ترجمات أدبية
داليا دي لا سيردا: بقدونس وكوكاكولا

قصة: داليا دي لا سيردا
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
جلست على مقعد المرحاض، تبولت على اختبار الحمل، وانتظرت أطول دقيقة في حياتي. إيجابي. أصبت بنوبة هلع، ثم شعرت بسعادة خفيفة؛ وضعت يدي على بطني بحنان. كنت دائمًا أرى مشاهد الفتيات اللواتي يجلسن على المرحاض بانتظار معرفة إن كنّ حوامل أم لا شيئًا مثيرًا للشفقة"، فكرت: هذا مثير للشفقة أيضا . لكن، بصراحة، أنا معتادة على أن أكون مثيرة للشفقة، ربما لهذا السبب أتعاطف مع شخصيات مثل جيسيكا جونز أو بيني لين في فيلم "كاد أن يكون مشهورًا" . نهضتُ، غسلتُ وجهي، ثم خرجتُ من الحمام، ورميتُ نفسي على السرير.
لديّ نوع من المقاومة تجاه تقبّل الأخبار السيئة. قد يقول البعض إنني أتهرب منها، لكن لا، الأمر فقط أنني أجد صعوبة في تصديق أن كل المصائب تحدث لي وحدي. تعرضتُ للخيانة، سُرقتُ في الشارع، ماتت حيواناتي الأليفة إمّا مسمومة أو دهسًا، لا أعرف والدي، وفقدتُ أمي قبل بضع سنوات. والآن، في الدرج الأيمن من منضدتي، يوجد اختبار حمل يحمل خطين ورديين. لذلك أجريتُ فحص دم للتأكد. وتأكت أنه إيجابي. لم أكن أعلم أن اختبارات الحمل المنزلية قد تعطي نتائج سلبية خاطئة، لكنها لا تخطئ أبدًا في الإيجابيات. لم أكن مستعدة لإنجاب طفل في هذا العالم اللعين.
أتذكر تمامًا أنه في تلك اللحظة، كانت أغنية «الفوضى» لماريا روديس تتردد عبر مكبر الصوت. إنها الأغنية التي تعكس حياتي تمامًا. أنا عالقة في دائرة لا تنتهي من القرارات الخاطئة، حيث تكون عواقبها دائمًا مأساوية:
"أعود مجددًا إلى الطريق المعتاد،
دون أن أتذكر إن كان الطريق الخطأ،
وعلى الرغم من أنني أبدو وكأنني أسيطر على الأمور،
إلا أن شيئًا ما يخبرني أنني فقدت السيطرة مرة أخرى."
ربما تعتقد أنني أبالغ، وأن الحمل غير المرغوب فيه ليس كارثة. لكنه بالنسبة لي كان كذلك. كان أسوأ كارثة في حياتي. تسونامي لعين، يجتاح بمياهه المالحة كل أحلامي وأهدافي، بل وحتى يدمر الأخطاء التي لم أرتكبها بعد.
أرسلت رسالة إلى جيراردو: "أنا حامل".
فجاءني رده مصدوماً: "لااااا! مستحيل!"، ثم أتبعها بأكثر الرموز التعبيرية سخافة.
"سنصبح أبوين! يا ديانا، كم هذا رائع!"!"
" سعادة؟ لا. لا، ولا في الأحلام."
"لا تقولي لي إنك تريدين الإجهاض؟! لاااااا، ديانا!"
لكنني أكذب... جيراردو لا وجود له. شعرت فقط برغبة في إضفاء لمسة رومانسية على القصة. الحقيقة؟ كان الحمل نتيجة ليلة سُكر. لم أكن أعرف حتى اسم الرجل، ولم يهمني أن أعرفه.لم يكن أداؤه في الفراش يؤهله لأي شيء في الحياة. نعم، كنت حاملًا من رجل ينام مع النساء بأسوأ طريقة ممكنة.
أنا من ذلك النوع من الفتيات اللاتي يُستخدمن كحجة ضد الإجهاض. تلك التي تخرج وتسلم نفسها لأول من يهمس لها بكلمات جميلة. تلك التي يُقال لها كان من الأفضل أن تستخدم وسائل منع الحمل، أو تربط قناتي فالوب، أو ببساطة أن تُغلق ساقيها. أسمح للغرباء أن يحتضنوني بقوة. أحب الحفلات، وأحب أن أسكر بشدة، وأرتكب حماقات تحت تأثير الكحول.
