ترجمات أدبية
كريستا فولف: يوم الثلاثاء 27 أيلول
بقلم: كريستا فولف
ترجمة: صالح الرزوق
***
حالما فتحت عينيها فكرت: هذا اليوم أيضا سيذهب باتجاه غير متوقع. علي أن أصحب تينكا إلى الطبيب بسبب ألم في قدمها. انصفق الباب في الخارج. كان الأولاد بقربه. جي. لا يزال نائما، وجبينه مبلول، ولكن زالت عنه الحمى. ويبدو أنه انتصر على الإنفلونزا. توجد معالم الحياة في غرفة الأولاد. تينكا تقرأ لدمية ممزقة صغيرة من كتاب مصور: أحدهم يدفئ يديه، الآخر قفازه، الثالث يرغب بشرب الشاي. ولكن لا يوجد أي فحم. يا للسخافة!. ستبلغ الرابعة في الغد. آنيت قلقة على كمية الكعك التي سنخبزها. إذا كانت كافية أم لا. ونوهت لي أن تينكا دعت ثمانية أولاد لشرب الشاي. تجاوزت الصدمة الثانوية وكتبت رسالة لمعلمة آنيت قلت فيها: من فضلك اسمحي لابنتي آنيت أن تعود إلى البيت غدا في منتصف اليوم، لأننا سنحتفل بعيد ميلاد أختها الصغيرة. وحينما كنت أعد الشطائر حاولت أن أتذكر كيف كنت أنفق يومي قبل أربع سنوات من ولادة تينكا. مرارا وتكرارا يزعجني كيف وكم ينسى الإنسان إن لم يسجل كل شيء. من جانب آخر تسجيل كل شيء أمر مستحيل: والإنسان لا يعيش إلى الأبد. ربما كان الطقس أدفأ قبل أربع سنوات حينما كنت وحدي. في المساء أتت صديقة لتمضية الليل برفقتي. جالستها لفترة طويلة. وكانت هذه آخر محادثة صريحة بيننا. وقد أخبرتني لأول مرة عن زوجها المنتظر… وخلال الليل خابرت الإسعاف. استعدت آنيت أخيرا. كانت غير منظمة وفوضوية قليلا، كما كنت في طفولتي. حينها لم أكن أعتقد أنني سأوبخ أبنائي كما كان والداي يوبخانني. وضعت آنيت جزدانها في مكان خاطئ. فوبختها بنفس الكلمات التي استعملتها والدتي معي. قلت: لا يمكننا إهمال نقودنا هكذا، أين عقلك؟. وحينما غادرت حضنت وجهها وطبعت عليه قبلة. قبلة طويلة!. وتبادلنا غمزة. لكنها أغلقت الباب الأمامي بضربة صاخبة. نادت علي تينكا. وأجبت بصيحة عصبية، وجلست باحتراس أمام الطاولة. ربما بمقدوري القيام بعمل لمدة ساعة على الأقل. كانت تينكا تغني بحماسة جياشة لدميتها أغنية يحبها الأطفال في الوقت الراهن. تقول كلماتها:"أغادر المدينة ليلا والقمر ساطع". وآخر سطر منها يقول:
في يوم موحش
أكلوا طبقا واحدا،
وفي أمسية موحشة
جاء طائر الكركي بالولد…
كانت تينكا تساعدني على تمالك أعصابي. طبعا هي تعلم أن الكركي لا يستطيع حمل أي طفل، وذلك مجرد سلوك عدواني يضر بالحيوانات. ولكن حينما تغني الأغنية، لا تشعر معها بالقسوة. أليس كذلك؟. نادت مجددا بأعلى صوتها لذلك أسرعت بالجري نحوها. كانت مستلقية في السرير، ورأسها مدفون تحت ذراعيها.
لم هذا الصياح؟.
أنت لا تردين علي، لذلك صرخت.
أخبرتك أنني بطريقي إليك.
ولكن استغرقت دهورا دهورا دهورا أقفاصا أقفاصا أقفاصا.
