ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس

ترجمة: جمعة عبد الله

***

جدار

بدون تفكير وآسف ووجهة نظر

بنوا جداراً عالياً وكبيراً حولي

وأنا جالس متقوقع في حضرة اليأس

لم اتصور، أو لم يدر في ذهني كيف بنوا جداراً ؟

هناك اشياء تحدث خارج الرغبة

لم انتبه الى بناء الجدار

لم اسمع صوت أو ضجة البناء

وبشكل غير محسوس أغلقوا العالم عني

**

شموع

المستقبل والأيام تقف أمامنا

صفاً من الشموع تتوهج بالنور

شموع ذهبية.. دافئة ... نابضة بالحياة

لنترك الأيام الماضية خلفنا

من المحزن أن تتجمع قربها الأدخنة كي تطفئها

وتجعلها ..

شموع باردة.. ذابلة.. منكسرة

لا أريد أن ارى شكل الشموع بهذا الحزن

وهذا ما يجعلني حزيناً

وأنا آسف لأول ضوء اتذكره

الى الامام الى شموعي التي انتظرها

لا أرغب أن أعود واجد الفزع يلتهم شكل الشموع

لماذا وبسرعة تتحرك خطوط الظلام من بعيد حولها

لماذا وبسرعة تتراكم الأشياء قرب الشموع كي تطفئها

**

نوافذ

هذه الغرف المظلمة ترهقني

أيامها ثقيلة تلعب وتدور حولي

تحت.. فوق.. وبجانبي

أحاول أن أعثر على النوافذ المفتوحة

أريد نافذة واحدة تسليني

لم أعثر عليها أو لم استطع ذلك

ربما رسمها أفضل إذا لم أجدها

ربما يكون النور الجديد طاغياً

منْ يعرف أشياء جديدة ، أن يرشدنا

***

....................

* الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس: (1863 - 1933 / ولد في مدينة الاسكندرية / مصر)

 

قصة: خورجي إيبارجوينجويتيا

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

يجب أن أكون حصيفا؛لا أريد أن أوقعها في مشكلة، سأتصل بها.. لدي صورة لها على مكتبي وبعض الصور الفوتوغرافية لأشخاص آخرين بالإضافة إلى منديل ملطخ بالمكياج قمت باستلابه من مكان ما. أعني أنني أعرف من هي، لكن لا أريد أن أقول، مع أنها تمثل إحدى لحظات ذروة حياتي العاطفية.الصورة جيدة للغاية نظرًا لأنها بحجم جواز السفر.إنها تنظر إلى الكاميرا بعينيها اللوزيتين الكبيرتين، وقد سحبت شعرها للخلف ليكشف عن هاتين الأذنين الكبيرتين اللتين تلتصقان بالقرب من جمجمتها، لدرجة أنها تجعلني أعتقد أنها عندما كانت طفلة،لا بد أنها ربطتها بقطعة قماش لاصقة خشية أن تصبحا مثل الطائرة الورقية؛ عظام الخد البارزة، والأنف الصغير ذو فتحتي الأنف المفتوحتين للغاية، ومن الأسفل... فمها الرائع، كبير وسمين. في وقت ما، أثار النظر إلى الصورة أفكارًا عن حنان خاص تطور إلى حرارة داخلية وانتهت بحركات الجسد المناسبة لمثل هذه المشاعر. سأسميها أورورا. لا، ليس أورورا. ولا إستيلا أيضًا. سأسميها "هي ".

لقد حدث هذا منذ فترة، عندما كنت أصغر سنا وأفضل مظهرا. كان ذلك في الفترة التي سبقت عيد الميلاد، وكنت أسير في شارع كالي دي ماديرو مرتديًا بنطال الجينز الذي غسلته مؤخرًا وفي جيبي ثلاثمائة بيزو. لقد كان يومًا مشرقًا جميلًا. خرجت من الحشد ووضعت يدها على ساعدي. قالت: "جورجي". أوه، الحياة والبيلا! كنا نعرف بعضنا البعض منذ أن اعتدنا أن نبلل السرير (كل على جانبه بالطبع)، لكننا لم نتمكن من رؤية بعضنا البعض أكثر من اثنتي عشرة مرة منذ ذلك الحين. وضعت يدي على عنقها وقبلتها. ثم رأيت أن والدتها كانت تراقبنا من على بعد بضعة أقدام. ألقيت التحية على والدتها، ووضعت يدي على حلقها وقبلتها أيضًا. بعد ذلك ذهبنا نحن الثلاثة بسعادة لتناول القهوة في سانبورنز. على الطاولة وضعت يدي على يدها وضغطتها حتى رأيتها تضغط ساقيها معًا. ذكرتني والدتها بأن ابنتها فتاة محترمة، متزوجة ولديها أطفال، وأنني حصلت على فرصتي منذ ثلاثة عشر عامًا وقد فوتها. عند سماع ذلك، خففت من اندفاعي الأولي وقررت عدم تجربة أي شيء آخر في الوقت الحالي. غادرنا سانبورنز وسرنا على طول لا ألاميدا، مرورًا بالتماثيل الإباحية، حتى سيارتها التي كانت متوقفة على مسافة طويلة. ثم أخذت بيدي وضربت كف يدي بإصبعها الأوسط حتى اضطررت إلى إدخال يدي الأخرى في جيبي في محاولة يائسة للحفاظ على شغفي تحت السيطرة. وصلنا أخيرًا إلى السيارة، وعندما ركبتها أدركت أنه قبل ثلاثة عشر عامًا لم أفقد ساقيها وفمها الرائع وأردافها الصحية فحسب، بل أيضًا ثلاثة أو أربعة ملايين بيزو صالحة للاستعمال. لقد أوصلنا والدتها لتناول الطعام في مكان ما، ليس من المهم أين. بقينا في السيارة أنا وهي وحدنا، وأخبرتها أنني مازلت أفكر بها، فقالت إنها لا تزال تفكر في . اقتربت منها قليلاً، وحذرتني من أنها تتعرق لأن وظيفتها تجعلها تتعرق. قلت وأنا أشم رائحتها: "لا أهتم، على الإطلاق". ولم أهتم. ثم قمت بسحب شعرها وقضم مؤخرة رقبتها وضغطت على بطنها... حتى اصطدمنا عند زاوية تاماوليباس وسونورا.

بعد الحادث ذهبنا إلى سبتمبر دي تاماوليباس لشرب الجن والمقويات والهمس لبعضنا البعض بالكلمات الحلوة.

كان الفراق قاسيًا ولكن لا مفر منه لأنها كانت ستتناول الغداء مع حماتها. "هل سأراك مجددا؟" "أبداً." "إذا مع السلامة." "مع السلامة." اختفت في سيارتها القوية في طريق إنسورجينتس، وذهبت أنا إلى كانتينا إل بيلون حيث شربت المسكر من سان لويس بوتوسي والبيرة وتجادلت حول ألوهية المسيح مع عدد قليل من الأصدقاء حتى الساعة السابعة والنصف، وحينها كنت مريضًا. ثم ذهبت إلى بيلاس أرتيس في سيارة أجرة معطلة.

كانت عيناي غائمتين عندما تعثرت في الردهة. أول شيء رأيته وسط بحر الأشخاص التافهين، مثل الزهرة التي تخرج من قوقعتها، كانت هي. فجاءت مبتسمة وقالت: «تعال وابحث عني غدًا»  وحددت الزمان والمكان ثم غادرت.

يا شهوة الجسد الحلوة! ملجأ الخطاة، عزاء المتألم، إغاثة المرضى العقليين، تسلية الفقراء، ترفيه المثقفين وترف المسنين. أشكرك يا رب لأنك منحتنا استخدام هذه الأجزاء التي تجعل هذا الوجود في وادي الدموع الذي وضعتنا فيه أكثر احتمالاً!

في اليوم التالي حضرت للموعد في الوقت المحدد. دخلت المبنى ووجدتها تعمل في المهنة التي جعلتها تتعرق بغزارة. نظرت إلي بارتياح، وفخورة بمهارتها، وقليلة التحدي أيضًا، كما لو كانت تقول: "هذا لك". لقد أذهلتني لمدة نصف ساعة، معجبًا بكل جزء من جسدها وفهمت لأول مرة جوهر الفن الذي كانت تمارسه. عندما انتهت استعدت للخروج ونظرت إلي في صمت. ثم أخذت ذراعي بطريقة رقيقة جداً. نزلنا الدرج، وعندما خرجنا إلى الشارع قابلتنا والدتها اللعينة.

ذهبنا للتسوق مع الشمطاء العجوز ثم، مرة أخرى، لتناول القهوة في سانبورنز. لمدة ساعتين كان عليّ أن أحتفظ بشيء ما - لن أعرف أبدًا ما إذا كان ذلك تنهدًا أم صرخة. أسوأ ما في الأمر هو أنه عندما أصبحت أنا وهي أخيرًا وحدنا مرة أخرى، بدأت تتلو على  سلسلة غبية عن مدى حظها وامتنانها لله لأنه أنقذها من ارتكاب خطيئة الزنا الفظيعة. لقد جربت كل الحيل اليائسة المتاحة لي - سلسلة من التحرشات والوخزات ومحاولات القتل التي تنطوي على الاختناق والتي يمكن أن تكون فعالة جدًا مع بعض النساء - ولكن دون جدوى. نزلت من السيارة في فيليكس كويفاس.

أعتقد أنها عندما رأتني أقف يائسًا على الرصيف، أشفقت علي لأنها فتحت حقيبة يدها وأعطتني الصورة الشهيرة وقالت إنها إذا قررت أن تفعل ذلك (ارتكاب الخطيئة)، فسوف ترسل لي برقية.

وبالفعل، بعد مرور شهر، لم أتلق برقية، ولكن رسالة بالبريد الإلكتروني تقول:: "عزيزي خورخي، قابلني في كونديتوري" في يوم ووقت كذا وكذا (مساءً)، موقعة بعبارة "خمن من؟" باللغة الإنجليزية. ركضت إلى المكتب، وأخرجت الصورة وحدقت فيها، متوقعًا اللحظة التي ستشبع فيها غرائزي البائسة.

وجدت من يقرضني شقة وبعض المال. ارتديت ملابس رثة بعض الشيء، ومع ذلك كانت تناسبني جيدًا، وسرت في شارع كالي دي جينوفا في فترة ما بعد الظهر، ووصلت إلى كونديتوري قبل ربع ساعة من الموعد المحدد. بحثت عن طاولة موضوعة بشكل خفي لأنني لم أرغب في أن يراني مئات الأشخاص هناك، وعندما وجدت واحدة جلست في مواجهة الشارع؛ طلبت القهوة وأشعلت سيجارة وانتظرت. طلبت القهوة وأشعلت سيجارة وانتظرت. بدأ الأشخاص الذين أعرفهم في الوصول، واستقبلتهم ببرود شديد لدرجة أنهم لم يجرؤوا على الاقتراب مني.

مر الوقت.

أثناء سيري في شارع كالي دي جينوفا مرت بجانبى ( نون)  فتاة صغيرة كانت في وقت آخر حب حياتي، واختفت. وشكرت الله على ذلك.

بدأت أتخيل كيف سترتدي ملابسها وخطر لي أنها ستكون عارية بين ذراعي خلال ساعتين.

مرت ( نون)  مرة أخرى في شارع جينوفا واختفت مرة أخرى. هذه المرة كان علي أن أغطي وجهي بيدي، لأن (نون) كانت تنظر نحو المقهى.

لقد حان الوقت. كنت متوترًا للغاية، لكنني كنت على استعداد للانتظار ثمانية أيام إذا لزم الأمر، فقط لقضاء بعض الوقت بمفردي مع هذه المرأة العنيدة.

ثم يفتح باب المقهى. تدخل (نون) الفتاة التي كانت حب حياتي، وتعبر الغرفة وتجلس أمامي مبتسمة وتسألني:

- هل تخمينك صحيح؟

انفجرت فى الضحك. ضحكت وضحكت حتى بدأت"نون" تشعر بعدم الارتياح؛ ثم عدت إلى صوابي، وتحدثنا بسرور قليلاً وأخيراً رافقتها إلى حيث كان أصدقاؤها ينتظرونها للذهاب إلى السينما.

لقد انتقلت إلى جزء آخر من البلاد مع زوجها وأطفالها.

ذات مرة اضطررت للذهاب إلى المدينة التي تعيش فيها للعمل. عندما انتهيت من عملى في اليوم الأول، بحثت عن رقمها في دليل الهاتف واتصلت بها؛ كانت سعيدة جدًا لسماع صوتي ودعتني لتناول العشاء.

كان الباب مزودًا بمطرقة ويتم فتحه عن طريق سحب الحبل. عندما دخلت القاعة رأيتها واقفة فى أعلى الدرج، ترتدي بنطالًا أخضر ضيقًا للغاية يعكس أفضل ما في جسدها. عندما صعدت الدرج نظرنا إلى بعضنا البعض، وابتسمنا، دون أن نقول كلمة واحدة. وعندما وصلت إليها، مدت ذراعيها، ولفتهما حول رقبتي وقبلتني. ثم أخذت بيدي، وبينما كنت أنظر إليها بغباء، قادتني عبر الفناء إلى غرفة المعيشة وهناك، على الأريكة، تبادلنا القبلات مائتين أو ثلاثمائة قبلة... حتى عاد أطفالها من الملعب. ثم ذهبنا لإطعام الأرانب.

أحد الأطفال، الذي كان مصابًا بعقدة أوديب، كان يبصق في وجهي في كل مرة أقترب منها ويصرخ "إنها لي!". ثم، وبدون أي خجل، فك أزرار قميصها وأدخل يديه إلى داخله ليلعب بصدرها ، بينما كانت تنظر إلي باستمتاع. استمر العذاب لبعض الوقت حتى ذهب الأطفال إلى الفراش وذهبنا إلى المطبخ لإعداد العشاء. وعندما فتحت الثلاجة جددت الهجوم وبدا الوضع مبشرا، ولكن بعد ذلك وصل زوجها. سكب لي شراب "باتي" وقادني إلى غرفة المعيشة، حيث تحدثنا عن كل أنواع الهراء. وأخيرا، كانت الوجبة جاهزة. جلسنا نحن الثلاثة على الطاولة، تناولنا الطعام، وعندما وصلنا إلى القهوة، بدأ الهاتف بالرنين. نهض الزوج للإجابة وفي هذه الأثناء بدأت هي بجمع الأطباق وأمسكت بذراعها وقبلت معصمها. بهذا الفعل البسيط حققت أكثر بكثير مما كنت أتوقع: توجهت نحو المطبخ ومعها كومة من الأطباق المتسخة. عاد الزوج، وارتدى سترته وأوضح لي أن شركة التوصيل اتصلت به لإخباره أنهم استلموا للتو بندقية عيار سميث آند ويسون 38 الذي أرسلها إليه شقيقه من مكسيكو سيتي مع شيء آخر لا أتذكره. على أية حال، عليه أن يذهب لإحضار البندقية على الفور؛ سأشعر بأنني في منزلي: هنا مشروب الروم، وهنا القرص الدوار، وهناك زوجتي. وسيعود خلال ربع ساعة. يخرج الزوج إلى الشارع، وأذهب أنا إلى المطبخ، وبينما كان يشغل السيارة كنت أطارد زوجته.عندما حاصرتها قالت لي "انتظر لحظة" وأخذتني إلى غرفة المعيشة. صبت كأسين من مشروب الروم ، وأسقطت مكعبًا من الثلج في كل منهما، وذهبت إلى مُشغل الأسطوانات، وقامت بتشغيله وضعت أسطوانة تسمى "Le sacre du Sauvage". بدأت الموسيقى ورفعنا نخبًا. لقد مرت أربع دقائق. ثم بدأت بالرقص بمفردها. قالت: "هذا لك". نظرت إليها بينما كنت أحسب المكان الذي سيكون فيه زوجها في رحلته حاملاً سلاحه القاتل .38 سميث آند ويسون. ورقصت ورقصت.رقصت على أنغام أعمال شيت بيكر الكاملة.  إذ مرت ثلاثة أرباع الساعة دون أن يعود زوجها، ولا هي تتعب، ولا أجرؤ على فعل أي شيء.

لقد مرت خمسة وأربعون دقيقة بالفعل، ولم يعد زوجها بعد، ولم تتعب بعد من الرقص، ولم أجرؤ بعد على فعل أي شيء. في تلك اللحظة قررت أن زوجها، بالمسدس أو بدونه، لا يخيفني كثيرًا. نهضت من مقعدي واقتربت منها. واصلت الرقصكما لو كانت ممسوسة، وبقوة غير عادية على الإطلاق، رفعتها وألقيتها على الأريكة. لقد أحبت ذلك. انقضتت عليها كالنمر وبينما كنا نتبادل القبل بشغف، بحثت عن سحاب بنطالها الأخضر وحاولت أن أسحبه إلى الأسفل ولكن... تبا، إنه لا يفتح! ولم يتم فتحه قط.لقد بذلنا قصارى جهدنا، في البداية أنا ثم هي، وفي النهاية كلينا معًا، وعاد الزوج قبل أن نتمكن من فتح السحاب. كنا نلهث ونتعرق، لكننا كنا نرتدي ملابسنا كاملة ، لذلك لم نضطر إلى تقديم أية تفسيرات.

ربما كان بإمكاني العودة في اليوم التالي لإنهاء ما بدأته، أو في اليوم التالي لليوم التالي، أو أي من الأيام الألف التي مرت منذ ذلك الحين. لكن لسبب أو لآخر لم أفعل ذلك قط. لم أرها مرة أخرى. الآن، كل ما تبقى لي هو الصورة التي أحتفظ بها في درج مكتبي، وفكرة أن النساء اللواتي لم أحظ بهن (كما يحدث مع كل المغويات العظيمات في التاريخ)، هن أكثر من حبات الرمل على وجه الأرض أو فى قاع البحر.

(تمت)

***

......................

المؤلف: خورجي إيبارجوينجويتيا/ Jorge Ibargüengoitia (1928-1983). كاتب  وصحفي  مكسيكي . يعد أحد أكثر وأهم الأصوات سخرية وذكاءً في أدب أمريكا اللاتينية في القرن العشرين وناقدًا لاذعًا للواقع الاجتماعي والسياسي لبلاده. درس الأدب والفلسفة في جامعة المكسيك الوطنية (UNAM) وحصل على منح دراسية من مركز الكتاب المكسيكيين ومن مؤسسات روكفلر وفيرفيلد وغوغنهايم. تشمل أعماله الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والتاريخ وأدب الأطفال، وله أكثر من عشرين كتاباً. في عام 1983 توفي إيبارجوينجويتيا في حادث تحطم طائرة.

 

بقلم: جانيت ونترسون

ترجمة صالح الرزوق

***

قابلت غابرييل أنجيل عام 1956. في سنة اقتران آرثر ميلر بمارلين مونرو. كنت في الطريق إلى البلاد، وغابرييل أنجيل تغادر بلدها، ووجهتنا نحن الاثنين واحدة، وهي لندن. وتصادف في حينه وجود آل ميلر هناك أيضا.

كانت كاودينبيث سفينة مبطنة بالماهوغوني وتعود لأيام ما قبل الحرب. وتبدو كأنها زورق في وقت الاستحمام، بمدخنتين سوداوين عريضتين، وتجهيزات مريحة تساعدها على الاستقرار في الماء. رشيقة وموهوبة من جيل نانسي أستور، وليس مقتصدة من جماعة الخمسينات. وقد أعيد ترميمها لتصبح سفينة يبحر بها الجنود في وقت الحرب، ولكن أفلت الآن أيام إبحارها. لقد تلفت، وكانت وقت وصولي إلى هناك مجرد عبارة تبحر مرة في الشهر من ساوثامبتون إلى سانت لوسيا، ثم كل شهر تبحر ثانية لتعود من حيث أتت. تمضي من طرف الحوض المائي إلى طرفه الآخر بغضون ثماني أيام. ومع أنها لم تعد براقة بقي لديها الكثير من القصص لتروى، ولطالما أحببت ذلك في النساء. وهذا ما أحببته في غابرييل أنجيل. سببت لي الرحلة القلق، ولذلك استيقظت في يوم المغادرة، في الفجر، فتحت وأغلقت الخزانة، وأزعجت الحارس بشدة الحرص على سلامة أشيائي. كان طريق العبور إلى كودينبيث مزدحما بأشخاص يركضون عشوائيا مثل جيش من النمل أمام طوابير من النمل. ورأيت هناك ناقلات تنتظر التحميل، وأطعمة يجب نقلها على متن السفينة، على أن ينتهي كل شيء قبل الانطلاق في الحادية عشرة. عالم مستتر، أو عالم يفترض أنه مستتر  ويسعب إدراكه. أردت أن أراقب الجهد الذي يبذله بعض الناس ليضمنوا رخاء الآخرين. لا تسيئوا فهمي. على الأغلب أنا بنفسي جزء من العالم الخفي. وبعد ساعتين أفسدت بطريقة غير عكوسة بذتي الرسمية الدائمة، وذلك بالجلوس منكفئا على نفسي في لفة من الحبال. شاهدت امرأة سوداء حسنة المظهر، ربما بالعشرين، وربما بالخامسة والعشرين، واقفة وقدماها ملتصقتان، وفي يدها حقيبة يد بنية صغيرة. وكانت تتأمل السفينة كأنها تفكر بشرائها. لو أن البحر ليس بضفة واحدة، لدارت حوله، ورأسها مرفوع مثل كلب سبانيال، وهي تشحذ عينيها بكثير من الرزانة.  بعد عدة دقائق انضمت إليها امرأة  أكبر بالعمر ومعتزة بنفسها. قالت لها الأصغر شيئا ما، ثم مدت ذراعيها نحو السفينة. ومهما كان ما قالته، ضحكت الاثنتان، ولم يؤثر ذلك على أعصابي. كنت أريد أن أثق بما يجري، وأن تكون السفينة واقفة أمامي،  وأن لا أنظر إليها كأنها بالة من القطن. ابتعدت عن حلقة الحبال، وحملت قبعتي، وتبخترت نحوهما. لم تنظرا لي، ولكن سمعت الأكبر بالعمر  تطلب علبة بسكويت معدنية تحمل على الغطاء صورة الملكة. كل شيء في الكومنولث متماثل. والجميع مغرم بالملكة الأخيرة. ولكنها شابة جدا بنظري.

***

قادني عامل الخدمة إلى مقصورتي. رأيت اسمي. السيد دانكان ستيوارت. رقم  D22. فتحت حقيبة اليد، ووضعت عدة أشياء على السرير السفلي، ثم عدت أدراجي إلى السطح لأراقب المنظر. كنت أحب مشاهدة لحظة وصول الناس، وتخيل حياة كل منهم. فهذا يعفيني من متاعب التفكير بظروف حياتي. لا يجب على الإنسان أن يكون ذاتيا جدا كي لا تضعف شخصيته. وهذه النقطة هي الفرق بين تينيسي وليامز وأرنست همنغواي. وأنا رجل من نمط همنغواي، ولكن لا أومن بمطاردة وصيد الأسود. انظروا الآن للشخصين الصاعدين على متن السفينة في هذه اللحظة. أراهن أنهما سحاقيتان. كلتاهما في الخامسة والستين، وقد تقلصتا داخل بذتين قطنيتين، وتعتمران قبعة بناما عتيقة. للممتلئة وجه بشكل ولون كرة الكريكيت، وتبدو الرفيعة كما لو أنها تعرضت للطي أكثر مما يجب. والصندل الذي ترتديه الممتلئة: ملمع مثل حبة الكستناء ومربوط برباط قوي. ربط الحذاء مسألة شخصية تكشف مزاج صاحبه. توجد أربطة متقاطعة، للرجال الأنيقين والأشداء الذين يتمسكون بالنظام سرا. وتوجد أربطة مستقيمة، تدل على التظاهر بقوة زائفة، ولكن إذا فكوها، يا إلهي، ترى أفعالهم. وتوجد أربطة متينة، وتعود على من يحتاج للشعور بالأمان، وتوجد أربطة مرتخية، وتدل على أشخاص يفضلون القليل من الحرية، وربما على أشخاص يفضلون الاستغناء عن لبس الأحذية. وقابلت كثيرين يفضلون عقدة مزدوجة. هؤلاء كذابون. وأنا أقول ذلك عن اطلاع ومعرفة.

ما إن غابت السحاقيتان، وذهبتا وراء رائحة عطر ثقيل، ومسحوق تجميل الوجه الذي يفوح من العجوز، حتى عدت أدراجي إلى الأسفل، وفي نيتي إغفاءة لمدة ساعة. فجأة لحق بي تعب ملحوظ. ورغبت أن أتخلص من سترتي، وأهوّي قدمي، ثم أستيقظ بعد ساعة لتناول الويسكي والصودا. وتخيلت بذهني الرقاد وطعم الشراب. فتحت باب مقصورتي.  وهناك رأيت الشابة  التي لمحتها من قبل على السطح. التفتت إلى صوت الباب وبدا عليها الدهشة.

قالت: "هل يمكنني تقديم خدمة؟".

قلت: "لا بد من وجود خطأ. فهذه مقصورتي".

عبست وحملت قائمة الغرف من فوق حقيبتها الصغيرة. وارتعش صوتها يقول: " ‘D22. غ. أنجيل ود. ستيوارت".

قلت: " صحيح. أنا دانكان ستيوارت".

قالت: "وأنا غابرييل أنجيل".

"ولكن هذا يعني أنه يجب أن تكوني رجلا".

بدا عليها الارتباك، ونظرت إلى نفسها بالمرآة. وحاولت أن أواصل كلامي من هذه النقطة. كان كل شيء واضحا بنظري.  فقلت: "لأن غابرييل اسم رجل".

اعترضت بقولها: " ولكن غابرييل اسم ملاك".

"والملائكة رجال. انظري لصور رافائيل وميكائيل".

"بل انظر لصورة غابرييل". 

نظرت إليها. لم أشاهد أجنحة وإنما ساقين مدهشتين. وكنت لا أزال مرهقا، ولم أحبذ الجدل بمسائل لاهوتية مع امرأة شابة لا أعرفها. وفكرت بالسرير والويسكي وبدأت أشعر بالأسف لنفسي. وقررت أن أذهب وأحل المشكلة مع المشرف. فقلت لها: "انتظري هنا حتى أعود". وأضفت: "سأسوي الأمر".

لكن لم أسو الأمر. كانت السفينة محملة مثل زورق للنجاة. فالمشرف، مثلي، ومثل أي إنسان يعرف أساسيات الإنجيل، وافترض أن غابرييل اسم رجل. ولذلك خلطنا معا. ولا يمكن لركاب الدرجة الثانية ان يختاروا. وتوجب علي أن أشرح لها كل ذلك، لكن لم يطرف لها عين. إما أنها بريئة كما يظهر عليها، أو أنها ماكرة محترفة. بعض البنات يغذين الرجال بالحليب منذ انتفاخ صدورهن. ولم أرغب بمشكلة.

سألتها وأنا أجهز نفسي لحمل متاعي: "الأسفل أم الأعلى؟".

قالت: "الأعلى. فانا أحب المرتفعات".

تسلقته واستلقت عليه. وأنا تمددت في الاسفل، دون أن أتخلص من حذائي، خشية من رائحة القدمين. وشعرت بخيبة الأمل. كنت أتوقع وجود شريك في الغرفة، ولكن أملت أنه شاب قوي يحب لعب الورق وتناول الويسكي في آخر الليل. إذا فضلت الحفر لترى ماذا هناك تحت السطح، وراء الضروريات، لا تستطيع أن تضع الرجال بجانب النساء.

دلت رأسها من حافة السرير. وقالت: "نعسان؟".

"نعم".

"وأنا أيضا".

مرت فترة صمت. ثم سألتني ماذا أعمل لكسب قوت يومي.

قلت: "رجل أعمال. تاجر".

نظرت لي بالمقلوب، كأنها وطواط بني كبير الحجم.  وجعلتني أشعر بدوار البحر.

أضفت دون اهتمام حقيقي: "وأنت؟".

قالت: "قبطان طائرة".

مرت ثماني أيام في البحر. كل يوم أطول مما يحتاج له القدير لخلق كل العالم،  مع فترة عطلته. يومان معا أطول مما احتاج له الرب ليخلق جدتها حواء وجدي آدم. في هذه المرة لم تغشني التفاحة. اليوم جلسنا على السطح، غابرييل أنجل وأنا. أخبرتني أنها من مواليد عام 1937، في اليوم الذي أتمت به إميليا إرنهارت عبور الأطلنطي، وأصبحت أول امرأة تفعل ذلك. طيران منفرد. أما جدها، تقول له ج ا دي، فقد أخبرها أن هذه إشارة، ولذلك أطلقوا عليها اسم غابرييل "حامل الأخبار السعيدة"، شيء مشع ويطير. وعلمها جدها أن تسافر بطيارة البريد التي كان يقودها بين الجزر. وأنبأها أنه عليها أن تكون أذكى من الحياة، وأن تجد طريقة تهزم بها الجاذبية الأرضية، وأن تؤمن بنفسها كالملائكة، فأجسامهم براقة مثل اليعاسيب، بأجنحة ذهبية تعبر منها الشمس. وأنا لست ضد أحد يطابق بين حياته وحدث مهم له معنى،  وبهذه الطريقة يعزو لنفسه أهمية. الله يعلم أننا بحاجة لأي مربع نقف عليه، ويمكن أن نجده فوق جبل وجودنا الزجاجي. لكن المشكلة أنك تصعد وتصعد، وقرابة منتصف عمرك، تكتشف أن كل الوقت مر وأنت في نفس النقطة. وتعتقد أنك أصبحت شخصية معروفة حتى تنزلق وترى أنك مجهول ونكرة. وأنا أخبرك بذلك لأنني جربته. وختمت كلامها بقولها: "أنا فقيرة، ولكن حتى أفقر البشر يرثون شيئا، نظر الوالد، شجاعة الأم. أنا ورثت الأحلام".

ملت إلى الخلف. استطعت أن أرى فيها مساحة من أمل ساطع كنت أمتلك مثله في داخلي، وهو ما دفعني للتوتر والسخط. وجعلني أشعر بالأسف لأجلها أيضا. ورغبت أن أحضن يديها بيدي، وأن أغرس نظراتي في عينيها، وأن أجعلها تلاحظ أن العالم غير مستعد للاهتمام بأحلام بنت صغيرة سوداء اللون.

قالت: "سيد ستيوارت، هل شعرت يوما بالحب؟".

كانت تستند على الحافة، وتتأمل المحيط. نظرت إلى قوس عمودها الفقري، وتابعت تكويرة وركيها من تحت ملابسها. رغبت أن ألمسها. ولا أعرف لماذا. فهي صغيرة جدا بالنسبة لعمري. وقبل أن أجد الفرصة للجواب، مع أنني لم أكن جاهزا لجواب، بدأت بالكلام عن رجل يضع نجوما في شعره، ويمد ذراعيه مثل جناحين، ويضمها بهما. ابتعدت بقدر ما أستطيع. ماذا يمكن لأحد أن يقول عن الحب؟. يمكن أن تجمع كل الكلمات المعروفة وتسكبها، لكن الحب لا يتأثر، لن تشعر بأي فرق، فالجرح في القلب،  والرغبة التي تسبب الصداع نادرا ما تتسع لها اللغة. ما لا يمكن ترويضه هو الذي نتكلم عنه. وأنا أتكلم كثيرا عن غابرييل أنجيل. ولو بمقدوري الإفصاح عن الحقيقة، لقلت إنه كانت لي خطيبة قبل الحرب، وعلينا الآن العودة بذاكرتنا إلى عام 1938. كان لها شعر غزير، وينسدل على ظهرها. ويمكنها أن تلف شعرها حولها كما لو أنه أفعى. ولكنني لست عازف ثعابين. وهي ابنة مزارع. وقلبها مثل جرار يمكنه أن يجر أي رجل ليخرج من جلده. وكان شعرها أحمر مثل الشمس حينما تشرق في أول الصباح. وكانت تنظر لكل شيء حولها بجدية، حتى لو أنه كومة حطب. ويوجد العديد من الرجال الذين يقدمون لها أبدانهم كأنهم لوح حطب، فقط ليصبحوا بين يديها لخمس دقائق. وأعلم أنني مثلهم. ولكننا لم نتلامس كثيرا. ولم يكن يبدو أنها تريد ذلك.

حينما تبادلنا تحية الوداع في نهاية طريقها، سمحت لي بتمرير السبابة فوق صدغها وحتى حلقها. لها شعر ناعم على وجهها، وغير ملحوظ، ولكن تحسسته بيدي. إذا عدت لشبابي، سأقفز نحو غابرييل أنجيل الموجودة على السطح وأطلب منها أن ترافقني بالرحلة القادمة. سنبحر في السفينة الإيطالية، وهي سفينة للإبحار الحقيقي. سفينة إس إس غاريبالدي وتمخر البحر المتوسط بهدوء. وتنسيك عبور الأطلنطي مباشرة مع العمال والمهاجرين الذاهبين إلى مكان بارد لم يروه من قبل. وهناك يمكن لي أن أمسك بيدها ونحن نمر بجزر المارتينيك ولاس بالماس وتينريفة. ويمكنني أن ألف خصرها بذراعي ونحن نعبر من مضيق جبل طارق. وفي برشلونة أستطيع أن أشتري لها جوهرة مادونا ولآلئ صغيرة. ثم نتابع بالبحر إلى جنوة ونستقل قطار الميناء إلى إنكلترا. فقد جرى مد الخطوط الحديدية التي تمر من إيطاليا وسويسرا وفرنسا عام 1850 وهي من أوائل الخطوط التي أنشئت. وسمعت أن روبرت براوننغ، الشاعر، والسيدة إليزابيث باريت براوننغ، شاعرة أيضا، سافرا كل هذه المسافة. وكم تسعدني هذه العلاقة الروحية معهما. وأحب أن أهرب مع غابرييل أنجيل. ولكن حاليا نحن على متن هذه العبارة متجهين إلى ساوثامبتون، وهو أقصر طريق ظعقد ومباشر، ولكن لم أضم فيه غابرييل أنجيل بين ذراعي. ثم تبين لي أن السحاقيتين مبشرتان. الآنسة بيد، ولها وجه يشبه رسالة غرامية كورها المستلم بقبضة يده، وأخبرتني أنهما كانتا في ترينيداد لثلاثين عاما. والآنسة كويم، كرة الكريكيت، وقد دربت فريق الهوكي على امتداد ثلاثة أجيال.  وهما في طريق العودة إلى البلاد لتشتركا بشراء بيت مزرعة في ويلز، واقتناء كلب ستسميانه روفر. وأدركت أنهما سعيدتان. لم أكن أنام جيدا. وتحت مقصورتي عنبر وهو أرخص أسلوب تتبعه في السفر.  هذا شيء جيد. ولكن كان الخطأ في فرقة باربادوس بانجو، وهم خمسة وعشرون فردا في طريقهم إلى قاعات الرقص في إنكلترا. ليس من السهل أن تنام بشكل جيد وأنت مكوم بالإضافة لخمسين قدما، وخمسمائة أصبع يد وأصبع قدم وست وأربعين عينا. كان فوقي انحناءات جسم غابرييل أنجيل التي تسبب الجنون. في ردهة السفينة، تجد خريطة الأطلنطي، معلقة باعتزاز، وتتخللها خطوط حمراء تدل على مسارنا. ويوميا يعمد أحد المشرفين على تحريك علم أخضر فوق الخط الأحمر، لنعلم أين وصلنا. واليوم بلغنا منتصف المسافة. نقطة اللاعودة. ومنذ اليوم أصبح المستقبل أقرب لنا من الماضي. لا يوجد لدي أحد أذهب إليه في إنكلترا. ولا أتوقع أن ينتظرني أحد في ساوثامبتون أو فكتوريا. ولكنني أمتلك في لندن بيتا بغرفتي نوم وشرفة. وكان مستأجرا طيلة اثني عشر عاما مضت، والآن يجب ان أعيش في نزل حتى يصبح بيتي شاغرا في الشهر المقبل. ولكن لن أتعرف فيه على أي شيء. فقد طلبت من الوسيط العقاري أن يهتم بتأثيثه ولكن بتكاليف رخيصة. ولاحقا ستصل الشحنة الخاصة بي، وسأباشر ببيع التحف والمصنوعات الكاريبية، وسأتابع بهذه المهنة كما أفترض حتى أجد شيئا أفضل، أو حتى أموت.  والنظر لمستقبلي مثل النظر إلى يوم ماطر، من وراء نافذة غير نظيفة.

قالت لي: "لا بد أنك مشتاق يا سيد ستيوارت".

"مشتاق لماذا يا آنسة أنجيل؟".

كانت تقرأ في نسختي من "مرتفعات ويذرنج" لأميلي برونتي. وأعربت لي أنها ترغب بأن تعيش في يوركشير. وحرصت أن لا أعرض عليها نسختي من "روب روي".

هل العاطفة الجارفة ممكنة بين رجل وامرأة؟. وإذا قلت (ولكن لم أفعل) 'أود لو أعتني بك' هل أنا أعني 'أود أن تعتني وتهتمي بي؟'. وأنا مرتاح ماديا، وأستطيع أن ألبي حاجاتك. ويمكنني توفير الحماية لك. ولدي الكثير لأقدمه لامرأة شابة في مكان غريب محرومة فيه من الأصدقاء والنقود. ثم أقول 'هل تقبلينني زوجا يا آنسة أنجيل؟'.

جاء الصباح. الوقت مبكر. ولم تبلغ الساعة السادسة. ارتديت ثيابي بعناية. جعلت ربطة العنق مستقيمة، ولمعت حذائي جيدا، وأحكمت شد الأربطة بعقدتين. يمكن لأي شخص أن يتأملني الآن. على السطح كان البحر يقطع الزورق، والأمواج رمادية وجليدية ومتشعبة. جلدت الرياح أكمام معطفي وترقرقت عيناي منها. اليوم سنصل إلى ساوثامبتون وسأستقل القطار إلى محطة فكتوريا، وأصافح المسافرين وسنتبادل الأمنيات الطيبة، ثم فورا ننسى بعضنا بعضا. وأعتقد أنني سأقضي الليلة في فندق جيد. في الليلة الماضية لم انم، وتسلقت سلم السرير وامعنت النظر بغابرييل انجيل، المستلقية بسلام تحت ضوء الامان الاصفر الباهت. لماذا لم ترغب بي؟. كانت الشمس تشرق. ولكن نحن على بعد 93000000 ميلا ولا اجد الدفء الكافي. وسرعان ما ستاتي غابرييل انجيل الى السطح ببلوزتها ذات الاكمام القصيرة وهي تحمل منظارها المستعار. لن تشعر بالبرد. فالشمس في داخلها. واتمنى ان تهدأ الرياح. فالرجل يبدو سخيفا اذا ترقرقت الدموع في عينيه.

***

.................

* جانيت ونترسون Jeanette Winterson قاصة وروائية بريطانية معاصرة. وهذه القصة مترجمة من كتابها "العالم وأماكن أخرى" الصادر عن دار فينتاج عام 1998.

 

قصيد للشاعر التّنويري الشّهيد الطاهر الحداد

ترجمة الشاعرة زهرة الحوّاشي.

***

يَقولونَ لِلإِسلامِ نَبغي سِيادَة

وَأَعمالهم ترمي هداه إِلى الوَرى

*

وَيدلون بِالإِصلاح قَولاً مزورا

وَلكنَّهُم بِالفِعل صدّوا التطورا

*

وَكَيفَ يسود المُسلِمون بِأَرضِهِم

وَهم يَجهَلونَ المُرتَقى وَالمَعابِرا

*

وَقَد أَدرَكَ الغَيرُ المرام بِسَعيه

فَجاءَ إِلى أَوطانِهِم مُتأزّرا

*

فَلَم يَبقَ إِلا أَن يَكدوا ككدّه

إِلى المَجدِ توّاقين أَو يَسكُنوا الثَّرى

*

وَلكِنَّني مَهما يَكن لَست يائِساً

فَلا بُد لِلأَفهام أَن تَتبلورا

*

وَإِذ كانَ حَتماً أَن يَطول اِنتِظارنا

فَلا بدّ حَتماً أَن نجدّ وَنَصبِرا

***

.............................

Ils prétendent œuvrer

pour l'islam et sa sauveraineté

***

Ils disent : nous voulons le sauver !

Mais leurs actes ne mènent qu'aux obscurités

*

Ils prétendent  oeuvrer pour l'évolution

Mais ce n'est que tromperie

et hypochrisie

*

Et comment être en sa patrie souverain

Si l'on ignore l'escalade du bon chemin

*

Pendant que l'ennemi acquiert le savoir

Et arrive de loin pour les coloniser

*

Aucun salut !

sans dévouement en âme et en corps

Pour la gloire

Ou bien tout sera perdu

*

Mais je garde encore espoir

Qu'un jour les idées seront mieux éclaircies

*

Même s'il faut patienter

Travaillons dur pour y arriver !

***

Poème de Taher El Hadded.

Traduction de Zohra Hawachi .

 

قصة: أليخاندرا زينة

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد جاء به ذات ليلة دون سابق إنذار. كانا قد التقيا صدفة في محطة كارلوس بيليجريني. وكما يحدث  في الأفلام، كان الاثنان يسيران في اتجاهين متعاكسين واصطدما وجهاً لوجه. أشياء مثل القدر: تعيش في أكبر مدينة في البلاد وتجد نفسك فجأة تحت الأرض مع شخص لم تره منذ قرون.

وقف الرجلان عند باب المطبخ، ينتظرانها لتغلق الصنبور وتأتي لتلقي التحية.

قال إسماعيل وهو يضع ذراعه حول رجل في مثل طوله ولكنه أكثر رشاقة، ذى بشرة زيتونية وعينين خضراوين، مثل العديد من الأشخاص من المقاطعة ذوي الدم الأوروبي.

- هل تتذكرين مورين؟ كنا معًا في بويرتو بيلجرانو.

جففت أنجيلا يديها في سروالها الجينز وسارت نحوهما. لا، لم تتذكره، لكنها أومأت برأسها بابتسامة عريضة. عندما ابتسمت، لمعت عيناها الرماديتان وأضاءت قزحية عينيها باللون الأصفر مثل قطة. ومع احمرار وجهها من حرارة الفرن، بدت عيناها أكثر إشراقا. شعرت باالفرق في درجة الحرارة عندما قبل خدها، وببرودة الشارع ثم بنوع من الراحة غير المتوقعة.

سأل إسماعيل:

- هل تحتاجين لشراء شيء ما من المتجر؟

هزت أنجيلا رأسها وذهبت لتتفقد الدجاجة. لحسن الحظ أنها طهت واحدة كاملة في ذلك اليوم. وعادة ما تطبخ قطعة واحدة فقط لكل واحد منهما، ساقين وفخذين مع الكثير من الليمون، وقطعة من الزبدة، وشرائح من البصل، وشرائح من الفلفل الأحمر الحلو.

في مرحلة ما، بدأ إسماعيل في سرد القصص عندما كانا في القاعدة، وهو الشيء الوحيد الذي يربطهما، والذي تم الكشف عنه الآن مثل شيء مفقود منذ زمن طويل.لكن ذلك كان بعد تناول الدجاج والبطاطس المشوية، وبعد شرب زجاجتي نورتون التي اشتراهما الرجلان قبل الصعود إلى الشقة، وبعد تقشير ثلاث تفاحات حمراء وتقطيعها على طبق كحلوى مرتجلة وبعد أن روى الضيف قصة زيارته إلى منزل والديه في بوساداس (حيث لم يكن أحد يتوقعه) بعد أن أدركت أنجيلا من هو مورين.

- هل تتذكرين يا حبيبتي؟

في بعض الأحيان كانت أسئلة إسماعيل تحمل طابع الاستجواب، كما لو كان يختبر ذاكرتها وتركيزها.

- ماذا؟

وضعت أنجيلا مجموعة أدوات المائدة المتسخة على كومة الأطباق ونهضت من فوق  الكرسي.

- المجند الذي قتل نفسه. ياللفظاعه! لكنني أخبرتك بذلك، ألا تتذكرين؟ كنا في مهمة مراقبة، وتلقى رسالة من صديقته تفيد بأنها ستتركه .

خفض مورين رأسه، متأملا.

- في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وصل البريد وبعد نصف ساعة أطلق النار على نفسه. أليس كذلك؟

لمس إسماعيل مرفق رفيقه. أومأ مورين برأسه وهو يخرج سيجارة من جيب قميصه، وأمسكها بيده لكنه لم يشعلها أبدًا.

- من يستطيع أن يعرف لماذا يقتل الناس أنفسهم؟ ...

وضعت أنجيلا كومة الأطباق التي كانت تحملها بين يديها.

ردد إسماعيل بوقار مبالغ فيه:

– ما يقوله جندى البحريةر صحيح؛ ما وعد به قد تحقق. إن ما  فعله أمرمشرف.

وأضاف وهو يربت على جبهته:

- موسوم بالنار.

يلاحظ مورين نفاد صبر أنجيلا: فهي تريد الاستماع إليهما، ولكن في الوقت نفسه،إنها تريد الانتهاء من مسح الطاولة. يدفع مورين كرسيه إلى الخلف على قدميه.

- لا، لا، لا، سأنتهى منها .

أجلسته أنجيلا مرة أخرى، ووضعت يدها على كتفه.

- حارسه يلعق الدم.

سألت أنجيلا وهي تلتقط الأطباق من جديد:

- أي حارس؟

- الكلب الذي كان لديه مهمة مراقبة معه. عندما وصلت إلى القاعدة، خصصوا لك كلبًا، وهو كلب ألماني. كان عليك تدريبه وإطعامه وأخذه إلى بيت الكلاب. لقد اعتنيت بالكلب واعتنى الكلب بك. هكذا كان الأمر، أليس كذلك؟

سأل إسماعيل وهو يلمس ذراع مورين.

أومأ مورين برأسه وقد ضاعت نظراته على مفرش المائدة، وفتحتا أنفه متسعتان، كما لو كان يكبح مشاعره.

صرخت أنجيلا:

-  شيء مسكين.

قال إسماعيل مستغربا:

- كلب؟

صرخت أنجيلا من المطبخ:

- نعم.

سأل إسماعيل وهو يرفع صوته:

- كلب هنا ؟

أخرجت أنجيلا رأسها إلى الردهة:

- ولم لا. قهوة؟

أجاب إسماعيل دون أن يغير لهجته:

– مورين يريد وأنا أيضًا.

كان الرجلان صامتين، يستمعان إلى الأصوات القادمة من المطبخ: تدفق الماء يهتز في قاع الغلاية، صوت الغلاية على الموقد، واحتكاك عود الثقاب على حافة العلبة، هسهسة فتح الغاز.

قال إسماعيل وهو يلف منديل القماش في أنبوب صغير مطوي على نفسه، مثل عصا البلاستيسين البرتقالية:

- نحن نحاول إنجاب طفل .

كان مورين بعيدًا. مستغرقا فى شىء آخر.

- لقد كان لدينا بالفعل ما يكفي من الوقت لأنفسنا، ونفعل بالضبط ما أردنا القيام به. حسنا، بقدر ما نستطيع. لقد حان الوقت لبدء الحملة. وماذا عنك؟

- أوه ، لا شئ. لا احد.

نظرت من الردهة إلى صديق زوجها، الذي كان يتمتع ببنية شخص يعمل في الحقل. عندما لمس كتفها ليجعلها تجلس مرة أخرى، شعرت ببنيته، وشعرت أيضًا بأشياء أخرى. وكأنني لمست ثلجاً جافاً، وهو شيء يبرد ويحترق في نفس الوقت. للوهلة الأولى، بدا أصغر سناً بكثير من إسماعيل. لا شعر رمادي، لا خط شعري متراجع، لا أقدام الغراب. ولكن كان هناك شيء ما في مظهره، شيء قديم.

- أنجيلا، أنا أتحدث إليك.

- نعم.

سأل إسماعيل وهو يحبس ضحكته:

- ماذا تفعلين ؟

وأوضح لمورين:

- إنها هكذا .

وقفت أنجيلا في الردهة التي تصل بين المطبخ وغرفة المعيشة، جامدة كالتمثال، وفمها مفتوح ونظرها نحو السقف. كما لو كانت منغمسة في حالة نشوة أو وحي. أخذ إسماعيل تلك اللحظات بروح الدعابة. لقد اعتقد أن المشكلة هي أنه كانت تفكر في أشياء كثيرة في وقت واحد، وقد اختلطت جميعها. كم عدد الرجال المتزوجين من امرأة تسليهم حقًا؟ عدد قليل. أقل مما نتصور. لقد كان محظوظا.علاوة على ذلك، كان متأكدًا من أنها ستكون أمًا جيدة، حتى لو اعتقدت الأسرة خلاف ذلك.

- عليك أن تنتبهى إلى أشياء معينة .

أجابت أنجيلا وهي تمشط شعرها بكلتا يديها عندما عادت إلى مقعدها.

- أوه، استمع لهذا، قرأت ذات يوم قصة مذهلة.كان هناك رجل يستخدم دائمًا الحوض لغسل وجهه لمدة أربعين عامًا.وفي أحد الأيام، أثناء مشاهدته لبرنامج تلفزيوني، أدرك أنه كان يفعل ذلك بشكل خاطئ لمدة أربعين عامًا ولم يوضح له أحد كيفية استخدامه.

ضحك إسماعيل وابتسم مورين:

- هذا مستحيل.

- قرر الرجل أنه إذا لم تقل له زوجته وأطفاله الخمسة أي شيء (لمعرفة كيف يستخدمه)، وإذا سمحوا له بإلصاق وجهه حيث سيضعون وجوههم، فيجب أن يكون وحيدًا تمامًا في المنزل وفى العالم.

سأل إسماعيل وهو يحاول استخلاص النكتة:

- وهل غادر المنزل؟

- نعم، انتقل إلى منزل بدون بيديه، ليتعافى، مثل حيوان جريح .

انفجر إسماعيل ضاحكًا وركض إلى الحمام قائلاً إنه يتبول.أمسك مورين بالكوب نصف المملوء وأنهى النبيذ في جرعة واحدة. نظرت أنجيلا نحو المكان الذي هرب فيه زوجها، وأسندت صدرها على الطاولة وتحدثت بهدوء وفيها لمحة من الحقد:

- إنه أيضًا بطيء بعض الشيء في اكتشاف الأشياء.

