ترجمات أدبية
سو ج. هونغ: التبريكات

بقلم: سو ج. هونغ
ترجمة: د. صالح الرزوق
***
قبل ست عشرة سنة، جلست في كوخ خانق على متن زورق شراعي في ساغ هاربور وبيدي قلم وورقة للتملص من هدر الوقت مع زوج لا أحبه. لماذا أخبرك بذلك؟.
لأن الاعتراف، أيها الابن العزيز، بأنني لا أحبه، يساعد على تفسير أسباب وجودك حيث أنت الآن. الآن أنت في الطابق الثامن من مستشفى رينسيك للأمراض العصبية في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس UCLA. في الطابق الثامن المخصص لليائسين. لمن هم على شاكلة فرجينيا وولف. وهو الطابق الذي يصبح في الساعة 3:45 بعد الظهر مكانا لتجمع غرباء عصابيين ينتظرون فتح الباب. حينها نتواصل بعين زجاجية مرعوبة وحزينة، وهي من خصائص من لا يعلم، على وجه اليقين، من سيقابل عندما يكون في غرف الأعزة على قلبه. في الوقت المحدد يسمح لنا الموظف بالدخول، كل زائرين معا، بعضهم يحمل الشطائر. لم أفعل ذلك في أول يوم. والآن أتيت ومعي علكة البيرة، المسموح بها. وهو الطابق الذي تجلس فيه برداء المستشفى الأصفر، وتكتب باليد الواجبات المفروضة التي تصر أن أرسلها بالإيميل إلى أساتذتك، وهم على مبعدة ثلاثة آلاف ميل. وأنت تذرع المكان بخطوات إلى الأمام والخلف مثل فهد في القفص. وأحيانا ترتدي الثوب بدون القمصان طويلة الأكمام التي أتيتك بها، ويمكنني رؤية الوشم على ذراعك الأيسر. صليب القدس. شهقت حينما شاهدته أول مرة، عندما قابلتك في المطار الشهر الماضي، فقد لمع بشيء من التحدي أمامي، حاملا رسالة من الله إلى هذه الزاوية من العالم. لم أتكلم. هكذا تفعل الأمهات حينما لا تعرفن كيف تؤدين واجب الأمومة: ندفن كلماتنا في بطوننا. العديد من الأمهات، بعمري، يشتكين من هذه العقدة، ولكن هذا حقا نوع من التربية الأبوية بدون دليل للإرشادات.
أخبرتني أنك تعمل على تحسين خطك. وقلت: "خط يدي بالكتابة فظيع. لأنه لم يكن لدي مكان للجلوس والعمل باطمئنان. ولن أنجح بدون خط جيد. لماذا لم توفري لي بيتا يمكنني أن أعمل وأنعم فيه بسلام؟".
قاطعته: "خطك ممتاز". ماذا يفترض بأم أن تقول وهي تتخبط داخل هذه الحلقات العبثية؟. فأنت تنطق بالهراء حين تقول أنك قلق على خطك بينما كل العالم الآن يطبع بإبهامه، ويملي على الهاتف، والذكاء الصناعي يتحكم بنا ويرتبنا كما يشاء. وبغضون جيلين أو ثلاثة ستختفي القدرة على الكتابة باليد، مثل أرقام الهواتف، لا أحد يحتفظ بها في ذاكرته. ولذلك عزمت أن أقول شيئا، لكن خرج من فمي عبارة "أنا آسفة لأنني خذلتك".
تقلصت عيناك اللوزيتان بشكل خط أسود، ووبختني بقولك: "لقد خذلتيني. بكل شيء. أيتها المرأة الغبية". ثم نهضت عن المقعد المستند على الجدار وأتيت نحوي، وقبضتاك مضمومتان. انتبهت لوزنك البالغ 210 أرطال، ولطولك وهو ستة أقدام، ولكنني لم أبارح مكاني على سريرك، لأنني أستطيع رؤية وجهي. حينما يمتعض نتيجة ما يوجد في دماغك حتى يسيطر عليك، يفضح وجهك نصف الآسيوي عرقه الغامض بوجنتيه المحمرتين وشفتيه الممتلئتين بعذوبة ساذجة. في داخلك لا يزال يوجد بقايا غايفين السابق المحب لأمه.
ما أن اقتربت مني، حتى هدأ وجهك، واختفى رقم 11 من بين حاجبيك، ووقفت قربي وهمست: "آه يا أمي". عيناك واسعتان، والحدقتان ممتلئتان ببريق يحيط بالأسفل. تراجعت للخلف نحو المقعد الذي قلبته وقلت: "حقيقة لا أريد الدواء. فهو يسممني". ثم جلست وأخذت قلمك الرصاص لتؤدي واجبك المنزلي.
لم يكن عندي ما أقدمه، وراقبتك ببساطة خلال ما تبقى من ساعة الزيارة، فأعلنت عن طلباتك من أجل اليوم القادم قائلا: "أحتاج لمزيد من الورق المسطّر. وأقلام أضافية. حينما لا أجد الرصاص لا يقدمون لي غير الأقلام الملونة. ولا أستطيع الكتابة بأقلام التلوين. وعليك أن تدخلي إلى حسابي وتخبري أساتذتي بالإيميل أنني في لوس أنجليس. هل اتصلت بهم؟. عليك أن تخبريهم أنني قادر على أداء العمل. وأن تخبري العميد أنني أتحسن أثناء عملي".
ثم سألت: "هل بوسعك طباعة شيء عن مرض الوسواس القهري؟".
أضفت هذا لحالة القلق والكآبة العامة التي كانت تتحكم بك في صباك في المدرسة الثانوية. هكذا تتشكل شخصية جيلك. علاج نفسي. كوكتيل دواء نفسي. قال المقيم الموجود أنهم بحاجة لك لعدة أيام ليحددوا ماذا يفيدك للاستقرار، أسبوع كامل على الحافة لتعرف إذا كنت ترغب بالاستمرار في هذا العالم معنا.
جاءت الممرضة ودقت الباب. نهضت وتوجهت إلى الحمام. سألتك: "هل تعتقد أنه حان الوقت لتخبر والدك؟". والدك، الذي لم أكلمه منذ ست عشرة سنة. الذي يشترك معك بالجينات ولكنه لم يكن أكثر من شبح مر في حياتك. غسلت دورة المياه، وأويت إلى السرير، وأغلقت عينيك. عدت إلى الصالة، وركزت على همهمة نظام تنقية الهواء بانتظار المصعد ليحملني إلى شوارع قرية ويستوود والعودة إلى الناس الأحياء. دائما يلاحظ الناس مقدار شبهك بي. شعر أسود، عينان سوداوان، وجه مستدير، أنف مستقيم، ولكنها ملاحظات ممن لم يشاهد والدك، الذي، رغم انتمائه الأشكنازي، يحمل نفس المواصفات، باستثناء استدارة الوجه. فهو بخدين وذقن مدبب. وبعينين خضراوين. وأنت تعلم أنك نتيجة مثالية لاجتماعنا أنا ووالدك. ها أنا أخبرك يا غايفين، أحيانا تضع يدك على وركك، وأصابعك ممدودة بالمقلوب، وهذا ينقلني إلى أيام كنت أنظر فيها إليه بعدسات وردية. بعد العودة من وقت الزيارة، حضّرت نفسي لرحلة واشنطن العاصمة لاستعادة مقتنياتك وإعادتها من جورج تاون، إلى البيت، في لوس أنجليس. وحينما نقلناك قبل خمسة شهور من أجل عامك الجديد، حزمنا الصناديق وشحناها بالبحر على مدى أسابيع من التخطيط والتفاؤل. والآن لدينا يومان لحزم أمتعتك، اشتريت كل اللوازم بواسطة أمازون: مضخة يدوية لسحب الهواء، حقيبة زرقاء مرنة من البلاستيك، شريط لاصق، وأقلام. دخلت إلى حسابك في المدرسة، ورفعت مقالتك من أجل سيمنار الكتابة الخاص بالعودة إلى المجتمع، وتفحصت بريدك الإلكتروني. وصلت رسالة نصية، ورأيت الفقاعة الخضراء تعبر الشاشة، وشعرت كأنني أراقب شخصا يتخلى عن ثيابه. كانت من شخص يدعى كيكو ومفادها: هل سأراك في الاجتماع؟. تتبعت بقية الرسائل وتفحصت رسائل الاجتماعات في الكنيسة. وما يتعلق بالآباء. والآباء الحقيقيين. وكلمات الشفرة عن كنيسة المونيين. وهنا توقف قلبي. فكرت بالأيام القاتمة من زواجي بوالدك. وهي أيام لم أتطرق لها مع أي إنسان. وكيف تقابلنا. وكيف انفصلنا. حتى لا يصدر الناس أحكامهم علي. بعد كشف المستور، لن يبقى سري مستورا. مع أنني كنت قد توقفت عن التواصل مع نفسي. ما هو حظي بإزالة الحرف القرمزي المعاصر الذي يبدأ بحرف 'م' ويدل على موني (أتباع كنيسة التوحيد التي أسسها سون مونغ مون - هامش). رغم مقاومتي. عدت بذاكرتي إلى اليوم الذي قابلت به والدك. حين ارتديت ثوبا أبيض من الدانتيلا، ماركة لورا أشلي، لأنه أبهى ثوب رأيته في مركز التسوق قبل سفري من نيويورك إلى سيؤول، حيث بدأت العمل لأول مرة بعد تخرجي من الجامعة. في ذلك البحر من الثياب البيض كالحلوى والبذات السود، كان ثوبي البري خارج مكانه. كان ضيقا ويسبب الحكة بدانتيلا رخيصة وبطانة أرخص، وهو ما كنت أفكر به حينما وضعوني أنا ووالدك معا في غرفة اجتماعات بدون نوافذ. قال بصوت عالي النبرة بقوامه الطويل والمنتفخ بالعضلات: "مرحبا يا سارة. يسعدني لقاؤك". برز من جيب صدارته منديله المنقوش بأول حرفين من اسمه ي. ي. وهما اختصار لإيريك إيزنشتاين - وذلك بخيط أزرق. ثم مد يده للمصافحة، ولكنني اقتربت لأعانقه. فقد كنا على وشك أن نكون زوجا وزوجة.
قال: "أخبرتني القس الأم أنك من لوس أنجليس. ولكن أصلك من كوريا".
"أنا أعيش في نيويورك الآن. وأنت من شاطئ بوسطن الشمالي؟ وتعمل في تجارة الصيد؟".
"على مشارف غلوشستر. والزورق لخالي. شقيق أمي. أمي مطلقة وتعيش مع زوجها الثاني وهو ليس والدي. ولا أعلم لماذا أخبرك بهذا. هل تعرف بوسطن؟".
"هناك بدأت بزيارة الكنيسة".
"هل كنت في حفل الحديقة قبل ثلاثة أيام؟".
قلت "كنت هناك". وبدأ وجهي يحمر، ولاحظت أنه كان جذابا. وكان صمتنا بمثابة تأكيد لاتحادنا. فهو قدرنا أيضا. قبض على يدي وتقدمنا في ممرات وأنفاق الإستاد، وانتهينا إلى حقل رتبونا فيه بطابور - عريس - عروس- عريس - عروس- بدقة وعاطفة. وكانت هناك خشبة وقف عليها الأم والأب بالعباءات والتيجان. كان الإستاد يفيض بالحب المنبعث من عشرات ألوف الأزواج، وشعرت أنني جزء من الكون. وهذا يعني أنه لي معنى. نظرت نحو يميني ورأيت والدك، وكان يمسح دمعة من خده. أصغينا إلى رسالة حبية من الأب الحقيقي تدعونا لإنقاذ الكوكب بالزواج بين الأعراق. وكانت رسالة الأب باللغة الكورية، ولكن كانت توجد في أرجاء الحقل لوحات تعرض رسائل المباركة والتهنئة، وكذلك أجهزة صوتية كانت تضخ في آذاننا عبر سماعات قدمت لنا حال وصولنا. ثم حان وقتنا للنطق بالقسم والعهد، وتلوناه بلغة إنكليزية: نحن إدارة Cheon Il Guk (عبارة كورية معناها: مملكة السماء الموحدة - هامش)، عائلتنا تتعهد بتكوين عائلة كونية تجمع السماء والأرض، وهو طريق الرب في الخلق. سنجعل العالم مثاليا، ونحقق الحرية والوحدة والسعادة، ونركز على الحب الحقيقي.
ثم تم الأمر. أصبحت أنا وأبوك عائلة. وأصبحنا شخصا واحدا.
كما قلت حينما سألتني، لماذا أنجبتك ما دمت أعلم أنني لن أبقى مع أبيك: ليس لدينا آلة زمن لإبطال ما حصل وانتهى. يمكنك إلغاء المستقبل، ولكن ليس الماضي. لم أدرك أنه حينما نطقت بتلك الكلمات سيأتي يوم ما وتجرب ما سلف وتختبره بقلبك.
حينما كنت في المدرسة الإبتدائية، اعتدت أنا وصديقات أمي، أن نلعب لعبة الإعراب عن مخاوفنا بما يتعلق بسلوك أبنائنا في سن المراهقة. همست جانين، أقرب صديقات أمي، ونحن ندخن سيجارة على طرف شرفة بيتها بينما كنت أنت ودانييل تلعبان لعبة وي في غرفة المعيشة: " طرد من المدرسة واتهم بالتحرش الجنسي". كانت تلك أفكارا مستحيلة، وكان الإقرار بها علنا مؤلما وحارقا. ونفذ في قلوبنا. لم يقلقني احتمال أن تحمل منك فتاة ما أو أن تستسلم للمخدرات، رغم سرعة نمو الأولاد في الطرف الغربي من لوس أنجليس. أشد ما خفت منه أن تعود إلينا من مدرستك وأنت مسيحي إيفانجيلي، متحمس ومتعصب بزي يدعي المحبة. وربما لهذا السبب اخترت أن نعيش في منطقة علمانية من لوس أنجليس، حيث يوجد كثير من اليهود المستنيرين، والبروتستانت غير المتشددين. سألتني وأنت في الصف السابع: "لماذا يحصل الجميع على نسخة من الوصايا mitzvah وليس أنا؟. ولماذا لا يمكننا عبادة الله بالطريقة التي يعبده بها الآخرون؟".
"لأننا لسنا كما نبدو".
"ولكن كنيتي هي إينشتاين. يربكني أن أضطر للاعتراف أنني لست يهوديا".
"لماذا عليك أن تعترف؟ ومن طلب منك أن تفعل ذلك؟".
قلت لي وأنت تصفق باب غرفتك: "أنت لا تفهمين أي شيء".
في أيام المدرسة الابتدائية، تركز قلق والدينا على الطفرات البيولوجية - الجنس والمخدرات. وهي أشياء تقلق منها العائلات السليمة. وعلى مدى سنوات، كلما انضم لي المزيد من الآباء المطلقين، كانت بوصلة رعايتنا الأبوية تشير إلى أضرار تلحق بالعقل والنفس.
قالت جانين في الشهر التالي للشروع بالطلاق: "سيلومني حتى الأبد لأنني تخليت عن والده".
بعد عدة أسابيع انتقلوا إلى سانتا كلاريتا، في عطلة ربيع طلاب السنة الثانية، وقلت: "شكرا لأنك حرصت أن لا أنتقل خلال العام الدراسي. كان دانييل يبكي اليوم أثناء الغداء".
قالت جانين، ونحن في المطبخ أساعدها على حزم صناديقها: "شيء رائع أن تربي من تريد. بلا تنازلات. دائما كنت أحسدك على ذلك. من المؤكد أن الأم غير المتزوجة شيء مروع. اللعنة. هذا يترك فراغات. ويصعب الأمور".
وحينما مرت الكنيسة بحالات رحيل، عقد الأب مون صلاة ينعي فيها المصائب التي تحل بالعائلة الظالمة. وحدد كل شيء بالتفصيل - شجرة تسقط على البيت، حتى تسحق كل من فيها، مع إجهاضات تستمر لأجيال - كما لو أنه لا شيء يصيب فرعون ولا يمكن لمون أن يقوم به.
كان من السهل الرد على أسئلة والديّ. كانا ببساطة سعيدين لسماع أنباء زياراتي إلى الكنيسة، وأنني كسبت صداقات بعد عذاب فترة طويلة في أعقاب الهجرة من سيؤول. فكروا بهذا: ابنتهما تنفق معظم وقتها مع صديقات تفضلن الحياة بلا خطيئة، والعثور على شريك طيب، وبناء عائلة، ونشر السلام في العالم. وهو حلم أمريكي لا يسع والدا مهاجرة التفكير بأفضل منه.
ولكن قال أوسكار وايلد: الكوابيس هي أيضا أحلام. حينما بلغت العشرينات من عمرك، يا غايفين، اعتبرت أن الحياة الإشكالية هي حياة غريبة. وأثبت لك مرور الوقت أن الشر يبدأ من النوايا الطيبة، وأن تستمتع يعني تقبل الأجزاء غير الآمنة من الحزمة كلها. وخلال عطلة نهاية أسبوع واحد من شهر تشرين الأول، في السنة المتقدمة من الجامعة، تخليت عن عدة صديقات من أجل عائلة نشيطة اخترتها، واستحوذت على كل انتباهي ووقتي.
حينما اعترضوا طريقي، كنت عائدة من رعاية أطفال أستاذة في قسم الفلسفة. لا أذكر اسمها. لكن سألتني موني إذا كان بمقدورها مرافقتي في طريق العودة إلى الكامبوس. كان الوقت في أواخر ليلة الجمعة، وحينها كان معظم الطلبة ينفخون أنفاسهم بعد أسبوع من حفلات جماعية، وهناك رأيتها ترتدي قميص جامعة تافتس مثلي. ولكن كنت أبدو طالبة جامعة منهكة، في حين أنها متوهجة كأنها ربحت جائزة اليانصيب. أنفقت أفضل أيام حياتي في ساميرفيل، ولكن لم أندمج بحياة التسلية التي نعمت بها زميلاتي في الدراسة. لم أكن مستعدة لذلك. حرفيا لم يكن لدي نقود أنفقها على البيرة في لسيغو أو على أكوام من طلاء الشفاه التي وضعتها زميلتي الجديدة على طاولة تبرجها. كنت أحتفظ بعلبة نفايات معدنية حصلت عليها من مكتب المعونات المالية، وعمل يعين على تكاليف الدراسة، وعدة دولارات إضافية أدخرها من حساب رعاية الأطفال. قبلت دعوتها بسهولة، إلى حفلة، قالت إنها ستمنحنى الهدف والمتعة في الحياة. وكذلك لا تنشد التراتيل وهي حافية مثل جماعة الهير كريشنا حليقي الرؤوس الذين تراهم في المطارات في قاعة استرداد الحقائب. فقد كان رأسها أشقر وأجعد. وأخبرتني أنني بعد ذلك لن أفوت أي حفلة من هذا النوع. وصدق كلامها. لا يوجد نشاط يشبه حفلات الموني في حديقة بوسطن. وهي حديقة من الأيام التي تفوح فيها رائحة البيرة بكل الأرجاء، حتى في المقاعد الجانبية حيث جلسنا. كانت الموسيقا ناعمة، ووقف بوجهنا عمود منعنا من الرؤية. لم نهتم. حتى أنني تأثرت في أول حفلة، وتأرجحت مع كل أغنية، رفعت ذراعي وكتفي عاليا، وجعلت راحتي نحو الأعلى. تابعت على هذا المنوال لعدد من السنوات. وحينما كنت عازبة وبعد أن اقترنت بأبيك كرمت علي الكنيسة ببعض الأشياء، وأغلق بقية العالم أبوابه أمامي. تقدمت لمقابلات بحثا عن عمل مثلما يفعل الكبار، ورفضوني جميعا. ولكن حالما ذكرت في إحدى الصلوات أن صيد الوظائف أتعبني، تلقيت عرضا من فندق تابع للكنيسة في مانهاتن بنيويورك بعد أسبوع، وعملت في قسم المحاسبة لسنتين قبل حفل التبريك في سيؤول. بعد الزواج، انتقلت إلى بيفرلي، ماساشوستس، مع والدك لنعيش في شقة صغيرة قبالة محطة القطار. وعملت مع شركة ديكور في لويس وارف، وتابع هو الصيد بالزورق مع عمه. في أيام إبحارهم، كنت أقوده إلى غلوشستر، وكنا نتماسك بالأيدي في الميناء. أردت أن أخبره أنني أشتاق له، ولكن لم أحرجه أمام الطاقم. فقد مر على عاصفة أندريا عام فقط، وأي تردد يشبه تحريض القدر. ولأكون صادقة حقا، لم أكن متأكدة أنه سيعرب، مثلي، عن اشتياقه لي.
وخلال هذه الفترات، ارتبطت في رأسي ساعات أيام السبت بصوت البوابات في الشارع وهي تطرق وترن معلنة عن وصول القطار. أما أيام الأسبوع فقد غلفها الضباب وكانت عن رحلة بالقطار السريع إلى بوسطن للذهاب إلى العمل. كنت أشعر أن الحياة واقفة بمكانها، ولكن أوراق النباتات تغير لونها، ورائحة الخشب المحترق تنتشر في الهواء. ثم احتفلنا بأخبار عطلتك في عيد الميلاد، وبدأت بكل سرور أربط الأيام بمواعيدك المتوقعة. غاب والدك في البحر أطول فترة قبل وصولك في آب عام 2003 مباشرة. لا يمكنني أن أكذب. خارج هذا الأسبوع المنصرم كنت معك في المستشفى لرعاية حالة انتحار، وكان أسوأ وقت في حياتي، ولكننا كنا بحاجة للنقود. بعد أيام من عودتنا إلى البيت، خيم التعتيم على الشاطئ الشرقي. إذا نظرت إلى أعلى سترى أنه الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة. انزعج جيراننا، ولكننا أشعلنا في الشقة كل الشموع كأننا نحضّر لوليمة مسائية. نمت في المهد بجوار طاولة العشاء الصغيرة، وتناولنا خلال ذلك معظم ما لدينا في الثلاجة، حتى لا نرمي كل شيء في النفايات. ثم وضعناك بجوار السرير، لنراقبك طيلة الليل، وتماسكنا بالأيدي بكل قوتنا. ولم أهتم بقسوة وخشونة يدي والدك. كنت أرتاح لملمسهما في تلك الليلة.
سألته: "هل تعتقد أن غايفين يعرف مقدار أهميته عندنا؟".
"لا أعلم. ولكن أظن أنه يشعر بحبنا".
"أتمنى وجود طريقة تسمح لك بالانتظار معنا لفترة أطول".
"لا أرى أي فرصة لذلك. أنت تعلمين أن الأجور جيدة، وأعرف كيف أؤدي هذا العمل".
لم أرد فأبوك لا يتأثر بالكلام. مضى على زواجنا ثلاث سنوات، ولكنه بقي لغزا بالنسبة لي خلال أوقات وجوده في البحر وأوقات صمته. وأيضا لم أرغب بالإفصاح عما في رأسي: كيف ينتهي الحال بمتعلم في رابطة آيفي - ومتخصص بالرياضيات، على متن زورق للصيد؟.
لم تتوفر لي فرصة للسؤال. بعد شهر، قدمت الكنيسة لوالدك عملا في واشنطن العاصمة، بصفة مهندس صوفت وير في برنامج إعلامي أطلقوه حديثا. في أول عطلة عيد ميلاد، كان والدك يفوح برائحة التوابل لا السمك، وشعرت بنعومة يديه عندما قبضت عليهما في الكنيسة بإحكام. لبعض الوقت لم أتمكن من تخيل أي طريقة سواها للحياة. كلما فكرت بتلك السنة المنصرمة، بغض النظر عن الفصل، أرى أمامي مساحة رمادية، وأسمع صوت تساقط الثلج. كان لدينا شقة أكبر في الإسكندرية، وبعض النقود التي تعينني على الحياة في المنزل. فكرت أن حياتنا الجديدة ستكون مريحة، لكن المتعة التي انتظرتها لم تواتيني. وعزوت انغلاقه وفراغ حياتنا الزوجية للفترة الطويلة التي كان ينفقها في البحر. وشكلت الحياة في هذا المكان الجديد، وبظل غياب والدك، ومع أنه وجيز، انقطاعات يومية. فصمته وانفصالنا لم يكونا أعراضا عابرة ولكن حالة دائمة. وأسوأ شيء في كل ذلك أنني كنت أعلم ذلك. كل مساء، كنت أذرع الشقة بخطواتي وأنت بين ذراعي، حتى أسمع صوت مفاتيحه في الباب. وأي حوار كان ينتهي بسرعة، ثم أجهز العشاء وهو يستحم. بعد ذلك نأوي إلى السرير، ونشاهد التلفزيون قبل أن نغط بالنوم. في أمسية يوم من تموز ونحن نقترب من عيد ميلادك الثاني، وصلنا إلى موضوع عن المستقبل.
سأل والدك: "هل تعتقدين أنه آن الأوان لإنجاب ولد آخر؟".
"لا أظن أنني جاهزة".
"ومتى تكونين جاهزة؟".
لم يكن لدي رد.
سألني مجددا وهو يقلب محطات التلفزيون: "متى؟".
"لا أعلم. هل هكذا حقا تريد أن تتكلم عن موضوع من هذا النوع؟".
"ما هي الطريقة التي تودين الكلام بها؟".
"لا أعلم".
أغلق التلفزيون، ثم مصباح القراءة، قبل أن يدير ظهره لي. وتحول تنفسه الثقيل سريعا إلى شخير، وطمرتني ترددات صوته العالي.
بعد أسبوعين، أخذني والدك في رحلة مفاجئة. تركناك مع أمه، والتي جاءت لتعتني بك خلال إبحارنا إلى ساغ هاربور. كنت محتارة ولكن انتابني شعور مثل لحظة الدخول إلى حقل في سيؤول للحصول على التبريكات.
انطلقنا من ولمنغتون، بسيارة CS36 استعارها والدك من أحد أعضاء الكنيسة. كانت جميلة وغالية الثمن، وتصورت أنه يمكنها أن تستوعب ضعف طولي ست مرات، إذا استلقيت فيها من الرأس حتى أصابع القدمين، ومن طرف لطرف مقابل. استغرقنا ثلاثة أيام مريحة لنصل إلى نيويورك في جو من الرياح العاصفة. مررنا من تحت جسر بروكلين، وفكرت بالحياة التي يمكن أن أفوز بها في المدينة. لم أفكر بمثل ذلك منذ سنوات، ولكن في تلك اللحظة استحوذت علي. لم نتوقع العواصف، لكن العبور من إيست ريفير كان قاسيا ونحن نمر بمحاذاة ريكيرز. وصلنا أمواج المياه الهادئة فارتخت قبضتاي وأصابع قدمي. وبعد وصولنا في خاتمة المطاف إلى ميناء جيفرسون، خيم الظلام، وحدقت بالشمس المائلة للغروب، ولاحظت على محيطها منارة كانت تدور وهي مشعة بحزمة من الضوء، مع أن ضوء الشمس لم يغرب تماما. كانت الليلة عاصفة يا غايفين. ارتفع الموج مرة بعد أخرى، وانتظرناه بعيدا، ثم هدير الماء، ووزن جسم والدك، الرائحة القوية في الكابينات خنقتني، ومنعت عني تقريبا نفسي الأخير. قلقت عليك ومما قد يحصل لك، إن لاقينا أي مكروه. هل ستربيك والدة أبيك؟. أم أمي؟. ماذا عن الكنيسة؟. شعرت أن الكنيسة مستعدة للعناية بك. لتثبت أمامنا قناعتها بعائلات من أمثالنا. أغلقت عيني، وصليت ليهدأ البحر في الصباح، ومع تقدم الليل، لاحظت أنني أنتظر الإنقاذ مما بعد العاصفة أيضا. في الصباح التالي كانت المياه راكدة وبراقة مثل العشب بدون أي علامة تدل على ليلة أمس الهائجة. مع أول شعاع ضوء، سمعنا العدائين وراكبي الدراجات يمرون من جانب الماء لأداء واجبهم الصباحي. غادرنا باكرا لنبلغ ساغا هاربور في المساء. ولكن بعد عدة ساعات تشكلت عاصفة سحابية ووجدنا أنفسنا ننحرف عن مسارنا. أبحر بنا أبوك إلى ماتيتوك ليقرر هناك ماذا يفعل. ووجهني لأكون تحت السطح حتى بلغنا المياه الآمنة. نظرت من مقعدي في المقصورة نحو الأعلى، ورأيت السماء سوداء تقريبا ولكن لم نكن قرابة الغروب. قدنا المحرك ببطء على طول الطريق المائي، ثم توقفنا بموازة الضفة. كانت تمطر بغزارة حينما أصبحنا تحت السطح، وجلسنا في المقصورة، نستمع لسمفونية العاصفة الهائجة. بعد ساعات، حينما توقف المطر، ذهبنا إلى دكان في الشارع. ونحن هناك، خابرت جدتك لأطمئن عليك. قالت إنك تحلم. طلبت أن أكلمك، فأكدت لي أن أيقاظك لن يكون أمرا طيبا. توجهت إلى الباب، ثم استدرت وطلبت استعمال الهاتف ثانية. أردت مكالمة والدي. لأنني لم أكلمهما منذ عام على الأقل. بالنظر لتاريخ الزواج المدبر في كوريا، توقعت أن يسعدهما الخبر. ولكن قلقا مما اعتبراه زواجا قسريا. فقد قرآ المقال المنشور عن القس مون. والإشاعات عن الأخطاء المالية. وطقوس الجماعة. أمسكت أنفاسي. ولكن حينما سمعت صوت الوالدة تقول: "Yeobuseh-yo (ألو بالكورية - هامش)"، أطلقت سراح نحيب ثم انخرطت بالبكاء.
سألتني: "Wehgureh؟ لماذا أنت هكذا بالكورية - هامش".
"لأنني مشتاقة لك".
"وأنا أيضا. Sarah-ya . مر وقت طويل. هل أنت مرتاحة؟".
"ليس تماما. سأكلمك بعد العودة إلى البيت". وأغلقت الخط، ومسحت عيني، ثم خرجت إلى والدك.
عدنا إلى الزورق بصمت. ما أن اعتليناه، حتى قسمنا الشطائر، وفتحت زجاجة نبيذ، وجلست برفقة كتاب للقراءة. تناول والدك شطيرته وبيرته، وأشعل المذياع ليستمع لمباراة يلعبها فريق ميتس، وجلس بجواري. ثم مال علي ليطبع قبلة. شممت من شطيرته رائحة السالامي، فأمسكت أنفاسي، وأغلقت عيني، وشعرت بشفتيه على شفتي، ولسانه يحاول جاهدا أن يفتح فمي. أولا جاريته. وقلت لنفسي: إنه زوجي. ثم انغلقت. انسحبت ونظرت إليه. فتشت عيناه في عيني. في البداية اضطرب نظره، ثم أصبحت عيناه سوداوين بطريقة لم يسبق لي رؤيتها. بعد ذلك دفعني على المقعد، ومددني عليه، وأصبح كله فوقي. ثبتت يداه رسغي، وأصبحتا فوق رأسي. ووضع فمه على فمي ثانية، ولكن قاومته في هذه المرة: "كلا ليس هذا".
لم ينطق بكلمة وهو يفك أزرار سرواله، وينزع سروالي الداخلي. بعد دقائق قليلة، كان يقذف في داخلي وأنا أنظر إلى سقف المقصورة، وألاحظ الغبار على المصباح. لم أعول. ولم أتكلم. وتركته حتى ينتهي. في وقت لاحق من تلك الليلة حلمت أنني في حياة أخرى لن أكون على متن هذا القارب، وسأكون متحررة من ذنب الهجران والتخلي عنه. في الصباح، أبحرنا إلى ساغ هاربور بصمت ولم نتكلم عن ليلة الأمس. واتفقنا، بسبب التنبؤ بالمزيد من العواصف، أن نختصر رحلتنا، لأنه أفضل إجراء منطقي. كان الإبحار مستقيما حتى انعطفنا حول أورينت إلى غاردنيرز باي، حيث ماتت الرياح تماما. وشوتنا شمس ما بعد الظهيرة المتأخرة بلا رحمة. وعندما رسونا سأل والدك: "هل تريدين مرافقتي لتحري النادي؟".
قلت وأنا أهبط إلى مقصورتنا التي أصبح جوها كالساونا: "كلا". سمعت صوت خطوات والدك وهي تعلن عن خروجه من القارب. أنفقت الساعتين التاليتين أضع الخطط لهروبنا. من ما يجب حزمه الآن، حتى كيف أحجز تذكرة طائرة إلى لوس أنجليس. وهناك أعيش مع والديّ لحين توفير التكاليف الضرورية أو نوع الأعمال التي قد تسنح فرصتها لي. أيضا دونت تفاصيل الأمور التي طلبت مني الكنيسة القيام بها. وعالجنا المبالغ الملحة المفروضة على أعضاء الكنيسة المعوزين. والأوقات التي أنفقتها للعبور من فانويل هول، بحثا عن شابات أحثهن على الإقبال على الحياة، دون التفكير بمستقبلهن. كنا نصطاد النساء والرجال الوحيدين متسترين على ذلك بشعار زائف وهو الحب والسلام. كنا نخبرهم عن أعراسنا الجماعية - ومباركتنا- وحب العائلة "الحقيقية". ولم نذكر كلمة عن عزلتنا في العالم. أو أي شيء عن الأبنية والشركات التي كسبها الأب والأم مون بتبرعاتنا، فقد كنا مجرد أتباع للكنيسة. احتقنت عيناي واحمر خداي من الألم. كنت أعلم أن كل ذلك خطأ. بعد عدة ساعات عاد والدك. كان قد تناول العشاء في النادي وأحضر معه زجاجة ويسكي. ثم شربنا وبدأنا برقصتنا الأخيرة. كان الجو معتما مع شريط من هلال باهت. الماء هادئ. بلا رياح. أمكنني سماع ضجة غير مفهومة للناس الذين يتنقلون في البلدة من المطعم إلى البار. هؤلاء صيادو الأحلام في ليالي الصيف في البلدة الساحلية. كنت أذرع مقدمة الزورق وبيدي شرابي حينما قلت: "لقد فاض الكيل معي". وحينما شعرت بحركته قلت: "إياك أن تعطيني ظهرك".
اقتربت من مكان صوته، ولكن انزلقت قدمي على القفل الزجاجي لسقف المقصورة. ولأكون صادقة لا أعلم إذا شعرت حقا بالندم في تلك اللحظة، أو أنه شيء تراكم على مدى سنوات. لم أشاهد الحواف الحرة التي تعثرت بها وأنا أسقط نحو الشراع. وانتابني ألم مفاجئ في جبيني، ثم ارتفعت حرارة خدي. مددت ذراعي وأنا أتخبط نحو الجوانب وسقطت الزجاجة من يدي. وشعرت بزورق النجاة على فخذي الأيمن لدقيقة من الوقت. وآخر شيء رأيته كان ضوءا بعيدا توقعت أنه القمر. ولا أذكر سقوطي في الماء. استيقظت في المستشفى. كان أبوك هناك. توسلت له كي نغادر، ليتمكن من العودة إلى البحر. وأن يختار إذا أراد البقاء على اتصال معك. لم أكن لأمنعه، ولكن رفضت البقاء في الكنيسة. إذا أراد أن يبقى، عليه أن يبتعد عنك. وإن لم يوافق، سأفضح كل شيء عن الكنيسة أمام العالم. وسأسكب كل قطرة كيروسين أجدها وأضرم بها النار. أنا في المستشفى لإخراجك منه. وأنت ارتديت ثياب الخروج، وهم وضعوا هاتفك ومحفظتك في كيس بلاستيكي أحمر سوف تحمله معك في طريقك إلى الشارع. في السيارة سألت: "ماما، هل تتذكرين الأرنب المخملي؟".
"أتذكر. القصة رائعة. لماذا تسأل؟".
"كلا. أجدها مأساوية. الأرنوب أصبح حقيقة لأن الصبي أحبه، ثم تخلى عنه بعد أن لازمه خلال الوباء. هل تعتقدين أن والدي تخلص مني؟".
لم أعرف ماذا أقول.
"إذا اغتنم الفرصة ليراني حينما كنت في المدرسة، ربما اختلفت الأمور. دائما كنت أعتقد أنه سيأتي ليقابلني. وهذا هو سبب ذهابي إلى جورج تاون. مثل الولد الذي وجد نفسه، في خاتمة المطاف، في الحقل مع الأرنوب وكأنه أرنب حقيقي".
ونحن في طريقنا إلى البيت، قدنا السيارة على طول هيل غارد وبعد عدة شوارع من سان سيت وجدنا حفنة من طلاب جامعة كاليفورنيا لوس أنجليس UCLA متوجهين إلى صلاة منتصف اليوم في سانت ألبانس. طلبت أن نتوقف، وبعد أن توقفنا تبعتك، غير متيقنة مما تخطط له. دخلنا مع بداية الصلاة، وجلسنا في الخلف. كنت متيقظة ولاحظت أننا متداخلين وبوضوح، ولكنني فقدت نفسي في الطقوس وتبعتك لطقس المناولة. وعوضا عن الركوع أمام الطاولة، اتجهت يسارا لتقف مع قسيسة وحيدة.
سألت: "هل أنت هنا للتبريك؟".
"لي ولأمي".
وضعت يديها على كتفيك وقالت: "أبتي، حبك الغامر يعيش فينا جميعا. هذا الولد طاهر. وأمه طاهرة. وهما على ما هما عليه. وهما كما خلقتهما. أعنهما على مواجهة تحديات العالم. امنحهما القوة خلال خيبات الأمل، والحكمة في التعامل مع السعادة حينما تسنح لهما. أرشدهما لاكتشاف السلام في داخلهما مهما امتنع عنهما أحيانا. من قلبك الواسع، امنحهما حبا يغفر لهما ولغيرهما. ولتساعدهما على اكتشاف طريق الخروج من الظلام والاقتراب من الخير. نحن نصلي طالبين تبريكاتك، الآن ودائما. آمين".
حالما عدنا إلى مقاعدنا، تساءلت كم مرة كررت القسيسة تلك التبريكات بالضبط، وإذا ما كان لديها طفل يلومها على أمور ذهبت باتجاه خاطئ في حياتهما. وإذا ما منحت طفلها الإذن للإيمان بإله ناقص، وأن يشتاق لأب ليس كما يبدو عليه. في تلك اللحظة، شعرت بالغضب على القس مون وتحطيمه لفرصتنا بحياة وادعة. ولكن فكرت أيضا بيدي وهي تضع بذرة في الأرض. أنا أم وحارسة لإيمانك الأعمى. وأنا أؤمن بأب يضحي في سبيل أولاده. أب جاهز لأي شيء. يوجد كتاب عن الطلاق يناقش الاستعداد للقيام بأي شيء للاحتفاظ برعاية الأبناء. وغالبا يدعي الناس أنهم جاهزون لأي شيء، ولكن أي شيء غالبا ما يكون أبعد بكثير مما يتوقعه أي إنسان. خلال الصلاة رأيت أن هذا هو أي شيء بالنسبة لي: أن أحبك حينما لا تكون قادرا على مبادلتي الحب. في النهاية قبضت على يدي ونحن نسير إلى موقف السيارات. الشمس تلمع، والعصافير تطير فوق الرؤوس كما لو أنه يوم ربيعي آخر.
***
...........................
سو ج. هونغ Soo J. Hong مولودة في سيؤول. تلقت علومها في الولايات المتحدة.