ترجمات أدبية

روبن روم: الحفر

بقلم: روبن روم
ترجمة صالح الرزوق
***

قال أخوها مايكي إن الحفرة لن تقود إلى الصين، ولكنه كان على الدوام مخطئا. بالإضافة إلى أن مايا شعرت بشيء فوق التراب، مثل رجفة في الهواء. وكذلك احتك الرفش بشيء مختلف، حينما وضعته فوق البقعة، مثل خشب على بيانو، بعد أن تضرب بيدك المفاتيح.
عموما الجميع يعلم أن حفرة لا تقود إلى الصين، ولكن هذه هي المشكلة. الحفرة تقود إلى مكان ما، أي مكان، فلماذا لا يكون لديك عقل منفتح؟.
لذلك لم يفاجئها، ولم يند عنها صوت مثل بقية البنات، حينما وجدت وراء الحفرة التي تصنعها حفرة بعدها، على شاكلة نفق مبطن بالقماش. أحكمت مايا عقد رباط حذائها، ودست دراعتها العلوية الصفراء في جينز أخيها القديم، وهبطت.
للثقب رائحة الطين وماء الأنهار، مثل أشنيات في حوض أسماك معدني. زحفت في نفق القماش، فقادها إلى الأسفل، فالأسفل. حتى أصبحت الأرض غضارية، واختفى القماش، وبدأ النفق، والذي كان مضاء بمصابيح فضية صغيرة، يلمع كالنحاس الذي يتخلله رمل وصدأ. لمست مايا الجدران بيدها، ثم انتبهت الجهة الأنسية من جلد أعلى ذراعها، مثل جلد النمر.
انتهى النفق إلى غرفة منحوتة في صخور سود براقة، ورأت مايا في الجدار مكتبة مزدحمة بالبرطمانات. نظرت في الزجاج الذي غلفه الضباب، ورأت في كل منها نحل العسل.
كان هذا وقت موت نحل العسل. وتعرف مايا الكثير عنه من حديقة أمها، لأنه بعد موت ريجي شقيقها، وكان أكبر منها، تشكل عند أمها قناعة جازمة أن المدينة هي التي قتلته، وقررت الانتقال مع التوأم الأصغر إلى بيت متواضع تعلوه قبة، وكان معزولا في مروج خضراء في الشتاء، وذهبية صفراء في الصيف. وفي حديقته خميلتان من أشجار صنوبر قديمة وكوخ متهدم، وكان يبعد خمسا وأربعين دقيقة عن أقرب بقالية. وهنا وجدت النحل. نحل وأفيدات ودعسوقات وبعوض وقمل الغابة ودودة البطاطا وعناكب تنسج ااشباك لتصطاد قطر الندى. وكانت تعرف مهاية حياة النحل لأن أمها في صباح أحد الأيام ألقت من يدها الجريدة وأخبرتها أن: "النحل يموت". وأضافت دون نحل لن يكون لدينا فواكه ولا خضار. قال مايكي: شيء جميل. وهذا يعني أنه لا مزيد من حبال الفول. ولكن شعرت مايا بالتوعك.
همست مايا للنحل الموجود في المكتبة: "مرحبا. مرحبا. مرحبا". تحركت من برطمان إلى برطمان، وتكلمت مع كل نحلة على حدة. حاولت النحلات تسلق جدران الزجاج، وتعلقت بالفراغ القليل المتوفر، ثم قبعت في قاع البرطمان. جاهدت أن ترى وجوهها، وعيونها السود، لكن كان الغبار يغلف الزجاج.
حملت أحدها ومسحته. رأت النحلة حزينة، وهي تتمسك بزاوية البرطمان بأقدامها اللزجة. أزالت الغطاء المثقوب. نهضت النحلة، كما لو أنها مربوطة بخيط فوقها. جمدت لحظة ثم انطلقت نحو وجهها كالسهم. آلمتها بقعة تحت عينها، وبدأت تترنح كما لو أنها جرت ستارة غير مرئية فقد أصبح ريجي أمامها تعلوه ثلاث بالونات خاصة بالمستشفيات، وكانت مربوطة بمعصمه. كان يرتدي ثيابا قصيرة. وغطى ساقيه الشعر أكثر مما كان عليه الحال وهو على قيد الحياة. وكان وجهه نفس وجه صبي ابن اثني عشر عاما. كانت أمها تسمي هذه الوجوه خدود التفاح. كانت البقع تحت عيني ريجي تجعله دائما يبدو منقطع الأنفاس. ولكن الشيء الغريب، أنه أمكنها أن ترى من خلاله، كما لو أنه حاجز شفاف أمام زجاجات النحل. ورافق مرآه، مع بالونات المصحة، الشعور باللدغة التي تلقتها على خدها، وهو ما جعل صدرها يرتعش. كانت قدما ريجي حافيتين ومغبرتين. وقشرة من جلد أبيض جاف تغطي شفتيه. قال: "لا تفتحي البرطمانات"، وقبض على أجنحة النحلة وهي في الهواء.
سألته مايا: "ماذا تفعل هنا؟". وحررت طرف قميصها. نفضت التراب عن صدرها وشعرها.
كشط الجلد المتيبس على شفتيه. ورأت على وجهه ملايين النقاط البيض والسود. وكان شعره بلون قشدة الحليب. أرادت أن تلمسه، فهو أخوها الكبير، ريجي، أخوها الذي كان هناك في سرير المصحة، وتفوح منه روائح غبار الأدوية ومنظفات المغاسل، ولكن في الصباح كان قد رحل. قبل عام أخبرتهم أمها أن "ريجي رحل". وذلك صباحا في وقت الاستيقاظ وكان وجهها أحمر من البكاء. منعت مايا من تسريح شعرها، وذهبت إلى المستشفى بشعر أشعث. ولكن لم يشاهده أحد. لا أحد رأى ريجي الميت. ولربما لم يكن ميتا، ولعله ذهب إلى مكان ما، بعيدا ليصطاد النحل ويحبسه في نفق تحت الأرض.
أرادت مايا أن تلمسه، فقط من كم قميصه الرقيق ظاهريا، ولكنه أصبح مشعا - كأنه في دائرة الضوء على خشبة مسرح - وتوجب على مايا أن تتراجع. فالأصوات التي سمعتها لا تعود لأشخاص تعرفهم. عويل أجوف، كما لو أن النحل يشتمها، أو أن أجنحتها تخفق بآلاف الأصوات.
قال: "اذهبي يا مايا". انتصب شعره، بخصل تشبه أعواد ثقاب صغيرة يعلوها لون أحمر. ومع أنها رغبت أن تبقى في الحفرة، مع أخيها والبالونات والنحل، شعرت بنفسها تنسحب من الغرفة بالإكراه إلى الخلف، عبر النفق الغضاري، حتى النفق المبطن بالقماش، ثم إلى المرج، حيث وقف مايكي وهو يبول في أجمة ورود.
دار حول نفسه وأغلق فتحة بنطاله. قال لها: "رأسك مجلل بالقذارة". وحرك رأسه كأنه يضحك مبرزا أسنانه البيض الصغيرة. لكنه لم يكن يضحك. ولم يصدر عنه أي صوت.
مرت مايا من الباب الرقيق باتجاه غرفة المعيشة، صدر أنين عن ألواح الأرض، كان البيت شديد البرودة بسبب إغلاق أغطية النوافذ، وشاهدا أمهما تجفف المغسلة.
قالت مايا: “رأيت ريجي للتو". لم تلتفت أمها نحوها. لكن قالت: "هل وجدتما سكين المعجون الصغيرة. فقد أفسدت هذا الطرف".
لم يرد ذكر أبيهما أيضا. كان بحارا. وكل ما سمعته من أمها أنها استمتعت بحياتها حينما كانت أصغر بالعمر، ولكن للأسف انتهى وقت اللهو الآن.
عادت مايا في تلك الليلة بعد الغداء إلى الباحة. كان مايكي يشاهد التلفزيون، وأمها نتابع مشكلة المغسلة. فاحت من المغسلة رائحة زهور متفتحة. ذهبت مايا إلى كوخ الحديقة، وحملت مصباح أمها اليدوي. زحفت عائدة إلى الأسفل، وتمكنت من العودة إلى مكان النحل. وكان ريجي وبالوناته هناك، واقفا فقط. قال: "لقد رجعت. هل تودين المشاركة بلعبة خاصة؟". وفك قطعة قماش أحمر وأخرج حزمة بطاقات. لم تكن مختلفة عن غيرها، ولكنها بطاقات شركة طيران، من النوع الأزرق.
قالت: "ماذا؟ هذه بطاقات لعب؟".
قال: "أعلم أنها بطاقات. ولكنني جلبتها معي. وجدتها في الطرف الآخر من النهر". أصبحت قدرة مايا على النظر من خلال ريجي أمرا أقل غرابة الآن. وفي الحقيقة أقرب لشيء جيد. بإمكانك أن تشاهد ريجي وما وراءه، وتصادف أنها صفوف النحل.
قالت مايا: "كان بمقدوري أن أجلب لك بطاقات. يمكنني أن أحضر لك عدة أشياء".
قال ريجي: "كلا. ستوقعينني بمشاكل".
لم تعرف ماذا تقول له مايا. واكتفت بالنظر إلى البرطمانات.
"علي أن أكتفي بما عندي. فهي جزء من الخطة".
قالت: "لا يمكن لهذه النحلات أن تعيش هنا". اعتادت هي وريجي حبس الحشرات الصغيرة في البرطمانات حتى تختنق، ثم كانا يحاولان إنعاشها بشراب السعال. ولم ينجح ذلك. دائما لديهما الكثير من الحشرات الطائرة الميتة.
قال ريجي:"اسمعي. أنا في حياتي الأخرى. الأفضل لك أن تستغيثي. لست أنا من وضع القوانين". كان وسيما، أخوها، بعينيه الضيقتين وفمه الوردي. وقبل مرضه اعتادت البنات مخابرته، ما أن يعود ريجي من المدرسة إلى البيت حتى يرن الهاتف. وعندما مات جاءت جماعة من المراهقات بخدودهن المخملية للاشتراك بالجنازة. وأصابت إحداهن هستيريا وتوجب عليها أن تتنفس باستعمال كيس بينما بقية البنات يتصايحن لتتمسك بأذيال الحياة. قال: "ليس من المفترض أن تزوريني قبل أن تموتي". وسحب البطاقات من العلبة، وحركها بين راحتيه مع صوت خشخشة خفيف.
تابع: "هل أنت ميتة؟ آه. لا. لا أعتقد ذلك".
رأت مايا شريط المصباح الذهبي القصير في غرفة ريجي القديمة. انحنت لتلتقطه، ولكنه كان حارا وحارقا. صاحت من الألم.
قال: "عليك أن تنصرفي يا مايا".
كان صوته عميقا وجازما. فتحت فمها لتعترض، ولكن عصف بها مجددا شيء ما. مهما فعلت، لم يمكنها التمسك بأي شيء. كان النفق ناعما وغضاريا، ومن هناك انتقلت إلى الخارج، وتسللت من الفجوة وأصبحت فوق الأرض. في هذه المرة أرادت الهبوط مباشرة. ولكن جاء تيار قوي من الأرض، ولم يمكنها تحريك ولو ساق واحدة. كانت مايا تسأل بين حين وآخر: "أين أبي؟". ولكنها لم تحصل على جواب مقنع. كان الدبوس في شعر أمها يبدو مثل حيوان بني لماع ويقرض جمجمتها. حينما عاشوا في بيت السرطان، ارتدت أمها ثوبا أبيض ولونت شفتيها بطلاء أحمر، ولكن في الريف هنا لا تستعمل المكياج. ويبدو وجهها مبقعا ومخططا. بعد موت ريجي، كانت، لبعض الوقت، تصحب معها من المستشفى رجلا إلى البيت. وهو برداء أزرق. وحاليا الرجل الوحيد الذي يأتي هو والد الصغار الذين يسكنون في نهاية الطريق. ولمرة في الشهر أو ما يعادل ذلك كان يصحب أمها لسهرة، ثم عاد إلى زوجته، وهي امرأة فقدت حاجبيها.
قالت أمها بذهن شارد: "ليس لك أب، ولكن لديك أم. أخبرتك من الأفضل أن تنصرفي".
كانت تودع كل البرطمانات في الخزانة. الدراق مع الدراق، وصلصة المعكرونة مع صلصة المعكرونة. والبرطمانات تشبه البرطمانات التي رأتها في الحياة الأخرى.
سالت مايا: "ماذا كان اسمه؟". حملت الأم علبة فاصولياء واستبدلتها ببرطمان زيتون. ثم قالت دون أن ترفع عينيها: "السيد كرات القذارة". في المرة السابقة حين سألت مايا عن اسمه أجابت أمها: فرانك المستمني.
كررت مايا: "السيد كرات القذارة".
قالت أمها: "لا تشتمي. وإلا سأغسل فمك بالصابون". وراء بيت مايا بيت آخر مهجور ومائل. لم يكن مثيرا للاهتمام، كأنه بيت متنقل، ولكنه مزود بأرجوحة ذات مقعد واحد من الألومنيوم. خرجت مايا في الظلام لتجلس فيها. فكرت بعدة أمور، وتساءلت: من هو الله، ولماذا يموت النحل، وهل يموت النحل بالفعل، لتنضم لبقية الأخوة الأموات تحت الأرض، وهل يبدو ريجي سعيدا في حياته الثانية بعد موته. ربما الأحوال أفضل في الأسفل بوجود الحرارة المرتفعة وطنين النحل. وربما يعرف ريجي أجوبة لا تعرفها مايا، وهل بمقدورها أن تهبط إلى هناك وتبقى؟. اقتربت من الحفرة، ولكنها كانت مسدودة. ولم تجد رفشها فقد اختفى. حينما أفاقت في اليوم التالي، تصادف أنه يوم الإثنين أيضا. وهذا يعني أنه يوم حافلة المدرسة وستقابل حتما الصبي الذي يعيش في نهاية الشارع وله قدمان رائحتهما كالجبنة. اليوم مر بها. كانت مايا تحب المدرسة. لمعلمتها جدائل كبيرة، أكبر جدائل في العالم. وكانت البنت الأكبر بالعمر سيندي، والتي تتأخر، تعرض على مايا كل الندوب التي تتسبب بها لنفسها. فقد حفرت أرقاما على ساقيها وذراعيها. وهذه الأرقام تشير لأسماء أشخاص هي تحبهم. في الأسبوع الماضي أحبت رايك دونالدز، وحفرت على فخذها الرقم 47 لأن كلمة رايك مكونة من 4 حروف ودونالدز من سبع حروف.
لم تفوت مايا حافلة العودة إلى البيت. ولم تفعل ذلك لأن سيارة أمها عبارة عن عربة مغلقة محطمة، ولا تعمل، وحاليا مركونة تحت موقف السيارات ومجللة بغطاء. قالت لها أمها: إذا فوتت الحافلة، عليها أن تنام في المدرسة. ولكن في تلك الأمسية أغلق الحارس غرفة استراحة البنات دون أن ينظر إلى داخلها. وبعد فترة أطلقت سراحها إحدى المعلمات، وكانت الحافلات قد ذهبت منذ وقت بعيد. توجهت مايا نحو البيت على الأقدام، ومرت بشارع البيوت الصغيرة، واستنشقت رائحة نار أشعلها أحد الأشخاص. جرت أعلى قدمها فوق الإسمنت بعد كل خمس خطوات، لترى كم يلزمها من وقت لتثقب حذاءها. ولم تستغرق طويلا. فالثقب كان نافذة ملائمة لأصبع قدمها.
وعندما تضاءل عدد البيوت وبدأت الغابة تحتل مكانها، عاود مايا نفس الإحساس. الإحساس بيدها وهي تطرق خشب البيانو. طنين وبريق. توقفت. لم تجد سيارات في هذا الطريق. ولاحظت مساحة صغيرة تشبه شريطا أخضر يقود إلى الغابة.
تبعت الشريط إلى بقعة معلمة بإشارة x مصنوعة من العصي الرفيعة. صاحت مايا: "هل يوجد هنا أحد؟". انطلق عصفور من بين الأغصان المتشابكة.
سألها ريجي من السماء: "هل أنت على ما يرام". حاولت أن تراه. كلا. ليس السماء. كان ريجي فوق أحد الأغصان، استلقى هناك ومعه بطاقاته، ساق تتدلى إلى الأسفل. ولا يزال بمقدورها أن ترى من خلاله.
قال: "عليك أن تعملي بالمباحث". وأسقط البطاقات، فصدر منها صوت ارتطام.
قال: "هيا. وزعيها".
اقتربت مايا من البطاقات، وضعت يدها فوقها، لترى إن كانت ساخنة. لم تكن ساخنة. التقطتها، وأخرجتها، اختفى ريغنالد، ثم أصبح بقربها جالسا.
قالت: "أرى أنه يفوح منها رائحة الورد". لم يكن ريجي يحب رائحة الورد حينما كان على قيد الحياة. كان يغسل عصارة أملاح الورد في حمامها، زاعما أن رائحتها كالبول.
قال ريجي: "أعلم. فقد نلت عقوبة لأنني تكلمت معك". تدلت من كتفه حقيبة سوداء مصنوعة من شيء يشبه مطاط الدواليب. قال: "انظري". فتح طرف الثنية، وأمكن مايا أن تشاهد عالما كاملا من النحل، يزحف بهياج فوق بعضه البعض، وهو يرفرف بأجنحته وسيقانه. ثم أضاف: "أنفقت كل الصباح بجمعها. إذا أمكنني الحصول على أربع آلاف منها بحلول يوم الأربعاء، ستتلاشى رائحة الورد. وزعي أوراق الطرنيب. سأغلبك حتما".
قالت مايا: "إذا اختفت كل النحلات، سيختفي العالم معها". عض ريغنالد شفته، وقال: "هذه ليست مشكلتي". بدأت الشمس بالغروب والاحتجاب وراء التلال، وكان على ريجي أن يجد المزيد من النحل. سارت مايا في طريقها، وهي تركل ثمار الصنوبريات، وتستمع لصوت النحل والحشرات، ولكن لم يجلب الظلام لها غير السكينة والهدوء. وبالحال سمعت صوت دواليب تلتهم الطريق، ورأت أمها في سيارة سيدان بنوافذ مهترئة، وكانت برفقة رجل. قالت لها أمها: "اركبي". ورأتها أصغر من المعتاد. عيناها جاحظتان، وخصلات الشعر الأبيض تبدو منقوعة بالزيت. أضافت: "أرعبتيني من أعماقي. عليك أن لا تفوتي الحافلة - كم مرة طلبت منك ذلك؟. إن تأخرت عن الحافلة مجددا لن أخرج للبحث عنك". وبدأت تبكي. هز الرجل رأسه، ووضع يده على فخذ المرأة.
لم يطرأ شيء لعدة أيام. مرضت المعلمة المعتادة، أما البديلة الشابة فكانت لها تسريحة شعر فرنسية مثل تاج من الشوك وحبل من الكريستال حول رقبتها. ذكرت اسمها، والتوى فمها وهي تتكلم فلم تفهمها مايا. ولكن كأنها قالت: أنا بون. وأخبرت الصف أن هذا اليوم مخصص للأسئلة والأجوبة. وليسجلوا أي سؤال لديهم عن العلوم على بطاقات، وستجيب عليه إن أمكنها. لم تود سيندي طرح أسئلة. كانت متكومة تحت ضماداتها. وتعرض على ريك أطراف جروحها المتخثرة، وكان يبدو مسرورا. وقد دفع صدره نحو الأمام ومال بظهره إلى الخلف. وهكذا كان مع مايا بطاقتها وبطاقة سيندي، فكتبت أسئلتها بعناية فائقة.
كتبت على أول بطاقة: هل النحل يموت؟. وكتبت على الثانية: ما هي الحياة بعد الممات؟.
ولكن بعد أن أصبحت الأسئلة في الصندوق تعرضت كايلا تينكلير لنوبة مرضية، وسقطت وهي ترتجف، ثم تلوت على الأرض مثل حية مجنونة تموت، وبدأت بون تستغيث طلبا للمساعدة وهي قرب الباب ومعها الصندوق الرمادي الصغير، وجاءت ممرضة المدرسة مع الإسعافات، ووضعتا شيئا في فم كايلا، ومع مرور الوقت انتهى كل شيء، ورن الجرس معلنا نهاية الحصة.
حمل ثلاثة صبيان في الهواء الطلق عصفورا من جناحه حين وجدوه وراء الغابة وبدأوا باقتلاع ريشه. قال الولد ذو القدمين الشبيهتين بالجبنة وكان في نهاية الطريق: "انظروا". وضع ريشتين على جبينه مثل قرنين. ثم جثم كثور وهاجم مايا. توقف قبل أن يجتاحها وقال: "سوف أشوهك أيتها الفانية". وأظهر النقرة الصغيرة في لثته الوردية والتي تبرز من بين أسنانه الأمامية. وحينما رجع في النهاية إلى أصدقائه وكومة الريش، رأت مايا نحلة تحوم على علبة النفايات. سددت نظرة عليها واقتربت، ولكنها اختفت قبل وصولها.
في الحافلة بعد الدوام، جلست مايا وحدها، وليس مع سيندي وعصرت الإسفنج البرتقالي من حشوة مقعد أمامها. تجمع الإسفنج مثل حطام عند قدميها، كل قطعة بحجم نحلة. وتخيلت أنه بمقدورها التواصل معها، هذا النحل الإسفنجي، وأنه بمقدورها أن ترد على أسئلتها. ولكن إذا كان النحل يعرف الأجوبة، فقد احتفظ بها في قلبه. ركلتها مايا تحت المقعد، وداست على بعضها، حتى طحنتها وسوتها بالأرض.
سألت مايكي في تلك الأمسية: "هل تود أن تلعب بالبطاقات". كان يشاهد في التلفزيون أفلام الكرتون، ويأكل القشدة الدسمة بأصابعه. كان لديهم في البيت بطاقات شركة طيران أيضا، من النوع الأحمر.
قال مايك: "ما رأيك أن تلعقي مؤخرتي".
قالت مايا: "أتمنى أن تموت". ولكن أهمل مايكي تعليقها.
عادت مايا إلى الباحة. وقفت بمكان حفرتها السابقة، وحاولت أن توقظ مشاعرها.
قال ريجي: "هيي". كان هناك، واضحا من وراء نوافذ غرفة المعيشة، واقفا فقط مع حقيبته المطاطية. فكرت أن تنادي أمها لتأتي وترى، ولكن لم تفعل. حدقت. كان لا يزال شفافا. أحد بالوناته في الهواء، والحبل مربوط حول معصمه، وكان من النايلون الفضي المعقود بشكل وردة.
قال: "جمعت ما يلزم من النحل. شمي رائحتي. لا تفوح مني رائحة البول".
قالت مايا: "رائحتك ليست مثل البول".
قال ريجي: "لدي شيء لك". ومد يده إلى حقيبته وأخرج منها برطمان طعام أطفال. اقتربت مايا، وحينما أخذته، حاولت أن تلمس يد ريجي. لم يكن هناك شيء صلب تحت البرطمان. ومرت يدها من خلاله.
قال ريغنالد: "إنها نحلة".
سألته مايا: "ألا تشتاق للحياة؟".
لم يرد. عبث برباط حقيبته ثم قال: "أربعة آلاف نحلة في يوم واحد. هذا عدد كبير من النحل".
سألت مايا: "من معك تحت؟". كان ريغنالد بالخامسة حينما رحل البحار إلى الأبد. وكان مايكي ومايا أجنة في بطن أمهما. وكان ريغنالد يزعم دائما أنه سيخبرهما بأشياء عن أبيهما لاحقا، ولكن بعد أن يتقدما بالعمر. ولكن ريجي مات.
قال: "تفقدي نحلتك".
نظرت مايا في البرطمان. كان حجم النحلة عاديا وتتخلل النحلة خطوط بالأصفر والأسود. سألت مايا: "هل بمقدوري أن آتي معك؟". جعلها السؤال تبدو غريبة، كأن معدتها رخام يتدحرج فوق قلبها. هز ريكي رأسه، واحمر أنفه، وأحاطت بعينيه حلقات وردية. وقال: "انتهى وقتي. ولن أعود". نزع حقيبته عن كتفه ونقلها للكتف الآخر. أضاف: "هل أعجبتك نحلتك؟".
رفعت مايا الغطاء الفضي. ارتفعت النحلة بسرعة. تمسكت بحبلها السري. ولدقيقة من الوقت تعلقت أمامها وكأنها تبادلها النظر.
قال ريجي مبتسما قليلا: "نحلة حرة".
قالت مايا: "نحلة حرة".
قال ريجي كأنه يكلم النحلة: "وداعا". ثم اختفى.
في ذلك الصيف تجمع النحل في الحديقة مجددا، ويبدو أن أمها قد نسيت أنها كانت تذهب تلقائيا. فرشتها بالكيميائيات حالما دخلت إلى البيت. وتظاهرت مايا أنها ترمي الميتات في الخارج، ولكنها في الواقع احتفظت بها في برطمان وضعته في مؤخرة خزانتها. وحينما تشممتها، كانت رائحتها كالأشنة في حوض ماء، وأمكنها رؤية ريجي أمامها لدقيقة من الوقت، شعره منتصب، والبالونات حول معصمه.
كانت تهمس له أحيانا: "ريجي، ريجي". إذا أغلقت عينيها، يمكنها الإحساس بكل منطقة من جسمها ولو الهواء البارد لا بمكنه لمسها. حملت رفشها وحفرت عدة حفر متتالية، لتستعيد ذلك الإحساس الشبيه بالعزف على البيانو. ولكنه لم يرجع، أخوها. كانت واقفة فوق حفرة وراء الكوخ، وحينها شعرت بشخص خلفها.
كان مايكي. قال لها: "مات ريجي". كان يرتدي جوربا أبيض والآخر أزرق. وبين يديه كرة وايفل. أضاف: "هل تعلمين ماذا يعني أنك ميتة؟". لمعت عيناه في الشمس، وكان منخره ينبض للأعلى، كأن شيئا يتحرك فيه. ضرب أنفه بقفا يده وقال: "أم أنك غبية؟". وألقى الكرة على رقبتها، فأصابتها بصدمة قوية. ثم راقبته وهو يجري إلى البيت، وجوربه الأبيض يومض. نظرت إلى ظلها الباهت على نافذة البيت. وأمكنها أن ترى من خلاله خزانة الخزف الصيني. وساعة الجدار. وضعت يدها مكان إصابتها بالكرة، وهناك، على جسمها، شعرت برعشة خفيفة، وبنبض خافت، مثل خشب بيانو بعد أن تضرب مفاتيحه بيدك.
***
......................
* روبن روم Robin Romm كاتبة أمريكية. صدر لها: أوراق الرحمة - يوميات، الحديقة الأم، الالتفات، وغيرها

 

في نصوص اليوم