل النافورة. من الغريب حقًا رؤيته. لن تصدق ذلك. في كاسال، جاء جميع الجيران لينظروا إلي.

يقول:  أوه! حقًا.

- نعم صحيح. أود أن أريه لك، لكنه لن يفيدني بأي شيء. لا يكفي خروج اللبن بهذه الطريقة أيضا.

صمتت.

توقف القطار، خلف الحاجز كانت تقف امرأة نحيفة خشنة الملبس، وتحمل بين ذراعيها طفلاً يبكي. نظرت إليها الممرضة. قالت بنبرة متعاطفة:

الآن هناك امرأة يمكنني مساعدتها. وهذا الطفل سوف يمنحني بعض الراحة، يمكنني أن أخبرك! أنا لست امرأة ثرية، ولن أترك منزلي هكذا، وأهلي وحبيبي الصغير أصغر سناً للعثور على عمل بعيدًا، لكنني سأمنح خمسة فرنكات كاملة بسرعة للحصول على هذا الطفل لمدة عشرة دقائق وأعطيه الثدي. سأكون امرأة جديدة.

مرة أخرى صمتت. رفعت يدها الدافئة عدة مرات لمسح جبينها الذي كان يتصبب عرقًا.  تأوهت:

- لم أعد أستطيع التحمل. يبدو لي أنني سأموت.

بحركة لا إرادية فتحت فستانها بالكامل، كاشفة عن ثديها الأيمن الضخم المشدود بحلمته البنية. واشتكت المرأة المسكينة:

- يا إلهي! أنا لا أعرف ما يجب القيام به! ماذا يمكنني أن أفعل؟

انطلق القطار مرة أخرى واستمر في طريقه وسط الزهور التي تعبق أنفاسها فى الأمسيات الدافئة. في بعض الأحيان بدا قارب صيد نائمًا على البحر الأزرق، مع شراعه الأبيض الثابت المنعكس في الماء كما لو تم العثور على قارب آخر مقلوبًا.

تلعثم الشاب محرجا:

- لكن... سيدتي... أستطيع... أن أريحك.

أجابت بصوت مكسور:

- نعم، إذا أردت. سوف تقدم لي خدمة عظيمة. لا يمكنني الصمود بعد الآن، لا يمكنني الصمود بعد الآن.

جثا أمامها. ومالت نحوه وجلبت طرف صدرها الداكن إلى فمه مثل مرضعة. مع الحركة التي قامت بها بكلتا يديها لتقديم ثديها للرجل، ظهرت قطرة من الحليب في الأعلى شربها بشراهة، ممسكًا بالثديين مثل الثمرة بين شفتيه. وبدأ يرضع بجشع وبشكل منتظم.

كان قد وضع ذراعيه حول خصر المرأة، فعصرها لتقريبها منه؛ وكان يشرب في رشفات بطيئة مع تحريك الرقبة، كحركة الأطفال.

فجأة قالت:

- هذا يكفي لهذا الجانب، الآن خذ الآخر.

مطيعا انتقل إلى الثدي الآخر. وضعت يديها على ظهره وأخذت تتنفس بعمق ورضا، مستمتعة برائحة الزهور الممزوجة بأنفاس الهواء التي تقذفها حركة القطار في العربات.

قالت:

- رائحتها جميلة هنا.

لم يرد واستمر في الشرب من ينبوع الإنسان، وعيناه مغمضتان كما لو كان يستمتع بهما. لكنها دفعته بعيدًا فى رفق:

- هذا يكفي. أشعر بتحسن. لقد عادت روحي إلى جسدي.

قام وهو يمسح فمه بظهر يده

قالت له وهي تعيد إلى داخل ثوبها القرعين المفعمين بالحيوية اللذين نفخا صدرها.

- لقد قدمت لي خدمة رائعة. شكرا جزيلا سيدي.

فأجاب بامتنان:

- أنا من أشكرك يا سيدتي، لقد مضى يومان لم أكل فيهما أي شيء.

( تمت)

***

.................

الكاتب: جي دو موباسان (1850- 1893 م) / كاتب وروائي فرنسي وأحد آباء القصة القصيرة الحديثة. وكان عضوا في ندوة إميل زولا. ولد موباسان بقصر ميرونمسنل بنورمانديا، وكان أبوه من سلالة أرستقراطية تدهورت حالتها المالية إلى مباءة الإفلاس. درس موباسان القانون، والتحق بالجيش الفرنسي ثم عمل ككاتب في البحرية. وقابل جوستاف فلوبير عن طريق صلات أسرته ليصبح فيما بعد تلميذه المخلص، وقد قدم فلوبير لتلميذه نظرية للنجاح الأدبي تتكون من ثلاثة أجزاء: لاحظ، لاحظ، ثم لاحظ. أما هو فكان يقول: " إن هناك من الحقائق ما يساوي الناس عداً.فكل منا يكون لنفسه صورة خادعة عن العالم. وهو خداع شعري أو عاطفي أو بهيج أو مقبض أو قذر أو كئيب حسبما تكون طبيعته.. كخداع الجمال وهو تقليد إنساني.. وخداع الدمامة وهو فكرة متغيرة.. وخداع النذالة الذي يستهوي الكثيرين. وكبار الفنانين هم أولئك الذين يستطيعون حمل الإنسانية على قبول انخداعاتهم الخاصة "

كان موباسان الرسام الأكبر للحزن البشري ودوما ما كان يصاب بصداع وكان يتلوى ساعات من الألم حتى أصيب بالجنون سنة 1891، ومات في إحدى المصحات العقلية عام 1893 م.

