ترجمات أدبية
إينيس أريدوندو: صيف
قصة: إينيس أريدوندو
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
كانت تجلس على كرسي في ظل شجرة الأماتي تراقب رومان وخوليو وهما يلعبان كرة الطائرة على مسافة قصيرة. بدأ الطقس يصبح حارًا جدًا وساد جو هادئ في جميع أنحاء الحديقة.
- يكفي، يا شباب، وإلا فإن الصودا ستسخن.
توقفا عن اللعب بتفاهم صامت، فأمسك جوليو بالكرة في الهواء ووضعها تحت ذراعه. اقترب صوت الحصى الذي تحت أقدامهم بينما كنت أملأ الأكواب. ها هم الآن أمامي، وكان من الجميل رؤيتهما؛ رومان ذو الشعر الأشقر، وجوليو ذو البشرة السمراء.
- بينما كنتما تلعبان، كنت أفكر في كيفية قضاء وقتي منذ أن كان رومان في الرابعة من عمره... لم أشعر بمرور الوقت، أليس غريبًا؟"
- ليس هناك ما هو غريب، بما أنكِ كنتِ معي" – قال رومان ضاحكًا، ثم قبّلني.
- "بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أن تلك السنوات لم تمر فعلاً. لا يمكن أن تكوني بهذا الشباب."
ضحكنا معًا في نفس اللحظة. خفض الشاب عينيه، وكانت وجهه محمرًا، وبدأ يضغط على جانب أنفه بإصبعه المعوج، كما كان يفعل دائمًا.
- اترك أنفك في حاله."
- لا أفعل ذلك من باب الرغبة، فأنا أعاني من انحراف الحاجز الأنفي.
- أعرف ذلك، لكنك ستؤذي نفسك."
كان رومان يتحدث بلهجة يشوبها الإحباط، وكأن جوليو هو من يزعجه. كرر جوليو نفس الحركة مرة أو مرتين، وكان رأسه منخفضًا، ثم توجه نحو المنزل دون أن ينطق بكلمة.
في وقت العشاء، كانا قد استحما وأصبحا يبدوان منتعشين وسعداء.
- ماذا فعلتما؟"
- استرحنا ثم حضّرنا واجب الرياضيات التفاضلية. كان علي أن أشرح النقطة أ إلى النقطة ب لهذا الحيوان حتى يفهمها.
تناولا الطعام بشهيتهما المعتادة. وعندما شربا الحليب، تظاهر رومان بالجدية وقال لي:
- أحتاج إلى التحدث معكِ بجدية."
احمر وجه خوليو وقام واقفًا دون أن ينظر إلينا.
- أنا ذاهب الآن.
- لا شيء من هذا الكلام عن أنك ستذهب. الآن عليك أن تبقى هنا وتثبت موقفك.
ثم استدار إليّ وقال لي:
- الموضوع يتعلق به، لهذا هو يريد الهروب. لقد أخبروه من البيت أنه لم يعد يمكنهم إرسال المال له، ويريد أن يترك دراسته ليعمل. يقول إننا بالكاد في السنة الأولى...
كانت مفاصل يدي خوليو صفراء من شدة ما كان يضغط على ظهر الكرسي. بدا وكأنه يبذل جهدًا كبيرًا ليكتم مشاعره؛ حتى إنه رفع رأسه كما لو كان سيقول شيئًا، لكنه تركه يسقط مرة أخرى دون أن ينطق بكلمة.
– أردت أن أسألك إذا كان يمكنه العيش هنا، معنا. يوجد مكان كافٍ و..
– بالطبع؛ هذا هو الأمر الطبيعي. اذهبا الآن لالتقاط أغراضه: خذ السيارة لإحضارها.
لم يفتح خوليو فمه، استمر في نفس وضعه السابق، وأعطاني نظرة لم تكن تحمل أي شكر، بل كانت أقرب إلى اللوم. أمسك رومان بذراعه وسحبه بقوة. ترك خوليو الكرسي وتبعه بلا مقاومة، كجسد بلا حياة.
– رتبي السرير إلى أن نعود.
صرخ رومان في الوقت الذي دفع فيه خوليو للخارج.
