ترجمات أدبية
رحلة ليلية / ترجمة: محمد غنيم
قصة: سيمون كولينجز
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
الرحلة مزدحمة، والركاب القلائل الذين صعدوا للتو يبحثون عن أماكن لتخزين أمتعتهم اليدوية. المرأة الآسيوية الجالسة بجواري في أواخر العشرينيات من عمرها، ربما تسافر للعمل. تضع عطراً غالي الثمن يبدو مألوفاً، لكنني لا أستطيع تحديد نوعه تماماً. كنت أتساءل إن كان ينبغي لي التحدث إليها عندما ظهر الرجل الجالس في المقعد المجاور للنافذة، واضطررنا لإفساح المجال له. استقرت هي في المقعد الأوسط. وعندما حاولت إعادة ربط حزام الأمان، اكتشفت أنها التقطت مشبك الحزام الخاص بي بالخطأ، ونظرنا إلى بعضنا وضحكنا.
سألتها: "ماذا كنتِ تفعلين في بنغالور؟"
"مكتبي هناك. هذا هو مقر عملي."
كان لديها لكنة شمال أمريكية دون أثر للإنجليزية كما تُنطق في شبه القارة الهندية. أخبرتني أنها تعمل لصالح شركة متعددة الجنسيات تصنع الملابس، وأنها في طريقها إلى تايلاند. عليها زيارة بعض المصانع ومقابلة بعض الزملاء من الشركة. كما أنها تحاول إكمال أطروحة الدكتوراه الخاصة بها، والتي توجد على جهاز لابتوب وضعته تحت المقعد أمامها. كانت تلبس خاتماً فضياً لطيفا في إصبعها الثالث من يدها اليسرى. أثناء حديثها، وضعت جواز سفرها في حقيبتها، ورأيت أنها تحمل الجنسية الكندية.
سألتني عمّا أعمل، فأخبرتها. ثم سألتها المزيد عن وظيفتها، فحدثتني عنها باستفاضة. في هذه الأثناء، كانت الطائرة قد أقلعت وصارت في مرحلة الصعود نحو ارتفاع التحليق. الكابينة هادئة، الأضواء لا تزال خافتة، وصوت التكييف الهوائي خفيف، مع همسات المحادثات. تستغرق الرحلة إلى سنغافورة ثلاث ساعات ونصف. لم أستطع أن أقرر إن كنت سأحاول النوم. تقترب الساعة من منتصف الليل، ويبدو أن النوم لن يكون ذا جدوى. الرجل في المقعد المجاور للنافذة وضع قناع العينين، ولفّ وسادة منتفخة حول عنقه. انزلق في المقعد برأس مائل إلى جانب، وبطانيته مشدودة إلى صدره. أما المرأة فتبدو غير ميّالة للنوم، لذا سألتها عن المكان الذي نشأت فيه.
أخبرتني أن والدها طبيب وأنه ذهب إلى كندا قبل ولادتها. قضوا بضع سنوات في مونتريال، لكن معظم الوقت عاشت في ساسكاتشوان. "كان الأمر جيداً"، قالت. "تحدث أشياء هناك، ليست مملة كما قد تظن." أخبرتني أنه أحياناً في الشتاء تنخفض درجات الحرارة إلى ناقص ستين.
قالت: في الواقع كانت ناقص ثلاثين ، لكن عامل برودة الرياح جعلها تبدو وكأنها ناقص ستين. أذكر أنهم قالوا في النشرة الجوية: ’اللحم البشري يتجمد في 1.4 ثانية.‘ أو أشياء من هذا القبيل."
2
قلت: " لم أزر مكانًا بهذا القدر من البرودة من قبل،"
ردّت قائلة: "رغم ذلك، لم تكن البرودة بهذا السوء. كانت برودة جافة. عندما تشرق الشمس، لا يبدو الجو شديد البرودة. تشعر بشيء أشبه بالوخز في جلدك. كنا نلعب في الخارج حتى في هذه الأجواء. يمكن أن تصل إلى حد البرودة الشديدة دون أن تدرك ذلك. وعندما تعود إلى الداخل، يبدأ وجهك ويداك في الألم مع عودة الدم إلى الأطراف. أظن أن هذا ما يحدث لمستكشفي القطب، حيث يفقدون أصابع أقدامهم لأنهم لا يدركون مدى البرودة التي أصابتهم."