لعق مورين شاربه العنابي اللون وابتسم مثل صبي اكتشفه متكئًا في مخبئه.

– أظن أنك أتيت من أجل شيء ما.

نظر مورين إليها بفضول أثناء حديثها، قامت أنجيلا بوضع علامة صليب المقبرة     على مفرش المائدة.

– في الخزانة لدينا صندوق نحتفظ فيه بكل أسرارنا الأكثر أهمية. لقد كتبناها على قطع من الورق، وقرأناها بصوت عالٍ واحتفظنا بها. لقد كانت فكرة إسماعيل، قال أنه بهذه الطريقة سيكون حبنا أقوى. الأسرار معروفة ومحفوظة جيدا. أنا متأكدة من أن اسمك ليس موجودًا في هذا الصندوق. لكنك هنا ولا أعرف السبب. هل هو مدين لك بشيء؟

ألقى مورين السيجارة على الطاولة وأمسك بها قبل أن تسقط. ضغطت على الجزء الخلفي من يده.

- أخبرني.

بدأ مورين يهز رأسه، ولكن انتهى به الأمر بالنظر في اتجاه الحمام. كان إسماعيل يعدّل قميصه داخل بنطاله.

– في سبيل الله، كنت على وشك الموت.

اهتزت الغلاية على الموقد، وقفزت أنجيلا وركضت إلى المطبخ.  وبينما كانت تصفى القهوة، وضعت أنفها بالقرب منها واستنشقت ببطء رائحة التحميص. ومن الممكن أيضًا أن يكون لقاءً بين أصدقاء قدامى، وليس أكثر من مجرد نوبة حنين. قامت بوضع طقم القهوة على صينية ذات مقابض نحاسية صغيرة. أشياء كثيرة تصبح فاخرة مع مرور الوقت، وهذا ما حدث مع طقم الخزف البني الذي ورثه عن جدتها. بدا وكأنه بقايا.

وعادت أنجيلا وهي توازن الصينية.

أبعد إسماعيل كرسيه عن الطاولة، وجسده متصلب وعيناه مثبتتان على رفيقه السابق. كما لو أنه اكتشف للتو شيئًا يعرفه الجميع إلا هو.

وبينما كانت أنجيلا تقدم القهوة، سُمع طرق قوي على الجزء السفلي من باب الشقة، بدا وكأنه ركلة مصنوعة بإصبع حذاء صلب، ركلة قوية ومرتجفة. نظر الثلاثة إلى بعضهم البعض. قام إسماعيل من الكرسي بحركة بطيئة. وفجأة أصبح الليل طويلا جدا؛ منذ متى كانوا يجلسون على الطاولة؟

- سوف أرى.

عندما فتح الباب، وجد المشهد اليومي: الضوء الأوتوماتيكي مضاء، والفسيفساء ذات اللون الزنجبيلي، والسجاد البالي للشقة المقابلة، وصوت توقف المصعد وتشغيله. أغلق إسماعيل الباب وظل ينتظر. وتكررت الضربة مرة أخرى. وضع عينه في ثقب الباب فرأى كل شيء أسود. وضع أذنه على مستوى القفل وسمع اللهث، والمسامير تخدش الأرض، ونباح يتردد صداه في الردهة.

فتح الباب وضغط على زر الضوء، وعلى بعد خطوات قليلة كان الكلب الألماني ينظر إليه وقد أخرج لسانه وبطنه ينتفخ وينكمش مثل المنفاخ. بدا وكأنه صعد خمسين درجة من السلالم وليس خمسًا. نظر إسماعيل نحو غرفة المعيشة. وقفت أنجيلا ووعاء القهوة في يدها، مذهولة، وكأنها لم تصدق مدى السرعة التي تحققت بها رغبتها في الحصول على حيوان أليف.

انزلق الكلب بين ساقي إسماعيل وتدحرج على الأرض. كان يتحرك كالعاصفة، يسقط وينهض، ينبح ويئن، بينما يتأرجح ذيله كالمجنون.لقد راوغ ساقي أنجيلا كما لو كان كرسيًا يقطع طريقه.

كان مورين واقفاً لاستقباله. لقد رأيت ذلك بالفعل، وشعرت به بالفعل. وبينما كان ينقض عليه، واضعاً كفيه على كتفيه ليلعق وجهه بإخلاص. نفس اللعقات اليائسة التي أعطاها إياه ظهر ذلك اليوم عند بوابة الحراسة. كان لتوديعه آنذاك، والآن للترحب به.

(تمت)

***

..........................

المؤلفة: أليخاندرا زينة/ Alejandra Zina. ولدت أليخاندرا زينة في بوينس آيرس. أصدرت مجموعتين قصصيتين ورواية. في عام 2000 شاركت مع غييرمو كورن في تحرير مختارات من الأدب الأرجنتيني المثير. تم نشر قصصها في مختارات في الأرجنتين والمكسيك وإسبانيا. تقوم زينة بتدريس الكتابة الإبداعية في المدرسة الوطنية لتجريب الأفلام وتحقيقها في بوينس آيرس.

قصة: آنا بريزكاو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كانت المنازل ضخمة. لقد ارتفعت العديد من الطوابق في السماء لدرجة أنني لم أتمكن من رؤية أعلاها. وكأنها كانت ترقد بين الغيوم. عاش أولكاي وسميحة وعبد الله وعلي في هذا الجزء من المدينة. إنه حي الأطفال الأتراك. هذا ما أطلقه عليه غير الأتراك هنا في أول مدينة ألمانية عشت فيها.

أمام هذه المبانى الضخمة كان الملعب حيث أصبحنا أنا وعلي وعبد الله وأولكاي وسميحة أصدقاء. في فترة ما بعد الظهر، كان الأطفال الأجانب فقط هم الذين يتواجدون في الملعب. ذهب جميع الأطفال الألمان إلى الرعاية النهارية بعد المدرسة. كان عليك أن تدفع للانضمام. وكانت العملية بيروقراطية. التسجيل، واستمارات لا تعد ولا تحصى – كان آباء الأطفال الأجانب يتحدثون لغات أجنبية ولم يفهموها. وهكذا انتهى بنا الأمر إلى اللقاء في الملعب، الذي كان بالقرب من مدرستي، في جزء مختلف من المدينة حيث كان الناس يحدقون بي وبالأطفال الأتراك وكأننا سلالة نادرة ومرعبة من الحيوانات البرية. على الرغم من أننا سمعنا لغات مختلفة في المنزل، إلا أننا عشنا جميعًا في نفس العالم. عالم أولكاي وسميحة وعبد الله وعلي وأنا.

إذا جمعت أعمارهما معًا، فإن سميحة وأولكاي كانا في الحادية والعشرين من العمر. كان  أولكاي، الأكبر، في الحادية عشرة من عمره، وسميحة أصغر منه بسنة. كانا يعيشان في الطابق السابع فى واحد من تلك المبانى العملاقة. كانت دائما تفوح منه رائحة الطبخ في الممرات. من أمهات من بلدان أخرى. كانت الأمهات من البلدان الأخرى يطبخن دائمًا. كان الممر الموجود في طابق سميحة وأولكاي يمثل مشكلة. ليس بسبب رائحة الطعام، ولكن بسبب المصعد. سميحة وأولكاي كرهتا هذا المصعد. لقد منعوني من استخدامه مطلقًا. السلالم كانت جيدة، على الرغم من ذلك. فكنا دائما نصعد السلالم.

كان هذا عندما كنت لا أزال أؤمن بالحكايات الخيالية. كان المصعد شريرا.

- يُقتل الناس هناك. وبعد ذلك، يختفون.

لا يكاد يمر يوم دون أن يخبرني أولكاي بذلك.

قالت سميحة:

- يعيش رجل نازي في هذا المصعد. ويقتل الشعب التركي .

كانت شقة صديقي مقابل المصعد الشرير، ويفصلها عنه ممر طويل جدا. انعكس الباب الأمامي لمنزل أولكاي وسميحة في أبواب المصعد القديمة المخدوشة. في كل مرة كانت تفتح فيها أبواب المصعد عندما كنا لا نزال في الممر، كنا نركض بأسرع ما يمكن في ذلك الوقت، ونختفي إما في الدرج أو في شقتهما.

كانت مثل شقة أي أجنبي آخر، ولكن كان هناك شيء واحد مفقود. الأب. كانت الشقة عبارة عن غرفتين رئيسيتين. إحداها كانت غرفة المعيشة، حيث كانت العيون التركية الفيروزية تحدق بي من الزجاج أو التمائم المحبوكة. كانوا ينظرون إلي بنفس الطريقة التي نظرت بها إلي تلك العيون الألمانية الرمادية في الجزء الذي أعيش فيه من المدينة، حيث يعيش عدد قليل من المهاجرين. الغرفة الثانية كانت تخص صديقي اولكاى وسميحة. على ورق الحائط كان هناك صبي على دراجة يحاول ركوب التل. دائما نفس الصبي، دائما نفس التل. لم يفعل ذلك قط.

بقيت والدة صديقي في المطبخ. وبحسب سميحة وأولكاي، كانت تنام تحت العين التركية الساهرة في غرفة المعيشة، لكنني لم أرها إلا في المطبخ. ولا مرة واحدة  شاهدتها في أي من الغرف الأخرى. كانت ترتدي حجابها مطويًا، لكنه كان فضفاضًا عما كانت عليه عندما كانت في الشارع.

لم أفهم كيف لا يمكن أن يكون هناك أب في هذا الطابق. التقيت بفتاة ألمانية واحدة فقط في المدرسة ولم يكن لديها أب. جميع الأطفال الأجانب لديهم آباء. أردت أن أعرف كيف يكون الأمر، كوني شخصًا ليس له أب، لكن في كل مرة أذكر فيها كلمة "أبي"، كان أولكاي يختفي لأداء واجباته المدرسية.

كان ذلك في أواخر الصيف، وربما في نهاية أغسطس. كان أولكاي وشقيقته وأمه قد عادوا في ذلك اليوم من تركيا، وأردت زيارتهما. لقد كنت في حمام السباحة في الهواء الطلق طوال اليوم، وكنت مصابًة بحروق الشمس وأذبل من لسعة الشمس. قررت أن آخذ المصعد الشرير إلى شقتهما. ضغطت على الزر للاتصال ثم اختبأت خلف صناديق الرسائل في الردهة: الآلاف من الناس يعيشون في هذا المبنى العملاق. نظرت إلى المصعد عندما فتحت أبوابه. لا نازى. كان فارغا، فركضت إلى الداخل. كان هناك العديد من الأزرار، كلها مستديرة وصفراء مثل حب الشباب الذي ذى الحفر فى وجوه الأطفال الأكبر سنا في مدرستي. ابتسمت وأنا أفكر في هذا، وضغطت على زر الطابق السابع. بدأ  المصعد يهتز، وجسدي يهتز معه . يمكن أن يأتي النازي في أي لحظة؛ كنت أتوقع منه أن يدخل المصعد في كل طابق. أظهرت الشاشة الصغيرة الطابق الذي كنت فيه: اثنان، ثلاثة، أربعة. لا يوجد أحد حتى الآن. ثلاثة طوابق أخرى – شعرت أنني كنت في قصة خيالية مرعبة – ثم أضاء الطابق السابع. انفتح الباب، وكان أولكاي واقفاً هناك في الممر. التقت عيناه الصارمتان بعيني، ورأيت فيهما غضبًا لم أره هناك من قبل.

ضرب بقبضته على إطار الباب وصرخ قائلاً: "لقد غششت"، ثم أغلق باب شقته خلفه. وكنت لا أزال في المصعد. مع رنين ناعم، بدأت الأبواب تغلق. لقد عبرتها بخطوة كبيرة، وطرقت الجرس وقرعته، لكن باب أولكاي لم يفتح.

وبعد يومين رأيت سميحة عند حمام السباحة. لم تقل كلمة واحدة. كانت تجلس على حافة حوض السباحة، وقدميها الداكنتين في الماء. جلست بجانبها.

قلت بهدوء:

- مرحبا .

ولم ترد سميحة.

- كيف كانت تركيا؟

قلتها بصوت أعلى من "مرحبا".

لم تتكلم، بل قفزت في الماء. ولم يتحدث شقيقها معي أيضًا. لمدة أربعة أيام في حمام السباحة، كان الأمر كما لو كنت غير موجود بالنسبة  لهما.

في اليوم الخامس في حمام الباحة، رأيت عبد الله وعلي، الصديقين الآخرين من الملعب. سألا لماذا يتصرف الأطفال الأتراك بهذه الغرابة. كانا دائمًا يطلقان على أولكاي وسميحة اسمي الطفلين التركيين،  وكانا هما أنفسهما يطلق عليهما الصبية العرب . قلت لا أعرف وعيني امتلأت بدموع التماسيح قسرا.

قال علي:

- لا بد أنك فعلت شيئًا ما. هل قلت شيئا سيئا عن والدتهما؟

كان يزمجر، وكان أيضًا يحمل شيئًا يشبه التمساح.

- لا!

خرجت  منى بصوت عالٍ، كنت أصرخ تقربا . ماذا فعلت؟ لقد كان المصعد. كنت أعلم أنه لا بد أن يكون هذا هو الحال، لكنني لم أرغب في إخباره. خيانتي كشفت خيانة سميحة وأولكاي: قصة مصعدهم لم تكن أكثر من قصة أطفال، ولم يكن خطأي.

لقد تم نفيي واستبعادي من الصداقة مع أولكاي وسميحة لأيام وأسابيع وشهور... لمدة أربع سنوات. لقد كبرت كثيرًا لدرجة أنني لم أتمكن من التأرجح والتسلق في الملعب. لقد كونت صداقات مع الأطفال الألمان، الذين كانوا أكبر من أن يذهبوا إلى الحضانة بعد المدرسة. ونادرا ما كنت في حي الأطفال التركي مع المبانى العملاقة . ولم يعد عبد الله وعلي يحبان اللعب مع الفتيات. أو ربما ما زالا يريدون اللعب مع الفتيات، لكنها كانت لعبة من نوع مختلف، لعبة تتضمن الأيدي والأجساد، ولم أكن مستعدًة له1ا النوع من اللعب .

كان ذلك في أواخر الصيف مرة أخرى، وكما حدث في المرة السابقة، كنت مصابًا بحروق الشمس وذابلة من لسعة الشمس. كنت أنتظر عند محطة الترام عندما رأيت سميحة. كانت عيناها منتفختين، وبدت جفونها حمراء. كانت تبكي. لم تعرفني سميحة في البداية. ألقيت التحية، ثم أدركت من أنا وقالت اسمي.

سألتنى دون أن تقول مرحباً:

- هل لديك منديل؟

بحثت عن واحد  في حقيبتي:

- ماذا حدث؟ كيف حالك؟

- سنعود إلى أنطاليا.

-  لماذا؟ متى؟

-   أمي...

انكسر صوت سميحة. و منعتها دموعها من الكلام.

- هل هي مريضة؟

أخفت سميحة وجهها الضيق، الذي كان داكنًا والآن أحمر أيضًا، خلف المناديل.

- إنها تكره المكان هنا. لقد كرهته منذ أن غادر والدي .

-  هل هو في أنطاليا أيضًا؟

ظهرت سميحة من خلف المناديل. كما كانت الحال قبل أربع سنوات، لم تكن تتكلم. لكن عيناها قالت نعم.

ألقيت بنفسي بين ذراعي سميحة النحيلتين، لكن العناق كان مفتعلًا لدرجة أن صديقتي السابقة انتزعت نفسها بأسرع ما يمكن. نفضت نفسها.قالت:

-       لقد كرهها هنا أيضًا. وبعد ذلك كرهنا بسبب ذلك.

قلت:

- والدك لا يكرهك.لا يمكنك أن تكرهين عائلتك .

فتحت سميحة فمها للحظة، لكن مرة أخرى لم تخرج أية كلمات. أو ربما قالت شيئًا فاتني. لم أسمع سوى صرير عالٍ وحاد عندما توقف الترام. سيعيدها ترام سميحة إلى حي الأطفال التركي. قفزت من مقعد محطة الترام وقالت وداعا متسرعة. كان الأمر كما لو أننا لم نكن صديقتين  أبدًا في الطابق السابع من المبنى العملاق، كما لو أنها لم تبكي هنا عند محطة الترام.

ثم كانت في الترام. لم أنظر بعيدا. انزلقت الأبواب أمامها بقليل من الضيق. حدّقت سميحة فيّ بغضب. كانت تعلم أنني فهمت أخيرًا. كانت الطريقة التي نظرت بها إلي من خلال أبواب الترام تعكس الطريقة التي نظر بها إليّ شقيقها قبل أربع سنوات في الطابق السابع، وأبواب المصعد بيننا. وكان ذلك يعكس الطريقة التي رأت بها سميحة وأولكاي والدهما في الطابق السابع. ربما كانت المرة الأخيرة التي رأياه فيها. عرفت ذلك الآن، بينما كان الترام الذي يحمل سميحة يتجه باتجاه حي الاطفال التركي.

مشهد واحد لمع في رأسي. ربما كان مجرد خيال، لكنه بدا حقيقيًا وحقيقيًا جدًا. جرت أحداثه في المبنى  العملاق لأولكاي وسميحة. وكانت الاثنتان مع والدتهما عند باب شقتهما ووالدهما في المصعد المفتوح. أغلقت الأبواب واختفى. لم يكن هناك أبدًا نازي يقتل الأتراك ويجعلهم يختفون. اختفى تركي واحد فقط. لكنه كان  مازال على قيد الحياة ويعيش بعيدا. فى ذلك المكان الذي انتقل إليه بعد فشله في تكوين حياة جديدة في البلد الجديد.

لقد انغرز العار بداخلي الآن مثل نصل السكين. وجهي احترق. لقد كان خطأي، بعد كل شيء. لقد أخذت منهم حكاية سميحة وأولكاي الخيالية.

(تمت)

***

...........................

الكاتبة: آنا بريزكاو/ Anna Prizkau. ولدت آنا بريزكاو عام 1986 في موسكو. جاءت إلى ألمانيا مع عائلتها في التسعينيات، ونشأت في هانوفر، ثم درست في هامبورغ وبرلين. تعمل بريزكاو كمحررة في صحيفة فرانكفورتر ألجماينه زونتاج تسايتونج. وفي عام 2021 تم ترشيحها لجائزة إنجبورج باخمان. وهي تعيش في برلين.رابط القصة المترجمة:

https://www.no-mans-land.org/article/the-man-in-the-lift/

بقلم: كوليت بول

ترجمة: صالح الرزوق

***

استيقظت سوريندر متأخرة، وسرها أنها نامت طيلة أسوأ فترة من صباح يوم السبت المعتم. كانت الساعة تبلغ تمام العاشرة. استلقت وأصاخت السمع لصوت المرور المكتوم الذي يعبر الشارع بالاتجاهين. ولصخب الأولاد الذين يلعبون في المروج الخضراء خلف نافذتها. هذا هو شهرها الخامس. ولم تشعر من قبل بمثل هذه الوحدة القاسية. في بلدها الأصلي دائما الجماعة حولها. أمها وأبوها وأخواتها، جدها، الطاهية، ومدبرة المنزل. الكثير من الزحام الصاخب الذي يجعلها تشتاق لبعض الهدوء والسلام. ولكن الكلام مع الناس هنا لا يشبه هناك. كان عليها أن تركز على اللهجة، وأتعبها هذا الإجهاد المبذول.  توجب عليها أن تقترب من الناس كثيرا، كما لو أن ذلك يساعد على ردم المسافة الفاصلة بين الاستماع وفهم الكلام. ومنذ أسابيع قالت طالبة في الجامعة: من فضلك يا سوريندر ابتعدي قليلا، تقريبا أنت تمتطينني. ومع أنها تعلم أن وراء ذلك طبيعة وروح إيجابية، أصبحت تخشى من تبادل الكلام مع الآخرين. ولكن كان ينقص أحلامها التوتر والشغف، وكانت أحيانا في أحلامها تفتح فمها لتتكلم ولكنها لا تنطق بصوت واحد. أو أنها تتلعثم بلغة اختلطت فيها البنجابية والإنكليزية معا. نظرت إلى الساعة مجددا، وحددت التوقيت الحالي في بلادها. وتخيلت أخواتها كلا على حدة، وخمنت ماذا تفعلن. وحينما ضجرت، نهضت بسرعة، وهي ترتجف من البرد، وارتدت مئزرها فوق المنامة والقميص الذي ترتديه من أجل السرير. منذ عدة أيام انصرفت كريستين، شريكتها في الشقة، إلى بلدها للاحتفال بعيد الميلاد. وأصبح المكان لها فقط. ومع أن كريستين تنفق وقتا طويلا في بيت صديقها أو في غرفتها وراء باب مغلق، شعرت بالهدوء الغريب في غيابها. كانت هذه عطلة رسمية للجامعة، ولا يتعين عليها الدوام، أو تأدية الواجبات. وفي الأمس صباحا أحضرت كل الكتب المقررة إلى غرفة المعيشة، وعقدت العزم أن تبدأ بكتابة الأطروحة. رتبت القرطاسية ودفتر الملاحظات والورق الأبيض على الطاولة قرب النافذة. ولكن عوضا عن أن تشرع بالكتابة، أمضت المساء كله بمشاهدة التلفزيون، وهي تقلب في أعداد قديمة من مجلة "مرحبا"  التي تركتها كريستين وراءها. ثم نظفت المطبخ، وخرجت للتسوق. وفي لحظة عودتها، بدأت الثلوج تهطل. نظرت من النافذة وراقبت الثلج يسقط بصمت تام من السماء السوداء، وكأنه خدعة سحرية يختفي عن النظر حالما يلامس الأرض. ورغبت أن تضحك بتعجب، ها هي هنا، ترى بأم عينيها شيئا قرأت عنه في الكتب فقط. مدت يدها لتسقط آخر بلورة ثلجية على راحتها. كان يصعب عليها أن تتخيل أنها لا تثلج على كل الكون، وإنما على بقعة منه فقط. وأن عائلتها في بلدها تغرق حاليا بالنوم، والبيت موصد طيلة الليل، والكلب يعوي في الباحة. انتابها القلق فيما تبقى من الأمسية، وشرعت بكتابة رسالة لصديق من بلدها، وحاولت أن توضح ظروفها. فهو لم يدرس في الجامعة: كان يعمل في مكتب والده، ويطبع المطالبات المالية. أما رسائله فقد كانت تضم مقتطفات من قراءاته، وأفكاره. مثلا: صدق ماركس. الدين هو أفيون الشعوب، الوهم  هو الوضعية الحقيقية إذا فتحت عينيك لتنظر بهما إلى العالم الحقيقي. أنفقت سوريندر وقتا مطولا على رسائلها الجوابية، مع أنها حرصت أن تكون آخر صيغة مضطربة وغير واضحة، ومليئة بالتشطيبات والكلمات المعقدة مثله. (كتبت في إحدى المرات: سامحني على التهميشات. فهي تدرك أن هذه الكلمة تسر سانجات - باعتبار أنه إنسان نخبوي). وفي إحدى المناسبات قبل أن تغادر بعدة شهور تبادلا القبلات.  وفي اليوم التالي قابلها في الشارع ليخبرها أنه لم يفكر بها بتلك الطريقة، وافترض أنها أقرب ما يكون لصديقة، ويأمل أن هذا لن يفسد الأمور. قالت سوريندر: أبدا، البتة. كلا. طبعا كلا. وحينما حررت له الرسائل، لم يفارقها ألم ذلك اليوم.  وكانت حريصة أن تتكلم عن حياتها الحافلة والمثيرة، وأن تعرب عن عدم رغبتها بالرجوع إلى الهند. فالهند تقف في آخر مربع: ورد عليها برسالة أخبرها فيها أنه يشعر بالغيرة. أحيانا كانت تكتب فقرات مطولة وغامضة عن اكتئابها من أوضاع العالم. ولكن بدت لها كتابة درامية ومزيفة وتشبه اعتقادها أنها فراشة اجتماعية. وفي الحقيقة مرت تقريبا كل يوم بحالة انفجار عاطفي تبعها انفجارات ضياع كامل، وكلاهما أرعبها بطريقة لا يسعها الإخبار عنها أو تفسيرها.

قامت بطلاء غرفة المعيشة بلون أحمر داكن، مع حدود بيضاء. وكانت قاتمة ورطبة وذات رائحة خانقة. كان هناك موقد تدفئة من الرخام القديم، ويشتعل بشرارة كهربائية، ولكنها لا تعمل. وبجانبه وسادتان مخمليتان مبقعتان. لم تكن كلتاهما تمكثان هنا طويلا. لكن سوريندر بعد أن انتقلت إلى هذا المكان طبخت وجبة لهما، وأمضيتا ليلة طيبة، حول الطاولة. وخلالها أخبرتها كريستين عن مشاكل تعاني منها مع صديقها. فهو في السادسة والعشرين. وأكبر منها بعدة سنوات. ولديه ابنة صغيرة من علاقة سابقة. وقد حولت أم هذه البنت حياته إلى جحيم، فهي تخابره في أوقات متأخرة، وتبدل خططها دون سابق إنذار. وقالت كريستين إنه في نوبة كآبة: وهو إنسان عميق. أومأت لها سوريندر بتعاطف، وأيدتها، وأسعدتها الثقة بذاتها. سألتها كريستين عن الزواج المدبر، وهل مرت بهذه التجربة. قالت سوريندر كلا. فأبواها غير تقليديين، وأمها من دفعتها لتطلب المنحة، وألحت عليها أن تركز في الاستمارة على غلاسكو. وأخبرتها كريستين أن صديقها ذكي جدا، أذكى منها، ولكنه يفشل في امتحاناته. فأعصابه تؤثر عليه. وسألت سوريندر إذا كان يبدو لها إنسانا قلقا ومضطربا. قالت كريستين كلا إن شئت الحقيقة. مع أنها لم تقابله إلا في مرات قليلة.

وفتحت كريستين قلبها وقالت هذا لأنها لا تعرفه. وفي نهاية الليلة، ذكرت عدة أماكن يتوجب عليهما زيارتها معا، حانات تعجبها، ومطعم هندي أصيل لا يعرفه غير عدد محدود، ولكن لم يتحقق شيء من ذلك. وبمرور أيام الأسبوع أصبحتا ودودتين مع بعضهما البعض، ولكن لم تتحولا إلى صديقتين. ويمكن تعميم نفس الشيء على بقية طلاب الجامعة. وكانت سوريندر تذكر نفسها أن الصداقة لا تنشأ إلا بعد وقت طويل. في الليل اعتادت أن ترقد في سريرها، وترتب خططها. وأعجبها أن تحدد أهدافها كل أسبوع، حتى لو أنها مجرد زيارة إلى السينما، أو القراءة في كتاب وهي تشرب القهوة في مقهى كوستا داخل حرم الجامعة. وفي أيام الأحد، حين تخابر أمها، يكون لديها ما تخبرها به. والليلة لأجل خاطر أمها قبلت دعوة سينغ على الغداء، وهو ابن صديق أبيها منذ أيام الدراسة. مع أنها لم تقابل هذه العائلة من قبل. كانت لهجته على الهاتف رسمية. وهو من غلاسكو، لكن زوجته من البنجاب، وقال إنه يسعده أن تتكلم معه عن البلد. وقدم لها خطة معقدة لتصل إلى بيته. حافلتان، ثم مشي لمدة خمس عشر دقيقة، وسجلت ذلك بحرص، والهم يغمرها من كل الموضوع. ومر كل الأسبوع وهي تحاول أن لا تفكر بالمسألة.

واليوم وصل البريد بوقت مبكر، وبينه أربع بطاقات تهنئة وجدتها على مداس الأقدام أمام الباب، بانتظارها. غدا ستبلغ عامها الواحد والعشرين.  تأملت الكلمات المكتوبة، ثم وضعتها وراء الساعة على الطاولة. لن يكون لديها شيء تتكهن به إذا فتحتها اليوم. وتابعت عيناها الالتفات إليها، ثم فتحت الستائر لتموه عن نفسها. كان الشارع عريضا وعلى جانبيه حوانيت فوضوية وقذرة المظهر - عربات فاكهة، ومتجران للأساسيات، وصيدلية رخيصة، وجزارون، ومقهى. حينما انضمت كريستين لها في المسكن ذكرت أنها تشعر كأنها في الهند، وأن جماعة آسيوية كبيرة حولنا. أضر ذلك بمشاعر سوريندر. فالسكان على الأغلب باكستانيون ومسلمون. لهم لون داكن، ولا تشبه أحدا منهم على الإطلاق. النساء تتجولن بجماعات، أو مع أطفالهن، والعديد منهن محجبات. وبطريقة غريبة تفكر بالجسم المدفون تحت الحجاب، بالشعر والعرق الذي يسيل فوق الأبدان. أما سوريندر فترتدي الجينز والبلوزة. وشعرها الطويل يتدلى على ظهرها، وهذا يؤكد أنها ليست منهن. كان أمرا شاذا أن يصنفهم الناس هنا كأنهم جميعا من كومة واحدة. وفي إحدى المرات كانت تودع بتمهل مشترياتها في أكياس السوبر ماركت، فقالت لها امرأة عجوز تقف وراءها وبصوت مرتفع: هؤلاء يتوقعون أن ينتظرهم الآخرون. تظاهرت أنها لم تسمعها. فالمشكلة أصغر من أن تزعجها. تناولت بعض اللبن مع موزة، ثم حصلت على حمّام طويل. وحينما كنت أغادر الحمّام رن الهاتف. وكان من أجل كريستين. سجلت الأسماء بحرص على ورقة، بعد أسماء آخرين اتصلوا سابقا. كانت كريستين مشغولة دائما. ودائما في الخارج تتجول. وفي بعض الأحيان ترافقها زميلاتها وتمضين الليل معها في غرفة المعيشة يشربن النبيذ. وفي عدة مرات نامت خارج البيت، وكانت تقول لسوريندر إنها لا تريد ذلك، وتود لو بمقدورها أن تبقى في البيت. وتضيف: "أشعر بالإجهاد في الخارج".

وكانت سوريندر تكرر هذه العبارة في الجامعة، وكأنها تريد أن تقول، إذا سألها شخص ما، إنها  أمضت عطلة الأسبوع مجهدة من البرد. في الواقع عطلات الأسبوع هي أكثر أوقاتها إحساسا بالعزلة. ودائما يسرها أن تنتهي. نقبت في خزانتها، وتساءلت ماذا ترتدي لدعوة الغداء. أحضرت معها ثوبي ساري، أحدهما أحمر والآخر بنفسجي. ولكنها ستشعر بالاحراج إذا ركبت الحافلة بهما. كان الجو ماطرا، وعليها أن تلبس بوطها ومعطفها ولفاحة على كتفيها. ثم قررت ارتداء بنطال أسود وقميص أحمر، اشترتهما مؤخرا. أخرجتهما من الخزانة وعلقتهما على الكرسي. بلغت الساعة الثانية: بقي أمامها ثلاث ساعات. جهزت كأس شاي، وتجولت بتثاقل في الشقة. وقفت أمام باب كريستين. ثم فتحته قليلا. وقفت لحظة. كأنها تتوقع من يمنعها، ثم دخلت. كانت الستائر الخضراء المخملية الثقيلة مغلقة ولذلك ساد الظلام. كان السرير غير مرتب. والثياب مكومة على الأرض، وكأسا بيرة زجاجيان على غطاء الطاولة ومليئان بالماء. كانت كريستين تبدو لها قذرة قليلا، ولكنها متألقة، كأنها لم تجد الوقت الكافي لتغسل شعرها أو وجهها. كانت تضيف ظل عيون ثقيل، وترتدي الجينز الضيق. وقميصها الرقيق المفضل، من محلات فرانكي وموديل ريلاكس، مرمي على ظهر السرير. وجدار كامل بجوار السرير مغطى بالصور الفوتوغرافية. بعضها تبدو مثل لقطات عائلية، وغيرها كما هو واضح لقطات ليلية في الخارج بصحبة الأصدقاء. ومعظمها لصديقها المقرب. بمفرده أو معها. وبعكس كريستين كان يبدو شديد النظافة. وفي أحد الأيام جاءت سوريندر إلى غرفة الجلوس في الصباح ورأته جالسا على سروالها القصير الضيق، ويتابع التلفزيون. كان يغطي ساقيه وصدره شعر أسود غزير. ولم يكن متلبكا، وباشر بالكلام، وسألها كيف ترى غلاسكو، وأخبرها عن الفرقة التي انضم لها. وبعد أسابيع، شاهدته سوريندر يتكلم باهتمام مع بنت في مقهى شارع بايرز. ويداه على يديها فوق الطاولة. ولم يتبادر لذهنها أن تخبر كريستين. ولكن كانت تشعر بالاضطراب كلما ذكرت اسمه. وفي مناسبة أو اثنتين سمعتها تبكي بعد إجراء مكالمة هاتفية معه. ولكن في اليوم اللاحق يبدو كل شيء مستقرا مجددا. وتقول كريستين: ها نحن عدنا. والفرحة تغمر قلوبنا.

جلست على السرير، وحاولت أن تتخيل كيف يمكن أن يكون الحال إذا عاشت حياة مثل حياة كريستين. وبسرعة تخلت عن قميصها المتعرق، وارتدت قميص فرانكي. ثم تخلصت من بنطال الجينز الفضفاض، وارتدت سروالا أسود ضيقا مرميا على الأرض. وانتقلت إلى المرآة وأخذت نظرة من نفسها. هناك طلاء شفاه أحمر أيضا، وهو بلا غطاء وملقى على جنبه. استعملته كذلك. تجولت في أنحاء الغرفة، وحاولت أن تشعر بها. فحصت الأشرطة المضغوطة (السي دي)، ونظرت في صفحات كتاب عنوانه "اشعر بالخوف ولا تتراجع". وحاولت أن تجد أجوبة للمسابقة - كم تبلغ ثقتك بنفسك؟ - وحينها سمعت صوت خطوات أمام الباب من الخارج. جمدت، وبدأ قلبها يقرع. ولكن ابتعد الصوت على السلالم.  وأهاب بها الخوف أن تستبدل الثياب، وتعيد كل شيء إلى موضعه. أغلقت الباب بإحكام، وعادت إلى غرفتها. استلقت على سريرها، واحتفظت بعينيها مفتوحتين، مصغية لسقوط المطر على الشوارع المعتمة. فكرت بسانجيت. ثم بصديق كريستين. ثم ذهب كلاهما وبقيت وحدها تعاني من جوع غامض لشيء مجهول، أن يحصل أي شيء لها. وغرقت بالنوم حوالي ساعة. واستيقظت مرعوبة. كانت الخامسة والنصف، وعليها أن تتواجد في دينستون بتمام السابعة. حملتها أول حافلة إلى شولاندز. وحسب التعليمات عليها أن تغادرها عند المراحيض العامة، المجاورة للمنتزه، ثم تستقل رقم ثمانية وثلاثين. كان الشارع مزدحما بالمتسوقين، العائدين إلى بيوتهم، والمرور يسد الشارع. نظرت من نافذة مخزن إلى مجموعة حمالات لرفع الصدر. وكانت تغطي حلويات السيد كبلنغ الفرنسية التي ابتاعت منها حينما اشترت مظلتها. والآن هي في الخارج، جزء من الزحام، وشعرت أن قلبها خفيف فعلا. من الجيد أن يكون لك هدف تسعى لأجله في ليلة السبت. وربما ستجد قدرا كبيرا من طعام منزلي، وبدأ فمها يسيل وهي تفكر بطبق ألو جوبي (عجينة البطاطا والقنبيط) ودايل (البازلاء الصفراء المتبلة) ودجاج بالزبدة، وتيكا الدجاج (دجاج بلا عظام مطبوخ مع اللبن) وكومة من خبز روتي (خبز مستدير). ومهما حصل ستكون تجربة بالنسبة لها، وهو أهم شيء. وحتى في هذه اللحظة، وهي واقفة في شارع لا تعرفه، وبعد ركوب حافلتين قادتاها إلى منطقة لا تعرفها، راقبت رجلا مخمورا يلوح بعلبته أمام عابري السبيل: كل هذا ثقافة وخبرة. كان رقم ثمانية وثلاثين مزدحما، وتوجب عليها أن تقف وهي تمسك بعمود حديدي، بينما الحافلة تزحف في الشوارع كالثعبان. بعد قليل فرغت المخازن، ووصلت الحافلة إلى طريق أسود مستقيم، وكانت المسافة تبدو جوفاء ومعتمة. وخشيت أن لا تعرف محطتها، وارتاحت حينما لاح لنظرها مرآب إيسو. غادرت بعد محطتين. وتوجب عليها أن تلتف إلى اليمين، وأن تمشي حتى تبلغ ساحة دائرية، ثم تلتف الى اليسار. كان الشارع مهجورا، والبيوت بعيدة وتفصلها أسوار ذات جدران وبوابات. كانت قد تأخرت، فحثت خطواتها، وتبللت قدماها. كانت بيوت طريق الدردار أصغر حجما، ومن كتل رمادية بصفوف طويلة متعرجة إلى ما لانهاية. وحينما بلغت الرقم ست عشرة، كانت النوافذ معتمة، والممر فارغا. رنت الجرس، ورتبت شعرها بيدها، وانتظرت. لم يرد أحد. رنت مجددا. وأخرجت ورقة العنوان من جيبها، وتأكدت منها. بعد فترة نظرت في صندوق البريد، وكان معتما، ولم تشاهد شيئا. ولم تعرف كيف تتصرف. ماذا لو أنهم خرجوا لخمس دقائق بمهمة عاجلة. إذا انصرفت حالا سيعتقدون أنها لم تكلف نفسها عناء المجيء. وبدأت تحدق في نهاية وبداية الشارع، وحينها ظهرت امرأة في بيت الجيران. صاحت: "مرحبا. أنت. هل تبحثين عن آل سينغ؟". وافقت سوريندر بحركة من رأسها، واقتربت، فأخبرتها المرأة أنهم اضطروا لحمل صغيرهم إلى المستشفى. كانت حرارته مرتفعة، وأخبرهم الطبيب أن ينقلوه إلى المصحة الجنوبية العامة. فقد شك بالتهاب في السحايا. وقالت إنهم طلبوا منها أن تنتظر سوريندر، وأن تخبرها أنهم حاولوا الاتصال، ولكن على ما يبدو أنها كانت خارج البيت.

عادت سوريندر إلى أول الشارع. وأدهشها أن تشعر بخيبة الأمل والبؤس. بدأت تمطر بغزارة، وتسلل المطر إلى بوطها، وسال على رقبتها. فكرت بالأسبوع الذي يمتد أمامها، الشقة المتجمدة من البرد، والمحال المغلقة بسبب أعياد الميلاد. على الأقل وصلت الحافلة بسرعة. جلست قرب النافذة، وأراحت رأسها على الزجاج. السماء غير مقمرة وفيها سرب من الغيوم. بعد فترة فتحت علبة حلويات فرنسا والتهمت ثلاثة دفعة واحدة. تيار من البشر صعد وهبط. جلست امرأة عجوز بجانبها ونظفت معطفها من الماء. قالت: "آه يا ربي. ما هذا الطقس؟. أنا متأكدة أنكم لا تعرفون هذا في البلد الذي جئتم منه". ابتسمت لها سوريندر، فقالت المرأة: "آسفة يا عزيزتي. هل أخذت شيئا من مقعدك؟".

قالت سوريندر: "لا. أنا بخير".

لا زالت علبة الكعك المحلى في حضنها مفتوحة. وفكرت أنه من دواعي الأدب تقديم قطعة للمرأة. اختارت قطعة بنكهة الشوكولا. وأخبرت سوريندر إنها تزور أختها المريضة بانتفاخ الرئة.

وقالت: "أما أنا فلا أدخن يا عزيزتي. يمكن أن أقول لا أفعل. أرى أنه يجعلني مثل مدخنة". وشربتا قليلا. فهو عيد الميلاد. وسألت إن كان من المسموح لشعبها أن يشرب. قالت سوريندر نعم. وأبوها يحب الويسكي. قالت المرأة إنها تحبه أيضا، وإلا بايليز، وأحيانا القليل من الباكاردي والكوك.  ثم قالت إن زوجها مات في العام الماضي، ولذلك توقعت أن يكون عيد الميلاد هذا مملا، ثم أخبرتها عن مرض زوجها. كان أعمى تماما في نهاية حياته. والناس لا يحسنون التصرف مع العميان. وفي الشارع يهربون منهم إلى الرصيف المقابل ليتجنبوهم.

قالت سوريندر: "لماذا يفعلون ذلك؟".

قالت المرأة وخداها يرتعشان: "لأنهم أشقياء وجهلة". كان خداها براقين ولهما لون الكبد بسبب البرد. ولم تكن تبدو بحالة حسنة.

توقفت الحافلة في المحطة لبعض الوقت، ثم خرج السائق من مقعده ليخبرهم أن الحافلة تعطلت، والبديل في الطريق. كانوا وسط محلة غوربالز، شقق مرتفعة على طرف، وأرض عشوائية للنفايات مليئة بالألواح المكسورة على الطرف الآخر. قالت المرأة العجوز إنه بمقدورها أيضا أن تذهب مشيا من هنا - وأشارت إلى برج سكني وقالت: "أنا هناك".

وكان بانتظار الحافلة البديلة رجل آخر، ويشتم بصوت خافت، ويعلو وجهه السخط. وهو يدخن في مؤخرة الحافلة، وحينما طلب منه السائق أن يطفئها، تجاهله. لم ترغب سوريندر بوجوده معها، وقالت إنها ستتابع على الأقدام. أخبرتها العجوز أن هذه المنطقة ليست أفضل ما في المدينة، ولا تصلح للمشي، ولكن سترافقها حتى دكان موزع الصحف. والجميع يعرفها هنا. ولن يعترضوا طريقها. ومع أن سوريندر ارتاحت لذلك قالت: آه، كلا. ليس عليها أن تتعب نفسها. فقالت المرأة إن لم تفعل ستشعر بالقلق. وأضافت عموما عليها أن تخفف من هذه الدهون. وتحركت ببطء، وهي تتمايل بأنفاس مقطوعة. أبطأت سوريندر لتلحق بها. ثم أمطرت مجددا. وتجمعت برك الماء في حفر في الشارع.

سألت سوريندر ماذا تدرس. وهل تحب دراستها. قالت إن أمها تفتخر بها. وأضافت هناك أشياء أحبتها في غلاسكو، وأشياء من بلدها تفتقدها هنا. وأنها تشتاق لأهلها وأصدقائها. وقالت ذلك بصوت مرتفع فشعرت فجأة بالأسف على نفسها. وأدركت، في تلك الدقيقة، أنها تكره أحوالها هنا، وأنها لن تتحسن، حتى بعد أن تتقدم بالعمر.

ولم يفارقها شعورها بعد الوداع. استدارت المرأة إلى الاتجاه الذي جاءتا منه، وتابعت، وتجاوزت مجمع الأشغال، ثم الباحة التي تبيع شواهد القبور، والشقق الجديدة في آخر شارع فكتوريا. وكان خط ضوء رفيع يلمع من وراء الستائر. واستغربت أنها تفكر أن كل من يعيش هناك، يعتقدون أن حياتهم هامة، ومستقلة، كما ترى هي نفسها. طرق المطر أعالي السيارات كأنه يعزف لحنا موحشا. وظهرت جماعة من الأولاد في الطرف الآخر من الشارع، وهم يتشاحنون ويتدافعون، فخافت منهم، وأجبرت نفسها أن لا تسرع بخطواتها. وبعد أن تجاوزتهم، بدأت بالركض. لم تركض منذ مدة طويلة، ولكن استحسنت الركض، مرنت عضلات ساقيها، ولوحت بذراعيها الى الامام والخلف. ولم يكن هناك أحد ليراها، لذلك لم تهتم، وحتى لو هناك احد. سقط المطر على وجهها، وبلل سروالها. وفكرت انها ستبلغ الواحدة والعشرين في الغد. كررت الرقم في ذهنها. يا لها من انسانة كبيرة. وتذكرت أيام طفولتها. واخست بالرقة حيال نسختها الطفولية. تابعت الركض. وفكرت انه في الواحدة والعشرين لا يتاح للناس أن يفعلوا شيئا - كل شيء لا يزال أمامها، ويمكنها أن تفعل ما تريد. وكل ما عليها أن توجه وتجهز قواها الذهنية.

وعمليا كل شيء بموضعه الصحيح. كل شيء صحيح. وحتى لو انه ليس كذلك - وحتى لو لم يغرم لها شاب ما، وإذا تجاهلها الجميع، وسخروا منها وقللوا من شأنها (وهذا لم يحصل) فهذا أمر لا بأس به أيضا. يمكنهم أن يفعلوا ذلك. فهي في الغد بالواحد والعشرين. وهي قوية وفرصة لكل شيء لا تزال أمامها.

***

.......................

* كوليت بول Colette  Paul: كاتبة واكاديمية تعمل في جامعة كامبريدج. لها مجموعة قصص بعنوان "أيا كان من تحبين".

بقلم: كيت شوبان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

ذات مرة كان هناك حيوان ولد في هذا العالم، وعندما فتح عينيه على الحياة، رأى جدرانًا حابسة تحيط به من كل جانب، لكنها كانت قضبانا من الحديد يأتي من خلالها الهواء والضوء من الخارج ؛ باختصار ولد هذا الحيوان في قفص .

هنا نما وازدهر في القوة والجمال تحت رعاية يد حامية غير مرئية. عند الجوع، كان الطعام دائمًا في متناول اليد. عندما كان عطشانًا، تم جلب الماء، وعندما شعر بالحاجة إلى الراحة، تم توفير سرير من القش ليستلقي عليه ؛ وهنا وجد أنه من الجيد أن يلعق جناحيه الجميلين ويستمتع بأشعة الشمس التي يعتقد أنها موجودة، فقط لإضاءة منزله.

ذات يوم استيقظ من راحته البطيئة، ها! كان باب القفص مفتوحًا: الصدفة فتحته. جلس في الزاوية مندهشا وخائفا. ثم اقترب ببطء من الباب، خوفًا من أنه غير معتاد وكان سيغلقه، لكن لمثل هذا العمل كانت أطرافه عديمة الفائدة. لذلك أخرج رأسه من الفتحة ورأى مظلة السماء تكبر والعالم يكبر .

عاد إلى ركنه ولكن ليس للراحة، لأن تعويذة المجهول كانت فوقه، ومرة تلو الأخرى يذهب إلى الباب المفتوح، ويرى في كل مرة المزيد من الضوء.

ثم مرة واحدة يقف في طوفانه. أخذ نفسا عميقا - بعزيمة من أطراف قوية وبقفزة خرج.

يندفع، في رحلته المجنونة، غير مكترث بالكدمات والتمزق في جوانبه الملساء - يرى ويشم ويلمس كل الأشياء ؛ حتى أنه توقف ليضع شفتيه في المسبح السام، معتقدًا أنه قد يكون لطيفًا.

وبما أنه يتضور جوعاً، فلا يوجد طعام سوى ما يجب أن يبحث عنه والذي يجب أن يقاتل من أجله في كثير من الأحيان ؛ وتثقل أطرافه قبل أن يصل الماء الذي يروى حلقه الظمآن .

لذلك فهو يعيش ويسعى ويجد ويفرح ويتألم. الباب الذي فُتح بالصدفة ما زال مفتوحًا، لكن القفص سيظل فارغًا إلى الأبد!

(تمت)

***

 ....................

* كانت كيت شوبان (1850-1904) مؤلفة قصصية وروايات أمريكية. في هذه القصة القصيرة، يصف الراوي رد فعل حيوان عندما يفتح باب قفصه. يمكن مقارنة حياة الحيوان في القفص بحياته في البرية .

Editor's Choice

The White Rose of Athens

غنّتها المغنية اليونانية نانا ماوسكوري

ترجمة د. بهجت عباس

***

اِمضِ يا حُـبّي وفـارقـنــي إلــى

ريـثـما تُزهــرَ بيضــاءُ الورودِ

فوَداعاً!

خلّـنــي  وحــدي، وعُـدْ ثانيـةً

حينما الإزهارُ يأتي مــنْ جديدِ

*

تذهب الأيامُ في الصيف إلى الوادي الوسيعِ

وسيأتــي  البَــيْـنُ فـيمـا بيننــا جِــدَّ سريــعِ

مثلمــا الوردةُ تأتـي مَــع إتْـيــان الربـيـــع

أنتَ يا حُـبّــي ستأتـيـني  بشوق ووُلـــوعِ

*

اِمضِ يا حُـبّي وفـارقـنــي إلــى

ريـثـما تُزهــرَ بيضــاءُ الورودِ

فوَداعاً!

خلّـنــي  وحــدي، وعُـدْ ثانيـةً

حينما الإزهارُ يأتي مــنْ جديدِ

*

فوداعاً!

نلتقي في ذلك الوقت البديع

فوداعاً!

نلتقي في ذلك الوقت البديع

فوداعاً!

نلتقي في ذلك الوقت البديع

***

24 كانون الأول 2021

...............

الترجمة نثراً

إلى أنْ تُزهرَ الوردةُ البيضاء مرّة أخرى

يجب أن تتركني، اتركني وحيدة

وداعا يا حبّي حتى ذلك الحين

حين تُزهرُ الوردة البيضاء مرة أخرى

*

أيام الصيف تنتهي في الوادي

وسرعان ما سيأتي الوقت الذي يجب أن نفترق فيه

ولكنْ مثلُ الوردة التي تعود مع فصل الربيع

يجب أنْ تعود إليّ عندما يحلُّ الربيع

*

إلى أنْ تُزهرَ الوردة البيضاء مرّة أخرى

يجب أن تتركني ، اتركني وحيدة

وداعا يا حبّي حتى ذلك الحين

حين تُزهِرُ الوردةُ البيضاء مرّة أخرى

*

وداعا حتى ذلك الحينِ!

وداعا حتى ذلك الحينِ!

وداعا حتى ذلك الحينِ!

***

...................

* فيديو الأغنية

The White Rose of Athens - Nana Mouskouri – YouTube

https://www.youtube.com/watch?v=fDV98mkueYU

 .......................

