ترجمات أدبية

آخيل شارما: عائلة نارايان

بقلم: آخيل شارما

ترجمة: صالح الرزوق

***

السيدة نارايان صغيرة القامة وسوداء وبوجه بيضوي.  وذات صوت رخيم. تقبل على الآخرين في معبد هولي أو ديوالي للتهنئة من قلبها، حتى تعتقد أن هذا أول يوم نحتفل فيه بهذه المناسبة. كلنا نحبها. وهي مهاجرة، أيضا، ولكن لا يبدو أنها مرهقة الأعصاب مثلنا. تطبخ لعدد منا وترفض باستمرار أجرها. وتقول: “هذا مني". فنرد عليها قائلين:" ولكن لا يمكن للحصان أن يؤاخي العشب".

مع ذلك لم نحب السيد نارايان. فهو قصير وممتلئ. ويتكلم بجلافة مع زوجته. ولديه متجر لصيانة التلفزيونات ويقول عن نفسه إنه مهندس، مع أنه لم يتم دراسته في المدارس. وكان أولادنا يذهبون إلى بيته لملاقاة أبنائه، فيلعب معهم البينغ بونغ. وإذا ربح يغرد. ويدخل بجدال عقيم مع الأولاد، حول أمور جازمة مثل عدد سكان العالم.  وإذا قدم له أحدهم إحصائيات تثبت خطأه، يدمدم حول جهل الكتاب الأمريكيين. وكنا نراه يدخن في سيارته الواقفة في ممشى المدرسة الثانوية، بانتظار أبنائه، وعلى رأسه قبعة المطر لأنه صبغ شعره. لدى عائلة نارايان طفلان. مادهو الابنة، وهي بالرابعة عشرة، وأصغر بسنتين من أخيها. ولم يكن السيد نارايان يسمح لها بالجلوس على الشرفة الأمامية، حيث يمكن أن تكون مكشوفة. ولم يسمح لها بارتداء السروال القصير. وكانت ترتدي الجينز في دروس اللياقة البدنية.

أخبرت نيهالي، والتي كانت بعمر مماثل، أمها بذلك. قالت الدكتورة شوكلا:"بنت مسكينة. لماذا  ينتابك الحبور حين تتكلمين عن ذلك؟".

قالت نيهالي:"ولكنني لا أشعر بالحبور. ثم لماذا لا يجب أن أتكلم عن هذا الموضوع؟". كانت تقف بجانب أمها الدكتورة شوكلا والتي تلف عجينة لتحضير الخبز الرقيق.

قالت: "المتدينون محافظون".

ردت: "لكن السيد نارايان ليس متدينا".

كانت الدكتورة شوكلا إنسانة محبوبة من الجميع. ومع أنها تدير عيادة في شارع شجرة السنديان، كانت تلبي طلبات العلاج في المنزل. وتخاطب النساء بلقب "أختي الكبيرة"، حتى لو أنهن غير مثقفات. لها وجه لطيف ومربع وغزيرة الشعر وتبدو كأنها تعرضت لحرق. في أحد الأيام، جاءت نيهالي إلى عيادة أمها بعد المدرسة. كانت مرحة بعينين براقتين، وقالت لها وهي تتأرجح تقريبا من الحماسة: "مادهو حامل. وفيكاس هو الأب". وكان فيكاس شقيق مادهو. اضطربت الدكتورة شوكلا. وقالت بالهندية: “كيف عرفت؟". وهي تستعمل اللغة الهندية حينما توبخ.

قالت: “الممرضة أخبرت مادهو، ومادهو أخبرت المديرة".

سألت: “وهل أفشت المديرة السر لك؟ هل أنت محبوبة المديرة؟".

نظرت نيهالي إلى أمها. شعرت بخطأ. وأن هناك شيئا قاطع حماسها. ربما لم تفهم أمها أهمية كل ذلك. 

سألت: “هل أمسكت المديرة يدك وسألتك كيف حالك؟".

لم ترد نيهالي.

قالت: “ألم تسمعيني؟ تسمعين أشياء لم يقلها أحد، ولا تسمعين كلامي؟".

تم تأكيد حمل مادهو مباشرة. في كل البلدة بدأنا نسأل أبناءنا. هل انفردت مع فيكاس؟ هل لمسها؟ لم نكن متأكدين أن فيكاس هو سبب حمل مادهو. بعضنا اشتبه بالسيد نارايان. شخص لم يسمح لابنته بالجلوس على الشرفة الأمامية وأجبرها على ارتداء الجينز في دروس اللياقة البدنية، يحمل أفكارا عجيبة عن الجنس. 