أجبتها قائلاً: "ربما يكون الأمر كذلك."
ثم توقفت المحادثة للحظات، وأخذت أفكر في ما يمكنني قوله لاحقًا.
أضفت: "أعتقد أنك تعيشين النقيض تمامًا في الهند."
أجابت: "بنغالور جيدة، لكننا نحتاج إلى المطر. الجفاف حاليًا في جنوب الهند سيئ للغاية."
علّقت قائلاً: "سمعت مؤخرًا أن بعض المزارعين انتحروا بسبب حدة الجفاف."
ردّت: "نعم، بالنسبة للبعض الوضع مأساوي للغاية."
أضاء طاقم الطائرة الأنوار وأطفأوا إشارات أحزمة الأمان. بدأ الركاب في فك أحزمتهم، وتحرك بعضهم نحو الحمامات. انشغل طاقم الطائرة بتجهيز الخدمة. مرت مضيفة عبر الممر تحمل صينية مليئة بمناشف دافئة تفوح منها رائحة البخار. أخذت منشفة ومسحت بها وجهي وعنقي، محاولًا إزالة آثار تعب اليوم.
سألتني المرأة عن بداية عملي الحالي، فبدأت أحكي لها عن حياتي. رويت القصة التي صغتها مع الوقت لتصبح ما أصفه بحياتي. انتقيت تفاصيل الحديث، متجنبًا ذكر زواجي أو العلاقة التي أعيشها مع امرأة أخرى منذ أكثر من عام. لم أكن أتجنب الموضوع بقصد الخداع، بل لأنني لم أعرف كيف أتحدث عنه. حين بدأت العلاقة، ظننت أنني سأترك زوجتي، لكن الأمر لم يكن بتلك البساطة. شعرت بأن حياتي تفلت من بين يدي. أردت أن أكون شخصًا آخر. الآن أجد نفسي عالقًا في حالة من التردد، لا تفيد أيًّا منا. الوضع برمته أشبه بفوضى.
*
وزّع طاقم الطائرة وجبة العشاء. كانت الساعة قد بلغت الواحدة صباحًا، ولم يرغب معظم الركاب في تناول الطعام. اختلطت رائحة الطعام المطهو برائحة الطائرة، مزيج من روائح بشرية وصناعية. طلبت كأسًا من النبيذ الأحمر، فيما طلبت رفيقتي في السفر وجبة طعام وكأسًا من النبيذ أيضًا.
3
بينما كانت تفتح علبة وجبة "كورما الدجاج"، سألتني عمّا أفعله عندما لا أكون منشغلاً بالعمل، فأخبرتها عن عزفي على الساكسفون وحبي لموسيقى الجاز، رغم أن الفرص التي أجدها للعزف أصبحت نادرة هذه الأيام. أخبرتني أن هذا مذهل لأنها تعزف البيانو أيضًا وتحب الجاز، لكنها لم تعزف منذ قرابة العام. بدأنا نتبادل أسماء بعض الموسيقيين المفضلين لدينا.
قالت: "حاولت العزف منذ أيام، لكن الأمر صعبا. تحتاج الأصابع إلى مرونة كبيرة، وتفقد هذه المرونة إذا لم تعزف بانتظام."
أجبتها: "أنا أيضًا أفقد مهارتي إذا توقفت لفترة."
بدأت في تناول طعامها، وتركتها تكمل وجبتها بصمت. لاحظت سيدتين ممتلئتين تجلسان في الصفوف الأمامية، وكانت السيدة في المقعد الأوسط تحاول النهوض للذهاب إلى الحمام. تناور السيدة في المقعد الخارجي بحمل صينيتين، واحدة فوق الأخرى، بينما تتحرك صديقتها للخروج. بعد أن غادرت الصديقة، بقيت السيدة الأخرى واقفة وهي تحمل الصواني، وكأنها ترى أن محاولة الجلوس مجددًا ستكون مجهدة. ربما تعتقد أنه بحلول الوقت الذي تتمكن فيه من الجلوس، ستحتاج إلى النهوض مرة أخرى. عندما مرت المضيفة مرة أخرى طلبت كأسًا آخر من النبيذ.
*
سألتني: "متى تعتقد أنك ستعود إلى الهند؟"
أجبتها: "لا أدري، ربما خلال العام المقبل."