كانت قد اكتشفت أن للكلمات جرس وقافية. كشفت الضمادة عن جرح في قدمها. صاحت جريمة لعينة. ثم مسحت دموع عينيها بأصابعها وقالت: حتى في عيادة الطبيب أشعر بالألم. هل تحبين الصراخ هكذا في العيادة؟. ستجتمع كل البلدة حولنا. ثم عليك إزالة الضمادة. حسنا. حسنا. هل بمقدوري الحصول على كاستر حار هذا الصباح؟. حسنا، حسنا. ستحضرين القليل منه لأجلي. حسنا. حسنا. على ما يبدو أن ألم قدمها ينحسر. حينما كنت أعتني بارتداء ملابسها، خدشت بأظافرها الطرف السفلي من سطح الطاولة، ثم تلوت من الضحك. مسحت أنفها بمؤخرة قميصها. صحت: توقفي. لا توجد بنت تفكر بتنظيف أنفها بقميصها؟. ألقت رأسها إلى الخلف، وانفجرت بضحك جنوني. قالت: من تجرؤ على تنظيف أنفها بقميصها، طز بالقميص… غدا عيد ميلادي، ولذلك يمكننا المرح قليلا في هذا اليوم. وأراهن أنك نسيت أنه بمقدوري أن أرتدي ثيابي دون معونة من أحد.
بل لم أنس. اعتقدت أن قدمك تؤلمك كثيرا.
برعونة مررت أصابع قدميها خلال سروالها وقالت: أنا أكثر حرصا منك.
وفي عدة مرات لاحظت بوادر الدموع بسبب ضيق الحذاء الأحمر. قدمت لها خف أنيت المنزلي لتضع فيه قدمها المتورمة. شعرت بالفرحة العارمة وقالت: والآن فزت بخف أنيت!.
حينما حملتها من الحمام، لطمت قدمها السليمة بالكتلة الخشبية المجاورة للباب. بمم. تعجبت. كانت مثل قنبلة. من أين لها أن تعلم كيف تنفجر القنابل؟. مرت أكثر من ست عشرة سنة بعد أن سمعنا انفجار آخر قنبلة. من علمها هذه الكلمة؟.
جي. يقرأ مراسلات لينين مع غوركي. نعود لموضوعنا القديم: الفن والثورة، السياسة والفن. الإيديولوجيا والأدب. يستحيل العثور على فكرة ملائمة يجتمع عليها السياسيون والفنانون الماركسيون. له عالمه "الخاص"، وقد كشفه لغوركي (أكثر من كشف العالم الذي خطط له)، على الرغم من عدم التوافق في المسائل الفلسفية. ووجهة نظره، وأسلوبه بالرغم من إيمانه القوي. شريكان متساويان يعملان معا، هذا ليس صداما بين من يعلم كل شيء ومن عليه أن يتعرف على كل شيء. احترام متبادل وغير محدود ومفتوح بين طرفين.. وصلنا لدور الخبرة في الكتابة والمسؤولية التي يتحملها المرء تجاه مضمون خبراته: هل كان حرا بامتلاك خبرة عشوائية، وربما مرغوبة إذا نظرنا من زاوية اجتماعية، خبرة لا يتأهل معها الإنسان على أساس خلفياته الاجتماعية أو شخصيته؟.
طبعا هناك أشياء كثيرة على الإنسان أن يعرفها؟. دخلنا بمشادة حول خطة قصتي الجديدة.
ألح جي. على تعديل آخر على الفكرة الأولية كي تصبح مناسبة. أم أنني أرغب في كتابة مقالة صحفية؟. حسنا إذا، في تلك الحالة يمكنني أن أنفذها بالحال. شعرت بقليل من الارتباك، وأنكرته كالعادة مع أنني في الحقيقة أشعر به وأرى "أنه محق قليلا".
هل قرأت هذا؟ مقال قصير كتبه لينين بعنوان "كتاب صغير موهوب" وموضوعه نقاش كتاب وضعه وايت غارديست والذي كانت مرارته تشارف على حدود الجنون. وعنوانه :"مجموعة من الخناجر في ظهر الثورة"، وفيه يناقش لينين بما يشبه التهكم وبقليل من الجدية "قوته وتحكمه بموضوعه" كلما تكلم الكاتب عما يعلم، وما مر به من ظروف وما شعر به. ويفترض لينين دون جدل أن العمال والفلاحين سيصلون إلى نتائج مناسبة من الوصف الخالص والمتفهم لطريقة حياة البورجوازية القديمة، وهي خطوة لا يبدو أن الكاتب قادر عليها، ولكن يبدو أنه يعتقد أن طباعة بعض قصصه شيء ممكن. "الموهبة تحتاج للدعم" - سخرية إضافية، ولكن بنفس المقدار من التفوق. وصلنا إلى متطلبات السلوك الفوقي في بلد يحتاج مجتمعه الاشتراكي للتطور على أساس نفس المتطلبات والظروف التي نعيشها. أسباب وأساسيات الحياة الريفية في الأدب. ضحكنا ونحن ننتبه للكلام الذي نتبادله ليلا ونهارا ودون توقف، مثل تلك الكتب الملخصة والتي ننتقد أبطالها ونرى أنهم ضعفاء وغير واعين.