بدأت السيدة نارايان بزيارة المعبد في كل الأوقات. وكنا نراها كلما كنا هناك. كانت تستلقي ووجها على الأرض المفروشة بالسجاد من الجدار حتى الجدار الآخر، وذراعاها ممدودان نحو التماثيل المقدسة للرب رام أو كريشنا جي، وراحتاها مضمومتان معا. رأينا أشخاصا مصابين بالسرطان مع عائلاتهم ويفعلون ذلك. وقد أرعبنا هؤلاء الرجال والنساء المعلولون. هنا ترى ثمرة الحياة - أنك مريض، أو تراقب أحبتك المرضى. وحين نرى السيدة نارايان نشعر بالعار. كان يوجد قليل من الهنود في إديسون ونيو جيرسي، في تلك الأيام. وكنا نشعر أن كلا منا يفكر على نحو طيب أو سيء حول الآخر. وآل نارايان اختلسوا شيئا من احترام أنفسنا لذواتنا.

وعلمنا سريعا أن فيكاس تعرض للضرب في المدرسة. في أحد الصباحات، وهو يهبط على السلالم، واجه مجموعة من البنات البيضاوات، وتسببوا له بالسقوط، ثم التدحرج وهن يلكمنه ويمزقن قميصه وشعره بأظافرهن. وشعرنا جميعا أن هذا ليس مستغربا. فهو مذكر، وابن أهله. ولكن شعرنا بالقلق. إذا جرى مثل هذا الاعتداء في ظروف عادلة، لا بد أنه سيكون حدثا غير عادل، أيضا. هل شعرت تلك البنات أنه مسموح لهن بضربه لأنه هندي؟. هل سيفعلن نفس الشيء مع أولادنا؟.

أجري إجهاض لمادهو، وبعد شهرين غادرت المدرسة وأعيدت إلى الهند. وفهمنا أن ذلك دليل على تورط السيد نارايان بحملها. لو أنه فيكاس لاكتفى أبواه بحجزه في غرفته ليلا.

حينما كانت الدكتورة شوكلا بنتا صغيرة، في الهند، منع والداها، مثل العديد من أبناء الطبقة المتوسطة، الخدم من الجلوس على الأثاث. وحين ترى والديها جالسين على كنبة، وخادمة لا تزيد عليها بالعمر كثيرا، متربعة على الأرض في الزاوية، ينتابها وخزة في أحشائها. وأحست بالعار في إحدى المرات حينما قدمت لخادمة لصاقات يمكن قصها وشمها. كان التمزيق والشم عادتها المحببة، ورأت أنه من الضروري أن تقدم للبنت أفضل ما لديها.

هذا الوعي المذنب بحظها الجيد جعلها رقيقة دائما حيال النساء القادمات من بيئة فقيرة. والآن معظمنا يشعر أن عائلة نارايان كلها بائسة ويجب عزلها وتناسيها. لكن الدكتورة شوكلا فعليا تخيلت الكابوس الذي تمثله عائلة نارايان:  مادهو الخائفة، وفيكاس الذي يعيش تحت ظل لوم غير معلن عنه وغالبا غير مبرر، وبيت المزرعة الرمادي الواقف في ضوء ما بعد الظهيرة الخفيف. ومع أنها تؤمن أن السيد نارايان شرير، وهو أحد الرجال المتوحشين الكثيرين في الهند، أدانت أيضا السيدة نارايان، لأنها تعلم ذلك واختارت أن تتجاهل الموضوع وتنكره.

اختفت السيدة نارايان لبعض الوقت بعد إرسال مادهو إلى الهند. لم نشاهدها في المعبد: ولا في مخزن البقالية الهندية، حيث تستأجر أشرطة الفيديو. وسمعنا عن فيكاس. كان يتناول غداءه في المدرسة وحده. وذلك لحمايته.

جاءت في إحدى الأمسيات الدكتورة شوكلا بالسيارة إلى البيت عائدة من عيادتها، ونيهالي بجانبها على المقعد. توقفت في ممشاها، وشاهدن عربة السيدة نارايان بلونها الفضي، وكانت السيدة نارايان واقفة بجانبها. وعلى محياها علامات عصبية، ووجهها مشدود ومجهد. تململت نيهالي تحت حزام مقعدها، وهي تفكر بالقصة التي سترويها لزميلاتها في المدرسة.