قالت: "يجب أن تبقى فترة أطول. هناك الكثير لتراه. هل زرت مادوراي من قبل؟"
أخبرتها أنني لم أزرها، لكنني أرغب في ذلك.
وأضافت: "وقصر تيبو سلطان ليس بعيدًا."
قلت: "القصر الذي يحتوي على النمر الموسيقي؟"
أجابت: "نعم، هذا هو."
قلت: "رأيته مرة، إنه موجود في متحف بلندن."
قالت: "قصره يبعد فقط ساعتين جنوب بنغالور."
سألتها إن كانت تستطيع أن تقترح عليّ كتابًا هنديًا يمكنني قراءته. ذكرت لي بعض الكتّاب الذين لم أسمع عنهم من قبل. تحدثت معها عن بعض الكتّاب الذين قرأت لهم، ووجدنا أننا نتشارك حبًّا لبعض الأسماء. بدا وكأن لدينا العديد من الاهتمامات المشتركة.
4
سألتني: "هل تقرأ الكثير من الأدب الروائي؟"
فأجبت: "قليلًا، أحب أن أتعرف على الأماكن التي أزورها، والأدب الروائي وسيلة جيدة لذلك. القصص تنقل إحساسًا بالمكان أكثر مما تفعله الحقائق."
قالت: "وهي أسهل كثيرًا في القراءة. الصفحات المليئة بالحقائق تجعلني أنام."
أضفت: "أحب الأماكن التي تقع خارج مسارات السياح المعتادة."
ابتسمت وقالت: "تحتاج إلى صديق محلي ليأخذك في جولة."
كانت الأضواء الخافتة والنبيذ وتأخر الوقت قد جعلتني أشعر بحالة من السكينة، وكأن الحوار بات أشبه بحلم. شعرت بالاطمئنان، وكان صوتها الناعم يضيف إلى ذلك الشعور بالهدوء. خفتت الأنوار مجددًا، وبدت أغلب المقاعد غارقة في السكون، فيما غط الركاب في النوم. الرجل الجالس بجوار النافذة فتح فمه وبدأ يشخر بخفة.
قالت: "يجب أن تخبرني عندما تعود إلى الهند في المرة القادمة."
فأجبتها: "بالتأكيد سأفعل."
وأضافت: "من المفترض أن أزور إنجلترا بعد شهرين لمناقشة أطروحتي. عليّ أن أنتهي من كتابتها خلال الأسابيع المقبلة. ربما أمكث بضعة أيام في لندن."
قلتُ مشجعًا: "هذا رائع."
كنت أعلم في داخلي أنني سأضطر إلى إخبارها عن لويز وكلوديا وعن الفوضى التي تعصف بحياتي الشخصية، لكن في هذه اللحظة كنت أشعر بالراحة برفقتها، ولم أرغب في فقدان هذا الشعور. ليس الآن.
سألتها وأنا ألتفت نحوها: "ما اسمك؟"
فأجابت بخفض رأسها وكأنها تكشف عن سر خاص: "عائشة."
ثم بادرت بسؤالي عن اسمي.
استلقت بجواري، أغمضت عينيها، ورأسها مائل نحوي. تأملت ملامحها تحت الضوء الخافت في المقصورة المظلمة، واستنشقت عطرها. هنا وهناك، كانت بعض المقاعد مضاءة بأضواء صغيرة حيث كان الركاب يقرأون. تسللت أفكاري نحو حياتي، نحو صعوبة التعايش مع الآخرين، ونحو الأنانية التي نحملها في أعماقنا.
بدت عائشة مستغرقة في النوم، بينما كنت قد تجاوزت تلك المرحلة. الشاشة أمامي عرضت خريطة للطائرة وهي تقترب من وجهتها. كانت صورة الطائرة تتمايل قليلًا على مسارها المحدد مسبقًا. المسافة المقطوعة ظهرت بخط متصل، بينما المسافة المتبقية تجلت كخط منقط. تغيرت الكتابة على الشاشة إلى اللغة الصينية.
(تمت)
***
........................
الكاتب: سيمون كولينجز/ Simon Collings يعيش سيمون كولينجز في جزيرة أوسني في أكسفورد بالمملكة المتحدة. عمل في مجال التنمية الدولية طوال معظم حياته المهنية ويكتب مراجعات وقصص موسيقية في وقت فراغه.
https://www.eastoftheweb.com/short-stories/UBooks/NighFlig927.shtml