رافقت تينكا إلى الطبيب. استمرت بالكلام، ربما لتتغلب على خوفها. أولا طلبت تفسيرا للوحة جدارية (لماذا لا تعتقدين أنها جميلة؟ أرى أنها رائعة الألوان). ثم أرادت أن أحملها بسبب قدمها المريضة، ثم نسيت ألمها كله، وتحركت باتزان على حواجز من حجر في الباحة الأمامية.
كان شارعنا يفضي إلى بناء جديد لا يزال قيد التشييد منذ شهور. حمل مصعد إلى الأعلى حمالات ممتلئة بأكياس الإسمنت، ثم هبط بها فارغة. ورغبت تينكا أن تعرف كيف يعمل بالضبط. وكان عليها أن تكون لنفسها فكرة عامة عن التكنولوجيا. إيمانها الجديد الراسخ يؤكد أن كل شيء موجود "يفيد شيئا ما"، ينفع شيئا ما يهمنا. إذا كنت دائما قلقة على الأولاد، هذا، علاوة على كل شيء، بسبب الإهمال المحتم لهذه القناعة. ونحن نسرع بالهبوط على سلالم البريد حملتها وتأبطتها بذراعي. لا تسرعي. وإلا سقطت. لن أسقط. حين أكون كبيرة وأنت صغيرة يمكن أن أسرع على السلالم هكذا. سأكون أكبر منك. ثم أقفز عاليا. بالمناسبة، هل يمكن أن تقفزي من فوق البيت؟ أنا أستطيع. فوق البيت وفوق أي شجرة . هل أفعلها أمامك؟.
هيا.
يمكنني بسهولة ولكنني لا أريد.
إذا أنت لن تفعليها.
كلا.
صمت.
بعد فترة: في الشمس أصبح طويلة.
الشمس ضعيفة ولكنها ترسم ظلالا. ظلالا طويلة لأن الشمس منخفضة. قالت تينكا: طويلة حتى الغيوم.
نظرت إلى أعلى. رأيت غيوما صغيرة ضعيفة ومرتفعة في كبد السماء. ثرثرة انفعالية في غرفة الانتظار. ثلاث نساء مسنات تجلسن معا. إحداهن، تتكلم بلهجة سيليزيا، اشترت في اليوم السابق قميصا بمبلغ 113 مارك. تكلمن حول الموضوع من كافة الزوايا. ثلاثتهن اختلفن حول السعر. امرأة شابة جالسة قبالتهن انضمت أخيرا للكلام العام بلهجة متعالية. وتبين أنها بائعة منسوجات وأن القميص ليس "مستوردا" في حينه، بعكس كلام المرأة السيليزية. وهي حانقة. وناقشت البائعة ميزات وعيوب الصوف والأكريليك. قالت: الأكريليك عملي، ولكن إذا كنت ترغبين بالأناقة فعلا، عليك اختيار الصوف. قالت ثاني امرأة من بين الثلاث نساء: الجيد يفرض نفسه. ألقيت نظرة توسل نحو تينكا، وكانت على وشك توجيه سؤال غير مناسب حتما. قالت المرأة السيليزية: في الغرب مثل هذا القميص يكلف 50 مارك. قالت المرأة الثانية: حسنا. لم لا تحسبي الفرق. واحد مقابل ثلاثة. الحاصل 150 مارك أيضا. لم يكن هناك أي فائدة من التدخل في الحوار. قالت المرأة السيليزية: أخذت المال من ابنتي. تعويض الضمان الاجتماعي يبلغ 120 مارك ولا يعينني على تكاليف القميص. تنهدت الثلاث نساء. ثم قالت جارتهن: هذا هو أسلوبي دائما: بسيط ولكن أنيق. تأملت تعاليها، ولم ألاحظ أناقة في هيئتها. تابعت دون تلكؤ: اشتريت هذا المعطف مثلا عام 1927. من الغابردين. سلعة أيام السلم. ولم يتعرض لأي تلف أو تمزق. نظرت مرعوبة إلى المعطف. أخضر لماع قليلا ومن زي انتهى وقته. عدا ذلك لا يوجد له أي ميزة. همست تينكا وهي تجر كمي: لا يمكن لمعطف أن يكون مقبولا إذا كان من عام 1927؟. قلت: ثلاثة وثلاثون عاما. ردت بجملة من كلام والدها: هل لديك ذكرى مني؟. قلت: طبعا.