التفتت إليها الدكتورة شوكلا. وقالت: “إن تكلمت عن ذلك سأضربك كما يضربون المسمار".

غادرتا السيارة.

انتظرت السيدة نارايان دخول نيهالي.

قالت:”يا أختي شوكلا أنا لا أستطيع التنفس".

"عمليا؟".

"إذا تحركت خطوتين ينقطع نفسي".

"تعالي".

قدرت الدكتورة شوكلا في المطبخ ضغط دم السيدة نارايان. وطلبت منها أن تأخذ أنفاسا عميقة وهي تضع السماعة على ظهرها. لاحظت حين لمست كتفها أنها غير مرتاحة، كما لو أن لمستها دليل على الموافقة.

"مادهو لم تخبرني بأي شيء".

انتفضت الدكتورة شوكلا.

"كيف حال نومك؟".

"أخاف من النوم".

بدأت السيدة نارايان بزيارة بيت الدكتورة شوكلا كل عدة أسابيع. كانت تأتي في المساء لتقدر لها ضغط دمها، وتكلمها. وكانت تبقى حتى حينما تطبخ الدكتورة شوكلا عشاءها. وتتلكأ حتى لو جاء السيد شوكلا إلى البيت. ولا ترحل إلا حينما تجلس العائلة لتناول العشاء. وفي إحدى المرات أخبرت الدكتورة شوكلا السيدة نارايان أنه عليها أن تأتي إلى العيادة. احتجت السيدة نارايان وقالت: “حينما ينظر لي الناس أشعر أنهم يوبخونني".

أحد الأسباب التي دفعت الناس لتوظيف السيدة نارايان في مجال الطبخ أنها براهمانية، ولذلك لا نتعب أنفسنا بالتفكير بالأصابع التي لامست الطعام الذي نضعه في في أفواهنا. وإذا حاولنا ابتلاع طعامها الآن، فإن الكرات التي نمضغها تبدو كأنها تدخل في حلوقنا وكأنها تتدلى من شعر طويل.

حصلت السيدة نارايان على عمل في كمارت. ذهبت السيدة بيلواكيش، وهي وسيطة عقارية، إلى المتجر وتكلمت مع المدير.  وطلبت إقالة السيدة نارايان. فشعرنا أنه إجحاف. أن تستغني عن مؤهلات إنسانة ناجحة، وتحرمها من كسب قوتها، يبدو عملا شريرا.

مر الوقت، شهور ثم سنوات. وحل أكبر تبدل مع افتتاح هيل توب إيستايت. قبل هيل توب، الهنود القادرون على الحياة في أديسون هم فقط القادرون على شراء أو استئجار بيت. والآن ترى الهنود الذين يعجزون عن شراء سيارة يمشون على أرصفة الطرقات. وظهرت بقع صدئة بنية على أطراف الطريق قرب محطات الوقود. في مدرسة جي بي ستيفنز الثانوية، ومدرسة جون أدامز الإعدادية، تجد أولادا وبنات لا يمكنهم التكلم بالإنكليزية،  ويرتدون معاطف متهدلة، وقد انتقلت إليهم من أقارب كبار السن. وسابقا إذا كنت بحاجة لأكاليل زهور للصلاة تشتري الورود وتستعمل الإبرة والخيط لتصنع ما تريد. الآن تذهب إلى شقة في هيل توب، حيث تجلس ثلاث عجائز على الأرض وتحيط بهن أكوام من الورد الأصفر. وهناك أيضا شقة مليئة بالمجمدات، حيث يمكنك شراء السمك البنغالي المهرب. إذا اكتشف حمل مادهو بعد افتتاح هيل توب، لن يهتم الناس كثيرا. بعد هيل توب تواجد كثير من الهنود واختلف شعور كل عائلة بشؤون غيرها. وربما خف شعور السيدة نارايان بالعزلة. وأمكنها عقد صداقات مع العائلات القادمات إلى هيل توب، وكل منها لديها قصة مؤلمة خاصة بها. أنهى فيكاس المدرسة الثانوية. وذهب إلى جورجيا للتكنولوجيا لدراسة الهندسة. وبعد فصل دراسي، جفت حسابات السيد نارايان في المصرف، وباع متجره، واقترض قرضا سكنيا ثانيا بضمانة البيت، وعاد إلى بلدته في الهند. علمنا ذلك من السيدة بلواكش ومن صهر السيد نارايان، الذي يعيش في فيلادلفيا ولديه صديق في إديسون.