فتحت النوافذ بالكامل في غرفة رومان. كان الهواء رطبًا، وفي الشرق كانت هناك ومضات برق تضيء السماء الملبدة بالغيوم؛ وكان الرعد البعيد يجعل صوت صراصير الليل أكثر رقة. أزلت من على الرف الدمية المصنوعة من القماش التي كان رومان ينام معانقًا لها طوال تلك السنوات، ووضعتها في الجزء العلوي من الخزانة. كانت الأسرة المزدوجة، والطاولة الجانبية، والمسطرة، وخرائط العالم، والقوانين، كلها في مكانها. كان فقط يجب شراء خزانة لخوليو. وضعت المنبه على الرف حيث كانت الدمية، وجلست على حافة النافذة.
– إذا لن يراها أحد.
– أعلم، لكن....
– لكن ماذا؟
– حسنًا. لنذهب.
لم يخطر لي قط أن أنزل للسباحة في النهر، رغم أن حديقتي الخاصة كانت تقع بجانب النهر. قضينا الصباح داخل الماء، وبقينا غارقين حتى خصورنا. أكلنا البطيخ وتفلنا البذور في التيار. لم نترك الماء يجف تمامًا على أجسامنا. كنا رطبين طوال الوقت، وبهذا الشكل أصبح الهواء الحار شبه ممتع. في منتصف النهار، صعدت إلى المنزل وأنا أرتدي لباس السباحة وعدت مع الساندويتشات والبسكويت وعلبة كبيرة من الشاي المثلج. بالقرب من الماء وتحت ظلال المانجو، استلقينا للنوم في القيلولة.
فتحت عينيّ عندما كان المساء قد بدأ يسقط. فوجئت بنظرة خوليو التي كانت مليئة باللوم غير المحدد. كان رومان لا يزال نائمًا. قلت بصوت خافت.
– ماذا بك؟
- ماذا؟
شعرت قليلًا بالحرج.
- لا شيء.
جلس خوليو بجانبي، وقال دون أن يرفع عينيه:
– أريد أن أغادر المنزل.
شعرت بالحيرة، لم أعرف لماذا، ولم أتمكن من الرد سوى بعبارة تقليدية.
– ألا تشعر بالراحة معنا؟
- ليس الأمر كذلك، بل...
تحرك رومان، وهمس خوليو بسرعة:
– من فضلك، لا تخبريه عن هذا.
– أمي، لا تكوني هكذا، لماذا تودين أن نلح عليك طوال الوقت؟ مشطي شعرك وتعالي معنا.
– قد لا يكون الفيلم جيدًا، لكن دائمًا ما يجد المرء شيئًا يلهيه.
- لا، كما أخبرتكم، ليس لدي رغبة في ذلك.
- ماذا ستفعلين وحدك في هذا المنزل الكبير طوال فترة بعد الظهر؟
- أرغب في البقاء وحدي.
– اتركها، يا خوليو، حينما تكون هكذا لا أحد يستطيع تحملها. كنت أتوقع أن يمضي كل هذا الوقت دون أن يظهر لها أحد تلك النوبات. لكنها الآن لا شيء، يقولون إنه عندما توفي والدي...
عندما خرجا كان لا يزال يروي القصة القديمة. كان الحر يتسلل إلى الجسد من كل مسام، كانت الرطوبة بخارًا محرقًا يلف ويقيد، يدمج ويعزل في ذات الوقت كل شيء على الأرض، أرض لا يمكن المشي عليها حافيا. حتى البلاط بين الحمام وغرفتي كان دافئًا. وصلت إلى غرفتي وألقيت المنشفة؛ أمام المرآة فككت شعري وتركته ينزلق بحرية على كتفي الرطبتين من ظهري المبلل. ابتسمت في الصورة. ثم استلقيت على بطني على الأسمنت البارد وألصقت جسدي به: الصدغ، الخد، الصدر، البطن، الفخذين. مددت جسدي مع تنهيدة وبقيت نصف نائمة، أسمع في الخلفية صوت طنين الحشرات في الحديقة.