قالت تينكا: لا يمكن. بعد كل ذلك الوقت. يا إلهي العظيم.
تابعت المرأة السيليزية ثناؤها على قميصها الأزرق مطمئنة نفسها: في كل حال لن أشعر بالبرد في الشتاء. الثالثة امرأة هزيلة لم تتكلم حتى الآن، والآن قالت بزهو هادئ: الشكر لله. ليس علي التفكير بذلك.. سؤال صامت من الأخريات.
على الأقل: لديك أقارب هناك؟ صحيح.
نعم. ابنتي. ولكنها تقوم بالواجب. وهناك سيد. لا أعرفه ولكنه يرسل لي ما أحتاجه. وللتو سألني إن كنت بحاجة لشيء من أجل الشتاء… ظهر الحسد في عيون الأخريات. آه حسنا. في هذه الحالة. لا يوجد ما هو أفضل في هذه الأيام. لزمت الصمت. وتخليت عن القراءة منذ فترة طويلة.
نادى مساعد الطبيب النساء الثلاثة. كانت تينكا هادئة حينما ضغط الطبيب على الجرح. شحب لونها. وتراخت يدها في يدي. سألها الطبيب: هل هذا يؤلم؟. ارتدت وجهها الغامض وهزت رأسها. لم تصرخ أمام الغرباء على الإطلاق. في الخارج ونحن بانتظار الضمادة، قالت فجأة: يسعدني أن عيد ميلادي في الغد. انعقدت الغيوم في السماء. وقفنا بانتظار مصعد عمال البناء. كان على تينكا الوقوف هناك لفترة طويلة ما عدا ذهابها الخاطف إلى الحمام. ثم عاودت صمتها. كانت مشغولة بالكلب الكبير الأسود والذي سنمر من جوار كوخه حالا. وكالعادة في هذه البقعة تقول لي إن هذا الكلب عض أصبع امرأة في إحدى المرات. مضى على ذلك سنوات بعيدة. تركت الحكاية، لو صحت، انطباعا لا يمحى على تينكا. رواسب حكايات حياتنا. وجدت في البيت بريدا مخيبا للأمل، بطاقة غير واضحة من بنت غير معروفة. من ناحية أخرى توقفت دراجة نارية عدة مرات أمام البيت، هي دراجة الطرود والبرقيات والرسائل. البديل الحالي عن الهاتف. أحدهم أتى بمسودة كتاب جي. عن فيرنبيرغ. لحين تجهيز الطعام قرأت كتابات الأطفال عن موضوع "يوم عطلتي الرائع" التي استلمتها في مكتبة شركة إنتاج سيارات الشحن. كتبت طفلة بعمر تسع سنوات:"كان الطقس رائعا في مخيم العطلة. حصلنا على يوم عطلة لنذهب فيه إلى أي مكان نريد. ذهبت إلى الغابة، ورأيت هناك وعلا كبيرا وآخر صغيرا. نام الاثنان هناك بلا حركة. كانا مروضين جدا ويمكنك لمسهما. أسرعت بالعودة إلى قائد المعسكر. لم يكن الموضع بعيدا عن مخيمنا. أخبرته بكل شيء فرافقني. جر الوعل الكبير بحبل وسمح لي بحمل الصغير. كان لدينا اسطبل وضعت كلبهما فيه واعتنيت بإطعامهما. كان ذلك أفضل أيامي". أؤيد منح هذه البنت الجائزة الأولى في المسابقة على قصتها العجيبة.
بعد الغداء ذهبت إلى حفلة جماعية عقدها فريق شركة إنتاج سيارات الشحن. كان زوجان مسنان في إحدى العربات المعلقة يبحثان بيأس في جيوبهما عن عشرة بيفننغ هما بحاجة لها لشراء التذكرة. لا بد أنهما افراطا بالإنفاق في التسوق. قدمت للمرأة عشرة بيفننغ. بارتبك واضح قالت: آه. لا. لا. لا. كان بمقدورهما المشي. في النهاية قبلها الرجل ولكن ليس بلا اعتراض يدل على ارتباكه. ومثل هذه الأمور محتملة وممكنة بيننا نحن الألمان فقط على ما أظن. لم أذهب إلى المصنع خلال أسابيع. الساحة مليئة بسيارات شحن ناقصة لم يكتمل تصنيعها. من الواضح أن توقف الإنتاج قد انتهى. ولكن اطمئناني كان مبكرا. لم يشاهدني ويللي أولا. وراقبته وهو يعمل بآلته الجديدة لتجهيز إطارات الضغط. هو وجاي.، مديره، طورا هذه الآلة العملية البسيطة وقدماها على سبيل خطة لتحسين الإنتاج. بواسطتها اختصرا نصف وقت العمل. وكانت تدور في المصنع مناقشات لا تصل أسماعهما، الدم الملوث قد بدأ يسري في العروق. واليوم سأفهم ما هي حقيقة الأمر. نظر ويللي إلى أعلى. قال: حسنا يا حبي. يبدو سعيدا وهو مشغول. جلست في غرفة الناظر، والتي يقولون عنها حظيرة البقرة.
مع أنه لا يزال أمامنا خمس وأربعون دقيقة حتى نهاية النوبة، كان ثلاث رجال يجلسون لتزجية الوقت. العمل قليل؟ هزة رأس مبهمة. كان الانطباع الذي حصلت عليه في المكان خادعا. وماذا تفعلون بالوقت الفائض؟ قالوا العلاج المهني. الاهتمام بالحديد. الاهتمام بالخشب. إصلاح ألواح الخشب. والنقود؟ النقود كافية. نجني الدخل المقرر. كانوا بمزاج متعكر، غير مبالين أو ساخطين. حسب فورات المزاج. ولكن الأسوأ، قال لوثير، أنهم توقفوا عن الأمل بتبدل نحو الأفضل.
في كانون الثاني سنكون مرهقين مجددا، حتى لو قتلنا أنفسنا بوضع خطة خلال ربعه الأخير. والنقود تضيع على الوقت الزائد. هل يفترض أن هذا شيء مربح؟. النقود كافية، ولكنه حانق بسبب خسارة المصنع.
هل يمكن للمدير التنفيذي أن يزور كل حلقة في المصنع لشرح ما يجري؟. لا يمكنه.
ولكن لا بد من تفسير. وبإسهاب، وإن أمكن، أسبوعيا بسبب الوضع الراهن. من لم يتم تبليغهم يتصرفون بلا أي حس بالمسؤولية.
في نفس الوقت ركزت المحادثة على موظفي الحزب يوم السبت الماضي. يورغين أخبرنا كيف أمكنه أن يؤمن بصعوبة لزوجته، التي لديها ما يكفي، مبيتا في حافلة المصنع، بعد أن صفعت زميلا مزعجا على وجهه أمام الجميع. قال شعرت بالسخط وشربت حتى ثملت في اليوم التالي. ويخشى أن هذه الزوجة تجعل منه شخصا مغفلا. وهنا أدلى الآخرون بقصص مماثلة مع زوجاتهم، وفي الحقيقة، لم يكن الرجال يتكلمون من قلوبهم. أعتقد أن الزميل المزعج بالتأكيد استحق الصفعة على وجهه…
اجتمع تسع رفاق في غرفة اجتماعات قيادة الحزب. وصلوا بثياب العمل، دون اغتسال. وبينهم امرأة بعينين فرحتين ومشعتين. رأيتها كيف تضرب على الطاولة في العمل. ولكنها لم تتكلم هنا. قال ويللي: لا ضرورة للدوران حول الغابة. لنبدأ. كان هو منظم الجماعة. علمت اليوم بنواياه، وتابعته بقلق وتفهم في البيت وهو يسعى لهدفه. كان أمامه تقرير عن جدول الحسابات في فرقته. اطلعت عليه. رفاق الفرقة المجاورة، المنافسون، يجلسون مصدومين قليلا أمام ثلاث وعشرين صفحة تختص بغيرهم، ورغم الصداقة، هم في النهاية أنداد لهم. ضع بحسابك ماضي الفرقتين المضطرب وكيف كانتا في وقت ما فرقة واحدة.. الفرقة المتألقة في المصنع تحت قيادة بي.، الجالس امام ويللي، وهو يمسح العرق، ويشعر بالخدعة. بدأ ويللي يقرأ من تقرير الحسابات بسرعة وبحروف غامضة، فقرة منتقاة بعناية. ارتعشت قليلا يداه القابضتان على الورقة. كان جو الغرفة خانقا وله تأثير مخدر على أي غريب.
لا أحد يهتم بالاستشهادات مثل ويللي. قرأ كلام لينين عن زيادة الإنتاجية. وقاطع نفسه يقول: كيف هو انتاجنا؟.
قال أحد الزملاء: قبل أن نشكل فرقة عمل اشتراكي كنا متفقين دائما. والآن نواجه المشاكل طيلة الوقت. رفع ويللي صوته. وصل الآن لكلام عن التحسن. تلك الآلة البسيطة التي رأيتها تعمل من قبل. قال: يوجد هنا حيرة عارمة. ترك الورقة تسقط، ونظر من فوق إطار نظاراته الرفيع مباشرة إلى بي. قال: توفير 50 بالمائة. هذا لم نسمع به - بيننا. الناحية العملية من الاقتراح أصبحت تحت التساؤل. نعم وأنت أيضا يا بي. اصمت. حان الان دوري.
لكن الاقتراح عملي، ولا يوجد شيء ينال منه. بالتأكيد الخطة كاملة. بالتأكيد سنجني كلنا النقود خلال ثلاثة شهور. حصلت من الخطة على ألف مارك، إن كنت تود أن تعلم. وماذا في ذلك؟ هل المكسب المادي لا يعني شيئا لنا يا رفاق؟. سيكون كل شيء على ما يرام إذا تشارك كلاهما بما جناه، ولذا أغلقا فميهما بعدة زجاجات من البيرة. صاح ويلي: لكن هذا كل شيء. لا أريد المزيد من هذا الجنون الموروث، وسنبتاع البيرة في سهرة الفرقة القادمة.
في القسم أثار ذلك أسئلة صامتة: هل أنت شيوعي أم أناني؟. صاح ويلي: كنت أتنبأ بذلك. من كان غاضبا لبعض الوقت والآن يتجاوز دوره بالكلام؟. ولكن كيف نقوم أنفسنا كرفاق؟ لا أبدا. كيف يسعنا ذلك. لم نكن متفقين. صاح أحد الرجال من الفرقة المجاورة: ادخل بالموضوع.
رفع ويللي صوته أكثر بالتدريج ليقول: حسنا. إذا كان هذا مرادك. كلانا مرشحان لنكون عضوين عاملين في قيادة جماعة الفرقة. من ضد ذلك؟ الرفيق بي. قررت قيادة الحزب أن تنشر صورتنا في لوحة "شارع المفضلين" في يوم تأسيس الجمهورية. من يعارض؟ الرفيق بي. هل هذا الإعلان يكفي؟ رد بي.: ربما لدي ما أقوله أيضا لو سمحتم. قال ويللي: تفضل. نقطة واحدة: العمل على المحك. وهذا الكلام عن العمل وليس إن كنت أحب مرآك أم أنت لا تحب هيئتي. كل المجتمعين هنا يتذكرون كلام بي. منذ انضم ويللي إلى الفرقة جاء معه "كادر التطوير المتخلف": الآن هو أم أنا، هذا هو السؤال. لا مكان في الفرقة لكلينا.
في الأول من أيار كانت صورة بي. لا تزال صامدة في "شارع المفضلين". لا بد أن كليهما نسي الكثير، وفكر بالكثير من الأشياء، التي لا يمكن الاعتراف بها من قبل أن يتبادلا الكلام بينهما كما جرى اليوم. ليس من المتوقع أن المشكلة ستبلغ الذروة حسب قواعد الدراما الكلاسيكية و"تستمر" حتى تبلغ النهاية. اعتراف بي. يعني الكثير ولا سيما قوله: اقتراحك عملي. ومن حقك أن تحصد الجائزة. بالمقابل إنكاره لذاته نفد زخمه. أصبح مناورا، ويخترع القصص البائدة التي ينشرها حوله لمسافات طويلة. ولم يعد جاهزا للاعتراف بالخسارة بسهولة. تجادلت الفرقتان، وخف الترقب. توجب على ويللي أيضا التراجع قليلا بين حين وآخر، وهذا شيء قاس بالنسبة له.
لا يزال جدول كشف الحساب لفرقته أمامه. وخلال أسبوع يفترض بجماعة بي. أن تنتهي من جدولة حساباتها. فجأة شعرت ااجماعة بالقلق على عملها. ولا يزال ويلي يسمح لنفسه بهذا النصر المحدود، ولاحظ الجميع ذلك. وحان الآن دور الانتهاء من ذلك، وعليهم التوصل لاتفاق. وهم حاليا يناقشون من يجب أن يعاون بي. قال ويللي: هل تريدون مثيرا للشغب وبعمر كبير مثلي.
قال بي.: يا لك من أحمق كهل.
اقترح شخص ما فكرة إضافة النساء لجدول حسابات الفرقة، احتراما لاتجاه هذا العصر. ولم يجرؤ أحد على المعارضة. وأصبح من الواضح أن الاقتراح محروم من المؤيدين المتحمسين. ألا يوجد لدى النساء ما يكفي من مشاغل مع الأطفال، ولا سيما بعد الخسارة؟. قال أحد الموجودين.
غونتير آر. مسرور. يمكنك أن تأتي بزوجتك إن كنت متزوجا. قاطعه ويللي: حسنا. وماذا عنك؟. ليس لديك زوجة. صحيح؟. قال غونتير: لا، ليس بعد الآن. وما مشكلة زواجك إذا؟. حذر ويللي: لا تشرد مع هذا الهراء. كان غونتير أصغر الموجودين حول الطاولة. صنع إشارة نافية بيده ولكن صبغ اللون الأحمر وجهه. تفاهة. لا شيء يستحق الذكر.
لاحقا قال لي بي.: أرسلوا غونتر لتقديم الخبرة الاجتماعية لمصنع مشابه في جي. لمدة أسبوعين. وحينما عاد بشكل مفاجئ، شاهد في مخدع زوجته رئيسها بالعمل؟. وبالطبع أسرع إلى المحكمة فورا. ولكن لم يسجل شيئا هناك.. تحول مزاجه للفكاهة تبادلوا النكات. واحتجوا حينما قلت إنهم غير مهتمين بالثقافة. وتم تطويف الدعوة من أجل الإعلان عن الحسابات، وبطاقات الدعوة كانت من طبقتين وحملت حروفا مطبوعة بحبر ذهبي. وهذا يكفي للتباهي. أرادوا دعوة عدد كبير، ورغبوا بتقديم "مثال" كما قال ويللي. وسمح للاجتماع بالاستمرار، ولم يكن متوترا، وبدا عليه الطمأنينة. غمزني وابتسم. يا له من لئيم. أخبرته بذلك لاحقا. قال على المرء أن يكون مريحا، وإلا لن يتحرك من مكانه.
عدت إلى البيت بسرعة، بأعصاب متوترة، وكل أفكاري هائجة. بسبب ما قالوه، وما لم يقولوه، وما لم تغدر به عيونهم وتكشف عنه. من ينجح بالدخول إلى هذه المتاهة المقفلة من الدوافع والدوافع المضادة، الأفعال والأفعال المضادة… لتضخيم حياة الناس الذين يبدو أنهم مدانون باتخاذ خطوات محدودة.. في هذا الوقت من السنة، كان البرد يقترب منا مع الليل. اشتريت احتياجاتي لإعداد الكعك وحملت باقة زهور عيد الميلاد. كانت الداليا وزهرة النجمة تذبل في الباحة. تذكرت باقة ضخمة على طاولة بجانب السرير في المستشفى، قبل أربع سنوات. وتذكرت الطبيب، سمعته يقول: بنت. ولكن لديها بنت. حسنا أعتقد أنها لن تمانع في ثانية… ارتاح لأنه لدي اسم لها. أخبرتني الممرضة أن البنات غير مفضلات أحيانا، وتكون للآباء ردة فعل. ببساطة لا يحضرون إذا كان المولود بنتا، هل تصدقين ذلك. ولهذا السبب لسنا مخولات بتحديد جنس المولود بالهاتف، هل هو صبي أم بنت. عرض الجميع المساعدة لخبز الكعك. كانت البنتان حاضرتين. وفي النهاية وضعت لهما في المسجلة شريط حكايات خرافية. وذلك في غرفة الطعام. وهي "بيتر والذئب". بعد ذلك بدأ الأكل من الأطباق حتى تم سحبها منهما. تكلمت أنيت عن المدرسة: تعلمنا أغنية جديدة، ولكنني لم أحبها كثيرا. الديمقراطية لها قافية وجرس موسيقي مثل الربحية - ما رأيك؟. أعتقد أن هذا ممل. جاءتنا معلمة لغة روسية جديدة. وأدهشها عدد الكلمات التي نعرفها. هل تعتقد أننا ذكرت لنا اسمها؟. لا تحلمي بذلك. لكن علينا أن ندون أسماءنا لها حسب مكان جلوسنا. لا أظن أنها تهتم. تحركتا في المكان لفترة طويلة دون هوادة ولم ترغبا بمواجهة حقيقة أن على الإنسان أن ينام في ليلة الاحتفال بعيد الميلاد.
انتفخ الكعك في الفرن أكثر من التوقعات. وآلان ساد الهدوء وأستطيع أن أتخيل انتفاخه. امتلأت القدور، العجين انتفخ وانتفخ وبدأ يسيل من الجوانب على الفرن وينشر في كل الشقة رائحة شيء يحترق.
حينما أخرجت الكعك، كان أحد طرفيه أسود. انزعجت ولم أجد أحدا ألومه غيري، ثم، علاوة على ما سلف، جاء جي. قال عن الكعك إنه "أسود قليلا"، وحينها أخبرته، بخجل، أن السبب هو الأوعية الضيقة التي امتلأت فورا، والفرن السيء، وضغط الغاز المرتفع.
قال: آه. لا بأس. وانسحب.
لاحقا استمعنا لمعزوفة بالكمان هي سوناتا أنتونين دفوراك 100، والتي كتب فلينبيرغ لها قصيدة. لحن راقص ونقي. تراجعت موجة حنقي. ولاحظنا معا أن لنا رائحة الكعك المحترق، فبدأنا بالضحك. لا زال أمامي واجب يحدوني للكتابة قليلا، ولكن كل شيء يثيرني: المذياع، التلفزيون في البيت المجاور، فكرة وقلق عيد الميلاد غدا، وهذا اليوم الحافل بالمقاطعات، وعدم إنهاء أي شيء عزمت عليه. بعناد جهزت طاولة عيد الميلاد، ورتبت دائرة الأضواء. كان جي. يقلب في كتاب صغير، وتبين أنه "كتابة الحجاب". ولسبب ما أقلقني ذلك أيضا.
نظرت من وراء المخطوط الذي تراكم على منضدتي. أعياني طول العملية التي نسميها كتابة. عدة وجوه خرجت من حكاية الفرقة، أشخاص عرفتهم جيدا وجمعتهم في حكاية، وكما أرى بوضوح، لا تزال بسيطة تماما. بنت ريفية جاءت إلى مدينة كبيرة لأول مرة في حياتها للدراسة. وقبل مجيئها، قامت بعمل تطوعي في المصنع، مع فرقة صعبة المراس. كان صديقها كيميائيا، ولكنه لم يقترن بها في النهاية. الشخص الثالث معلم مهنة شاب جاء إلى الفرقة بمهمة تأديبية لأنه اقترف خطأ… غريب أمر هذه الهوامش، "مأخوذة من الحياة"، وتزيد من هامشيتها على صفحات الكتاب لدرجة لا تحتمل. وأعلم أن العمل الحقيقي سيبدأ حالما تبدأ الفكرة الأساسية بترجمة الموضوع الجانبي، حتى يصبح من الممكن الكلام عنه، وأبضا ليكون موضوعا يستحق الكلام حوله. عموما هذه الحبكة - التي أشك أنني الليلة سأضع يدي عليها، إن كانت موجودة أصلا - ستساعدني، بعد عمل مجهد وطويل، على فهم العبث الذي ألاحظه بكل جوارحي.
أعلم أنه لن يتبقى شيء، لا الصفحات التي تتراكم هنا، ولا الجمل التي أكتبها اليوم - لن يبقى ولو حرف واحد منها. فأنا أكتب وأشطب مجددا: كالعادة نهضت ريتا من نومها بسرعة السهم واستعادت وعيها دون أي ذكرى عن الحلم الذي رأته. ولكن لا بد من وجه. وكانت ترغب أن تحتفظ به قبل أن ينمحي. وكان روبرت نائما بجوارها. قبل السقوط بالنوم فكرت أن الحياة مركبة من أيام مثل هذا اليوم. نقاط متصلة معا على المدى البعيد بخط، إذا حالفك الحظ. ولكن من المحتمل أن تتداعى بكومة لا معنى لها من أزمنة سابقة. وهذه مجرد فكرة ملحة، وجهود لا تتراجع، تعطي معنى لوحدات الزمن الصغيرة التي نحياها..
بمقدوري ملاحظة التحول الأول إلى صور يراها الإنسان قبل السقوط في النوم، شارع يبدو أنه يفضي إلى أرض مفتوحة أعرفها جيدا حتى ولو أنني لم أشاهدها: هضبة مع شجرة هرمة، والسفح المنحدر قليلا نحو الجدول، والمرج المعشب، والغابة الموجودة عند خط الأفق. تلك لا يمكنها أن تشعر بالثواني التي تمر قبل أن تغط بالنوم - وإلا لن تغط بالنوم - وهو ما سأندم عليه حتى الأبد.
***
.........................
كريستا فولف Christa Wolf: كاتبة من شرق ألمانيا (1929-2011). ولدت في بولونيا وتوفيت في برلين. من أهم أعمالها كاساندرا 1983، البحث عن كريستاتي. 1986، ميديا 1996، ما تبقى وقصص أخرى 1990. اهتمت في أعمالها بالتشكيلات الاجتماعية والسياسية لحركة الاقتصاد والسوق. وكانت ضيفة شرف في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب عام 2021.