أراد السيد نارايان أن يكون غنيا. وأن يكون مهما، وأن يستمع للناس واقفا ونصفه منصرفا عنهم، كأن المتكلم لا يستحق كل اهتمامه.

في بلدة السيد نارايان الهندية ثمانية آلاف شخص. وفيها شارع أساسي تجاري واحد، ثم أزقة سكنية متفرعة تواجه حقول قصب السكر. في فترة ما بعد الظهيرة، تسمع أصوات الجنادب، حتى لو أن النوافذ مغلقة.

بدأ السيد نارايان بإقراض النقود. كان الناس يزورون بيته، فيجلس على الشرفة، ويكلمهم.  بعض القروض كانت لمدة أربع وعشرين ساعة. معظم من يقرضهم لديهم ضمان، محاريث أو مضخات ماء، أو دراجات كهربائية، أو مولدات. كان يجمع هذه الأشياء  في المساء، وتبقى للمقترضين فرصة طيلة الليل للتفكير ببيعها. في الصباح يظهر المزارعون عند بوابة البيت، ويعيدون نقوده ويستردون المحراث أو المولد.

لم يغامر السيد نارايان. وإذا لم يدفع أحد الأشخاص، يأخذ الضمان إلى أحمد آباد ويبيعه في نفس اليوم. وكان يستعين بوسيط في الأمسيات. ويقوم بكل الواجبات الصحيحة، ومن ضمنها دفع الرشوة للشرطة.

ولدى السيد نارايان عدة خادمات. وحينما ينام في وقت القيلولة بعد الظهيرة، يطلب منهن تدليكه، وغالبا ما يجر إحداهن إلى الفراش. ولأن السيد نارايان عاد إلى البلدة لوقت قصير، لم يكن ذوو البنات يعلمون إن كان للشرطة علاقة قوية به، أو إذا كانوا قادرين على الاستعانة بالشرطة  للحصول على بعض النقود من السيد نارايان جراء أفعاله. وكما يعلم الجميع، لنجاح تجارة إقراض النقود، لا بد من الاستعانة بالعديد من أفراد العائلة. بتلك الطريقة إذا تم اعتقال شخص، يمكن للآخربن متابعة تجارتهم. وتوقف التجارة - اللحظة التي يفكر بها الناس أنه بمقدوره تجنب الدفع - هو ما يحطم مقرض المال. وحينما يطلب الآباء معونة الشرطة، ترد الشرطة، بما أن السيد نارايان بلا أخوة لمتابعة تجارته، سيجبر على الدفع سريعا - وهي نقود يمكنهم استعادة حصتهم منها قبل أن يذهب ما تبقى إلى ذوي ضحيته.

اعتقل السيد نارايان وتعرض للضرب، وأجبر على الجلوس القرفصاء، في زاوية الحجز وهو يمسك أذنيه. ولم يرفض دفع الرشوة. وعاد إلى بيته. كانت مكيفات الهواء قد اختفت من فوق نوافذه. وظهرت النوافذ مثل عيون فارغة. وكل أبواب الغرف مفتوحة. وتبرزت الخادمات على سريره، وعلى الكنبات  وعلى طاولة الطعام.

بعد عدة أيام، اعتقل مجددا. ولم يدفع الرشوة في هذه المرة، وسجن لمدة خمسة أيام. وعندما غادر السجن، لم يعطه أحد أي ضمان ولم يدفع أحد المبلغ الذي اقترضه منه.

توقف السيد نارايان عن إقراض النقود. وبعد عدة شهور مما جرى، جاء مفتش شرطة إلى بيت السيد نارايان، واقترح أن يعاود الإقراض. وأخبره أن الشرطة في هذا التوقيت لن يعترضوه. والرشاوي المعتادة ستكون كافية. حينما مات السيد نارايان سمعنا أنه أجرى عملية جراحية، وطلب منه الطبيب أن لا يأكل الفجل بعدها، ولكنه فعل ذلك. وعلى الأغلب أن الشرطة ضربته، ثم أطلقوا سراحه ليموت من جراحه في البيت.