في وقت لاحق، نهضت، ارتديت رداء قصيرًا، ومن دون أن أرتدي حذاء أو أربط شعري، ذهبت إلى المطبخ، فتحت الثلاجة وأخرجت ثلاث حبات مانجو كبيرة وصلبة. جلست لأتناولها على الدرج في أقصى المنزل، مواجهةً للحديقة. أخذت واحدة وقلتها بأسناني، ثم قضمتها بكل فمي، حتى العظم؛ مزقت قطعة كبيرة، بالكاد كانت تتسع في فمي، وشعرت باللب يتفتت والعصير ينزل عبر حلقي، على زوايا فمي، على ذقني، ثم بين أصابعي وعلى طول الساعدين. بتململ قشرت الثانية. ومع مزيد من الهدوء، وشعور بالرضا، بدأت في أكل الثالثة.
أثار صوت الشنكل انتباهي فرفعت رأسي. كانت هي "تويا" تقترب. بقيت وأنا ممسكة بالمقبض بين يدي، عاجزة، ساكنة، وبدأ العصير الذي على جلدي يجف بسرعة ويصبح غير مريح، ويتحول إلى شيء مزعج.
- عدت لأنني نسيت المال.
نظرت إليّ طويلاً بعينيها اللامعتين مبتسمة:
لم أرَك تأكلين هكذا من قبل، أليس لذيذا؟
- نعم، إنها لذيذة.
وضحكت وأنا أرفع رأسي أكثر وأترك آخر القطرات الثقيلة تنساب قليلاً على عنقي أضفت:
- لذيذة جداً.
ودون أن أعرف السبب، بدأت أضحك بصوت عالٍ، بصدق. ضحكت "تويا" أيضاً ودخلت إلى المطبخ. وعندما مرّت بجواري مرة أخرى قالت لي ببساطة:
– إلى اللقاء غداً.
ورأيتها تبتعد، طق.. طق ، مع صوت نقر صندلها وإيقاع واثق من حركات وركيها.
استلقيت على الدرج ونظرت من بين الأغصان إلى السماء وهي تتغير ببطء حتى أقبل الليل.
***
في أحد أيام السبت ذهبنا نحن الثلاثة إلى البحر. اخترت شاطئًا مهجورًا لأنني كنت أخجل من أن يراني الناس أذهب في نزهة مع الشبان كما لو كنا في نفس السن. في الطريق غنّينا حتى أرهقنا حناجرنا، وعندما انتهى الممر إلى الشاطئ ورأينا البحر يلمع في الأفق، بقينا نحن الثلاثة صامتين..
في وسط أشجار النخيل تركنا الأغراض، ثم اختار كل منا كثيبًا رمليا لخلع ملابسه.
كان دوي البحر يتساقط كالرعد في الهواء المثقل بالشمس. وأنا أدهن جسدي بالزيت اقتربت من الخط الرطب الذي يتركه المد على الرمل. جلست على القشرة الجافة، التي لا تلمسها الأمواج.
من بعيد، سمعت صرخات الفتيان؛ التفت لرؤيتهما: لم يكونا بعيدين عني أكثر من بضع أمتار، لكن البحر والشمس يعطيان للمسافات معنى آخر.
ركضا نحو المكان الذي كنت فيه وكأنهما سيصدمانني، ولكن قبل أن يفعلا، أوقف رومان نفسه بأقدامه الممتدة إلى الأمام، رافعًا كمية كبيرة من الرمل، وسقط على ظهره، بينما اندفع خوليو إلى جانبي على بطنه، بكل القوة والثقة التي كان سيضعها في قفزة إلى مسبح. توقفا في مكانهما، مغلقين أعينهما؛ كان جنبا كل منهما ينبضان، لامعين بالعرق. رغم البحر، كان بإمكاني سماع أنفاسهما الثقيلة. بينما كنت أراقبهما، بدأت أنفض عني الرمل الذي غطياني به. رفع رومان رأسه.
– ما هذه الغباء، يا رجل، كدت أن تقع عليها!
لم يتحرك خوليو.
– وأنت؟ انظر كيف تركت الرمل عليها.
كان لا يزال مغلقا عينيه، أو هكذا بدا الأمر؛ ربما كان يراقبني دائمًا بهذه الطريقة، دون أن أدرك ذلك.