The White Rose of Athens

(Songwriters: Hadjidakis Manos / Newell Norman / Bleyer Archie)

***

'Til the white rose blooms again

You must leave me, leave me lonely

So goodbye my love 'til then

'Til the white rose blooms again

*

The summer days are ending in the valley

And soon the time will come when we must be apart

But like the rose that comes back with the spring time

You will return to me when spring time comes around

*

Til the white rose blooms again

You must leave me, leave me lonely

So goodbye my love 'til then

'Til the white rose blooms again

*

Goodbye 'til then

Goodbye 'till then

Goodbye 'til then

 

Vast spaces are existences,

and there are no borders between them, and the surrounding things.

*

Silence is an empty area

Souls are creatures whose ruins are crowded by different stories and events.

*

The pale light of candle is aglow.

Chastity's coffin is carried by a bird without wings

Early in the morning, the ground tells the sky about  the song  of a skinny plant.

*

Then, at the corner, a melody gives the darkness of the grave a new hope.

*

The death is a hidden voice.

The shrouds of dead people are wet due to the pain of the clouds.

*

Breaths are echoes of remains.

sorrow is a winter that cries for help.

*

The history of people is scenes that are related to the lives of successive stations.

*

Akeel Abboud

San Diego

12/4/2023

2027 مقبرةمقبرة / عقيل العبود

المساحات الشاسعة هي وجودات،

لا حدود بينها وبين الأشياء المحيطة بها.

الصمت منطقة فارغة.

الأرواح كائنات تزدحم آثارها بالقصص، والأحداث المختلفة. ضوء الشمعة الشاحب متوهج.

نعش العفة يحمله طائر بلا أجنحة.

في الصباح الباكر،

تخبر الأرض السماء عن أغنية نبات نحيف.

ثم في الزاوية، لحن يمنح ظلمة القبر أملاً جديداً.

الموت صوت خفي،

أكفان الموتى مبتلة بألم السحاب.

الأنفاس هي أصداء بقايا .

الحزن شتاء يستغيث،

تاريخ الناس مشاهد،

لها علاقة بحياة محطات متعاقبة.

***

عقيل العبود - ساندييغو

٤/١٢/ ٢٠٢٣

للشاعر الشهيد الرمز شكري بلعيد

ترجمة: زهرة الحواشي

***

كما الجذع بين مدائن هذا الخراب

مثقلة يدك

والمزامير دقت فصول الرحيل

انا / أنت

والساعة الان تعلن بيعتها

في ارتعاش الطريق الطويل

متعبة راحة القلب

فتنأى المسافات

و الفاصل المستحيل

لم أجد ما يوحِّد الروح في روحها

فاستعرت اللغة

كأني الحنين الذي لم ير أوله

الساعة الآن مرتعشه

نرجسة الروح تعلن بيعتها

والرفاق على أوَّل الرفض

في فاصل الأرض

حطّوا رحال الجنون

على جثَّتي المهملة

مقطع من قصيد نشيد الخيول.

***

* من ديوانه أشعار نقشتها الرّيح على أبواب تونس السبعة.

................................

L'hymne des cavaliers

Comme un tronc entre les villes en ruine

ta main est chargée

les trompettes ont sonné l'heure  du départ

toi /moi

l'heure marque maintenant son serment d'allégeance

dans la frisson du long chemin

le coeur est fatigué

les trajets et la barrière impossible

s'éloignent

rien qui puisse unir l'âme  à son âme

j'ai emprunté la langue

comme si j'étais la nostalgie sans début

maintenant le moment est en frisson

l'âme déclare son allégeance

et les camarades sont dans le refus

sur la terre

ont débarqué leur folie

sur mon cadavre délaissé

Extrait du poème de Chokri Belaïd de son recueil Poèmes gravés par le vent sur les sept portes de la Tunisie.

Traduction de Zohra Hawachi.

(قصيدة تعود الى القرن الثامن عشر من تأليف الماركيزة دي ألورنا)

ترجمها عن البرتغالية: جميل حسين الســــــاعدي

***

قال القلمُ مفتخـــــراً

أنّـــهُ كتبَ كلمــــاتٍ مُهمّـــــــة

وأنجـــــزَ أعمــــــالاً

بقدر ما كانت رفيعة الأسلــــــوب

كانت كذلك واسعــــــة َ المحتوى

*

قالّ مخاطبـــــا ً الدواة:

ستقفيـــنَ هناكَ حزينــــــــة ً بدونــــي

ممتلئــــة ً بالســــائلِ الوســــخ

أيّــــــها الشييْ الحـــــزين من ستكون بدوني؟

*

سكبتْ الدواةُ الملعــــــونة ُ الحبْــــرَ

ثمّ التفتتْ إلـــى القلم وهــــيَ تقول :

" فلتكتبْ الآن "

*

بمثلِ هذا يجيب  العقل ناكري الجميل في أغلب الأحيان

كثيرٌ من الناس  مثل القلم

والبعض الآخر مثل الدواة

***

النص البرتغالي

A pena e o tinteiro

Uma pena presumida

d´escrever gandes sentenças

falava das suas obras

tão sublimes como extensas.

*

Sem mim, disse ela ao tinteiro,

Pouca figura farias:

Cheico de um licor imundo,

Sem mim,triste, que serias?

*

O tinteiro injuriado,

Vazou logo a tinta fora,

E, voltando-se para a pena,

Disse-Ihe: “ Escreve agora” .

*

Assim responda aos ingratos

Muitas vezes a razão:

Muita gente há como a pena,

Como o tinteiro outros são

Marquesa de Alorna

                                

قصة : دورث نورس

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كانت تلك الليلة التي مات فيها الممثل الكوميدي ديرش باسر. لقد انهار على خشبة المسرح. وكان قلبه مريضاً وتم نقله بسيارة إسعاف إلى المستشفى، حيث قالوا إنه توفي عند وصوله. كان ذلك في الثالث من سبتمبر عام 1980، والسبب الذي يجعلني أتذكر ذلك جيدًا هو أنها كانت الليلة التي قرر فيها أمي وأبي إخباري أنهما سيطلقان. تم الإعلان عن ذلك أثناء العشاء، وفي مكان ما بداخلي أعتقد أنني شعرت بالارتياح. قد يبدو الأمر قاسيًا، لكنهما غير متوافقين، لذلك عندما أخبرتني أمي، كل ما فعلته هو وضع الشوكة جانبًا. وبحلول الساعة العاشرة صباحًا، كانت الأخبار قد نُشرت بشأن ديرش باسر. هذان الشيئان، موته ووقوفي عند باب الشرفة أنظر إلى الطحالب التي كان أبي يتركها تنمو بين حجارة الرصيف، لا ينفصلان بالنسبة لي.

في السنة والنصف الأولى، كنت أعيش مع والدتي وأزور والدي في منزله الجديد كل أسبوعين. لم ينتقل والدي إلى هنا قط. كان ينام على سرير أريكة في غرفة النوم الكبيرة وكنا نأكل الدجاج من كشك الهامبرغر عندما كنت هناك. إذن ما حدث هو أن أمي وجدت صديقًا لها. كان اسمه هينينج، وكان بمفرده مع ابنتين، وكنا نجلس في غرفة المعيشة في المساء ونلعب الورق. كان والدي حزينًا عندما زرته. لقد ظل يخبرني أن الأمر لا يهم. ماذا؟ لقد سالته. قال لا شيء، ثم تحدثت مع والدتي وهينينج حول أنه، بالنظر إلى الطريقة التي تعيش بها ابنتا هينينج معهما .ربما كان من العدل بالنسبة لي أن أنتقل إلى غرفة ضيوف والدي.

كان ذلك في السادس من يونيو عام 1982، وبينما كنا نجلس في السيارة خارج منزل والدي، أنزلت أمي أكمام قميصي وأخبرتني أن أعرف أن هناك طريقًا للعودة. لقد دخلت معي، ليس أكثر من ذلك، وهكذا حصلت على غرفة والدي الاحتياطية. لقد حاول أن يجعل المكان جميلاً. تم دفع الأثاث للخلف على الجدران وكانت غرفة المعيشة بها طاولة قهوة ومنفضة سجائر كبيرة. لقد اشترى أيضًا أرففًا للكتب، وفي غرفة نومه كان هناك سرير ضيق مثل السرير الذي وضعه لي في الغرفة الاحتياطية. تم تنظيف غرفتي بالكامل وكانت كبيرة بما يكفي. لا أعرف من أين حصل على الستائر، لكنه ضمها معًا حتى أتمكن من رؤيتها وهي تعمل.

كانت هناك أشياء جيدة وسيئة في ذلك الصيف الذي عشت فيه مع أبي. الشيء الوحيد الجيد هو كأس العالم في إسبانيا. وكان باولو روسي هداف البطولة برصيد ستة أهداف، وكان مهاجم أيرلندا الشمالية نورمان وايتسايد أصغر لاعب على الإطلاق يصل إلى النهائيات بعمر سبعة عشر عامًا وواحد وأربعين يومًا. كنا نشاهد المباريات معًا، أنا وأبي، ولأن الشمس كانت تضرب بالخارج، أغلقنا جميع الستائر.كانت غرفة المعيشة المظلمة ورائحة البهارات ودفء التلفزيون من الأشياء الجيدة. ولكن بعد ذلك، عندما خرجنا معًا، كما هو الحال في السوبر ماركت، لم يستطع أبي إلا أن يضع ذراعه حول رقبتي ليُظهر أننا معًا، حتى لو لم يهتم أحد.

قال أبي إنه كان محظوظاً بامتلاكه المنزل، وكان سعيداً بشكل خاص بالفناء. كان الجو دافئًا هناك حتى في الشتاء، فملأها أبي بالنباتات الصحراوية وأطلق عليها اسم حديقة الشتاء. في حين أن غرفة المعيشة والمطبخ والحمام تبدو كبيرة، إلا أن الحديقة الشتوية كانت ناعمة ومريحة. في بعض الأحيان، في المساء، إذا لم يكن هناك أي شيء على شاشة التلفزيون، كان يريد منا أن نجلس على كراسي الحديقة ونتحدث..قام بزراعة نباتات عصارية ونباتات Crassulaceae وأطعمها بالأغذية النباتية حتى نمت بشكل كبير.. كان لديه كراسولا، كما كان يسميها، وكان طولها خمسة أقدام. كنت سأحصل عليها يومًا ما، لأنني قلت إنها الأجمل. في بعض الأحيان، من أجل ابتهاجه، أخبرته أن رائحة الأرض الدافئة في الحديقة الشتوية تشبه رائحة الغابة. وفي مرات أخرى قلت إن نباتاته كانت كبيرة جدًا لدرجة أنه  يشبه طرزان عندما يكون وسطها. ثم كان يضحك ويناديني كوراك، ولكن قبل أن يتطلق هو وأمي، لم تكن لديه أية هوايات.

كان بإمكاني بالتأكيد الاستمرار في العيش مع والدي، ولكن ما حدث بعد ذلك هو أنه في منتصف سبتمبر من ذلك العام، اكتشفت سيدة مطلقة من عمل والدي أنه مطلق أيضًا. كان اسمها مارجيت. رأيتها ذات يوم في الحديقة الشتوية وهي تتنقل ذهابًا وإيابًا وبيدها كأس من النبيذ الأبيض. وبينما كان والدي يشرح لها كيف تخزن النباتات النضرة الماء بداخلها مثل الجمال، رأيتها وهي تنظر إلى ورق الحائط في غرفة المعيشة. ثم دعتني وأبي إلى منزلها بعد ظهر أحد أيام الأحد.. كان ذلك يوم 30 سبتمبر 1982، وهو اليوم الذي كانت ستنتهي فيه صلاحية البطاقة الصحية الوطنية لديرش باسرز لو كان على قيد الحياة، وأكثر ما أتذكره من ذلك اليوم هو أن هذه المرأة مارجيت كان لديها ابن.

جلس على الأريكة وهو يحدق في وجهي بغضب. نظرت إلى الخلف لأجعله يتوقف. لقد أخرج لسانه إلى والدي عندما لم يكن ينظر.. قد يبدو هذا أمرًا تافهًا، ولكن عندها فقط أدركت أنني الشخص الوحيد الذي يعتقد أن والدي كان شخصًا مميزًا. كانت طريقتي في النظر إليه فقط هي التي منعته من أن يكون مجرد رجل عادي لا أهمية له ويمكن استبداله بأي رجل عادي آخر لا أهمية له. . إذا لم أحبه فسيكون تافهًا في الأساس، وإذا كان تافهًا، فستبدو الأمور سيئة للغاية بالنسبة لي. لذلك قمت بتقطيع كل ما شعرت به تجاه والدي إلى أجزاء وأخفيته بعيدًا بأفضل ما أستطيع. في أفكاري أعني. ذهب البعض تحت الطاولة في غرفة المعيشة. ذهب البعض إلى نباتات مارجيت المنزلية وإلى فم ابنها القبيح. وبهذه الطريقة، بهذه الطريقة يجب على الصبي أن يجد كل شيء قبل أن يتمكن من إخراج لسانه.

لا أعرف ما الذي حدث بين والدي وهذه المرأة مارجيت في ذلك اليوم، لكنني لم أرها مرة أخرى،وعندما غادرنا لم يكن لدي الوقت لإعادة تجميع كل القطع التي أخفيتها. في الخارج في السيارة، حيث جلست في المقدمة، أتذكر أنني في البداية لم أمانع في النظر إلى والدي. ولكن بعد ذلك فعلت على أية حال وكان هذا صحيحا. كان هناك مجرد رجل يقود سيارة وأخرجت لساني إليه عندما لم يكن ينظر.

(تمت)

***

.......................

المؤلفة: دورث نورس/ Dorthe Nors كاتبة من الدنمارك. ولدت عام 1970 وحصلت على شهادة في الأدب وتاريخ الفن من جامعة آرهوس. نشرت أربع روايات ورواية قصيرة ومجموعة قصصية بعنوان كانتسلاغ (كاراتيه تشوب) والتي تُرجمت إلى العديد من اللغات ولاقت استحسان النقاد. نُشرت قصص من هذه المجموعة في مجلات مختلفة مثل The Boston Review، وHarper's، وThe New Yorker. نُشرت قصصها أيضًا في مختارات مختلفة في الدنمارك، وكذلك في ألمانيا والولايات المتحدة. في عام 2014 حصلت على جائزة بير أولوف إنكويست الأدبية. ومن المقرر أن تنشر روايتها الأخيرة في المستقبل القريب. تعيش دورث نورس في الدنمارك، في قرية صغيرة تقع على بحر الشمال.

بقلم: آنا ناتاليا مالاكوفيسكايا

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

كانت الساعة تشير إلى الثانية إلا خمس دقائق صباحا. وقد تكومت، بجانب شجرة التنوب المزينة لاحتفالات العام الجديد، أطباق قذرة على الطاولة، وكأنها تتساءل هل يوجد من يغسلها الليلة أم يجب الانتظار حتى صبيحة الغد.  حدقت بها فاليا وآمنت أنها، في النهاية، ستجمعها وتحملها إلى المطبخ. كان عليها مغادرة هذه الغرفة، وأن تتقدم في ممشى شقق البلدية الكئيب، وأن تتحرك في الظلام، وهي تتحسس الجدار لتستدل على طريقها، ثم تشعل الغاز لتسخين الماء…

فجأة انفتح باب الردهة. ووقف على العتبة فيتالي أوغرينوفيتش - الأكثر وسامة بين جيرانها. وكان هذا الشاب أنيق الملبس ومتأهبا دائما. يرتدي قميصا رقيقا من الساتان، ويتصرف بتهذيب قل مثله، كأنه حط هنا من كوكب آخر، وفي الحقيقة كان قد عاد لتوه من خدمة الجيش.

نبح صوت خشن من وراء كتفه: "أعد لي قبعتي". شق صاحبه، زوج فاليا، طريقه قدما من الردهة قليلة الإضاءة. والتمع شعره الأشقر المضموم في النور الضعيف. دخل أوغرينويتش الغرفة وعلى محياه علامات الثقة أن المالك يعرفه، وطلب النبيذ.

ردت المضيفة المضطربة: "لا يوجد مزيد من النبيذ. لقد نفد". كان قد لقبها أحدهم، وبنية خبيثة، فالنتينا الجميلة. وكانت لا تزيد على عشرين عاما. أمسك أوغرينوفيتش زجاجة ليمون كانت على الطاولة، وسكب لنفسه شرابا، وشربه، ثم بصق.

صاح: "أحضري لنا المزيد من النبيذ. أيتها العاهرة. مفهوم؟. إيه. مكان رخيص. جعلتموني أستجدي النبيذ في بداية العام".

شرع طفل بالبكاء في مهده، حملته فاليا بين ذراعيها. عاد زوج فاليا، الذي يلقب نفسه عملاق الجنس، إلى صاحبه الذي يشرب وقال: "هيا بنا، لننصرف".

خرجا إلى الردهة وتكلما، رجل لرجل. جلست فاليا وهي تحضن ابنها في صدرها. وكان هذا الطفل كأنه يستمع للحوار الذي يدور خارج الغرفة. انتقلت الأصوات تدريجيا إلى أقصى اليمين، نحو غرفة أوغرينوفيتش. ومن المرجح أن الرجلين سيحلان الخلاف الناشب بينهما ويجدان مزيدا من الكحول للشراب في مكان ما...

وضعت فاليا الطفل في مكانه، وبدأت تهز المهد نحو الخلف والأمام، إلى الخلف والأمام. هذه العائلة. هذا البيت.. الجميع أغراب جدا بنظرها. كيف وصلت إلى هنا، وكيف جرى ما جرى؟. وكأنها تجلس بين كرسيين، فقد وجدت نفسها بين العام المنصرم والعام الجديد، الذي يزحف تحت قدميها. ولكن شعرت أن العام الماضي لم يذهب تماما: كان يبدو كأنه في متناول يدها. منذ ثلاث ساعات فقط كانت في المطبخ تقشر البطاطا من أجل السلطة. يبدو هذا المطبخ بالهيئة التي يجب أن يبدو عليها في شقة تابعة للبلدية: السقف يضغط على الجدران المتسخة بهباب أسود وهو معلق فوق الطاولات المائلة. كل شيء هنا يدفع فاليا للإحساس بعدم الرضا والاضطراب. في النهاية لقد ترعرعت هنا في شقتها. وهي صغيرة لكنها ناعمة. ولا تفوح فيها رائحة الخوف ولا عتمات الأقبية، التي تملأ شقق البلدية وتفعم فاليا بالخوف. كانت تشعر بالخزي من مخاوفها، ولذلك تتركها في أعماقها وتحاول أن لا تصغي لما يفلت منها من رسائل وهمهمات.

قال لها أوغرينوفتش وهو يتلكأ في المطبخ: "آه، كم أنت بنت جميلة - وتقشرين البطاطا لتتلفي يديك. يجب أن تمثلي في السينما عوضا عن تقشير البطاطا". هذه الكلمات - عن السينما - أصابت فاليا في قلبها مثل سكين مسنونة. تنهدت قليلا وعادت للتقشير بسرعة أكبر.

كانت الأطباق قد وزعت على الطاولة تحت شجرة تنوب العام الجديد في غرفة فاليا، واحتلت سلطة البطاطا تلك مكانها في الوسط وبطبق أنيق. كان الضوء في الأعلى مطفأ، ويوجد على الطاولة شموع حمراء فقط انعكست على الشجرة. وأصبحت الغرفة الآن أشبه بمغارة دب. وظلال أغصان التنوب المدببة كأنها تدل على مكان ما - غابة حقيقية، أو أعماق البلاد، حيث يوجد الكنز الحقيقي في مخبأ آمن.

ولماذا يذكرها بالسينما؟. هذه الكلمات ذكرت فاليا بطلبها الذي قدمته لمعهد المسرح. كان والدها على قيد الحياة. وكانت تحفظ عن ظهر قلب فقرات من رواية "الشراع القرمزي" لأليكساندر غرين. وهي تذرع غرفتها بخطواتها بوجه محمر، غلبتها السعادة مسبقا، ولسبب ما انتابتها الثقة أن هذا المعهد سيضطر لقبول طلبها.  كان لفاليا شعر بني وعينان زرقاوان، وكان والدها يقول أحيانا إن هذا اللون يشبه أزهار الذرة. ولكن لا تذكر فاليا أمها إلا بصعوبة، فقد توفيت وهي بنت صغيرة بعمر خمس سنوات. واعتادت أن تعيش وحدها مع والدها وأن تعتني بواجبات المنزل. وحينما تناديها زميلاتها في المدرسة لتخرج وتشترك باللعب، ترد بصوت عميق وهي تحمل مكنسة بيد ثابتة: انتظروا حتى أنتهي من التنظيف.

لم يكن في بيتها الكثير من الكتب. واكتشفت الكتب بمفردها. وكانت شغوفة بالقراءة ورأت أن كاتبها المفضل هو - أليكساندر غرين.

تذكرت ذلك الربيع - حينما خيط لها ثوب أنيق أبيض، وبدأت وعود الحياة الجديدة تدنو منها، وهي تدق بكل أجراسها الملونة. حصل ذلك في بواكير أيار. كانت عائدة إلى البيت، ومن على مبعدة،  شاهدت سيارة إسعاف أمام المدخل. وعلمت فورا أنها جاءت من أجل أبيها وخافت حتى أنها شعرت أن الكون سقط من قلبها. مات والدها في المستشفى في اليوم نفسه. ولم يسمح لها ولو بوداعه. ومنذئذ وهي تعيش في ظل جدار أسود، في النصف الثاني من العالم. وحاولت أن لا تفكر بالحرق وماذا جرى لجسم والدها هناك. وهذا الغبار الأسود الناعم والجاف وهذا الدخان الذي خرج من مدخنة الفرن ليخيم على الضوء الذي كان ينير حياتها ويطفئه.

لم يفارقها أبوها - كل شيء فيه موجود إلا جسمه، كل شيء فيه تتذكره، طباعه، عاداته. كانت تشعر بحضوره، وأحيانا يكون واضحا ومفعما بالوجود أكثر من أيام حياته. مع أن الطيف لم يكن يجلب لها الراحة. كان راكدا مثل الماء، ويملأ الردهة والغرف في بيتها، أو أنه يتبعها إلى المخزن والمدرسة. لم يسعها أن تنساه. ولم تكن جاهزة للتخلي عن سطوته عليها. ويبدو الآن طلبها لمعهد المسرح مستحيلا، كما لو أنها ليست قادرة على عصر كلمة من فمها. كانت الحياة المزدهرة والمضطرمة تزهر من حول فاليا، ولكنها مفصولة عنها بجدار من غبار ألماسي أسود.

في أحد الأيام وفاليا في طريق العودة بالحافلة إلى البيت، رآها عملاقنا الجنسي "المسكين". كان يدرس الكيمياء، وقد بلغ السنة الرابعة من المعهد. وكان هذا الشاب ممتلئا، ولكنه صغير الحجم. ومع ذلك يعتقد أنه "عملاق" وجنسي. وادعى ذلك بعد تجربة عشوائية في هذا المجال. كان يقف في وسط الحافلة، ويتبادل الكلام مع رفيقه فولودكا. والثاني مدمن كحول معروف، وقد غرق في السنة التالية بعد أن سقط من زورق بخاري في نهر نيفا المضطرب. ولم يكن يعلم قدره. حتى أنه لم يشتبه أنه سيركب الزورق في أحد الأيام، والحق يقال، كان زورقا مهلهلا. وقد اعتلى الزورق إحدى الموجات ثم ألقاه وغمره في الماء البارد. ثم بدأ يختنق وفجأة أدرك أنه شارف على الموت. وكان يشعر أنه ليس بمكانه لأنه سيكون قد واجه آخر امتحاناته متوقعا بداية هامة لحياته الجديدة. آه.. حسنا. أثناء دردشته مع هذا الإنسان الذي يزحف إلى موته، وقعت عين عملاق الجنس في أعماق الحافلة بالصدفة. وعلى اليسار، قرب النافذة، لاحظ المرأة الشابة، وبدت له كأنها بنت وذات شعر منفوش. ونظرتها مثبتة على النافذة، تتأمل ظلام الليل القادم، ولكن لم يكن هناك شيء يرى. كانت فاليا تنظر من النافذة وتتخيل نفسها وسط حوار خبيث مع والدها، ليس عن شيء هام ولكن عن أمور تافهة.

قالت له بلسان حالها: "بابا. ألا ترى أنها تمطر". وأشارت للطريق بعينيها من خلال النافذة.

ويبدو أنه رد بقوله: "نعم يا عزيزتي. إنها تمطر. وآمل أنك لم تنسي مظلتك".

مدت يدها إلى حقيبتها وبحثت عن مظلتها المطوية.

لم يلمس حزن وجمال وجه فاليا عملاق الجنس، ولكن أثر به شيء آخر. نظرت فاليا نحوه لدقيقة وفورا صرفت نظرها عنه كأنها لم تجد في هذا الرجل شيئا يستحق أن تتكلم عنه. أوف. ليس من المهم كيف حصل. اقترب العملاق منها ودخل في حوار معها. ردت مضطرة، وعيناها تنظران إلى الخلف نحو الفضاء المفتوح وراء النافذة. وأخيرا جلس بقربها باعتزاز، مثل طاووس رفع ذيله. وتقريبا شعر بريشه المنفوش الذي رفع معنوياته. كان يتباهى به، ويبرهن له أنه يلمع من كل الأطراف، ويبرق، كأنه زينة على شجرة العام الجديد. آه. أعجب بنفسه كثيرا في تلك اللحظة: كانت حزمة من الأشعة البراقة تنفذ عبر الهواء الصامت من حوله. ولكن فاليا لم تتجاوب مع فتنته.

توسلت لوالدها دون أن تحرك شفتيها: "بابا، اصرفه عني".

رد أبوها المتخيل: "فقط انظري له يا ابنتي". نظرت فاليا ولم تشاهد شيئا. فقط رجل عادي مثل الآخرين، ويدمدم بشيء غير مفهوم. نكست رأسها، وتابعت النظر من وراء الزجاج، مرت بها جذوع أشجار سود. وكان المطر يتخللها بخطوط منتظمة. لكن كيف لا يظهر خيال والدها بينها بعد الآن. أما عملاق الجنس فلا يجذبه رقة وجوه النساء. كان ينجذب لأجزاء أخرى من جسم الأنثى، على سبيل المثال السيقان، ولذلك اضطرب بما جرى له على متن هذه الحافلة الليلية. إن لم يكن الجمال فلا بد أنه  شيء آخر. ماذا يمكن أن يكون؟. وبدا له أنه قابل هذه البنت قبل الآن في مكان ما. هذه البنت، تقريبا طفلة، بشعر مسرح طويل يذكره كلما لمحها بصورة جدته حين كانت طفلة. في الصورة كانت تجلس بشكل استعراضي بجانب أمها. ودون مزيد من التفكير بدأ العملاق من هذه الفكرة الطارئة وحاول أن يتعرف عليها. قال: "يبدو أننا التقينا في مكان ما". وفي لحظة ديجافو شعر بالحدود التي تفصل الحياة والموت. كما لو أنهما وقفا بمواجهتها مرة قبل الآن، في عالم آخر. نظرت بعينيه، ورد نظرتها بدون مباشرة وبلا خجل.  ممكن أم لا - مهما حصل في حياة أخرى فهو لم يحصل فعلا. لأن بنت حافلة الليل لا تريد أن تشاهده.

هكذا تم أول لقاء، ولكن تكرر نفس الموقف لاحقا. تنحى الخريف أمام الشتاء. ورفضت فاليا أن تراه، وصممت أنها لا تريد أن تراه. واقترب الربيع، بكل نفاياته الدبقة والتالفة، التي تنهمر من الأسطح وتنزلق تحت أقدام المارة. وضاق أفق عملاق الجنس كثيرا. ونسي أنه كان "عملاقا"، ناهيك أنه شخص جنسي. في أحد الأيام كان العملاق السابق يمشي على الرصيف، وقدماه تغوصان في الكومة حتى كاحليه، وكان يشق طريقه بهدف زيارة جدته. فهو يعود إليها في الفترات التي تسوء فيها أموره. كانت هذه الجدة تعتبر في عائلته قديسة لأنها في إحدى المرات أنقذت زوجها من حفرة ثلجية. وقد أنقذت حياته بدون أن تفكر بسلوكه العدواني معها، لأنه اعتاد أن يضربها ويسخر منها. ولكن الجد الذي نجا بأعجوبة لم يمتنع عن تعذيب زوجته، وجعل الجميع يتساءل لماذا أنقذت المرأة المسكينة هذا الوحش من الغرق في الماء، ولم تتركه ببساطة أن يقضي نحبه بهدوء. وكان لدى هذا الجد مخزنان في مجمعات غوستني دوفر في بطرسبورغ. ولكن طبعا بعد الثورة، لم يتبق شيء من ثروته. ومات الرجل قبل أن يواجه عقوبة الإعدام أو النفي.

وكان للجد والجدة حفيد اسمه ألكسندر. وكان ألكسندر إنسانا عجيبا. لا يضرب زوجته، ولكنه لم يرث من أمه قداستها. وباع كل ممتلكاته الشخصية، وكذلك ممتلكات جيرانه غير المحظوظين، الذين تصادف أنهم تركوا معاطفهم وأحذيتهم في ردهة شقق البلدية. ولم يخرج شخص واحد من غرفته  إلى الردهة إلا واكتشف أن أشياءه اختفت: لا معطف، لا شيء يلبسه ليذهب به في الصباح إلى عمله. وفي نفس الوقت كان أليكساندر المخمور حتى الثمالة يستلقي في وسط الردهة. تزوج أليكساندر لأنه بحاجة للمبيت. وسابقا كان يدرس الهندسة، ولكن دون بيت يعيش فيه. ولذلك اختيرت له عروس لديها مهر تقدمه وهو حجرة للإقامة.

لم يمر يوم على هذا الزواج دون فضيحة. في أحد الشتاءات، وأثناء فضيحة من هذا النوع، رمت زوجته نفسها إلى الشارع وطفل بين ذراعيها. وخبطت المرأة خبط عشواء في الخارج لعدة ساعات وريح المدينة تعصف بها. ولم تتمكن ابنتها الصغيرة ذات الشهور الثلاث أن تحتمل الجليد القارس. وأصابها فقر الدم وتوفيت. وكانت أخت العملاق. ولذلك لم تقع عينه عليها، فقد ولد بعد عدة سنوات من ذلك الحادث التراجيدي.

ثم حصل ما يلي: عقدت انتخابات، و"اختير" ستالين، كما هو الحال دائما. كان مركز الاقتراع في بناء مدرسة وتغطيه الأعلام الحمراء. وكان ألكساندر يمشي على طول الطريق، وهو يتمايل قليلا، ويشتم ويصيح بشيء غير واضح، ويخلط في نفس العبارة كلمات عن "أعضاء الحزب" و"أعضاء الخصوبة". وحينما وصل إلى المدرسة وشاهد اللافتات الحمراء، قال أخيرا شيئا غير مقبول: "ستالين ابن حرام".

وبالحال شدوا وثاقه. وهكذا أصبح العملاق بلا أب. واعتادوا أن يقولوا إن والده تعرض للضرب على رأسه في السجن حتى تضرر دماغه. وبعد قليل حينما تذكر أحدهم أن أليكساندر مهندس ماهر، استدعي للإشراف على بناء هيكل جديد. ولكن لم يمكنه أن يفعل شيئا - فهو غير قادر على التفكير. كان عليه أن يعمل وهو يغوص بالماء الجليدي حتى خصره، لينهي بناء جسر فوق نهر الفولغا، وفي النهاية، مات بسرطان الرئة.

وتبين أن كلمة "ابن حرام" أضرت بعائلة العملاق. لم تتمكن أمه من تحمل برنامج تلفزيوني عن طبيب في مستشفى السجن، وألقت جهاز التلفزيون من النافذة وهي تقول "هذا التلفزيون ابن حرام". وعلى الفور أودعت، لا في السجن، ولكن في مصحة نفسية. وهكذا ترعرع العملاق دون أب ولا أم. وبين ذراعي جدته القديسة. والتصق بجدته مثل نبات شاذ ينمو على جذع قوية.

لم يحالف الحظ الجدة زوجة التاجر ورجل الدين، ولحكمة ما بالكاد كان لديها وقت لتحمي وجهها من صفعات زوجها - فقد كانت امرأة متعلمة. ولكن هذا لا يعني أنها انتسبت إلى مدرسة، بل تعلمت بجهودها الشخصية، وقرأت كتب الفلاسفة وكانت مغرمة على وجه الخصوص بشوبنهاور. وروت الجدة لحفيدها كل شيء قرأته. وتذكر العملاق كيف كانت جدته تجلس في شمس الصباح قرب نافذة واسعة، وهو يستمع لحكاياتها. وحينما يتعب، يبكي عند قدميها، ويدفن وجهه في ركبتيها.

وكانت حياة جدته تقترب من نهايتها. وكلما فكر العملاق بذلك ينتابه الفزع. فهو بلا عائلة عداها، باستثناء خالته، وهي ابنة جدته. ومن الواضح أن هذه العمة ورثت من أبيها شخصيته القوية وأسلوبا مقلقا في معاملة أقرب الناس لها. لم تكن تركل أحدا بوجهه، لأن ذلك غير متيسر، ولأن ساقها تؤلمها، ولكنها اتبعت أسلوب والدها بكل شيء آخر. ولكن يجب على أحد ما أن يرث الروح الرقيقة التي عرفت بها الجدة ذات الاسم الرائع - ماريا إفانوفنا. لكن لم يلاحظ حفيدها ولو لمحة من هذه الروح. وكان يود أن يكون مثل جدته، وأن يجلس قرابة النافذة الواسعة، وينظر إلى العالم بعينين زرقاوين. لو لا أن عينيه بلون غير واضح وغير مفهوم، ومهما كان اتجاه تفكيره، يذهب ذهنه دائما بنفس الاتجاه - الجنس. وأدرك بشكل ما أنه ليس من المستحسن أن يتوقف عند النكاح. وأمل أن جدته غير واعية لهذا الحلم الملح والدائم. وكان يختفي بحضور جدته، ويتحول إلى شخص مختلف، وكانت تحبه في كل حالاته. وحين يكون بجوارها، لم يكن يحتاج لذيل رائع متعدد الألوان: بلا ذيل لن تكسب درجات عالية في المدرسة - وكانت تغفر له سلفا كل خطاياه، مثل "الرب الطيب" الذي روت له الجدة عنه كل شيء. عموما كان إله خالته مختلفا تماما: بشفتين متهدلتين، وعينين حادتين لا يمكن النظر إليهما، ولذلك لم يؤمن العملاق برب خالته.

اتكأت الجدة على الكنبة في الغرفة الكبيرة. وغارت عيناها وغشيهما الضباب. كانت مصابة بالسرطان، والجميع يعلم ذلك. وجلس العملاق إلى جوارها. وجاء النور من النافذة - حزمة ضعيفة من أشعة الشمس. كانت جدته تعلم أنها مشرفة على حتفها. وكانت قد غفرت للجميع قبل فترة طويلة، وهي الآن مسرورة لأنها ترى حفيدها المحبوب. وهذا الحفيد المحبوب أراد فعلا أن يسأل جدته عن رأيها بالانتحار، ولكنه لم يجد طريقة ليفتح معها باب هذا الكلام.

قال بهدوء لجدته: "إنها لا تحبني". وبدا أن الكرسي المجاور للسرير قد تضرر، وأن غطاء الطاولة المتدلي منها يشع بالألم. التفتت جدته برأسها ونظرت إليه بعينين معتمتين وعميقتين.

قالت: "سأصلي لك. والرب سينجدك. لن يتركك".

بعد أن رأى العملاق جدته ذهب مباشرة إلى مخبر الكيمياء في جامعته - وهناك كان يدرس الكيمياء لخامس عام ولديه إلمام بها.

تأخر الوقت في الليل: كانت فاليا راقدة حينما رن الهاتف فجأة في الغرفة. شخص ما صاح في الهاتف يشتم ويهدد. وشخص ما أسرع  إلى بابها وبدأ يقتحمه. وقفت امرأة عجوز مشتتة على العتبة - كانت عمة العملاق. وجرت فاليا إلى المستشفى. انتظرتا لفترة طويلة قبل أن يسمح لهما برؤية المريض. كان العملاق مستلقيا في غرفة المصحة وحيدا. ووجهه المنكمش والمتوعك شاحب كالوسادة. ولا أحد يعلم لماذا فشل في محاولة تسميم نفسه، وربما حصل ذلك بالصدفة أو بجرعة كيماويات جهزها عمدا. ورنت كلمات عمة العملاق في أذن فاليا مع أوامر وتلميحات: "آه أيتها الزانية. روح هذا الرجل تقع على مسؤوليتك. أنت قاتلة".

بالتدريج بدأت فاليا نفسها تشعر أنها ربما مجرمة قليلا. ومع بدايات أيار أعطت موافقتها - وأصبحت زوجة لشخص غير مفهوم كان في فترات متقطعة لا يحسن معاملتها.

وكل ذلك مكتوب في كتب عن حب أصبح بنظرها غامضا كحلم بعيد. وكل تلك الكلمات البليغة من "الزورق القرمزي"، والتي تحفظها عن ظهر قلب، تبدو الآن بعيدة عن متناول يدها، وعذابا لغيرها. من يجب أن تحب - العملاق أم سواه؟ نعم. بالمناسبة منعها عن التفكير بمعهد المسرح. وبعد فترة ولد ابنهما، وظهر لها أن بداية حياة عائلية من نوع ما أمامها - مكواة وأسرة، وطناجر في المطبخ، وشرب الشاي في الأماسي.

لم يكن يوجد من يعيش معهما في شقق البلدية غير أربع عائلات. هناك غرفة تعيش فيها عائلة العملاق، وهي على يمين المدخل. وعلى اليسار وفي الردهة تعيش عجوز وحيدة. ولكن لم تكن ترى نفسها امرأة متقدمة بالسن، وجعلها هذا الوهم الشخصي تبدو مرعبة. كانت أشبه بفزاعة متحركة ملفوفة بأسمال حمراء تتدلى على صدرها، ناهيك عن شعرها المصبوغ بلون أحمر. وتدور أقاويل أنها كانت رائعة الجمال، ولديها صديق، له رتبة ضابط، وكانت ثرية. ولكن حاليا دائما تشعر بالجوع وتسرق الزجاجات الفارغة من فاليا.

ووراء غرفة هذه المرأة تعيش عائلة من ثلاث أشخاص: زوجة، وزوج، وأم الزوجة. والأخيرة امرأة عجوز هزيلة القوام بعينين ضيقتين مذعورتين. دارت حول الشقة لتطلع بالواجبات البيتية: ولتتأكد أن زوج ابنتها مرتاح، وغير قلق. كانت ابنتها "سيدة مهمة"، وترتدي ثيابا عصرية مطرزة وغالبا ما تطهو الدهن في المطبخ. ولكن زوج السيدة رجل عصبي بوجه جامد: ويبدو كأنه منهمك دائما بعبادة الذات.

في آخر غرفة، قرب المطبخ، تعيش امرأة عجوز أخرى - وهي العمة شورا. وعملت كل حياتها في منشأة كيميائية. وشاهدت كيف النساء، عاملاتها، يسقطن في حمام الأسيد في المنشأة وينتهين بميتات فظيعة. وكانت تخاف من أن تتعثر وتسقط في الأسيد. وكان هذا هو أكثر ما يرعبها في العالم. ولقاء هذا العمل الشاق حصلت على جعالة - 40 روبلا في الشهر. وكانت لا تأكل غير البطاطا، والخبز، ومخلل الملفوف. ولذلك تبدو مثل شبح في ثوب رث. ولأنها غير قادرة على دفع فاتورة الكهرباء، لم يكن باستطاعتها إشعال النور في الحمام أو المطبخ وأدت مهامها هناك في الظلام. وفي غرفتها عاشت على نور الشمعة. ورغم بؤسها وجوعها، لم تسرق الزجاجات، ولم تضع المسامير في أواني الجيران، ولم تستولي على الرسائل من علبة بريد الجيران. وكانت توجد في غرفة العمة شورا عدة أيقونات وأزهار صناعية. وعلقت على يمين المدخل فوق الكنبة لوحة: لبنت شابة، بملامح غير متناسقة قليلا إنما جميلة، وترتدي ثوبا مفصلا على طراز العشرينات. وتنظر من هذه اللوحة بهيئة محتارة وقلقة جدا. ويبدو أنها تتساءل عن مستقبلها، دون أن تعلم: ماذا سيفعل رفاقها في الحمام بالأسيد المطري، أو ماذا ستفعل هي نفسها في هذا الجحر الضيق بضوء شحيح وخفيف يمر من ستائر التول الرقيقة؟.

كانت فاليا خائفة جدا من شقة البلدية هذه. تخاف أن تمشي في الردهة المعتمة، إلى المرحاض، أو إلى المطبخ. ويبدو لها أن المطبخ عرضة لأن ينفتح فجأة من بابه الخلفي، ويظهر على العتبة متشرد بمعطف أصفر، وبجمجمة منتفخة وفأس مرفوعة. ولذلك السبب كانت خجولة وبعد أن تنهي كل مهام مطبخها، تسرع فورا إلى غرفتها عبر الصالة، كأن أحدا يطاردها.

في أحد الأيام سكن في شقة البلدية شاب أنيق اسمه فيتالي أوغرينوفيتش. وهو حفيد المرأة الضعيفة العجوز وابن "السيدة الهامة". وكان زوج أمه يمقته لدرجة أن يرحل إلى مسكن آخر مع زوجته وأمها. وأصبح فيتالي وحيدا في الغرفة، ولكن ليس لفترة طويلة. وبعد أسبوعين استقرت معه بنت حلوة تدعى ناتاشا. واعتاد فيتالي أن يناديها باعتزاز "زوجتي بالعرف الشائع". ومباشرة نشأت بين فيتالي وناتاشا أواصر الصداقة. وأغرم فيتالي باللعب مع ابنة فاليا، وظهر أن الانسجام جمع بينهما. وسرعان ما نقلت ناتاشا أشياءها إلى غرفة فيتالي. وكان مصباحها المثبت على الجدار، وهو بشكل مروحة، مثل ذيل طاووس، يغطي مصباح الغرفة، ويخلق جوا غسقيا غامضا. ليس مثل نصف العتمة التي تخيم على غرفة العمة شورا. بالضد من ذلك. كان حاجز مصباح ناتاشا الملون وبأجنحته المرتعشة والمرحة، ينتشر في الزوايا، ويترك مجالا لحياة، ربما لم تسقط كلها في الجحيم، بتعبير العملاق.

ما لا تفهمه العجائز يستوعبه الشباب بلمح البصر. كانت كل من ناتاشا وفاليا تقرأ أفكار الأخرى بسرعة وتشجعها بابتسامات. وحتى المرأة التي تبدو مثل فزاعة أصبحت على نحو ما غير مريحة وتسيء استعمال المطبخ، توقفت عن الشجار والسرقة من الجيران. وعلى الأكثر تسرق وتأكل بطاطا منسية في مقلاة غيرها.

ثم حل العام الجديد…

جاءت من خارج غرفة فاليا دقات قوية ومتواصلة. نظرت إلى الردهة، رأتها فارغة. زحفت إلى غرفة أوغرينوفيتش ونظرت من الباب نصف المفتوح. كان أوغرينوفيتش يضرب النافذة بجسم زوجها. أسرعت تختبئ وراء الجدار. وعندما نظرت إلى الباب مجددا، كان زوجها يجلس على الكنبة، وأوغرينوفتش يقاتل قرب النافذة صديقه الآخر. علقت فاليا هناك، أمسكت يد زوجها، وجرته إلى خارج الردهة، ودفعته من الباب إلى غرفة العمة شورا. وضعت قدميها في بوط العمة شورا وارتدت معطفها البالي - كانت خائفة من أن تمر من باب غرفة أوغرينوفيتش المفتوح كي ترتدي معطفها. أسرعت إلى الخارج من الباب الخلفي نحو هاتف عمومي في الشارع. بغضون دقائق كانت تصيح في السماعة: "النجدة. رجل تعرض للقتل". سألت الشرطة عن العنوان ووعدوا بالحضور. عادت فاليا مسرعة إلى غرفتها، وأوصدت الباب. كان ابنها يبكي. حملته بين ذراعيها. وبدأ الباب ينكسر ويتصدع من الضربات.

وصوت يصيح: "افتحي أيتها العاهرة. يا كيس القمامة. سأحطم الباب وأرسله إلى الجحيم. سأفجر رأس ابنك وألقيه على الأرض".

همست فاليا لابنها أن الشرطة على وشك الوصول. ولكن الشرطة لم تظهر. وفي الصباح التالي حينما ذهبت فاليا برفقة زوجها إلى المخفر شخصيا، وسألا لماذا لم يحضر أحد في الليل، قيل لهما: "لستما وحدكما من احتفل بالعام الجديد. وها أنتما من بين الأحياء. صحيح؟ إذا قتلوكما تعالا وسجلا شكوى".

بحلول الربيع كان أوغرينوفتش قد شل ستا من خليلاته. الأولى ضرب رأسها بخزانته. الثانية ضربها بالكرسي. وألحق الضرر بالأخريات بعدة طرق مختلفة. وفي أحد الأيام وجد صديقه في المطبخ قبالة المغسلة مطعونا بسكين في ظهره. أما المرأة العجوز، التي تسرق الزجاجات، فقد نظفت بركة الدم التي سالت على الأرض.

في الخريف أحيل أغرينوفيتش إلى المحكمة. في المحاكمة حاولت العمة شورا أن تؤكد للجميع أن أوغرينوفتش ليس الملام على أي شيء - ولكن صديقه من تسبب بهذه الأضرار، فهو من شوه وجرح وكسر الأبواب.

سأل القاضي وهو يشير بقبضتيه وليس بيديه: "حسنا، وها هو يقف مثل ملاك بيدين معقودتين؟". سخر أوغرينوفتش من كل من في المحكمة، من بينهم القاضي، الذي شحب وجهه من الغضب. كانت العمة شورا تذرع الردهة أمام باب المحكمة وتصلي بصوت خافت - تطلب المغفرة بعد أن أخطأت وكذبت وهي تحت القسم. كانت صديقة لجدة أوغرينوفتش، ولذلك غامرت بهذه الخطيئة التي أثقلت على روحها. حكم على أوغرينوفتش بأربع سنوات ونصف - لقاء التخريب بنية متعمدة. ولكن خفف الحكم وتم تخفيضه - إلى ثلاث سنوات - بحجة الندم الصادق.

قال الجيران: "هذا من حسن حظنا. سنحظى بثلاث سنوات من الهدوء".

مر شهران وفي هذه الأثناء عم الهدوء الشقة وكانت ساكنة مثل الجنة.

وفي إحدى المرات كانت فاليا تسير في الردهة، وانفتح باب على يمينها: ورأت أوغرينوفتش واقفا على أعتاب غرفته.

قال بحزم: "يجب إطلاق النار عليك فورا ببارودتين".

دمدم العملاق الذي ظهر وراء كتفي فاليا: "آه - يا لهذه العطايا؟ لماذا أنت هنا؟".

رد أوغرينوفتش: "كما تعلم. من المفيد أن يكون لك أصدقاء في الوزارة".

قالت فاليا لزوجها بعد أن عادا إلى الغرفة أنها لا تريد أن تعيش بعد الآن في شقة البلدية هذه. وحتى الآن هي تؤجر شقتها الخاصة، التي ورثتها عن والدها، وثلاثتهم  كانوا ينفقون من دخلها. وبعد كل هذه الأحداث، انتقلوا إلى شقة فاليا وبدأوا بتأجير غرفة العملاق في شقة البلدية.

وهناك مرت حياة هادئة، هادئة جدا - بلا فضائح على الإطلاق. والجدران المألوفة كانت تنظر بدهشة إلى فاليا الكبيرة بالعمر، وتتذكر طفولتها: بنت صغيرة وأم وأب. ثم امرأة شابة تحلم بالانتساب لمعهد المسرح، وتحفظ عن ظهر قلب سطورا من رواية غرين. اندمجت فاليا بهذا الوجود اللطيف، بهذا العالم المبهر لهذه الجدران المألوفة، مثل سمكة عادت إلى الماء.

في أحد الأيام مرضت. ووجد الطبيب أنها مصابة بفقر الدم. وحاول أن يقنعها باللجوء إلى المستشفى. ولمن تترك ابنها؟. كان زوجها يعمل، وقررت أن تبقى في البيت حتى الشفاء. استلقت في السرير، وقدرت حرارتها. أشار ميزان الحرارة أنها أربعون درجة مئوية. وبعد عودة زوجها من العمل، دخل إلى الغرفة ببوط ومعطف موحلين.

صاح: "أين عشائي؟". سقط من يد فاليا ميزان الحرارة على الأرض.

كرر: "سألتك أين العشاء؟". 

انحنت فاليا من فوق السرير لتحمل ميزان الحرارة.

صاح زوجها: "أنا أعمل وأكسب النقود، لكن أنت أيتها الساقطة، لا يمكنك طهي عشاء لي؟". ومد يده وبمتعة قاسية ضربها على وجهها ببوطه.

***

..........................

* ترجمتها عن الروسية أناستازيا سافينكو مور.

* الترجمة منشورة في punctured lines مع مقدمة للقاصة الروسية أولغا زلبيربورغ

* آنا ناتاليا مالاكوفيسكايا Anna Natalia Malachowskaja كاتبة سوفييتية وروسية معارضة. عاقبها الاتحاد السوفياتي بالنفي إلى النمسا بعد نشاط مشترك عام 1979 مع مناصرات حركة الجندر بعنوان "النساء وروسيا".   تكتب القصة والرواية وترسم. أقامت عدة معارض داخل وخارج روسيا.

بقلم: جان تارديو

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

حديـث

كيف الحال على الأرض؟

- على ما يرام، على ما يرام، بخير كثير.

هل الكلاب الصغيرة في رفاه؟

- إلهي، نعم، نحمدك كثيرا.

والسحب؟

- منتشرة.

والبراكين؟

- ثائرة.

والزمن؟

- يجري.

وروحك؟

إنها مريضة،

لقد كان الربيع شديد الخضرة

وقد أكلتْ كثيرا من السلطة .