وأول فكرة جاءت في الذهن هي: الشكر لله أننا لا نعيش في الهند، حيث تجري مثل هذه الأمور. ولم يدهشنا ذلك، من يستهين بابنته يمكنه أن يستهين ببقية البنات. وإذا شرع شخص ما بنشاط إجرامي، عليه أن يتعامل مع مجرمين.

أرادت أخت السيد نارايان أن تنظم صلوات على فراقه. ولكن لم يشارك لا السيدة نارايان ولا فيكاس. وتأخرت الصلوات مرارا وتكرارا، ثم تخلت أخته عن فكرتها. وحينما علمنا أنه لن تقام الطقوس، انتابتنا رجفة الخوف - نحن أيضا قد نموت ولا نكرم بالطقوس. مر الوقت. وتوافدت قوافل جديدة من الهند. معظمهم من الشباب، وهكذا انتبهنا أننا لسنا شبابا بعد الآن. وأحضر هؤلاء المهاجرون الجدد معهم المزيد من الهند الحديثة، هند لديها تلفزيون، وقناة للأزياء، وكانت أساسا نافذة لمشاهدة النساء الجذابات وهن يتهادين على المسرح كل الوقت.

في مركز التسوق رأينا هنودا يرتدون سراويل قصيرة. في الحفلات شربت النساء البيرة. وحتى في بيوت البراهمانيين  تجد طاولة يقدم عليها الطعام النباتي وغير النباتي. من مضى عليه فترة طويلة في أمريكا شعر أن هؤلاء الشباب هم أمريكيون أكثر منه. طبعا هؤلاء محظوظون، وجاؤوا بصفة طلاب دراسات عليا، أو مهنيين، في ريعان شبابهم، وليس الذين استقروا في هيل توب أو البيوت المتواضعة في إيسلين. بلغت مادهو الواحدة والثلاثين حينما عادت إلى إديسون. وكانت طويلة وعريضة المنكبين ولها وجه والدها المستدير. عاشت في الهند أكثر مما عاشت في أمريكا، ولها رائحة معدنية تميز فقراء الهنود،  ومن يعيش دون مياه كافية ليغسل ثيابه كما يجب. وكانت متزوجة ولكنها بلا أولاد، كما علمنا، غير أنها فقدت بفقر الدم أحد أولادها عندما كان في السادسة من عمره.

قبل وصول مادهو ذهبت السيدة نارايان إلى العائلات التي تقيم معها صلات صداقة وسالت أن بمقدور أحد دعوة مادهو إلى الغداء أو العشاء وتقديم الهدايا لها - "شيئا مميزا".

حينها كانت الدكتورة شوكلا لا تقرف من السيدة نارايان. في النهاية كيف يمكنها أن تتصرف إذا لم تكن مثقفة وتعرضت للضرب على مدار سنوات؟.

جاءت السيدة نارايان ومادهو للغداء. كان يوما مشرقا وحارا. دخلتا من الباب الخلفي، إلى غرفة الغسيل. رفعت مادهو قدمها، وتخلصت من أشرطة فيلكرو من صندل  له نعل مطاطي سميك. كانت نيهالي واقفة مع أمها عند باب المطبخ. كانت نيهالي طبيبة الآن. وشعرت أنها تحمي مادهو. ولم تعرف ماذا تقول دون أن تستفز الماضي. سألتها:"هل تتذكرينني؟".

أومأت مادهو.

قالت الدكتورة شوكلا: “أنت متزوجة".

قالت مادهو: "هذه أخبار غير سارة".

"آه".

"في البداية كان أبواه يحبسانني في غرفة كلما غادرا البيت".

ابتسمت السيدة نارايان وأومأت. وتابعت ذلك.

في المطبخ توجد أوان على الموقد وكمية من معجنات البوري ملفوفة بورق ألومنيوم، ومكومة في الصحون.

سألت مادهو:"هل يمكنني غسل يدي؟".

قادتها نيهالي إلى الحمام. عند المغسلة توجد درجات بلاستيكية لتتسلق ابنة  نيهالي عليها وتغسل يديها. ولا يمكن ابن مادهو بلوغ المغسلة، ولذلك يقعي بجانب المصرف تحت المغسلة وتسكب مادهو كوبا من الماء على يديه فيفرك الواحدة بالأخرى.

غسلت مادهو يديها وذهبت إلى طاولة الطعام في المطبخ.