الشاعر الروسي المعاصر دميتري دارين

Дмитрий Дарин

Марш русичей

ترجمة الدكتور إسماعيل مكارم

***

نشيد الرّجال الرّوس

من كان شابا شجاعاً، قويا وشريفا،

من يحترمُ أبطال العصور الغابرة،

من تضيق به جدران المنزل،

من هو قادر على مواجهة الصِّعاب،

**

عليكم الإنتماء إلى حاميتنا المُحاربة

هنا القوة الروسية، والشرفُ الرفيعُ

الإثنان هنا يساويان أربعة

وستة رجال هنا يساوون إثني عَشرَ،

**

روسيا – إنها الوطنُ المَجيدُ.

روسيا – هي البلادُ الوحيدَة لنا في العالم

في حر الصّيف، وفي برد الشتاء القارس

مستعدون للدفاع عنك يا بلادي.

**

نحن لا نهاب عَظمَة القطعان الهمجية،

ولدينا القدرة كي نصمدَ أمام أيّ قوة سوداء،

تلك كانت وصية القائد سوفوروف*

لأجيالنا الشجاعة المِقدامة.

**

نحن لا ننسى تاريخ دونسكوي، ونيفسكي*

نقدس هذا التاريخ ونحافظ عليه بقلوبنا

أما رايات الجدود فهي على السّواري

أما أسماؤهم فتبقى دوما على شفاهنا.

**

تألقي يا روسيا في مجد ك العظيم!

وستبقى ترفرف دوما في سمائِنا

راية النّسر ذي الرأسين،

وفي العلا تتألق دوما نجمتنا الرّوسية.

**

كنْ يقظاٍ أيها الرّجلُ الروسيُّ،

كنْ مستعدا للقتال والصّراع،

إني أعلمُ أنكَ لا تهاب الوغى،

إذ أنكَ تحمل الوطنَ في صَدركَ.

***

كتب هذا النشيد ونشر عام 2022

....................

وجهة نظر

ننشر هذا النشيد للشاعر الروسي المعاصر دميتري دارين احتفاء بالذكرى الثامنة والسبعين ليوم النصر على دول المحور وهزيمة قوى النازية والفاشية، هذه الذكرى التي تأتي كل عام في التاسع من شهر أيار. ما يلاحظه المراقب والمتابع للأحداث العالمية اليوم أن هذه القوى تطل برأسها من جديد في عالمنا المعاصر متخذة أشكالا جديدة. هناك قوى إمبريالية مستعدة للتعاون مع الشيطان لأجل الحفاظ على مواقعها وسيطرتها على عالمنا بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي. إذ تعتبر هذه القوى أن إحتكار إدارة المنظمات الدولية وما يسمونه بالنظام العالمي في أيدي ممثلي أمريكا والدول المتحالفة معها إنما هو حفاظ على القانون الدولي.

حين أستمع إلى مقابلات وحوارات تلفزيونية، يشارك فيها إعلاميون أو رجال من النخبة في أمريكا، أراهم يركزون على أمرين: الأول حرمة السيادة لهذه الدولة أو تلك على أراضيها، مشيرين إلى الحرب في أوكرانيا، غير أن هؤلاء تناسوا أمر إنتهاك السيادة لعدة دول من قبل جنود أمريكا وغيرها من الدول الغربية، الأمثلة كثيرة: منها غزو العراق، وغزو أفغانستان، وقصف المدن في صيربيا، وقتل الرئيس القذافي، والمثال القائم اليوم تواجد الجنود الأمريكان على الأراضي السورية وسرقتهم للقمح السوري والنفط السوري والقطن السوري.الأمر الثاني الذي يركزعليه رجال النخبة في أمريكا هي مقولة أن جنود أمريكا والدول الأخرى من حلفاء البيت الأبيض إنما جاؤوا الى

الى غرب آسيا، واستباحوا الأرض السورية - في الدولة ذات السيادة تحدوهم أغراض إنسانية وهي محاربة الإرهاب، ودعم الشعب السوري. يبدو لي أن ممثلي النخبة في أمريكا إما هم فعلا يجهلون أن من يقف خلف داعش والنصرة وغيرها من التظيمات الإرهابية إنما هي حكومات أمريكا المتعاقبة، أي ممثلو البنتاغون والبيت الأبيض، إما هم يعلمون ذلك ولكنهم يمارسون النفاق السياسي والإعلامي بغرض الوصول إلى أهداف أمريكا الجيوسياسية. أما عن مساعدة الشعب السوري ففعلا قد ساعدت أمريكا الشعب السوري بكل شرائحه وذلك بقانون قيصر، الذي يمنع أي شركة أو مؤسسة أو جهة غربية أو شرقية /تحت طائلة العقاب/ يمنعها من التعامل المصرفي أو الإقتصادي مع الجهات السورية، خاصة كانت أم حكومية.

حقا إنّ لله في خلقه حكمة.

..................

مصادر وهوامش:

* دميتري دونسكوي - قائد عسكري قاتل ضد قطعان التتر والموغول، أما القائد الكساندر نيفسكي فقد قاتل ضد الصليبيين من الألمان والسويديين، والقوى الغربية الأخرى.