***

سارع إلى الضحك

سارع إلى الضحك

مازال هناك وقت

قريبا المقلاة للطهي

ووداعا للطقس الجميل

*

سيأتي مع ذلك آخرون

للاستمتاع بالطقس الجميل .

ليسوا هم أنفسهم دائما

لكن يوجد دوما أناس.

*

في ظلّ الإمبراطورية الأولى

كان هناك سكّان

وفي ظل الإمبراطورية الثانية

كان هناك الكثير منهم

*

حتى لو لم يكونوا هم أنفسهم

فستذهب مثلهم

ستذهب مع ذلك

ستذهب إليهم.

*

لست أنا بل إخوتي

من سيحيي من بعدي

مثلما هو شأن جدّي

الذي عاش من قبلي

*

وحتى لو لم يكونوا هم أنفسهم

فنحن سعداء من أجلهم

نحن نحبّهم مسبقا

دون أن نحسدهم

*

سارع إلى الضحك

مازال هناك وقت

قريبا المقلاة للطهي

ووداعا للطقس الجميل...

***

جان تارديو (أغنية مع الموسيقى أو دونها) غاليمار 1951.

..................................

جان تارديو: كاتب وشاعر وفكاهي ومؤلف مسرحي ومخترع فرنسي (1903-1995)  تميّز بكتابته لما يسمّى بـ"الشعر الحر" وقد عرف باحتواء شهره على بعد "ميتافيزيقي". له عديد الدواوين الشعرية والمؤلفات المسرحية ...

............................

jean tardieu

Dépêche-toi de rire

***

Dépêche-toi de rire

il en est encor temps

bientôt la poêle à frire

et adieu le beau temps.

D’autres viendront quand même

respirer le beau temps

c’est pas toujours les mêmes

mais y a toujours des gens.

Sous le premier empire

y avait des habitants

sous le second rempire

y en avait tout autant.

Même si c’est plus les mêmes

tu t’en iras comme eux

tu t’en iras quand même

tu t’en iras chez eux.

C’est pas moi c’est mes frères

qui vivront après moi

même chose que mon grand’père

qui vivait avant moi.

Même si c’est plus les mêmes

on est content pour eux

nous d’avance on les aime

sans en être envieux.

Dépêche-toi de rire

il en est encor temps

bientôt la poêle à frire

et adieu le beau temps

 

قصة:  نشأت خان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان من سوء الحظ أن تقترب الأرامل من العرائس الجدد، لذلك شاهدت ميم من شرفتي. ذهبت إلى السطح في الصباح وطوت الملابس الجافة بأصابعها البطيئة. في الليل أشعلت مصباح الكيروسين وانتظرت زوجها. كان اسمه هيميل. وكان دارسا للقانون. كان يرتدي بدلة بيضاء ويحمل حقيبة بنية. فى بعض الأحيان، عندما كانت ميم تنسى إسدال الستائر، كنت أراه وهو ينضى عنها ملابسها.

قالت النساء الأخريات اللائى عشت معهن:

- يا لها من فتاة محظوظة! لكن كان بإمكانة العثور على فتاة أفضل منها .

وناقشن كيف أنها ليس لديها والدان ولا تستطيع القراءة أو الكتابة. وقال بعضهن إنها  ساحرة، وأنها جعلت هيميل يتزوجها عن طريق ممارسة السحر الأسود.عند ذلك فكرت في يديه الداكنتين على بشرتها البيضاء وجلست للصلاة.

***

بعد ظهر أحد الأيام رأيتها عند مضخة المياه.وقفت هناك تنظر إليها، كما لو أنها لم ترها من قبل.

قلت لها:

- عليك أن تستخدمى ذراعيك وكتفيك.

لم تبدى حراكا ؛دفعت الرافعة وملأت دلوى ثم ملأت دلوها.

شكرتني وقالت :

-  في الوطن نحصل على الماء من النهر.

كان صوتها ناعما.وشعرها مضفراً فى ضفيرة واحدة طويلة و كان وجهها يشبه ورقة التنبول. عن قرب، لم تكن جميلة كما قال الجميع. بدت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة تقريبًا، فكانت أصغر مني ببضع سنوات.

مشينا مرة أخرى معا. صمتت ودخلت منزلها، لكنها انتظرتنى عند البوابة في اليوم التالي، وعندما انطلقت نحو المضخة، تبعتني فى صمت وخضوع .

***

في البداية كانت ميم خجولة، لكنها سرعان ما توقفت عن إخفاء وجهها بأنشول ساريها. هزّت شجرة العناب وأكلت الثمرة التي سقطت عند أقدامنا. كانت تطارد الحمام وتدندن بالأغاني الشعبية وهى تضع أوراق الشجر في شعري.

قالت:

- أنت محظوظة لأنك قصيرة جدًا.الجن لا يمسون سوى الفتيات ذوات الشعر الطويل.

سألت:

- ماذا لو كنت أنت الجن نفسه؟

مدت يدها إلى دلوها وسكبت الماء علي وهي تضحك فى نزق.

عدنا إلى المنزل وجلست على الدرج بملابسي المبللة.عندما عاد هيميل من المدرسة إلى البيت، تفاجأ، وقف مترددا أمام الباب؛ لقد شاهدني مبتلة.

سألت ميم عن زوجها. أردت أن أعرف ما الذي يحب أن يأكله وما إذا كان يتناول الحليب في كوبه الخاص. وهل كان يشخر أثناء النوم ؟ وهل أحضر لها الحلوى؟ وما نوع الأشياء التي يفعلها لها في الظلام؟

قالت ميم:

- تشي.

ثم غطت وجهها بيديها المزخرفتين بالحناء. أنزلت بلوزتها وأرتني المكان الذى قبلها فيه زوجها بشدة. في تلك الليلة، تقلبت فى السرير واستدرت، متجاهلة الألم بين ساقي.

***

قالت النساء الأخريات اللاتى عشت معهن:

- لكن كان بإمكانه العثور على فتاة أفضل منها .

عرضت عليها مساعدتها في الأعمال المنزلية. قمت بتنظيف الأثاث وترتيب الكتب على الرفوف أبجديًا، ولمعت حذاء هيميل وثبت أزرار قمصانه. لقد ساعدت ميم لكنها سرعان ما شعرت بالملل.

سألتنى:

- ألم تتعبى من ارتداء الأبيض طوال الوقت؟

سحبتني بالقرب من خزانة ملابسها وحلت القماش المربوط حول خصري. سقط على الأرض ؛وقفت عارية أمامها.

قالت وهى تضع يدها على صدري:

- أوه. ما أجمل خلقك!

لمس إبهامها حلمتي ثديى. سقطت أنفاسها على رقبتي. لفتني في ساري أحمر ووضعت أقراطًا في أذني. تذكرت الخلخال الفضي الذي أهداه لي زوجي في حفل زفافنا. كان يقول كل ليلة: "البسيه دائما ،أحب تلك الأصوات التى يصدرها".

وعندما مات قامت والدته بخلعهما من قدمي. ثم قامت بقص شعري حتى المنبت وباعت الأرغن الخاص بي. ثم أخذتني عبر النهر إلى منزل بنى للفتيات الأرامل مثلي. جدرانه عارية ولا موسيقى فيها، وتفوح منها رائحة البخور. لقد تركتني هناك.

أصبح من الواضح أن ميم لم تتعلم أية واجبات زوجية. لقد تركت القمامة تتراكم في المطبخ وتركت الأرز يطبخ أكثر من اللازم. كلما حاولت أن أوضح لها الطريقة الصحيحة لتقشير ثمرة الكاكايا، كانت تذهب إلى غرفتها وتخرج لوحة اللودو وتلعب لساعات، وترمى النرد مرارًا وتكرارًا.

قلت:

- هذه اللعبة طفولية.

لكنها لم تتوقف حتى سمعت خطى هيميل. وعندما خرجت لمقابلته أخفيت اللوحة خلف الستار. وفي اليوم التالي أريتها كيفية التطريز على منديل.

سألت:

-  أين تعلمت أن تفعلى كل هذا؟

قلت:

-أمي.

أخبرتها كيف كانت أمي تقضي ساعات في تصحيح غرزتي عندما كنت طفلة. لقد استمعت لي وأنا أقرأ أو أغني وكانت تقاطعني في كل مرة تستاء فيها من صوتي. ذات مرة، بعد أن أحرقت الباذنجان بالكاري، ضربت كفي بعصا الخيزران حتى بكيت. وقالت إنني سأشكرها لاحقاً، عندما أكبر وأسعد زوجي بمهاراتي.

قالت ميم:

- لم تكن أمي تعرف من هو بابا. لقد تركتني في دار الأيتام.

أدخلت الإبرة للداخل والخارج ووخزت إصبعها. أخذته في فمي ومصصت الدم .أغلقت عينيها وافترقت شفتاها، تركت إصبعها، عند ذلك عدنا إلى عملنا ولم نقل شيئا.

***

في الربيع أصيبت ميم بالمرض. اشتكت من الصداع وسعلت في وسادتها. ذهبت لرؤيتها مرتين في اليوم، لكن الفتيات الأخريات قلن إن ذلك أمر مشؤوم.

قلن:

- الناس يتحدثون. إذا تدهورت صحتها، فسوف تتحملين أنت  اللوم.

لذا اقتصرت زياراتي على المساء. فركتُ زيت السمسم على صدغيها وأطعمتها الحليب الدافئ بالعسل.عندما شرعت فى الخروج، مدت يدها وأمسكت بيدي. قالت، بينما صدرها يرتفع وينخفض:

- ابقى معى .غني لي.

***

عندما أغمضت عينيها،غطيتها ببطانية.غادرت غرفتها وانتظرت هيميل. تناولت منه حقيبته عند الباب وأعدت صندله الجلدي إلى الرف. ثم أعددت طاولة الطعام وجلست بجانبه وهو يأكل. صنعت له شايا وأحضرته إلى غرفة مكتبه. قال إنه كان يبحث عن كتاب فأحضرته له. قال:

- يمكنك مساعدتي في كتابة مقالتي .

- أستطيع.

جلست على مكتبه وقرأت ملاحظاته.عندما انزلقت أنشولتي لتكشف عن بلوزتي، لم أتحرك لإصلاحها. شعرت بيده تلتف حول كاحلي. لمست أصابعه كعبي. فكرت في ميم، وهى نائمة على الجانب الآخر من الجدار، لكنني لم أوقفه.

***

استغرقت ميم بضعة أسابيع للتعافي. رفض هيميل أن يأكل طعامها، قال إنها وضعت الكثير من الملح في القدر ولم تضع ما يكفي من السكر في حلوى الأرز. أخبرها أن تتعلم كيفية تطوى ملابسه بشكل صحيح. وعندما لم يتمكن من العثور على كتابه المدرسي، صرخ     عليها.

سمعتها تقول:

- لقد وضعته مرة أخرى على الرف.اعتقدت أنك لم تعد بحاجة إليه بعد الآن.

سأل:

- ماذا تعرفين عن احتياجاتي؟  أنت أمية جاهلة .

***

في وقت متأخر من الليل، جاء لرؤيتي. قال أننا لن نضطر إلى اللقاء سراً لفترة طويلة. سألته :

- ماذا عن ميم؟

لكنه قال لا داعي للقلق.التقط عنابًا من أسفل الشجرة ووضعه على شفتي، قضمت اللحم الحلو وتذكرت طعم دمها.

***

قال هيميل للمحكمة إن ميم كان لديها ميول غير طبيعية. وقال إنه سمعها تتحدث مع نفسها لساعات، وكثيراً ما تتحدث عن الجن.

قال:

- رأسها مصاب بالجنون.

أرسل القاضي طبيبًا لفحص ميم. لقد شاهدته من الشرفة وهو يطرق بابها.

***

لقد تجنبت الذهاب إلى مضخة المياه ولم أعد أخرج. قالت الأرامل الأخريات إنني أبدو مريضة. قدمن لى  حليب الورد وقمن مكانى بالأعمال المنزلية. وكلما أكثرن من الأسئلة، شعرت بالسوء. لذا حبست نفسي في غرفتي ولم أتحدث إلى أحد.

جاءت ميم لرؤيتي. لقد طرقت وطرقت حتى سمحت لها بالدخول. كان شعرها متشابكًا وعيناها غائرتين . جلست على سريري وبكت. قالت إن زوجها  يكرهها، وكانت تراودها أحلام سيئة، وأنها وحيدة في منزلها الكبير ولم يكن لديها من تتحدث إليه.

سألتنى :

- هل أنا زوجة سيئة؟ هل أنا صديقة سيئة؟ لماذا لا تنظرين إلي؟

دفنت وجهها في كتفي. قبلت رأسها. وعندما نظرت للأعلى، قبلت شفتيها. ارتجفت أصابعها عندما قامت بفك أزرار بلوزتي. كان فمها دافئًا ورطبًا بين ثديي. دفعتها إلى الخلف على وسادتي وباعدت بين ساقيها .

عندما استيقظت كانت لا تزال نائمة، وكانت يداها ملتفتين في قبضتين . ذهبت لأغسل  آثارها عن بشرتي. عندما عدت كانت قد ذهبت.

***

سألتنى الفتيات الأخريات عما فعلته ميم في غرفتي. أظهرت لهن العلامات التي تركتها على جسدي وأخبرتهن أنها هاجمتني، وأنها لمستني كما يلمس الرجل المرأة.

قلت وأنا أبكي:

- كنت خائفة للغاية.

وقال هيميل للمحكمة إنه لا يستطيع الاستمرار في العيش مع مثل هذه الفتاة غير المستقرة. وقع القاضي على الأوراق وقال إن هناك مكانًا للتعامل مع هذا النوع من المرض.

احتجزوا ميم في السجن المحلي، وقاموا بقص شعرها وألبسوها ملابس بيضاء، ثم أخذوها بعيدا.

***

انتقلت عبر الشارع مع متعلقاتي. أثناء النهار كنت أطبخ وأنظف وأقرأ وأغني، لكن في الليل لم أستطع النوم. استلقيت على السرير وأحصيت الشعيرات الملتصقة بمشطها.

 

(تمت)

***

....................

المؤلف: نشأت خان/ Neshat Khan نشأت في بنغلاديش وحصلت على درجة البكالوريوس من جامعة شمال تكساس. وهى أيضا خريجة برنامج الماجستير في الفنون الجميلة بجامعة بوسطن. انضمت نشأت خان إلى AGNI كمساعدة تحرير في عام 2018. حصلت على جائزة فلورنس إنجل راندال للخريجين وجائزة الفنان الناشئ من نادي سانت بوتولف.تعيش في نيو إنجلاند

قصيدة عن الأطفال اللاجئين الوحيدين

بقلم: نيكولا ديفيز

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

يوم جاءت الحرب كان هناك ازهار على زجاج النافذة

وكان ابي يغني لأخي الرضيع كي يعيده الى النوم.

اعدت امي افطاري وقبلتني على انفي

ومشت معي الى المدرسة.

*

في ذلك الصباح تعلمت عن البراكين، وغنيت اغنية

عن كيفية تحول الشراغيف في النهاية الى ضفادع.

رسمت صورة لنفسي بجناحين.

ثم مباشرة بعد الغداء، وبينما كنت ارقب غيمة تتشكل مثل دولفين، جاءت الحرب.

في البدء، تماما مثل رشات بـَرَد

صوت رعد...

ثم كل شيء تحول الى دخان ونار وضجيج، ذلك شيء لم افهمه.

*

عبرتْ ملعب المدرسة.

نالت وجه معلمتي.

اسقطت السقف.

وحولت مدينتي الى حطام.

*

لا استطيع ان انطق الكلمات التي تخبركم

عن الحفرة المتفحمة التي كانت من قبل منزلي.

*

كل ما استطيع قوله هو هذا:

*

الحرب اخذت كل شيء

*

الحرب اخذت كل الناس

*

كنت ممزقة وملطخة بالدماء ودون اي عون.

*

هربت. ركبت على ظهور الشاحنات، في الحافلات؛

مشيت فوق الحقول والطرق والجبال،

في البرد والوحل والمطر؛

على متن قارب تسرب اليه الماء وكاد ان يغرق

وخرج على شاطئ حيث يستلقي الأطفال الرضع على وجوههم في الرمال.

*

ركضت حتى لم استطع الركض

الى ان وصلت الى صف من الأكواخ

ووجدت زاوية فيها بطانية قذرة

وباب يقرقع في الريح

*

لكن الحرب تبعتني

كانت تحت جلدي،

خلف عينيّ،

وفي احلامي.

لقد استحوذت على قلبي.

*

مشيت ومشيت محاولا اخراج الحرب من داخلي،

محاولا ان اجد مكانا لم تصل اليه.

لكن الحرب كانت في كيفية انغلاق الأبواب حين نزلت الى الشارع

كانت في طريقة عدم ابتسام الناس واشاحة وجوههم.

*

جئت الى مدرسة.

نظرت الى الداخل من النافذة

كانوا يتعلمون كل شيء عن البراكين

ورسم الطيور والغناء.

*

دخلت.

كان لوقع خطواتي صدى في القاعة

دفعت الباب فالتفتت جميع الوجوه نحوي

لكن المعلمة لم تبتسم.

قالت: لا مكان لك،

أ ترين، لا يوجد مقعد تجلسين عليه،

عليك ان تذهبي بعيدا.

*

حينها فهمت ان الحرب قد وصلت الى هنا ايضا.

*

استدرت وعدت الى الكوخ والزاوية والبطانية

وزحفت نحو الداخل.

بدا ان الحرب قد اخذت العالم كله وجميع الناس الذي فيه.

*

انغلقت الباب بعنف.

ظننت انها الريح.

لكن صوت طفلة قال:

"جلبت لك هذا حتى تستطيعي ان تأتي الى المدرسة."

كان ذلك مقعدا. مقعدا لي كي اجلس عليه واتعلم عن البراكين والضفادع والغناء

واخرج الحرب من قلبي.

*

ابتسمت وقالت: "لقد جلب اصدقاتي مقاعدهم ايضا

كي يستطيع جميع الأطفال هنا المجيء الى المدرسة."

*

جاء من كل كوخ طفل ومشينا معا،

على طريق مصفوف كله بالمقاعد.

دافعين الحرب الى الخلف مع كل خطوة.

***

....................

* نيكولا ديقيز: روئية ومؤلقة ادب اطفال بريطانية من مواليد برمنغهام في انكلترة لعام 1958. من ابرز مؤلفاتها "بو" 2004؛ "المنزل" 2005 ؛ و"الوعد" 2015. فازت اعمالها واغلبها كتب مصورة للأطفال بجوائز عديدة. كتبت ديفيز القصيدة التي نترجمها هنا كرد فعل لقيام حزب المحافظين في البرلمان البريطاني بالتصويت ضد استقبال الحكومة لـ 3000 من أسر واطفال سوريا اللاجئين ممن فقدوا والديهم في الحرب الأهلية السورية.

بقلك" تيوفيل قوتييه

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

في الغابة الجرداء والصدئة

لم يبق في الغصن

سوى ورقة بائسة مَنْسية،

لا شيء سوى ورقة وعصفور.

*

لم يبق في روحي

سوى حبّ أوحد ليغنّي فيها

لكن ريح الخريف التي تزمجر

لا تسمح بسماعه.

*

يرحل العصفور، وتسقط الورقة

ينطفئ الحبّ، فهو الشتاء.

أيها العصفور الصغير، تعالى إلى قبري

كي تغنّي، حين تصبح الشجرة خضراء.

***

"كوميديا الموت"

تيوفيل غوتييه

 1811- 1872

...................

Poésie : La dernière feuille

Titre : La dernière feuille

Poète : Théophile Gautier (1811-1872)

Recueil : La comédie de la mort (1838).

***

Dans la forêt chauve et rouillée

Il ne reste plus au rameau

Qu'une pauvre feuille oubliée,

Rien qu'une feuille et qu'un oiseau.

*

Il ne reste plus dans mon âme

Qu'un seul amour pour y chanter,

Mais le vent d'automne qui brame

Ne permet pas de l'écouter.

*

L'oiseau s'en va, la feuille tombe,

L'amour s'éteint, car c'est l'hiver.

Petit oiseau, viens sur ma tombe

Chanter, quand l'arbre sera vert !

*

Théophile Gautier.

À découvrir sur le site

https://www.poesie-francaise.fr/theophile-gautier/poeme-la-derniere-feuille.php

 

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir

(Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar)

***

Last night, I decided to set the date of my death, to hold my own funeral, to arrange my own burial ceremony, and to write the false words of my lament by myself. An incident occurred yesterday afternoon that made me firmly resolved to do all this.

I decided that my death should be accompanied by no less noise than the noise that accompanied my birth, a sound like the firing of a hunting rifle, for example. In my estimation, death is not less significant than birth, and the end is no less important than the beginning.

They told me when I was a child that my screams at birth were louder than my mother's cries during her labor, and that I continued to cry, weep, and wail, in such a loud voice that many professional singers would envy me for forty days, day and night, as if I was observing an official period of mourning, because of my descent into this strange turbulent world and my separation from the safe and quiet world of the womb.

I admit that I haven't always made such noise throughout my life. Since my retirement almost a decade ago, I have been living in complete silence and solitude, closer to inactivity, in this small, wretched apartment situated at the entrance of this old, damp, and dirty building, without getting to know its residents, and without them getting to know me. I have been living here for more than a decade, without the neighbors hearing my voice even once.

My solitude mourns within me without anyone hearing it, and my wounds groan between my ribs without any creature knowing about it. I do not confide in anyone about what is going on inside me, nor do I talk to the neighbors about my affairs or theirs. Rarely do they see me, because I seldom leave my apartment.

If I happen to go to the market to buy some necessary food, my timing does not coincide with their departures to work in the morning nor their return to their homes in the evening, so I do not meet them, and they do not meet me. In fact, I do not know any of them, and I doubt if any of them could recognize my face or appearance.

I do not go out for walks in the streets, nor do I visit cafes. There is nothing that encourages me to do so. People's faces have been bathed in the river of sadness and gloom, and their eyes show nothing but unabashed misery, without a trace of a smile on their dry and sealed lips. They rush in their movements in a way that irritates my nerves, as if a stormy wind propels them from behind or a predator chases them. They do not exchange words among themselves. Each one rushes alone in the valleys of silence, groaning under the burden of worries and anxiety.

I kill my time by watching television and reading the newspapers that I pick up after their owners have thrown them away. I use earphones when watching television, so no sound can be heard by anyone but me, even if they are in the same room.

Thus, the apartment remains silent and still, like the silence of graves. However, I find nothing new in what I read or hear. The news revolves around the same sad, repeated events, the only difference lies in place or time, but the topic is one:the strong people eat the weak, just as savage foxes devour the young animals in the forest. The rich grow richer in wealth and prosperity, while the poor sink deeper into poverty and misery.

I can't understand what's on TV, or enjoy it as I would like to. Advertisements for washing powders and cleaning products interrupt programs over and over again, constantly reminding us of the dirtiness and filth of the world we live in. Furthermore, I am often overtaken by bouts of drowsiness while sitting on my chair in front of the television.

There is nothing new under the sun nor above the earth. Each day is a dull and pale replica of the one before it. I eat the same meals that do not require cooking or preparation. I have never learned to cook.

My frail body has little appetite, and it knows no greed in eating and drinking. A piece of bread dipped in butter with a glass of milk is more than enough for me. Thus, my meager pension covers my expenses, and I can even save a little from it.

There is nothing new in my life at all, if you can call my existence “life”. Nothing new at all, except that I notice that time is taking away what has been given to me. I feel a decline in my physical strength, and a weakness in my memory. I no longer remember what I did a day or two ago, perhaps because it no longer matters to me. But I also began to forget where I placed my belongings in the small apartment, so I search for them everywhere. With the gradual degeneration of my memory, I no longer have the means to face aging. My memories are fading away little by little, and there is no longer anything connecting me to myself or to this world, its past, present, or future.

Day after day, I feel stiffness in my limbs. My body has lost its flexibility and become rigid. It has become like the trunk of an old tree that has been hit by a storm and severed from its roots. Day after day, I sense a dwindling in my linguistic abilities. Perhaps because I rarely use them. Yes, I talk to myself sometimes to feel that I am still in pain. But I can no longer find the words to express my purpose. Meanings fly away from my mind, and words dry up on my lips. Words used to tie me to this world like the ropes of a ship's sail, but now they keep breaking one after the other. My sails will tear apart at the first gust of wind, and my ship will inevitably sink.

I have become accustomed to seeing the narrow, wretched walls of my apartment and its worn-out furniture, day after day, month after month, and year after year. I have become so accustomed to them that I no longer see them. The bed, which has no head or tail is the same, the empty mattress is the same, and the only dirty pillow is the same. The few pictures I framed and hung on the walls decades ago, featuring some of my relatives who passed away a long time ago, no longer mean anything to me. Those are pictures of people who have fallen into nothingness, so they are, in fact, empty, representing no living people, but rather the nothingness that has no image. Thus, even if my eyes fall upon them, I do not see anything. I see nothing in them. They are mere empty frames, devoid of any content.

I have decided to bury myself with my own hands because I am alone, with no family or relatives, near or far. I am, as the Arabic idiom goes, cut off from a tree. I have never been married. I did not want to be responsible for the misery of a woman or the suffering of a child in this world. Enough of my boredom and misery. My mother became a widow before my birth, and before I went to elementary school, my mother joined my father in the world of the deceased. The neighbors took on the burden of burying her and sending me to an orphans' school. For this reason, I don't want my neighbors to bear the burden of burying me. I will take care of my funeral myself.

Starting while I was still in high school, I spent nearly forty years in a semi-dark room they called the “Incoming and Outgoing Records Office” in the basement of the company that employed me. I used to put serial numbers on the letters that were sent to and issued by the company. I used the same numbers in all correspondences. One number does not differ from another except in the arrangement of its digits. The same numbers from the hollow zero to the unlucky nine. And when I return to my wretched apartment at the end of the day, I found no difference between its walls and the walls of the office I left a little while ago.

I decided to take care of my own burial and not leave it to anyone else, as the Arabic saying goes, "Nothing rubs your skin like your fingernails" ("You know your own skin better than anyone else."), especially when the issue here is not just about skin, but rather the whole body. I will shortly contact the funeral company (mortuary) and arrange all the details. I will personally choose the Qur'an reciters and specify their seating positions around the corpse in this wretched apartment. I will ask them in advance to recite for me the Qur'anic verses and prayers they will read over the coffin before carrying it to the cemetery. I will even choose the shroud that will cover my body. I will break free from the traditionally white shroud. I am going to deviate a little from the ordinary, because the usual has killed me with boredom throughout my life. I will choose a pink-colored shroud and a light green-colored coffin. I will take revenge on the colors black and white, for every day I used to wear a white shirt and a black suit at work.

I will take care of my own burial. This idea, which fascinated me, flashed through my mind like a lightning bolt on a dark night after the neighboring building's guard knocked on my door yesterday. She looked over my shoulder into my apartment as if she were looking for something she had lost and informed me that Mr. Mohammed Al-Sarrah had breathed his last the previous night. She discovered it by sheer chance. I don't know how she found my place.

- "Why did you come to me specifically, madam?" I asked.

One day she saw him standing at the door of my apartment. He was just a colleague of mine at work who retired before me. He only came to me once. He came to borrow some money. And because he couldn't repay the debt, he never came back.

- "What can I do for him, madam?"

She replied, while looking back, as if she was waiting for the arrival of someone dear to her, that I am the only one who knows him, and he must be buried.

Yesterday, either because of the virtue of dignity or because the building guard had intimidated me, I felt compelled to rent a cheap carriage, which was not intended for transporting the dead, to carry the body of my former colleague to the cemetery. I was the only mourner. The building guard accompanied me only to the door of the building. The rest of the residents were preoccupied with their affairs. They didn't have time to waste on a funeral for someone they didn't know. They had lost even their curiosity and did not peep from their windows, even though I was raising my hoarse voice with “Allahu Akbar” ("God is great”), “la ilaha illa Allah”... (“There is no god but Allah…”), as I was taking the wooden piece I called a coffin out of the building, with the driver of the transport vehicle assisting me as if he were carrying an old piece of furniture. Then I set out with him - I mean the driver - to the cemetery, as he buzzed down the road with a popular sentimental song that had nothing to do with death or life. Along the way, I did not recite any Qur’anic verses on the soul of the deceased, because I have never memorized anything significant from the Quran. What I memorized in school, I forgot a long time ago. There is no copy of the Quran in my apartment, nor of any other book. I did not have enough resources to spend on buying books that I wouldn't read.

I hired a gravedigger that I found at the desolate cemetery, which was void of any vegetation, outside the city. He performed his work silently and gloomily. His silence and melancholy were not sorrow for my colleague. There was no doubt about that. Perhaps his work bestowed upon him that gloom, and his profession imposed upon him that silence. In his occupation, he deals with rocks, stones, and the dead. He dug a narrow and shallow grave. He poured a little bit of soil on the dead, which did not fully cover him. He was not satisfied with the payment I gave him, and he collected it before beginning the work. Neither he nor I had a choice. He walked away without paying attention to my observation about the shallowness of the grave. Signs of discontent were visible on his face, and he muttered words I could not hear. Undoubtedly, those were curses that he poured upon me as well as the deceased. A surge of gallantry took hold of me, and I completed the work myself, properly covering the grave with soil. I feared that dogs might come at night and gnaw at the nearly naked corpse. But after I finished, with sweat dripping from my forehead and body, I wondered, "Does it matter if a sheep is skinned after it has been slaughtered?"

I returned to my apartment in the evening, weakened and depressed. I collapsed on the only couch. At that moment, I decided to take charge of arranging my own burial. I had saved enough money for a funeral that befitted me. If I could not live a decent life, then at least let me have a dignified death. After all, I have nobody for whom to leave my savings after my death.

This morning, I made a call from the public phone in the square to a reputable company that handles dignified burials. I had noticed one of their new cars before, painted in black, adorned with Qur’anic verses in Kufic script, along with the company's name and phone number in a larger font.

The company sent a representative to my apartment. We discussed all the details for two hours. We agreed on the transportation fee, the number of reciters, and their remuneration. I requested seven reciters, although I don't know why the number seven appeals to me. I've always been optimistic about it from a young age. The representative of the company informed me of the Qur’anic verses that the reciters would chant over my coffin before it would be taken out of the apartment and once it had been lowered into the grave. I cannot recall those verses verbatim, but they intrigued me. They were full of words about paradise, blissfulness, springs, the virgins of paradise, fruits, rivers of wine, and honey. We also agreed on the dimensions of the grave's length, width, and depth, and the height of the tombstone. He asked me about the birth and death dates to be written on the tombstone. I remembered that story about the city whose people only recorded on their graves only the number of happy days they had lived. So, I asked him to write on the tombstone: "This is the tomb of Jabr, from the womb of his mother to the tomb”. All of this was written in a pre-prepared contract, that is similar to the those contracts I used to sign with my former company, with a number and date. We both signed the contract, and it became fully valid. I handed over the agreed amount in cash in exchange for a receipt, and that was the end of everything.

- “It's not really all over,” the company representative told me. The contract is missing only one thing, which is the date of implementation. He looked at me inquiringly.

I looked into his eyes, a sarcastic smile surrounding my lips, and told him without hesitation:

- “That is incredibly simple. Tomorrow morning. Tomorrow. It's just another day like any other day. No difference. Let's say eight o'clock in the morning, your company's opening hour."

- “And the location?"

- "Here, in this apartment, right on this bed."

And I handed him the key to the apartment.

****

.......................

 This short story is a translation of النهاية by Ali Al-Kasimi. It is the sixteenth in the short story collection Time to Leave (أوان الرحيل, under translation).

 

قصة: باتريشيا إنجل

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

لمحته جالسًا على كرسي بلاستيكي بجانب حمام سباحة الفندق. حييته فوقف. تبادلنا القبل على الخدين. أخبرني أنني أطول مما يتذكر.

يقول لى دايا وسط هدير الرعد:

-  اجلسى.. اجلسى.

وجدنا مكانا على مقعد حديدي تحت شرفة المراقبة البيضاء المتقشرة.

يقول:

- لقد مر وقت طويل.

لم نكن أبدا زوجين متقاربين لذلك، شعرت بهذا، فعلى نحو ما كان "ديا " دائمًا غاضبا مني. أخبرته أن التفكير في الأمر سينتهي بمزحة لكنه يحدق بي فقط كما لو كان لم يتذكر ذلك. اتصل بى هاتفيا قبل أيام قليلة، وهي المرة الأولى منذ خمس سنوات، ليقول لى إنه قادم إلى ميامي وأنه سمع من مالك ومن آخرين أنني أعيش هنا الآن.

قلت:

حاولت أن أقول وداعا. أنت لم ترفع سماعة الهاتف أبدًا.  - كنت أنت دائمًا الأفضل فى مثل هذه  الأشياء.

- يبدو أن ديا قد دهسته الحياة. لا بد أنه فقد عشرين رطلاً من وزنه، ممزوجًا بقميصه الأزرق، وسرواله الأسود كل أنواع بقع الظل. لقد كان لديا الذى أعرفه ساقا لاعب كرة قدم وكتفين مربعين، لكنه الآن يبدو هلاميًا،عيناه مكسورتان، وجلده مصفر، وشعره مربوط على شكل كعكات. بينما يتحدث عن الرطوبة، ويتساءل كيف يمكن لشخص متحضر أن يعيش هنا، أبحث عن الدبوس الذي كان يحمله فى لسانه، مثل شريط صغير يعترض طريقنا في كل مرة تبادلنا فيها القبل.

لا أشاهده الآن.

أسأله ما الذي أتى به إلى المدينة وهو غاضب، يبحث عن الكلمات المناسبة في الغيوم الداكنة.

يقول:

- لن يعجبك ذلك .

- فقط أخبرني .

لا أعتقد أنه يمكن أن يكون بهذا السوء لأن ديا لم تكن أبدًا من متعاطى المخدرات. كان يدير حانة لسنوات دون أن يشرب، يقضي فترات ما بعد الظهر الهادئة قبل وصول مجموعة الساعة السعيدة فى قراءة كتب التاريخ على كرسي في الركن. هكذا التقينا. ذات يوم سألته عما يقرأ.

يقول:

- أنا مقامر محترف.

لم أستطع أن أستوعب هذا. ترتفع جبهتي بأكملها كما لو كانت سحبت بخيط.

آخر مرة رأيت فيها ديا، كان يدرس لامتحان الخدمة الخارجية. تحدث بست لغات ويمكنه التحدث عن السياسة والأدب في أي منها، ويحثنى دائمًا على مواصلة الدراسة، ويسألنى عن الدرجات التي كنت أحصل عليها منذ أن كان همى الأكبر هو التسكع،  صرخ في وجهي في عيد ميلادى الرابع عشر وقال لي إن فتاة ذكية مثلي تضيع كل هذا. ودعانى بالعاقة والشقية الحمقاء بسبب المشى مع مالك. الذى كان يقضى معظم وقته فى الحمام يشم رائحة أطراف أبناء بلدي المبتورة أكثر من كونه صديقًا لي.

- القمار؟

يوضح دايا أنه بدأ بلعب البلاك جاك على الإنترنت ثم انضم إلى بعض الجمعيات السرية في المدينة. تلمع عيناه عندما أخبرني أنه أدرك أن لديه موهبة؛ يصرف كل ليلة بالآلاف، أكثر بكثير من المبالغ الصغيرة التي يكسبها في الحانة.

لقد مر وقت طويل جدًا بالنسبة لي لألعب دور الصديق، ومضايقته، وأسأله عما حدث للسيد نزاهة. أنظر فقط إلى وجهه الشاحب، والحاجبين الكثيفين يلوحان فوق عينيه بينما يحاول أن يشرح الحماقة وكأنها معاهدة سلام مليئة بالمنطق المتكرر.

لقد جاء إلى فلوريدا للمقامرة في الكازينوهات الهندية. كان في سيمينول حتى الخامسة صباحًا. لقد انتقل من منزل أستوريا ولديه الآن دور علوي في بوورى، على الرغم من أنه نادراً ما يغادر باستثناء لعب البوكر في بيى ريدج. لديه مباريات عبر الإنترنت لبضع ليالٍ في الأسبوع ضد أشخاص من جميع أنحاء العالم ؛ من الصعب التغلب على الكوريين، كما يقول، وهناك رجل واحد في أستراليا هو الملك الحاكم. لكن ديا يزداد خبرة مع الوقت ، ويخبرني أنه يحتل المرتبة الرابعة في العالم.

قال لي:

- هذه صفقة كبيرة حقًا، يا جاتينا.

عندما سمعت منه اسمى القديم، لاحظت أن صوته قد تغير - فقد كان عميقًا وخصبًا، مثل أصوات ذلك الرجل الذي كان يغني أيام الثلاثاء في ساحة كاريوكا، الآن أصبح صوته  أجوفًا، وخشنا ذا صرير وكأنه لم يعد معتادًا على التحدث كثيرًا، وعلى الرغم من أننا ننظر إلى الشاطئ، نشعر وكأننا في شقة خالية.

عندما انتهى، قال:

-  وبعد، ما رأيك؟

أعلم أن ابتسامتي ضعيفة جدًا لدرجة أن ديا لا يصدقها. قدم لي سيجارة، لكني أخبرته أنني أقلعت منذ سنوات.

اعتدنا على التدخين معا. ونحن جلوسا على شبكة المبرد في شقتي، ينفث الدخان من النافذة، نراقب بعضنا البعض. كنا مجرد صديقين في ذلك الوقت، تجنبنا القبلة لأنني كنت مع مالك الآن. "لا أفهم ما الذي تتحدثين عنه"، كانت تلك العبارة المفضلة لديا، ولكى أغضبه فقط أقول أن هذا هو الجزء الأفضل - لم نتحدث أنا ومالك عن أي شيء.

اعتدت أن أرتدي هذه الأقراط الحلقية الكبيرة، وشعري نازل حتى الوركين، وبناطيل جينز ضيق للغاية وبلوزات مطرزة، كما لو كنت نوعًا من الجيتيانا - بعيدًا عن زي المعلم الذي أرتديه الآن. اعتدت أن ألتقط صوراً، معظمها لسكان المدينة ذوي الوجوه الحزينة، وفي بعض الأحيان كان مالك ينزع قميصه، مستلقيًا على جدار من الطوب يظهر جناحيه، وهو يثني ظهره لرسم منظر طبيعي جديد للكاميرا. مالك، بشعره المصري المجعد ووشم الأسد على ظهره، رجل لم يستطع التخطيط للأسبوع المقبل. كانت فكرة ديا هي الإشراف على إقامة  أول معرض لي هناك في البار. أقام لي حفلة وكل شيء، لكن عندما حاولت تقديمه لأصدقائي، تراجع دايا وظل قابعا في ركنه.

يسألني دايا عما إذا كنت قد فكرت يومًا في العودة،وقبل أن ينتهي السؤال،أهز رأسي.

يقول وهو يمد كفه إلى ستارة المطر:

- أتساءل عما إذا كان بإمكاني العيش هنا.

أنظر إلى ساعتي

- في مكان ما تريد أن تعيش؟

أشعر بشعور سيء. قل لا، لدي وقت. دعنا ننهي هذا الأمر.

نقوم بالمناورة فى الكلام. نبدأ كل عبارة  بجملة: "تذكر متى "

يسألني دايا عما إذا كنت أنا ومالك ما زلنا نتحدث، وأقول لا .

- لماذا انفصلت على أي حال؟

- أنت تعرف .

يريد أن يسمعني أقول ذلك، على الرغم من أنه سمع القصة منذ وقت طويل من الناس في الحي. كيف ضربني مالك لأني كنت أتعاطى الكوكايين. لكمني في وجهي بقوة حتى هبطت فوق فتاة صغيرة تنفخ البالونات في إحدى الشرفات. بكت الفتاة الصغيرة وعندما نهضت، فقدت اثنين من أسناني، كان مالك قاب قوسين أو أدنى. رأى بعض زبائن المطعم الهندوراسيين كل شيء، ونظفون، ومسحوا وجهي وقالوا إنهم سيأخذونني إلى مركز الشرطة لتوجيه الاتهامات، لكنني رفضت. أخبرت طبيب الأسنان أنني وقعت. اختفيت. اعتقدت أنه ربما يأتي دايا للسؤال عنى، لكنه لم يفعل ذلك أبدًا. لذلك كرهته.

أخبرني دايا بعد مغادرتي أنه عاد إلى البرازيل. لقد سئم من نيويورك وشعر أنه بحاجة إلى أن يكون بين أهلهه. درس اللغة الإنجليزية في عدد من المدارس المختلفة، واستأجر شقة رائعة في ساو باولو بسعر رخيص، وكان لديه سيارة وكل شيء.لكن نيويورك دعته. عاد إلى نفس الشقة في أستوريا، حيث كان يصب المشروبات لنفس الحمقى السكارى. تزوج في الوسط، ثم طلق قبل بضعة أشهر من تلك الفتاة التي وظفها كنادلة كوكتيل في الوقت الذي كنت قد بدأت فيه علاقتى بمالك. يسألني إذا كنت أتذكرها. أقول لا. .

يقول:

- إنها تتذكرك.

أتعرف على تلك العيون من الخلف، عندما كان يمسك بيدي في الحانة، ويطلب مني التوقف عن الشرب، والعودة إلى المنزل كفتاة عادية والكف عن قضاء ليالي مع المشردين. اعتدت أن أقول له "أنت متحيز للغاية" وبدا دايا مستعدًا للانهيار والبكاء.

إنها تمطر في كل مكان حولنا. صفائح ثقيلة تشبه إلى حد كبير الجدران ونحن نجلس على المقعد أسفل شرفة المراقبة. ليس هناك مكان نذهب إليه. لا يخلو من التعرض للبلل.

يخبرني دايا أن زوجته منعته من الاتصال بي لسنوات. لقد شعرت أن علاقته معي كانت أعمق من السجائر والمحادثات غير المألوفة في ركن البار.

لا أدري ماذا أقول. ينظر إلي كما لو أن هذا ما أتى من أجله وأتمنى أن يتوقف المطر بالفعل .

- أخبرني عن حياتك.

أقول:

- كما تعرف.لا شيء مميز.

- صديق؟

.      - ليس بعد

- لقد كان لديك دائمًا صديق بالتناوب.

كان هناك وقت أردت فيه أن يكون دايا. دايا فقط. عندما أردته أن يمسح تلك النظرة الغاضبة عن وجهه ويخبرني بشيء حقيقي، وليس إحدى نظرياته عن العالم. كان دائما يسخر مني. جعلني أسرد كل الأشياء التي كنت أؤمن بها: الله، السماء، الخير المتأصل للبشرية، ثم ضحك وأعطاني أسبابًا لعدم وجود أي من هذه الأشياء. كنا نجلس معًا في الحديقة، أفخاذنا تضرب بعضها البعض على المقعد الطويل بينما يهز الراقصون وراكبو عجلات  التزلج أجسادهم بالقرب منا. كان يتحدث عن العالم، كل ما هو خطأ فيه. أحيانا كنت أستمع. في بعض الأحيان، كنت أتمنى لو أنه يهدأ ويأخذني إلى المنزل، ويستلقي على السرير بجواري ويكون ساكنًا وهادئًا حتى نتمكن من النوم معًا. ثم قابلت مالك الذي جذبني من معصمي إلى كشك الهاتف ذات ليلة وطلب منى أن أكون فتاته. كان  دايا يشاهدني من خلف الحانة عندما سمحت لمالك أن يقبلني.

يسألني دايا:

- لماذا أتيت؟

لرؤية صديق قديم. للدردشة.  

- هل هذا كل شيء؟

- دايا

- دعنا نتجاوز ذلك. يهدأ المطر وتشق الشمس السماء. لا أستطيع أن أتحمل بعد الآن. أنهض وأخبره أنني ذاهبة. لا يتحرك. تماما مثلي ينظر بعيدا ومثلى لا يفعل شيئا لإيقافي. عندما أكون على الجانب الآخر من حوض السباحة، أشاهد دايا جالسا هناك، يشعل سيجارة أخرى. أتساءل لماذا لم نتوافق أبدًا. ولماذا لم نحاول ذلك  قط.

(النهاية)

***

...........................

المؤلفة: باتريشيا إنجل/ Patricia Engel. ولدت باتريشيا لأبوين كولومبيين، وتخرجت من جامعة نيويورك وحصلت على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة من جامعة فلوريدا الدولية. هي أستاذة مشاركة في برنامج الكتابة الإبداعية بجامعة ميامي.

بقلم: فيكتور هيجو

ترجمة: عيد الوهاب البراهمي

***

العقل

أنا أنجو بنفسي

الحقّ

وداعا ! أنا ذاهب.

الشرف.

سأذهب إلى المنفى.

*

الأغنية

أنا أهاجر. من فضلكم،لا أستطيع أن أهمس بكلمة،

أن أقول مذهبا دون أن أٌمسك من رقبتي من ضبّاط

المدينة ، الغاضبين المضحكين .

ريشة الكتابة.

لم يعد أحد يكتب؛ المحبرات فارغة.

كأنما هي دولة المغول ، الروس أو الفرس.

لم يعد لنا ما نصنع هنا؛ فلنذهب،

أخواتي ، سأفارق الإنسان وأعود إلى الإوز.

الشفقة

أنا راحلة. سأترككم أيها المنتصرون بالدم لأفراحكم،

سأطير إلى كايين حيث أسمع صيحات عالية.

*

الشعر.

أوه! سأذهب معك ، أيتها الشفقة بما أنك تنزفين!

النسر .

ما هذا الببغاء الذي تضعون على علاماتكم،

أيها الفرنسيين ؟ من أي بالوعة خرجت هذه الدابّة؟

*

أعضاء مجلس الشيوخ المحترمين! سأعود إلى العزلة!

*

الصاعقة

سأصعد إلى الأعالي مع النسر مع السحب الرعدية.

لقد اقتربت ساعة ذلك. سأنتظر أمرا.

منشار

بما أنّه لا يسمح إلاّ للأفاعي أن تلدغ،

فسأرحل ، سأقطع الحديد في العوامات.

الكلاب

لقد استُبدلنا بالمفوّضين ، لنرحل.

الوئام

أنا اذهب بعيدا .فالكره في القلوب المنكوبة .

الفكر

لا نهرب من الأوغاد إلاّ لنقع على الحمقى. يبدو أن كل شيء يموت وأن كثيرا من السماوات الواسعة تذهب إلى حدّ قصّ جناح العصافير.

ينطفئ كل وضوح في ظلّ هذا الإنسان الفاتك .

آه فرنسا ! أنا أفرّ، أنا أبكي .

الكراهية

أنا باقية.

***

فيكتور هيجو" العقاب" (نوفمبر 1852)

بقلم: تيان يي

ترجمة: صالح الرزوق

***

كنا في المدرسة حينما  رأيت أول مرة ماذا يمكن أو ين لي أن يفعل. لا بد كنا في الثامنة أو التاسعة، الفترة التي اعتبر أنه كان خلالها أعز أصدقائي. وبالعادة لا ننفق الاستراحة معا، لكن في ذلك اليوم كنا نلعب بكرة قدم قديمة، بعيدا عن العيون، في مكان يقع بين بنائين من الباحة. وكنا نسأل أنفسنا أسئلة سخيفة. ماذا تفضل أن يكون لديك: حية أليفة أم رتيلاء أليفة؟.

إن كان لديك أي قوى فائقة، بماذا تسخرها؟.

هل تأكل الفلفل الحار جدا إذا منحتك جنيها؟ مائة؟.

وكنا نضحك حينما التف صبي يدعى جوني حول الزاوية وشاهدنا. كان معنا في الصف، وهو نحيل وطويل. ودائما يشتم المعلمين، ولذلك أرسلته المدرسة إلى بيته.

قال: آه. انظروا. إيدي وأوين تحت الشجرة.

تجاهلناه كما يفترض بنا، ولكن لم ينجح أوين لي من كبت التعبير عن خوفه تماما، أو الحمرة التي زحفت على وجهه. وكان دائما أهدأ وأكثر خجلا مني. ركلت كرة القدم على الجدار، وتابع جوني كلامه: هل أنتما توأم أو شيئ من هذا القبيل؟ توأم سيامي، صحيح؟ ولكن لا تعلمان ذلك، فقد رأيت أم كليكما، وكلتاهما بدينتان.

اقتربت منه قبل أن أقرر كيف أتصرف معه. لا أعتقد أنني أردت أن أضربه، ولكن أن أسكته فقط. صدر عن قبضتي، حينما لمست أنف جوني، صوت كأنني ضربت سطحا صلبا بتفاحة. وأدهشني الصوت والألم الفوري الذي لحق بيدي. لم أضرب أحدا من قبل. وجمدت أنا وجوني لحظة. ثم حضن وجهه، وسال الدم القاني من بين أصابعه على البقعة الباهتة التي كان يقف عليها. وبدأ يتشكى بصوت متألم، يدل على تمالك نفسه، وجاء أوين لي قبل أن يبكي. قبض على رأسه بيديه وفحصه، ليس كأنه طفل يهتم بطفل آخر جريح، ولكن كأنه يتقدمه بالعمر كثيرا. راقبته. وفكرت هذا بيطري أو مزارع يهتم بحيوان جريح. ما تلا ذلك كان غريبا - بيد واحدة وبسرعة ودقة نقر أوين لي على طرف واحد من رأسه، قرب أذنه تماما. ثم قال له: كان حادثا. فقد ضربت الكرة وأصبتك. لم يكن إيد موجودا، اتفقنا؟.

خف ألم جوني كما يبدو، وأصبح وجهه فارغا من المعاني على نحو عجيب، تحت الدم القاني الذي غطى فمه وذقنه. وسمح لأوين أن يرافقه إلى مبنى المدرسة. وعلى بعد عدة خطوات، التفت أوين، ونظر لي، ووضع أصبعه على شفتيه. عشت أنا وأوين لي معا في نفس البناء التابع لشقق البلدية السابقة قرب مركز المدينة. هو في الطابق الأرضي، وأنا في الطابق الرابع. وكان بالجوار عدد من العائلات الصينية، وكان والدانا يلعبان الورق في عطلات نهاية الأسبوع، بالعادة في شقة أوين. كان هناك خمس صبيان، كلنا بأعمار متقاربة، وكنا نقفز إلى الحديقة الموجودة في الجانب المقابل من الطريق، ونظهر مجددا في وقت الغداء بركب متهالكة ورؤوس مجللة بالعشب. ونحن ننظر إلى بعضنا البعض بسبب الروائح التي تسبح في الجو من دخان السجائر، وأكوام قشر بذور عباد الشمس المتراكمة على الطاولة. وكان الوالد يصيح بينما العائلات تتفرق: المرة القادمة في بيتنا.