صاحت الدكتورة شوكلا: "نيهالي أعدت معظم الطعام".

قالت السيدة نارايان:"رائع".

سألت نيهالي:"كيف الحال بعد العودة؟".

جلس الجميع. نظرت مادهو إلى نيهالي والدكتورة شوكلا، ثم إلى طبقها. سالت الدموع على خديها.

قالت الدكتورة شوكلا: “لا يتوجب عليك أن تتكلمي يا ابنتي".

قالت السيدة نارايان: "كلي فقط. كلي فقط".

لزم الجميع الصمت قليلا. وفاحت من البيت رائحة الحرارة.

سألت نيهالي: "هل عليك أن تسافري إلى نيويورك؟".

مسحت مادهو أنفها بظاهر يدها.

قالت السيدة نارايان:"يا لها من بنت رائعة".

قالت الدكتورة شوكلا: “ماذا يفعل زوجها؟".

"صيانة الدواليب".

تواصلت وجبة الظهيرة بهذا الأسلوب، ولزمت مادهو الصمت، وحرصت الدكتورة شوكلا ونيهالي على الترحيب بها.

بعد نهاية الوجبة، وكانت الأطباق والصحون على الطاولة، ذهبت الدكتورة شوكلا إلى غرفة أخرى، وأتت بالهدايا. وكان على علبة مضلعة صورة راديو بيضاوي الشكل وجهاز سي دي. العلبة الثانية صغيرة ورمادية. قالت السيدة نارايان: "انظروا كم تبدو نيهالي والدكتورة شوكلا رائعتين".

فتح مادهو العلبة الرمادية ووجدت سلسلة ذهبية رفيعة.

قالت الدكتورة شوكلا: “العقد من نيهالي".

لم تتكلم مادهو.

قالت السيدة نارايان بنبرة ضاحكة: “ألا يمكن أن تقولي شكرا؟".

تابعت مادهو النظر إلى الأسفل. وضعت يديها في حضنها. وأصابعها متشابكة.

قالت نيهالي: "يمكنني أخذك إلى نيويورك أن أردت".

نظرت مادهو عبر الطاولة وأشارت بأصبعها إلى  طبق  سيراميك أبيض مليء باللبن. 

"يمكننا أن نذهب يوم الأحد أو في إحدى الأمسيات".

التقطت مادهو الطبق وأفرغته على رأس السيدة نارايان. ارتفع كتفا السيدة نارايان. وبعد دقيقة، بدأت تربت على رأسها بورق التنشيف الذي استعملته لمسح يديها. لم يتكلم أحد. حملت مادهو طبقا آخر. قالت الدكتورة شوكلا وهي تقبض على معصم مادهو:"هيي، هيي".

بقيت مادهو في أمريكا. وشاهدناها في فودتاون وباتيل بروذيرز وأحيانا وهي تمشي حول بحيرة في حديقة روزفيلت. وغالبا كنا نراها تتشاحن مع أمها، وتصيح بأعلى صوتها بينما السيدة نارايان واقفة هناك وتبدو مضطربة. وفي إحدى المناسبات اتصل جيرانهما بالشرطة للشكوى.

بعد عدة شهور من عودة مادهو إلى أمريكا، زارتنا واحدا واحدا، وسألت إن كان بإمكانها تشذيب عشبنا. قالت إنها تقدمت بطلب عمل لتكون موظفة صندوق في المصرف. ولكن حتى لو حصلت على الوظيفة لن تكسب ما يكفي، لأنها لم تتم دراستها الثانوية. وأربكنا طلبها، وقلنا لها نعم.

والآن في أمسيات عطلة الأسبوع، رأينا مادهو في أرجاء البلدة  تشذب المروج. كانت محنية نحو الأمام، وتدفع جزازة العشب الصاخبة،  وخلفها يتشكل خط من الأعشاب القصيرة. وفوقها في الأعلى السماء الزرقاء، وعلى بعد عدة مئات من الأقدام كان توقيت ما بعد الظهيرة يخيم مسالما. وكل ما حولها صخب يصم الآذان.

***

* منشورة في النيويوركير. عدد 26  آب 2024.

* آخيل شارما Akhil Sharma  كاتب أمريكي من أصل هندي. يعمل بتدريس الكتابة الإبداعية. من أهم أعماله: حياة العائلة، حياة مخاطر ومسرة، الأب المطيع وغيرها.

 

في نصوص اليوم