* الكساندر سوفوروف – قائد عسكري روسي مشهور وواضع

النظريات الحربية الروسية، ولد عام 1730، من المعروف عنه أنه شارك في المعارك ضد العثمانيين الأتراك، وانتصر في تحرير قلعة إزمائيل، توفي برتبة مارشال عام

1800 م.

ملاحظة: تم فعل ترجمة النص من اللغة الروسية، اعتمادا على موقع الكتروني تابع للشاعر دميتري دارين وبموافقته.

 

بقلم: روبين سليك

ترجمة: صالح الرزوق

***

هناك أوقات أتساءل فيها إذا كان إنسانا واقعيا. لو أنه رجل يمكن تصوره. ففي اليوم الطيب، يكون جوزيف على الصورة التي أريدها. نقف معا ضد بقية الفوضى الكونية وزحام العالم. وفي اليوم السيء، أكون امرأة ناضجة ولكن تابعة لديها تخيلات عن صديق نموذجي.

وباعتبار أن جوزيف يلمح أنه سيكون معي في العالم الواقعي بعد أن ينشر كتاباته، يجب علي بالمقابل أن أنتظره. أن أكون معه وأفكر به معظم الأوقات. هذا لا يعني أنه لم يحاول أن ينشر. كل أسبوع، يرسل قصة قصيرة مع رسالة لماحة ومؤلمة لا تخفي تماما توسلاته ويأسه.

وأخيرا قال لي: اليوم جاءتني رسالة من منتدى الأدباء.

- ما معنى ذلك؟

- لن تصدقي. كان رفضا. ولكن حمل عبارة "اقتربت من الهدف".

اقتربت. ما معنى هذا بحق الجحيم؟. هل يجب أن يقسو قلبي بسبب هذا الرد؟. لم يكن السبب أنه يفتقر للموهبة. فقصصه تلمسني في أعماق روحي بما فيها من هوس وأجواء معتمة، وشخصيات قلقة. فللنساء معاطف بلون المسحوق الأخضر مع بلوزات أنيقة. والرجال يحملون أسماء مثل بيرسي وإدموند. ولهم حكايات غرامية وقلوب محطمة.. ومحرومون من الجنس والدم والشجاعة. ولكن دائما لهم أحلام لتتحقق وذات مذاق عذب يملأك بالمرارة. إنهم حكايات من عصر مختلف. وبالعادة هو يهتم  حينما لا تكون رسائل الرفض شكلية، وتحتوي على ملاحظات من المحرر الذي لم يحسم أمره تماما.

وحينما يفحص جوزيف لأول مرة هذه الملاحظات العجولة، ينتابه الأمل حتى يعميه عما حوله، وكان أحيانا يفهمها بشكل مغلوط ويعتقد أنه على وشك أن يجد الناشر. واعترف بهذه الميول بحياء، ووددت أن أحضنه بذراعي وأربت على كتفه وأقول له كل شيء سيتحسن. ولكن نظرا ليأسي المتزايد، لم تتطور الأمور حسب توقعاتنا. وكنت أمر بساعات أفكر فيها هل هو إنسان واقعي. يا ليت بمقدوره أن يبدو على هيئة الإنسان الذي تخيلته. 

وفكرت بذلك – هيمنت الفكرة على أفكاري— بينما يداي تتحركان على لوحة مفاتيح الكومبيوتر. وها أنا أجلس هنا منذ دقائق، وأحدق بالشاشة. وتوج الفوز صبري أخيرا. رأيت تسجيل دخول جوزيف وفورا أرسل لي رسالة..

قال: مرحبا يا عزيزتي. أنا عمليا ضائع.

فكرت: من يتكلم بهذه الطريقة في العالم الآن؟.

ثم قلت له: عمت صباحا. لك نجمة. وهي البديل الفضائي عن القبلة.

ورسمت ابتسامة حالمة وفقدت الشعور بما حولي ولم أسمع خطوات زوجي يدخل الغرفة.

قال بصوت خشن:" كم أكره الكومبيوتر السخيف يا ليندا".

نظرت إليه، بدهشة والذنب يغمرني. فأضاف:" قلت لك صباح الخير مرتين ولم تردي، أنت مشغولة جدا بذلك الشيء اللعين".

أنهيت دخولي في الكومبيوتر ونهضت من الكرسي، وعبرت الغرفة نحوه. وملت إليه وطبعت على شفتيه قبلة عميقة رطبة.

وقلت له: "مرحبا يا إيدي، صباح الخير. لماذا أنت بكامل ثيابك؟".

رد بتأفف قائلا:" عمت صباحا يا ليندا". كأنه يلجمني. كان وجهه على قدر من الاستهانة والاشمئزاز فغمرني الندم. وتساءلت ما مقدار المعلومات التي يعرفها.

ولكن سألت بتفاؤل:"هل ستغادر؟".

كان هذا يوم السبت – ولا أستيقظ فيه باكرا.

رد:"نعم، أنا بطريقي إلى العمل".

كان إيدي يبيع التجهيزات. كل مستلزماتها. ويؤدي أعماله الورقية في المكتب خلال العطلة أحيانا.

سألته:"وكم ستغيب؟".

فكرت: من فضلك. قل سأغيب طيلة الصباح.