لم يخطر ببالي أبدًا فكرة إكمال هذا الحمل. لذلك بدأت في البحث عن خياراتي للإجهاض. كتبت في جوجل "الإجهاض"، ووجدت عدة عيادات، جميعها في مكسيكو سيتي، لكنها لم تكن في متناولي. قرأت عن وسائل كثيرة، بدا بعضها مرعبًا: إدخال البقدونس في المهبل، غسول مهبلي من الكوكاكولا مع الأسبرين والزيت الأسود، شاي المريمية، شاي الأوريجانو، شاي اليانسون النجمي ، إدخال علاقة ملابس معدنية في الرحم. من رابط إلى آخر، وجدت نفسي أشاهد مقطع فيديو يظهر فيه جنين يحاول النجاة وهو يصرخ: "إيبالي، إيبالي، ساقي الصغيرة!" شعرت بمزيج غريب من الضحك والحزن.
عثرت على قصص لنساء أجهضن، يتحدثن عن نزيف حاد، وجلطات بحجم العالم،و عمليات تنظيف رحم مؤلمة، وانفجارات نزفية، وأحشاء متعفنة تأكلها الديدان ، وقصص مليئة بالندم، والألم، والرعب . وسط هذه الشهادات، وجدت قصة فتاة تتحدث عن دواء يُدعى الميزوبروستول. بحثت عنه في جوجل. وفقًا لويكيبيديا، يُستخدم الميزوبروستول لعلاج قرحة المعدة، لكنه يسبب تقلصات في الرحم. اكتشفت نساء الأحياء الفقيرة في البرازيل أنه يسبب الإجهاض . وبعد دراسته من قبل منظمة الصحة العالمية، تمت الموافقة عليه كوسيلة آمنة لإنهاء الحمل. لم يكن لديَّ ترف الوقت للتفكير فيه، أخذت الخمسمئة بيزو المتبقية من راتبي وخرجت إلى الشارع.
على ناصية منزلي كانت هناك صيدلية، لكنهم طلبوا مني روشتة طبية. واصلت البحث حتى وصلت إلى صيدلية أخرى، لكن سعر الدواء كان مرتفعًا ولم أملك المبلغ الكافي. تنهدت بقلق، وأكملت البحث في صيدليات أخرى، خمس منها تحديدًا؛ في بعضها لم يكن الدواء يحتاج إلى روشتة لكنه كان يتجاوز إمكانياتي، وفي الأخرى كان الحصول عليه مشروطًا بالروشتة الطبية. شعرت باليأس، وانهمرت دموعي، وأصابني نوبة قلق. "ماذا سأفعل؟" تساءلت في داخلي.
مشيت طويلًا، ربما لساعة كاملة، أو هكذا شعرت. كنت أبكي طوال الوقت. وفجأة، لمحت من بعيد شخصًا يرتدي زيًّا ترويجياً ضخماً ويرقص على أنغام أغنية صاخبة. أسرعتُ في خطاي، دخلت الصيدلية وسألت عن الدواء. نظرت إليّ الصيدلانية، وهي امرأة في منتصف العمر، بنظرة شفقة وقالت :
- يتوفر لدينا يوم الاثنين بسعر أقل، ثلاثمائة وثمانين بيزو.
قلتُ متوسلة:
- هل يمكنني الحصول عليه الآن، من فضلك؟
ابتسمت وقالت :
- بالطبع، ويمكنك الحصول على علبة تحتوي على اثنتي عشرة قرصًا من الإيبوبروفين بتركيز ثمانمئة ميليجرام مقابل عشرة بيزو إضافية.
وافقتُ على الفور:
- سآخذها أيضًا .
دفعتُ المال، ثم حملت الدواء، وخرجت مسرعة.
بمجرد وصولي إلى المنزل، عدت إلى الإنترنت وأعدت قراءة المعلومات بعناية. قرأتها ثلاث مرات لأتأكد من كل شيء. كانت يداي تتعرقان، وقلبي يخفق بقوة من الرهبة. كل المصادر التي قرأتها حذّرت من القيام بهذه الخطوة وحيدة، لكنني لم يكن لدي أحد ألجأ إليه.
توفيت أمي منذ خمس سنوات بعد صراع مرير مع السرطان، الذي أضعف جسدها حتى العظام. بعد وفاتها، استخدمت تعويضها المالي لأحرق جثمانها، ثم وضعت رمادها في غرفتها وأغلقتها إلى الأبد. لم ألمس شيئًا هناك منذ رحيلها، كل شيء مازال كما كان يوم فارقت الحياة.