- سنقوم بتعليمك بعض تمارين الخماسي الحديث، حسنًا؟
قام رومان ومر بجانب خوليو، ووضع قدمه على ضلوعه وقفز فوقه. رأيت تلك القدم الضخمة والخشنة على الجسد النحيف. ركضا، تقاتلا، كانت الأطراف الرشيقة تتشابك في خيوط عصبية مليئة بالنعومة والرشاقة. ثم ركع خوليو، وانحنى على نفسه ليشكل حاجزًا قويًا، بينما ابتعد رومان.. صرخ رومان قبل أن يبدأ الركض نحونا أنا وخوليو.
- الآن سترين قفزة النمر!
رأيته ينقبض ثم ينقض في الهواء المتردد، يداه ممتدتان للأمام ووجهه مختبئ بين ذراعيه. تمدد جسده على أقصى اتساعه وظل معلقًا في قفزته التي كانت أشبه بطيران.. مغطى بضوء الشمس، وظلّه الناعم على الرمل. كان جسده كالنهر، يتدفق بالقرب مني، لكنني لم أتمكن من لمسه. لم أكن أفهم سبب وجود خوليو أسفل منه، لأن لم يكن هنالك حاجة لإنقاذ شيء، لم يكن تمرينًا: الطيران، التمدد في لحظة الامتلاء كما في السرير ذاته، أن تكون في جو من الاكتمال، هذا كان كل شيء. لا أدري متى، لكن عندما سقط رومان أخيرًا على الرمل، نهضت دون أن أقول شيئًا، اتجهت نحو البحر، دخلت فيه خطوة خطوة، فى ثبات ضد المد.
كان الماء باردًا جدًا لدرجة أنه جعلني أرتعش في البداية؛ مررت من خلال الأمواج العاتية وألقيت نفسي مرة أخرى على بطني، بقوة. ثم بدأت أسبح. كان البحر يواكب انحناء ذراعي، ويستجيب لإيقاع حركاتي، ويتنفس. استلقيت على ظهري والشمس تحرق وجهي بينما كان البحر البارد يحملني بين الأرض والسماء. كانت الأجواء تتحرك ببطء في الظهيرة؛ كان هناك عظمة كبيرة تسحق أي فكرة؛ بعيدًا، كان هنالك صراخ طائر وهدير الأمواج.
خرجت من الماء مشوشة. أحببت ألا أرى أحدًا.. وجدت نعليّ، ارتديتهما ومشيت على الشاطئ الذي كان يحرق كما لو كان جمرًا. مرة أخرى، جسدي، مشيتي الثقيلة التي تترك أثراً. تحت أشجار النخيل، التقطت المنشفة وبدأت في تجفيف نفسي. عندما أصبحت حافية القدمين، جعلني الاتصال بالرمل البارد في الظل أشعر بإحساس مشوش؛ نظرت مجددًا إلى البحر؛ لكن رغم ذلك، ظل غضب صغير، يكاد يكون بريقًا من القلق، يزعجني.
كنت مستلقية على بطني منذ فترة طويلة، نصف نائمة، عندما شعرت بصوته الخشن يلامس أذني. لم يلمسني، فقط قال:
- لم أكن مع امرأة من قبل.
ظللت دون أن أتحرك. كنت أسمع الرياح وهي تمر على الرمل، وكأنها تصقله.
عندما بدأنا نجمع أغراضنا للعودة، قال رومان:
– إنه مجنون، قضى بعد الظهر مستلقيًا، يترك الأمواج تغسله. لم يتحرك حتى عندما قلت له أن يأتي لتناول الطعام. خفت لأنه كان يبدو مثل غريق.
بعد العشاء خرجا في نزهة، لزيارة ما، أو لمراقبة الفتيات وهن يتمشين أو التحدث معهن والضحك دون أن يعرفا السبب. وحيدة، خرجت من المنزل. مشيت ببطء عبر الأرض المجاورة، حريصة على أن أخطو بحذر على الصخور والنباتات الجديدة الهشة. كان صوت الضفادع يتصاعد من النهر، متقطعًا وطويلاً، مئات، ربما آلاف منها. السماء كانت منخفضة كالسقف، صافية وواضحة شعرت بالارتياح عندما رأيت أن لمعان النجوم يتناغم تمامًا مع نقيق الضفادع.