رد:"ساعتين فقط. وأنا على ثقة أنك لن تجلسي خلف الكومبيوتر كل هذا الوقت".

كذبت قائلة:"كلا، كلا، طبعا لا. لدي أشياء كثيرة لأرتبها هنا".

قال:"حسنا. أراك بعد قليل". وقبض على مفاتيحه واتجه إلى الباب دون كلمة أخرى.

إيدي. يا إيدي. لماذا أشعر كأنك غريب حقا؟. لماذا أشعر كأنه ليس بيننا شيء مشترك على الإطلاق؟. كيف يمكن تحسين هذا الظرف — هل هناك إمكانية للتحسن أصلا؟.

كان إيدي يشفى من الكحول، وكان مدمنا لما يزيد على عشر سنوات. والخروج من حفرة الشراب والاكتفاء بـ "تويلف سبايس" حسّن من إدراكه، وأصبح رجلا أقل تهورا، ولكن ضباب تاريخه السابق، وعودة كابوس الإدمان، يجعلني  أرتجف وأحذر مما أقول وأفعل. كحوليته، حتى بعد الشفاء – وربما أنا أشدد على بعد الشفاء – حولتني إلى سجينة عاطفية. لقد تزوجنا حينما كنا شابين جدا. وحاولت عائلتانا المساعدة، ولكن كان لديهم مشاكلهم. فنحن من خلفيات مشاغبة وشقية. ووجد كل منا الملجأ بين ذراعي الآخر. وكانت الجاذبية الفيزيائية قوية، وفي ذلك العمر، كان الجنس هو المهم.

بالعودة لتلك الأيام، حلمت أن أكون فنانة محترفة، ولكن امتنعت عن الرسم بمجرد ولادة الأطفال. وقبل أن يدمن، كنت أقلق من أن يشرب إيدي التوربانتين لو أخفيت شرابه.

انتظرت حتى أقلعت سيارته ثم هرعت عائدة إلى الكومبيوتر وسجلت الدخول. كان جوزيف قد اختفى، تنهدت من الغضب. لم يكن مقبولا لي أن أقابل جوزيف على الإنترنت ولذلك حملت هذه العلاقة الغريبة بالسر لسنوات. إنها تبدو جنسية تماما. هذا الحب الفضائي. وكان من الصعب علينا أن نناقش الموضوع لأنه يربك كلا منا كثيرا. وأنا من ألحت على تحويل العلاقة لشيء حقيقي وفعلي.  إنها مشكلة أساسية أن يكون الرابط بيننا لا يتجاوز مقاييس الحوار بالإنترنت. هذا وسيط شديد الإغراء. إنه واقع بديل ولعين. في البداية، ونحن نكتشف أننا أشقاء بالروح – وفي اللحظة التي كشف فيها كل منا للآخر عن أعماق نفسه على أساس يومي واستغربنا من التطابق بالهوايات والمشاعر – حب الفن، المصير العام للإنسانية، الإفراط في الطعام واستخدام الغذاء عوضا عن السعادة – والأهم، أننا كنا غير سعيدين ونمر بأزمة منتصف العمر بسبب عدم تحقيق أحلامنا – كنا نتطرق للقاء واقعي وعن مقربة. فأنا في مدينة بعيدة ولكن مكتب جوزيف، حيث يكتب لمجلة تجارية، هو على مسافة ساعة بالقطار فقط. وفي البداية، ألححت على الموضوع وكان يسخر مني، ولكن في فترات لاحقة كان يرد بقوله: ليس الآن، أو يوما ما، أو في الوقت المناسب.

أنفقت جزءا أطول من هذه السنة في محاولة لتغيير رأيه، ولكنه واظب على التأجيل. وما أرعبني أنني تقريبا فهمت عاطفته. فهو لا يريد أن يقاطع علاقتنا الافتراضية المثالية. أن نختبئ وراء شاشة الكومبيوتر، يساعد على أن نترك الشرف والصدق جانبا، ونعبر عن رغباتنا بلا حياء، وأن نكون مواطنين مثاليين أو شواذا محرومين، وكل الوقت ببيجاما خفيفة دون اكتراث بالعائلة وهي تتابع حياتها في الخلفية.

والالتزام هو السبب في أن لا أهجر إيدي. كان لنا ولدان، اعتادا على أبويهما، وتأقلما مع هذه الحالة. وهما يعشقان أباهما، وستحل بهما نكبة لو انفصلنا. هل بمقدوري أن أخبرهما: سأهجر أباكما لأنني قارئة نهمة وهو لا يقرأ منذ عشرين عاما؟. سأهجره لأنه يصرخ ويبتهج ويتحمس للرياضة بينما أنا أفضل الجلوس على الكنبة بجواره والعار يجللني من هذه السخافة؟. ولأنني أحب المطاعم الجيدة وأدوات الترفيه وهو يحب الوجبات السريعة ومخازن الأسعار المخفضة؟. لأنه يحبني أكثر مما أحبه؟.

وحينما تتدهور الأمور حقا هنا في البيت، وحينما يصل مزاج إيدي للحضيض أشعر كأننا غرباء وكذلك حينما يختلف الولدان – وأشعر أنني في الفخ وبائسة وبلا قدرات ودون تفاؤل -- فيغلبني التفكير بالسرير مع جوزيف. وتخيلت كيف ستكون أول مرة – بدماثة ولباقة نكتشف جسمينا ويتعرف كل منا على جسم شريكه قبل أن نلتحم معا في عاطفة بيضاء حارة فنسبح بالعرق إلى أن تنهار قوانا. كنت أغلق الباب على نفسي في الغرفة وأداعب نفسي وأنا أفكر بهذه الطريقة، وأتقلب في الفراش مثل امرأة متهيجة ثم أتنهد من اللذة. وأنوح قائلة: آه يا جوزيف. من فضلك أنقذني. أخرجني من هذا الجحيم.

يعيش جوزيف في بيت مرتب في الضواحي، أو على الأقل هذه هي الصورة التي رسمها لي. والآن على ما يبدو غادر إلى مدخل بيته ليتفقد صندوق بريده على أمل أن يسمع شيئا جيدا من المحرر، واستغرق ذلك عشرين دقيقة. وحسبما قال لي، إنه يحتاج لستة رسامين يعملون أربع أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على صورة هيكل البيت الذي أسخر منه دائما. وحينما ذكر لي ذات مرة أن لديه جوكوزي بحجم واسع من الرخام، شعرت بطعنة مع مرارة من الحسد والغيرة. ولكنه أضاف إنه لم يستعمله لا هو ولا زوجته. فشريكته طبيبة. ومر على زواجهما خمسة عشر عاما وأكد مرارا أنه لم يرتكب فعل الخيانة الشائن ولو لمرة واحدة. ولديه إيمان بالإخلاص. وأخبرني أنهما بلا حياة جنسية ولكن عدا ذلك هو يعطف عليها.

أما أنا كنت أعيش مع إيدي في المدينة. ونقطن في بيت متواضع من الحجر الأسمر الذي عمره مائة عام. وبحاجة لكثير من الصيانة التي لا بد منها. وعلقت لوحات إلكترونية على الجدار، لبعض الفنانين، يا الله، لتتحسن مشاعري فقط. لم يكن لدى أي منا العاطفة الكافية لأداء أي شيء آخر ولم نكن نمتلك النقود مثل جوزيف وزوجته للتعاقد مع حرفي للترميم. ولم أخبر جوزيف على الإطلاق بهذه الأشياء، ولم أكن أريده أن يعرف ذلك. كانت هناك ساعات أتساءل فيها كم درجة الصدق التي بيننا. كنا نردد عبارة أنا أحبك، ولكن كيف يكون الإنسان مغرما بشخص دون أن يلقاه؟. كنت مخلصة في زواجي أيضا. تزوجت في فترة الشباب وقبل أن تكون لي علاقة مع شباب آخرين، علاقة بمعنى الكلمة.

نقرت الأرض بقدمي بنفاد صبر. أين جوزيف الآن بحق الجحيم؟ مرت ساعتان تقريبا. لماذا لم يسجل الدخول؟. الانتظار يدفعني للجنون. وازدحمت في رأسي كل الأفكار الشقية. وانتبهت أنني أفسد صباح  يوم سبت جميل خلف الكومبيوتر. لن يكون جوزيف بالنسبة لي أكثر من تزجية للوقت على الإنترنت. زميل بالمراسلة. لو أنه يحبني فعلا كما يقول، أي سبب ملعون يجعله يرفض لقائي شخصيا؟. وتفاقم غضبي دقيقة بعد دقيقة، ودفعني نفاد الصبر والحنق للتهور.

راقبت الساعة بنظرة غاضبة. لم يكن ولدانا قد استيقظا ولا يزال إيدي في العمل، ولكن هذا لن يستمر إلى الأبد. ولن يكون بمقدوري المكوث هنا وراء الكومبيوتر لفترة أطول. وكنت أقترب من الجنون. وحينما في النهاية سجل دخوله بعد ساعة، كنت في ذروة الإرهاق، فاقدة لمشاعري، وأفكر بالتوقف عن هذه اللعبة. لم يكن يليق بي أن ألحق العار بإيدي: ولم أكن أريد إهانة نفسي بمطاردة رجل متزوج غير سعيد في حياته وليس لديه القدرة ليجد طريقه وراء عالم من خياله. يا للمسيح، لقد أجل اللقاء لما ينوف على عام ونصف العام. وخلالها كانت رائحة الخبز المحمص المحروق تنتشر.

مرحبا يا ليندا. كتب وهو يطبع قبلة فضائية لا معنى لها.

كتبت : آه، مرحبا. وليس هذا ردي الطبيعي لأنني لم أطبع القبلة المعتادة. وسيفهم مباشرة أن هناك شيئا مزعجا.

ما الأمر؟. تخيلت الارتباك الذي يشعر به الآن.

لا شيء. قلت له. لا شيء على الإطلاق.

كتب: آه، هذا يوم مزعج آخر. ما الخطب؟.

-أنا أكره حياتي، وأكره أنك هناك وأنا هنا ولا تريد أن تكون برفقتي.

قال: عظيم. أنت في مزاج سيء.

-نعم. أنت على حق. كل شيء يبدو بلا معنى لي. وأفهم أنك لا تريد أن تراني – وتريد أن أستمر هنا، في الفضاء، لتتمكن من البكاء يوميا على كتفي لأن الناشر لا يطبع لك، وزوجتك لا تحب أن تمارس الجنس معك. كل ما تريده مني التعاطف ومكانا ترتاح فيه قليلا. أنت تستغفلني من حوالي عام. وأريد الآن أن أسجل الخروج إلى الأبد وأترك هذا الكومبيوتر في النفايات ليلهو به الأولاد.

كتب قائلا: لا يمكن أن تهجريني. أنا بحاجة لك. وأنت متأكدة أن ما تقولينه غير صحيح. أنا أحبك يا ليندا. وأخبرتك بهذا من قبل. ولكن الوقت غير مناسب. أنت تريدين كاتبا معروفا، أليس كذلك؟. لا كاتبا فاشلا.

-ماذا تقول؟ أنا أحبك حتى لو كنت جامع قمامة.

-كلا. لن تحبي ذلك. هذه ثرثرة. ونحن نعلم أن هذا مجرد كلام غير صحيح.

إنه على حق. أنا أكذب. أنا أحبه بسبب كتاباته – لأنه فنان. ولكن إذا كانت له أعمال منشورة أم لا فهذا شأن آخر. على الأقل أعتقد أن هذا غير مهم. وجلست في مكاني أفكر بذلك لعدة دقائق. ولا بد أنه اعتقد أن هذا الصمت مقدمة لشيء مضجر. وظهرت الكلمات التالية على الشاشة تقول:ما رأيك يا ليندا. هل توافقين على مرافقتي لطعام الغداء يوم الإثنين؟.

اتسعت عيناي من الصدمة. كنت أنتظر ما يزيد على عام لأسمع هذا الاقتراح. ولكن عوضا عن الشعور بالراحة والسعادة غمرني الارتباك. لم أتوقع ذلك. على الأقل الآن. يا إلهي. من فترة التهمت ما يزيد على ليتر من قشدة الأرز – ولا بد أن وزني ازداد عشرة أرطال. الإثنين؟. لا يفصلنا عنه غير يومين؟.

هل يمكن أن أخسر الوزن الزائد، وأشذب شعري، وألون أظافري، وأحسن من مظهري في هذه الفترة القصيرة؟. آه، هكذا يتأوهون في بلاد الفضاء المفتوح.

أوه، الآن قد بلغت الهدف. ولا يمكن التراجع. كنت ألح من أجل ذلك طيلة شهور. ولكن فكرة اللقاء بهذا الرجل شخصيا – هذا الرجل الذي فتحت له قلبي كما لم أفعل من قبل. وأخبرته عن أشياء مخزية وشخصية جدا – بدأت تقض مضجعي. اللعنة. وقعت في المصيدة كالفأرة.

كتبت له: حسنا. شيء طيب. دعنا نفعلها. اسمع، إيدي عاد إلى البيت. علي أن أسرع. سأراك لاحقا.

وسجلت الخروج قبل أن تخف حماسة أي منا.

على نحو ما، تابعت حياتي في نهاية الأسبوع. لم يكن لدي فرصة لتشذيب شعري وإجراء تدليك للوجه أو اتباع حمية، ولكن لونت أظافري وأضفت المسحوق الأحمر لوجنتي حتى توهجتا بالنور وكنت بالحرف الواحد في حالة اهتياج. واتفقنا أن نلتقي في مطعم. وطبعا أنا من يجب أن تسافر لتلتقي به عوضا عن أن يقوم هو بالرحلة ليراني. وتصورت أن هذا يضعه في الجانب البريء من هذه اللعبة. وصعدت على متن القطار والعرق يسيل مني والارتباك يجللني. لم تزعجني الاحتمالات السيئة المترتبة على مقابلة رجل غريب، وإمكانية النهاية المشؤومة في كيس للجثث، وضرورة التعرف على جثتي بواسطة فحص الأسنان. كلا، كنت قلقة من الرطوبة التي ستتسبب بتجعيد شعري، أو من الزي الرسمي الذي يجب أن أرتديه بدل الجينز والقميص، فهما لا يليقان بسيدة في الأربعين من العمر. هذا عبث، هذا الموعد مع هذا الرجل الذي كشفت له أسرار روحي عبث، فنحن لا نعرف بعضنا بعضا. ومن الطبيعي، أننا تبادلنا الصور. غير أنها صور رقمية وسريالية بالكومبيوتر. صورتي جعلتني برأس مربع وبلا تناسب. وصورة جوزيف لها إيحاء بالبدانة. ولكن هذا لا يهمني.

كان زوجي نحيلا مثل قضبان الحديد، ووركه العظمي يخترقني كلما مارسنا الحب. كنت أتطلع لأقبض على جسم جوزيف وأفجر قبلة فوق بطنه اللدنة، وهذه تخيلات تنتابني كلما استلقيت بجوار إيدي الذي يشخر خلال نومه. وحينما اقتربت من المطعم، تساءلت هل الصورة التي أرسلها لي بالبريد الإلكتروني تعود لسنوات مضت، ربما وزنه الآن خمسمائة رطل، هذا غريب وسينظر لنا الناس بتعجب، وباستهانة، وسيفقدون شهيتهم للطعام. يا إلهي، ربما سيحتاج لزاوية خاصة – بثلاثة مقاعد متصلة أو شيء من هذا القبيل. ثم فجأة تذكرت أنني التي زاد وزنها عشرة أرطال، وسيرتعد من شكلي. غمرتني موجة جديدة من الارتباك، وشعرت بالدوار من احتمال أنني سأخيب أمله. ناديت على سيارة عامة خارج محطة القطارات وذكرت للسائق عنوان المطعم.

أخبرني أنها مسافة تستغرق خمس عشرة دقيقة، إن كانت حركة المرور سهلة. كانت الحرارة لاهبة، وهذا منتصف الصيف، ولم يكن المكيف يعمل. وبدأ قلبي يذوب. وشعرت أنني أختنق. لو كنت أعرف المدينة بشكل أفضل، لغادرت السيارة وتابعت على الأقدام. كنت سجينة، هكذا قلت لنفسي. كان أطول مشوار سيء بالسيارة. ولكن وصلت في النهاية. وغادرت المركبة كأنني أذهب إلى حفل إعدامي.

كان المطعم الذي اختاره أنيقا وله صالة. وعرفته فورا حينما نهض من كرسي محشور بالزاوية وانتبهت أنه ليس بدينا. ووسيم حقا بطريقة معقولة وبشعر أسود طويل ويغلب عليه الظل الذي تلقيه الساعة الخامسة على الإنسان. واه عينان سوداوان بجفنين ثقيلين ورموش غليظة. تعانقنا بقوة وكنت أخشى أنني مبلولة بالعرق. ولكنني لست امرأة غير جذابة. ونظرته المريحة أكدت لي ذلك. وعلى الرغم من عمري، كنت أرى أنني بمظهر شبابي. شعري أسود وطويل. وثدياي صلبان. ولي عينان خضراوان قليلا مع شفتين مكتنزتين. تبادلنا النظر براحة ومسرة. كنت راغبة بالنوم معه فورا ولكن كانت لديه روح تنم عن الإخلاص.  

ابتسم وقال:" أنت، هناك" وهذه إحدى تحياته على الإنترنت.

قلت بنفس الصوت الجاف والمبسط:"كما أنت دائما". آه يا إلهي. من أين جاء هذا؟. كنت أخشى من لفظ كلمة أخرى. هل يمكن أن أنظف حنجرتي دون افتعال ضجة. يا إلهي، يا إلهي، يا إلهي.

قادني من ذراعي نحو الطاولة المحجوزة. كان قد حجز طاولة وهي جاهزة لنا. جر كرسيا لي، وتوسلت إلى الله أن لا أرتكب خطأ. كأن أخطئ بالجلوس على الكرسي وأسقط على الأرض. أو أن تصدر عن الكرسي أصوات مثيرة للأعصاب وهي تحتك بالأرض حينما أقترب بها من الطاولة.

سألني:"هل كانت الرحلة سهلة؟". استراحت أعصابي قليلا، لأن هذا سؤال يدل على مبلغ اضطرابه وقلقه.

قلت مع ابتسامة صغيرة:"نعم، نعم، كانت ممتازة. كان من المفروض أن نلتقي قبل الآن". آه. كان صوتي لا يزال مفتعلا، ولم يخطر لي شيء مريح أقوله لهذا الرجل الذي كنت ألهو معه لفترات مطولة يوميا.

قال:"نعم، حتى الآن نحن على ما يرام. هل ترغبين ببعض النبيذ؟".

هل أرغب بقليل من النبيذ؟. أفكر بثلاث زجاجات.

أجبت:"نعم من فضلك".

"كأس أم زجاجة؟".

"كأس تكفي". يا للجحيم، ماذا دهاني؟. أود لو أرتخي، أن لا أشعر أنني قالب من الإسمنت مزروع هنا بالصدفة. 

تناولت القائمة وتظاهرت أنني أفكر ولكن بالكاد كنت أركز عيني. وانتبهت أنني لست جائعة أبدا. ولو هناك إحساس فهو الغثيان الخفيف. لم أكن عصبية بهذا الشكل كل حياتي. هناك أشياء أخبرت بها هذا الرجل!. وأشياء أخبرني بها!. ومن المستحيل أن أعتقد أن ما يجري هنا بأي نحو من الأنحاء له علاقة بواقعنا البديل والساخن الذي عشناه على الإنترتنت. وأخبرت عقلي أن يلزم الهدوء، وحاولت أن أركز عما يقوله، والذي كان غالبا صدى لما أخبرني به في الكومبيوتر. أحضر النادل الخبز وبدأنا به فورا.

ابتسم وقال:"آه، هذا هو الغذاء الذي نتشارك به".

"نعم". أجبت وأنا أملأ فمي به.

واستطعت أن أسمع صوت المضغ وقد شعرت بالخزي من هذا الصوت المزعج الذي أصنعه.

وصل النادل بالنبيذ. سحبت الكأس الكريستالية الممشوقة وبدأت أشرب كأنه ماء صنبور. وسأل عن الأطعمة، فأفصحت عن رغبتي بشرائح السلمون لأنه أول شيء قرأته في القائمة ولم أكن قادرة على القراءة والمتابعة.  وشعرت بالشرود الذهني. وحينما ابتعد النادل، شعرت كأنني مهجورة. وتوجب علينا أنا وجوزيف أن نتبادل الكلام قليلا – فالطعام سيتأخر حتما لعدة دقائق إضافية.

"هكذا إذا". قلت ثم انتبهت أنه ليس لدي شيء أقوله.

أجاب:"نعم. ها نحن هنا".

وامتد صمت صعب، ثم بدأ بسرد حكاية أخبرني بها من قبل على الإنترنت، وكافحت لأكون واعية وعلى الأقل لأبدو مهتمة. عوضا عن ذلك، كنت أنظر لعينيه السوداوين الباردتين، وأتأمل صفحة وجهه.  ورأيت ندبة صغيرة قرب عينه اليمنى وكم وددت أن ألمسها بنعومة، ولكن كنت مقيدة وليس بوسعي أن أحرك أنملة.

صاح وهو ينظر إلى يدي:"يا له من خاتم رائع". وفجأة، واتتني الجرأة. وربما بدأ النبيذ يفعل فعله. واغتنمت فرصة التعليق لأقبض على يده، وأحاول أن أغويه. أملت أن ألف أناملي حول أنامله. في البداية، استجاب لي، وتناغم معي، ثم على حين غرة انسحب كأن النار لمسته. وطفت على وجهه نظرة بؤس لم أفهمها. ولم أحاول أن ألمسه مجددا. وبدأ يتكلم بسرعة عن فيلم شاهده. وكنت أرد بإيماءات كثيرة.

وفي الختام أحضر النادل الوجبة. السلمون الذي طلبته وكان كأنه يلتصق بحلقي. وتساءلت هل سوف أتقيأ. شربت نبيذي ولحسن الحظ، سارع جوزيف بطلب المزيد. وحاولت أن أتنفس دون جذب الانتباه حتى سرى الكحول في مجراه وشعر كلانا بالمرح. وبعد أن مرت اللحظات الأسوأ اشتركنا بقليل من الثرثرة عن عائلتينا. وعن الموسيقا التي نفضل والكتب التي قرأناها وانتهى الأمر بالغبطة والانسجام. وكل ذلك بطريقة لم أتوقعها حينما كنت أتخيل لقاءنا وأنا أجلس ككلبة في الحر وأتخيل كيف سيكون وضعنا في العالم الواقعي. استغرق الغداء ساعتين. ورغبت بنزهة برفقته أو بزيارة مكتبه، ولكن كان الوقت متأخرا ويجب اللحاق بالقطار لأصل إلى البيت في وقت العشاء وأنضم لأفراد الأسرة.

وغادرنا الفندق دون ملامسات، ورأينا سيارة، فناداها فورا. وانتهى كل شيء بسرعة، بعد طول انتظار، وشعرت بالخيبة واليأس. كان لديه وقت ليضمني ثانية مع قبلة سريعة ولكن فورا دخلت السيارة العامة وانطلقت بطريقي.

لم أكن قادرة على التفكير المنطقي – كنت أفكر بالوصول إلى المحطة بالوقت المناسب، وأقفز على متن القطار، وأخمد نفسي فيه لساعة هي الوقت الذي تستغرقه الرحلة. وبالكاد حققت ذلك بسبب الزحام، وكنت لاهثة الأنفاس وأنا أجلس في مقعدي. وعدت بظهري إلى الخلف وحاولت أن أتذكر. وكنت في منتصف المسافة إلى البيت حينما اعتقدت أن جوزيف لن ينقذني مما أنا فيه. وتساءلت، بارتباك، هل هذه هي النهاية. وهل هذا آخر الشوط الذي يمكننا بلوغه. ولم يكن هناك أية مسافة للمفاجأة أو المجهول. كل واحد منا ينتمي لآخر، لدينا حياة مختلفة ومنفصلة تماما. ولا يزمع أي واحد فينا على خطوة جازمة، مع أننا شقيقان بالروح. وأضاءت في عقلي لحظة من اليأس – ورغبت أن أبكي بألم. وامتلأت عيناي بالدموع التي لها لون النبيذ. ثم فكرت بحياتي من دونه. حياة مع الولدين وإيدي، حياة دون جيوب سرية ألجأ إليها. ولم تكن هذه الأفكار ضرورية. وأقنعت نفسي أن أفكر بجوزيف. وتخيلت صورته أمامي وتذكرت أن فترة تشابك الأصابع كانت سريعة خلال الغداء، ورغبت لو أنه لم يسحب أصابعه من يدي. وفهمت أن الذنب حيال زوجته لا يفارقه وهو الدافع وراء تصرفاته، وهذا قربه من قلبي. وتساءلت كيف كان شعوره ويده في يدي. وماذا سيشعر لو لامس وجهي. حلقي. صدري.

أعتقد أنني أحببت هذا الرجل. حقا أحببته. على الأقل هذا شعوري.

وابتسمت لنفسي وأنا أتخيل كيف ستكون المرة الأولى– بنعومة، نكتشف أنفسنا بهدوء ثم  ننتفجر بعاطفة حارة بيضاء حتى نغرق بالعرق ونفقد أنفاسنا.

إيه. دائما توجد فرصة من هذا النوع. أي شيء يمكن أن يحصل، أليس كذلك؟.

يا إلهي.

هل من شخص يستمع. أي شخص.

أتمنى أن ينشر كتابه بأسرع وقت.

***

حزيران 2002

........................

روبين سليك Robin Slick : كاتبة أمريكية معاصرة من سكان فيلادلفيا. صدرت لها مجموعة من الروايات والمجموعات القصصية. موضوعها الأساسي الخيانة الزوجية والغرام الممنوع. من أهم كتبها: لقمة من التفاحة، لقمة أخرى من التفاحة، ثلاث أيام في نيويورك، والدي تركني وحدي مع الله، المسافر إلى القمر، وغيرها.

 

 

في نصوص اليوم