فيبتسم لاو لي والد أوين ويوافق بتهذيب. وبعد سنوات فهمت أن الجميع يفضل الشقة الأوسع والأكثر ترتيبا، حيث ورق الجدران جديد، وليس مقشورا مثلنا، وحيث يمكن للأبواب أن تفتح للخارج على الشرفة، التي زينتها السيدة لي بورود طازجة، عوضا عن شرفتنا الضيقة المغلقة بأسلاك بيوت الدجاج. وكنت أسرع إلى بيتهم دائما دون أن ألاحظ الفوارق.

كان أوين لي صديقي الحقيقي الأول، أكثر من يانغ، أو بيت، أو هاهاو، ببساطة بسبب تجاورنا. تخيل الوقت الذي كنا نمضيه معا، ولدي ذكريات واضحة عن أفلام  الرسوم المتحركة التي شاهدناها بعد نهاية المدرسة، والرقائق والبسكويت التي أكلناها، ونحن نلقي الفتافيت على كنبته التي تئن، ولكن ذكرياتي عن حواراتنا أقل وضوحا.  طبعا أتساءل الآن إذا كان أحد يتذكر صداقاته في أيام الطفولة بمثل هذا الغموض، أم أن هناك سببا آخر وراء ذاكرتي الضعيفة.

بعد ذلك اليوم من حادثة جوني في الباحة، عدت مع أوين لي إلى بيته كالعادة. وكنت متأكدا أن جوني سيخبر أحدا بتلك اللطمة، وسيسبب لي المشاكل. وأردت أن أسأل أوين عن الموضوع. وكيف تمالك جوني نفسه؟ وكيف أصغى له ببساطة؟ ولكن لم أفتح الموضوع. ولا أعلم إذا كان لسؤالي أي معنى.

انضم إلينا لاو لي على الكنبة، وكان يلقي الفستق في الهواء ويتلقاه بفمه. كان له مثل أوين لي كتفان ضيقان، ولكن لأوين طريقة مختلفة فيما يتعلق بمظهره - يكون متماسكا ومتحفزا، بخلاف البساطة التي تميز أباه.

سأل: تشاهدان التلفزيون مجددا؟ أليس لديكما واجبات منزلية؟.

كان لاو لي يتكلم المندرين بلهجة أهل الجنوب السريعة، ودائما أحتاج لعدة ثوان لأفهم ماذا يقول. ربت على ذراعي وكنت مقطبا.

قال: الكد والاجتهاد هو الذي يصنع nan zi han (*بالصينية: رجلا). كانت العبارة جديدة على مسامعي، ولكن نفضت رأسي بثقة كأنني فهمت.

قلت: نحن لسنا nan zi han. بل أولاد.

واستغرب من ذلك. وقهقه حتى رأيت على لسانه ذرات من الفستق الذي لم يمضغه جيدا.

قال طبعا. عموما يجب أن تكون معنا نساء لنصل إلى طور الرجولة الحقيقية، أليس كذلك؟.

فتحت فمي، وأغلقته حينما لاحظت أن أوين لي يراقبنا. كانت تعابير وجهه تدل على الغيرة. لم يتكلم لاو لي على الإطلاق مع أوين، وكان يعطيه أو يرمي له الأوامر. وساءني ذلك.

في ذلك اليوم، بدا كأن أوين لي يتحاشاني، وعموما كنا نتباعد. فقد كان دائما مشغولا بنادي الموسيقا أو الرياضة، أو بحصص إضافية للتقوية، وهذا يشمل عطلة الأسبوع. وحينما أتيت إلى أمام باب بيتهم، عبست السيدة لي بوجهي، بتحفظ وشك رأيته وراء نظارتها المستديرة والسميكة، كما لو أنها تعتقد أنه لا يجب أن يكون عندي متسع من الوقت للراحة. 

توقفت أيضا ألعاب الورق مع بقية العوائل عند اقترابنا من نهاية موسم الدراسة الإبتدائية. ولم يقنط أبوانا من الكلام عمن يجب أن ينجح منا بالامتحان لينتقل إلى صف أعلى في مدرسة البلدة، حيث يكون ارتداء السترة وربطة العنق إلزاميا. وأعتقد أن تلك الفترة لم تكن ممتعة لهم. في النهاية أثبت أوين لي أنه ذكي ويستحق مدرسة سانت فيليبس. ولم ننس نحن البقية ذلك.

كنا نقلد كلام آبائنا بلهجة أنفية حينما اجتمعنا جميعا للاحتفال بالعام الصيني الجديد أو خلال حفل مهرجان منتصف الخريف:  كونوا مثل أوين. أوين zhen guai (*متميز. بالصينية). وكان هذا يخجل أوين، ولكنه تأقلم مع ذلك، وتركنا نجرحه قدر ما نشاء.

كنت أعلم أن بقية الأولاد يعاملونه بشكل أسوأ أحيانا، ولا سيما بيت، الذي كان يدفعه بقوة لا لزوم لها، ويضحك وهو يشخر بينما وجه أوين محمر ولسانه صامت. قررت أن لا أجاريهم بهذا السلوك. وكنت أشعر أنني مدين له بشيء ما يعود ليوم مشكلتي مع جوني. وحتى مع أنني قلت لنفسي إن لدى جوني الكثير من الأسباب كي لا يتباهى. ولا بد أنني تصورت أمورا غريبة. وفكرت مطولا بالطريقة التي تكلم بها أوين لي مع جوني، بثقة لم ألحظها منه سابقا، وطريقة تبدل وجه جوني. لم أنس ذلك تماما. وتوقفنا عن مضايقة أوين لي بسبب الدراسة الخاصة، ولكن تابع آباؤنا ما كانوا عليه. كانوا يؤكدون أقوالهم: يا له من ولد طيب. العلامة التامة في كل حصصه. انظروا. أصبح لديه عمل في يوم السبت. لا حاجة ليقلق أحد عليه.

وزادت وتيرة هذه الأقوال، وبصوت مرتفع، ولا سيما بعد ترقية السيدة لي إلى وظيفة رئيسة قسم في عملها، وبعد أن غادرت العائلة شقتها إلى بيت في الضواحي له حديقة بمشاهد طبيعية واسعة.

في ذلك الصيف، أقام ذوو أوين لي حفلة. وانتهى الأمر بالأولاد إلى استديو الحديقة مع زجاجة من بايجيو اختلسناها من خزانة مشروباتهم. كنا حينها في سن المراهقة، ومتلهفين لإثبات قدراتنا أمام بعضنا البعض. وكنا نحاول التخلص من الأصوات الزاعقة والمهينة، ونستعد لاستعمال أطرافنا الأخرى، الأطول والأقدر من اللسان. لعبنا بالورق، كأننا نقلد آباءنا، ونستعيد أجواء أمسياتهم المعتادة. وفي لحظة من اللحظات اقترحت إحدى البنات لعبة تدوير الزجاجة. وحاول معظم الأولاد أن يبدوا موافقين، ولكننا سرعان ما تحمسنا وتخلينا عن الرزانة. أما أوين لي فقد رفض أن يلعب. وراقبناه وهو ينفرد بنفسه في الحديقة، بكتفين متهدلين، تحت قميصه الفضفاض.

لم نلق له بالا، وتابعنا اللعب. كانت لعبة قصيرة، حصلت بنهايتها على أول قبلة من ماري هان لمرحة ذات الغمازة التي تضحك كثيرا، ولذلك بالكاد تلامسنا. أما الثانية فقد حاصرتني الصيحات، وكانت نقرة من أخيها يونغ. انحنيت، وأنا أغمز بعيني لماري. ومسح يونغ فمه بمبالغة لا ضرورة لها.

قال: فظيع. وهو يبقبق بفمه.

قال بيت: كأنك تقبل أختك.

ورشف مجددا من قارورة بايجيو، وهو يهز رأسه للطعم.

قال هاوهاو: كلنا كنا معا في ذلك.

كان مضجعا على ظهره فوق الأرض الخشبية، ولأن كلماته ذات غنة، علت أصوات ضحكنا. في وقت لاحق من تلك الليلة، حينما كانت الحفلة في لحظاتها الأخيرة، ذهبت إلى للبيت. وذهبت ماري إلى الحمام لعدة دقائق، وأملت أن ألحق بها في طريق العودة. رفع البايجيو معنوياتي، وكان هواء الليلة دافئا، وجعلني الضوء المتسلل والبطيء أشعر أن كل شيء ممكن.

كان بعض آبائنا يثرثرون في غرفة الطعام الكبيرة، والأبواب المطوية التي أضافتها السيدة لي من قبل مفتوحة على الحديقة. تنهد والدي وأنا أمر به، في وسط حديثه. كان يقول: ابننا إدي على سبيل المثال لا يمتلك أي طموح.

لم أتمهل للدفاع عن نفسي. في الأعلى توقفت على السجادة الباهتة الممدودة تحت قدمي. وشعرت بدافع قوي لأستلقي عليها. رغبت بتحريك أطرافي على الأرض وأن أترك بصمة من نفسي بالطريقة التي قمت بها مرة واحدة فقط قبل الآن، في يوم صباحي راكد منذ سنوات، حينما غطى المنتزه المقابل للشقق بساط ناعم من الثلج الطازج. وتلاشت الرغبة حينما سمعت أصواتا عالية، تأتي من إحدى غرف النوم... أنت لم تكوني هنا. حسنا؟ أنت لم تكوني هنا.

كان أوين لي. كنت سأتجاهله، ولكن كلماته المألوفة جعلتني أشعر بقشعريرة تسري في ذراعي. ثم جاء صوت آخر، هو صوت ماريتقول: هذا كل ما يتوجب عليك؟.

وحالما توجهت نحو الباب الموارب، خرج لاو لي من الغرفة. كأنه لم يلاحظني. بقي وجهه خاليا من التعابير. لم أشاهد إنسانا يمشي في نومه، ولكن توقعت أن هذا يشبه حالة لاو لي حينها، كان يمشي ببطء نحو السلالم. وحينما مر بي، شاهدت خدوشا عميقة على قفا يده، وهي حديثة وتنزف. وفي غرفة النوم، جلست ماري على كرسي، وأوين لي واقف بجانبها.

قفز كلاهما حالما شاهداني.

قلت: ماذا يجري؟.

تجاهلاني.

قالت ماري: أسرع. فقط افعلها.

وكانت تمسك بقميصها بكلتا يديها، لسبب ما - لشيء لم أتمكن من تفسيره - ولكنه حصل وكانت تستره بقميصها. حك أوين لي عينيه بيده، وكانت ماري عصبية وتحرك إحدى ركبتيها لأعلى وأسفل، وبدا كأنهما على وشك أن يعانقا بعضهما بعضا.

قلت بغباء  ماذا تفعلان؟. فقد كنت أعلم بالأمر من طريقة جلوس ماري، ومن الخدش الذي لاحظته على لاو لي. كنت أعلم بوجود شيء شيئ في الغرفة، شيئ هام ومرعب، ولكنه يتوارى عن النظر، وسوف يجعل كل شيء أسوأ مما كان. وكل ما كنت أتمناه أن ينفي أحد ما توقعاتي. ويؤكد أننا على ما يرام.

هزت ماري رأسها.

وقالت: هيا يا أوين.

رفع أوين يديه نحو وجه ماري، ثم، بهدوء، نقر على صدغها بالسبابة. كانت يداه ترتعدان، ولكن صوته متماسك.

قال لماري: أنت كنت في الطابق العلوي. وذهبت إلى الحمام. ولم تشاهدي أحدا. ولم يعتد أحد عليك.

لم أرغب بسماع المزيد. فاستدرت وأسرعت بالهبوط إلى أسفل، مرورا بغرفة الطعام، متجنبا البالغين الذين هتفوا باسمي، كنت خائفا من النظر إلى أعلى كي لا أرى لاو لي في الغرفة. في الحديقة شعرت بنوبة غثيان قوية، فانكفأت على حوض الزهور لأتقيأ.

هل أنت على ما يرام يا إيد؟. لم أشاهد يونغ يقترب، ولكنه كان هناك أمامي، يتأملني بفضول. تنفست، ولم أجد القدرة على الكلام.

آه يا إيد. أنت إنسان رقيق.

فجأة ظهرت ماري أيضا، وبرفقتها أوين لي، وكانت تبدو سعيدة، وطبيعية تماما.

نظر ثلاثتهم نحوي. نظرت إلى أوين، أوين فقط، أتحداه أن يقول أو يفعل شيئا، ولكنه لم يحرك ساكنا. في هذه المرة لم يكن بحاجة ليطلب مني الاحتفاظ بالسر. بعد ذلك لم أشاهد أوين لي أو أيا من الآخرين لفترة طويلة. ثم استبدلنا المسكن، وانتقلنا إلى برمنغهام، بسبب عمل والدي. وانتظرت هناك لاستكمال الجامعة، وكنت أحضر الحفلات أكثر من المحاضرات. وعشت بعيدا عن والديّ ولم يكونا يزوراني إلا بعد إخطار مسبق، ولم يقلقا علي أيضا.

وفي إحدى زياراتي إلى البيت، سمعت أن أوين لي أصبح في كامبريدج. وأخبرني والدي أن لاو لي، المتعثر كعهده دائما، أرسل بالإبميل بعض صوره في نادي التجديف  الجامعي. طلبت الوالدة أن يعرضها علي. ولمحت شكل أوين الهزيل والمتداعي، ولكن لم أتمكن من معرفة إذا كان يبتسم أم لا. لانها اختطفت اللابتوب مني لتبحث عن شيء آخر. يا له من ولد متفوق، وهو يجدف في كامبريدج. Zhen guai. كان لأوين صديقة جميلة ومهذبة، من قسم الدراسات الصينية. وحزن أبواي لأنني لن أوفق أبدا بالعثور على بنت مثلها، أليس كذلك؟.

أصابني الغثيان. دوار محسوس. لأن والدي لا يزال يزور لاو لي، ولكن كلما أوشكت أن أكشف السر لأي شخص أشعر بالأسوأ. وبدأت أحلم، ولا أكثر من ذلك. وهي أحلام حافلة بمشاعر غريبة، مثلا أني أطفو في السماء دون أي طريقة لوقف ذلك. أو أنزلق في الطريق مثل غول، على ارتفاع بوصات من الأرض، دون إمكانية للهبوط والوقوف. وفي بعض الليالي أستيقظ وأنا أتكلم، دون أن أعرف ماذا قلت. وهذا ما أرعبني. وعقدت مواعيد غرامية مع بعض البنات. ولم تتطور لشيء جدي.

لم أتمكن من توضيح نفسي. من أين أبدأ؟

حاولت أن أكتب شيئا، ولكن الكلمات تعثرت ولم تتدفق الجمل. وكل ما كتبته هو: قديما كان لي صديق. والتقيت به في حفلة. ومرة ضربت ولدا.

لم تمر فترة طويلة بعد التخرج، حتى تقدم بيت لخطبة صديقته في المدرسة الثانوية. وعزما على الزواج في مكان قريب من بيت العائلة. وصلتني دعوة الزفاف، وأدهشني أنني ضمن المدعوين. فقد قطعت علاقتي مع كل المعارف منذ أيام المدرسة. وأخبرني أبواي أن عائلة هاوهاو ستكون موجودة أيضا، بالإضافة إلى بعض الآخرين من الذين اعتادا أن يلعبا ااورق معهم، ولكن خمنت أن عائلة يونغ قد سافرت إلى الخارج، ولم يذكر أحد أوين لي. وإذا بدا أنني تحررت من الضغط النفسي، فأبواي لم يلاحظا ذلك. تنهدا وفكرا كيف يجب أن يكون مظهري أمام شلة الأصدقاء. فقد كنت لا أزال أعيش في بيت الطلبة الرطب مع الزملاء، ولازلت أعمل في متجر ستاربكس المجاور. وأصرا أن لا أغيب وأن أكون حاضرا.

في الطريق إلى الزفاف، تابعت الوالدة تعليقاتها. انظروا الى بيت، سيتزوج. وأنت يا إيدي متى ستجد من تتزوجها؟.

قال والدي: لا زال الاثنان صغارا. وأراهن أنهما سينفصلان بالطلاق.

قابلت هاوهاو قبل الحفل، ودخلنا بكلام بسيط ولا معنى له عن أيام المدرسة. وانتابني الشعور أن كل شيء مرت عليه عهود، ولكن حينما رأيت بيت يؤدي القسم، لم أفكر به إلا كمراهق، كله طاقة مفعمة بالقلق والتهور. اعتدنا أن نلعب لعبة خمس أصابع بالفرجار. وفي أحد الأيام أصاب بالصدفة بطرف الفرجار المنطقة الطرية بين الإبهام والأصبع التالي، ولاحقا حرّمت المدرسة الفرجار لبعض الوقت، واستعانت بفرجار غير حاد وآمن.

وبعد إفطار يوم العرس وحينما كنا نجتمع لنشاهد أول رقصة للزوجين، سمعت والدتي وهاوهاو يتهامسان.

بلغني أنه انتقل إلى ألمانيا.

أنا على يقين أنه في الولايات المتحدة. كان لاو لي يتكلم عن الولايات المتحدة.

حسنا. لايدهشني أي شيء في الموضوع أيا كان. بعد كل تلك النساء.

ولكن هل هي تعلم؟ نحن نعلم لأن أزواجنا أخبرونا بمشكلته.

متأكدة أنها تعلم. وكيف يمكن أن يغيب عنها؟.

أشعر بالأسف على الطفل عموما.

توقعت أنهما تتكلمان عن أوين لي، وانتابتني رعدة لا تشبه الشعور باليقظة المباغتة من أحد أحلامك. وفجأة ارتفعت حرارة الغرفة. تسللت من أجل بعض الهواء النقي، ثم وجدت نفسي أغذ خطاي وأبتعد.

لم أقرر إلى أين أتجه. تمنيت، في الشارع الرئيسي المتهالك، أن أعود الى المدينة، حيث جرس الإنذار في الليالي المتأخرة، والسكارى، والحشود الصاخبة، تمنحك الاسترخاء أكثر من هذا الصمت. عبرت من موقف سيارات سوبر ماركت قليل الإضاءة، وافتقدت لأنوار سيلفريدجز بيلدنغ، الذي ينير لي دربي حينما أعبر من وسط برمنغهام بعد ليلة سفر، وفكرت بإرسال رسالة إلى بنت رافقتها مؤخرا وأنا أتجول في الشوارع السكنية الفارغة، باتجاه منتزه معروف. وفي الطرف البعيد، لاحظت أمام السماء خيال بناء من خمس طبقات.

حينما اقتربت لم يحل الظلام تماما. ولكن أمكنني أن أقول إن المكان مرتب. الشرفات والأبواب والنوافذ الجديدة مطلية بألوان ناصعة ولكن لا تبدو مقنعة. ولم أعرف أيها يعود لنا. وكان من الأسهل أن تحدد شقة الطابق الأرضي في الزاوية والتي أمضيت فيها معظم وقتي، كانت منصتها مغطاة بألعاب بلاستيكية، وهذه فوضى لا تسمح بها السيدة لي. توجهت إلى شجرة صنوبر قديمة على جانب الطريق، فرأيت شخصا هناك. والغريب في الموضوع أن ذلك لم يدهشني.

كنا نتسلق الشجرة دائما في طفولتنا، ونصيح ونحن نقفز من غصن منخفض على الأرض. كانت الشجرة تبدو أصغر في الوقت الحالي. والشخص الواقف بجانبها أطول وأعرض مما أتذكر. ولم أفهم لماذا هو هنا، وكأنه ينتظر شخصا ما.

ومثلي لم يظهر على أوين لي أنه يشعر بالدهشة لرؤيتي. وقفنا معا، دون أن ينظر أحدنا بعين الآخر. رذاذ خفيف بدأ بالهطول. وحط على شعري وبذتي حبات ناعمة من المطر.

قلت أخيرا: هل لديك صديق يخبرك بكل شيء. حتى الأشياء التي لا تريد أن تعرفها، أو صديق لا يخبرك بأي شيء؟

قال بصوت مرهق: لا أعلم.

قلت بصوت مباشر دون تعمد: هل تستطيع إصلاح أشياء معطوبة، أو أنك لا تنتبه أساسا أنها معطوبة؟ ولمن أديت هذه الخدمة في حياتك؟.

لا: يا إيدي.

وأنا؟ كيف حصل - لماذا لم تساعدني على نسيان بعض الأمور؟.

كانت يداي مضمومتين في جيبي. كان لدي أسئلة كثيرة، ولكن لم أعلم إذا كنت مستعدا لسماع الإجابات. وأردت أن أسأل: كم مرة غطى على بعض الأشخاص. وكم مرة غطى على والده.

رفع أوين نظره نحوي. كانت عيناه مبلولتين.

قال: لن تعلم إذا فعلت.

شتمت، وتخطيته، ولكن بحركة مفاجئة، قبض على ذراعي.

قال: أنا فقط.

تململت بقوة وحاولت أن أفلت منه. ثم دون إنذار أطبق أوين لي بشفتيه على شفتي. كان جلده خشنا، ويداه حرتين، وخلال نصف ثانية انتهى كل شيء.

قال: آسف.

كان لا يزال قريبا مني وشعرت بلفحة أنفاسه على أنفي. ومعها تدفقت مشاعر جياشة بالديجا فو (*خبرة سابقة)، وعبر رأسي سؤال جديد. هل فعلنا هذا من قبل؟.

كان سؤالا آخر لم أتمكن من الإفصاح عنه. ابتلعت. كان هذا سخيفا. كله. أشياء مستحيلة يمكن لأوين أن يفعلها. شيء لا يحتمل أنني أعرفه وبنفس الوقت لا أزال أجهله تماما. ولم أفهم لماذا يتصرف معي دون تعقل، وإذا كان ما أشتبه به صحيحا، يجب أن أغضب منه.

وفكرت أن أمد يدا، وكان هذا تقريبا ممكنا، تقريبا. ولكن أوين لي تراجع. وتعرفت على سقوط فمه البائس وتهدل كتفيه الضيقين. ولاحظت رجفة يديه حينما رفعهما نحو كتفي. تردد.

وقال: هيا.

وتهيأت كأنني أتوقع لكمة. وتوقعت أنها ستؤلمني مهما كانت. حتى أنني حبست أنفاسي وأغلقت عيني.

ولكن لم يحصل شيء. الشيء التالي الذي انتبهت له أن أوين لي اختفى. وقفت هناك لحظة، حتى أدركت أن المطر أصبح غزيرا، وأن البرد داهمني. من غير المفيد أن أدون كل هذا. وأنا لا أصدق ذلك، ولكن لدي نصف وعي بالحقيقة طيلة الوقت: ولو أن أوين لي دفعني لنسيان أي شيء، سواء في تلك الليلة أو قبلها خلال حياتنا، فقد نسيته وانتهى الأمر. ولا يمكنني تذكره. ولكن بمقدوره أن يأتي ويجدني متى أراد. ولا تزال هناك إمكانية أن أنسى شيئا آخر. وهكذا وأنا أدون الكلمات أخيرا، بعد الزفاف، حرصت أن أحتفظ بها. وبين حين وآخر أحفر لإخراج ما كتبت وقراءته مجددا. أريد أن أتأكد أنني لا أزال أتذكره كله. وإذا قابلته مجددا، يجب أن أضيف له - اي شيء تذكرته.

زرت مؤخرا والدي ثانية، وسمعت منهما أن أوين لي تزوج أيضا. وليس بصديقة أيام الجامعة، ولكن بامرأة قابلها مؤخرا. وتمنيت أن أعرب عن سروري لأجله، وعوضا عن ذلك تساءلت كم تعرف، وإذا احتاج أن يناور أمامها أو معها بألاعيبه. ثم بعد الخبر نفضت كتفي. أولا لأنني مشغولا بأخباري. كنت على وشك الانتقال إلى لندن للعمل بوظيفة ناسخ، وهو أول عرض دائم كسبته، وتهيأت لأسئلتهما.

توقعت الأسئلة المعتادة: إذا كان ذلك سيوفر لي فرصة مهنية جيدة، وإذا وجدت مكانا مناسبا أعيش فيه، ولكن أدهشاني بلحظة اعتزاز نادرة، فقد ربت والدي بيده على ظهري وأرسلت الوالدة على الفور رسالة قصيرة إلى أقاربها. واستعادا ذكريات قدومهما إلى المملكة المتحدة كطلبة مثاليين من جامعة بيدا Beida في أيام الثمانينات.  حتى أنهما اختارا صورة قديمة من الألبوم حصل عليها الوالد من أحد أبناء أعمامه في الصيف السابق. وفيها عماتي وأعمامي الكبار وأعمام لم أقابلهم أبدا، بوجوه نمطية بالأبيض والأسود وتنظر بإصرار نحونا. وحينما استفسر والدي عما يفعله أصدقائي في هذه الأيام، كأنه حفز الوالدة لتستعيد نفسها. تنهدت وقالت: أوين لي أصبح محاميا، كما تعلم، يا له من ولد طيب.

***

* منشورة في الغارديان 23 تشرين الأول 2023

* تيان يي Tian Yi كاتبة قصة بريطانية من لندن.

قصة: لوري ستون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كنت أجلس بجوار شخص غريب في قطار عندما مررنا بالمنزل الذي كنت أعيش فيه عندما كنت طفلة. كان محاطا بأشجار طويلة لا أعرف أسمائها. كانت الأغصان تسقط وأكسرها على ركبتي مثل العظام. ضبطت يد الغريب تحت معطفه. كان بإمكاني تركها عند هذا الحد.

كان يشرب من قارورة، قال:

- كيف كان حالك عندما كنت طفلة؟

قلت:

-  سرقت قصص الآخرين.

قال:

- كل الأطفال يفعلون ذلك. هل فعلوا ذلك حقًا؟

كنت على استعداد لتصديق ما قاله. كان ثمة نوع منالاسترخاء. أحببته. كان شعوراً بالثقة مهما كان معنى ذلك.

قال:

- ذات يوم وأنا في حالة سكر سقطت على درج وكسرت رأسي. عندما استيقظت كان هناك ملاك جالس على سريري. كان لديها شعر أحمر وقالت إنها تحبني. لقد توقفت عن الشرب بعد ذلك، ولكن لفترة فقط.

ابتسمت. هل كانت ابتسامة حزينة؟ كيف نتفهم الغرباء؟ متعة الغرباء هي متعة الطبيعة. إنه يفوق قدرتنا على المعرفة لأننا غرباء.

كان لدي صديقة كان والدها يمتلك طائرة بحرية، وكان يأخذها لتطير. أخبرت الناس أنني سافرت في هذه الطائرة. قلت إن السحب والرغوة بدتا متشابهتين إلى حد كبير من الجو كما كانتا من الأرض. لم أكن أريد أن يكون والدها أبي. لقد كان رجلاً غير سعيد للغاية. كان ذا فم حاد كالخط المستقيم. أردت أن أكون في مكان ما، وأردت ما لدى الآخرين.

قلت:

-  ماذا تفعل عندما لا تركب القطارات؟

كان للرجل عينان رماديتان. قال:

-  أنا أدرس الشيخوخة في الخلايا.

عندما قال كلمات الشيخوخة في الخلايا، وقعت في الحب. شعرت كأنك تعرضت للانقضاض في فم شيء ما.

قلت:

- كيف تشيخ الخلايا؟

قال:

- جميع الكائنات الحية معرضة للتلف، لكن الكائنات الحية الأصغر لديها خلايا جذعية أكثر، والتي تعمل على إصلاح التلف. الشيخوخة هي الفشل في إصلاح الضرر.

لقد ألقى هذا بضوء جديد على كل شيء. هل تعرف الإحساس عندما تكون في عاطفة قوية وليس لديك فكرة عن السبب؟

مررنا بمزرعة. كانت هناك كعكات ثلجية على سقف مائل. أشرقت الشمس على البياض. لقد جرحت عيني، لكن كان من المستحيل ألا أنظر إليها. كان الثلج يذوب في الجداول. كان بإمكاني أن أرى ما في الغرف. في إحداها كان هناك رأس أيل (ظبى)  مثبتًا على حائط، وقرونه متفرعة على كلا الجانبين، وفمه منحني عند الأطراف مثل الابتسامة، وعملة من الضوء تتلألأ من عين زجاجية كبيرة. ربما كانت الأيائل سعيدة معظم الوقت.

كنت قد اشتريت تذكرة حتى نهاية الخط. ظننت أنني سأذهب إلى المطار من هناك وأسافر إلى مكان جديد. كان بإمكاني أن أرى نفسي كسلسلة من أضواء التصفير النابضة. حرك الغريب وجهه بالقرب من وجهي، وشممت رائحة الويسكي في أنفاسه.

قال:

- ما الذى تحبين الاعجاب به؟

قلت:

- الملابس.

ضغط وركه على فخذي. كان بإمكاني تركها عند هذا الحد. كان الجو باردا في القطار.

قال:

-  ماذا تفعلين عندما لا تركبين القطارات؟

قلت:

- أصمم ديكور المسرحيات.

قال:

- أنت فنانة.

قلت:

- أنا أصنع إطارات للفنانين للعمل فيها.

فجأة قفز الرجل وأشار إلى المقعد المقابل لنا. انطلق فأر ودور حول نفسه بذيله الرفيع والحزين. كان له جسم بني سمين. انتقل إلى النافذة، وتتبعنا نظرتهإلى حديقة شتوية مروعة، مليئة بالسيقان الميتة. انتزع الغريب الفأر بطريقة لا تؤذيه. رأيت فراءه يرتجف في يديه الكبيرتين، وحاولت أن أتذكر آخر مرة أكلت فيها شيئًا. تساءلت  كيف يمكن أشعر بلمس تلك الأيدي.

قال:

- سأطلق سراحه عندما يبطئ القطار.

وذهب إلى نهاية العبرة وفتح الباب، ولم يترك شيئًا وراءه.

أحصيت الثواني التي رحل فيها وفكرت في الاتصال بوالدتي التي ماتت. قلت لها في أفكاري، "أمي، هل شعرت يومًا بالتشويق الذي يأتي من العدم؟ فجأة، أنت معلقة بخيط رفيع. أحب الإحساس بعدم معرفة كيف سينتهي الأمر ". تذكرت وجه الرجل. كانت هناك أخاديد عميقة عمودية تحت أنفه. ظل جانب واحد من وجهه في الظل طوال الوقت الذي تحدثنا فيه، الجانب المظلم من القمر.

عندما وصل القطار إلى المحطة الأخيرة ولم يعد الرجل، شعرت بثقل بدا لي من المستحيل التعافي منه. الحب هو الحب. لقد استمتعت بصدق بهذا الحب ولم أرغب في الشعور بالسوء حيال الإعجاب به. يفعل البشر هذا الشيء المتمثل في سرد قصة إذا كانت النهاية تجعلهم حزينين. يعيدون سردها حتى يتمكنوا من تجنب الحزن لو نظروا فقط. كانت كل العلامات هناك، وتحدق في وجوههم. نحن لا ننظر. هذه هي المتعة.

لم أكن أسير في اتجاه معين بعيدًا عن محطة القطار حتى وصلت إلى صف من الخيام التي أقيمت على طول الجسر الخرساني لنهر جاف. لم تكن الخيام خيامًا حقًا عندما اقتربت. كانت بطانيات وأغطية مثبتة على أطراف الأشجار وغيرها من الأوتاد المزروعة بشكل مؤقت. لقد أمطرت الليلة السابقة، وتناثرت الأرض ببقايا الملابس الحقيرة وصناديق التعبئة.

تساءلت عن الأشخاص الذين انجرفوا إلى هناك. كان المناخ معتدلاً وتذكرت وقتًا لم أقل فيه أنني أعيش في منزل. عشت ذات الصيف في حقل بطاطس مع صديقتي التي كان والدها يمتلك طائرة بحرية. لقد نمنا في سقيفة، وتسممنا بالمبيدات. تباطأت حركاتنا، وتلاشت حواف الألوان حتى عدنا إلى الكلية في الخريف. بينما كنا نتسمم، أخبرتها أنني سرقت قصتها، وأخبرتني ما سيقوله الرجل في القطار لاحقًا - "الأشياء التي نتذكرها لم تحدث لنا." لقد تجاهلنا خطر المبيدات الحشرية.كنا صغارًا ولم نكن نعرف مدى سهولة انتهاء الأمور. لقد جعلنا نشعر بالراحة بطريقة لا يمكنك التعافي منها بعد مرور فترة زمنية معينة بين أصابعك. حتى ذلك الحين، أنت فقط مثل خلية الشيخوخة.

كنت أفكر في أسباب عدم عودة الغريب، وتحرك السؤال المفتوح لأعلى ولأسفل وأنا أتنفس. كان سكيرا. مما جعلني أفكر في كل الأشياء التي كانت خاطئة معي. نوع معين من الرخاوة يسقط عليك جراء الفشل.

عندما وقفت هناك، أتساءل إلى أين أذهب بعد ذلك، قفزت قطة من المخيم إلى الجسر حيث تم إيقافي. كانت القطة سوداء وناعمة وعضلية بشعيرات بيضاء وعيون ذهبية. لقد فهمت القطة الانفصال الجذري عن العالم المادي الذي اختبره البشر بسبب اللغة والطريقة التي يمكنهم بها اختراع الأشياء في رؤوسهم. حَكَّت القطة رأسها بساقي بقوة وإصرار. وعندما جثوت على ركبتي للمسها، فقدت الاهتمام بالعثور على الرجل. ليس حقًا، أو لماذا يجب أن أخبرك بذلك؟

(النهاية)

***

..........................

المؤلفة: لورى ستون / Laurie Stone. كاتبة أمريكية وناقدة أدبية ومسرحية. من مواليد عام 1946 م، خريجة كلية بارتارد عام 1968م وحاصة على الماجستر من جامعة كولومبيا عام 1969م، مارست الصحافة والنقد المسرى والكتابة النقدية بصورة عامة إلى جانب كتابة الرواية والقصة القصيرة، عملت كاتبة مقيمة في معهد برات، جامعة أولد دومينيون، ثوربر هاوس، مركز كيميل هاردينغ نيلسون للفنون، وكلية موهلينبيرج. قامت بالتدريس في ورشة عمل كتاب باريس، والندوات الأدبية الصيفية في سانت بطرسبرغ، روسيا، وجامعة تشابمان، وسارة لورانس، وأنطاكية، وفيرلي ديكنسون، وولاية أوهايو، وجامعة ولاية أريزونا، وفوردهام، ومؤتمر كتاب ستونكوست. حصلت على إقامات قصيرة في جامعة ييل، وكال آرتس، وكلية ترينيتي، وجامعة شمال تكساس، ومركز آرت سنتر في باسادينا، وكلية ميلز، وجامعة إنديانا، وجامعة كونيتيكت، وكلية الفنون في معهد شيكاغو للفنون. عملت في مجلس إدارة دائرة نقاد الكتاب الوطنية وأدرجت في "سلسلة الكتاب الأحياء" في كلية موهلينبيرج. ألفت ستة كتب لكنها اشتهرت بكتابها "حياتي كحيوان، قصص" (2016م)،  نشرت قصصها فى معظم المجلات والدوريات الأدبية المشهورة.والقصة المترجمة من صفحتها الشخصية على الفيس بوك.

The Unknown Visitor[1]

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir

(Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar)

***

In the last week of his bitter struggle with cancer, he sat in his private suite in the big hospital, surrounded by all his visitors: family members, relatives, friends, students, admirers, and all those whose presence he had requested for one reason or another and even those whose presence was not requested. A brave smile filled his face as he continued to tell one joke after  another, so that their laughter erupted and an atmosphere of joy spread, as if the crowd had met on a happy occasion, such as a wedding, circumcision, or the birth of a child, rather than to bid farewell to a dear one who would leave to the other world in a matter of days or hours. Here humor blended with seriousness on the threshold of death.

I pretended to smile and follow what he said, but in fact, I was trying hard to understand something, to decipher a mystery that has puzzled me for weeks, during my frequent and prolonged visits to him, or in other words, during my semi-permanent stay in his hospital ward, during the past four months that he has been there. He had traveled almost every month to Paris for treatment for five successive years, but the treatment did not work, and one day he fainted, so they carried him to this national hospital.

What puzzled and worried me, and made me feel helpless and jealous at the same time, was that his right eye  glanced toward the entrance of that ward from time to time, as if he was waiting for someone or something to come, but his left eye feared the arrival of that expected visitor and did not want his/her presence. One of his eyeballs was summing that unknown and the other was warning it not to come.

Thirty years of good company, comradeship, intimate friendship, and even pure brotherhood, in addition to the similarity in our family background, education, experiences, and common profession were enough to make me and my friend, Sidi Mohamed, able to understand the desires and feelings of each other, just by looking into one another’s eyes. The eye is a window into the soul. Sometimes, in the presence of others, we communicate with each other through our eyes. We express desires and requests, feelings of acceptance or rejection, satisfaction or indignation, joy or sadness, without uttering a word, and without the others realizing what we are doing. It is enough for me to look into his eyes to understand what he wants, and it is enough for him to glimpse at my eyes to comprehend my feelings. I penetrate into  his deepest thoughts, and he penetrates into my depths. His secrets are mine, and my secrets are his. Neither of us hides anything from the other.  Our hopes are the same, our concerns are common, and our feelings are identical, as if we have become one being or one soul dissolving in two bodies, just as the poet says:

I am He whom I love,

and He whom I love is I:

We are two spirits

dwelling in one body.

If thou seest me,

thou seest Him,

And if thou seest Him,

thou seest us both[2].

Because of all of this, I was worried when I could not grasp that incomprehensible situation: His right eye longs for the arrival of the unknown comer, and his left eye does not want him to come.

Perhaps it was my raging sadness that crippled my intuition. Perhaps it was my recent fatigue that impeded my cognitive capacities. That is why I gathered all of my mental and spiritual powers today. I focused my gaze upon him without him realizing it, because he was busy with his visitors. I have clearly and unquestionably learned that his right eye was hastening the unknown visitor to come, while his left eye was discouraging him.

In all my philosophical and psychological studies, I have never come across a similar case in which the mind of a person  was so sharply divided, and the will was so clearly broken. At that moment, only two cases came to my mind: A drawing and a line of poetry. The drawing engraved on one of the walls of the ruins of Babylon represents a two-headed snake, with each head thrusting forcefully in the opposite direction. The verse by an ancient Arab poet describes a terrified wolf that sleeps with one of its eyeballs, and guards against death with the other. It is, at the same time, awake and asleep.

I did not accept defeat, for I was not less determined than him. For five years, he has been in a fierce battle with cancer, which attacked his bone marrow fiercely, and necrotized his bones until they became like pieces of glass full of cracks, much like a spider web that would collapse to the lightest gust of wind and fall like scattered fragments, as his doctor told me while describing his condition. Nevertheless, he comes out of his room twice a day to walk in the hospital corridors in a desperate attempt to restore life to his crumbling bones. He then returns to the reception room in his ward in the hospital to take a middle seat in the  lobby, welcome his visitors, and tell them anecdotes, jokes, and funny stories.

People not only loved him for his light spirit and lofty morals, but they also loved him because he never coveted his neighbor’s possessions. He had overcome his own greed and purified himself from impurities, so that he became pure and transparent like a polished mirror. From his eyes as he spoke with a smile, I realized that the pain was intensifying. He gives me a meaningful look and smiles. He wants to teach me how one dies with dignity. So, I send him a look that says: 'Just as he lived with dignity.' Then, without catching anyone's attention, I slip into the adjacent nurse's room and ask her to bring him a painkiller tablet dissolved in a glass of water, so that his companions will not notice that he's taking medication. The head physician in charge of his treatment informed me that it's his last week.

I looked around, scanning the faces one by one. They are all there. I know them all. Not one of his fans is absent. And not one of his loved ones is missing. So, who then is the one who he anticipates? The problem for me is no longer about my inability to comprehend the contradiction in his eyes; the challenge I face now is to uncover the secret of the anticipated visitor that my friend does not want anyone to know about. In other words, what hurt and troubled me is that my intimate friend kept a secret from me. I have not withheld any of my secrets from him.

The flame of challenge ignited within my chest. I must know that secret. The love of exploration deeply rooted in a person's soul is what elevated them to the summits of knowledge, and it is what tormented them multiple times. I will not let him bury his secret with him. I will break that shell to retrieve the pearl. I will find another way to uncover that secret without begging him for it. Clearly, he does not want to reveal it even to those closest to him, but keeps it hidden even from himself – by that, I mean from me. I will employ my second technique. The first technique, which is the language of the eyes, helps in grasping desires, requests, and emotions, but it does not enable me to understand exact expressions or specific names. In the latter case, I usually resort to my second technique called mind reading.

The essence of this technique lies in my ability and his ability to read thoughts – his thoughts or mine – without the need to express them in spoken words. This method first caught my attention when I was a boy, and my father took me to the city of Alexandria in Egypt during the summer vacation. One night, we went to a dinner-theatre where two "magicians" appeared on the stage. One of them descended towards the audience while the other remained standing on the stage, blindfolded, with his back to the audience. The first magician approached me. Perhaps he chose me because I was the youngest person in the audience, or maybe he recognized from my features that I was not Egyptian, but rather that I was a tourist who was visiting Egypt for the first time. He politely asked me to give him my passport or identification card. So, I handed it to him.

He started reading the information written in my passport silently, without moving his lips. Then, his second companion standing on the stage raised his voice, announcing the information being read by his colleague.

Name: Ali bin Mohammed Al-Qasimi

Nationality: Iraqi

Occupation: Student ... etc.

Shortly after, the first magician turned to another tourist and did the same thing.

I turned my face toward my father, my eyes shining in amazement and sparkling with admiration as I asked him:

- Isn't this a trick?

- No trick at all. They are reading thoughts, just like others can read lips, for example.

The lip reader uses their sight, while the mind reader uses their insight. It does require some mental harmony, training, and focus.

At that moment, the boundaries between magic and reality faded away, and imagination embraced reality, in my view.

- But, Father, can I, for example, learn to read thoughts?

My astonishment grew, and my joy expanded when I heard my father say:

Why not? I can help you with that.

My father had studied religious sciences at the 'scientific' seminary in Baghdad and was involved in spiritual exercises and Sufism.

After returning from Egypt, my father began to train me in mind reading. This art is slightly different from telepathy, which is the transmission of thoughts and emotions from one mind to another at a distance without using known sensory means. Mind reading is performed with both parties present in the same place. My father explained to me that thinking differs from the idea or ideas, as thinking is the mental process that crystallizes into an idea formulated as an internal linguistic sentence that settles in the mind. Linguists call it the intermediate language. When that sentence moves from thought to expression, and the individual articulates it with the tongue, lips, and the other speech organs, it becomes spoken language, picked up by the ears of the listener, transmitted to the brain to be interpreted, comprehended, and assimilated.

My father's exercises reminded me of the exercises my piano teacher used to introduce me to musical notes. She would play one of the notes on the piano, and I had to name it. I hear the note and say:

- Re.

- Try again.

The teacher says that and replays the same note, then I say:

- Fa.

- Try again, listen carefully.

She plays the note again.

- Mi.

- Yes, well done.

At that moment, I feel relieved.

My father followed a similar method. He would form a small idea in his mind and then ask me to read it. I would summon my inner insight and focus on his mind, like he taught me. Gradually, the idea would take the form of a linguistic sentence, and I would read it with difficulty at first. But with repetition and practice, I became able to read his thoughts with ease.

Now, here I am sitting in front of my friend in his hospital room. Two days have passed, and I'm continuously attempting to understand the puzzle: his right eye shows anticipation of the unknown to come, while his left eye warns him and is afraid of his arrival. I must use my second technique, 'mind reading,' to solve the riddle. However, I hesitate for two reasons: the first is the mental strain that accompanies this technique, due to the energy expended in concentration, and the second is that my friend also reads thoughts. Strangely enough, he also learned it from his father, who studied religious sciences at the University of  Al-Qarawiyyin in Fez, which is the world’s oldest university. Didn't I mention that we are alike in our hobbies, morals, habits, education, and even our family backgrounds?

He has only three days left to live, as the doctor informed me. All the loved ones, relatives, loyal companions, and old students surround him, even some of the doctors and nurses take breaks in his room. My friend, whom I used to call 'the heart hunter,' charms them with his words and captures their hearts. I looked at him, and our eyes met. He understood from my gaze that I would attempt to read his thoughts. He smiled at me in a particular way, and his eyes sparkled with a certain gleam. I got it. He is challenging me, as if saying, 'My secret is in a house whose keys have been lost and the door is sealed.'

He's kidding me. No doubt about that. He's playing games with me. He is always playful, even in our ordinary conversations. In his speech, he uses alliteration and assonance, he uses a lot of homonyms, he uses vague phrases, he invests his linguistic research for inimitability and challenge. But I won’t let him this time. Enough is enough. I will show my abilities too. I will break the seal, remove the door, and demolish the walls. You know who I am. No, my dear friend. You have crossed the threshold of humor. Now it’s time for seriousness and truth. Death is the only constant fact in this existence that does not accept joking. And yet, you continue to wear the clown’s costume and persist in laughter and amusement. No, my friend.

I closed my eyes and focused my inner sight on his thoughts in order to read them. I was not able to figure out anything. I tried again with even greater focus. And wow. There was nothing to read. His mind is devoid of any idea I can pick up. What can I say? Even the fetus in its mother's womb is not devoid of the impressions of the sounds and events from the outside world. Its tiny mind is not a blank page like your vast intellect now. Enough of play, for I am not in a state that allows me to play.

He smiles at me and continues talking with the others.

He defies me and I accept the challenge. I need to focus harder and make a greater effort to attempt something unprecedented: I will try to read his emotions before they crystallize into intermediary linguistic forms. There is no doubt that he was deliberately preventing his emotions from manifesting in his mind. He kept them hidden there in the depths.

I spent the whole afternoon experimenting. Sweat was pouring from me, and my temperature rose. One of the doctors  in attendance noticed me. Even the hospital doctors started spending their break times in his presence. He charms them with his speech. He is the greatest magician. I left the hall. The doctor followed me.

- Nothing, I said. I am fine.

But I am not one to be discouraged at the first failure. I will try tomorrow morning since all visitors have left, and it's time for dinner. I will leave too. I don't want to see the nurse feed him with a spoon, as his hands have been paralyzed for two days. But I will return tomorrow morning. The doctor estimated that he only has one or two days left, and I must find out his secret, which he refuses to reveal to anyone.

I tried to sleep well that night, preparing for my final battle. But I didn't succeed. I woke up early. I took a cold shower to awaken all my powers and senses. I headed to the hospital in the early morning, before the sparrow chirped, before the lark departed, and before the sun settled in the middle of the sky.

I found him alone. Our gazes met. The nurse came in carrying breakfast.

I asked her to leave. Something inside me preferred to be alone with him. I hand fed him, and we remained silent. Not a word. However, we were in a constant conversation with eyes, even though reading eyes today was much harder than usual, because tears were held back in our eyes. This has been our condition for the past four months. As soon as we are left alone, stubborn tears overwhelm us.

Unwillingly, my eyes begged him to reveal this unknown visitor. No response. His eyes were empty. Neither refusal nor acceptance. That's his habit. He never refuses anyone's request. So generous is he with everything. But what is this piece of information that he doesn't share with me? I looked at him. He understood from my eyes that I will do my utmost to uncover that secret.

I fell silent. I focused my tearful eyes on him entirely, not just on his eyes or facial features, but on his whole being. My intense gaze penetrated his pale skin, shattered bones, and weakened chest cage. I penetrated to the core of his heart. I participated with its faint beats in a funerary symphony. I leaked into his blood flowing slowly and fatally, I focused more and more.

My forehead is sweating. Fever ignites in my body. My heartbeats intensify crazily. My vision becomes blurry. I see him leaning in his chair in an unnatural way. He closes his eyes. His head hangs over his chest. His body is moving forward. He collapses from his seat to the ground. I see nothing else. The world darkens in my eyes. I, too, fall unconscious. We end up lying on the ground side by side.

***

..................

[1] This short story is a translation of  القادم   المجهول by Ali Al-Kasimi. It is the fifteenth in the short story collection Time to Leave (أوان الرحيل, under translation).

[2] From The Mystics of Islam, by Reynold A Nicholson (Routledge, Kegan Paul, London, 1914).

Dom joão Manuel

ترجمها عن البرتغالية:

 جميل حسين الساعدي

***

اسمعْ وانظرْ واصمتْ

كيما تعيش بدون قلق

عليك أن تغلقَ بابك

وتمتدح َجارك

لا تفعلْ كلَّ ما تستطيع

ولا تتحدثْ بكلّ ما تعرفـــه

ولا تحكمْ على كلّ ما تراه

وإياكَ أن تصدّق كلّ ما تسمعه

إذا كنت تريد أن تعيش في سلام

فعليك أن تراعي ستة أشياء:

عندما تتحدث ، كنْ حذراً

مع من تتحدث وأين ومتى

لا تثقْ أبدا ، بل كنْ صادقا مع نفسك

لا تحاولْ الإساءة إلى أيّ شخص

ولا تمكثْ طويلا في السوق

لا تضحكْ على من يمرّ بجانبك

فكلّ الذي ترتديه هو لك

لا تسبّ فاعلي السوء

لا تجلسْ على  برغوث

لا تتباهَ بزوجتك

ولا تكنْ محتالا ً ايضا

لا تجادلْ بدون سبب

فيوما ما سيبيّض  شعرك

وفكاك يبقيان سليمين

***

...........................

النص البرتغالي

Regras para quem quiser viver em paz

Ouve, vê e cala,

e viverás vida folgada.

Tua porta cerrarás,

Teu vizinho louvarás,

quanto podes não farás,

quanto sabes nã dirás,

quanto vês não julgarás,

quanto ouves ná crerás,

se queres viver em paz.

Seis coisas sempre vê,

Quando falares te mando:

De que falas, onde e quê,

e a quem, como e quando.

Nunca fies nem perfies,

Nem a outro injuries,

Não estejas muito na praça,

Nem te rias de quem passa,

Seja teu tudo o que vestes;

a ribaldos nã doestes,

não cavalgarás em potro,

nem tua mulher gabes a outro;

nã cures de ser picão,

nem travar contra razão.

Assim lograrás tuas cãs

Com tuas queixadas sãs.

***

Dom joão Manuel

.......................

* يعود تأريخ كتابة هذه القصيدة الى القرن السادس عشر وتنسب الى كاتب وشاعر ودبلوماسي برتغالي Dom João Manuel

 

بقلم: توف ديتليفسن

ترجمها عن الدنماركية: مايكل فافالا جولدمان

ترجمها عن الإنجليزية: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

جلسا متقابلين في القطار، ولم يكن هناك شيء مميز في أي منهما؛ لم يكونا من الأشخاص الذين تركز عينيك عليهم عندما تتعب من التحديق في المناظر الطبيعية العادية. التي يبدو أنها تندفع نحو القطار من مسافة بعيدة ثم تقف ساكنًة لثانية واحدة، مما يخلق صورة هادئة لمنحنيات خضراء ناعمة ومنازل وحدائق صغيرة، تهتز أوراقها وتتحول إلى اللون الرمادي في الدخان الذي يرفرف خلف القطار مثل راية طويلة متراقصة. لن تستطيع أن تخمن ما إذا كانا متزوجين أم لا، ما إذا كان لديهما أطفال، وكم يبلغان من العمر، وماذا يعملان، وما إلى ذلك . فقط لتمضية الوقت يمكنك أن ترى أثر الزواج وأعباء الوظيفة في أعينهام الخالية من التعبيرات. أخفى الرجل وجهه خلف الصحيفة، وبدا أن المرأة قد سقطت فى النوم. كانوا يجلسان هناك كل صباح ومساء، خلال ساعات انتقال العمال إلى المكاتب والمصانع. عادة في نفس المقاعد في عربة القطار الأخيرة. في الآونة الأخيرة كانت هناك أيام قليلة لم تكن معه. ربما كانت مريضة. لذلك كان جالسًا بمفرده ولم يحدث فرق بالنسبة للمراقب. كان قد نشر جريدته على نطاق واسع وقرأها بعناية، ثم طواها بإحكام وتركها على المقعد عندما نزل. رجل مكتب وسيم عادي جدا في الثلاثينات من عمره. لقد كان موسم البرد من العام، لذلك ربما كانت مصابًة بالأنفلونزا.

لمس ركبتها برفق. قال:

- نحن هنا.

لم يكن ذلك ضروريًا، لأنها لم تكن نائمة. نهضت وسحبت حقيبتها من الرف، وقامت بتسوية قبعتها وسارت أمامه عندما نزلت من القطار أمامه. كان يراقبها بشكل جانبي بينما كانا يواصلان السير على الطريق نحو المنزل. بدت متعبة كانت دائما هكذا. لم تكن مريضة، ولم تفعل أكثر مما تفعل النساء الأخريات اللائي عملن وراعين منازلهن في نفس الوقت – بل أقل من ذلك، في الواقع، لأنه ليس لديهما أطفال. الذين كانوا يعتنون بمنزلهم في نفس الوقت الذي كانوا يعملون فيه بالخارج، وليس لديهم أطفال بعد كل شيء. لكنها كانت تنفخ الهواء، كما لو كانت تحمل كل أعباء العالم. على الأقل هكذا بدا الأمر له، وقد أزعجه ذلك. في الآونة الأخيرة كان سريع الغضب. شد شفتيه في خيط رفيع وسلك حلقه. سأل:

- هل مازالت القطة بالمنزل حتى الآن؟

قالت:

- أعتقد ذلك. لم أكن لى أن أطردها في هذا البرد القارس.

عبس وسكت. تسلل الحيوان ببطء إلى حياتهما. لقد عادا إلى المنزل ذات ليلة ليجدوها تموء خارج بابهما. فكانت قد أعطتها بعض الحليب وأرسلته بعيدا. في صباح اليوم التالي كانت هناك مرة أخرى، وألقى بحجر عليها أثناء مغادرتهما. لكنها سمحت لها بالدخول في المساء لأن الطقس كان شديد البرودة، ويبدو أنه لا يوجد مكان آخر تذهب إليه. في الصباح كان المنزل كله تفوح منه رائحة بول القطط. لم يكن الوحش نظيفًا حتى. هرهرت القطة وهى ترفع ساقيها معتذرة. عند ذلك أسرعت نحوها ونظفتها، ثم رشت الأمونيا على الأرض للتخلص من الرائحة.

ثم بدأت الخلافات حول القطة. لقد سمح لها بالخروج وأعادتها مرة أخرى. عندما كانا في الفراش ليلاً، سمعا مواء خافتا خارج الباب،، وقامت لتقدم لها شيئًا لتأكله، بينما نشأ استياء غير مفهوم في زوجها. صرخ في وجهها "لا تدعيها تدخل". ولكن في الصباح كانت لا تزال في غرفة المعيشة وتقفز بإناقة فى حضنها. وداعبتها: "قطتى الجميلة،" قالت، " آه لو كنت فقط نظيفة". لقد أصبحت هي نفسها شاحبة تمامًا بسبب هذه الرائحة عندما جلسا يشربان القهوة. أثناء وجودها في المستشفى، تمكن من التخلص منها. في كل مرة شاهد القطة بالقرب من منزلهما، كان يرميها بحجر، خاب آمله فى أنه لا يمكن أن يراها أبدًا. ولكن عندما عادت إلى المنزل، كان أول شيء تسأل عنه هو القطة. وقفت خارج المنزل تنادي عليها: " أيتها السيدة الصغيرة، تعالي إلى حبيبتي، الآن والدتك في المنزل مرة أخرى." وقد جاءت بالفعل عندما سمعتها، كما لو كانت قريبة طوال الوقت، في انتظارها. كشطت الثلج من عتبة الباب وأخذت الحيوان إلى غرفة المعيشة الدافئة. وضعت خدها على فروها وجلبت الدموع إلى عينيها: همست أيتها القطة الصغيرة الحلوة. يكره العاطفة، ويكره القذارة والفوضى.. كان يمكنها وضع طاقتها واهتمامها في أشياء أخرى. من داخله، كان سعيدا لأنها تعرضت للإجهاض. كان هذا الطفل سيقلب حياتهما رأساً على عقب. تقدمت الأمور بشكل مطرد في السنوات الست التي تزوجا فيها. كان لديهما منزل وأثاث جميل، وأصدقاء جيدون، ويزورهم رئيسهم على العشاء مرة واحدة في الشهر. كان وجود الطفل يعنى أن عليها التوقف عن العمل، وكان مستوى معيشتهما سينخفض، ووضعهما الاجتماعي أيضًا. لقد رأى ذلك على أنه شيء يجب تجنبه، وحاول جعلها ترى المعنى في منطقه. لكنها كانت تحمل توقعات لطيفة، وتعيش في عالم أحلام لم تدخل فيه الأرقام والحسابات الجافة. قالت بجدية:

- طفل صغير حقيقي يعيش فى منزلنا. المنزل؟ إنه مجرد شيء ميت .

كان يعتقد أنها تخون جهودهما المشتركة؛ كانت قد انسحبت منه وحيدة مع هذا الجسم الغريب المجهول. بدا الأمر كما لو أنها أصبحت أصغر سناً وأكثر جمالاً بسبب ذلك، وشعر بنوع من الغيرة، لأنه لم يكن جزءًا من سعادتها في منزل طفولته، كانوا ستة أشقاء، وتذكر أنه كان يبكي باستمرار ويتقاتل على المال، وهو ما لم يكن كافياً. الأطفال يجعلون الناس فقراء.

متى أتت القطة؟ يجب أن يكون الأمر صحيحًا بعد أن أدركا أنها حامل، لكن بخلاف ذلك لا علاقة للأمرين ببعضهما البعض. ذات صباح مرضت وتم نقلها إلى المستشفى.، واستغرق الأمر بضعة أيام فقط، ثم شعرت بالارتياح. لم يكن خطأ أحد. لو أنجبا الطفل، بالطبع فهموا ذلك، لكنها كانت أفضل بهذه الطريقة. أخذها من المستشفى، بالورود،لكنها لم تلحظ الورود، حيث كان يمسكها بإحكام وارتباك معا طوال الطريق إلى المنزل في السيارة. تركته يربت على يدها، لكنها كانت ملقاة في يده مثل جسم غريب ميت.

سألته: - هل طردت القطة؟، واعتقد أنه سؤال غريب، لكن النساء لم يكن لديهن حقًا إحساس باللياقة. لبضعة أيام، اهتم كثيرًا وحمل الكثير والكثير. ساعدها في تحضير الأطباق في المساء ووجد نفسه في حضور القطة. بل إنه في إحدى المرات أزال مخلفاتها بنفسه. ولكن عندما بدا له أنها لم تلاحظ جهوده، توقف وعاد إلى ما كان عليه من قبل. لم يذكرا الطفل. مرة واحدة فقط، بينما كانت تجلس مع القطة في حجرها، قالت، "إذن أعتقد أنك سعيد مرة أخرىدافع عن نفسه، وشعر بالظلم، وبمرور الوقت بدا له أنه في الواقع هو الشخص الذي أراد أن ينجب طفلاً، وأنه كان الوحيد الحزين على الخسارة. نظرًا لأن الأمر لم ينجح، كان بإمكانه أن يشعر بالحزن حيال ذلك. كانت سعيدة طالما كانت لديها قطتها، لكنه سيضع حدًا لذلك قريبًا. لتلك القذارة الدائمة.

صدمتهما الرائحة بمجرد دخولهما من الباب. فتحت كل النوافذ على اتساعها.الآن هذا المخلوق يجب أن يذهب. ركلها من على الكرسي بينما كانت زوجته في المطبخ،انطلقت نحوها كالسهم. كان يسمعها وهي تثرثر وتسكب لها الحليب في صحنها. استلقى على الديوان عندما جاءت مع الدلو والأمونيا، ووشاح حول شعرها. زوجة التنظيف فكر فى غضب.

لكن دفء مفاجئ سرى فى داخله عندما رأى ظهرها المنحني اللدن،الأمر الذي فاجأه، لقد مر وقت طويل، قال:

- جريت؟

دون أن تستدير، قالت:

- ماذا؟

- تعال الى هنا.

وقف ووقف ساكناً وخجلاً من نظرتها الصريحة المتشككة. اللعنة، لقد فكر في دهشة، نحن متزوجان. لكنها مرت به على كعبيها المنخفضين الحسّاسين وفجأة أصبحت غريبة بشكل غير معقول وكأنه لم يمسكها بين ذراعيه أبدًا. لكنه لم يكن خطأي، فكر بغضب شديد، عاجز، هل يمكنني فعل شيء حيال ذلك؟

حدق في الباب المغلق ثم رأى القطة مستلقية تحت المنضدة تتبعه بعيون مفترسة. كانت ترقد هناك كما لو كانت تبحث عن الفئران، بلا حراك وفي تشويق المريض. وقف هادئًا في منتصف الأرض وشعر بنفس اليقظة الكامنة التي تملأ حواسه. خطى خطوة نحو الحيوان الذي قوس ظهره وهرهر بهدوء. ثم نظر حوله وبحث عن شيء يضربها به، ولكن بمجرد أن رفع عينيه عنها، تسابق القط وقفزت من إحدى النوافذ المفتوحة. أغلق نوافذ الغرف الثلاث، واحدة تلو الأخرى، ثم خرج للتحقق مما إذا كانت الأبواب الأمامية والمطبخ مغلقة. متكئًا على منضدة المطبخ كان يراقب زوجته. كانت تضع اللحم في المطحنة وتلتقطه في يديها، وتقوده إلى وعاء حيث يخرج من الثقوب الصغيرة مثل الديدان الطويلة الساطعة.

قالت وهي تتابع عملها:

- أين ذهبت القطة؟

هز كتفيه:

- كيف لي أن أعرف؟

نظرت بسرعة،ثم قالت وقد اهتز صوتها قليلا بالغضب:

- لقد طردتها.

قال وهو يحاول الضحك:

- أوه، لديك قطة في رأسك.

غسلت يديها وجففتهما بعناية تامة، إصبعًا بإصبع، كما لو كانت ترتدي قفازات ثم قالت فى هدوء:

- اذهب واحصل عليها.

اتسعت عيناه. أراد أن يقول شيئًا. كان لديه غصة في حلقه كأنه على وشك البكاء. ما  المشكلة؟ كان يعتقد أنها تكرهه تقريبًا. وبنظرة عاجزة تجاوزها وخرج عبر باب المطبخ.

نادى:

- كيتي. هيا، كيتي.

إذا عادت القطة، كما اعتقد، فسيكون كل شيء على ما يرام. لكنها لم يأتى. قام بتفتيش الفناء، وكان كل غضبه مدفوعًا بشيء كاسح وغير معروف لم يكن لديه أي كلمات. نظر من خلال الأشجار إلى العشب المغطى بالثلوج. كان يبحث عن قطة صغيرة تجلب الكثير من المتاعب ولا الفرح؛ لم يكن له معنى. لقد كان رجلاً دائمًا ما ترك العقل يرشده، ومن خلاله تقدم خطوة بخطوة. لم يشعر قط بالحاجة إلى فعل أشياء لا معنى له. لقد تزوج من فتاة جميلة من عائلة كريمة. في غضون سنوات قليلة سيكون مديرًا، وبعد ذلك قد يكونان قادرين على تحمل نفقات إنجاب طفل. يمكن أن يوقف جريت عن العمل - "هنا، كيتي، كيتي" - دافع عن حياته ولم يعرف السبب. كان خائفا. كان في منطقة مجهولة. لم يعد يتعرف على المرأة التي كانت تقف في مطبخه وتطالبه بالعودة مع قطة حلوة ومروضة. أرادها أن تكون على ما كانت عليه من قبل، عندما كان يمكنه التحدث معها عن الأشياء اليومية. كان يحملها بين ذراعيه ويشعر بالفخر لامتلاكها مرة أخرى. ربما يمكنه شرائها مع هذه القطة.

جلس في زاوية من السقيفة وأطلق صفيرًا وهي تقترب. همس بهدوء:

- سيدتي، لا تخافى، تعالي الآن لترى أمك، تعالي .

انسلت من بين ساقيه وقفزت من خلال باب المطبخ المفتوح بكل عزمها. كانت بين ذراعيها عندما دخل. كانت الدموع تتساقط على فروها. قبلتها على رأسها وعلى كفوفها، ومنحتها قبلات طويلة خلف أذنيها. كان يرى جسدها يرتجف. قال خائفًا: "جريت". وفجأة تركت المخلوق وكأنها قد أفاقت من نوم عميق. ثم حدقت في يديها اللتين كانتا تداعبان القطة بكل حب. رفعت رأسها وخطت خطوة مترددة تجاه زوجها. ثم توقفت ومسحت جبهتها بظهر يدها.

قالت:

- حسنًا، أعتقد أنه من الأفضل أن أنتهي من إعداد العشاء.

شعر بشيء يموج في ذهنه، وأراد أن يذهب ويضع ذراعه حول كتفها، ليكون قريبًا منها بطريقة ما. ربما كانت تتوقع ذلك؛ ربما كانت في حاجة إليها. ولكن بعد ذلك خطر له أن الجيران ربما رأوه ملقى على الأرض ويزحف بين الشجيرات، ويموء.

عدّل ربطة عنقه وعاد إلى غرفة المعيشة. تبعته القطة وهي تحدق فيه. وعلى الرغم من أنه لم يلحظها بعينه، إلا أنه كان على علم بوجودها طوال الوقت.

(النهاية)

***

.......................................

المؤلفة: توف ديتليفسن/ Tove Ditlevsen. توف إرما مارجيت ديتليفسن (14 ديسمبر 1917 - 7 مارس 1976) شاعرة ومؤلفة دنماركية، كانت واحدة من أشهر المؤلفين في الدنمارك حتى وفاتها.الهوية الأنثوية والذاكرة وفقدان الطفولة من أبرز الموضوعات المتكررة في أعمالها النثرية والشعرية على السواء.

by Ali Al-Kasimi

Translated by Hassane Darir

(Professor of Translation and Terminology, Cadi Ayyad University, Marrakech) and

revised by W Richard Oakes Jr. (PhD-University of Edinburgh, Independent Scholar)

***

(Dedicated to the soul of the great artist, Dr. Khaled Al-Jader).

The handset fell out of his hand before he could hear the rest of the interlocutor’s speech. He stumbled towards the door, trying to overcome the tears in his eyes, on his way to the apartment of his friend, the great painter.

In the entrance to the apartment, he saw scattered paintings, some unfinished, and some unframed. Some were hanging on the wall, and others were lying on the ground, but they all seemed dark in color to him, with broken lines, warped   perspective, and all covered with a tinge of sorrow buried in the afternoon of that cloudy winter day.

In the dimly lit sitting room, two girls were weeping near a coffin covered in a black cloth. Without paying any attention to them or addressing them, he placed his right hand on the head of the coffin, and began to recite Al-Fatihah and offering supplications for the one lying inside it. Then he rushed into the only bedroom in the apartment, to find the painter's younger brother lying on his face in his bed with his palms on his eyes, so he asked him:

- What about the repatriation of the body?

- I have to wait a couple of days because there is no plane today.

- No, there is a direct flight in two hours. I will call our travel agency to take the necessary measures at the airport, and I will drive my car to the door of the building in five minutes. You have to lower the coffin there.

The car set off like an unruly horse on the seaside road towards the airport, carrying the coffin on board. The two weeping girls occupied the back seat, while the brother of the deceased sat crumpled and silent in the front seat beside him.

Oh, if the deceased were beside him, he would stare, with wide eyes, at the fields on both sides of the road, and gaze, with a smile on his lips, at the peasants bent over doing their work. He would draw the attention of his friend, who was busy driving the car, to the diversity of head coverings worn by these peasants and the richness of their colors, much alike the natural diversity of plants and flowers, and the richness of their culture and heritage. Is there the slightest doubt about that? Let those who do not admit this look at the Eskimos and the people of the desert, who know only one type of headscarf... He also drew his attention to the light of this country. It is that sort of moderate light, in terms of strength and brightness, that enables all the colors in nature to  be seen. Oh, it is just the correct amount of light that does not allow one color to dominate another, but rather lets each color exist in harmony with other colors, for there are colors that only the expert eye can perceive, even if language cannot  adequately distinguish them. Among the spectra of a single color, there is one color that the painter's heart beats for, his eyes search for its mixture, and his brush pains in imitation. Oh, it is just the correct amount of light that testifies to the essence and purity of colors and shows them as they really are. There is nothing better than what is right to reveal the truth. Do you think it is the winter rains that cause the earth to reveal its breathtaking subtleties in the spring? No, it is the mild, fair, and just spring light that gives the earth its enchanting and alluring colors. Even the most skilled painter will not be able to convey the splendor of nature in his paintings without being supported by a fair, just, and moderate light through which he penetrates to his subject and merges with it, so that the self and the subject become a single entity that comes alive on the surface of the painting...

In this cloudy winter’s afternoon, the light that dazzled and captured you hides behind the clouds, and the fields are desolate from the people you loved.

The road to the airport usually takes an hour and a half, and the check-in at the airport takes at least half an hour. Therefore, he had to drive at an unusual speed of more than 150 kilometers per hour. As soon as the journey began, the darkness lurking behind the dark, green fields crept onto the road, and the wind coming from the sea doubled its speed and drove thick clouds in front of it like raging herds of buffaloes, and soon the raindrops poured in at an escalating pace, raising a real threat that the car might skid on the road that was covered with water and mud. He realized, with apprehension and fear, that he had to focus  all of his attention on the road and the car he was driving.                                             

At the airport, his eyes bid farewell to the coffin when it was swallowed up in the belly of the plane, without noticing the farewell greeting that the painter's brother waved as he passed the check-out barrier. He did not wait long, for the plane took off moments later, and soon disappeared into the dark clouds that were like a large black tent over the airport.

It seemed to him that the way back to the city was not as long as it was going to the airport. Although the two girls continued their intermittent wailing, his mind flew away, racing the plane on its flight home. He saw a crowd of mourners, barefoot, bare-headed, carrying the coffin on their skulls, repeating ''Allah Akbar'' (Allah is the Greatest) and "Laa Ilaala illa Allah” (there is no God except Allah), as they hurried into the heart of the desert, where the late artist had been born and where his ancestors had rested for centuries. They carried the coffin on their  shoulders, rushing far and wide towards a wide-mouthed grave at the horizon, in an endless desert filled with yellow sand dunes extending beyond the  horizon, and blazed by the bright sun, until it turned into a mirage covering the earth and the sky. The closer they got to the grave, the farther away from them it seemed. Suddenly, he saw himself running after them to catch up with them, barefooted, bare-headed, stretching his neck like theirs to carry the coffin along with them. As he approached the coffin, piercing sounds of Tahlil and Takbir began to permeate his ears and eyes, pressing the lining of his heart like a sad flute melody, and a wailing voice sounded:

- I tried to remember who was crying for me, but I couldn't find  ...............................

A second voice rose and asked:

- They say don't go away while they bury me, but what place is the furthest away except mine?

Another voice resounded, recommending:

- If I die, bury me beside a vine whose veins would water my bones after my death.

Don't bury me in the desert.  I'm afraid if I die, I won't taste it.

However, they continued their vigorous march in a desert that had no spring or pasture. Even the wells were filled, the oases dried, and the palms had committed suicide.

This painstaking mental travel was only interrupted when he stopped the car in front of the house of one of the two girls, so that they could leave together. He returned alone to his house located in one of the distant beaches to which he resorted whenever he was distressed or exhausted, to enjoy some tranquility and comfort, as the houses built on that beach were totally deserted in the winter, since the  crowds do not form until the summer season returns.

His house was directly on the beach, only a few meters from the sea, and when the latter was agitated, its waves washed away the stairs of the back door leading to the beach. The front of the house, overlooking the sea, was wide glass windows allowing him to see the sea and hear its roar. His friend, the painter, often came to this house to paint some of his paintings. There, the love of the sea brought the two friends together. They talked about life and death, life after life, death before death, alienation of the body, alienation of the soul, and alienation of thought.

When he arrived at the house, it was pitch dark. The sequential thunder was deafening the hearing, the successive lightning dazzling the eyes, and the storm darkening. Raindrops were large enough  that they hit the windshield of the car like machine-gun bullets and turned the alley into a narrow valley with torrential flow. He entered the house, wet and feverish, only to discover a power outage due to the whirlwind.

Without bothering to light a candle, he threw his exhausted body on the big sofa, wrapped himself in the darkness, and stared at nothing. The lightning that penetrated the courtyard from time to time illuminated one of his late friend's wall paintings: There appeared grim faces of villagers, with their bulging eyes, dry lips, and miserable looks shadowed by trees. The trees were exhausted by autumn. A hidden wind had been twisting their branches, scattering their yellowish leaves on the heads of the villagers, whose thick feet were stuck to the ground, like the roots of the trees themselves.

Behold, lightning recedes at a brisk speed, to leave space and air prey to the roar of raging thunder, the buzzing of a mighty storm, and the thunderous roar of the sea. Then lightning returns to light up another painting, from which the face of a black-faced magician appears, with piercing glances directed towards the eyes of a surprised villager who kneels in front of him, mouth wide, lips hanging, pale-faced, like a terrified prey. Then darkness hovers once more, rivaled only by the sound of falling rain and the waves crashing against the hard rocks of the beach. Lightning is once again illuminating another painting, which overlooks the shrine of a saint perched on the seashore. Next to it are three boats resting on the sand. They must have been thrown ashore by the thunderous waves, just before dawn, after their owners the fishermen were swallowed up the during the night. Thus, lightning kept opening his exhausted and resigned eyes at the paintings hung on the wall one after another, and closing them after it receded, neither seeing nor seen. He remained in that condition for a period of time, the length of which he did not know,  and the impact of which he did not perceive.

While he was relaxing with his eyes closed, he suddenly heard a strange voice that differed from all the sounds that his ears had heard that night. He sensed a suspicious movement unlike any other movement caused by that evening’s storm. That sound was not coming from the direction of the sea, nor was that movement coming from the source of the west wind, but it seemed to him that they were coming from the eastern side of the house. Unconsciously, before he even had a chance to think, he turned towards the source of the sound and movement, to see...  to see with his wide-open eyes, the ghost of his late friend: tall, monstrous, terrible, horrible, in shroud-white, pushing the window wide open, rushing like a soaring missile, like a gigantic comet star, into the center of the house.

Then, he let out a sharp, terrified scream: Why? Why? And he fell unconscious...

***

...................................

  This short story is a translation of الظمأ by Ali Al-Kasimi. It is the thirteenth in the short story collection Time to Leave (أوان الرحيل), under translation.

قصة: إينيس جارلاند

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان من الممكن أن يكون ذلك الصيف مثل أي صيف آخر. لقد أمضينا عيد الميلاد في بوينس آيرس، وبعد يومين، مثل كل عام، أخذنا أبي وأمي إلى الريف. كانت رامونا تجلس بيني وبين كلارا، في المقعد الخلفي، وتنظر إلى الأمام، بثبات شديد. كان تسافر دائمًا هكذا، وذراعاها متقاطعتان وظهرها مستقيم؛ من وقت لآخر كانت تحرك شفتيها كما لو كانت تصلي وتنظر إلى أمي، خلف رقبتها، بنظرات قصيرة مخفية.

قبل أن نصل إلى الطريق الترابي، أعلن لنا أبي وأمي أنهما لن يتمكنا من البقاء معنا لليلة واحدة في ذلك العام؛ وكان بعض الأصدقاء ينتظرونهما في اليوم التالي. بدأت كلارا بالبكاء. واصلت  رامونا النظر إلى الأمام مباشرة، لكنها ضغطت على فكها. قررت هذه المرة أنني لن أسمح لأمي وأبي بالمغادرة دون أن أخبرهما كيف كانت رامونا معنا عندما لم يكونا هناك، ولكن بقدر إصراري، لم أستطع التفكير في كيفية إخبارهما بكل شيء دون أن تسمعني رامونا.

خطر في ذهني الحل عندما رأيت حقل الذرة المزروع بالقرب من المنزل. وبينما كانا يفرغان الحقائب ويفتحان المنزل، شرحت الخطة لكلارا، دون تفاصيل كثيرة. أمسكت بيدها، وركضنا إلى حقل الذرة واستلقينا على وجوهنا في التراب.

كانت خطتي بسيطة: سيتعين على أمي وأبي البحث عنا لنقول وداعًا - كنت متأكدًة من ذلك -؛ عندما ينحنيان لتقبيلنا، تخفيهما أوراق حقل الذرة، وبعد ذلك، هناك، وفي ظل الحماية من رامونا، كنت سأخبرهما بكل شيء. بدا الأمر سهلاً للغاية، ومثاليًا جدًا.

سمعنا من مخبأنا صوت أمي تنادينا. نظرت إلي كلارا بعينين واسعتين وأدركت أنها تريد النهوض والركض إلى أمي. كنت في الخامسة من عمري: وما زلت أعتقد أنني إذا بكيت كثيرًا فلن يغادرا. وضعت ذراعي حول ظهرها وأجبرتها على الاستلقاء. كانت ترتجف على جسدي مثل الجرو.

انحسر ضجيج السيارة وواصلت الاستلقاء وذراعي على ظهر كلارا وقلبي ينبض حتى لم يعد هناك أي صوت. لم يخطر ببالي أنهما يستطيعان المغادرة دون البحث عنا. عندما توقفت، لم يكن هناك سوى سحابة من التراب تطفو مثل الجيلي في الأفق.

لا بد أن كلارا رأت على وجهي أنهما قد رحلا. بالكاد كانت تتأوه ورمقتني بتلك النظرة التي كنت أحفظها عن ظهر قلب: عينان سوداوان للغاية بحيث لا يمكن رؤية بؤبؤ العين. أدركت أنه ظن أنني كذبت عليه، وأنني كنت أعرف منذ البداية أن أمي وأبي سيغادران دون أن يقولا وداعًا، وقد سلبته الفرصة الوحيدة لمنع ذلك.

كانت رامونا واقفة على الشرفة ويداها مستندتان على ظهر كرسي من الخيزران. من مسافة بعيدة لم تكن تبدو غاضبة ولكن عندما اقتربنا منها تمكنت من رؤية بقعة العرق على صدرها. تلك البقعة التي سقطت على خط العنق وانتهت بنقطة كانت دائمًا علامة سيئة. البقعة التي تمتد عبر صدرها وتنتهي على شكل سن الخنجر.

قالت:

- لقد ظهرتما .

وربما كان ذلك مجرد تعليق لو لم تنظر إلينا بهذه الطريقة، فلن ننجوا من العقاب

بدأت كلارا بالبكاء. أمسكت يدها. استدارت رامونا لتدخل المنزل وتبعناها في صمت. كانت ساقاها، من الخلف، مثل الأغصان العارية، لامعة، وساقاها مرتفعتان مثل عقدة من الخشب، وقبضة مغلقة ترتفع وتنخفض أثناء سيرها. كان الفستان ملتصقًا بظهرها.

بعد ظهر ذلك اليوم جعلتنا نلعب في غرفتنا، بينما بقيت هي في غرفتها. لم نتمكن من رؤية ما كانت تفعله، لكن كان بإمكاننا سماعها وهي تمشي صعودًا وهبوطًا، مُصدرة صوتًا يشبه صفيرًا بلا لحن، وهي شهقة متقطعة قالت إنها ساعدتها على التفكير. في غرفتنا كان هناك رائحة الجير والرطوبة. كان من الصعب جدًا علينا اللعب عندما لم تخبرنا بأي شيء وحدثت الأمور على هذا النحو طوال فترة ما بعد الظهر.

كنا على وشك النوم عندما أعطتنا القلادة.

قالت:

- أمكما  تركت هذا لكما. "أنتما لا تستحقان ذلك.

سلسلة بقلادة ذهبية مستديرة تفتح لتظهر صورتين، واحدة للأم والأخرى للأب. وفي الصور كانا يرتديان نظارات سوداء وكانا يضحكان. بدأت كلارا في البكاء وتقبيل الصور.

قلت لها:

- أنت حصلت عليها .

لم أكن أريد ذلك.

قالت رامونا:

- احذري من فقدانها، لقد طلبت مني والدتك ذلك على وجه التحديد . منذ ذلك الحين، كانت كلارا تتجول دائمًا بالقلادة وتفتحها باستمرار لتنظر إلى الصور.

في ذلك المساء، كالعادة، جعلتنا رامونا نصلي راكعتين بجانب بعضنا البعض ومرفقينا مستندين على السرير. وبينما كنا نصلي، انفجر صوت محرك السيارة في صمت وأضاءت كل الأضواء دفعة واحدة. النافذة مليئة بالخنافس الطائرة، تدق للدخول، مثل المطر.

قالت رامونا قبل مغادرتها:

- الآن علي أن أخرج وأحيي القائم بأعمال المزرعة الجديد، ولكن غدًا سنتحدث عما فعلتاه.

لم أستطع النوم. انطلق صوت المحرك الخفيف في الظلام، وتقلبت كلارا في السرير، وهي تتحدث أثناء نومها. وبعد وقت طويل، سكت المحرك، فخيَّم صمت الريف على المنزل كالبطانية. بين الحين والآخر يمكن سماع صوت كلب يعوي. أثناء نومى حلمت بالذئاب.

في صباح اليوم التالي، بينما كنا نتناول الإفطار، جاء القائم بأعمال المزرعة وسألنا. كنت أود أن أحييه – بدا صوته مبتهجًا للغاية – لكنه كان ورامونا يقفان يتحدثان في الخارج، على الجانب الآخر من باب الشاشة. بين الحين والآخر كانت تدير رأسها قليلاً لتنظر إلينا من فوق كتفها. لم يكن عليها أن تقول أي شيء لكي نعرف أنها لا تريد أن نقترب أكثر. عرفنا كيف نقرأ جسدها. كان رأسها ذو الشعر القصير المجعد - الصغير جدًا على كتفيها العريضتين - بالكاد يتحرك لينظر إلينا، كما لو أن مؤخرة رقبتها وأذنيها يمكنهما رؤيتنا أيضًا.

كان المشرف على المزرعة هو الذي كان يتحدث عن خزان الصرف الصحي.

قال:

-  لم أنتهي بعد والأرض فضفاضة للغاية . ينبغى الحذر.

أجابت رامونا:

- لا تقلق .

لكن أول شيء فعلناه بعد الإفطار هو إلقاء نظرة على خزان الصرف الصحى. أخذتنا وجعلتنا نقف على الحافة. شعرت بيدها الساخنة والرطبة على مؤخرة رقبتي وهي تدفعني للأمام قليلاً.

قالت:

- لا يمكنك رؤية القاع . هل ستخبريني لماذا اختبأتما؟

نظرت إلى نفسي وحدي وأخافني السؤال غير المتوقع الذي طرح هنا. حاولت التملص، لكن رامونا مارست ضغطًا أكبر بأصابعها وبقيت ساكنًة.

قلت:

- لقد كانت لعبة .

- أوه، بالطبع، لعبة.  وأغمضت عينيها للحظة. ثم استدارت في وجهي ونظرت إلي ببطء، كما لو كان عليها التركيز لتضعني مباشرة في مركز نظرتها.

- حسنا، هذا لا يهم كثيرا، أليس كذلك؟ لا يزال يتعين علي التفكير في العقوبة. عقوبة جيدة.

بدأت كلارا بقضم أظافرها.

قالت لها رامونا:

- اتركى تلك الأصابع . لقد قررت بالفعل عقوبتك.

سألتها :

- وأنا لا ؟

قالت:

- أنا أعمل على ذلك .

بدا قاع الحفرة كالليل، بلا نجوم ولا نهاية.

في ذلك اليوم لعبنا لبعض الوقت على الشرفة، ثم بقينا في غرفة رامونا وأبوابها مغلقة، وكانت تحكي لنا القصص وتجدل شعرنا. قالت لكلارا وهي تضفر شعرها:

- لا أحب أن أغضب . أنت تجبريني على معاقبتك.

كانت تتحدث وتسحب شعر كلارا لضبط الضفيرة. ضاقت عيون كلارا وامتلأت بالدموع. كانت ساعة رامونا المصنوعة من المعدن تدق في هواء غرفتها ذو الرائحة الحلوة.

قالت:

- أنا أفعل ذلك من أجل مصلحتك .

سألتها مرة أخرى عن عقابي. حاولت أن أجعل صوتي يبدو غير مبال. إبتسمت.

- لماذا أتعجل عندما يكون لدي كل الوقت في العالم؟

كانت عقوبة كلارا هي نفسها كما كانت دائمًا. كانت رامونا تحمل معها بعض الصناديق الرمادية الصغيرة التي كانت تستخدمها لتخزين المجوهرات الرخيصة. عندما أرادت معاقبة كلارا، حبستها في مكان مظلم مع الصناديق الصغيرة وأخبرتها أنها مليئة بالحشرات.

قالت لها:

- إذا تحركت، ستخرج الحشرات من صناديقها وتأكلك .

لقد حاولت ألف مرة إقناع كلارا بعدم وجود أي حشرات داخل الصناديق. لقد أوضحت لها ذات مرة أنه لا توجد حشرة يمكن وضعها داخل صندوق صغير جدًا يمكنها أن تأكل فتاة بحجمها. لكنها لم تشكك قط في كلمات رامونا.

بعد ظهر ذلك اليوم، ودون أن تصرخ، سمحت لنفسها بأن تُحبس في كوخ خشبي كان يستخدم في السابق كحمام ولم يعد يستخدمه أحد. كانت تمسك بالقلادة في يدها.

قالت لي رامونا وهي تشير إلى الدرجة المؤدية إلى المطبخ:

- وابقي أنت هناك من الأفضل ألا تقتربى حتى من أختك.

دخلت المنزل وجلست على الدرج. اهتز الكوخ الذي كانت تأوي فيه كلارا في حرارة ساعة القيلولة. بين الحين والآخر كنت أسمعها تبكي بهدوء شديد، كما لو كانت خائفة جدًا من البكاء. ملأ الهواء طنين نحلة طنانة تختبئ في عارضة السقف. ومن الفتحة الموجودة في الخشب، جاء رذاذ من نشارة الخشب، الذى طفى على ضوء الشمس. وبدا كما لو أن الزمن قد توقف إلى الأبد.

لا أتذكر ما كنت أفكر فيه عندما نهضت وركضت نحو الكوخ. أعلم أنني فتحت الباب ورفعت الغطاء عن الصندوقين.

- الآن هل رأيت أنه لا يوجد شيء بالداخل؟

صرخت، وأخرجت كلارا من هناك.

وقفت على العشب الجاف ولم تستطع أن ترفع عينيها عن الصناديق المفتوحة. القلادة المفتوحة ذات الوجهين المبتسمين لأمي وأبي معلقة حول رقبتها.انتزعتها ،كنت ما أزال أحملها في يدي عندما شعرت بسحب قوي للغاية: رامونا، التي أمسكت بشعري وأجبرتني على الاستدارة. ورأيت جبهتها مغطاة باللؤلؤ الشفاف. بدأت حبات كبيرة من العرق تتساقط على وجهها. انزلقت  وتركتها تسقط ، واجتمعت عند طرف أنفها، على شفتها العليا، على ذقنها؛ تركتها ينزل على رقبتها باتجاه صدرها، دون أن تمسحها حتى تجف، كما لو أنها لم تشعر بها. لم تتحرك. وامتدت البقعة على خط العنق حتى انتهت بنقطة كخريطة الجنوب. ضاقت عيناها وأصبحتا الآن خطين من الكراهية يحدقان بي.

قالت:

- من تظنين نفسك؟

وسحبتني بعيدًا، وأصابعها مغروسة في ذراعي. حاولت تحرير نفسي فصفعتني. كانت كلارا خلفها، تصرخ، لكن يبدو أنها لم تسمعها. لقد أهانتني بصوت أجش، صوت مشوش لشخص كان يعلم أنه لا يوجد أحد حولها ليراها بهذه الحالة. لقد جرتني إلى حافة الحفرة.

- هل ترىن أنه ليس له قاع؟ هل ترىن أنك لا تخرجين من هناك؟

أطلقت ذراعي وهى تدفع رأسي إلى الأمام. شعرت براحة يدها المبللة على مؤخرة رقبتي.

- هل تريدين ذلك؟

بشكل غريزي مددت ذراعي ووضعت القلادة فوق فتحة البالوعة. وقفت رامونا تحدق فيه. أمسكت به من سلسلته في قبضتي المشدودة. كانت الصورتان في مهديهما الذهبي تتأرجحان مثل البندول. تركت ذراعي وحاولت انتزاعها مني. فتحت يدي وأسقطتها. لقد خدشت الهواء في حالة من اليأس وانحلت الأرض المفككة تحت قدميها. تشبثت بحافة الحفرة بيد واحدة للحظة. لا أعرف إذا كانت صرخت عندما سقطت.

أحياناً أحلم برامونا. الجو حار دائمًا وأجفف العرق براحة يدي. نحن نقف، في مواجهة بعضنا البعض، وأنظر في عينيها. أحاول تخمين ما ستقوله لي. في هذه الأحلام، أنا على وشك أن أعرف أخيرًا ما هو عقابي.

(النهاية)

***

..........................

المؤلفة: إينيس جارلاند/ Inés Garland. إينيس جارلاند كاتبة ومترجمة أرجنتينية، مقيمة في بوينس آيرس. ولدت إينيس جارلاند في بوينس آيرس عام 1960. كتبت ثلاث مجموعات من القصص القصيرة وثلاث روايات، تُرجمت كتبها إلى الألمانية والفرنسية والهولندية والإيطالية، من بين لغات أخرى.عندما كانت طفلة كانت تقرأ على نطاق واسع وكتبت قصتها القصيرة الأولى في سن الحادية عشرة. في السادسة عشرة من عمرها، استقرت على الكتابة باعتبارها مهنتها المفضلة، لكنها لم تجرؤ على مشاركة نصوصها مع الجمهور إلا في سن 38 عامًا. بحلول ذلك الوقت، كانت قد عملت كجليسة أطفال، ومرشدة، ونادلة، ومدربة لياقة بدنية، ومنتجة تلفزيونية، من بين وظائف أخرى، وأكملت دراسات في علم المنعكسات والعلاج بالتمارين الرياضية. وكتبت أيضًا في العديد من المجلات الأرجنتينية. جارلاند هي أول كاتبة من أمريكا اللاتينية تحصل على جائزة Deutscher Jungerliteraturpreis لعام 2014 عن روايتها Piedra، papel o tijera . في عام 2018، فازت بمنحة لورين للمترجمين، وفي عام 2021 بجائزة Premio de Literatura Juvenil Alandar.

بقلم: نعومي شهاب ناي

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

* كيس صغير واحد في سوريا

ملأه البائع الجوال أكثر من حجمه.

ليسعد المشترين.

ثم هز الفستق المحمص

مع بقايا الفحم والنار

حتى احتل كل زوايا كيس الورق البني

وابتسم وهو يطوي الحافة.

ثم قال: هنيئا لكم الفستق اللذيذ.

كان الطريق بعيدا إلى حلب.

فقال لنا: سلموا لي على حلب.

ص95.

**

* من أجل فلسطين

"مهداة إلى الأب جيري رينولدز، من بلفاست، "فلتكن صلاتنا الآن لفلسطين'"

كم أصبحت كلمة سلام موحشة.

وهي تحن لبيتها الصغير تحت أشجار الزيتون.

*

حملتها الجدة في دلو حينما

كانتا تسقيان الأرض.

انتظرتهم مع شروق الشمس،

ثم عادت لتلتقي بهم. وتفتحت حياة الجميع.

وضعها أعمامها في جيوب المعطف

واغلقوا أزرار القمصان البيضاء ليوم آخر.

الآباء والأمهات والأطفال

سمعوا همساتها تطير فوق فلسطين مع الغيوم،

وتتداخل بهدوء، وتقطع وعدا،

وترسل رسالتها إلى الأرض.

هذا ليس سرا.

قالت: ستهدأ المحنة قريبا.

ارفعي رأسك عاليا. لا تنسي ذلك.

حينما دخلت عهد السجن، لوحنا

بأيدينا المتعبة في الهواء وبكينا.

البنت الصبية تحلم بعالم أفضل!

لا تقتلوا أبناء عمها، أبناء عمي، أبناء عمومتنا.

ألن تلطمونا من أجل ذلك؟

كانت لطمة فقط.

كلمة سلام تذكرة عبور إلى مكان آخر.

الناس يحلمون ليلا ونهارا بحياة أهدأ.

وربما سلام ستكون تذكرة عودتهم أيضا.

فهم لم يقنطوا أبدا. ودولاب كارما،

أسطورة العدل النهائي تواصل الدوران...

وأنا أحلم بشعر عهد.

*

قالوا حينما ولدت

مالت الغصون مع نسمات مسالمة -

فهي أول أهزوجاتي. وانخفضت الحرارة.

وصوت دفعني قدما،

وطلب مني أن أتكلم،

فقد كبرت في بيت من الحكايات والثوم

وأصبحت شجاعة.

كل شيء بدأ، بعيدا، بعيدا جدا، منذ القدم، قبل فترة طويلة.

وكل شيء قربنا من بعضنا البعض.

هل هذه حكايتك، أم حكايتي؟.

زيت الزيتون يعيش في علبة مثقبة لها بلبولة شاهقة.

*

ماذا يجري للسلام إذا تصارع البشر؟

(دفنت وجهها وخبأته).

بماذا تحلم؟

(بناس أفضل).

هل أصابها القنوط يوما؟.

أحيانا تشعر بالوحدة على هذه الأرض.

وترغب أن ترافق الأطفال بنزهة علنية.

وتعيش الحياة التي يستطيعون أن يحيوها.

وتقيم حفلة بسكويت أبيض على أطباق بسيطة.

كثير من ذلك.

والفستق مطحون لذرات ناعمة.

وترغب أن يشاركها الجميع.

ص28.

**

* قهوة عربية

لم تكن يوما مرة المذاق بالنسبة لنا

اجعلها أكثر سوادا يا بابا،

وكثيفة من الأسفل،

لتخبرنا مجددا كيف تجتمع السنون

في فناجين بيض صغيرة،

وكيف يبقى الحظ صامدا في رقعة من الأرض.

مال بقامته على المدفأة، وانتظر

أن تغلي وتفور، ثم تستكين،

مرتين. لكنه لم يضع السكر في ركوته.

والبيت الذي يفصل بين الرجال

والنساء،

لم يكن حاضرا في تلك الغرفة.

أما خيبات أملنا المائة

فقد اشتعلت كالنار الملتهبة في المخزن،

وابتلعت مسابح مصنوعة من خشب الزيتون،

والأحلام المطوية مثل مناديل جيب صغيرة

وتتسلل في أيامنا، أخذت أمكنتها

حول الطاولة، بجوار طبق ذرة

نصف فارغ. ولم يكن أحد أهم

من الآخر. فكلهم ضيوف. وحينما

حمل الصينية واقتحم بها الغرفة

جعلها مرفوعة ومستوية بين يديه.

فهي تقدمته للجميع.

ناديناه: انتظر. اجلس. اشهد

على اتجاه حديثنا. أما القهوة

فقد كانت في منتصف الوردة.

ومثل ثياب منشورة على الحبل وتدلي بنبوءة:

ستعيشون طويلا حتى ترتدوني،

وهي إشارة تدل على الإيمان. وهذا لكم

ويوجد المزيد.

***

......................

نعومي شهاب ناي: شاعرة أمريكية من أصل فلسطيني. أول قصيدتين من كتابها: "الصحافية الناعمة". والثالثة اختارها الشاعر فيليب تيرمان.

ترجمة صالح الرزوق

 

قصة قصيرة للكاتبة الأمريكية: شيريل ألو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

بعد خمس سنوات من الزواج توقف زوجى عن ذكر اسمى، فى البدء، بدا ذلك غريبا وفكرت ربما يكون ذلك مجرد تهيئات، لكن بعد فترة من الوقت تقبلت ذلك كأمر واقع. ماذا يعنى أن تقال مثل تلك الكلمة ؟- اسم شخص. هل يمكن أن تعنى أحبك. أو أنت خنتنى. أو أنا مسرور لك أو أنا حزين من أجلك أو أهذا أنت؟ أم لا تقلق، أنا هنا ؟. لم أفكر مطلقا فى القوة التى يحملها الاسم حتى توقفت عن سماع اسمى.

فى المبنى الذى أعمل به أجلس خلف جدار زجاجى يطل على الشارع العام، ومن مكتبى الذى يبعد قدمين فقط عن أول مكتب فى حجرة مكتظة بالمكاتب، أشاهد العاهرات وهن ينتشرن على مقاعد محطة الحافلات فى طريق الشمس الغاربة، وعندما لا تجلس واحدة منهن هناك، يمكن لى أن أرى وجه جارتى جودى جورج السمسارة العقارية،التى تبدو ناجحة وسعيدة بعملها.

أشاهد العاهرات وأنا أقوم بأشياء مثل استيفاء شهادات الوفاة لأعضاء النقابة المتوفين حديثا وتستيف الأغلفة المتشابهة مع بعضها البعض وترتيب الرسائل التى تعبر عن الحزن لموت أحد ممثلى شاشة التلفزيون، وأحيانا إدراج شيك لأحد المستفيدين من المعاش، شيك مستحق الدفع على وجه السرعة للممثل المتوفى عن أداء دور أو بعض الأدوار الصغيرة فى التلفزيون، التى ربما لا يتذكروها، أو قد يتذكروها ، ولعل ذلك أفضل مناسبة يتذكر بها الأهل ممثلهم المرحوم.

غالباً ما تتوقف الأخريات عن العمل وينظرن معى عبر النافذة، الأكبر سناً هن الأسوأ، يضحكن كالقرود على الفتيات وما يقمن به، أحاول أن أتخيل تلك النسوة، زميلاتى، وهن يقمن بعمل الأشياء نفسها، تلك التى يضحكن منها، فلا أستطيع. بعد ذلك أستطيع، وإن كنت أتمنى ألا أفعل. كيتى هى الوحيدة التى تقول أنها تشعر بالأسف لتلك الفتيات. هى الوحيدة أيضاً التى تحدثت إليها عن زوجى وعن هجره لى. كلما اتصلت بى أمى من بيتها فى الساحل الشرقى، أقول لها أنه فى الحمام أو خرج إلى الدكان.

أقضى معظم الوقت على التليفون، ليس من أجل العمل، لكن لكى أتحدث إل ذلك الرجل الذى أراه الآن. التقيت به فى بار فى نفس اليوم الذى تركنى فيه زوجى. لدى دانى ساعات فراغ منتظمة، يقضى وقت الظهيرة متيقظاً ويتصل بى أثناء العمل. يمكنه أن يتحدث لوقت طويل عن أى شىء. يبدأ ببعض الحقائق عن النجوم الصغار مثلاً ثم ينتقل إلى الحديث عن قانون الملاحة البحرى، الذى ربما يأخذه إلى الحديث عن الملاحة الفضائية، ثم عن السوشى، ومن هناك يكون من السهل عليه الحديث عن طقوس الانتحار اليابانى، يخبرنى بهذا النوع من القصص، التى تجعلك عندما ينتهى تتمنى لوكنت استمعت إلى الموضوعات كلها. لكننى لا أفعل عادة. غالباً أتجاهل الاستماع إليه وأجعل صوته بمثابة خلفية هادئة لأفكارى وأنا أشاهد الفتيات الجالسات فوق الأريكة.

فى معظم الأوقات توجد ثلاث فتيات أو أربعة فى المرة الواحدة. تقف السيارات، تقترب الفتاة من الباب الجانبى للراكب، و بعد بضعة ثوانٍ عادة ما تركب، ثم تعود بعد مرور عشرين دقيقة. عشرون دقيقة فى المتوسط يمكن أن تمتد إلى خمس وأربعين أو أقل من ذلك بعشر دقائف. أحسب لهن الوقت، لكن عندما يتجاوز غياب الفتاة الساعة، أشعر بالقلق.

فى الأيام الأخيرة صرت أقضى ساعة الغذاء فى سرقة المحلات فى الطابق الأرضى لمبنى فى نهاية شارع هوليوود، أشياء صغيرة، ملابس داخلية، أدوات تجميل، زجاجات مياه للسفر من أى شىء . لم أسرق أبداً شيئاً وأنا صغيرة، وقد كرهت وجودى مع أبى فى المحلات لأنه كان دائماً يسرق الأشياء، لم أشاهده فى الواقع وهو يفعل ذلك، لكن فى السيارة وأثناء عودتنا إلى البيت يضع يده فى جيب سترته و يخرج مشبك شعر أو دبوسا أو أسورة، كرهت تلك الهدايا الذهبية، كرهت طريقته وهو يقول " خذى " كما لو كان يمنحنى تغيير عداد الوقوف. لم أعرف لماذا كان يأخذ هذه الأشياء، لكن يبدو أنه لم يكن فى حاجة لأن يفعل ذلك. كان لابد أن يغادر المحل و يتجه رأساً إلى صالة الألعاب. وأنا هنا أفعل الشىء ذاته، قلت لنفسى، أنا وحيدة الآن، يجب أن أقتصد فى الإنفاق.

ذات مرة تعقبنى مدير المحل وأنا خارجة من قسم الإسعافات الأولية ، فدخلت إلى داخل كشك التصوير و سحبت الستارة الرمادية القذرة إلى أسفل. شاهدت من تحت الستارة الحذاء الأسود يعلوه جورباً أبيض ثم و هو يتوقف أمام طيات النسيج الخشن الذى يفصل بيننا، ثم استدار راجعاً و ابتعد.

فى كل خميس أخرج لتناول الغذاء مع كيتى، التى تعمل فى إدارة العقود على بعد مكتبين من مكتبى. لكيتى ابن فى السابعة من عمره، على الرغم من أنها لم تتزوج، والمعروف عن كيتى أن جمالها فوق المتوسط، لكنها تستطيع أن تشعرك بالجمال أيضاً، طالما أنك لم تقف بجوارها أمام المرآة، تعمل ذلك فى سهولة لدرجة أن تعتقد أنها من السهل عليها حقاً أن تبدو ماهرة ، وأن فى استطاعة أى أحد أن يفعل ذلك.

**

عاهرتى المفضلة هى تلك الفتاة الشقراء القصيرة الغاضبة دائماً. أحب ذلك لأنها تفتقد إلى ذلك النوع من الأجساد الذى أعتقد أن المرأة فى حاجة إليه لكى تكون عاهرة ناجحة، فلا أثداء أو مؤخرة أو سيقان... مجرد وقفة فحسب. وهذا ما يجعلنى ربما أعتقد أنه ليس كل الرجال أغبياء على الإطلاق. على الأقل بعضهم يحب تلك الوقفة الصغيرة، مكتفيا بمص أيره. تأتى هذه الفتاة فى وقفتها فى مواجهة نافذتى فى الطابق الثانى. سوف تقترب من السيارة وأصبعها الأوسط مرفوعاً مثل السلاح إلى الزبون المنتظر. وهى تصرخ بالبذاءات، كما لو كان يزعجها على نحو ما أن يظهر اهتمامه بها. ففى معظم الأوقات تركب السيارة مع رجل وعندما تعود سوف تدفع بالإصبع فى الهواء وهى تقول مع السلامة.

لم أقابل رجلاً، منذ أن تركنى زوجى من ستة أشهر مضت، لا أريد أن يحبنى أحد، حتى هؤلاء الذين أبغضهم أو أشعر بعدم الاكتراث بهم، أريد لهم أن يرغبونى جميعاً. وعلى الجانب الآخر يبدو أنها تريد لهم أن يكرهوها جميعاً. الشىء الذى تتعلمه من الزواج، هو أنه عندما يشاهد المرء قناة الطقس لساعات، فإنه فى الواقع لا يشاهد قناة الطقس وأن الأكاذيب التى يحكيها هى كل الحقيقة التى تحتاج إلى إليها.

فى اتصال تليفونى مع دانى حدثته عن عاهرتى المفضلة فأبدى اهتماماً كبيراً، فمن غير المعتاد أن يهتم بما أقوله، وجه لى بعض الأسئلة عنها، حسناً، شعرها، قلت له: أصفر جداً، لكن لا بأس به. أحب أسلوبها الغريب فى الملبس، ليست مثيرة جنسيا بشكل زاعق، تمزج بين التحدى والحركة المبالغ فيها وتنجح فى أن يجعلها ذلك تبدو مثيرة جنسيا. كم أحب حقاً طريقتها فى غلق باب السيارة وهى تقول بشكل واضح " عليك اللعنة " فلم تصفق الباب على الإطلاق، حيث تدعه يغلق فى يسر ويرتفع ذارعها قليلاً إلى أعلى وهى تبتعد عن الباب كما لو كانت تقول بالإشارة : تحرك وامض، وكما لو كانت تقول: و من ذا الذى يحتاج إليك ؟

غير دانى الموضوع وأخذ يتحدث عن تعطل السلم الالكترونى، بينما أخذت أفكر فى كيف أن المعروف عن جميع سائقى الحافلات فى طريق الشمس الغارية أنهم لا يتوقفون عندما لا يوجد سوى العاهرات فوق المقاعد، ذلك لأنهن لا يركبن مطلقاً.هل تم مناقشة ذلك فى محطة الحافلات هل هذا جزء من التمرين ؟ جاء رئيسى فى العمل ووضع أمامى ورقة، مكتوب عليها " ينجز الآن " تجاهلت ذلك.

قلت:

- دانى. ليس لدى فكرة عما تتحدث عنه.

فقال فى سعادة:

- ذلك جيد. وليست كذلك جان.

وجان هى أخته غير الشقيقة، تزوج أبوها اليونانى من أم دانى الإنجليزية وهما صغيران. تربيا معاً – دانى الشاحب الأشقر الجميل وأخته ذات ملامح البحر الأبيض المتوسطية السمراء – بدا الاثنان أشبه بوجهى الصورة: الموجب و السالب.

**

والآن عندما يتصل دانى يكون أول شىء يريد أن يعرفه هو ماذا تعمل ؟ أقصد عاهرتنا المفضلة، لقد أطلقنا عليها سندريلا، ولست متأكدة لماذا؟ ربما لأنها فى حياتها أبعد ما تكون عن سندريلا، فأبدأ بماذا تلبس. ثم أصف السيارة التى انطلقت بها، ثم نخمن معاً ماذا يمكن أن تعمله أو ما لا يمكن أن تعمله، اعتمادا على العمل وموديل السيارة. لقد صارت الفتاة أكثر واقعية وغير عادية فى ذات الوقت. إنها اللعبة الجنسية الصغيرة التى نمارسها، على الرغم من أننا لا نتحدث عنها مطلقاً عندماً نكون معاً فى السرير ونحن نمارس الحب.

إلا أننا مع ذلك لا نتحدث عن الكثير من الأشياء عندما تكون معاً. المستقبل، على سبيل المثال. أو البقايا الكئيبة لملابس زوجى التى مازالت معلقة فى الخزانة. (إذا لم أتذكر أن أغلق الباب، يمكننى أن أراها وأنا مع دانى فى السرير).

لم نتحدث عن حقيقة أنه على علاقة حب مع أخته غير الشقيقة. (أعرف هذا لأنه يتحدث عنها كثيراً، بنفس الطريقة التى يتحدث بها بعض الرجال بشكل انتقائى عن خليلته السابقة، حيث يعرفان معاً أن علاقتهما لم تنته بعد. أشياء واضحة كأن يقول إنه يكره الحديث عنها. فالأشياء التى يتذمر منها فى الغالب هى الأشياء التى يحبها، مثل: جان ماهرة جداً فى المعاملة وجان فتاة أبيها وجان تكذب، لكنها لم تضبط أبداً وهى تكذب وأن كل شىء يبدو سهلاً جداً لدى جان، وجان لم ينكسر قلبها قطً)

لم نتحدث أبداً عن الطريقة التى تنظر بها أمه نحوى عندما تعتقد أننى أقرب إليها فى السن منه ( بدون سبب واضح، قالت ذات يوم: كبر السن ليس سيئاً، ترهلت قليلاً بشرتك، ذلك هو كل ما فى الأمر) ولا حتى نتحدث أبداً عما تقوم به من عمل أو من يعمل ذلك عندما لا تكون معاً. قائمة الأاشياء التى لم نتحدث عنها طويلة ومثيرة للاهتمام و تزداد مع الوقت.

**

- أترغبين فى شراء المارجوانا ؟

إنها هى فتاتى المفضلة عند مقعد الحافلات. كانت تقف أمامى عند الباب الزجاجى الدوار، فى مدخل مكتبى، وتتوجه بالحديث إلى. قلت:

- أنا أعمل هنا.

وأشرت إلى المبنى خلفى. ربما لم تكن تلاحظ ذلك، فقالت:

- نعم، أراك تدخلين وتخرجين منه. يبدو عليك الحزن دائماً. لابد أن العمل قذر. ألا تريدين شراء بعض المارجوانا ؟

- حسناً، أظن أن كل من يتعامل مع هذا القسم من هذا الخراء فى هذه الحياة على حق.

قلت ذلك وأنا آمل أن تعود إلى مكانها على مقعد الحافلات، إلى المكان الذى يخصها، حيث أستطيع أن أعرف قدرها. لكنها لم تتحرك. تأملتنى مليا وجعلتنى أشعر بالارتباك وعدم الفهم وكما لوكنت أننى أرتدى ملابسى بشكل سىء ، كانت ترتدى مشد صدر أسود ظاهر بوضوح تحت البلوزة الحريرية البيضاء، وبنطلونا ساقطا وحذاءا بكعب عال جداً، ورابطة عنق تستعملها كحزام هنا وتنجح فى جعل كل ذلك يبدو أحدث موضة. وأن على الجميع أن يلبس مثلها، أعتقد أن لديها الكثير الذى تعمله مع جسدها ذلك الذى بلا أثداء أو أفخاذ. ذهنياً سرحت فى خزانة ملابسى محاولة الاقتراب من هذه الأشياء. أعرف أن لدى البنطلون الكارجو، لكن هذا الحذاء ؟؟

سألتنى:

- ومع ذلك هل لديك أى وظائف فى التمثيل ؟ لقد قمت ببعض أدوار التمثيل. أنا جيدة ؟

شرحت لها أننا لا نستأجر ممثلين. تلك رابطة الممثلين، حيث أعمل.

- أوه، نعم ؟ الممثلون لديهم رابطة ؟ هاها ؟ أنا أستطيع أن أكتب ثمانية وثمانين كلمة فى الدقيقة. اعتدت أن أعمل لدى وكيل دعاوى فى بيفرلى هيلز. ربما على أن أجدد سيرتى الذاتية، وأبدأ العمل على مدار الساعة.

أعتقد الآن أنها تسخر منى، تتظاهر بأنها تريد وظيفة فى هذا العالم السوى . محاولة أن تجعلنى أشعر بالغباء لأننى لدى وظيفة فيه. أجبت بأن ذلك مكتب صغير، ولا أعتقد أنه يوجد هنا أية وظائف خالية. شعرت على الفور بالأسف وأنا أقول " وظيفة خالية " لعاهرة ولكن مر هذا سريعاً.

- خراء نعم، لقد اعتدت أن أعمل لدى وكيل الدعاوى حتى ذهب إلى السجن، أعطيك فكرة حول كيف أنه كان وكيلا جيدا. ذلك عندما انخرطت فى التمثيل، كنت فى فيلم مع سان بين، ربما تكونين قد شاهدت هذا الفيلم.

انتظرت أن تقول لى عنوان الفيلم ولكنها لم تفعل.

- ربما سأفعل.

ذلك كل ما استطعت أن أفكر فى قوله. شعرت أنها تحبنى، أو بدقة أكثر، كل شىء أقوله، يغضبها بطريقة مضحكة.

- هل حقاً، ترغبين أن تشترى بعض المارجوانا أم ماذا ؟ ثقى بى، يبدو أنك تحتاجين، إنها من النوع الجيد.

- حسنا ، بالتأكيد.

قلت ذلك، ولكننى حقيقة لا أريد شراء أى شىء، فقط أريد أن أواصل الحديث معها. ضربت على يدها ضربة خفيفة وفجاة كانت هناك سيارة سوداء تقف مباشرة بالقرب من الرصيف أدركت أنها مثل السيارة التى غالباً ما أشاهدها تقف عند مقعد الحافلات ولكننى لا أعرف لماذا لم ألاحظها قبل الآن. الرجل الذى خلف عجلة القيادة يبدو قلقاً، كان ذا شعر قصير وممشط للخلف، وأنف مستقيم وطويل . شكله من جنب مثل قيصر على العملات الذهبية، كان يرتدى سويتر ذا قبة عالية ومع ذلك كان الجو دافئاً جداً بالنسبة لهذا , ربما كان أسود أو آسيويا، فى العشرينات من عمره أو ربما فى الخمسينات.

انزلقت سندريلا فى المقعد الخلفى للسيارة، تاركة الباب كدعوة مفتوحة، راقبنا السائق فى المرايا الخلفية بينما انزلقت بجوارها. أغلقت الباب وتساءلت لماذا بحق الجحيم فعلت ذلك ؟ كانت هناك موسيقى هوب هوب آتية عبر السماعات من خلف رأسى وعندما التفت السائق نحونا، جاء هواء يحمل رائحة كولونيا. هذا الرجل له راحة مثل رائحة إيريل جراى، مزيج من الشاى والفلفل الأسود، وكان ذلك مدهشا جداً مما جعلنى ابتسم.

- كم الثمن ؟

سألت وأنا أعلم أن ما معى من نقود لايكفى، كما لا يعنينى ماذا تكون الإجابة.

**

جالسة على الأرض بالقرب من غرفة معيشتى الفارغة، كرسى جلدى وحيد، وسجادة شرقية ونخلة على وشك الموت، أربعة أكوام من الكتب تستخدم كمنضدة، على التليفون مع دانى أحدثه كيف فعلت ذلك الشىء المجنون ؛ تاركة سندريلا والقواد يأخذانى إلى ماكينة الصرف الآلى وكيف اشتريت ما توقعت أن يكون ماريجوانا لم يصدق ذلك فى البدء. قال أن من الجنون حدوث ذلك. ووافقته على ذلك. ثم أراد أن أحكى له بالتفصيل. لذلك قلت له كيف أوقفنا السيارة على بعد خمس بلوكات من مكان عملى، وأيضاً على بعد خمس بلوكات من حيث تعمل سندريلا، خطر ذلك ببالى الآن. قلت كيف قدمت حفنة من لفائف الماريجوانا إلى الرجل خلف عجلة القيادة حيث كانت رائحته جيدة جداً لدرجة أنى أردت أن ألعقه. وكيف تم الاتفاق، أشعل لفافة رفيعة ومحشوة بالماريجوانا مع تشغيل التكييف وإيقاع موسيقى الهيب هوب، وكانت السيارة تقف بثبات، لكن كان احساسنا كما لو كنا نحلق فى السماء، دخنا خلف زجاج النوافذ الملون. الكثير الذى قلته، الكثير الذى تذكرته. كنت مندهشة لكل هذا الذى قلته، لأن المغامرة كلها استغرقت العشرين دقيقة الأخيرة فقط. معظم الوقت كان من أجل سندريلا، وعندئذ وقبل أن أعرف ذلك،عادت من حيث بدأت وهكذا فعلت.

فى الواحدة والنصف صباحاً رن جرس التليفون، كنت نائمة والتلفزيون مفتوح، لذلك فى البداية لم أكن متاكدة أن ذلك حقاً تليفونى. كان المتصل بالأحرى زوجى السابق.

- مرحباً، أنت.

قال ذلك بعدم جدية وبشكل ودود للغاية .

- من هذا ؟

قلت ذك، مستغلة بعض الوقت لكى أقرر إما أن أكون غاضبة أو مسرورة أو أفض الاشتباك.

زفر نفخة عدم صبر صغيرة فى الهواء، وهو يقول:

- إنه أنا، جيفرى.

- وإلى من ترغب أن تتحدث ؟

سألت، بصوت شخص ما وكأننى لا أعرفه.

- أنت، أريد أن أتحدث إليك، توقفى عن اللعب.

أنت. هى. إليها، أى شىء عدا ذكر اسمى. الشىء الوحيد الذى سمعته كان صوت شخص سكران، وهو يحاول أن يتنفس بشكل طبيعى.

- انا فقط أريد بقية أشيائى الخاصة. متى يمكنى أن أحضر ؟

- فى أى وقت.

- نعم ؟ ما رأيك الآن ؟

قال ذلك بصوت أجش، تاركاً جميع الاحتمالات معلقة فى الهواء.

أضغط عن طريق الخطأ على زر التحدث ويصدر التليفون صوتًا عاليًا بشكل غير طبيعي.، عندئذ ضغطت على الزر الإنهاء، وقلت: "مع السلامة. أنت " إلى رنين التليفون.

**

لم تأتى كيتى إلى العمل اليوم، تساءلت إذا ما كانت هناك علاقة بين الكدمات التى فوق ذراعيها لها علاقة بذلك. ولم تأتى فتيات مقعد الحافلات أيضاً، لقد كنت أفكر فيهن طوال الصباح ولم أفعل أى شىء لأكوام الملفات التى فوق مكتبى، كل أولئك الممثلين الموتى ينتظرون فى صبر. لقد تركت الشغل يتكوم أمامى، أحضر متأخرة وأغادر مبكراً وأقضى الوقت على التليفون. لم يحب المدير ذلك. طلب من امرأة أخرى فى المكتب أن تحضر إليه القهوة اليوم. من المفترض أن هذا يجعلنى أشعر بالإساءة. ومن المفترض أن يجعلنى ذلك حذرة.

اتصل دانى. إنه مخدر أو ثمل أو كلاهما معاً. يريد أن يتحدث إلى أحد ما، او بالأحرى يريد أن يكون مستمعاً. كالعادة، الحوار بدا أنه يجب أن يبدأ بدونى. دخل فى عمق قصة حول سمكة تدعى: ساركاستك فينجرهيد. أخبرنى أنها من الأسماك المحلية وأن لديها فكاك كبيرة جداً تمتد إلى الخياشيم. ولكنها نادراً ما تهاجم. وهى فقط تعطى بعضها البعض قدراً كبيراً من الأهمية. ثمه حماس وتوتر فى صوته يجعلنى أخاف قليلاً عليه. أريد أن أسمع هذه القصة مرة واحدة، أريد أن أصل معه إلى نقطة محددة، لكن عقلى مشوش، سمعته يقول جزيرة أناكابا ولكن فات الأوان. أفكر ثانية لماذا لا تجلس الفتيات على المقاعد اليوم، وإذا ما كان ابن كيتى الصغير يعرف سبب غياب أمه عن العمل .

- ... طولها فقط تسع بوصات، لكن هذا الشىء المهم أن لديهم ذلك السلوك المتعاظم النظرة المفزعة "

كان دانى يضحك الآن تقريبا، ثم أضاف:

- ولهذا السبب يجب علينا أن تغير اسمها من سندريلا إلى فرنجهيد ! إنه جيد.

- ماذا ؟

- أنت تعرفين، سندريلا...

سألته عن تدخين سندريلا للمارجوانا التى يدخنها هو وقال نعم وأننى لابد أن أحصل على المزيد. و أنه سيدفع المال. ثم أراد أن يعرف ماذا كانت تلبس سندريلا اليوم.

حدقت فى المقعد الخالى وقلت:

- تبدو فى لباس جيد، ترتدى الملابس الكاشفة، شرطى قصير جداً، يظهر أعلى مؤخرتها، مموه اللون بين البرتقالى والبنى الصحراوى. وتلف منديلا أصفر حول ثدييها كما لوكان صديرية نسائية، انها تبدو مثل قوس قزح جميل ودبق، وتلبس حذاءا ثقيلا، من ذلك النوع الذى يثقل رفعه، لكنه يجعل ساقيها يبدوان جميلتين .

سمعته يأخذ نفساً طويلاً من السيجارة...المارجونا ؟ كان يقرقر بها تقريباً. ثم قال شيئاً ما فى صوت حميمى هامس و بعد لحظة أدركت أنه لست أنا الذى يتحدث إليها. سألت:

- من هناك ؟

أخذ وقتاً طويلاً لكى يجيب. وقال:

- جوان.

كان مازال محتفظاً بالدخان فى رئتيه، ثم تركه يخرج كله:

- جوان.

قال ذلك مرة أخرى. لكننى لست متاكدة إذا ما كان يتحدث إلى أم ينادى عليها.

هناك امرأة عجوز على المقعد الآن. تحمل حقيبة تسوق المصنوعة من الحبال. وها هى الحافلة تتوقف من أجلها. قلت:

- تحرك الثعبان الأحمر حالاً ليأخذ سندريلا معه.

فقال مصححاً لى:

- فرنجهيد، ذلك هو اسمها الآن.

أجلت الذهاب إلى الغذاء بقدر ما أستطيع، لكن عندما غادرت المبنى لم يكن هناك أحد فوق المقعد. فقط جودى جورج، سمسارة العقارات بالرسومات على جبينها. قدت السيارة نحو ماكينة التصوير أمام مبنى الرايت أيد. دخلت الكشك وأدرت المقعد الدوار لأجعل نفسى أكثر ارتفاعا. سحبت الستارة الصغيرة و جلست بهدوء لدقيقة. شعرت أننى غير مستعدة لأى شىء. مثل الذهاب إلى رحلة معسكر، وليس معك سوى مشط وعلبة علك، ذلك ما أشعر به الآن.

غذيت الماكينة بكل العملات التى تريدها، وانتظرت، هناك خمس ومضات، ثم انتظرت أكثر، بينما الماكينة تصدر صوتاً. حدقت أسفل ولاحظت شريط الصور فى الفتحة. هل تمت العملية فعلا ؟ رفعت الشريط ورأيت زوجين سعيدين. وجهان يبتسمان للكاميرا والعالم. كيف جاء هذا الرجل إلى صورتى ؟ و لكنها لم تكن صورى. كانت على نحو ما موجودة فى الكشك من قبل. الزوجان هما اللذان نسيا ببساطة أن يأخذا صورتهما. ربما أخذا الزوجان عددا من الصور ونسيا هذه الصورة.

شريط آخر من الصور سقط فى الفتحة. تلك هى صورى ولكننى لم ألمسها، غادرت الكشك بما معى. صورة الزوجين اللذين لا أعرفهما.

كان المدير يجلس إلى مكتبى عندما عدت. وكان يبتسم ابتسامة عريضة وينظر نحو تليفونى. منتظراً منه أن يرن. أشعل السيجار الذى يحمله عادة، ولكنه لم يكن يشعله أبداً بسبب منع التدخين فى المبنى. لكنه لم يهتم بذلك هذه المرة. إنه يكسر القواعد ويعمل مزحة – فقط مثلى، أعتقد أن ذلك رسالة – نفخ سحابة من الدخان نحو تليفونى، ثم سحابة الى لوحة المفاتيح، ثم بعضا من الدخان مباشرة فى جهى حيث أقف بجواره. الجميع فى الحجرة يراقب. لقد بدت جلسته غريبة فى مقعدى لأنه كان مرتفعا جدا بالنسبة له، كما بدا أنه غير متوازن. وقفت هناك. غير متأكدة ماذا أفعل، ذراعى مطويتان على صدرى. كنوع من معانقة الذات . يمكنى أن أشعر بحواف الإطار المعدنى الذى سرقته من محل الرايت أيد داخل سترتى وأثر حدته على أضلعى. إنه من أجل صورة الزوجين اللذين لا أعرفهما. الأمر المضحك أن يكون ذلك مع صورة الزوجين اللذين لا أعرفهما، إلا أن الزوجين يبدوان أفضل على نحو ما. أدركت أننى ابتسم بشكل غير لائق.

جعلتنى رائحة السيجار أشعر قليلا بالدوار والغثيان، لكن فى الخارج وأنا أجلس على مقعد موقف الحافلات أخذت أتنفس بعمق فبدأت أشعر بالتحسن. هل أقول بالضبط " أننى استقلت " أم تخيلت ذلك عندما كنت خارجة من المبنى ؟ نظرت إلى أعلى عبر النافذة محاولة رؤية المكان الذى تعودت أن أجلس فيه. لكننى لم أستطع رؤية أى شىء داخل المبنى. استطعت فقط أن أرى أشجار النخيل منعكسة على الزجاج، سحب وأشجار نخيل على سماء سوداء.

توقفت الحافلة أمامى، وتومض أنظر خلسة: طريق الشمس الغارية / مركز المدينة التجارى. تطوى الأبواب إلى الخلف وينظر السائق نحوي. لم أركب قط حافلة مركز المدينة من قبل، لذلك قفزت داخل العربة وأخذت مقعداً بجوار النافذة، كانت الحافلة أنظف وأكثر خلاءا مما تصورت. عبر الممر كانت هناك امرأة ذات ساقيين ثقيلتين وقدمين منتفختين تبظان من حذائها. تومىء برأسها وهى نصف نائمة بينما الحافلة تهتز بشدة، وعند إشارة المرور لمحت موقف سيارتى هناك فى شارع جانبى. ثم سيارتى والبناية حيث أعمل – اعتدت أن أعمل - وهما تبتعدان. ثم اختفيتا جميعاً. إذا بقيت فى الحافلة لمدة كافية، فستعود بى مرة أخرى .

***

...........................

المؤلفة: شيريل ألو/ Cheryl Alu، كاتبة أمريكية ومخرجة تعيش في لوس انجلوس وتعمل بها ايضا. كتبت وأخرجت للتلفزيون العديد من المسلسلات والمسرحيات، كما نشرت العديد من قصصها القصيرة فى المجلات الادبية المعروفة، وهى المحرر الأول لمجلة Swink، والقصة المترجمة هنا منشورة فى موقع:

www.Barcelonareview.com

............................

WHOEVER YOU WANT ME TO BE

Cheryl Alu

***

After five years of marriage my husband stopped saying my name. At first, it seemed odd and I thought I might be imagining it, but after a while I accepted that it was true. What does it mean to say just that one word?—a person’s name. It can mean, I love you. Or, You betrayed me. Or, I’m happy for you. Or, I’m sorry for you. Or, Is that you? Or, Don’t worry, I’m here. I never thought about the power a name holds until I stopped hearing mine.

  In the building where I work I sit beside a wall of glass that faces the street. From my desk, which is two feet from another desk, in a room filled with desks, I watch the prostitutes who hang out at the bus bench on Sunset Boulevard. When no one is actually sitting on the bench, I can see the face of Judy George, Realtor of the Month. She looks successful and happy in her work. I watch the prostitutes while I do things like file the death certificates of recently deceased union members and stuff envelopes with smaller envelopes and form letters expressing the sorrow of the Screen Actors Guild for the passing of a loved one. Sometimes I’ll include a check for the beneficiary. A residual check earned by their dead actor relative for a performance in some minor TV or movie role that they probably don’t remember. Or maybe they do remember. Maybe it’s their favorite thing to remember about their dead actor.

  The other women in the office will often stop working and look out the window with me. The older ones are the worst. They make the nastiest jokes about the girls and what they do. I try to picture these women, my co-workers, doing the things they joke about, and I can’t. Then I can, and I wish I hadn’t. Katie is the only one who says she feels sorry for those girls. Katie is the only one I’ve told about my husband moving out. Whenever my mother calls from her home on the East Coast I say he’s in the shower or at the store.

  I spend a lot of time on the phone but not for business. Mostly, I talk to this guy I’m seeing now. I met him in a bar the day after my husband moved out. Danny has irregular hours and spends his afternoons getting high and calling me at work. He can talk at length about almost anything. He’ll start with some fact about dwarf stars, say, and then move on to maritime law, which might take him to celestial navigation; then onto sushi and from there it’s an easy segue to Japanese ceremonial suicide. He tells the kind of stories, that when he’s finished you wish you’d listened to the whole thing. But usually I don’t. Usually, I forget to listen and I let his voice be a soft background to my thoughts while I watch the girls on the bench.

  Most days, there are three or four girls in rotation. Cars pull up, a girl approaches the passenger side window and after a few seconds she usually gets in. Twenty minutes later she’s back. Twenty minutes is average. It can be as long as forty-five or as little as ten. I time them and when a girl is gone longer than an hour, I worry.

  Lately, I’ve been spending my lunch hours shoplifting from the stores on the low-rent end of Hollywood Boulevard. Small stuff. Underwear. Make-up. Travel-size bottles of anything. I never stole anything as a kid and I used to hate to be in a store with my father because he always stole things. I’d never actually see him do it but then in the car on the way home he’d put his hand in his jacket pocket and take out a hair clip or a pin or a bracelet. I hated those joyless gifts. Hated the way he’d just say, "Here," as if giving me change for the parking meter. I didn’t know why he took stuff but he seemed to need to do it. He had to leave the store ahead of the game. And so here I am doing the same thing. I tell myself I’m alone now and I have to watch expenses.

  Once, the store manager followed me out of the Rite-Aid and I ducked into a photo booth and pulled the dirty gray curtain closed. I watched the brown shoes with white socks stop beneath the stiff pleats of the fabric that separated us, and then they turned around and walked away.

  Every Thursday I go to lunch with Katie. She works in contract administration two desks away from mine. She has a seven-year-old son but she’s never been married. The thing about Katie is that she’s above-average beautiful. And she can make you feel beautiful too, as long as you’re not standing in front of a mirror with her beside you. She makes it easy to believe that the incredible way she looks is really just a clever trick that anyone could learn to do. Even you.

* * *

My favorite prostitute is the short blonde one who is always angry. I like that she doesn’t have the kind of body you’d think a woman would need to be a successful prostitute. No tits, no ass, no hips… just attitude. It makes me think maybe all men aren’t idiots after all. At least some of them must like a little attitude with their blowjobs. And this girl’s attitude comes across all the way to my second-story window. She’ll approach a car with her middle finger straight-armed out to the prospective client, calling out insults as if he’d somehow offended her by showing an interest. The finger might discourage a few of them, but not as many as you’d think. Most of the time she’ll drive off with the guy and when he brings her back she’ll jam that same finger into the air to say bye-bye.

  Since my husband moved out six months ago I haven’t met a man I don’t want to like me, even ones I loathe or feel indifferent toward. I want them all to want me. She, on the other hand, seems to want them all to hate her. The thing you learn about marriage is that when a person watches the Weather Channel for hours, he’s not really watching the Weather Channel, and the lies he tells are all the truth you need.

  On the phone with Danny I tell him about my favorite prostitute and he gets very interested, which is unusual for him, to be interested in a topic I’ve introduced. He asks me questions about her. Well, there’s her hair, I tell him. It’s too yellow but it works, and I like her odd way of dressing. Not overtly sexy, she mixes provocative with army surplus and manages to make it look sexy. What I really like is the way she closes a car door that unmistakably says "fuck you." She doesn’t slam it at all; she lets it go easy, her arm making a slight upward motion as it moves away from the door. Go on and go, it says. Who needs you?

  Danny has changed the subject and is talking about electron spin reversal and I’m thinking how do all the bus drivers on the Sunset route know not to stop when there are only the prostitutes at the bench, because they never do. Is this discussed at the bus terminal? Is it part of the training? My boss puts a piece of paper in front of me. On it he’s written Hang up now. I ignore it.

  "Danny," I say. " I have no idea what you’re talking about."

  "That’s okay," he says happily. "Neither did Joan."

  Joan is his stepsister. Her Greek father married Danny’s Irish mother when both their children were small. They grew up together—the pale, blond, beautiful Danny and his dark Mediterranean stepsister—looking like the negative and positive print of a picture.

* * *

Now when Danny calls, the first thing he wants to know is what’s she doing? Our favorite prostitute. We call her Cinderella, I’m not sure why. Maybe because her life so isn’t. I start with what she’s wearing. Then I describe the car she’s gone off in and we speculate about what she may or may not be doing, depending on the make and model of the ride. She’s become more real and unreal at the same time. She’s a little sex game we play, although we never speak about her when we’re together actually having sex.

  But then we don’t speak about a lot of things when we’re together. The future, for instance. Or the sad remains of my husband’s clothes that still hang in the closet. (If I don’t remember to shut the door I can see them when Danny and I are in bed.)

  We don’t speak about the fact that he’s in love with his stepsister. (I know this because he talks about her way too much, the way some guys talk disparagingly about an ex-girlfriend you both know he’s never going to get over. It’s clear the things he says he hates about her, the things he complains about the most, are the things he loves. Like Joan is so manipulative, and Joan is daddy’s little girl, and Joan lies but never gets caught, and everything comes too easy to Joan, and Joan’s never had a broken heart.)

  We never speak about the way his mother looks at me when she’s thinking that I’m closer to her age than his. (Apropos of nothing, one day she says to me, "Growing old isn’t that bad. Your skin gets a little loose is all.")

  We never, ever speak about what we do or who we do it with when we’re not together. The list of things we don’t speak about is long and interesting and growing all the time.

* * *

"Do you want to buy some pot?" It’s her, my favorite bus bench girl. She’s standing in front of the double glass doors at the entrance to my office building talking to me.

  "I work here," I say, indicating the building behind her, in case she may not have noticed it.

  "Yeah. I’ve seen you goin’ in and out," she says. "You always look so sad. Job must be a bitch. You want to buy some pot?"

  "Well, I guess everybody has to deal with their share of assholes in this life, right?" I say this and hope she’ll go back to her bus bench. Back to the place where she belongs, where I can make sense of her. But she doesn’t move. She studies me and it makes me feel awkward, clueless and badly dressed. She’s wearing a black bra clearly visible under a white nylon blouse, several sizes too small, and low-riding cargo pants and very high heels. She uses a necktie as a belt and manages to make it all look like cutting-edge fashion that everyone is going to be wearing in the next five minutes. I think it has a lot to do with her no-tits-no-hips body. I mentally go though my own wardrobe trying to approximate this outfit. I know I have cargo pants; but those shoes?

  "So, you got any acting jobs? I’ve done some acting. I’m good."

  I explain that we don’t hire actors. This is the actors’ union, where I work.

  "Oh, yeah? Actors have a union, huh? I can type eighty-eight words a minute. I used to work for an attorney in Beverly Hills. Maybe I’ll freshen up my résumé and start punchin’ a time-clock."

  Now I think she’s making fun of me. Pretending to want a job in the straight world. Making me feel foolish for having one.

  I answer that it’s a small office and I don’t think there are any open positions. I immediately regret saying "open positions" to a prostitute but the moment goes by quickly.

  "Shit yeah, I used to work for an attorney until he went to jail. Gives you some idea how good of an attorney he was. That’s when I got into acting. I was in a movie with Sean Penn. Maybe you saw it."

  I wait for her to say the title but she never does.

  "Maybe I did," is all I can think to say. I sense that she likes me, or more accurately that I, and everything I represent, displeases her in an amusing way.

  "So, you want to buy some pot or what? Trust me, you look like you need to get high. It’s good stuff."

  "Okay, sure," I say. But I don’t really want to buy anything. I just want to keep talking to her.

  She flicks her hand and suddenly there’s a black Towncar right up close to the curb. I recognize it as a car I’d seen often at the bus bench and I don’t know why I hadn’t noticed it before now. The guy behind the wheel looks bored. He has close-cropped hair combed forward and a long straight nose. It’s the profile of a Caesar on a gold coin. He wears a cashmere turtleneck sweater even though it’s too warm for it. He could be Black or Asian. He could be twenty or fifty.

  Cinderella slides into the back seat of the car, leaving the door as an open invitation. The driver watches in his rear-view as I slide in beside her. I close the door and wonder why in hell I’m doing this. There’s a soft hip-hop beat coming from a speaker behind my head and when the driver turns around to us, the moving air brings the smell of his cologne. This man smells like Earl Grey tea and black pepper. It’s so wonderful it makes me smile.

  "How much?" I ask, knowing I don’t have enough cash no matter what the answer is.

* * *

Sitting on the floor of my nearly empty living room—one leather chair, one Oriental rug, one dying palm, four stacks of books that make a table—I’m on the phone with Danny telling him how I did this insane thing; letting Cinderella and her pimp drive me to my ATM and how I bought what I hope is marijuana. He doesn’t believe it at first. He says that it was a crazy thing to do and I agree with him. Then he wants details.

  So I tell him how we parked five blocks from where I work—also five blocks from where Cinderella works, it occurs to me now. I tell him how I gave a handful of twenties to the man behind the wheel who smelled so good I wanted to lick him. And how, once the deal was done, he lit a very thin and perfect joint, and with the A/C blasting, and the hip-hop thrumming, and the car standing still—but feeling as if we were floating—we smoked behind tinted windows. The more I tell, the more I remember. I’m surprised how much there is to tell because the whole adventure only lasted twenty minutes. The usual amount of time for Cinderella. And then, before I knew it, she was back where she started and so was I.

  At one-thirty in the morning the phone rings. I sleep with the TV on now so at first I’m not sure if it really is my phone. The caller is my soon to be ex-husband.

  "Hello, you," he says too casually. Too friendly.

  "Who is this?" I say, buying some time to decide whether to be angry, pleasant or disengaged.

  He gives out an impatient little puff of air. "It’s me. Jeffery."

  "And to whom do you wish to speak?" I ask, sounding now like someone I don’t even know.

  "You. I want to speak to you. Stop playing."

  You. Her. She. Anything but my name. The only thing I hear is the sound of a person who’s drunk, trying to breathe normally.

  "I just want the rest of my stuff. When can I come over?"

  "Anytime."

  "Yeah? How about now?" he says, thickly. Letting all sorts of possibilities hang in the air.

  I push the Talk button by mistake and the phone beeps unnaturally loud. Then I push the End button and I say, "Good-bye, you" to the dial tone.

* * *

Katie isn’t at work today and I wonder if the bruises on her arm have anything to do with that. No bus bench girls either. I’ve been thinking about them all morning and doing nothing with that stack of files on my desk. All those dead actors waiting patiently. I’ve been letting the work pile up, coming in late, leaving early and spending lots of time on the phone. The boss doesn’t like it. He asks another woman in the office to get him his coffee today. This is supposed to make me feel bad. This is supposed to be a warning.

  Danny calls. He’s stoned or buzzed or both. He needs to talk; or rather, he needs to be listened to. As usual, the conversation seems to have started without me. He’s already halfway into a story about a fish that’s called the Sarcastic Fringehead . They’re very territorial, he’s telling me, and they have big, oversized jaws that extend nearly to the gills. But they rarely fight. They just give each other lots of attitude. There’s a nervous excitement in his voice that makes me a little afraid for him. I want to hear this story through. For once, I want to get to the point of it with him, but my mind shifts. I hear him say Anacapa Island but it’s too late. I’m already thinking again about why the girls aren’t on the bench today and if Katie’s little boy knows why his mother isn’t at work.

  "…and they’re only nine inches long but the thing is, they have this major attitude and they get all scary looking…" Danny is almost laughing now. "And so that’s why we have to change her name from Cinderella to Fringehead. It’s perfect."

  "What?"

  "You know, our Cinderella…"

  I asked him if it’s our Cinderella’s pot he’s been smoking and he says, yes, and I should get more. He’ll pay. Then he wants to know what she’s wearing today.

  I stare out at the empty bench and say, "She looks good. She’s wearing the cut-offs. The really shorts ones that show some butt-cheek. They’re camouflage, the orange and brown desert kind. And she has a yellow bandana tied around her boobs as a kind of halter-top. She’s like some tacky beautiful rainbow. And the chunky boots. The ones that look too heavy to lift. But they make her legs look great."

  I hear him take a long drag on a cigarette….a joint? He almost purrs doing it. Then he says something in a low intimate voice and after a second I realize it’s not me he’s talking to.

  "Who’s there?" I ask.

  He takes too long to answer. "Joan," he says, still holding the smoke in his lungs. Then he lets it all go.

  "Joan," he says again. But I’m not sure if he’s talking to me or calling to her.

  There’s an old woman on the bench now. She has one of those rope shopping bags and the bus is stopping for her.

  "A red Viper’s just pulled up and Cinderella’s going for it," I say.

  "Fringehead," he corrects me. "That’s her name now."

  I put off going to lunch as long as I can, but when I leave the building there’s still no one there on the bench. Only Judy George, Realtor of the Month, with graffiti on her forehead.

  I drive to the photo machine in front of the Rite-Aid. I go inside the booth and spin the round seat to make me taller. I pull the little curtain closed and sit quietly for a minute. I feel unprepared for everything. Like going on a camping trip with just a comb and pack of gum. That’s what it feels like now.

  I feed the machine all the quarters it wants and I wait. There are five flashes and then I wait some more. While the machine makes developing noises I glance down and notice a strip of photos in the slot. Done already? I lift it out and see a happy couple. Two faces smiling for the camera and the world. How did this man get into my pictures? But they’re not my pictures. They’re of whoever was in this booth before me. A couple who simply forgot to take their pictures with them. A couple who probably took bunches of pictures and forgot about these.

  Another strip of photos falls into the slot. These are my pictures, but I don’t touch them. I leave the booth with what I have. The couple I don’t know.

  The boss is sitting at my desk waiting for me when I get back. He’s grinning and looking at my phone, watching it ring. He’s lit that cigar that he always has but never lights because there’s no smoking in the building now. But he doesn’t care about that. He’s breaking the rules and he’s having fun doing it—just like me, I think, is the message. He blows thick hot smoke right onto my phone and then some right onto my keyboard and then some right into my face while I’m standing next to him. Everyone in the room is watching. He looks odd sitting in my chair because it’s too high for him and he seems precariously balanced. I stand there, not sure what to do, my arms folded across my chest, kind of hugging myself. I can feel the edges of the metal frame I stole from Rite-Aid inside my jacket and sharp against my ribs. It’s for the picture of the couple I don’t know. The funny thing is, it came with a picture of a couple I don’t know, but my couple seems better somehow. I realize I’m smiling inappropriately.

* * *

The cigar smell made me a bit dizzy and nauseous but outside, sitting on the bus bench, I take a few deep breaths and I begin to feel better. Did I actually say "I quit" or did I imagine that part as I was walking out? I look up at the window trying to see the place where I used to sit but I can’t see inside the building. I can only see palm trees reflected in the glass. Clouds and palm trees against a black sky.

  A bus stops in front of me, blinking Sunset/Downtown. The doors fold back and the driver looks down at me. I’ve never taken a bus downtown so I climb on board and take a seat near a window. The bus is cleaner and emptier than I thought it would be. Across the aisle is a woman with heavy legs and feet swelling up out of her shoes. She’s nodding, half asleep. As the bus jerks away and into traffic I catch a glimpse of my car parked there on the side street. Then my car and the building where I work—used to work—moves into the distance. Then they’re gone. If I stay on the bus long enough it’ll bring me back.

author bio

Cheryl Alu is a writer/producer living and working in Los Angeles. She has written and produced series television for ABC, NBC, Fox, UPN, and Nickelodeon. She is presently writing for Columbia-TriStar Television. She is also Senior Editor of Swink, a literary magazine just launched this year. She is currently at work on a collection of short stories. This is her first published fiction.

Cheryl Alu is a writer/producer living and working in Los Angeles. She has written and produced series television for ABC, NBC, Fox, UPN, and Nickelodeon. She is presently writing for Columbia-TriStar Television. She is also Senior Editor of Swink, a literary magazine just launched this year. She is currently at work on a collection of short stories. This is her first published fiction.

بقلم: موريس رولينا

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

مرفوقا بقناع الكذب

يتابع الكلام طريقه،

يتذلّل اليوم، يسلب غدا،

ينكمش أو يتمدّد.

يَقْبِض مثل يد

ويفلت مثل خيال.

مرفوقا بقناع الكذب

يتابع الكلام طريقه

قلوب من الشاش والرقّ

يبتلعها كل واحد مثل إسفنجة،

وإلى حدّ قاع الهوّة الإنسانية

يندسّ  ويرتمي

مرفوقا بقناع الكذب.

***

موريس رولينا - "الأرواح في الأمراض العصبية"  - فاسكال 1917

...........................

Maurice ROLLINAT—LA PAROLE

Avec le masque du mensonge

La parole suit son chemin,

Rampe aujourd’hui, vole demain,

Se raccourcit ou bien s’allonge.

Elle empoigne comme une main

Et se dérobe comme un songe.

Avec le masque du mensonge

La parole suit son chemin.

Cœurs de gaze et de parchemin,

Chacun la boit comme une éponge,

Et jusqu’au fond du gouffre humain

Elle s’insinue et se plonge

Avec le masque du mensonge.

***

Maurice Rollinat —Les Âmes In Les Névroses, Fasquelle., 1917.

قصة: كاثرين كونر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لا توجد أقبية في ذلك الجزء من ولاية ميسيسيبي، لذلك تتجادل الأختان في الليل في غرفة الضيوف بالطابق الثالث. تشربان الكولا من قوارير زجاجية خضراء وتقرر جريتا كيف ستقتل كلب إيلي الأصفر.

تقول جريتا:

- بالسم.

تجلس على الأرض عند قدمي روث. ثوب نومها، كبير جدًا، يتراكم حولها على السجادة.

تقول روث:

- ماذا بعد؟

-  إنه في الحظيرة.

تقول روث:

- لن أشارك.  أنت لا تعرفين إيلي.

- لقد قلت لك ما قاله.

تضرب جريتا قبضتيها، كما لو كانت غاضبة، لكنها لا تفكر في استهزاء إيلي أو إعوجاج فمه عندما قال تلك الأشياء عن والدتهما. تفكر، بدلاً من ذلك، في شعره الشاحب الذي يتقلب على عين واحدة، في ساقيه الخرقاوين، ويداه الكبيرتين جدًا.حذرته. لم يتراجع،  لذا أخبرته بما ستفعله بكلبه الأصفر النباح. سيحاول منعها بطريقة ما.تتخيل مطاردة، مواجهة في الغابة خلف منزله.

تقول جريتا:

- أنا لست خائفةا من إيلي.

تبتلع آخر كولا لها. تجمع حاشية عباءتها وتلفها في عقدة لإبعادها عن الوحل. الفستان بلا أكمام، لذا قامت بسحب سترة فوق رأسها ووقفت وذراعاها إلى الأمام، بينما قامت روث بتسوية  السترة على كتفيها وصدرها.

تقول روث:

-  يجب أن نرتدي السراويل.

- هذا أفضل.

تقذف جريتا إلى روث شالاً. إن ذراعي روث، وهي تمدهما للخارج، طويلتان ومتناسقتان بالفعل. روث تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا، تكبرها بسنتين فقط، ولكنها تختلف عن جريتا، فهى مثل والدتها.

تقول روث:

- إيلي يحب ذلك الكلب.

- هذا الكلب ليس على ما يرام على أي حال.

لقد ضربت جريتا إيلي، وضربته في فمه الكبير الناعم بسبب ما قاله. عندما فعلت ذلك أمسكها من معصمها، ووضع يدها هناك عند فمه ومسح القليل من الدم على راحة يدها. ثم رفع يدها بعيدًا، وقال:

- لقد رأيتك تتبينعها. لقد رأيت الكثير. أكثر مما قد تكون .

ولم يكن افتراء بعد كل شيء، لأن ما قاله عن والدتها كان صحيحًا. تعرف جريتا والدتها. كانت تتابع والدتها في فترة بعد الظهر.

ويوم السبت، في وقت متأخر من الليل، وأحيانًا في الصباح الباكر. تعلم جريتا أشياء عن والدتها لم تعلمها روث، ومنذ أسابيع فقط اكتشفت جريتا والدتها لأول مرة وهي ترقص وسط  القش ونشارة الخشب لإيلي، الذي كان يجلس في الكشك ويشاهد.

كانت هناك مرات أخرى، قبل لحظات كان ينبغي أن تنتبه لذلك: والدتها على حصانها بدون سرج، وإيلي خلفها، ذراعاه ملفوفان حول خصرها. وعندما علمته أمه جيدًا، جعلت إيلى يجلس على مقدمة الحصان، وركبت هى خلفه، ثدياها يضغطان على ظهره، وفمها قريب من أذنه ترشده لاستخدام اللجام والميل إلى اليسار، يسحب للخلف ويضغط على بطن الحصان بكعبه. لم تبدو والدتها هكذا من قبل، بكل هذه القوة  والحيوية، وقد ملأت الابتسامة وجهها.

تقول روث:

- لن تقتليه، حقًا.

- سأذهب وحدي.

-  أنا ذاهبة إذا كنت كذلك.

تضع جريتا يدها في يد روث. يد ناعمة، شيء لطيف الملمس، وتمسكها جريتا بإحكام على طول الطريق على درجات السلم الثلاثة. الوقت متأخر بالفعل، بعد منتصف الليل، والبيت هادئ لأنها تقود روث إلى المطبخ. هنا، وجدتا مكعبات من السكر لتحلية السم.

تلف جريتا السكر في قطعة مربعة من شاش الجبن. وهى تقول:

-  الزرنيخ ليس له طعم.

تقول روث:

-  أنت لا تعرفين.

في الخارج، تسيران في ممر عشبي ضيق يؤدي إلى الاسطبلات. إنه أوائل الربيع، وقد خرجت الحشرات بالفعل وبصوت عالٍ في الظلام. تنمو أشجار المسيسيبي حيثما أمكنها ذلك، فتنمو بأغصان متكتلة معًا، متداخلة وتجعلها أغمق مما ينبغي. جريتا وروث يتكلمان قليلا وهما يمشيان. تعمل جريتا على التحرك ببطء، للتغلب على الرغبة في الركض إلى الاسطبلات لتهزم روث وساقيها الطويلتين. تبدأ في القفز، ثم تتبخنر وتأرجح ذراع روث لأعلى ولأسفل. توقفها روث على الطريق، تستدير وتواجهها.

تقول روث:

- توقفى عن ذلك يا جريتا. سوف تستيقظ الكلاب. أنت لا تعرفين كيف تتسللين. أنت تركضين وتدوسين الأشياء.

تقول جريتا:

- لا تقولى ذلك.أنت تفسدين كل شيء.

تصلان إلى الاسطبلات ويمران على صفوف من الأكشاك، بعضها فارغ ولكن الكثير منها مع الخيول، ينامون أو يجرون إلى نوافذهم ليشتموا المتسللين. في بعض الأحيان، يمتلئ الإسطبل بالخيول، وستقوم أمهم بتوظيف صبي إضافي للمساعدة في الماء وإطعام الحيوانات، وتمشيط أعرافها وتنظيف حوافرها. وقد تم التعاقد مع إيلي بهذه الطريقة، كصبي إضافي في البيت المجاور كان سيساعد فقط في عطلات نهاية الأسبوع. لكنه تحول إلى عامل مجتهد. واحتفظت به والدتهما الآن، وهو الوحيد الدائم. الآخرون هم الذين يأتون ويذهبون، أولاد مراهقون بصدور نحيفة، بشعر مشذب، وأرجل رفيعة ذات كدمات وجروح. راقبتهم جريتا لسنوات من سطح المنزل أو من النوافذ أو من أبواب الحظيرة الطويلة. تتذكر ما شعرت به ذات مرة - طفلة تبلغ من العمر ثمانية أو تسعة أو عشرة أعوام، حتى لو كانوا غرباء عنها، كائنات من زمن بعيد.

تقول روث:

- سوف يستيقظ. نوم  يلي خفيف.

تسقط جريتا يد روث.

- هذا تخمين.

تنظر بقوة إلى الممر الطويل الذي يمتد أمامهما، مضاءً فقط بمصابيح صغيرة تتدلى من عوارض السقف. المكان غائم، مضبب بالغبار، من شعر الخيل والظل. تقضي جريتا أحيانًا ساعات هنا، تراقب والدتها. شيء فعلته وتتذكره جيدا، لأنه لم يكن  هناك قبل ذلك أية أولاد هنا على الإطلاق، وكانت والدتها ورث هي نفسها لرعاية الخيول. ولكن لم يكن هناك الكثير من الخيول في ذلك الوقت، وفتحت والدتها الحظيرة للخيول، ثم بدأ كل شيء في الازدهار. كان الأمر أكبر بكثير على والدتها وحدها، ولم يكن هناك أب. لم يكن هناك أب من قبل، ولكن فقط "هذا الرجل"، صورة ضبابية في ذهن جريتا، لشيء طويل، شيء ثقيل وأبكم. لذلك استأجرت والدتها الصبيان وبستاني وحارسا للأرض، ولم تعد هناك فى حاجة إلى جريتا وروث هناك، في الحظيرة، على الإطلاق.

لكن جريتا تواصل الذهاب، كل يوم في معظم الأوقات، لمشاهدة والدتها بوضوح، وهي ترفع كتل الملح البيضاء الصلبة، وتثبيتها بدقة في مكانها لكل حصان. تمتزج النبضات العميقة لصوتها، وهي تغني وهي تنتقل من كشك إلى كشك، مع أزيز الثلاجة في المكتب، والطنين المنخفض لآلة الحصاد  البعيدة في المراعي. وأحيانًا تخنبىء جريتا خلف كتل كبيرة من القش وتجلس ساكنة جدًا وهادئة، وهي متأكدة من أن والدتها لا تعرف أبدًا أنها موجودة هناك. ومن ثم، تراقب والدتها وهى تقفز على طول الممر، وحذاؤها يرن وينفض الغبار الذي تفوح منه رائحة القش والسماد الحلو. تراقب والدتها وهي تجلس على كرسي وتنظف خيولها، وأكمامها مرفوعة فوق المرفقين لتظهر ذراعيها المدبوغتين ومعصميها الضئيلان اللذين يدعمان يديها الكبيرتين  بطريقة ما، بشكل مستحيل، - أكبر، حتى، من أيدي البعض رجال. ستكون روث مثلها تمامًا. الجميع يقول ذلك.

تقول جريتا، وهي تقود روث إلى أسفل الممر:

- هذا الطريق.

- أعرف الطريق. لا تدليني على أي طريق.

غرفة المخزن في الجزء الخلفي من الحظيرة، خلف كومة من الدلاء الفارغة. تسحب جريتا المقبض حتى يفتح الباب وتدع الدلاء تتدحرج في الزاوية. في الداخل، قاما بدراسة صفوف الأرفف المكدسة بالمقاود القديمة وأطواق الكلاب، والشامبو اللزج والبطانيات وزوج من أحواض معدنية كبيرة. توجد هنا أيضًا سموم، متناثرة بطريقة عشوائية، حمام للبراغيث وغطس للقراد، قطعة صابون للقمل، وخلف ذلك، زجاجة من الزجاج البني مع ملصق، " للجرذان "

تقول جريتا:

- للكلاب.

تمسك روث شالها وتقترب من جريتا.

- هذا أمر خطير يا جريتا.

تقول جريتا وهي تهز الزجاجة :

- ليست ممتلئة.

- كم ستحتاجين؟

-  أقل مما يستخدم لشخص.

تقول روث:

- أنت لم تفعلى هذا بشخص أبدًا.

- ولا أنت أيضا

*

ليس منزل إيلي بعيدًا ويمكنهما الوصول إليه دون الخروج إلى الطريق، وعند ذلك عليهما اجتياز  غابة، وسياجين، ومستنقع.

تقول روث:

- الطريق أسرع.

- هل تريدين أن يرانا أحد؟

تقول روث:

- لا يوجد أحد هنا.  على الإطلاق.

لكن جريتا تتجاهلها وتقودها عبر الأسوار وإلى المستنقع الذي ليس مستنقعًا حقًا، ولكنه بقعة منخفضة من الأرض، غمرتها الأمطار الكثيرة. يغرق الماء قدمي جريتا من خلال صندلها. كانت  روث ترتدي حذاء طويل الرقبة  تحت رداءها،لذلك لم تبتل، باستثناء ذيل ثوبها الذي وصل إلى الوحل.

تقول روث:

- كان يجب أن نرتدي السراويل.

خاضتافى الماء وهما  تنفضان الحشائش والطين. ويزعجهما سرب من الذباب الكبير، يطير و يدور  ويصطدم بإذن جريتا. التى تنز بالعرق تحت أثوابها القيلة. ثمة رائحة هنا، رائحة المستنقع والعفن والسوس. وشيء آخر، شيء لاذع ومحموم، شيء مألوف لا تستطيع تحديده.  تقول:

- ما هذا؟

تقول روث:

- اسمعى.

من مكان ما إلى الأمام، يأتي نباح خافت متقطع - ثلاثة أصوات قصيرة، وقفة، ثم ثلاثة أخرى.  عرفت جريتا الصوت في الحال،  لقد سبق ان سمعته مرارًا وتكرارًا. يجلب إيلي الكلب للعمل كل يوم ويقيده في كشك خال. غالبًا ما تقبع جريتا هناك، والشيء القبيح يلهث بجانبها، بينما كانت تنظر خلسة عبر الباب ومن خلال الشقوق إلى والدتها، وإلى إيلي. ومن هناك شاهدت والدتها ترقص له. كان المشهد واضحا لدى جريتا في ذلك اليوم، كانت والدتها في الكشك عبر الممر، وذراعاها فوق رأسها، وهي تتلوى وترفع يديها  إلى أعلى. كانت بلوزتها مفكوكة وكشفت عن بطنها العاري بينما كانت تغني وتطوح شعرها، أيضًا، الذى كان قد سقط من كعكته ليطير حولها وبدا وكأنها تملأ الكشك كله بصوتها الهادئ العذب. لكن كان هناك متسع لكل منهما، لأن إيلي جلس داخل الكشك وأخذ يشاهد. كانت والدتها تقترب برأسها منه في كل مرة تدور فيها. لم تلمسه إطلاقا حتى أنهت رقصها، عندما سوت ملابسها ونفسها،  سلمت له مجرفة ثم ربتت على شعره قائلة، "لنعد إلى العمل، أتسمع؟"   لا تعرف روث شيئًا عن هذا. لم تخبرها جريتا قط.

-  إنه مستيقظ.

تخبطت روث خلفها فى الماء، فتستدير جريتا لترى أختها وهي ترفع ساقيها عالياً، مثل المشية العسكرية، ذيل ردائها مضغوطًا بين ذراعيها. ثم تضيف:

- قلت لك.

تقول جريتا:

- اصمتى يا روث، سوف يسمع.

تتلفت حولها، وتنغرز في الوحل وتسقط،  ينتفخ ثوبها وهي تضرب الماء بيديها.

تقول روث:

- ماذا تفعلين؟

الماء راكد ودافئ وممتليء بالحشرات والنباتات التي تكسر سوقها المنتفخة طبقة رقيقة من الزبد على السطح. شيء ما يوخز ضلوع جريتا بقوة، فتخرج زجاجة السم من سترتها وتلوح بها إلي روث. تقول:

- سنجده.

تقول روث:

- أنت في حالة من الفوضى.  انهضى. سأحضر أمي.

-  لن تفعلى.

- ثم سأعود إلى الحظيرة

- اترك. لن تفعلى

-  اخرسى، يا جريتا. لا تتظاهر بأنك تعرفين.

تقول روث ذلك وهى تمسك حافة ثوبها بين ذراعيها، وقد ابتلع الحذاء ساقيها البيضاوين. كان الحذاء ذات يوم لوالدتها وهو كبير  جدًا بالنسبة لروث، لكنه  أكبر بكثير بالنسبة إلى جريتا، التي غالبًا ما تتسلل إلى خزانة روث لتجربة تنانيرها وأحذيتها ذات الكعوب العالية و كذلك سراويلها الداخلية.

تقول جريتا:

- هل سأغرق في هذا الماء ؟.  لا أعتقد أنني لن أفعل ذلك.

ايلي قادم. إنه يقترب منهما، وهي متأكدة من ذلك. إنها تعرفه، تعرف أنه لا ينام بل يخرج في الليل. كانت تتبعه هي ووالدتها كثيرًا منذ اليوم الذي رقصت فيه والدتها له في الحظيرة. في المدرسة، تجلس وتفكر في الاثنين، فيما سيفعلانه بعد ظهر ذلك اليوم، أو في ذلك المساء عندما تصعدت هي وروث إلى الفراش. تتمتد على فراشها ليلاً وتتساءل عما إذا كانا هناك، يرقصان تحت الأشجار أو تحت سقف الحظيرة المظلم. بدأ الأمر على هذا النحو، مع الحيرة، حتى لم يعد بإمكان جريتا تحمله، وذات ليلة انسلت من الفراش بحذاء مطاطي فى قدميها وغادرت المنزل للبحث عنهما. لم يكن عليها أن تذهب بعيدًا. في الحظيرة، كانا ملتصقين  تماما، يضغط إيلي بذراعيه على ظهر والدتها. إنه أطول بكثير منها، حتى عندما تحدثت، كانت كلماتها مكتومة فى صدره. تلمست يداه الكبيرتان شعرها وكتفيها ونزلتا إلى وركيها. لم تنم جريتا طوال تلك الليلة. استعادت المشهد فى عقلها، فمهاهما مفتوحان ولعابهما سائل، مما جعل جريتا متوترة بشدة، تشعر بوخزات فى جسدها تحت الملاءات.

تقول:

- لن يفلت من العقاب. " أنا حذرته. أخبرته بما سأفعله بكلبه القبيح .

لقد قطعت الوعد بعد أن ضربته. قال لها: "اذهبى وحاولى". حدث شيء ما مؤخرًا وأصبحت اللقاءات بين والدتها وإيلى  نادرة، لم تعد كل ليلة أو حتى كل ليلتين. حاولت جريتا أن تصرخ في وجهه بأنها تعرف السبب، وأنها كانت تعرفه طوال الوقت. لكن هذه كانت كذبة، وبينما كانت تراقب ظهره النحيل، عاريًا ومنمشًا ولامعًا وهو ينحني على كرة متشابكة من الأسلاك الشائكة في العشب، أدركت أنه سيعرف ذلك.

تقول روث:

- أنت لا تهتمى بقتل ذلك الكلب. أليس كذلك ؟

تسحب جريتا ساقيها بسرعة وتقف. الماء يتدفق من ثوبها. فمها مفتوح، ويلتصق هواء المستنقعات الحامض بلسانها، وخلف الأشجار مباشرة ترن سلسلة الكلب، وحفيف قدمي إيلي الكبيرتين وذراعاه الثقيلتان تضربان الأغصان. يطفو عليها بياض قميصه، ويبقى هناك للحظة، هيئة شخص رفيع  طويل يخرج من الظل. ولكنه يختفى مرة أخرى، بنفس السرعة، ضباب أبيض يتخلل الأشجار.

تلوح جريتا لروث التي كانت تتراجع:

- تعالى.  . تعالى يا روث.

وتتبعانه. تشقان طريقهما بين الأعشاب وجذوع الأشجار المتعفنة. تتركان المستنقع خلفهما وتدخلان في الغابة. وراء إيلي، يقودهما وميض أبيض من قميصه وسط الأوراق، ووميض من رأسه الشاحب أيضا.

*

تقول راوث: - إنه يأخذنا إلى المنزل، وهي على حق. هناك، أمامك مباشرة، هو السياج الأول. قريباً، الثانية وتركا الغابة خلفهما، وعبرتا إلى الفناء الخاص بهما، وسيصبح كل شيء مرئيًا الآن. كلهم أيضًا، وعندما يصلون إلى الحظيرة، عندما يكملون دائرة، يدور حولهما ويواجههما.

يقول:  - كلاكما.

تغطي قبعة بيسبول شعره الشاحب وتخفي عينيه. لا تستطيع جريتا معرفة ما إذا كانت كلماته موجهة إليها أم إلى روث. تجيب روث أولاً، تقول:

- بالطبع

- أمكما ستقتلكما .

تقول راعوث: - لن تقول لها . تتحرك نحوه، قريبة بما يكفي الآن لأن تلمسه. يخلع قبعته ويبدأ في تهوية نفسه. ثمة أخدود وردي يمتد عبر جبهته، حيث يضغط الغطاء على جلده. تتساءل جريتا عما إذا كان بإمكانها أن تشعر بالإثارة، إذا ما لمس إصبعها جبينه الأملس الشاحب.

يقول إيلي:

- كيف تعرفين ما إذا كنت سأخبرها؟

تقول روث:

- لن تفعل أبدًا.

يحدقان في بعضهما البعض، إيلي وراوث. إنهما في نفس العمر وكلاهما في السنة الأولى من المدرسة الثانوية. لكن جريتا لم ترهما يتحدثان كثيرًا هنا في المنزل. ليس حتى الآن، وبدأت جريتا تشعر بالحكة تحت سترتها وثوبها. إنها ساخنة، مختنقة، يلتصق النسيج الرطب بلحمها، وتضع زجاجة الزرنيخ بين ركبتيها، تنتزع السترة عبر رأسها وترميها في العشب. يحاول الكلب مطاردتها، لكن إيلي يمسك بالسلسلة ويمنع الكلب ترتفع ساقها الأماميتان في الهواء معافرة.

قال إيلي لروث:

- أختك تريد قتلي.

يستند إيلى على جدار الحظيرة ويثني ذراعيه على صدره.

تقول راعوث:

-  نعم.

- هل تعرفين لماذا؟

- نعم.

-  ما رأيك ؟

تقول روث:

-  أعتقد أنه لا ينبغي عليك على الأرجح أن تقول أشياء عن ماما لجريتا.

نظرت مرة أخرى إلى جريتا. ثم أضافت:

- إنها لا تفهم أنك لا تعني ذلك.

- هو يعني ذلك. إنه يعني كل شيء .

تضغط جريتا بكفها على الزجاجية الثقيلة للتأكيد.

قال إيلي لروث:

- أخبرى أختك أنها لا تستطيع أن تقطع عظمة .

تقول راعوث:

- إنها تعرف،

تقول جريتا:

- أخبريه أنه لا شيء. أعرف ما سيكون عليه، مثل كل الآخرين مع كلابهم السمينة  العجوز القذرة،  حافية القدمين. رجال كبار قبيحون، مشعرون، سمينون للغاية بالنسبة لأكواخهم الصغيرة.

يبتعد إيلي عن الحظيرة، ويأخذ عدة خطوات نحو جريتا.

-  قولى لها أن والدتها عاهرة .

قالت جريتا لإيلي، وهى تحمل زجاجة السم في يدها:

- لقد أخبرت أمى بما قلته. إنها لا تريد رؤيتك مرة أخرى.

-  ما هذا الذى في يدك؟

تقول جريتا

-  ماء للكلب ،  تعال وخذه.

تنقر بلسانها، كما تفعل والدتها عند استدعاء الخيول.

لكن إيلي لا ينتبه. إنه ينظر فوق رأس جريتا، أسفل الطريق المؤدي إلى المنزل. تستدير جريتا ويظهر بريق من الضوء في نافذة غرفة المعيشة.

تقول جريتا:

- سأذهب وأخبرها الآن.  سأخبرها بما دعوتها به. فقط انظر ماذا تعتقد .

ودون انتظار رده، تنطلق في الطريق نحو المنزل، يرتطم ثوبها المبلل بسيقانها ويهب هواء الليل باردًا على وجهها المحترق.

*

على بعد عدة أمتار من المنزل، خلف صندوق سميك من خشب البلوط، توقفت لتحدق في الشكل الداكن لأمها، المظلل في مربع الضوء. من هذه المسافة، تبدو أمها ضبابية، لطخة على الزجاج، بصمة داكنة. جاءت روث مسرعة في الطريق، وإيلي وكلبه على مقربة من الخلف. يختبئون خلف البلوط بجانبها. لم يكن هناك متسع كبير، مع الثلاثة منهم والكلب، وقد تجمعوا معًا، والكلب جاثم أمامهم،يلهث، لسانه الوردي الكبير يتدلى من فمه. تلوى جريتا أنفها وتنزلق بعيدًا في منتصف الظل من الشجرة. يضيء ضوء القمر على ذراعها الشاحب، ويضيء على معصمها النحيل وأصابعها الطويلة الملفوفة حول عنق الزجاجة

همست روث:

- سترانا

تقول جريتا:

-  لا يمكنها رؤيتنا. هناك توهج على الزجاج.

تقول روث:

-  أنت لا تعرف ". ثم،  ماذا يفعل؟

تقول جريتا:

- إنها لا تنام كثيرًا.  حقا يا إيلي؟

لا يجيب إيلي. يلف قبعته بحيث يكون المنقار إلى الخلف وعيناه مستديرتان ومبللتان ومشرقتان من انعكاس الضوء الأصفر في نافذة والدتهما. لكنه ينظر إلى روث، التي تتكئ على جذع الشجرة. روث، وهي صورة مصغرة للمرأة أعلاه، تشد شعرها إلى الخلف فوق كتف واحد بحيث ينكشف منحنى خدها وطول رقبتها.

تلمس جريتا كتفها:

- تخيلى يا روث إيلي رأى ثديي أمى العارييين.

تشعر جريتا بالصدمة هذا ؛ حيث تهز روث كتفيها، وتسحب يد جريتا بعيدًا عنها

تتابع جريتا:

- لقد رأت أكثر من ذلك بكثير. ربما كلها.

وبينما كانت تقول هذا، تتخيل جريتا صورة ظلية والدتها الداكنة الشاحبة، والخطوط العريضة الجميلة لجسدها تحت ثوبها. ما كان يجب أن يشعر به إيلي، وهو يعمل بجانب مثل هذه المرأة، ربما شعرت به جريتا دائمًا. عندما كانت طفلة كانت تحب تقبيل فم والدتها. تحب أن تنظر إليها، و قد استلقت على ظهرها تحت نافذة والدتها، وتخيلت والدتها فتاة لا تكبرها سنًا، وشعرها مضفر إلى أسفل ظهرها، وذراعاها رفيعتان وساقاها طويلتان، مثل روث.

قالت راعوث لإيلي:

- ما الذي تتحدث عنه؟

- أختك تخترع أشياء.

تقول جريتا:

- صدقيه إذا أردت.  سوف تفعلين. لقد تركتيه يدعوها بالعاهرة.

تقول روث:

-   لم يحدث. لا علاقة لي به.

- أنت لم تدافعى عنها. لقد وقفت إلى جانبه.

- لا أعرف.

ثم تستدير راعوث إلى إيلي:

-   كيف يمكنك رؤيتها عارية؟

تقول جريتا:

- لا تكونى عمياء يا روث.

"    - لم أر أي شيء قط.

كانت عيناه على روث بينما كان يتحدث، على وجهها، المتوهجج بالخجل المفاجئ، وعلى أصابعها التي تتلاعب بنسيج ثوبها.

قالت روث لجريتا:

-  لم يفعلا ذلك.  ماما لا.

تقول جريتا:

- أنت لا تعرفين شيئًا عن أمي أو إيلي.

لكن جريتا نفسها لا تعرف إلا القليل عما يحدث بين والدتها وصبيها المستأجر. إنها تعلم فقط أنهم يتلامسان،وأنهما يبدآن إيقاعًا ثم يغيرانه ، أو يبطئانه من سرعته  أو يضيفان إيقاعًا جديدا، أو ضربة سريعة، أو رنين زجاج مكسور عندما اصطدما ذات مرة فى المخزن وكسرا ثلاثة من المصابيح االاحتياطية. وهي تعلم أيضًا أنهما لم يعودا بحاجة إلى بعضهما البعض، أو أن إيلي لم يعد بحاجة إلى والدتها. و هى الآن تعرف لماذا.

تندفع جريتا بينهما وتضغط على ذراع روث:

- ماذا تعتقدين أنها تفعل يا روث؟  إنها تنتظر.إنها تنتظر إيلي ليخرج ويعطيها الإشارة.

تصدقها راعوث. تعرف جريتا  ذلك من وجهها المقروص، والفم نصف المفتوح، أن شيئًا ما قد طقطق، وربما اشتبهت روث في ذلك. ولهذا أضافت جريتا:

- أنت تعلمين أنه صحيح يا روث. إنه لعبة ماما. والآن سئمت منه. لذا حان دورك.

تمتد ذراع إيلي وتلتف أصابعه حول قبضة من شعر جريتا و يصرخ في وجهها:

-   أنت فتاة صغيرة غبية ،. "فتاة صغيرة غبية لا تستطيع أن تهتم بشؤونها الخاصة!  تمسك يده الأخرى بكتفها ويهزها بشدة حتى تنزلق زجاجة الزرنيخ تقريبًا من أصابعها.

يقول:

-  وأنا أعلم لماذا. أعرف لماذا.

- أنت لا تعرف أي شيء.

جريتا متجمدة تحت يديه، الساخنة جدًا واثقيلة على الجزء العارى من كتفيها.

يقول إيلي:

- أنا أعرف السبب.  لأنك مثلها تمامًا.

يختنق صوته وهو يقول هذا، ثم يتراجع خطوة، ويطلق سراحها.

-  لماذا لا يمكنك فقط أن تتركيني وحدي؟

هناك نظرة لم ترها جريتا من قبل – ارتعش فمه متضخم، كاد أن يختفي، وجهه كله قد  انهار. يحنى رأسه ويخفي عينيه بيديه.

تقول راعوث:

- هل تبكي؟

ينحني، والكتفان مترنحان ثم يصدر صوت عاليا ومذهلا مثل صهيل حصان. قبل أن تفكر في ما ستفعله، تلقي جريتا ذراعيها حول عنقه. شدته بقوة على جسدها، وضغطت وجهها على كتفه لفترة كافية لشم رائحته، ورائحة الشوفان والقش وشيء آخر - شيء مألوف -  ثم دفعها بعيدًا.

يختنق بالكلمات ويمسح عينيه بظهر يده

- اتركني بمفردى.

تقول روث:

- لماذا تبكي؟

تجعل النغمة الحادة لنبرة صوتها جريتا تدير رأسها لتنظر إليها، وتتأمل التعبير على وجه روث - الشفة العليا فقط ملتوية قليلاً، وأنفها، وفتحتى أنفها - تشبه وجه والدتها - مثل والدتها تماما، ذلك الوجه الذي تصنعه والدتها عندما تلد قطط الحظيرة قططًا ميتة، أو عندما تنظف جرح حصان مصاب، أو عندما تخطو في شيء سيئ وتنفض حذائها على حافة درجات الشرفة. نعم  الوجه هو وجه والدتها، نفس الشيء الذي كانت تفعله عندما تبلل جريتا سريرها عندما كانت طفلة، أوعندما تمرض وتتقيأ على الأرض. الاستهزاء والقسوة، وهو جعل والدتها قبيحة، وجعل التجاعيد تظهر حول عينيها ؛ لقد جعل هذا الأمر جريتا تريد أن تختبئ، وتهرب في الغابة وتتخيل رد فعل والدتها، وكم ستكون متفاجئة عندما تدرك أن جريتا قد رحلت، وأنها لن تعود أبدًا.

قال إيلي ورأسه مازالت بين  يديه:

-  دعاني وشأني..  اتركاني وحدي.

*

من خارج نافذة غرفة المعيشة، تنظر جريتا إلى صورة والدتها المشرقة. يلتف شعرها بعنف حول الدائرة الشاحبة لوجهها وهي تقف، إحدى ذراعيها ممتدة فوق رأسها. سقط كم ثوبها ليكشف عن طول ذراعها النحيف، وفجأة أدركت جريتا أن ثوبها شىء قبيح، شيء فوضوى وقذر يتدلى من ذراعيها في طيات مبتلة.

إنها قريبة بما يكفي للوصول ولمس الزجاج، وما تزال والدتها لا تراها. إنها تنظر فوق جريتا، وراءها، في الظلام. عيناها الداكنتان نصف مغمضتين، ورأسها متجه إلى جانب واحد كما لو أنها غارقة في التفكير، كما هي تحلم بشيء ما، وفي حركة سريعة واحدة، تسحب جريتا ذراعها للخلف وترمي زجاجة السم مباشرة على وجه والدتها. تحطمت النافذة، والزجاج  تطاير، و جرت جريتا إلى الوراء. الصوت - تنفسها السريع، صوت خفقان قلبها السريع، صدى كسر الزجاج - يقطع النغمة البطيئة للجراد والصراصير، الأنين الناعم للحصان في الحظيرة. يتبع جريتا، زئير أجوف، وهي تجري في الطريق ؛ يغرق روث، التي تصرخ بشيء ما بينما تمر جريتا. إنها تطير معها، هذا الضجيج، وهي تتخطى صورة إيلي المترهلة بجوار البلوط، متجاوزة كلبه الأصفر النباح، متجاوزة الحظيرة  ومتوحهة  نحو الأشجار.

تتسلق السياج الأول وتحتك بالأغصان وإبر الصنوبر الحادة. تواصل السير وعندما تصل إلى المستنقع، تغوص في الماء. يلتصق ثوبها المبلل بفخذيها ؛ كان الماء يتناثر على وجهها، ومرة أخرى الرائحة موجودة، دافئة وحادة، وهذه المرة تعرفت عليها. إنها تشبه رائحة نساء المدينة، اللائي يتسكعن على الشرفات الأمامية، يأكلن الكرز من الأكياس الورقية ويلوين شفاههن ليبصقن البذور بعيدًا في الساحات. لقد رأتهن جريتا، وهن يلوحن بأذرعهن الكبيرة المنمشة وينادين المارة، أمها وروث، ومن خلفهما، جريتا. ما زلن هناك، يفركن أفخاذهن الممتلئة بأكفهن، وأثداؤهن منتفخة تتمايل في أعلى صدورهن، وأفواههن ملطخة باللون الأحمر الفاقع، وهى منتفخة بالفاكهة.

(تمت)

***

......................

المؤلفة: كاثرين كونر/   Katherine Conner/ كاتبة أمريكية  تعمل  أستاذة مشاركة للغة الإنجليزية في جامعة ولاية نيكولز، حيث تدرس الكتابة الإبداعية. ومحررًا لهيئة التدريس في جريس جريس: مجلة على الإنترنت للأدب والثقافة والفنون. حصلت الدكتورة كاثرين كونر على درجة الدكتوراه. من جامعة ولاية فلوريدا، وشهادة الماجستير والبكالوريوس. من جامعة جنوب ميسيسيبي. بدأت كونر التدريس في جامعة ولاية نيكولز في عام 2010. وظهرت قصصها فى العديد من المجلات والدوريات الدبية المعروفة.

للشاعر يانيس ريتسوس

ترجمة: جمعة عبدالله

***

× الحق ينتصر دائماً

تفتح الابواب

من بقيَ يلوح بالسلام على المغادرين

كل المغادرين

المدن امتلأت بالإعلام والطبول

شغاف الفجر يرسم أحلامنا

تضيء اليونان بضوء احلامنا

تغسل الشمس

الوجوه النظيفة التي تمثل الإنسان

تحيي الطرق التي تؤدي إلى المعركة

الأبواب تبتسم في وداعها

تسمع ضربات الرجال على الأسفلت

بقوة عزيمتهم

وهم يتوارون في عمق الطريق

في المساء يتقاطرون في محطة خافتة الأضواء

هناك ينتظرون القطارات

تطلق صفاراتها على مشارف المدينة

تطلق اصوات التحايا وطلقات الوداع

ثم يخيم الصمت، وينتظرون

يقرؤون ملاحق آخر الأخبار

انتصرنا ... انتصرنا

الحق ينتصر دائماً

يوماً ما ينتصر الانسان

يوماً ما الحرية تهزم الحرب

اخواني .... اخواني

يوماً ما سننتصر الى الابد

***

..........................

* كتبت هذه القصيدة خلال الغزو الإيطالي على دولة اليونان في أكتوبر عام 1940 .

شعر زينة عزام

ترجمة: صالح الرزوق

***

"بعض الآباء والأمهات في غزة يكتبون أسماء أبنائهم على سيقانهم للتعرف عليهم إذا قتل الأبوان أو الأولاد"

سي إن إن 22,10,2023

***

اكتبي اسمي على ساقي يا ماما

بقلم الحبر الدائم الأسود

الذي لا ينمحي ولا ينزف

إذا لطخه الماء، الذي لا يذوب

إذا تعرض للحر اللاهب.

اكتبي اسمي على ساقي يا ماما

واجعلي الخطوط عريضة وواضحة

وأضيفي لمساتك الوردية المعروفة

كي أستمتع كلما رأيت

خط يد أمي بعد أن أخلد

للنوم.

اكتبي اسمي على ساقي يا ماما

وعلى سيقان أخواتي

وأخوتي

هكذا نكون معا

وهكذا يعرفون

أننا أبناؤك وبناتك.

اكتبي اسمي على ساقي يا ماما

ومن فضلك اكتبي اسمك

واسم أبي على ساقيك، أيضا

ليتذكروا أننا عائلة واحدة.

اكتبي اسمي على ساقي يا ماما

ولا تضيفي أرقاما

مثل تاريخ ميلادي أو رمز عنوان

بيتنا

لا أريد أن يتعرف علي العالم في قائمة

من الأرقام

فأنا لي اسم ولست رقما.

اكتبي اسمي على ساقي يا ماما

وحينما تنسف القنبلة بيتنا

وحينما تطحن الجدران جماجمنا و

عظامنا

ستروي سيقاننا حكايتنا، وكيف أننا لم

نجد مكانا نلجأ إليه.

***

...........................

* زينة عزام Zeina Azzam شاعرة أمريكية من أصل فلسطيني. أميرة شعراء الإسكندرية في فرجينيا. صدرت لها مجموعة "بين بين" عن دار بويتري بوكس عام 2021. الترجمة عن فوكس بوبيولي.

ترجمة صالح الرزوق

قصة:  ساندرا سيسنيروس

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

اسمي بالانجليزية يعني الأمل. بالإسبانية يعني الكثير من الحروف. يعني الحزن، يعني الانتظار. إنه مثل الرقم تسعة اللون الموحل. إنها الأسطوانات المكسيكية التي يعزفها والدي صباح يوم الأحد عندما يحلق ذقنه، أغاني مثل البكاء.

لقد كان اسم جدتي الكبرى والآن أصبح اسمي. لقد كانت أيضًا امرأة حصان، ولدت مثلي في عام الحصان الصيني - والذي من المفترض أن يكون حظًا سيئًا إذا ولدت أنثى - لكنني أعتقد أن هذه كذبة صينية لأن الصينيين، مثل المكسيكيين، لا يفعلون ذلك. لا يحبون أن تكون نساؤهم قويات

جدتي. كنت أتمنى أن أقابلها، امرأة جامحة، جامحة جدًا لدرجة أنها لن تتزوج. حتى ألقى جدي الأكبر كيسًا على رأسها وحملها بعيدًا. كما لو كانت ثريا فاخرة. هكذا فعل جدى الأكبر معها.

وتقول القصة إنها لم تسامحه أبدًا. لقد نظرت من النافذة طوال حياتها، بنفس الطريقة التي تضع بها العديد من النساء حزنهن على مرفقهن. أتساءل عما إذا كانت قد حققت أفضل ما حصلت عليه أم أنها آسفة لأنها لم تستطع أن تكون كل ما أرادت أن تكونه. اسبيرانزا. لقد ورثت اسمها، لكني لا أريد أن أرث مكانها بجوار النافذة.

في المدرسة يقولون اسمي بشكل مضحك كما لو كانت المقاطع مصنوعة من القصدير وتؤذي سقف فمك. لكن في الإسبانية، اسمي مصنوع من شيء أكثر ليونة، مثل الفضة، وليس سميكًا تمامًا مثل اسم أختي - ماجدالينا - وهو أقبح من اسمي. ماجدالينا التي يمكنها على الأقل العودة إلى المنزل وتصبح نيني. لكني دائمًا إسبيرانزا.

أود أن أعمد نفسي تحت اسم جديد، اسم أشبه بشخصيتي الحقيقية، الاسم الذي لا يراه أحد. إسبيرانزا  بدور ليسندرا أو مارتيزا أو زيزى إكس. نعم. شيء مثل زيزى إكس، اسم مناسب .

***

...........................

المؤلفة: ساندرا سيسنيروس / Sandra Cisneros . ساندرا سيسنيروس شاعرة، وكاتبة قصة قصيرة، وروائية، وكاتبة مقالات، تستكشف أعمالها حياة الطبقة العاملة. ولدت ساندرا سيسنيروس في 20 ديسمبر 1954 في شيكاغو، إلينوي. تخرجت من جامعة لويولا - شيكاغو ثم حصلت على الماجستير من جامعة أيوا.اشتهرت بروايتها الأولى: المنزل فى شارع مانجوThe House on Mango Street، التي تتحدث عن شابة لاتينية تبلغ سن الرشد في شيكاغو، باعت أكثر من مليوني نسخة. حصلت سيسنيروس على العديد من الجوائز لأعمالها الابداعية ، بما في ذلك زمالة مؤسسة ماك آرثر وميدالية تكساس للفنون. تعيش في سان أنطونيو، تكساس. وهي واحدة من سبعة أطفال والابنة الوحيدة، وقد كتبت بشكل مكثف عن تجربة لاتينيا في الولايات المتحدة. تقول فى إحدى المقابلات عن تجربتها فى الكتابة : ."كان الأمر كما لو أنني لا أعرف من أنا. كنت أعرف أنني امرأة مكسيكية. لكنني لم أعتقد أن الأمر له علاقة بالسبب الذي جعلني أشعر بالكثير من عدم التوازن في حياتي، في حين أن الأمر يتعلق بكل شيء. "افعل ذلك! عرقي، وجنسي، وصفي! ولم يكن الأمر منطقيًا حتى تلك اللحظة، وأنا جالس في تلك الندوة. وذلك عندما قررت أن أكتب عن شيء لا يستطيع زملائي الكتابة عنه. "

مقطع من رثائية الشّهيد شكري بلعيد للشّهيد العلَّامة حسين مروّة:

ترجمة: زهرة الحواشي

***

قم يا حسين العلم

بغداد نائمة على عرشها المستطاب

وحمدان نادى على فقراء البلاد

أن اجتمعوا

هذا خمر الخليفة من تعب الموت في يدكم

حلّوا مراكبكم للصّباح الجديد

مدّوا الأيادي التي تعبت من جُباة الخليفة والبرلمان

دمي صولجان

فاجمعوا دمكم واتبعوني

أنا الرّاية البلد الأرض والقادمون

أنا الفاصل ما بين حبّكم و الجنون

وأنتم بداية حزن المساء

حين السّنون تخون

قم يا حسين العلم

افتح نوافذ تاريخنا المغلقه

وارفع أوراقك والقلم

سمِّ البلاد بأسمائها

وأظهر المستتر

لطّخ لحيّ الظّلام بآثامهم

وانتصر للرّعاع الذين بنَوا مجدنا

وانتضوا سيفهم للصّراع

وفسّخ تفسّخ كلّ البلاطات والطّبقات

التي اشترت بدمانا الجواري

ومالت على وجهنا الجمجمهْ

فأقمنا الصّباح

على الجسد المقبره

ونادى المنادي

ها أنّ حمدان يأتي على فرس من غضب

يلمّ شتات العرب

وذاكرة المتعبين على الأرصفه

ويصرخ في أمّة النّفط والأقنعه

"أنا القرمطيّ و أنت حسين امتدادي

أنا القرمطيّ و كلّ البلاد بلادي

أنا القرمطيّ أشعتُ النّخيل

وخيل الصّحاري

ونوّارة بالجليل

وأرض السّواد

على الفقراء"

فدوّن بكراسك والقلم

قم يا حسين العلم !

***

............................

من ديوانه: أشعار نقشتها الرّيح على أبواب تونس السبعة.

 

من الادب الكردي: لطيف هلمت .. إلى غسان كنفاني والشعراء الذين أعرفهم ولا أعرفهم

***

عندما أتانا المسيح

نكرناه،

وعلى الصليب صلبناه ..

ثم أقمنا له تمثالا

في بيعة المدينة،

وكتبنا على الاف الألوف

من الحيطان،

وبالكلمات الكبيرة :

مات محب عظيم ...

مذ ذلك اليوم،

ونحن نحيي ذكراه

في فاتحة كل سنة

جديدة،

ونحكي للأطفال

ملحمته،

ولكن ألف مسيح يصلب

كل يوم،

فتغدق العطايا

على القتلة

أبطال هذا العصر

وقد غاصت مخالبهم

في الدماء .. !

***

............................

* أجيز نشر هذه الترجمة من قبل الشاعر خطيا في 18 / 7 / 1983. عن (من الشعر الكردي الحديث – لطيف هلمت: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق2001  .   

بقلم: لويز غليك

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

حياة قروية

الموت والشك اللذان ينتظرانني

مثلما ينتظران كل الناس،

الظلال التي تخمنني

فتحطيم كائن بشري يمكن ان يستغرق وقتا،

عنصر التشويق ينبغي المحافظة عليه—

في ايام الآحاد آخذ كلب جارتي للنزهة

كي تتمكن من الذهاب الى الكنيسة لتصلي من اجل امها المريضة.

ينتظرني الكلب في المدخل.

صيفا وشتاء نتنزه على الطريق نفسه،

في الصباح الباكر، في اسفل الجرف.

احيانا يبتعد الكلب عني- للحظة او لحظتين،

لا استطيع ان اراه خلف بعض الأشجار. انه مزهو بذلك،

هذه الحيلة يمارسها بين حين وآخر، ويتخلى عنها مرة أخرى

متفضلا عليّ -

بعد ذلك اعود الى منزلي كي اجمع حطبا.

احتفظ في ذهني بصور من كل نزهة:

النعناع ينمو على جانب الطريق؛

في اوائل الربيع، يطارد الكلب الفئران الرمادية الصغيرة

لذلك يبدو ممكنا لوهلة

ان لا نفكر بتماسك الجسد في ضعفه،

بعلاقة الجسد الكمية بتحول الفراغ،

والصلوات تصبح صلوات من اجل الموتى.

منتصف النهار، توقفت اجراس الكنيسة. ضوء مفرط:

لا يزال الضباب يغلف الحقل، لئلا تستطيع ان ترى

الجبل على مسافة بعيدة، يكسوه الثلج والجليد.

حين يظهر ثانية، تعتقد جارتي ان دعواتها تستجاب.

ثمة كثير من الضوء مما يجعلها غير قادرة على السيطرة على سعادتها -

عليها ان تتفجر لغة. تصرخ قائلة: مرحبا،

وكأن ذلك افضل ترجمة لها.

انها تؤمن بالعذراء بنفس الطريقة التي اؤمن بها بالجبل،

ولو انه في حالة واحدة الضباب لا ينقشع ابدا.

الا ان كل شخص يخزن أمله في مكان مختلف.

أحضّر حسائي، اصب قدح نبيذي.

انني متوترة مثل طفل مشرف على المراهقة.

قريبا ستحسم حقيقتك على نحو مؤكد،

شيئا واحدا، فتى ام فتاة. ليس الأثنين بعد الآن.

ويتفكر الطفل: اريد ان ادلو بدلوي فيما يحدث.

ولكن الطفل ليس لديه دلو البتة.

حين كنت طفلة لم اتنبأ بهذا.

فيما بعد، الشمس تغرب، الظلال تتجمع،

الشجيرات الواطئة تصدر حفيفا كأنها حيوانات استيقظت توا لتبدأ ليلتها.

في الداخل، ثمة ضوء النار فقط. يخبو ببطء؛

الآن اثقل قطعة حطب فقط ما زالت

تومض بين رفوف الآلات الموسيقية.

اسمع الموسيقى تنساب منها احيانا

حتى وهي في صناديقها المقفلة.

حين كنت طيرا، كنت اعتقد انني سأصبح انسانا.

ذلك كان الفلوت. والبوق يجيب.

حين كنت انسانا، صرخت كي اكون طيرا.

بعد ذلك تتلاشى الموسيقى. والسر الذي تودعه فيّ

يتلاشى ايضا.

من النافذة، يتدلى القمر فوق الأرض،

عديم المعنى لكنه ممتلئ بالرسائل.

انه ميت، لقد كان ميتا دائما،

لكنه يتظاهر بكونه شيئا آخر،

محترقا مثل نجم، وعلى نحو مقنع، فتشعر احيانا

ان بامكانه فعلا ان يجعل شيئا ينبت فوق الأرض.

فلو كان ثمة صورة للروح، فأظن انها تلك.

اتنقل عبر الظلام كأنه امر طبيعي عندي،

كأنني كنت من قبل عنصرا فيه.

هادئا وساكنا يبزغ النهار.

في يوم اقامة السوق اذهب الى السوق بخـَسـّي.

***

.....................................................

لويز غليك (1943-2023): شاعرة أميركية من مواليد مدينة نيويورك. تلقت تعليمها في كلية سارة لورنس وجامعة كولومبيا. شغلت منصب شاعر الولايات المتحدة للفترة 2003-2004 ونالت أعمالها جوائز عديدة توجت بفوزها بجائزة نوبل لعام 2020. من عناوين مجموعاتها الشعرية: منزل الهور (1975)؛ انتصار أخيل (1990)؛ السوسنة البرية (1992)؛ الحياة الجديدة (1999)؛ بوابة العالم السفلي (2006)؛ حياة قروية (2009).. نترجم قصيدتها هنا بمناسبة رحيلها عن عالمنا في 13 من الشهر الجاري.

قصة قصيرة بقلم: راندا جرار

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تضاجع بحارًا، بحارًا تركيًا، الصيف الذي تقضيه في إسطنبول .عندما تعود إلى منزلها في ويسكونسن، يستغرق الأمر ثلاثة أيام لتعترف لزوجها.

يقول أن هذا لا يزعجه، وتقول له أنه يزعجها، وأنه لا يزعجه. يسألها إذا كانت تفضله أن يكون ذلك النوع من الرجال الذي ينزعج من اللحظات العابرة، فتقول له نعم، إنها تفضل أن يكون هذا النوع من الرجال. أخبرها أنه يعتقد أنها تزوجته لأنه على وجه التحديد من نوع الرجل الذي لا يركز على اللحظات العابرة، لأنه نوع الرجل الذي لا يحمل ضغينة. أخبرته أن حمل الضغينة وإثارة بعض الغضب بشأن ممارسة الجنس مع بحار ليس هو الشيء نفسه. وهو يوافق على أن حمل الضغينة ليس مثل إثارة بعض الغضب بشأن ممارسة زوجته الجنس مع  بحار، لكنه يضيف أن زوجته، وتحديدًا زوجته، لن تتركه أبدًا من أجل بحار، وليس بحارًا تركيًا. ويقول إنها في الواقع لم تتركه من أجل البحار التركي. إنها هنا. فلماذا يغضب؟

الآن تغضب وتسأله لماذا يعتقد أنها لم تفكر في تركه من أجل لبحار. بالإضافة إلى ذلك، تقول إنها والبحار يشتركان في هوية ثقافية إسلامية، وهو أمر لا تشاركه مع زوجها. تسأله إذا كان يفكر في ذلك.

يقول إنه لم يفكر في الأمر، وأنه حتى لو فكرت في تركه من أجل البحار التركي، كان ينبغي عليها أن تقرر عدم القيام بذلك. وهي تتقبل فكرة أنها والبحار التركي كان لديهما رابط قوي لأنهما مسلمان من الناحية الثقافية، لأنه، كما يقول، لا يستطيع أن يتخيل ما الذي كان يمكن أن يكون مشتركا بينها وبين بحار تركي.

كثير! صرخت في وجهه. كان لديها الكثير من القواسم المشتركة مع البحار التركي.

يريد زوجها أن يعرف ما هو الشيء المشترك بينها وبين البحار التركي.

ولم يكن بينها وبين البحار التركي شيء سوى أنها انجذبت إليه وانجذب إليها وأمضيا ليلة في غرفة غير مكيفة في كاراكوي بجوار برج جلاطا .

وفي الصباح، استيقظت على صوت طيور النورس وهي تحوم حول البرج، وتدور حوله جائعة وبصوت عالٍ. وكان البحار التركي قد سمع صوت طيور النورس أيضًا. ثم غادرت. كان هذا هو كل ما يجمعهما حقًا: الهوية الثقافية، والجنس، وطيور النورس.

تحكي لزوجها هذه القصة. يسألها ماذا تريد منه أن يقول. طلبت منه أن يقول إنه غاضب لأنها مارست الجنس مع بحار تركي. أخبرته أن يقول إنه يتمنى لو مارس الجنس معها في غرفة غير مكيفة بالقرب من برج جلاطا. تقول له أن يصرخ بها.

زوجها يرفض أن يقول أي شيء من ذلك. رفضه هادئ، وليس غاضبا.

عندما تراه يحدق بها بهدوء، ويرفض أن يقول أيًا من هذه الأشياء، تفهم أن هذه هي طريقته للانتقام منها لمضاجعة البحار التركي.

وهي تدرك أيضًا أن افتقاره إلى العاطفة، وإحساسه بالمنطق، هو أحد الأسباب التي جعلتها تضاجع البحار التركي، وهو أيضًا سبب عودتها إلى المنزل.

***

.................................

المؤلفة: رندا جرار/ Randa Jarrar كاتبة أمريكية، ولدت رندا جرار في شيكاغو عام 1978 لوالدة مصرية ويونانية ووالد فلسطيني. تربت بين الكويت ومصر حتى حرب الخليج الثانية عام 1991، عندما انتقلت عائلتها إلى الولايات المتحدة مجددا، واستقرت في منطقة نيويورك وهي عمرها 13 عام. درست جرار الكتابة الإبداعية في جامعة سارا لورانس، وحصلت على شهادة ماجستير الآداب من جامعة تكساس في أوستن في دراسات الشرق الأوسط، وماجستير الفنون الجميلة هي مؤلفة كتاب، خريطة المنزل، الرواية الحائزة على جائزة هوبوود وجائزة الكتاب العربي الأمريكي كما حصلت على لقب أفضل رواية من قبل مجلة بارنز ونوبل ريفيو، وكتاب (أنا، محمد علي) (ساراباندي، 2016). تقوم راندا جرار بالتدريس في برنامج الماجستير في الفنون الجميلة في جامعة ولاية كاليفورنيا في فراسنو.

بيتر هاندكه*

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

حينما كان الطفل طفلا،

كان يمشي ويداه إلى جانبه،

كان يريد أن يكون المجرى جدولا

والجدول نهرا،

وأن تكون هذه البِركة بحرا.

*

حينما كان الطفل طفلا،

لم يكن يعرف أنه كان طفلا،

وبالنسبة إليه، كان لكل شيء روح

وكلّ الأرواح روح واحدة.

*

حينما كان الطفل طفلا،

لم يكن لديه رأي في أيّ شيء،

لم تكن له أيّ عادة

غالبا ما يجلس متربّعا

وينطلق جريا،

وله خصلة شعر متمردة،

ولا يفعل سوى تصنّع الحركات حينما تأخذ له صورة

*

حينما كان الطفل طفلا، كان زمن الأسئلة التالية:

لماذا أنا هو أنا وليس أنت؟

لماذا أنا هنا وليس هناك؟

متى يبدأ الزمان وأين ينتهي المكان؟

أليست الحياة تحت الشمس سوى حلما؟

ما أراه، وما أسمعه وأحسّه، أليس مجرّد ظاهر لعالم ماثل أمامي؟

هل يوجد الشرّ فعلا مع أناس هم حقا الأشرار؟

كيف يمكن أن يكون أنا الذي هو أنا، لم أكن قبل أن أصير كذلك،

وأنه يوما ما أنا الذي هو أنا لن أكون ذاك الأنا الذي أكونه؟

*

حينما كان الطفل طفلا،

كان يُكره على أكل السبانخ والبازلاء، والأرز بالحليب

ومخفوق الكرنب.

ولكنه الآن يأكله دون أن يكون مكرها.

*

حينما كان الطفل طفلا،

كان يكفيه التفاح والخبز غذاء،

وكان الأمر كذلك دوما.

*

حينما كان الطفل طفلا،

تسقط حبات التوت في يديه كما تسقط لوحدها،

وتضجره حبات الجوز الطازجة

وهكذا هو الحال دوما .

*

ومن على كل جبل، كانت له الرغبة في جبل أكثر علوّا،

وفي كلّ مدينة، كانت له الرغبة في مدينة أكبر

وهكذا الحال دوما.

ومن على الشجرة، يمدّ يده إلى الكرز، متحمّسا

كما هو اليوم أيضا،

كان يخشى الغرباء وما يزال كذلك،

ينتظر تساقط الثلج أول مرّة ومازال ينتظره،

*

حينما كان الطفل طفلا رمى بالعصا على شجرة، مثل رمح،

وما تزال الشجرة تهتزّ لذلك.

***

.......................

* بيتر هاندكه: كاتب وسينمائي ومترجم وشاعر نمساوي ولد سنة 1942، تحصل على جائزة نوبل للآداب سنة 2019

 

 

في نصوص اليوم