واصلت السير حتى وجدت منعطفًا حيث كانت الأشجار تسمح لي برؤية النهر في الأسفل، أبيض. في ظلمة الحديقة الغريبة شعرت وكأنني في ملاذ، وأنا أراقب تدفق النهر. تحت قدمي طبقة كثيفة من الأوراق، وأسفل منها الأرض الرطبة، التي تفوح منها رائحة التخمير الصحية التي رغم قربها الشديد من العفن، تحمل حياة. استندت إلى شجرة، أنظر إلى مجرى النهر الذي كان مثل النهار. دون تفكير، تجولت يدي على خط الشجرة النحيف، الممتلئ والدقيق، وعلى دفء لحاء الشجرة الخشنة.. الضفادع، وصوت الجنادب المتواصل، والنهر ويداي اللتان تتلمسان الشجرة. كلها طرق تتقاطع فيها دماء الآخرين ودمائي، والمشتركة هنا، في هذه اللحظة، على هذا الشاطئ المظلم.
كانت الخطوات على الأوراق المتساقطة، والهمسات، والضحكات المكتومة، كلها طبيعية، لكنني شعرت بالدهشة وابتعدت مسرعة. كان ذلك غير مجد، فقد تعثرت وسقطت على وجهي مع الظلين الأسودين اللذين كانا يلتصقان بجدار واهتزاز جسديهما برفق في عناق متشنج. فجأة توقفا عن الكلام والضحك، ودخلا في الصمت.
لم أتمكن من منع نفسي من إحداث ضجيج، وعندما كنت أهرب خجلاً وسرعة، سمعت بوضوح صوت تويا اللزج وهي تقول:
- لا تقلق، إنها السيدة.
كانت خدايَّ يحترقان، وواصل ذلك الصوت ملاحقتي في أحلامي تلك الليلة، وسط أحلام غريبة وثقيلة.
كانت الأيام تتشابه مع بعضها البعض؛ كانت من الخارج متشابهة، لكن كان بالإمكان الشعور باننا نغوص خطوة خطوة في الصيف..
في تلك الليلة كان الهواء أكثر ثقلًا وبشكل مختلف تمامًا عن كل ما عرفت حتى ذلك الحين. الآن، في الذاكرة، أعود لاستنشاقه بعمق.
لم يكن لدي القوة للخروج في نزهة، ولا حتى لارتداء قميص النوم؛ بقيت عارية على السرير، أنظر من النافذة إلى نقطة ثابتة في السماء، ربما نجم بين الأغصان. لم أكن أتذمر، فقط كنت ملقاة هناك، تمامًا كحيوان مريض يتخلى عن الطبيعة. لم أفكر، وكان من الممكن أن أقول تقريبًا أنني لم أشعر بشيء. الحقيقة الوحيدة كانت أن جسدي كان ثقيلًا بطريقة رهيبة؛ لا، ما كان يحدث هو ببساطة أنني لم أستطع التحرك، رغم أنني لا أعرف السبب. ومع ذلك، كان ذلك هو كل شيء: بقيت بلا حراك لساعات، دون أى تفكير، تمامًا كما لو كنت أطفو في البحر تحت ذلك السماء الصافية. لكنني لم أخف. لم يصلني شيء؛ الأصوات، الظلال، الشائعات، كل شيء كان بعيدًا، والشيء الوحيد الذي ظل موجودًا هو وزني على الأرض أو على الماء؛ كان هذا هو ما كان يركز كل شيء في تلك الليلة.
أعتقد أنني بالكاد كنت أتنفس، على الأقل لا أتذكر ذلك؛ لم يكن لدي حاجة لذلك أيضًا. لا يمكن وصف التواجد بهذا الشكل لأنه لا يكاد يحدث، ولا يمكن قياسه بالزمن لأنه ينتمي إلى عمق آخر.
أتذكر أنني سمعت عندما دخل الفتيان، أغلقا الباب بمفتاح، وهمسا وتوجها إلى غرفتهما. سمعت خطواتهما بوضوح، لكنني لم أتحرك حتى حينها. كان ذلك نوعًا من الفخ الحلو، ذلك الثقل الغريب..
