ترجمات أدبية

لعبة اليأس / ترجمة: صالح الرزوق

بقلم: ساندرا آيرلاند

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

توقفت حينما بلغت الزاوية. أردت أن أعيد التفكير، وأن أسأل نفسي هل فعلا أود أن أمر بهذه التجربة. انحنيت بخط غير مستقيم ومررت أصبعا على مؤخرة حذائي. وأبعدته عن البثرة التي كانت تتكون. كان أسفل قدمي يلتهب. هذا ما كسبته من التسكع بخفافة . قلت لنفسي. نسي جسمي كيف يستجيب بلباقة. وكيف يسوق نفسه بالمخمل والكعب العالي. بحثت في حقيبتي عن سجائر أعلم أنها موجودة. لم أدخن منذ آخر مرة حملت بها هذه الحقيبة. وهي حقيبة مواعيدي الغرامية. وتحتوي على كل الضروريات التي تلزم لأول لقاء تعارف. هاتف نقال، عطر، أحمر الشفاه، منظف الحلق بنكهة النعناع، ومناديل للدموع، وبخاخ حار إذا تطورت الأمور باتجاه سيء. وبالعادة أواجه هذه المواقف. في إحدى اللحظات أصبحت حياتي مجرد دائرة مغلقة حول أول لقاء، وتخليت بعدها عن أوهامي. وبسبب التوتر كان علي أن أجمد لفترة طويلة وأبتعد عن المشهد كله. كنت أفكر بحياة هادئة وطعام جاهز لشخص واحد. حتى سمعت بديبورا. وضعت بين شفتي سيجارة، أشعلتها وأخذت نفسا عميقا وشعرت بالرضا. أول مرة تعرفت بها على اسم ديبورا كان من بطاقة عمل، ورأيتها تنزلق أمامي سرا على طاولة فورميكا. وشجعتني صديقتي كارول أن أقبلها. همست لي من وراء كوب كابوتشينو تعلوه الرغوة:” إنها لا تعلن عن نفسها. ولا تنافس أحدا. وهي انتقائية جدا”.

سألتها: “ماذا يجعلك تعتقدين أنها ستختارني؟”.

تناولت البطاقة وتأملتها. التمع اسم ديبورا مثل خيط من الفضة في ضوء الفلوريسنت الساطع في المقهى. كانت البطاقة عاجية وغالية الثمن ومدعاة للطمأنينة.

قلت :”ليس لديك شيء تخسرينه؟”.

هزت كارول كتفيها وسألت:”. هل تذكرين جون هاريسون؟”.

قلت: “ذو الثمانين فتيلة وضحكته الشبيهة بنهيق حمار”.

“نعم. حسنا. هل لديك مستشارة قلوب مهمة”.

“لا. كيف تعرفت عليه؟”.

 قطبت كارول وجهها بتهكم وشربت قهوتها وقالت: “من ديبورا. لديها مكتب. اتصلي بها. لن تندمي”.   

خابرتها حالما عدت إلى البيت. كان صوت ديبورا في الأسلاك خشنا، ينتمي لبيئتها المحلية، نفس الصوت الذي تسمعينه في الإعلانات عن قهوة ممتازة أو مشروب غالي الثمن. كانت متعالية بمظهرها حينما قابلتها بعد ثلاثة أيام. كان بيتها فوق متجر خزف صيني، تلجين إليه من سلالم خارجية ذات قفص حديدي. وكان مطليا منذ مدة قريبة، مع أصص لورود جيرانيوم تغطي المكان، قابلتني ديبورا على الباب. رأيت أنها أكبر مما أعتقد. ولكنها غير مترهلة وبشعر أسود مربوط للخلف، مع لفاحة وردية. فكرت لا بد أنها تحب الزهور. وكانت ترتدي ثوبا يحمل نقوش ورود الشاي. وفاحت روائح النرجس في المكان. قادتني إلى غرفة جلوس تحيط بها جدران خضر بلون الغابات. شعرت بالراحة في كنبة جلدية أثناء غيابها حتى عادت مع صينية مليئة. وكانت النار مشتعلة. أشارت الساعة للوقت بالدقائق على خزانة من خشب الصنوبر. قدمت لي كوب شاي يعلوه البخار مع بسكويت دايجستيف بالشوكولا. كل شيء متحضر، وشديد التهذيب. وكنت جاهزة لشراء أي شيء تبيعه.  والبيع كلمة مغلوطة تماما. شائعة جدا. كانت ديبورا تقبل أسعارا عادلة لقاء خدماتها، وبالمقابل تقطع الوعود لتوفير القرين المناسب. أخرجت دفترا له غلاف جلدي مع قلم فضي، وبدأت بتوجيه الأسئلة. وتخللتهاالنصائح. كان من الواضح أن ديبورا خبيرة في لعبة المواعيد الغرامية ولا سيما مع النساء الكبيرات بالسن.  قالت وهي تشير بيدها:”الخطأ الذي ترتكبينه، أنك لا تنقضي بسرعة مناسبة”. 

“أنقض؟”. دفعتني الكلمة للتفكير بغربان سود شريرة مصطفة على سلك الهاتف وتنتظر.

قالت: “هل يوجد رجال يتسكعون هنا بانتظار أيام أفضل؟. كلا أنت لا تقابلي مثل هؤلاء. الرجال يتحركون بسرعة ويتوجب عليك أن تكوني كذلك”.

وضاقت عيناها وهي تحملق بي. شعرت بطبيعتها الفولاذية المدفونة وراء رأس يشبه البنات.

تابعت:“حققت نجاحات مذهلة باستعمال نظامي ولا يوجد سبب للظن أنه لن يكون فعالا معك. البعض قد يظن أنه … غير متزمت… قليلا، لكنه..”.

ونفضت رأسها وتابعت:”هذا يعتمد على مقدار اليأس الذي تتعايشين معه”.

نظرت لي نظرة مجمدة وعلمت أنها تسأل. أومأت بأسف. صفق باب بائع الصحف وأعادني إلى الحاضر. مر بجانبي مراهقان. وأمكنني سماع طرقات مكتومة من جهازي آي بود معهما. وكذلك قرقعة الزجاجات في سلة المشتريات. ألقيت سيجارتي على الرصيف. ودهستها بحذائي ومنحت نفسي رعشة ذهنية.  شرحت لي ديبورا نظامها بالتفصيل. في البداية صدمتني، وجادلتها، ولكن كلمة يأس طفت بيننا وفي الختام وافقت على كل شيء. كان علي مقابلة سيد يدعى جون. لن يكون موعدا غراميا، تماما، ولكنه أقرب لتقديم متحفظ. مسرحية يرتبها مساعد ديبورا، أليستير. وإذا سارت الأمور على ما يرام ستكون الكرة في ملعبي. بدأت أمشي. عبرت الشارع من ممر المشاة وتابعت على طول الطريق الرئيسي. المعبر المنظم كان أمامي، ورأيت السيارات والناس المتسكعين. وقابلني أليستير عند الباب. رتبت سترتي بعصبية. كانت سوداء كما اقترحت ديبورا مع لفاحة حريرية منقوشة بورود زهرية اللون، لإضافة لون ما. كان من السهل ملاحظة أليستير في الزحام. كان طويلا جدا، بشعر أبيض ولون بشرة رقيق، ويرتدي سترة قديمة. اقتربت منه مباشرة وهمست باسمي. ابتسم ابتسامة عريضة، وتجعدت عيناه عند الزاويتين. تساءلت إن كان متزوجا. قدم لي ذراعه فقبلتها. قال:” دعينا نجد لك كرسيا. وٍسأوفر لك نقطة استراتيجية لتتمكني من رؤية جون ثم إن لم يعجبك مرآه، يمكنك أن تنصرفي. دون ضرر”. كان صوته خافتا وكافحت لأستمع له. همست للرد:”ألا يبدو هذا فظا؟. أعني هذا ليس المكان المناسب للمغادرة والانسحاب…”.

قال بسرعة ولاحظت أنه مدرب جيدا: “نوبة السعال تفيد دائما”.

 فتح باب السنديان الثقيل وقادني إلى الداخل. شممت رائحة النرجس وفكرت فورا بديبورا. قادني إلى مقعد ومرر قطعة ورق. قال:” هذه معلوماتك. أقترح أن تقرأيها قبل المقابلة. ثم. أي أسئلة؟ يجب أن أنصرف الآن”.

“إم. واحد فقط.. ما هو اسمها؟”.

همس:”آني. كل شيء مسجل على الورقة. وسأقدمك إلى جون لاحقا”.

كان صاحب كلمة. وهذا عمله، فهو دفان موتى. يبرمج كل المسألة. ولذلك يسهل عليه تقديمي بتحفظ إلى جون حينما نصل إلى الفندق لتناول شطائر الخنزير البارد.

كان منظر جون سارا، من النوع المقبول عندي. ومن الواضح نظرا للظروف أنه لم يكن بأفضل حالاته، ولكن يمكنني التساهل قليلا. أرسلت كلمة شكر صامتة إلى ديبورا وأنا أصافح  جون.

قلت له:”أنا سوزان. كنت مع آني في المدرسة. ومتأسفة لخسارتك..”.

***

......................

ساندرا  آيرلاند - Sandra Ireland:  شاعرة وروائية بريطانية. تعيش في شرق إسكوتلاندا. بدأت حياتها مراسلة لشبكة أخبار محلية. من أهم أعمالها: تحت الجلد 2016، أعماق عظمية 2018، إلغاء إلي روك 2019، مشهد غير مرئي 2020.

 

في نصوص اليوم