ترجمات أدبية

يائيل فان: تفو، تفو، تفو!!

قصة من الأدب الهولندي المعاصر.

بقلم: يائيل فان دير فودين

ترجمة: صالح الرزوق

***

في إحدى المرات نقلت حكاية عن أمي في حفل غداء فقال أحدهم: لا يمكن أن تبدأي حكاية بكلام عن الطقس. أجبت: حسنا. أمي سيئة الحظ لأن كل ما تفعله هو سرد القصص والكلام عن الطقس. وهذا أصدق تعبير يمكن أن يذكره أي إنسان عن أمي. حينما كنا صغارا تحرص على إشعال التلفزيون بموعد أخبار الساعة 8 ولكن تلجم صوته، وتخرج لتدخن سيجارتين. وتعود في 8:15  بالضبط، لتشاهد نشرة الطقس. تطقطق بلسانها لو أنه حار، وهو دائما حار جدا. وتطقطق أيضا على كلام المذيع، وتقول: "لا أحب هذا الإنسان".

كان الصيف في ذروته حينما روت القصة. اكتسح الهواء الإسمنت وأعالي السيارات وأبواب حظائر المركبات وأسقف الأكواخ المسطحة الجاثمة في الزوايا. وقالت إن صوت صرصار الليل ارتفع وغطى على حركة المرور. وأخذت السماء شكل صفيحة مشدودة ولم يغادر أحد بيته إلا بالخطأ. كانت بعمر تسع سنوات في القصة ومجرد طفلة. وحصل ذلك قبل فترة طويلة من وصولها إلى هذا البلد. وكان والداها يعيشان في شقة ضيقة كانت تسميها باعتزاز مقرفة. وتقول إنه حتى الجدران فيها تعرق. والنوافذ كذلك. وفي شهور الصيف لا يمكنك أن تحمل كوبا دون أن يفلت من قبضتك. ولا تستطيع الجلوس على كرسي أمام البيانو دون خطر الانزلاق عنه. كانت أمي تمقتها، تكره الرطوبة الشديدة، والطبقة الرقيقة التي تكونها بشكل ندوة عسلية. ولذلك أنفقت أيامها واقفة في وسط الردهة الأبرد: الساقان متباعدتان، والذراعان بمنأى عن جذعها.  وذلك بمحاولة جاهدة كي لا تلمس نفسها، أو تسمح لأي شيء آخر بلمسها. أقلق هذا والديها. كان كلاهما يعمل في البيت في ذلك الفصل - جدتي ترفو الثياب، وجدي يعد الأرقام - وهما موزعان بين المطبخ وغرفة الطعام. وكلما نظر أحدهما يشاهد والدتي في الردهة لا تتحرك. فيقول: "أليس لديك يا مانوش عمل أفضل تنشغلي به؟".

تقول:"لا". دون أن تتلامس شفتاها.

ثم تتوالى الأحداث. أحضرت الجدة قطة. وجدتها في الشارع  وهي عائدة من المتجر. قطة صغيرة، متسخة وذيلها متصلب، ومنتفش خلفها. قدمتها للبنت لتنشغل بها، وهذا رأي الجدة وهي تقدمها، وتحملها في البيت مثل جزدان. وجعلت الوالدة تعدها أن تعتني بها، وأقسمت على ذلك، وبصقت ثلاث مرات بين أصبعيها المرفوعين بشكل  V  . تفو، تفو، تفو.

أحبت والدتي القطة. حضنتها، وغنت لها، وغسلتها، ونامت معها أيضا رغم الحرارة. حاولت القطة أن تهرب، وغرست مخالبها في ظهر أمي أثناء نومها، ولكنها عانقتها بقوة، وأحكمت عناقها. سمتها جيجي. وكانت تتجول معها في البيت وتقبل أنفها الصغير وتغني لها الأغنيات. وكانت تقول لها :"أنت أختي يا جيجي. انظري. نحن متشابهتان". وأرخت شعرها فوق رأس القطة. ونتوالى الأحداث: كان كلاهما بلون بني خفيف. استمرت القطة مع العائلة أسبوعين قبل أن يجري ما حصل. استيقظت والدتي ورأت بجانبها بنتا بدل القطة. كان يوما رماديا حارا. هكذا أخبرتنا. يوم كتيم شمسه في السماء بشكل حفرة لها لون أحجار البناء. كانت البنت مستيقظة، وتدندن لنفسها، وهي مرتدية أحد أثواب الوالدة.

همست: “استعرت هذا. هل لديك مانع؟".

كانت الوالدة تقول دائما إنه كان لأنفاسها رائحة السمك والحليب. وأسنانها معكوفة في زاوية فمها. وكانت تبدو مثل ابنة خال، أو فرد من العائلة. قفزت أمي من السرير وبدأت بالصراخ  ورمي الأشياء حولها. كانت تمر بهذه النوبات، إنها أمي وأعرفها. حينما كنا أطفالا اعتدنا أن نسمي ذلك "الأفلام"، نقول مثلا - من كسر هذا، هل مرت ماما بفيلم؟ ولكن حينما كانت هي طفلة، لم يكن أحد يتكلم عن هذا الموضوع، وكان الجميع ينتظرون نهاية النوبة فقط. وكانت بالعادة تمر وينقضي كل شيء.

في ذلك اليوم خرجت أمي من غرفتها بمنامتها وقالت إن جيجي علقت في أعلى الخزانة، وإنها تحولت إلى بنت. أفلتت جدتي عدة الحياكة، ولكن ليس سيجارتها، وتبعت أمي إلى غرفة نومها. كانت جيجي خائفة من نوبة الوالدة، وقفزت إلى أعلى الخزانة، والتصقت بالجدار.

قالت جدتي للبنت وهي تعينها على الهبوط برقة: “تعالي يا حلوتي". وضعتها على الأرض، وتراجعت خطوة. دخنت. وقالت: “ثوبك يناسبها يا مانوش". ثم لمست القماش من الخلف وأضافت: “ربما يحتاج لتعديل هنا. لكنه مناسب. مناسب".

قالت أمي: “كلا. علينا أن نعيدها".

ضحكت جدتي وأرادت أن تعرف "نعيدها إلى أين؟"، وكان جواب أمي: "حسنا. لا يسعنا الاحتفاظ بها. فهي ليست قطة الآن". قالت جدتي وهي تفكر: “فعلا. ولكن أنت لست قطة كذلك".

بدأت أمي تتبخر من الغيظ، وصمتت. منحت جدتي البنتين قبلة تفوح منها رائحة التبغ وعادت إلى حياكتها.

وحسب كلام أمي إنه توجب عليها أن تأخذ جيجي معها إلى المدرسة بعد نهاية الصيف. وأصبحت جيجي تلميذة متفوقة.

قالت الوالدة: “لا أحد سألني لماذا لدي الآن أخت. ودعا الجميع جيجي إلى حفلات أعياد الميلاد وكانت تسأل، هل يمكن أن تأتي معي يا مانوش؟".

وكانت تصمت بالعادة. وتنفض رأسها. وتقول: “هل تتخيلين ذلك؟ هل يمكنك تخيل ذلك؟".

كنت أنا وأختي نلتزم الصمت. كلنا ولدنا، كنا أطفالا، وكبرنا. ولم يتحول أحدنا من مخلوق سابق في يوم صيفي حار. ولكن أسنان إحدانا كانت معقوفة. الثانية أصبح لها شعر شوكي ومنفوش في حالة الخوف. وأنا، إذا عانقني محب بإحكام، أنشب أظافري بظهر محبي وهو نائم.

سألنا الوالدة عن ذلك، مرة أو اثنتين. لم ترد. وتظاهرت كأننا لم نسأل أي شيء. وقالت عوضا عن ذلك: “من الأفضل أن لا يكون الجو حارا هذا الأسبوع. فالطقس حار دائما".

سألنا خالتي جيجي في إحدى المرات أيضا، حينما زارتنا مع سحابة من العطور والهدايا. قالت: “آه، يا لأمكم وقصصها". ثم بصقت ثلاث مرات بين أصبعين مفتوحين بشكل V  تفو، تفو، تفو.

***

.................................

* يائيل فان دير فودين  Yael van der Wouden

كاتبة ومحررة هولندية من أصول مختلطة. من أهم اعمالها "المأمن" 2024.

          

في نصوص اليوم