عندما سُمِعَ الصوت الخفيف، توترت كل حواسي، تجمدت كما لو أن ذلك كان ما كنت أنتظره طوال هذا الوقت الذي لا نهاية له. لمسة ورجفة، الاهتزاز الذي تتركه كلمة في الهواء، دون أن ينطق أحد بكلمة، فنهضت فجأة. في الخارج، في الردهة، كان شخص ما يتنفس، لم يكن من الممكن سماعه، لكنه كان هناك، وصدره المتسارع كان يرتفع وينخفض بنفس الإيقاع الذي كان ينخفض به صدري: هذا جعلنا متساويين، قَصّر أية مسافة. وأنا واقفة بجانب السرير رفعت ذراعيّ المتلهفتين وأغلقت عينيّ. الآن كنت أعرف من كان في الجهة الأخرى من الباب. لم أتحرك لفتح الباب؛ عندما وضعت يدي على المقبض، لم أكن قد خطوت خطوة واحدة. ولم أتحرك نحوه أيضًا، ببساطة التقينا، من الجهة الأخرى للباب. في الظلام كان من المستحيل رؤيته، لكن لم يكن هناك حاجة لذلك، كنت أشعر ببشرته قريبة جدًا من بشرتي. بقينا وجهاً لوجه، كأعميين يحاولان أن يتأملا في عيني بعضهما البعض. ثم وضع يديه على ظهري وارتعش. ببطء جذبني نحوه ولفني في قلقه الكبير المكبوت. بدأ يقبلني، أولاً بالكاد، كما لو كان مشغولاً، ثم أصبحت قبله واحدة. احتضنته بكل قوتي، وعندها شعرتُ ضد ذراعيّ وفي يديّ بُرقات جانبيه، ارتجاف ظهره. في وسط تلك القبلة الوحيدة في وحدتي، ذلك الدوار الناعم، بدأت أصابعي تلمس جسده كما لو كان شجرة، وكان ذلك الجسد الشاب يبدو لي نهرًا يتدفق بنفس السرية تحت الشمس الذهبية وفي عتمة الليل. ونطقت بالاسم المقدس.
***
غادر خوليو منزلنا سريعًا، ومن المؤكد أنه كان يكرهني، على الأقل هذا ما أتمنى. الإهانة التي شعر بها نتيجة قبوله في مكان شخص آخر، والرعب الذي أحس به عندما اكتشف من هو ذلك الشخص الآخر بداخلي، جعلاه يرفضني بعنف عند سماعه للاسم، ويضربني بقبضتيه في الظلام بينما كنت أسمع شهقاته. لكن في الأيام التي تلت ذلك، رفض أن يلتقي بعينيّ، وبدت ملامح الانكسار واضحة عليه لدرجة أنه كان يخجل من ذاته. في اليوم الذي سبق رحيله، تحدثت معه لأول مرة على انفراد بعد تلك الليلة التي شهدت القبلة، وشرحت له كل شيء بأقصى وضوح استطعت. أخبرته بأنني كنت جاهلة تمامًا بما حدث لي، لكنني لا أعتقد أن جهلي يعفيني من المسؤولية.
- – كانت علاقتنا كذبة، لأنه حتى لو كانت قد حدثت، لكنا انفصلنا. ومع ذلك، في وسط المعاناة والفراغ، أشعر بفرح كبير: يسرني أن أكون أنا المخطئة، وأن تكون أنت أيضًا كذلك. يسرني أن تدفع ثمن براءة ابني، رغم أن ذلك غير عادل.
بعد ذلك، أرسلت رومان للدراسة في المكسيك وبقيت وحدي.
(تمت)
***
.....................
الكاتبة: إينيس أريدوندو/ Inés Arredondo (المكسيك: إينس كاميلو أريدوندو (20 مارس 1928 – 2 نوفمبر 1989) كانت كاتبة مكسيكية. في عام 1947، التحقت بقسم الفلسفة في الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك. في عام 1958، تزوجت من الكاتب توماس سيغوفيا. فازت بجائزة خافيير فياوروثيا في عام 1979 عن روايتها "ريو سوبيترانو". ولدت إينيس كاميلو أريدوندو في كوليكان، سيناوا، لعائلة من الطبقة المتوسطة التي أصبحت فقيرة فيما بعد؛ كان والدها، ماريو كاميلو فيغا، طبيبًا ليبراليًا، وكانت أريدوندو أكبر أبناء العائلة، التي تضم تسعة أطفال. قضت جزءًا كبيرًا من طفولتها في مزرعة السكر إلدورادو حيث كان يعمل جدها من جهة والدتها، فرانسيسكو أريدوندو. بين عامي 1936 و 1944 درست في كلية مونتفرانت في كوليكان، وهي مدرسة تديرها راهبات إسبانيات. من 1945 إلى 1946 درست في كلية أكويلس سيردان في غوادالاخارا.