اضطررت إلى اللجوء إلى محامٍ لإنهاء إجراءات معاشها، لكنه لم يكتف بأتعابه المعتادة، بل أراد المقابل بطريقة أخرى، ووجدتُ نفسي مضطرة للقبول. بعد إنهاء الأوراق، صرت أعيش على المعاش الذي يُحوَّل إليّ شهريًا، عشرة آلاف بيزو، وأركز فقط على دراستي. التحقت بجامعة ذات توجه ديني صارم، ورغم أن لدي صديقات، فإن أيًّا منهن لا تؤيد الإجهاض، إلا إذا كان مقررًا في إحدى العيادات الفاخرة في الخارج، يتبعه يوم من التسوق في المراكز التجارية.
رفيقي الوحيد في هذه الحياة هو قطي، ريكاردو. تبنيته بعد وفاة أمي بيوم واحد فقط، كان صغيرًا جدًا، فكنت أسقيه الحليب الخاص عبر زجاجة رضاعة، ووضعت له صندوقًا صغيرًا وأضأت مصباحًا ليمنحه الدفء. ربما لأنني كنت الراعية لأمي طيلة مرضها، فقد أدركت حينها أن وجود كائن يعتمد عليّ، ينتظر عودتي، ويحتاجني ليبقى على قيد الحياة، هو ما يحفظني من الضياع، ويمنعني من الانحراف.
قرأتُ البروتوكول للمرة الأخيرة، ثم أشعلتُ التلفاز وسجلتُ الدخول إلى نتفليكس. بحثتُ عن فيلم مناسب للإجهاض، فاخترت فيلم "فتيات لئيمات". فتحت علبة الميسوبروستول، أخرجت أربع حبات، وضعت على كل واحدة قطرة ماء، ثم دسستها تحت لساني. أبقيتها هناك لنصف ساعة. كان طعمها مرًّا لدرجة أن مجرد بلع ريقي صار إنجازًا بطوليًا. اضطررت لابتلاع قيئي مرتين. بعدها مباشرة، بدأ جسدي يرتجف. شربت ما تبقى من الحبوب مع كوب من شاي البابونج.
أنهيت الفيلم وانتقلت إلى "شقراء قانونية. ازداد الشعوربالقشعريرة، فاندسست تحت الأغطية بينما كان قطّي "ريكاردو" مستلقياً على حجري.لم يظهر نزيف بعد، فقط شعرت ببعض المغص الخفيف المشابه لآلام الدورة الشهرية، لكن سرعان ما تقيأت وأصابني إسهال.
عندما انتهى الفيلم، بدأت بمشاهدة "ميس سيمباتيا". وضعت أربع حبات أخرى في فمي وانتظرت حتى تذوب. هذه المرة كان الأمر أسهل؛ اعتادت حواسي على الطعم، ولم أشعر بالغثيان. ابتلعت بقايا الدواء مع شاي النعناع، ثم أعددتُ لنفسي كاساديا بجبن البانيلا وشرائح لحم الديك الرومي بدأ الألم يزداد شيئًا فشيئًا، أشبه بتقلصات الدورة الشهرية ولكن أشدّ قليلًا. تناولت مسكنًا، وتمددت في سريري واضعةً منشفة دافئة فوق بطني، مترقبةً ما سيحدث لاحقًا.
شعرت بتقلص حاد داخل رحمي، ورغبة جامحة في الدفع أجبرتني على الركض إلى الحمام. جلست على المرحاض، وحين ضغطت، اندفعت موجة من الدماء والتخثرات، ملوّنةً خزف المرحاض بلونٍ أحمر قانٍ. ازداد الألم بشكل مرعب، لم يكن مجرد تقلصات حيض، بل شيء يفوقه بكثير. استمر النزيف الغزير لحوالي دقيقة، لكنها كانت أطول دقيقة في حياتي. اجتاحتني نوبة هلع ودوار، وانفجرتُ في بكاءٍ مرير. كنت مرعوبة. لم أكن مستعدة للموت، وخصوصًا ليس بهذه الطريقة، غارقةً في الدم والقذارة. لطالما تخيلتُ موتي بطريقة أكثر درامية، ربما جرعة زائدة في ليلة صاخبة، لكن ليس هنا، وليس بهذه الطريقة البائسة. سقطتُ على الأرض، عانقتُ المرحاض، انخرطتُ في بكاء مرير، خليط من الخوف، الغضب والحزن.حينها فقط، تمنيتُ لو كان هناك "جيراردو" يربت على كتفي ويطمئنني قائلاً: " كل شيء يسير على ما يرام".
بدأ الألم يخف. مددتُ يدي داخل المرحاض باحثةً عن الجنين، لكنني لم أجد شيئًا. لم يكن هناك سوى تجلطات دموية تشبه تمامًا تلك التي ترافق الدورة الشهرية، ضغطتُ على زر السيفون. خلعتُ ملابسي، وفتحتُ الماء الساخن، ودخلتُ تحت الدش، ثم جلستُ القرفصاء ودفعتُ بكل ما أوتيتُ من قوة، تمامًا ككلبة في المخاض. كل ما خرج كان دفقة دم وتجلط دموي بحجم حبة الجوافة. استلقيتُ على أرضية الحمام وبقيتُ هناك نصف ساعة دون حراك. بعدها، أكملتُ استحمامي، ثم أطعمتُ ريكارْدو.
أعددتُ لنفسي حساء ماروشان بالدجاج وأغرقته بالليمون، وفتحتُ كيسًا من رقائق "روفلز" بدلًا من الخبز، وصببتُ لنفسي كوبًا من الكوكاكولا المثلجة. فعلتُ عكس كل التعليمات التي أوصى بها دليل الإجهاض؛ لم أتناول طعامًا خفيفًا، لم أشرب محلولًا معوضًا للسوائل، ولم أتجنب المأكولات المهيجة. ربما فعلتُ ذلك عمدًا، ربما كنتُ أبحث عن نهاية سيئة—كأن ينتهي بي الأمر في المستشفى، أو في السجن، أو ربما في كليهما معًا.
شاهدتُ فيلم "كاد أن يكون مشهورًا"، وكعادتي بكيتُ بحرقة. كانت التقلصات تأتي وتذهب، والإسهال مزعج لكنه محتمل شعرتُ أن مأساتي كانت ناقصة، فقد قرأتُ عن نزيف حاد وآلام مروعة، بينما كان ما أمرّ به أشبه بدورة شهرية مصحوبة بإسهال وزكام، وليس كارثة كما تخيلت. بل الأكثر استفزازًا أن الأمور، وللمرة الأولى في حياتي، كانت تسير على ما يرام ؛ وكان هذا يغضبني.
وضعتُ آخر أربع حبات تحت لساني، وانتظرتُ، بشيء من الرضا الخفي، حتى تذوب تمامًا. لم أشعر بالغثيان أو القشعريرة، وكانت الآلام المعوية قد هدأت تقريبًا، باستثناء ارتفاع طفيف في الحرارة يمكن احتماله. فتحتُ فيلم " تقريبًا حامل "، لفتُّ سيجارة حشيش، وفتحتُ زجاجة هاينيكن. شربتُ وأخذتُ أدخّن، ثم انفجرتُ في ضحك هستيري عندما عاد الألم، فقد اجتاحتني من جديد تلك الرغبة الملحّة في الدفع. مشيتُ إلى الحمام، جلستُ على المرحاض، وضغطتُ بقوة. تدفق دمٌ بلون النبيذ الأحمر، ترافقه تخثرات بحجم قبضة اليد، تنساب من رحمي.
جلستُ على الأرض ومددتُ يدي في المرحاض. لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى وجدتُ كيسًا صغيرًا بحجم إصبعي الخنصر، داخله كتلة وردية شاحبة، أشبه بحبة فاصولياء. تنهدتُ بارتياح… وابتسمتُ. ألقيتُها في المرحاض… وضغطت على زر السيفون.
(انتهت)
***
.........................
الكاتبة: داليا دي لا سيردا (مواليد 8 مارس 1985، أغواسكاليينتس، المكسيك) هي كاتبة، وفيلسوفة، وناشطة مكسيكية. درست الفلسفة في جامعة أجواسكاليينتس المستقلة، ولم تكمل. عملت دي لا سيردا في وظائف متنوعة، حيث كانت موظفة في مركز اتصالات، وعاملة في حانة، وفي مصنع للحلوى. كما شغلت منصب محررة في قسم الأخبار الدولية، بالإضافة إلى عملها كبائعة في شركة أفون، وكمروّجة للورود السوداء في الشوارع، وبائعة ملابس مستعملة في الأسواق الشعبية. القصة الأولى من مجموعتها القصصية " عاهرات احتياطيات " التى وصلت الى القائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية للسرد المترجم للعام الحالي 2025 .