في عام 1947 التحقت بالجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك في مكسيكو سيتي لدراسة الفلسفة. ومع ذلك، تعرضت لأزمة روحية نتيجة قراءة فريدريش نيتشه وسورين كيركيجارد، بسبب البيئة المشككة والإلحادية التي كانت تحيط بها. أصبحت ميالة إلى الانتحار، ونصحها طبيبها بتغيير مجال دراستها. لذا، في عام 1948 بدأت دراسة الأدب الإسباني. أنهت دراستها في عام 1950 مع أطروحة عن "الأفكار والمشاعر السياسية والاجتماعية في المسرح المكسيكي 1900–1950". بين عامي 1950 و 1952 درست الدراما، وفي عام 1953 درست دورة في علوم المكتبات. خلال دراستها، تعرفت على العديد من الأشخاص الذين تم نفيهم خلال الحرب الأهلية الإسبانية. كان الجمهوريون بالنسبة لها معارضين قويين للتيارات الوطنية السائدة في المكسيك في ذلك الوقت. خلال هذه الفترة، اكتشفت أيضًا الوجودية الفرنسية، والسريالية، وجيل 27، وأدب خوان رولفو و خوان خوسيه أريولا. عاشت مع زملائها في الدراسة، مثل روزاريو كاستيلانوس، وخايمي سابينيس، وروبن بونيفاز نونو، وكان معلميها يشملون خوليو توري، و فرانسيسكو مونتيردي، و كارلوس بيلشير. في عام 1958، تزوجت من الكاتب توماس سيغوفيا، الذي كانت تشارك معه العديد من الاهتمامات. بعد ولادة ابنتهما الأولى، إينيس، توفي ابنهما الثاني، خوسيه، عند ولادته، مما أدى إلى أزمة روحية جديدة.
بين عامي 1952 و 1955 عملت في المكتبة الوطنية؛ ثم شغلت منصب إميليو كارباليدو في كلية الفنون الجميلة للمسرح. ساهمت في إعداد "معجم الأدب اللاتيني الأمريكي" الذي نشرته اليونسكو، ومن 1959 إلى 1961 قامت بتحرير "معجم التاريخ والمعلومات السيرة المكسيكية". كما كتبت لبرامج الإذاعة والتلفزيون وعملت كمترجمة. أدى عملها في الترجمة إلى فكرة أول عمل أصلي لها، "إل ممبريو" (التي نشرت عام 1957 في مجلة الجامعة). ومن تلك اللحظة، لم تتوقف عن الكتابة.
أنجبت طفلين آخرين، آنا و فرانسيسكو سيجوفيا، وعملت مع زوجها في "مجلة الأدب المكسيكي"، رغم أن اسمها لم يظهر في المجلة حتى انفصلت عنه. قالت إيلينا بونياتوفسكا إنها كانت نوعًا من الملهمة، وكانت المرأة الوحيدة في جيلها، وأن هوبرتو باتيس و خوان جارسيا بونس كانا من "معجبيها" (بونياتوفسكا 1994: 2). تم نشر العديد من قصصها في المجلة. في عام 1961 حصلت على منحة دراسية من مركز الكتاب المكسيكيين، وفي عام 1962 حصلت على منحة أخرى من مؤسسة فيرفيلد في نيويورك.
على الرغم من مشاكلها الزوجية، قررت هي وزوجها البدء من جديد والانتقال إلى مونتيفيديو (أوروجواي)، حيث عملت في رابطة التجارة الحرة لأمريكا اللاتينية (LAFTA). ومع ذلك، في عام 1962 انفصلا، وعادت إينيس إلى المكسيك. أصبح طلاقهما رسميًا في عام 1965. كأم مطلقة، تولت إينيس العديد من المناصب لدعم أطفالها: