أقلام حرة

أقلام حرة

يستفزّني أولئك المتبطلون المتفلّسفون الذين تعج بهم وسائل الاتصال الاجتماعي، أكثر ما يستفزونني، عندما يعثرون على صورة جديدة لهذا الفنان او تلك الفنانة، وقد اخذ الكبر منه مأخذه الذي لا بُدّ له من ان يحصل مع كل واحد منا نحن بني البشر، فتراهم وقد بادروا الى نشر ما حصلوا عليه من "غنيمة"، عادة ما يكون مصدرُها صحفي فاشل او مصوّر مرتزق يريد ان يسجّل سبقًا صوريًا بملاحقته هذا الفنان او تلك الفنانة كما سلف.

حصل هذا في السنوات الأخيرة مع الكثيرين من مجموعات وسائل الاتصال الاجتماعي ومتابعيها، وقد رأينا مَن يعثر مثلًا على صورة جديدة لفتى السينما المصرية في فترات سابقة، واقصد به احمد رمزي، كما حدث مثلا أيضا، عندما عثر بعضهم على صورة للفنانة المغنية الراقية المعروفة بإثرائها المشهود له في مجال الغناء العربي الحديث واذكّر بها الفنانة المصرية نجاة الصغيرة. ما نقوله عن ذاك وتلك انطبق على الكثيرين من الفنانين، الذين اعتقد انه توجد في ذاكرة الكثيرين من الاخوة القراء أسماء وصور لهم. ما حدث هو ان أولئك المتبطّلين، ما إن حصلوا على " غنائمهم"، هذه من الصور المختلسة في العادة، حتى سارعوا الى وسائل الاتصال الاجتماعي، خاصة الفيس بوك والتوكتوك، ونشروا هذه الصور، مرّة مرفقة مع صورة مَن نشروا صورته من أيام العز والشباب، او معلّقين بنوع من السخرية الجارحة، او الشماتة المقيتة، انظروا الى كيف اصبح شكل احمد رمزي، او تمعّنوا في صورة نجاة الصغيرة كيف باتت عجوزا مُسنّة وما إلى هذا من كلام جارح، كان يُفضّل الاستغناء عنه وترك عربة الحياة تواصل انطلاقتها على ما تواصَل مِن مسارات ومسالك ابتدأت مُثرية وغنية.. ولا.. بد لها من ان تواصل حاملة ماضيها الجميل ومنطوية عليه دون أي ازعاج من أي من الناس.

المؤسف ان العثور على صورة فنان او فنانة، وأنا اتقصّد هذا التفصيل، إذ أنه كان بإمكاني ان اعبّر عمّا أود قوله بدون تفصيل مُخلٍّ لغويًا، اذ ان العربية تشمل الذكر والانثى بصورة عامة عندما نشير الى المذكّر، أقول المؤسف، تبعا لما نقوله، ان البحث عن الصور الجديدة لفناني وفنانات الزمن الماضي الجميل، بات هما حقيقيا وربّما مصدر ارتزاق للعديدين من نهّازي الفرص ومقتنصي لُبابها، فتراهم، او تشعر بهم بالأحرى، وقد امتشقوا كاميراتهم وراحوا يلاحقون هذا الفنان او تلك الفنانة، ممن كبروا، في هذه الزاوية او تلك المدينة، وربّما الدولة ليلتقطوا لهم صورة ويقوموا بنشرها في وسائل الاتصال الاجتماعي، التي جنوا بها، معتبرينها فضحية، نعم هذا تعبير اذكر ان بعضهم استعمله، وناشرين إياه، كي يرى متابعو وسائل الاتصال الاجتماعي الصورة الجديدة لهذا العجوز او تلك المسنة من الفنانين وقد فقد يناعته ونضارته، بعد ان تألق كلّ منهم، وشغل الدنيا والناس في فترة ماضية!

بالعودة الى ما ذكرته في البداية عما يتسبب فيه أولئك المشار إليهم وليس الجميع بالطبع، اضيف ان هؤلاء يستفزونني، واعتقد انهم يستفزون الكثيرين من امثالي، بما يعلنونه من صور من بلغ من العمر عتيا من الفنانين، مرفقا بكلمات جارحة حافلة بالشماتة وكأنما هم مخلدون لن يشيخوا وسيبقون شبابا الى ابد الابدين. لذا أقول لهم. مهلا أيها الاخوة.. مهلًا.. ولو كنت مكانكم، لاحتفظت بالصورة الأولى لهذا الفنان او تلك الفنانة، تلك الصورة الضاجّة بكل ما هو جميل وانساني ومفرح، تاركا كلا من الناس، سواء كانوا فنانين او حتى أناسا عاديين، لحياته الخاصة، ولهمومه التي وقفت وراءها امجاد لا تنسى.

***

ناجي ظاهر

يكتبون قصائدهم بمفردات أفكارهم التي تتحول إلى موجودات مادية فاعلة في أروقة الحياة، ونحن نكتب قصائدنا بمفردات الكلمات التي لا تغني من خوف ولا تطعم من جوع، فهي مجرد كلمات نسميها كيفما نشاء ونتوهم الإبداع.

فالإبداع المعاصر مادي الطباع والتطلعات، ويمثل القوة والقدرة على السيادة والهيمنة والإمتلاك.

فهل ساهم الشعر بقوتنا، وتنمية قدراتنا الإبتكارية؟

الشعر سلوك ترف، تتجسد قيمته عندما تبلغ مجتمعاته ذروة القدرة على قيادة سفينة الحياة، ولهذا كان عندنا شعر مؤثر فعال في زمن التألق الحضاري الوهاج.

فالواقع المعاش يلد رموزه الأفذاذ، فكيف يكون عندنا إبداع أصيل، ونحن نتخبط في أوحال الآخرين؟

تفاعلات غابية الطباع بين أبناء كل شيئ واحد، وتراخي وتواصل إيجابي مع أعداء الأمة والتأريخ، والتلاحي بين دولنا ديدن السياسة ومنطلق الخسران المبيد.

فدع الذكاء الإضطناعي يكتب ما يشاء، وينشره على أنه شعر معبر عنا، ويمثل دورنا في حياة نجيد إطفاء أضوائها، وتدمير معالم صيرورتها الأرقى.

إبداعنا (شعر)، وضربات متلاحقة على الكي بورد، بعد أن دفنا الأقلام في زمهرير الإمتهان، وحولنا الورق إلى دخان، فتعفنت الأذهان، وتدثرت الأجيال بركام الضلال والبهتان.

فاكتب على وجه الماء كما تشاء!!

كلامٌ بائرٌ دون الكلام

وصوت حائرٌ بنهى الأنام

بلا شعر إذا نضبت رؤانا

لإن الشعر من نضح المقام

فهل نزرع وهل نصنع مرادا

يوافينا بمنطلق اهتمامِ

***

د. صادق السامرائي

 

معادلة السعادة الحقيقية الهادئة

في زمنٍ تسوده العجلة وتُسيطر عليه ثقافة الاستهلاك يصبح البحث عن السعادة تحديًا حقيقيًا، إلا أن التجارب الحياتية والدراسات النفسية والاجتماعية أكدت؛ أن السعادة الحقيقية لا تكمن في مظاهر الثراء ولا في سباق الامتلاك، وانما في ثلاث قيم راسخة؛ التواضع والبساطة والقناعة.

فالتواضع؛ ليس ضعفًا ولا إنكارًا للذات ... وانما رفعة الأخلاق وعنوان الاتزان النفسي، فالمتواضع لا يعلو على أحد ولا ينتظر التقدير من احد، انما يُعامل الجميع باحترام وصدق ويكسب محبتهم بلا عناء، ويترك في الآخرين أثرًا لا يُنسى، كما يتحرك في الحياة بثقة هادئة، ويحمل قلبًا كبيرًا خاليًا من الغرور يمنحه شعورًا بالسكينة والتوازن.

أما البساطة؛ فهي فـن العيش بإيقاع متناغم مع النفس ... هي ليست فـقرًا كما يتوهّم البعض وانما؛ خيارٌ راقٍ يُعبّر عن نضجٍ داخلي بأن تختار ما يناسبك لا ما يُرضي أعين الآخرين، فتجد السكينة في مكانٍ متواضع وبلحظة صفاء وتفرح بالتفاصيل الصغيرة، ففي البساطة تتحرر من الاستعراض وقيد التكلّف، وتستعيد عمق الحياة بالتفرّغ لما هو أعمق وأجمل.

والقناعة؛ هي مفتاح الرضا وليست تخلّيًا عن الطموح، انما حكمةٌ تُعلّمك (متى تقول هذا يكفيني)، فالإنسان القنوع؛ لا يقارن نفسه بالآخرين، فلا يركض وراء ما لا يملك بل يعيش ممتنًا لما هو بين يديه، ففي قلبه راحة ورضا وفي عينيه نور فرح حقيقي، واثقًا أن البركة ليست في الكثرة وانما في الرضا.

أثبتت الدراسات النفسية والاجتماعية أن الأشخاص المتواضعين والبسطاء الذين يرضون بما لديهم دون مبالغة في التطلعات المادية هم؛ الأكثر سعادة ورضًا عن حياتهم، لأنهم لا يعيشون في دوامة المقارنات، ولا ترهقهم أعباء التنافس المحموم على المظاهر.

هـكذا في خضم الضغوط المتسارعة نحتاج لإعادة النظر في موقع هذه القيم في حياتنا؟ ولابد من ان نُعِيد ترتيب أولوياتنا؛ ونعُود إلى جوهر القيم الإنسانية ... فنعُود لإنسانيتنا النقيّة، فهذه القيم التي تبدو قديمة في أعين البعض، تُعدّ في الحقيقة مفاتيح السعادة الحقيقية والدائمة، فهي ليست مجرد صفات أخلاقية بل مفاتيح ذهبية تفتح أبواب الراحة النفسية والسلام الداخلي ... وإن العودة إلى هذه المبادئ ليست تراجعًا وانما ارتقاءٌ إلى وعيٍ أصفى وروحٍ أهـدأ. فهل نسينا أن السعادة لا تُقاس بالأرقام، بل تُقاس بما نشعر به في دواخلنا؟.

هذه القيم لن نجدها في الأسواق بل في أعماقنا، كما ينبغي الادراك بأن الحياة ليست بما نملك وانما بكيف نعيش ... فالسعادة لا تُمنح لمن يملك أكثر بل لمن يعرف كيف يعيش بقلبٍ راضٍ وبتواضع وبساطة، ورضا بم قسمه ’الله’ تعالى، وهذه هي) الوصفة الحقيقية للسعادة الدائمة). فالتواضع يمنحك احترام الناس ... والبساطة تُنقّيك من زيف العالم ... والقناعة تُثمر طمأنينة لا تُشترى، فلنُعِد النظر ولنتأمل في جمال الحياة البسيطة، ففيها تكمن البركة، والطمأنينة، والسعادة التي لا تُقَدَّر بثمن.

***

مجيد ملوك السامرائي – كاتب اكاديمي

....................

المراجع:

1. Seligman, M. E. P. (2002). Authentic Happiness, Using the New Positive Psychology to Realize Your Potential for Lasting Fulfillment. N. Y. , Free Press.

(سيلجمان، السعادة الأصيلة)

2. Brown, B. (2010). The Gifts of Imperfection, Let Go of Who You Think You're Supposed to Be and Embrace Who You Are. Center City, MN, Hazelden.

(براون، تخلَّ عن من تظن أنك يجب أن تكون، واحتضن من أنت بالفعل)

 

الحضارة الإنسانية قد تواجه نقطة انهيار بحلول العام 2100، وفقًا لما تكشفه دراسة تاريخية جديدة تتناول 5000 عام من التاريخ الإنساني وتحلل سقوط أكثر من 400 مجتمع.. صحيفة الغارديان البريطانية استعرضت هذه الدراسة التي تفتح الباب أمام رؤية مستقبلية مثيرة للقلق.

(لوك كيمب)، الباحث في مركز دراسة المخاطر الوجودية بجامعة كامبريدج، أشار في حواره للصحيفة البريطانية إلى أنه "رغم عدم قدرتنا على تحديد موعد محدد لانهيار حضارتنا، فإن النظر إلى أنماط التاريخ على مدى آلاف السنين يكشف أننا نسير في مسارات قد تقودنا نحو إنهاء ذاتي للحضارة".

وأضاف: "أنا متشائم تجاه المستقبل، لكنني لا أفقد الإيمان بالبشر".

يوضح كيمب أن هناك زعماء نرجسيين ومضطربين نفسيًا يشكّلون أقلية ضئيلة ولكن قوية، يتجاهلون تلك التهديدات الوجودية مثل الاحتباس الحراري، الأسلحة النووية، والذكاء الاصطناعي. واستمرار تجاهل هذه التحديات قد يزيد من تفاقم الأوضاع مستقبلًا.

العلماء سبق وأن نبّهوا لآثار الكوارث البيئية الناتجة عن النشاط البشري، مثل ارتفاع درجات الحرارة العالمية والتي قد تؤدي إلى نقص الغذاء، وموجات حر غير محتملة، وجفاف شديد. يضاف إلى ذلك الضغط النفسي والاجتماعي الناتج عن هذه الأزمات والذي يضاعف هشاشة المجتمعات.

يرى كيمب أن الحضارة الإنسانية عبر التاريخ تقدم دروسًا ثمينة حول كيفية تطور المجتمعات وانهيارها. ومن خلال هذه الشواهد التاريخية، يتضح أن القوى العظمى، أو كما أطلق عليها الباحث "جالوت"، تميل إلى الهيمنة عبر أدوات العنف والسيطرة على الموارد. لكن هذه القوى غالبًا ما تتهاوى بسبب عدم المساواة والجشع الذي يميز الطبقات الحاكمة.

وعلى المدى الطويل، عندما تزيد النخب من تركيز الثروات على حساب عامة الشعب، تصبح المجتمعات أكثر عرضة للصراعات الداخلية، والفساد، وضعف الصحة العامة، والتوسع غير المدروس، والتدهور البيئي.

يشير كيمب أيضًا إلى أن سوء اتخاذ القرارات من قبل الأقلية يمكن أن يُضعف المجتمعات بشكل كبير، ويجعلها عرضة للانهيار أمام عوامل كالحروب أو انتشار الأمراض أو التغير المناخي.

في سياق القرن الحادي والعشرين يتحدث كيمب عن فكرة "القوة العالمية المترابطة" التي تعمل ضمن نظام رأسمالي. الأزمات الناتجة عن اختلال أنظمة الغذاء، خطر الحرب النووية المستمر، وتفاقم أزمة المناخ قد تدفع الحضارة الحديثة نحو نهايتها.

انتقد الباحث القادة العالميين الذين يسهمون في تسريع هذا المصير. وصف كيمب هؤلاء بأنهم تجسيد حي لما يُعرف بـ"الثالوث المظلم"، حيث يرى (دونالد ترامب) كنرجسي مثالي، و(فلاديمير بوتين) كشخص مختل نفسيًا بارد المشاعر، و(شي جين بينغ) كقائد متلاعب يتمتع بدهاء سياسي.

لكن هناك حلول ممكنة برأي كيمب لتجنب الانهيار الكامل، أبرزها تحقيق مجتمعات ديمقراطية حقيقية تُعيد توازن السلطة وتفرض ضرائب عادلة على الثروات الكبيرة. وهو يؤمن بأن هذا ليس بعيد المنال إذا توفرت إرادة قوية للتغيير.

اليوم، تحديات مثل بناء - ذكاء اصطناعي- تبدو أكثر قابلية للتصور مقارنةً بتحقيق ديمقراطية شمولية أو منع سباقات التسلح. إلا أن كيمب يرفض هذا النوع من التشاؤم قائلاً : "بالطبع يمكننا تحقيق الديمقراطية على نطاق واسع؛ فنحن بطبيعتنا كائنات اجتماعية وداعمة للتعايش".

النص يحمل دعوة للتأمل في الماضي لفهم ما يمكن أن يحدث مستقبلاً، مع التأكيد على ضرورة اتخاذ قرارات جريئة وإصلاح هيكلي يعزّز قدرة المجتمعات على مواجهة التحديات الوجودية الكبرى.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

زميل كذا جمعية، خريج كذا كلية وجامعة، يتبخترون ويتبجحون، أنهم يحملون شهادة أم آر سي بي، وأف آر سي إس، وغيرها من الشهادات، وكلها ألقاب ذات هالات دخانية.

لا يوجد عندنا علم أصيل ولا شهادات أصيلة نفخر بها، وذلك بخيارنا، وما يميزنا عن غيرنا من مجتمعات الدنيا، وهو برهان واضح على التبعية والعجز والقنوط.

وجامعاتنا مشغولة بمنح شهادات الماجستير والدكتوراه بالعلوم البائدة، وأكثرها في موضوعات لا تنفع المجتمع، ولا تساهم في تنمية قوته وزيادة إنتاجيته وقدرته على التحدي والإبتكار.

البيئة العلمية في مجتمعاتنا تكاد تكون منقرضة، ولا تحظى بإهتمام من قبل السلطات، والسائد أن يتحول المجتمع إلى مذعن مطيع لإرادة الكراسي القابضة على مصيره، والمحققة لأماني الطامعين فيه.

التبعية العلمية إستعمار ثقافي مبيد، أمضت الأمة على إيقاعه العقود التي تلت الحرب العالمية الأولى، ولا تزال تسير خلف قطار الآخرين، ولا تستطيع اللحاق بآخر عرباته.

فقوة الأمة التي توهجت وسادت نابعة من أصالتها الإبداعية ومعطياتها المتميزة الغير مسبوقة، وعلتها أنها كانت صيرورات فردية، وما إستطاعت أن تحولها إلى منتوج شائع وما تناقلتها الأجيال، بل الأنانية هيمنت على نوابغها، لما توفره لهم معارفهم من عطايا وجاه وإقتدار، لا يريدون أن يشاركهم به أحد، فانتهى ما أبدعوه بنهايتهم، وما توارثه عنهم تلامذة أو مريدين.

والدول بعقول أبنائها وإبداعاتهم المتوافقة مع عصرهم، وليست بالإندساس في الماضيات، والبكاء على الأطلال، والتوهم بأن الذي فات ما مات.

فهل توجد قدرة على العودة إلى جوهر إرادة الأمة وتحفيز دورها الحضاري، والتفاعل مع مفردات ما فيها بعقل إبداعي حر مؤمن بقدرتها على أن تكون وتتقدم، بذات التعجيل الذي إنطلقت به عندما تألقت وأشرقت بنور عقولها؟

بدائعهم بفردٍ دون جمعِ

وذا عملٌ تكرسه بطبعِ

فما برحت تجارتهم لنفسٍ

بها طمعٌ لمكرمةٍ ووضعِ

تضيع علومها حين احتكارٍ

وإمعانٍ بحاديةٍ لمنعِ

***

د. صادق السامرائي

 

من غرائب المفاهيم التي أشاعت، ولحد الآن، بعداً إيهامياً من الصعب تحقيقه، يسمونه (الأممية). والأممية، تعني جعل حكومات العالم كلها تتحول الى حكومة عالمية واحدة.. فهل يمكن أن تتحقق هذه الأممية؟

الأممية تصطدم بحقائق الواقع الموضوعي، الذي يتشكل من قوميات وأديان تعتز بمقوماتها وركائزها ومنطلقاتها الفكرية والثقافية ولا تفرط بها وهي موزعة على مناطق وقارات.. فهل الأممية مجرد خيال أم مجرد تصور حكومة عالمية يمكن أن تسود؟ وهل يمكن توحيد حكومات وإختزالها في حكومة واحدة تحكم العالم؟

في حوار بين اثنين قال احدهم: يمكن تشكيل (حكومة اسلامية) في كل دولة ومن ثم توحيد هذه الحكومات الاسلامية في حكومة اسلامية واحدة. عندئذ تتحقق الحكومة العالمية..!!

سأله الآخر: وماذا بشأن الأديان الأخرى المسيحية مثلا وتفرعاتها (البروستانتية والكاثوليكية والأثردوكسية) فضلا عن الهندوسية والسيخية والبوذية واليهودية والديانات الأخرى.؟

وأضاف: وماذا بشأن القوميات الأخرى التي تتوزع على أنحاء العالم؟ أين مصيرها في ظل الحكومة الأممية؟

ومتى تتحقق هذه الحكومة؟

 أجاب: تتحقق في نهاية المطاف.

وأين هي نهاية المطاف؟

أجاب: في النتيجة.

تعني ان الاحزاب الاسلامية، التي تتشكل في كل دول العالم، ستتوحد في حزب اسلامي واحد وستنبثق منه (حكومة عالمية) تقود العالم؟.

أجاب.. نعم.

وهل تعني ان هذه الحكومة الاسلامية (أممية)؟

سمها ما شئت.!

وأين تذهب الدول والحكومات والقوميات والاديان؟

أليس هناك قوميات واديان؟ ألم يكن العرب قوم قبل الأسلام؟ ألم يحمل العرب راية الأسلام الى العالم؟

أجابه: الأسلام هو الأول والآخر..

هل يعني ذلك: أن لا اعتراف بالقوميات والاديان الاخرى؟ ألا يوجد واقع معاش اسمه (وطن ووطنية وقوم وقومية) وأديان اخرى منتشرة في قارات الارض ونصوص قرآنية تخاطب البشر (وجعلناكم شعوب وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم (ص)؟

اجاب: الاسلام عالمي والحزب الاسلامي عالمي في نهاية المطاف.

مرة ثانية، أين هي نهاية المطاف؟

حين تتحقق..!!

وهل الأسلام دين أم سياسة؟

قال: أنا اتكلم في الدين..

 وأجابه: وهل الحياة كلها دين ؟

اكمل حديثه: الدين ليس سياسة، والسياسة ليست دين، الدين يتوجب أن يبتعد عن ملوثات السياسة، الدين ليس تحزبات.. الدين، يجب أن لا تقوده السياسة وليس بحاجة الى أطر سياسية، الدين روح الحق والعدل والانصاف ولا يجب ان يكون متزمتا وإقصائياً.. الدين لا يحتاج الى احزاب.. والتفكير في اممية الدين لها مآرب أخرى.

الأممية في حقيقتها تتجاوز الوطن والأمة وتتخطاهما وهي عابرة للحدود الوطنية والقومية ولا تعترف بهذه الحدود أو تهتم بمطالب الوطن.. الأممية مصطلح هلامي تتبناه احزاب (سياسية) منذ الداعية محمد عبده والداعية التركي حسن البنا وابن تيميه والداعية محمد عبد الوهاب الذي يقال انه من يهود (الدونما) في تركيا ونسبه يعود الى اسرة (زباتاي زيفي) وهو معروف بغائيته.

الدين لا يجب ان يكون متزمتا وإقصائيا.. فمهامه ارشاد البشر ومنع المعصية وبناء الأنسان على خلق، أما السياسة فهي تبني البلدان وتنشأ الحضارات وتحمي المنجزات وتحافظ على المكتسبات ولا تفرط بالثوابت، وقد يكون بعضها سببا في الخراب والدمار.. الدين ليس فيه ما هو من اختصاصات السياسة في البناء والتطور.. الدين في مؤسساته المعروفة والسياسة في مؤسساتها المعينة ولا يجوز التداخل، لا الدين في السياسة ولا السياسة في الدين، الأمر الذي يستوجب فك الإشتباك بينهما لكي تستقر وظائف كل منهما والمهم في الأمر القبول بثوابت السياسة وثوابت الدين ومنع التداخل بطريقة الاجتهاد.. والفتاوى والإجتهاد يتوجب عدم اشاعتهما وتجنب النشر.. لأن النشر يؤدي إلى الإنقسام والفوضى ومن ثم صراعات لا جدوى منها.. إن فك الإشتباك هو الطريق السليم.. لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة.. لا يجب ان يتحدث رجل الدين في السياسة (لأن ذلك ليس من اختصاصه) ولا يجب ان يتحدث رجل السياسة في الدين (لأن ذلك ليس من اختصاصه).. والواجب هو فك التشابك بين الدين والسياسة لكي تستقر الأحوال..!!

***

د. جودت صالح - تركيا / اصطنبول

6/ آب 2025 

حين تتفاقم الأزمة الذاتية، قد يفر المرء من حياته فبالأحرى من محيطه الاجتماعي. اليوم أراه يَفِرُّ من انفجار أزمة لواحق ومن داخل الباب الأمامي، ويأبى ألاَّ يستدير رؤية ثانوية حتى لا تصيبه شظايا اللعنة الآتية من الأطلال المكهربة. فالهروب نحو الأمام وبلا وداع قد يكون راحة، واطمئنانا على تجديد خطى البحث عن المسارات الجديدة. هروب يبدو حل من حلول كل المشكلات، والتي تبقى على الدوام من جيل الجُبن الذاتي، والتخوف من المخاطر، ومن مواجهة قضايا الحياة حتى العبثية منها .

لا يستحق الفرار أن يكون غير جزء نادر من فلسفة العدمية القديمة، ومن الصراع الأزلي مع الذات، والبحث عن المعنى الحقيقي للحياة. بينما فوضى المتناقضات هي التي أفسدت عنده قيمة الحياة المفلسة بلعبة العبثية. اليوم يسير بلا توقف يسترجع فيه بعضا من أنفاسه المتقطعة، فقد أعياه التفكير في تراكمات سلبيات حياته الماضية، وتلك المتاهات التي لا تنفتح بتاتا بالحلول وبالتوجيه عبر علامات تشوير قارة. يستمر في الهرولة نحو البحث عن جيل جديد من القيم الرزينة، والتي بالطبع أضاعها وتسربت من بين أصابع يديه.

يقطع المسافات تلو المسافة وبدون إحساس بعياء المشي، وذلك راجع بأنه لا يستدير خلفه نحو الماضي الذي أعياه من فرط مآسيه المتفاقمة بالكثرة. يستمد طاقته النفسية من حلم يوم سعده المزهر، ومن قيمة مغامرة البحث عن ذاك المستقبل الغابر لديه. اليوم لا يريد أن يكون منجما ولا قارئ فنجان، بل يرغب في تحقيق ذاته بالتكامل، وباستجماع إمكانياته المحدودة في الزمان والمكان.

كان يرغب في فرحة لحظة من بعض الانجازات الحقيقية التي تشده بالفرجة. بالطبع كان يريد العبور نحو الحياة فقط، وبراحة مزدوجة تتمثل في العيش الاجتماعي السليم لا العبثي الذي فتك بمكونات حياته السابقة. كان الفشل عنده لا يترك له التلاعب بالمبررات والمسوغات التي ترميه خارج ذات تفكير الصندوق ونحو المتمنيات المؤجلة.  كان يؤمن بأن النجاح جزء حل من نهاية الفشل، كما أنه يبيت جزء من المشكلات المستجدة.

كان وقوده في الهروب، طاقة نووية لا حدود لنفاذها بالمرة. تتكاثر في تفكيره إكراهات الفشل التي يحملها مثل كرة الثلج التي تكبر مع مشيه، لكنه بدا يحمل طموح القطيعة مع الماضي، ويتأبط بيانات طموح النجاح. اليوم لا يريد العودة لنقطة الصفر، حتى وإن تطلب منه الأمر الموت، فهو قد بات مثل (الحَراكِ) عن موطنه، فيما هو يماثله بأنه (حَرَّاكٌ) عن ذاته.

كان يؤمن ببنية القطعية " ما لم تبدأه اليوم، لن يكتمل في الغد بضرورة منهج النسقية"، هي كناية بأنه تخلى كليا عن سكونية الحياة المميتة التي تعشقه، ويرغب في تحقيق سنن التغيير، وتجسير الحصول ولو على قسط أدنى من نُتف السعادة (راحة البال). من حسن سعده، أن النوم بات يُفارق جفونه في ظل تجدد خلايا يقظته بطموح المستقبل. بات التراخي والتعب الذي كان يسنده راحة في كسله ومماطلته للأمور مع قضايا الماضي الذي تخلى عنه طواعية. أضحى الخوف من التغيير لا يرعب مساره في مداومة السير قُدما. بات الغضب يخبو حتى أضحى رمادا يتآكل مع الرياح.

كنت أداوم على متابعته إسراره في المشي السريع رغم تهديدات المعيقات التي يتلقاها، لأن مهارة حُلْمه كانت لا تتوقف عن البحث في نوعية المنافذ الآمنة بل عن الحياة بذاتها. كل فرص نجاحه كان يحملها بالتأني، وممارسة التخطيط، والبحث عن أجوبة تتضمن الجدوى من الحياة؟ من جميل سعادته أن مبادئه الأصيلة لم تتغير، بل زادته إيمانا في قتل أوهام الفشل. فالممكن الذي كان يسطو على أحلام الأمس، قد يبيت اليوم من الحقيقة البينية التي تقوده نحو النجاح فيما تبقى من حياته. اليوم، ثار على كل المئات من الأحلام المؤجلة، ونفض عنه غبار المتمنيات المهملة في الترتيب والتوجيه الصحيح نحو سياسة التغيير.

***

محسن الأكرمين

لا يختلف مثقفان عاقلان في أن اللغة منذ بُرئت ووُجدت انما هدفت لأن تكون وسيلة تواصل بين بني البشر، بالضبط مثل وُجدت أصوات الطيور، أقول هذا وأنا أفكر في أولئك الاخوة الكتّاب الذين يفتعلون الغموض وكأنما هو واحدة من ضرورات الكتابة والابداع، أولئك الاخوان الذين لا يميزون بين الغموض الساحر الشفاف والابهام الذي يستعصي على الافهام، ربما على افهام الجميع بمن فيهم مرسلوه أنفسهم.

أقول هذا وانا اعرف أن للغموض في العملية الإبداعية تحديدًا سحرها وشفافيتها المُستحبة، كما أقوله وانا أعرف ان كل جديد إنما يفرض نوعا ما من الغموض، من ناحية، ومن ناحية أخرى، ان الغموض في الادب الحديث عامّة، انما يأتي تحديًا للقارئ، كما يرى الناقد الفرنسي المعروف جيرار جنيت، صاحب جامع النص.

الى هذا أرى انه مِن الصحيح، ان الكتابة خاصة، والابداع الفني في مختلف ضروبه عامة، انما ينبثق عن رغبة داخلية عميقة في التعبير عن الذات أولًا وبعده في مخاطبة هذه الذات، بمعنى ان الكاتب والفنّان بشكل عام، إنما يرمي مما ينتجه ويُقدّمه لنا نحن القراء، اخوانه من بني البشر، للوصول الينا او لتوصيل ما خالجه من أفكار، احاسيس وأخيلة، بطريقته الخاصة التي تمتاز عن كلّ ما عداها من أساليب وطرائق، وذلك عبر مخاطبة الذات، بهدف الوصول إليها، والتماهي بالتالي مع مَن يُشابهها من ذوات، لا بُدّ من وجود رابط فيما بينها وبين تلك الذوات، وذلك توطيدًا لأحد أسس العملية الإبداعية ومراميها المُسدّدة والمُوجّهة، وهي اننا أبناء جنس واحد، وُجد من والدين اثنين، كما تقول الفطرة، وكما تشهد التطورات الملموسة والديانات أيضا... وعادة ما نلتقي في إحساس واحد وحيد وموحّد..

غير أن هذا كله يُفترض ان يجعلنا نتذكّر ندرك ولا ننسى عددًا من الأمور، منها أنه يوجد هناك فرق كبير بين الغموض والابهام، وأن العمل الإبداعي بصورة عامة يمجّ الافتعال والاصطناع، وأن الكثيرين قد أكدوا على أهمية ان يحرص العمل الإبداعي الجدير والحقيقي، على عدم قطع الصلة المطلوبة والمرغوب فيها فيما بين مُرسلٍ/ مُبدعٍ ومتلقٍ/ مستقبل.

فيما يلي أحاول التوسّع في توضيح هذه الأمور والنقاط، التي يحتاج اليها العمل الإبداعي كي يكون جديرًا بهذه الصفة.

* الغموض والابهام: لا ريب في أن الجميع ميّزوا ويميّزون كما تفعل اللغة أيضًا، بين هذين فهناك فرق كبير بينهما، وفي حين أن الغموض، كما سلف أيضا، قد يكون مطلبًا لا بُدّ منه لاكتمال العملية الإبداعية، لا سيما ذلك الغموض الشفاف، فإن الابهام والانغلاق الكلّي فيما يرسله المرسل ويتلقاه المُتلقي، إنما هو مرفوض وممجوج، فمن العبث أن يتحوّل العمل الإبداعي إلى معميّات وطلاسم (مع الاعتذار لصاحب الطلاسم_ الشفافة- إيليا ابي ماضي)، زِد على هذا أن العمل الإبداعي في حالته الأخيرة هذه، وايغاله في متاهات الابهام ينغلق على ذاته ويُفقدها بالتالي الهدف من وجودها وكينونتها.

* الافتعال والاصطناع: سبق لي ان كتبت في هذا السياق مقالة، وضعتُ لها عنوانًا دالًا هو : الغموض والوضوح"، وقد رأيت في تلك المقالة أن الغموض والوضوح ما هما الا وجهان لعُملة واحدة، وقد أكدت في تلك المقالة ان المشكلة، مشكلة التلقي، الاستقبال أو التوصيل، لا تكمن في الحقيقة في الغموض والوضوح، اللذين تفرضهما العملية الإبداعية الحقيقية، وإنما هي تكمن في الافتعال والاصطناع، وقد ابديت الكثير من التحفظ على الغموض المتقصّد والوضوح المتقصّد أيضًا، ورأيت ان المشكلة تكمن في الشفافية وربّما في وضوح الرؤية واختمارها، وقد استشهدت في تأكيد فكرتي هذه بالعشرات مِن الاعمال الإبداعية، لا سيما في مجال الشعر، التي حفلت بالغموض الشفّاف، وتمكنتْ في الوقت ذاته، من الوصول الى متلقيها بكلّ ما اتصفت به من عُمق وسحر.

* اكتمال عملية التوصيل والحرص عليها: أجمع الكثيرون من الباحثين، النقاد والادباء، على أن المبدع الحقيقي الجدير بهذه الصفة، يُفترض أن يُحافظ على علاقته المنشودة بمُستقبِل عمله، فلا يقطع هذه العلاقة، وإنما يحرص عليها حرصه على أفضل ما لديه وأجمله، وإلا لماذا يُنتج المبدع، ولمن يُوجّه هذا الإنتاج، وما هو هدفُه مما يُنتجه؟.. واذكر في هذا السياق بكثير من المحبة والحنين الى زمن الابداع الأصيل، ما أكّد عليه الناقد المرحوم غالي شكري في كتابه الفاتن" شعرنا الحديث.. إلى أين؟.. الذي قيل إنه تأثر في وضعه له بكتاب عن الشعر الإنجليزي للناقد فرانز روزنتال. شكري أكد في كتابه هذا ما مفاده، انه ينبغي على المبدع، لا سيما في مجال القول الشعري، ألا ينسى أنه إنما يكتب، وان هناك مَن يقرأ ما يقدمه وينتجه، وان يحرص/ المبدع بالتالي، على عدم قطع هذه العلاقة.

يؤكد كل ما سلف، ان الاعمال الأدبية و.. الدينية أيضًا، اتصفت طوال تاريخها القولي، بنوع ما من الغموض الساحر الشفّاف.. الصادق، غير المُفتعل، والبعيد، الموغل في البُعد.. في متاهاته القولية.. التي قد تقضي على كلّ جمال وابداع، وهذا ما اردنا التحذير منه في هذه المقالة القصير المُنبّهة والمُحذّرة.

***

ناجي ظاهر

...................

*عنوان كتاب للناقد الفرنسي المعروف عالميا جون كوهن. هل نحتاج في استعارتنا له الى اعتذار؟..

الأمويون مسلمون وكذلك العباسيون، وما حصل بعد سقوط الدولة الأموية أن العباسيين قاموا بأبشع تطهير عرقي للأمويين فقتلوا الآلاف منهم، وأعطوا لبعضهم الأمان وخانوه، ولم يسلم منهم إلا الذين إستطاعوا الهروب إلى بلاد الأندلس ومنهم عبدالرحمن الداخل (113 - 172) هجرية.

وقاد مسيرة الإبادة الجماعية عم أبو العباس السفاح (104 - 136)هجرية عبدالله بن علي (102 -147) هجرية، الذي فتك بكل مَن له قريب نسب لبني أمية، والأمويون والعباسيون أولاد أعمام ويلتقون في عبد مناف، فهم أحفاده.

والغريب في الأمر أنهم نبشوا قبور خلفاء بني أمية، ونكلوا بجثثهم وصلبوها وأحرقوها ونثروا رمادها للريح.

ويُقال أن أبو مسلم الخراساني (100 - 137) هجرية قد قتل أكثر من ستين ألفا من المسلمين، وإنتهى مقتولا على يد أبي جعفر المنصور (95 -158)هجرية.

فهل أن الموضوع يتعلق بدين أم بسلطة وكرسي حكم؟

الذين يبرقعون الأحداث بالدين يهدفون للتضليل والخداع وتمرير أجنداتهم الخفية، الهادفة للإستحواذ على السلطة وإستلام مقاليد الحكم وتبرير آثامهم بالدين، بواسطة الفقهاء الذين يتعبدون في محاريب الكراسي، ويفتون وفقا لما يديم نعمة العطاءات عليهم.

وقليل منهم من نطق بالحق وتمسك بجوهر الدين ومبادئه، وأكثرهم المرائي والمتاجر بالدين، ويحسب ما يعرفه يمثل الدين، وهو الذي يعلم قطرة من بحر الدين، وقصص الفقهاء الذين نالهم بطش الكراسي معروفة.

والخلاصة أن التقاتل ليس لأسباب دينية بحتة وإنما دنيوية مغلفة بدين، وهذا ما جرت عليه أحداث البشرية القاسية منذ الأزل.

بدنياهم بلا دينٍ وعلمِ

أصابوا كل ساميةٍ بسقمِ

نفوس السوء في وطن افتراقٍ

ديانتها بكرسيٍّ وحُكمِ

مفاسدها إذا طفحت تواصتْ

بتبريرٍ وتسويغٍ لإثمِ

***

د. صادق السامرائي

 

المقدمة: من الصعب إيجاد مفهوم دقيق لمصطلح العلمانية نظرا لكونه يحمل في ثناياه اللبس والغموض الدائم فكل بيئة تنظر إليه من زاويتها وحسب ما يخدم ثقافتها لذلك كان مفهومه شاسع ومتسع وهو ما لحظناه عند المفكرين العرب والغربيين فكل منهم ينظر إليه من منظوره الخاص وهو ما ساهم بشكل غير مباشر في تعدد مفاهيم مصطلح العلمانية وسنقوم في هذا المقال بالنظر إليه من زاوية عربية محضة.

هل تقبل الشعوب العربية العلمانية كأساس لنظام الحكم؟

إن العلمانية باعتبارها تقوم أساسا على مبدأ الفصل بين الدين والدولة بمعنى أن الشؤون الدينية والأمور السياسية والإدارية لا تتداخل مع بعضها البعض أي أن الدولة والحكومة عندما تصدر قرارات وتصاريح تجعلها بعيدة كل البعد عن المجال الديني وكذلك لا تنظر للأمور الدينية بعين السياسة ولكن هذا لا يعني أن هذه الدول لا تشرع لممارسة الدين وإتباعه وإنما تحترمه كعقيدة وجب على الإنسان أن يتبعها في حياته الخاصة لأن العامة تفرضها الدولة عن المواطنين وذلك يعود إلى نظام حكمها فالدولة تفرض نمط عيش معين لابد للمواطنين من إتباعه لتحقيق البعد التواصلي والاجتماعي بين جميع أفراد المجتمع. أحيانا نجد بعض الدول التي تشرع للدين كأساس لنظام الحكم وتعمل على المزج بين الأمور السياسية والشؤون الدينية وتشرع للقوانين من رؤية سياسية خالصة ولا تسن أي قرار إلا بعد العودة إلى الكتب المقدسة والفقهاء والبحث في أرائهم حول مسألة ما وهذا ما يسمى بالمزج بين الدين والسياسة في بناء الدولة وهذه الدول تعتبر أن الدين والدولة مكملان لبعضها البعض ولكن ترى في بعض الأحيان الأخرى دول عربية تفصل السياسة عن الدين أي بمعنى أنها تطبق مبدأ العلمانية والهدف من ذلك ضمان حرية المعتقد الديني وتوفير بيئة حيادية تمكن الجميع من ممارسة معتقداتهم الدينية بكل حرية ودون أي تأثيرات خارجية ورغم أن هذه الدول تطبق مبدأ العلمانية إلا أن في جانب كبير منها ترى أن هذا المفهوم لا يتناسب مع الدول الغربية نظرا لكونه قد نشأ في بيئة عربية إسلامية خالصة وهو ما يجعل هذه المجتمعات ترتبط بشكل وثيق بالدين الإسلامي وتعتبر العلمانية في بعض الدول العربية مثل تركيا محاولة للحد من تأثير الدين عن السياسة والاقتصاد وكأن ارتباط هذين البعدين يساهم في انحدار اقتصاد الدول وكأنه يكبل إبداعاتها وتطورها بينما نرى العلمانية في بعض الدول العربية الأخرى مثل مصر وتونس كانت تمثل عندهما نوع من الحضور الجزئي لها بمعنى أن هذه الحكومات سعت إلى إقامة نوع من الفصل بين المؤسسات الدينية والسياسية مع الحفاظ على احترام الدين كمكون أساسي للهوية الإنسانية والثقافية. فنلاحظ  أن هناك جدل كبير بين هذه الدول حول مفهوم العلمانية فهناك من ينظر إليه باعتباره يمثل خطرا عن حقوق الإنسان ومكانته في المجتمع بمعنى أنها لا تجعل من الذات الإنسانية كائنا مفكرا ومبدعا ومجتهدا بينما هناك من يراها تساهم في خلق الذات الخانعة الخاضعة المسلمة وذلك بسبب تأثير الدين عن السياسة بينما ترى بعض الدول الأخرى أن العلمانية تساهم بشكل مباشر في ضمان الحريات الفردية والتقدم الاجتماعي ولا ينظروا إليها باعتبارها تهدد قيمتهم الدينية والثقافية بل من خلالها بإمكان الفرد مزيد اكتساب حريات ثقافية أخرى تجعله قادر على معرفة مجالات حياتية أخرى بعيدة عن السياسة هو ما يساهم في خلق  ذات متمسكة بثقافتها الدينية ومساهمة في بناء مجتمعها وبذلك يمكن القول بأن مفهوم العلمانية قد تشعب من دولة إلى أخرى وشهد العديد من الاختلافات لذلك يصعب ضبط مفهوم محدد له نظرا لكون أن كل من أراد أن يعرفه نظر إليه من تفكيره فحسب فهو لا يضبط له مفهوم يتماشى معه في كل أنواع الثقافات وبذلك فان العلمانية تشهد أفكارا متداخلة في مضمونها ينبغي تنظيمها وتوضيحها خاصة فيما يتعلق بعلاقتها بحقوق الأفراد فهناك من ينظر إليها باعتبار ربط الدين بالدولة يساهم في خلق ذوات مكبلة وعاجزة على الإبداع وهناك بعض آخر يرى أن العلمانية تساهم بشكل واضح في تحرير الإنسان من الأوهام الزائفة التي تقر بان الدين موطن للتسليم والخمول بينما نرى أنه في امتزاجه بالبعد السياسي مما يساهم في خلق ذوات مبدعة وفاعلة ومساهمة في بناء المجتمعات.

الخاتمة

كان ولازال مصطلح العلمانية يحمل في ثناياه جملة من الغموض واللبس وذلك من خلال اختلاف البيئة والمجتمعات فكل منهما يشكل صورة معينة على مفهوم العلمانية وبالاضافة الى ذلك كان هذا المصطلح لا يختلف فقط حسب اختلاف البيئة وانما كذلك يختلف من رؤية انسانية معينة الى رؤية أخرى وبذلك يكون كل شخص يعرف العلمانية حسب زاوية نظره وحسب ما يخدم مصالحه وهذا ما اختلفت فيه الدول العربية بين من يراه مصدرا للتقدم والرقي بمعنى أن الدين هو سبب تخلف بعض الشعوب العربية وبين من يعتبره لا دخل له في مسألة التطور وانما يمكن للشعوب أن تتشبث بمقدساتها وبمبادئها الدينية مع تحقيق التقدم المرغوب فيه من قبل جميع الشعوب العربية.

***

ساسية لسود من تونس

تشهد الحياة العراقية نفورا ملحوظا من السياسة والسياسيين حتى ان المواطن العراقي صار يتحدث عن السياسة بسلبية وسخرية مريرتين وذلك بسبب الخيبة الكبيرة التي جناها من الأداء الفاشل للطبقة السياسية وانعكاس ذلك على حياته الاجتماعية والأمنية والاقتصادية التي انهكها الفساد والمحاصصة الطائفية والاثنية على أيدي السياسيين الطارئين الذين جلبوا العار على السياسة وجعلوا الغالبية من الشعب تنفر منها وتنعتها بأبشع الأوصاف في حين السياسة هي سلاح ذو حدين فهي ممكن ان تخلّدك وتجعل منك بطلا وهذا ما حصل مع شخصيات عديدة في التاريخ كان لهم الفضل في بناء بلدانهم ورسم حاضرها ومستقبلها ومن بينهم المهاتما غاندي الذي حرر الهند من قبضة الاستعمار الانكليزي والمهاتير محمد الذي انقذ ماليزيا من براثن الفقر ونقلها الى دولة صناعية عظمى وصانع نهضة سنغافورة لي كوان يو الذي نجح في بناء دولة من العدم وحولها الى واحدة من أنجح الدول الأسيوية والثائر تشي جيفارا الذي ضرب مثلا في الزهد عندما ترك وراءه امتيازات السلطة بعد تحرير كوبا عام 1959 وذهب لإستكمال نضاله في تحرير باقي مناطق امريكا اللاتينية، وكذلك الشخصية التاريخية فلاديمير لينين مؤسس الدولة السوفياتية التي لعبت دورًا مهمًا في تاريخ القرن العشرين، او ان السياسة قد تلحق بك العار وذلك عندما تدعها تفسد انسانيتك وتنحدر بك الى مهاوى الفساد والجريمة ومعادة الشعب .

للأسف عدد كبير من السياسيين الذين يتسيدون المشهد في بلدان عدة لم يقرأوا التاريخ لكي يستفيدوا من اخطاء غيرهم، فهؤلاء مراهقو سياسة قذفت بهم الصدفة والعوامل الخارجية الى سدة السلطة فسقطوا في مستنقع غرورها وأخذهم الزهو والخيلاء للتعامل مع المواطنين باستعلاء متجاوزين على حرياتهم الشخصية ومنتهكين خصوصياتهم بممارسات لا اخلاقية ولا انسانية وكذلك في تجاوزهم على القوانين بإصدارهم قرارات متهورة غير مدركين ان هذه السياسة تعجل بزوالهم وازاحتهم عن المشهد السياسي، ولدينا في العراق تجارب فشلت نتيجة سلوكها السياسي غير المنضبط وتصرفاتها الرعناء ومنها تجربة الحرس القومي عام 1963 حيث مرّت اكثر من خمسة عقود على هذه التجربة المريرة ولكن آثار وتفاصيل جرائمها الى اليوم مازالت ماثلة في ذاكرة العراقيين خصوصا الوطنيين منهم الذين اكتووا بنارها وشهدوا بشاعتها، زد على ذلك ان سلطة انقلاب تشرين العسكرية ــ سلطة عارف ــ التي أطاحت بحكم الحرس القومي بعد عشرة شهور من القتل والتنكيل والاعتقالات ولأهداف سياسية قامت بتوثيق تلك الجرائم في كتاب (المنحرفون) الصادر عام 1964 الذي وثّق بالصور والاعترافات والشهادات جرائم وانتهاكات يندى لها جبين الشرفاء ما يزال التاريخ يذكرها بشعور من الخجل والعار، وهكذا كل امة تأتي تلعن وتفضح سياسة التي قبلها فقد شهدنا بعد نهاية كل نظام سياسي ظهور شهادات عن انتهاكات قام بها النظام بحق الشعب، فهل فعلا بريق السلطة يعمي بصيرة الحاكمين الى درجة انهم يستبعدون الوقوع تحت سلطة من ظلموهم ؟ ولماذا يستهين الحكام بعقول الجماهير ويديرون ظهورهم لتجارب التاريخ وقلمه الذي يسجل كل شيء ؟ .

***

ثامر الحاج امين

 

في منتصف السبعينيات نشر اقتصادي جيكوسلوفاكي دراسة مهمة عنوانها: المشاكل الاساسية للتخطيط الاشتراكي. Fundamental problems of socialist  planningوتضمنت تلك الدراسة عشرة نقاط اعتبرها الكاتب هي المسؤولة عن عدم دقة وانتظام عمليات التخطيط في البلدان الاشتراكية في ذلك الوقت. النقطة التي اريد ان استخدمها لغرض هذا المنشور هي التي اسماها الكاتب:

غياب المعلومات، او Lack of information

والمقصود بهذه النقطة هو ان القيادات العليا لم تكن تحصل على المعلومات الصحيحة والكاملة بخصوص ما يجري على الارض فعلاً. يعود ذلك النقص في المعلومات الى البيروقراطية وتعدد المستويات الادارية اضافة الى وجود مصالح لكبار الموظفين في إخفاء الحقائق عن المسؤول لكيلا يفقدوا وظائفهم وامتيازاتهم او يتعرضون للعقاب. وستكون النتيجة هي وصول معلومات تتحدث عن نجاح الخطط وازدهار الحياة وعدم وجود مشاكل تستحق الذكر. لذلك فان المسؤول سوف لن يجد سبباً لتعديل اساليب وآليات وادوات التخطيط..

يضرب الكاتب مثلاً عندما فرض ستالين سياسة المقصات الزراعية التي تقوم على استقطاع معظم الفائض الذي يحققه المزارعون لغرض استخدامه في بناء القطاع الصناعي. الأمر الذي دمر حياة الفلاحين وسبب لهم الجوع والفقر. وفي احد الايام تذكر ستالين الموضوع وأمر باعداد فلم يصور حياة الفلاحين بعد فرض تلك السياسة ولكي يرى آثارها على حياتهم اضافة الى تقارير تفصيلية عن الموضوع..

لكن المسؤولين كانوا يكذبون عليه وينقلون له اخباراً كاذبة عن احوال الفلاحين، فكيف يخبرونه الآن ان الفلاحين يعيشون حياة تعيسة وهم جياع وفقراء؟.. لذلك ذهبوا الى استوديوهات السينما وقاموا بانتاج افلام تظهر فيها موائد الفلاحين وقد اثقلتها قناني الخمر والاوز المشوي.. واخذوه الى ستالين وقالوا له: هذه احوال الفلاحين الآن ولقد صورنا الافلام بشكل عفوي من حياتهم اليومية. وعندما شاهدها ستالين غضب وقال: لازال لدى هؤلاء الكثير من الفائض لذلك يجب اقتطاع المزيد من الفائض منهم. النتيجة كانت مجاعة واسعة مات بسببها ملايين الفلاحين لاسيما الاوكرانيين ...

هذا المثال ينطبق على بعض السياسيين في بعض الدول والذين عاشوا في عزلة عن المجتمع لعقود واعتمدوا على ما ينقله لهم بعض المستشارين والمقربين المنافقين الذين لا ينقلون لهم ما يزعجهم وانما يتلاعبون بالحقائق لإدخال البهجة الى نفس المسؤول ولي نعمتهم.. لا يظهرون في مناسبات عامة او احتفالات أو يسيرون في الشوارع للتعرف على واقع الحياة واحتياجات الناس.. انقطعوا عن مجتمعهم وعاشوا في عزلة تامة في اجواء مريحة ليس فيها ما يزعج وافترضوا او تخيلوا ان المجتمع كله يتمتع مثلهم بهذه الحياة.

***

د. صلاح حزام

القرن الحادي والعشرون لا يختلف عن القرون السابقة، التي تحققت في ربعها الأول فواجع عظيمة ومرعبة تحددت بموجبها ما تبقى من طبيعة الحياة فيه.

فالربع الأول من أي قرن من أخطر المراحل وأحلك الفترات، وحصل ما يزعزع الوجود الأرضي ويرعب البشرية، فأزفت الكورونا بصولتها التي قضت على (6،283،922) من البشر حتى يوم (19\5\2022).

ويبدو أن الاشهر الباقيات من الربع الأول من القرن الحادي والعشرين ستكون من أخطر الفترات التي ستمر علينا، فالعمليات العسكرية في أوكرانيا متواصلة، وتمحورت دول الناتو للمساعدة بإندفاعية غير مسبوقة في التأريخ.

وما يحصل في المنطقة من تداعيات، ربما يضع الحجر الأساس لمتوالية هندسية تدميرية هائلة المعطيات.

ومهما يُقال من تحليلات وتفسيرات، فأن القراءة السلوكية للقرون، تؤكد بما لا يقبل الشك أن الحرب العالمية حتمية، فالأوضاع تتأجج والمواجهات تتصاعد والمحاور تتشكل والسلاح ينازل، ومعامل إنتاج الأسلحة في ذروتها، والعقول تجتهد  لتوفير ما لا يخطر على بال من أدوات الشرور والدمار الرهيب، والكراسي تزدحم بالمندفعين نحو الحروب بذريعة المصالح الوطنية، فإلى أين تسير البشرية؟

الحرب العالمية الأولى قضت على (21 - 25) مليون عسكري، و (50 -55) مليون مدني، والحرب العالمية الثانية قضت على (70 - 85) مليون من البشر، وهذه الحرب علينا أن نتحدث عن أضعاف هذه الأعداد.

في الحرب العالمية الثانية كان نفوس الأرض (2 - 3) بليون، والضحايا كانت بنسبة (3%)، واليوم نفوس الأرض أضعاف ذلك، مما يعني أن الضحايا ستكون أكثر من نصف بليون إنسان في أقل تقدير.

فالحرب القادمة فيها أسلحة تختلف عن الحروب السابقة، لأن القوى المتصارعة ذات قدرات تدميرية هائلة ومهلكة.

قد يرى البعض أن ما تقدم نوع من التشاؤم، وهو ليس رأيا ولا تحليلا ولا أي إقتراب آخر، سوى قراءة لما يحصل في القرون وبتكرارية متواصلة وما شذ قرن عن هذا السلوك.

ويبدو أن البشرية تمر بمراحل نفسية تتأجج فيها طاقات الدمار الذاتي والموضوعي، وتندفع بهوجائية عارمة، للإنقضاض على وجودها بأكمله، لكي تتولد حالات غير مسبوقة تسعى إلى محق ذاتها بعد عقود تتراكم فيها أسباب الزعزعة والإنمحاق الأكيد.

وإن تساءلنا عن الحلم والحكمة والعقل، فأنها تحت أقدام القرون، فإرادة الأرض أقوى من إرادات ما عليها من المخلوقات المتوهمة بالإقتدار!!

***

د. صادق السامرائي

 

دائماً عندما نسترجع قصة ابنَي آدم، هابيل وقابيل، نحتفي بالابن هابيل (المجني عليه) ونعتبره رمزاً للطيبة والنقاء والرحمة، بينما يمثّل قابيل (الجاني) بالنسبة لنا القسوة والظلم والغدر. وكثيراً ما نستحضر كلمات هابيل: "لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين" بوصفها عبارات خالدة تدلّ على التسامح وحب السلام والأخوّة الحقّة.

لكننا نتغافل عن الآية التالية حيث يكمل هابيل كلامه فيقول لأخيه وبلغة هجومية مُستفِزة: "إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين"!

ألم يكن الأجدر بهابيل في تلك اللحظة أن يستعطف أخاه الحاسد والغاضب والناقم (قابيل) ويذكّره بالرابطة الإنسانية والأسرية والأخوية بينهما فيقول له:

(إني "أخاف عليك" أن تبوء بإثمي وإثمك) بدلاً من (إني "أريد" أن تبوء بإثمك وإثمي)؟!

هل من المناسب أن يقول إنسان لأخيه الذي يريد قتله: إني أريد لك أن يتعاظم ذنبك وأن تكون من أصحاب الجحيم فأنت من الأشرار الظالمين؟!

هل يُفترض بهذه اللحظة أن تكون لحظة استفزاز وإساءة وتهييج للغضب أم لحظة استعطاف واسترحام واستدرار للرأفة والحنان الأخوي؟!

ألا يعتبر هابيل (الضحية) مسؤولاً بشكل ما عن الجريمة من خلال كلماته العدوانية والاستفزازية التي استثارت غضب أخيه قابيل (القاتل)؟!

ألا يمكن أن تدخل كلمات هابيل تحت مفهوم "الاستفزاز الخطير"، والذي يُعرّف في القانون الجنائي بأنه: "سلوك مقصود يهدف إلى إثارة غضب شخص ما أو إزعاجه بشكل كبير، وغالباً ما يؤدي إلى رد فعل عنيف أو غير متوقع. وهو يعتبر ظرفاً مخففاً في القانون الجنائي في بعض الحالات"؟!

فبعد أن صدرت تلك الكلمات من هابيل مباشرةً، ارتكب قابيل جريمته وقتل هابيل: "فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين".

ثم ندم على فعلته: "قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".

لاحظ أن ندمه وورود كلمة "أخي" على لسانه بعد ارتكاب الجريمة يدلّان على أنه لم يكن شريراً خالصاً، ولم يكن حالة ميؤوساً منها، بل كانت هنالك احتمالية وقابلية لردّه عن جريمته وإصلاحه لو أن هابيل تعامل معه برحمة أخوية وذكاء إنساني ومنطق أخلاقي.

***

همام طه

فضلا عن تخلف أساليب العمل في دوائرنا الرسمية والبيروقراطية الكريهة، التي يمارسها أغلب الموظفين ضد المواطنين المراجعين، أنا لا أطيق مراجعة أي منها لأي سبب، وأفضِّل انجاز معاملاتي الرسمية بأي طريقة ممكنة، باستثناء المراجعة الشخصية، فأنا مصاب حقا برهاب مراجعة الدوائر الرسمية، حتى أني إذا ما أجبرتني الظروف القاهرة على مراجعة إحداها مهما كانت المعاملة بسيطة، أتسلح عادة فضلا عن الوثائق الأربع المبشرات بالجنة بعلبة البندول 1000 ملغم وقنينة الماء، والكثير من اليأس.

وهذا ليس جديدا عليَّ، وإنما هي حالة رافقتني منذ سنين طوال، وعجزت عن التخلص منها، لأني لم أجد فرقا واضحا في تعاملهم بين ما كان عليه في (الأمس الشمولي)، وما هو عليه في (اليوم الديمقراطي)، فالموظف هو الموظف ذو الوجه المتجهم والسلطة العليا الآمرة الناهية، والمراجع هو المستضعف والمتهم والمستهدف.

وقد أجبرتني صروف الليالي يوم أمس الخميس 31/7/2025 على مراجعة إحداها وهي (مديرية الأحوال المدنية والجوازات والإقامة في واسط/ قسم التسجيل المركزي) للحصول على صورة قيد مترجمة لأغراض السفر.

منذ الصباح الباركر، وضعت عشري على رأسي، وولجت باب الدائرة؛ وأنا أشعر بضيق يكاد يخنقني ويحبس أنفاسي، وبعد اجتياز الاستعلامات، واجهتني لافتة مكتوب فيها: (مديرية الأحوال المدنية والجوازات والإقامة في محافظة واسط ترحب بالضيوف الكرام، حللتم أهلا، ونزلتم سهلا) ظننت بداية ـ وبعض الظن إثم ـ أنهم وضعوها في انتظار زيارات المسؤولين الرسميين تزلفا لهم مثلما هو معمول به منذ عشرات السنين، فشعرت وكأن صورة دوائر الأمس الشمولي برزت أمام تستفزني.

وقبل الدخول إلى ما أسميه عادة (وكر الرعب) خرج شاب أنيق، جميل المظهر، حسن الوجه ما إن رآني حتى بادر ليسألني: ـ أبغدادي أنت؟

أجبته: نعم أنا بغدادي، ولكني مقيم في الكوت منذ عشرين عاما.

ـ وما سبب الزيارة؟

الحصول على صورة قيد.

ـ ممكن أن تنتظرني قليلا، فأنا خرجت لغسل يدي وسأعود لك في الحال.

أنتظرك ولم لا.!

لحظات وعاد إليَّ مبتسما، وقال: أعَّرفك بنفسي؛ أنا عباس سلام حسين الزركوشي، تفضل لأساعدك في انجاز معاملتك. حينها شعرت بنوع من الاضطراب بفعل تشوش الرؤية بين ما هو مرسوم في يقيني عن الدوائر وما أراه امامي، فكلمة (تفضل لأساعدك) ليست مألوفة في دوائر الدولة. دخلنا الدائرة فوجدت الهدوء مسيطرا على أجوائها الباردة الندية فارتحت قليلا.

المهم أني خلال تنقلي بين الموظفين والأقسام، كنت أرى ابتسامة عباس سلام التي استقبلني بها مرسومة على وجوههم جميعا: محمد ومحمد واحمد وحسين وعباس، سواء كانوا موظفين مدنيين أم عسكريين. كانوا يستقبلوني بابتسامة صادقة وينجزون طلبي بأقصى سرعة ليحيلوني إلى مرحلة أخرى.

في هذه الجولة الطويلة التي تسبب بها خلل في صفحة نفوسي الشخصية وليس بتقصير منهم، كنت أرى مدير القسم العميد المهندس محمد محمد رضا حسين؛ والذي ترك باب غرفته مفتوحا على مصراعيه، كان يقوم بجولات مستمرة في القسم وبين الموظفين. وأقسم أنه أخذ معاملتي من يدي عدة مرات، وأجرى عليها المطلوب بشخصه لأن الموظف المختص كان مشغولا بمعاملة أخرى.

والأكثر من ذلك أنه كلما رآني نادى على موظفيه لينجزوا معاملتي بسرعة ويسألهم عن سبب التأخير غير المبرر. ثم لما عرف سبب التأخير وأنه يعود لي شخصيا وليس للموظفين تدخل بنفسه وجلس معهم على نفس الطاولة لحل الإشكال. وحينما أنجزت المعاملة بعثوني إلى قسم الترجمة عند شاب جميل وخلوق هو الرائد أحمد الذي استقبلني هو الآخر بابتسامة عريضة، وأخذ المعاملة من يدي، وقام بتدقيقها، فوجدها تحتاج إلى معلومات إضافية، فأعادني إلى قسم التسجيل الذي استمر بالعمل بجد وجهد وصبر جميل وأخلاق لا يعلى عليها إلى انتهاء وقت الدوام الرسمي، وحينما تهيأتُ للخروج فوجئت بأن رائد أحمد أرسل من يخبرني أنه كان المفروض به أن يغادر الدائرة لظرف طارئ، ولكنه لا زال ينتظرني لينجز معاملتي لكي لا يتسبب في تأخيري.!

إن هذه التجربة أشعرتني بسعادة لا توصف أحببت مشاركتها معكم، فقد نجحتْ في تخليصي من رهاب مراجعة الدوائر الرسمية، وبعثت في نفسي أمل أن يعيش أولادي واحفادي رفاهية مراجعة المؤسسات الرسمية بعيدا عن العناء الذي أصابنا من قبل، ومنحتني يقينا أن هناك بوادر خير بأن العراق بمثل هؤلاء الرجال وإخلاصهم وتفانيهم في العمل سيتقدم ويتقدم، فالشعوب تتقدم بالمخلصين من رجالها وابطالها، لا بالسياسيين الفاسدين، ولا بالإرهابيين الدمويين.

ولا أخفيكم أني بعد هذه التجربة اللذيذة، أصبحت من عشاق مراجعة الدوائر، بفضل رجال هذه الدائرة الرائعة (مديرا وموظفين).

وفي العودة إلى موضوع اللافتة فقد عرفت من خلال الحديث معهم أنهم وضعوها في مدخل القسم للترحيب بـ(المراجعين) من المواطنين، لا تزلفا لزيارة (المسؤولين)، وهذه واحدة من أعظم خطوات التقدم في العلاقة بين الموظف والمواطن في هذا الزمن المأزوم الصعب.

تحية إكبار وإجلال إلى جميع المنتسبين لهذه الدائرة الرائعة ولاسيما مديرها العميد المهندس محمد محمد ضياء والأستاذ عباس سلام حسين، والرائد أحمد، وجميع منتسبيها بلا استثناء، ليس لأنهم أنجزوا معاملتي البسيطة فحسب، وإنما لأنهم زرعوا الأمل في نفوسنا أن الشعار الذي رفعه محافظ واسط المستقيل الدكتور محمد جميل المياحي (القادم أفضل) قد وضع موضع التطبيق فعلا، وأن الأفضل ينتظر العراقيين إن شاء الله.

***

الدكتور صالح الطائي

الإنسان ذلك الكائن الذي يحتاج دوماً إلى ارتداء رداء الوقار؛ تراه مشغولًا يتصفّح أوراق وجوده في هذا العالم، لا ليُثبت حقيقة ذاته، بل لينهض بها ويثور لأجلها عندما يشعر أنّه بحاجة إلى نهوض. لقد صاغ الفلاسفة أفكارهم ونحتوها بناءً على هذا المعنى؛ فالوجود الإنساني للذات معادلة متغيّرة لا يمكن لها أن تستقر، وهذا ما يدعوها إلى أن ترتبط دائمًا بوجودها الكوني أولأن تثور. ولهذا تجد أنّ كبار الباحثين والمفكّرين في هذا العالم لم يشعروا يومًا بلذّة المائدة أو لذّة الحديث بقدر شعورهم بإرادة الفكرة، وبأهمية الذات الساعية لتحقيق الخلود. وتلك حقيقة أزلية لا يُدركها إلا أصحاب العقول الكبيرة؛ فهم لا يضيّعون أنفسهم في متاهات المكان، ولا يكترثون لأبجديات الزمان وحركته السريعة. بل تراهم مشغولين بتحدي تجارب  الإحباط  وتلك موضوعات كبيرة؛ والمتأمّل لما كتبه سبينوزا وكيركجارد وكامو يفهم هذا المعنى، لأنّ الحياة لا تقف عند عتبة الوهن والانكسار، بل تحتاج منّا جميعًا المواجهة وتحمل المشاق أملًا بالوصول إلى المبتغى.

***

عقيل العبود

شمس الدين موسى، النقاء الذي لم تطمسه أدران الدنيا، من الشخصيات التي لم يتشظى أثرها داخل نفسي، رغم طول العهد، وتباعد السنين، بل هو من أكثر الشخصيات تنازعاً على ذاكرتي، فالحقيقة التي لا يخالطني فيها شك، أو تداخلني فيها ريبة، أن شخصية "شميس" التي تحمل في أحشائها أصداء الماضي، حفية بأن ينكب عليها المرء، دراسة وتأطيرا، رغم ما قد يعتري هذه الدراسة من مزالق، والمهم قبل كل شيء، هو أن يشعر القارئ، قوة هذه الشخصية، التي كانت تنظر إلينا قبل أن تصاب بالعمى، في كثير من الرثاء، وفي كثير من الازدراء أيضا، وجنوحنا في هذا المقام، إلى الانصراف عن حياكة سردية متسارعة، متلاحقة، تضج تفاصيلها بالأحداث، دافعه هو شخصية شميس، التي جالت معانيها وراجت، في منطقتنا التي ترفض إلى الآن أن تفنى، أو يسجلها التاريخ في سطر مضى.

 وشمس الدين، قبل أن يدركه الفناء، لم ننكر عليها بطر حق، أو انتكاس فطرة، أو ارتكاس تصور، أوكفران نعمة، أو تبرم من ابتلاء، لقد استأثرت به رحمة ربانية، جعلته قبل أن يستحيل عدما، لا يتردى في أغشية الضلال، ولا يتهاوى في أعنة الغفلة، ولا ينجرف في شعاب الجهالة، فشميس الذي اتحدت شخصيته الهادئة، بابتسامته العفوية، لدرجة صعب معها التفريق بينهما، كان من أكثر  الناس في" حينا" ضحكاً، وابتساما، وعبثا، وسخرية، والضحك في عالم شميس، لم يكن أجزاء متناثرة، لا يربطها رابط، بل كان في الحق، مداخل متعددة تتكامل، ويدعم بعضها بعضا، فالضحك عنده هو الوسيلة التي طور آلياتها، للتغلب على صعاب الدنيا، فهو حلمه إذا طاش، وهو رضاه إذا سخط، كان الضحك عند شميس كتاباً حافلاً ممعتاً، تظن وأنت تقرأه، أنك تهوى الدنيا، وتقبل عليها، وتؤثر منها القناعة والرضا، والسعادة، والحبور، وعبقرية الضحك التي طورها شميس، وسار بها في طريق التدرج الطبيعي، حتى بلغت عنده مرحلة النضج الكامل، هي الأداة التي استطاع أن يخضع فيها الكثير من العلل التي يعاني منها، ويتحكم في سيرها،  هي الصيغة التي جعلته ينفق عمره القصير في سرور ولذه، ولا تساورنا خلجة من شك، أن ضحك شميس وتبسمه، كان يخفي خلفه مدناً من الحرقة واللوعة، نعرف نحن أسبابها وعلاتها، لقد كانت معاناة شميس" الذاهل الضرير" واضحة بينة، وكنا نراها وهو يستقيم حينا، ويتخبط أحياناً، لحلوكة المكان ووعورة المسير، ومكابدة شميس التي كنا نطيل النظر فيها، ونتابعها في غير ملل أو كلال، ونحن صبية صغار، استطاع شميس أن يحاربها، ويناهضها، ويتغلب عليها، في سهولة ويسر، فالشيء الذي استساغته نفس شميس العذبة الصافية، وأحبته، ونهضت به، هو التغاضي إلى مرحلة المغالاة التامة، برفض العجز الذي لم يتغلغل في أعماقه، أو يستبطن أغواره، لم يرسف شميس تحت أغلال الإعاقة الثقيلة، أو يرزح تحت أنيارها الضيقة، لقد تسامى شميس فوق كل هذا، وكانت وسيلته الناجعة الموصلة حقاً إلى خلاصه، هي ابتسامته الزاهية التي تتراقص دوماً على محياه، ابتسامته الوادعة التي لم تشع في ضعف، أو تتداعى في فتور، كانت تستأنف ارتسامتها بصور حادة ومتلونة، لتوضح لنا في جلاء، أن مهجته الراضية، التي لا تهزها قوارع الدنيا، ولا مروعاتها،  ملأ عليها اليقين شعاب فكرها، حتى خُيْلَ لها أن حاسة البصر التي يتهافت الناس على صونها، ليس لها علاقة بها أو صلة.

لقد كان عجز شميس محتماً لا مفر منه، ولكن الأصل الذي رسخ فيه، والفرع الذي تشبث به، هو عشق الحياة، ومحبة عائلته ومحيطه، لقد كانت حياة شميس التي قاست ضروباً من العناء، لوحة جميلة تحمل  بين ثنياها الكثير من الروعة، لوحة مشرقة ساطعة، ترمز خواصها التي تخاطب جميع الناس، بأن الذهول المرتبط بالمحمل العقلي، اختلاق بِيْنُ في بعض الحالات،  وأن بشاشة الوجه الصوفي، المستخف بكدر الحياة، لن ينوح على نفسه، عندما تتصل الأرواح بأجسادها، سلام على تلك الأرواح التي نسجت من دقائق التقوى، وروعة الخشوع، ونضار التصوف. سلاما على روح شميس التي نزهها الله عن الغضب، والسخط، والمعصية، والانحلال.

***

د. الطيب النقر

الجمعة 1/8/2025

الغرض التوثيقي للشعر يتواصل ولن ينتهي، أما الأغراض الأخرى بأنواعها، فأن شعراء الأمة إستنفدوها، ولا يمكن لللاحق أن يأتي بأحسن مما أبدعوه، ولهذا فالغرض التوثيقي هو الأبقى والأصلح للأمة، ولكي تدرس التأريخ عليك أن تطلع على شعراء المرحلة التي تتناولها، فعندما تدرس عصر المماليك عليك بالبوصيري، وعندما تدرس العراق في القرن العشرين، عليك بالزهاوي والرصافي والجواهري، وعندما تدرس تأريخ مصر منذ نهايات القرن التاسع عشر عليك بأحمد شوقي وحافظ إبراخيم، ولكي تقرأ تأريخ الدولة العباسية في سامراء لابد من قراءة أبي تمام والبحتري وإبن المعتز وعلي بن الجهم، فالشعراء أصدق كتّاب التأريخ وإن كذبوا!!

فمَن يستطيع أن يوثق بصدق وشفافية ودقة في الوصف والتقييم؟

المؤرخون لا يكتبون في وقت الحدث بل بعد حصوله بزمن طويل، ومعظم ما وردنا من مدونات مكتوب بعد مرور أكثر من قرن على الحدث، ومعظمه منقول وفقا لمنهاج (قال) و(ذكر عن)، وتتداخل تصوراتهم وآراؤهم ومواقفهم لترسم الصورة المكتوبة.

والشعراء يتأثرون بالأحداث ويمزجونها بعواطفهم ومشاعرهم وما تحثه من أفكار في مخيلاتهم، ويميلون إلى الوصف الدقيق والتعبير الأصدق عن الحدث بأدواتهم، التي ربما تحتاج إلى شيئ من التمحيص والتحليل والتشريح.

فعند قراءة ديوان البحتري يمكن رسم صورة أصدق عن مسيرة الخلفاء في سامراء، وكذلك دراسة ديوان أبي تمام فهو مختصر مكثف لمسيرة المعتصم فيها.

وعليه فأن الدراسات التأريخية المقطوعة عن عطاء الشعراء في أوانها منقوصة وتثير أسئلة وشكوك.

يخبّرنا عن الأحداث حرفُ

تسطره يراع فيها خوفُ

تدوّنه النُحات بعد وقتٍ

وترسمه الموارد والظروف

فما ذكر الرواة بها حقيقا

لأن سراتها برعت تدوف

***

د. صادق السامرائي

 

إذا أردنا أن ننشأ جيل جديد من المثقفين والمفكرين يبدعون في الرأي والفكر وتقديم ما لديهم من أفكار وحلول وتغيرات في سلوكيات الفرد ليكون مؤثرا في بناء المجتمع وتطوره في خضم الصراعات التي تأثر تياراتها في عقول الأفراد سلبا وإيجابا علينا أن نشجع على استحداث جيل قابل على تقبل الأفكار الجديدة وفهمها بالطرق والوسائل المنطقية التي تستوعب تفكيره وبأسلوب أقناعي منهجي بعيدا عن الإملاءات الخارجية والعادات والمعتقدات السابقة الخارجية المرافقة للأفكار السطحية التي لا تواكب العصر وطرح الأسلوب الجديد في الحوارات الهادئة التي تحاول استبعاد القديم من التراث الاجتماعي والعقائدي والديني وننطلق إلى الحداثة في الرأي ونمط التفكير المنطقي المعاصر الذي يحاكي عقول الأجيال الجديدة التي تعيش التغيرات الفكرية والعلمية والتكنولوجية لذا لزاما علينا أن نقف بثبات فكري حر ونثقف المواطن ونستفز عقله على البحث والتحري والتفكير بحرية واستعمال لغة الحوار البناء والهادف وتقبل الرأي الآخر بغض النظر عن المعتقدات المتشددة والآراء البعيدة عن الواقع وعدم التشدد بالأخذ أو الرفض .فأن الحرية في التفاعل والتعامل مع الآخرين في كسب المعرفة بطرق سلمية حديثة ثقافية هو السبيل إلى المعرفة الجادة التي تخدم المجتمعات وتساهم في تطويرها  من خلال إيجاد المساحة الحرة والواسعة في التفكير والبحث والنقاش والحوار بعيدا عن المعتقدات والآراء الدينية التي تجيرها بعض العقول المهيمنة عل القرار السياسي والديني التي تجعل من التيار الفكري الحر طرفا حائرا فاقد الثبات في التغير والتأثير في المجتمع ومحاصرا من قبل المؤسسات الفكرية النمطية المسيطرة على تصرفات المجتمع والمساس بها ومعارضتها يعتبرها جريمة بحق قدسيتها حيث وجود الكثير ممن لا يروق لهم الخوض أو الاستماع أو تقبل ما هو جديد وحديث في المفاهيم المعاصرة التي تتحدث عن التجديد للفكر السلفي المتعالي على الحوارات والنقاشات ومنع كل ما يعارض ما جُبلوا عليه سلفا .

فأن الحوار العلمي المنطقي الخاضع للنقاش والبحث والدراسة الواقعية المعروضة على العقل ومواكب للمجتمعات الجديدة بعيدا عن النقل هي الطريقة الصحيحة المراد منها الارتقاء العقلاني بالفكر والعقيدة والدين لخلق مجتمع خالي من الصراعات الفكرية والاجتماعية بوجود شخوص مفكرة ناضجة فكريا وعمليا وعلميا تأخذ بيد المجتمع نحو الثقافة الحرة المنهجية الواعية.

***

ضياء محسن الاسدي

يبدو هذا العنوان وكأنه عنوان رواية بوليسية للكاتبة البريطانية (اجاثا كريستي) وهي في الواقع رواية بوليسية حقيقية جرت على ارض العراق .

كان لانقلاب 8  شباط عام 1963م تداعيات كثيرة على جميع الاصعدة السياسية منها والاقتصادية والفكرية ذلك لان الانقلاب مؤامرة اشتركت فيها اطراف متعددة منها الداخلية التي تمثلت بالعناصر الرجعية والقومية وبقايا الاقطاع الذين تضرر"

مصالحهم بعد نجاح ثورة 14 تمور 1958م ومنها الخارجية العربية والأجنبية. وكان من تداعيات الانقلاب البيان رقم (13) الذي اذاعه الانقلابيون في البوم الاول من انقلابهم وقد دعوا فيه الى ابادة كل من يقاوم الإنقلاب ابادة جماعية فكانت موجة  الاعدامات وزج العناصر الوطنية في السجون مما زاد من حدة التذمر الشعبي وتدمر العناصر الوطنية داخل الجيش وقيام انتفاضة معسكر الرشيد بقيادة العريف حسن سريع  في 3/تموز عام 1963م التي كان فشلها سبباً في تبلور احداث جديدة اعطت قادة الانقلاب مميزات جديدة من اجل القيام بأعمال انتقامية بعد فشل الانتفاضة مباشرة ودفعتهم الى ارتكاب ابشع جريمة  في تاريخ العراق الحديث .

بعد فشل حركة حسن سريع زج الآلاف من الضباط الجنود والمدنيين المشاركين بالحركة في سجن رقم (1)  في معسكر الرشيد وكانت خطة حكومة شباط ارسالهم الى معتقل (نقرة  السلمان) الصحراوي في السماوة فقد اعدوا (15) عربة من قطار حموله قديم يستخدم لنقل الاغنام والحديد والاخشاب ووضعوا هؤلاء المعتقلين داخل هذا القطار واحكموا غلق ابوابه الحديدية وفي ساعة متأخرة من ليلة 3/4 تموز من عام 1963م استدعوا اقدم سائق قطار في العراق وهو عبد عباس المفرجي وابلغوه ان القطار يحمل مواد كيمياوية .

وقد اختلفت الروايات في عدد المعتقلين داخل قطار فقد روي ان عددهم كان 250 شخصاً، بينما ذكرت روايات اخرى ان العدد كان 520 بين جندي وضابط .

وكان ابرز المعتقلين العقيد غضبان السعد وقتيبة الشيخ نوري والرائد يحيى نادر الذي توفي داخل القطار ومن المدنيين مكرم الطالباني وسلطان ملا علي واعضاء من الحزب الديمقراطي الكردستاني وكان جميع المعتقلين بظنون انهم ذاهبون الى ميدان الرمي لتنفيذ حكم الاعدام بهم .

تحرك القطار فجر يوم 1963/7/4م وكان هدفه السماوة لان المدة التي تستغرق وصوله الى السماوة طويلة نا ساعات وهي كافية بقتل المعتقلين بسبب ارتفاع درجة الحرارة بحيث ان قادة البعث كانوا يراهنون على ان حرارة الشمس يمكن ان تقتلهم بعد ساعتين او ثلاث من شروقها على عربات القطار التي تحولها الشمس الى افران حديدية ملتهبة، اما الطبيب المعتقل رافد صبحي فقد نصح المحتفلين بعدم خلع ملابسهم كي يحافظوا على طاقاتهم .

قبل وصول القطار الى السماوة صعد شخص من اهالي المنطقة وابلغ سائق القطار ان حمولته ليست مواد كيمياوية او حديد بل بشر , فذهل السائق لهذا الخبر فأنطلق بأقصى سرعة وعند وصول القطار الى الديوانية هرع عدد كبير من المواطنين الى رش الماء على عربات القطار وعند السماوة زود الاهالي ركاب القطار بالماء والمواد الغذائية التي انقذتهم حتى وصولهم الى معتقل (نقرة السلمان) سالمين .

هذه هي قصة هذا القطار المشؤوم باختصار نكتبها للاجيال الجديدة التي لم تعاصر تلك الاحداث المؤلمة .

***

غريب دوحي

"يا بُني والله إني لأظن أن الله عزّ وجل خلقكَ شقيا"!!

هذه مقولة والد الحجاج بإبنه في حادثة معروفة ومدونة في كتب التأريخ، بعد أن عبّر له عن موقفه ووجهة نظره عمّا يدور في الواقع السياسي والإجتماعي آنذاك.

ويمكن قراءة شخصيته وفقا للآتي:

أولا: العصبية:

وهي الميل إلى القبيلة والعشيرة والطائفة والإمعان بتأكيد الإرادة الذاتية والجمعية، وقد عبّر عن ذلك بقوة وإدمان في سلوكه، الذي تفتق بعد أن تسنم مواقع قيادية في الدولة الأموية، التي كادت أن تنهار لولا إقدامه وإصراره على تثبيت أركانها وإعلاء لوائها، وفقا لمفاهيمه القيادية الحازمة التي لا تقبل القسمة إلا على نفسها.

وقد ترجم بسلوكه صدق ولائه وإنتمائه للنهج الذي تبناه الخليفة عبد الملك بن مروان، والذي بموجبه تم تأسيس الدولة الأموية القوية القادرة على التمدد والهيمنة على أصقاع الدنيا، وذلك بالقوة والإقدام الشديد الذي لا رجعة فيه أو إلتفاتة إلى الوراء، فالحجاج إنطلق كالصاروخ نحو أهدافه المتنوعة المتنامية بإرادة فولاذية حازمة.

ويبدو أنه قد سئم من حكم عبدالله بن الزبير الذي يُقال أنه كان قاسيا، فترك الطائف وإلتحق بالشرطة الأموية في دمشق.

ثانيا: النرجسية:

من الواضح أن الحجاج يتمتع ببعض الصفات النرجسية،  لكنه لم يصل إلى درجة تعظيم الذات والخروج عن كونه إنسان من عباد الله الذين يجاهدون في سبيل إعلاء كلمته وإقرار الحق والقضاء على مناوئيه، فقد أبدى الكثير من المواقف التي تشير إلى أنه متواضع أمام خليفته، ويذعن لأوامره وينفذها مهما كانت صعبة ومذلة لشخصه، لكنه يمتلك حب الذات والقدرة على الإفتخار بكونه قد أنجز وحقق ما لم يحققه غيره، ويرى أنه أهم أعمدة الدولة الأموية، وعنده عزة وكبرياء وإعتداد بأصله وفصله.

ثالثا: الغاية تبرر الوسيلة:

الحجاج مارس هذا السلوك بقوة وشراسة، فغايته القضاء على معارضيه وإخماد الفتن والإضطرابات، وقد إتخذ لذلك الهدف جميع الوسائل المتاحة التي توصله إلى ما يريد، ولا يعنيه في الأمر إلا الوصول إلى الغاية المنشودة.

وتتضح هذه القاعدة السلوكية في مواقفه المتنوعة، وقراراته القاسية التي ينفذها بآليات فورية قاصمة ومرعبة، وكأنه السلطان المطلق الصلاحيات، والذي ينفذ أوامر ربه بدأب وإصرار وعزيمة متوقدة.

فهو يشرعن قتله للآخرين ويستحضر لهم حجة ودليل، ولا يقتل حبا في القتل وحسب.

رابعا: السايكوباثية:

لا توجد أدلة ومواقف تؤكد هذه الشخصية، فطفولته وصباه مشحونتان بالعلوم القرآنية والعربية، وكان معلما ومؤدبا، وقد أدبه وعلمه أبوه الذي كان معروفا بالتفقه بالقرآن، ويبدو أنه كان صاحب منزلة عند بني أمية، وعلى علاقة بالخليفة.

والحجاج صاحب بينة وحجة ويقتل وفقا لحجة وسبب واضح، فأول مَن قتل في الكوفة شخص كلمه فسألوه هل يعرفه فنفى، وعندما أخبروه بأنه هو الذي ركل جثة عثمان بن عفان وكسّر أضلاعه، أمر بقتله فورا.

وقتله سعيد بن جبير كان لأنه معارضا وخارجا عن طاعة الخليفة وقد حاججه ونفذ أمر قتله.

فهو يقتل مَن يعارض ولا يعنيه شأنه أو مقامه، فحالما تثبت عليه تهمة المعارضة والخروج عن الخليفة ينفذ حكم الإعدام فيه. ولهذا كثر قتله لأسباب سياسية بحتة. وشأنه كأي قائد يريد تثبيت أركان دولة، فلا تأخذه لومة لائم بما يفعل.

وفي الختام فأن الحجاج كان قائدا يبرر سلوك السيف ويبحث له عن حجة وبينة، لكي يكون فاعلا ومنفذا لأمر رؤيته التي ملخصها، أما أن تكون معي أو أنت عدوي، ووفقا لذلك مضى أكثر من عقدين على ذات المنهج التفاعلي مع الرعية، فصار مرهوب الجانب، مرعوب الذكر، تتنافر من أمامه الرجال حفاظا على أرواحها ومبررات حياتها، ومات كأي مستبد بذل ضغطا شديدا على الناس، فتنفسوا الصعداء من بعده، وتشظى وجودهم وتدهورت أحوالهم، وهكذا دبّ الضعف في الدولة الأموية، كما دبّ فيها بعد وفاة مؤسسها، لكن هذه المرة تواصل وتعاظم حتى إنتهت قبل أن تتم عشرة عقود في الحكم.

***

د. صادق السامرائي

في أرضٍ كانت تُغنّي، باتت تبكي. في البلاد التي خطّت أولَ حرف، وغنّت أولَ نشيدٍ للخلود، يعلو اليومَ نشيدٌ آخر... نشيدٌ من نحيبٍ طويلٍ يُشبه الموال، لا يَعرفُ لحنًا غير الحزن، ولا مقامًا سوى الناي الجريح. هنا، في العراق، كلُّ شيءٍ يبدو كأنه يتذكّر، يتذكّرُ مجدًا لا يعود، وجرحًا لا يندمل. تمشي على التراب، فينحني لك كأنّه شيخٌ تعب من الوقوف، وتُصغي للريح، فتسمعها تقرأ لك مراثي أور وسومر وبابل، ثم تبكي معك في صمت.

أرضُ الأنبياءِ والملوكِ والشعراءِ، صارت ساحةً لمآتمٍ لا تنتهي، وصراخٍ لا يعلو إلا ليُدفن، وأرواحٍ تتجوّلُ في الأزقة كأنها تنتظرُ خلاصًا لم يُكتب.

أيُّ موالٍ هذا الذي لا يسكت؟ وأيُّ فمٍ هذا الذي وُلد ليبكي فقط؟

في العراق، حتى الولادات تُستقبل بالنواح، وحتى الأعراس تُقام في ظلّ حدادٍ مؤجَّل.

الشمسُ تطلعُ هناك من عيونِ الثكالى، لا من خلفِ الجبال، والقمحُ لا ينبتُ إلا من دماءِ العابرين. ومَنْ قال إنّ دجلةَ يضحك؟ لقد صارَ النهرُ شاهدًا على المجازر، ناطقًا باسمِ الخراب، يروي لنا – كلما عبرناه – حكايةَ شهيدٍ لم يُدفن، وأمٍّ ما زالت تُعدُّ الغداءَ لابنٍ غاب منذ سنين.

العراقُ... ليس وطنًا فقط، بل قصيدةٌ مكسورة، قصيدةٌ حاولَ الشعراءُ ترميمها فلم يفلحوا، لأنّ الحرفَ في بلادِ النكبةِ لا يُكتب بالحبر، بل بالنحيب.

كيف نكتبُ عن العراق؟ بأيِّ لسانٍ نترجمُ وجعه؟

هو الذي صارَ كلُّ جزءٍ فيه مأساةً قائمة، من الجنوبِ المبتلِّ بالوجعِ، إلى الشمالِ المُحمَّلِ بالأسى، ومن بغدادَ التي أرهقها العرشُ والخيانةُ معًا، إلى الموصلِ التي لا تزالُ تفتّشُ عن ظلِّها في الركام.

هل تذكرون حينَ كانت بغدادُ تُعلّمُ الدنيا الفصاحة؟

الآن، تعلّمُنا كيف نصمتُ أمامَ الفجيعة.

هل تذكرون بابلَ حين كانت ترفعُ بوّاباتها نحو السماء؟

الآن، تسألُ السماء عن عدالةٍ لم تنزل.

ويا لهذا "الموال"... كم خُيِّلَ لنا أنّه سيُغنّى للهوى، فإذا به يُغنّى للقبور.

وكم ظننّا أنّ العودَ سيعزفُ للفرح، فإذا به وترٌ مبتورٌ بين أصابعِ اليتامى.

وكم حسبنا أنّ الناي سيُهدهدُ الساهرين، فإذا به ينوحُ مع من بقيَ من العقلاءِ، على ما تبقّى من وطن.

في عراقِ المأساة، لا أحدَ يسألُ: "هل سننجو؟"

بل الجميعُ يتساءل: "هل نحنُ أحياءٌ حقًّا؟ أم نحنُ شخوصٌ في مَشهَدٍ كابوسيٍّ طويل؟"

لكن... ورغم كلّ هذا، ما زال في العراقِ موالٌ آخر، لا يُشبه الحزن. موالٌ صغير، يهمسُ به طفلٌ في مدرسةٍ طينية، أو راعٍ في سهلٍ منسيّ، أو عجوزٌ تحيكُ وشاحًا لابنٍ أسير.

موالٌ اسمه "الصبر"، وآخرُ اسمه "الرجاء"، وثالثٌ اسمه "الوطن"، وإنْ خَفَتَ صوتُه وسط العويل، فهو باقٍ، يشتعلُ في الصدور كجمرةٍ لم تُطفأ.

العراقُ... هذا الموالُ العظيم، الممزوجُ بالبكاءِ والمقاومة، سيظلّ يُغنّى... حتى يعودَ الحرفُ إلى لوحِ الطين، والصوتُ إلى نايِ سومر، والبهجةُ إلى سماءِ النخيل.

***

د. علي الطائي

30-7-2025

المجتمعات التي تكون فيها النشاطات فردية بحتة، وذات نظرة أنانية قاصرة تفصلها عن المسيرة المجتمعية، تتسبب بإنهيارات مروعة، وتوفر الفرص للطامعين بالإختراق والتمكن من إدارة البلاد وإمتهان العباد.

ونخب أي مجتمع إن لم تنظر بشمولية وقدرة على إدراك المآلات التفاعلية، فأنها تساهم في وضع المجتمع على خشبة الجزر الفتاك لحاضره ومستقبله.

إن ما يصيب بعض المجتمعات المنكوبة بأبنائها، هو الإنغماس بالذاتية والأنانية الشديدة الإنكار لوجود الآخر وضرورة تفاعله البناء مع غيره، فالأقوام المتعاونة لا يصيبها الذل والهوان، بعكس المتناحرة التي تتآكل ويدثرها الخسران.

فمن أهم أسباب التبعية والخنوع، الإمعان بالوهم الفردي والقدرة الذاتية المعزولة، التي تستمد قوتها من أعداء وطنها وأصحاب المصالح، التي يجندون لحمايتها أبناء البلاد المتوهمون بالقدرة على النفوذ المطلق والثراء السريع، وهم على أنفسهم وبلدانهم يتحاملون، ومَن يخون وطنه وينكل بمجتمعه يهين نفسه ويجني على حياته ويكون من المندحرين.

فالإمعان بالفردية يمنع تكون أي تيار قادر على التغيير والإنتقال بالواقع المعاش إلى أفضل مما هو عليه، وهكذا تجد المجتمعات الخالية من التواشج العملي والتفاعل التضامني غير قادرة على الإتيان بما ينفعها، وتستهلك طاقاتها في مواجهات بينية تخدم أعداءها، وهي في غفلة مما يخططون.

وهكذا، فعندما يغيب التيار المتوثب والدافق بالحيوية والعطاء المتسابك، تبدو المجتمعات عاجزة ومقعدة على قارعة طريق الثورات الإبداعية المتلاحقة في عالم تديره تكنولوجيا المعلومات والتواصلات الإليكترونية، ومستقبله يزدحم بمستجدات تفوق أي خيال معاصر.

تفرّدتِ المواجعُ في خطاها

وحاربتِ النوازعُ مَن عَلاها

لماذا فردُها ضدٌ لفردٍ

يجابهها ويسلبها مناها

إذا عصفتْ صراعاتٌ بقومٍ

فقد أكلتْ مصائبُها حَجاها

***

د. صادق السامرائي

 

لاتزال مشكلة الغيبيات وماوراء الطبيعة وخلق الإنسان- خلق آدم- أبو البشر، من طين. على قاعدة (وَ بَدَأَ خَلْقَ ٱلْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ) التي حددت أصل الإنسان ومصدر نسله.. وذرية آدم التي تتناسل من ماء واهن، هو النطفة... من أعقد اشكاليات الفلسفة.. رغم كل التطور العلمي والفلسفي الذي حققه الإنسان في بحثه عن اجابات لكل تلك الاشكاليات..

ولان العلم يبحث في السبب والنتيجة للظواهر.. والتساؤلات التي تشغل بال الإنسان.. فقد كل العلم في طروحات اقرب إلى اليقين بالنتائج من الفلسفة.. التي ظلت تعيش متاهات الشك في النتائج.. إلى الحد الذي يقترب بالكثير من الفلاسفة إلى الحيرة، ومن ثم الإلحاد..

على أن الدين الاسلامي قد حسم كل الحقائق -الغيبية منها والحسية - على قاعدة (هو الله الذي لا اله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم).. وترك الباب للإنسان مفتوحا للبحث في ملكوت السماوات والارض والكائنات.. على قاعدة (افلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت والى الارض كيف سطحت) للوصول الى حقائق الأمور والظواهر التي تشغل باله.. لترسيخ يقينه.. وإنقاذه من دوامة التساؤلات والشكوك التي تواجهه في بحثه عن ما يحيط به من حقائق.. والتي تعجز رؤاه الفلسفية، بل والعلمية احيانا..عن الإحاطة التامة بها..

***

نايف عبوش

بين ثمرات الشبكات الاجتماعية ورحابة الإنترنت

في عالم يزداد ترابطًا كل يوم، تحولت الشبكات الاجتماعية والإنترنت من مجرد أدوات تكنولوجية إلى عصب الحياة اليومية. لم يعد الأمر يقتصر على الترفيه أو التواصل، بل باتت هذه الوسائل تُشكل ملامح مجتمعاتنا، وتؤثر في وعينا، وعلاقاتنا، وحتى فرصنا المهنية والتعليمية. لكن، وسط هذا الزخم، يبرز سؤال جوهري: هل نعيش ثورة تواصلية مفيدة، أم أننا نغرق في عالم رقمي يفوق قدرتنا على السيطرة؟

ثمار لا تُنكر: بين تعزيز العلاقات ونشر المعرفة

من أبرز إيجابيات الشبكات الاجتماعية أنها جعلت التواصل فوريًا وسهلًا، مهما بعدت المسافات. أصبح بإمكان أي شخص أن يتحدث إلى أحبائه في اللحظة ذاتها، وأن يشاركهم لحظاتهم وأفكاره بكبسة زر.

إضافة إلى ذلك، ساهمت هذه المنصات في نشر الوعي والمعرفة، حيث تحولت إلى منابر حرة للتعبير وتبادل المعلومات، بل وأصبحت أداة قوية في الحملات المجتمعية وقضايا التغيير.

ولم تتوقف الفائدة هنا، بل امتدت إلى المجال المهني. فالعديد من المستخدمين وجدوا في هذه الشبكات فرصًا للعمل، والتسويق، وبناء شبكة علاقات مهنية لا تقدر بثمن.

الإنترنت... عالم بلا جدران

أما الإنترنت، فهو مكتبة مفتوحة بلا أبواب ولا حدود. ملايين الصفحات والمصادر متاحة لكل من يبحث عن المعرفة، في مختلف المجالات واللغات. التعليم عبر الإنترنت، على سبيل المثال، لم يعد ترفًا، بل أصبح وسيلة ضرورية للكثيرين، خاصة في المناطق النائية والظروف الاستثنائية.

كما بات الإنترنت مساحة للتفاعل والمشاركة في مجتمعات افتراضية، تشكّل أحيانًا مصدر دعم نفسي أو اجتماعي، وتعزز الإحساس بالانتماء، حتى لمن يشعر بالعزلة في محيطه الواقعي.

الوجه الآخر: تحديات العصر الرقمي

رغم كل تلك الإيجابيات، لا يخلو الأفق الرقمي من الغيوم. فالإدمان الرقمي بات ظاهرة مقلقة، تؤثر في الصحة النفسية والجسدية، خاصة بين الشباب والمراهقين.

يُضاف إلى ذلك خطر فقدان الخصوصية، حيث يمكن أن تُستغل المعلومات الشخصية بطرق غير مشروعة، ناهيك عن سرعة انتشار المعلومات المضللة التي قد تُحدث فوضى فكرية ومجتمعية.

مقارنة بين الشبكات الاجتماعية والإنترنت

التواصل فوري واجتماعي رسمي أو غير فوري عبر البريد وغيره

المحتوى تفاعلي وآني ثابت وغني بالمراجع والمصادر

الخصوصية تتفاوت حسب المنصة قابلة للتحكم بشكل موسع

المخاطر إدمان، شائعات، تنمر فيروسات، تهديدات أمنية

آراء من الواقع: بين الطب والتعليم

في حوار مع مختص في علم النفس، أشار إلى أن "الاستخدام المفرط للإنترنت قد يؤدي إلى اضطرابات مثل القلق والاكتئاب، لا سيما عند غياب التوازن بين العالم الواقعي والافتراضي."

أما أحد المعلمين، فأوضح أن "التعليم الرقمي أتاح فرصًا واسعة، لكنه بحاجة إلى دعم تقني قوي وتدريب للطلاب والمعلمين على حد سواء."

دراسات وشواهد داعمة

بحسب دراسة نشرتها مجلة بحوث كلية الآداب – جامعة المنوفية، فإن الشبكات الاجتماعية "تلعب دورًا كبيرًا في التوعية بقضايا التنمية المجتمعية". كما أشار تقرير صادر عن مكتبات المستقبل إلى أن "المكتبات الذكية" باتت جزءًا أساسيًا من منظومة التحول الرقمي في مجال التعليم والمعلومات.

لعل التحدي الحقيقي لا يكمن في هذه الوسائل نفسها، بل في كيفية استخدامها. ومن هنا تبرز التوصيات:

تحقيق التوازن بين الحياة الرقمية والواقعية.

رفع الوعي الرقمي لحماية الخصوصية والتمييز بين الحقيقة والمحتوى المضلل.

استثمار الإنترنت في التعلم المستمر والتطوير المهني.

في الختام...

يمثل "أفق التواصل الرقمي" مسارًا مزدوجًا: فهو عالم من الفرص اللامحدودة، لكنه يحمل في طياته تحديات معقدة. بين ثمار الشبكات الاجتماعية ورحابة الإنترنت، يبقى الاستخدام الواعي هو مفتاح الاستفادة، والخط الفاصل بين التقدم والانزلاق في دوامة رقمية لا قرار لها.

***

بقلم: رُبى رباعي – الأردن

رفد: دعم أعان بعطاء أو صلة.

تندر الروافد المعرفية في دولنا، فالسائد إستحضارات إستنساخية لما أنتجه غيرنا، فنحن نتبع ونقلد بقصور ونحسب أننا ندري، ونتباهى بتذييل ما نكتبه بمصادر أجنبية .

وما أكثر ترجماتنا لعطاء الآخرين، ولا نمتلك عطاءات أصيلة سائدة، ونشيح الطرف عن لغتنا وهويتنا وتراثنا المعرفي، ونتبجح بأننا ننهل من معين أجنبي.

المجتمعات تنضح مما فيها، ولا تنضح ماء غيرها، ونحن نتفاخر بأننا نجيد لسان غيرنا ونحط من قيمة لساننا، ونستهين بعقولنا، ونحسب كل ما هو آتٍ من بلادٍ بعيدة، جيد ويبهرنا وعلينا أن نتعاطاه كبلسم لمحنتنا المعاصرة.

وما أكثر السم المدسوس في عسل المستوردات من الأفكار والرؤى والنظريات، وكم خدعنا بأن العلة في تأريخنا وديننا وشعرنا، وعلينا أن نجدد وننكر ما عندنا ونتمثل ما عند الآخرين، فتحقق إستعمارنا فكريا وثقافيا وتميعت معارفنا، وتوهمنا بأن الأجداد ليسوا بشرا ولا يمكننا أن نكون مثلهم، لأنهم حالة ملائكية ذات قدرات خارقة.

فأضحى واقعنا الثقافي بلا روافد تنبع من جوهر أعماق الأمة، فجفت عروق وعينا، وتهدمت ركائز سلوكنا، وتهاوت خيام مصيرنا، وأمسينا ندين بالتبعية والخنوع للذين يغفلوننا ويحقنوننا بما ينومنا ويخدرنا، وهم بشراهتهم الإستحواذية ينهبون ما عندنا من كل شيئ، حتى بتنا بلا طعم ولا رائحة، وأخذوا يكيلون علينا الأوصاف السلبية ويحسبوننا أرقاما لا قيمة لها، وموجودات معادية للحياة، وتسعى لصناعة الموت في كل مكان.

إنها لعبة الفناء الذاتي التي تُسَخَر فيها عناصر الهدف لنخره وإسقاطه كأعجاز النخيل المتتشوقة للتحول إلى رماد، بدلا من إلتهامها بديدان التراب الغاشمة.

فاقتلوا بعضكم، يا أمة سئمت منها الأمم!!

روافدنا تقطّعها الأعادي

بأجيالٍ مكبّلة الأيادي

حكوماتٌ بها الأهدافُ فازتْ

لتقهرنا بزنزان البلادِ

أعاجيبٌ تفرّقنا لنبقى

بدائرةٍ من الفعل المُصاديِ

***

د. صادق السامرائي

 

تميل عقولنا بطبيعتها إلى البحث عن الراحة والتناغم. عندما نتبنى فكرة ما، فإننا نحيط أنفسنا بأشخاص وأدلة تدعمها. نبني حول قناعاتنا أسوارًا عالية، ونتجنب أي شيء قد يهددها. نعتقد أن النمو يحدث في بيئة هادئة ومستقرة.

لكن منطق الحياة والفكر والتاريخ يقول العكس تمامًا. التقدم الحقيقي، والنمو الخصب، لا يولد من السكون، بل يولد من الصراع. إنه يولد من التوتر الخلاق بين الأضداد. الفكرة لا تنمو وتتطور إلا عندما تصطدم بنقيضها القوي، وهذا التصادم يجبر العقل على البحث عن حل إبداعي أعلى، عن "تركيب" جديد يتجاوز الموقفين الأصليين ويحتفظ بأفضل ما فيهما. هذا هو محرك التطور، وهذا هو منطق الإبداع.

أن تكون مفكرًا سطحيًا هو أن تهرب من هذا الصراع. أما أن تكون مفكرًا عميقًا، فهذا يتطلب منك أن تبحث بنشاط عن "النقيض الخصب". أن ترحب بالتحدي، وأن تحترم خصمك الفكري، وأن ترى في حجته فرصة للنمو، لا تهديدًا لوجودك.

تخيل بذرة (أطروحة). لكي تنمو، لا يكفي أن تضعها في ضوء الشمس. بل يجب أن تدفنها في ظلام التربة، حيث ستصارع وتقاوم لتشق طريقها نحو الأعلى. هذا الصراع مع مقاومة التربة هو الذي يمنحها القوة. وبمجرد أن تخرج، ستواجه الرياح (نقيض الأطروحة). الرياح قد تبدو عدوًا، لكنها في الحقيقة هي التي تقوي جذع الشجرة وتجعلها أكثر مرونة وصلابة. الشجرة التي تنمو في قبة زجاجية محمية ستكون هشة ومصيرها الكسر عند أول نسمة هواء.

عندما تتمسك بفكرة أو موقف، لا تكتفِ بتدعيمه. مارس التفكير الجدلي بوعي. حدد فكرتك بوضوح. ثم، لا تبحث فقط عن نقد ضعيف لها، بل ابحث عن أقوى وأذكى حجة مضادة يمكنك أن تجدها. عش في هذا التوتر. لا تحاول فقط أن تهزم الحجة المضادة، بل حاول أن تفهمها بعمق، وأن ترى الحقيقة الجزئية التي تحتويها. ثم اسأل: هل هناك أرضية أعلى، موقف أكثر تعقيدًا وحكمة، يمكن أن يجمع بين حقيقة فكرتي وحقيقة نقيضها؟ هذه الممارسة ستحول عقلك من حصن يدافع عن نفسه، إلى رحم يلد أفكارًا جديدة وأكثر قوة.

"ابحث عن 'النقيض' الخصب. النمو يولد من الصراع. عندما تتمسك بفكرة ما، لا تكتفِ بالبحث عن أدلة تدعمها. مارس 'التفكير الجدلي': حدد فكرتك بوضوح (الأطروحة). ابحث بجدية عن أقوى حجة مضادة لها (نقيض الأطروحة). لا تحاول فقط أن تدحضها، بل عش في هذا التوتر بين الفكرتين. اسأل نفسك: هل هناك موقف أعلى وأكثر تعقيدًا يمكنه أن يجمع حقيقة الموقفين معًا (التركيب)؟ هذه هي محاكاة محرك التطور الفكري نفسه."

***

مرتضى السلامي

 

ان الذي ترك لنا تراثًا ضخمًا من التاريخ والدين والأدب والثقافة وله دور كبير في تنوير العقول والأفكار هو القلم الصادق الذي يمثل الشراع الابدي وله دورًا أساسيًا في عملية البناء، سواء كان ذلك في البناء المادي أو المعنوي، في البناء المادي، لتسجيل الأفكار والتخطيط للمستقبل، مما يسهل عملية التنفيذ ويضمن الدقة. أما في البناء المعنوي، للتعبير عن الأفكار والرؤى، وكتابة النصوص التي تشكل أساسًا للمعرفة والثقافة، وتساهم هذه المعرفيات في تطور المجتمعات، وهو الوسيلة الفكرية للتنفس، يخرجها من ظلمات الخواطر الصامتة إلى نور الكلمات المضيئة، وهنا تبدأ مرحلة أخرى من الترويض وبها كتبت على مر القرون و تكتب العشرات بل الألوف والملايين من الدواوين الشعرية والروايات ومجلدات ضخمة عن تاريخ الحضارة البشرية والملاحم الأسطورية والتفاسير. إن إنجازات القلم الكبيرة والرائعة تدفعنا لمعرفة ما قيل عنه في التراث العربي وفي الكتابات المعاصرة.

روت كتب التفسير عدداً كبيراً من الأحاديث التي تبين أن القلم هو أول مخلوقات الله، والمنقول عن النبي' ص' «إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال له اكتب، قال وما أكتب؟ قال اكتب ما يكون، أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أثر أو أجل، فكتب ذلك إلى يوم القيامة'.

 فنجد علمًا خاصًا بتواريخ البلدان للدفاع عنها وإبراز قيمتها، بذكر رجالها ومفاخرها ورموزها، وما قدمته من العلوم للإنسانية، ولكل بلد مؤلفاته التاريخية التي تمثل ماضيه وليرتبط بحاضرة، مما يعبر عن ضرورة أداء القلم دوره في خدمة الوطن في كل زمان ومكان، نجد أن للقلم سحره وبيانه وألقه في تسطير أروع الأبيات وأجمل الروايات وأبدع المسرحيات وسجله سجل خالد عبر العصور والدهور.

ان الذي لا يمكن فصلهما هو السيف والقلم السلاحان المتلازمان لكل ذي سلطان، بهما تقام الدول، وتمهد سبل الحكم والرياسة، وتفرض النظم والقوانين، وتبنى الدول والمجتمعات. فالسيف رمز القوة والعزة والإباء، والقلم رمز العلم والثقافة والحضارة. قد يتقدم أحدهما على الآخر في فترة من الفترات، نتيجة لطبيعة المرحلة التي تمر بها الدولة، ولكنهما في النهاية سلاحان وأدان لا غنى عن أحدهما للسلطان في كل زمان ومكان.

أجل إنه القلم تلك الوسيلة العظيمة، التي أقسم الله تعالى بها في كتابه الكريم، ' ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴿۱﴾'سورة القلم  ولا يقسم ربنا إلا على عظيم، وهل هناك من  أحد ان يشك في عظمة القلم ومدى تأثيره ومنفعته ومقاصده ودوره؟! ناهيك بذلك القلم الذي يتحرك في سبيل الوطن، للذود والدفاع عنه عنه و ليست مهمة مقتصرة على البندقية والدبابة والأرواح والأجساد و والطائرة واسلحة الموت الجديدة التي دخلت الميادين فقط، فلطالما كانت الأقلام والكلمات رماحًا وأسنة يتقي بها الوطن شر الأعداء،

في هذا المجال ' يرى ابن خلدون أنّ السيف والقلم سلاحانِ يُكمّلُ كلٌّ منهما الآخرَ ولا يستغني عنه، لكنّ الاهمية تختلفُ باختلافِ الأزمنة، فيرى أنّ السّيفَ هو الاهم في مرحلتينِ من مراحل تاريخِ الدّول، ففي مرحلةِ النشوءِ والتّكوين وكذلكَ في مرحلةِ الشّيخوخةِ لا بدّ من القوّةِ لإثباتِ هيبتِها وتثبيتِ أركانِها، خشيةَ التّصدُّعِ والانهيارِ، يقولُ ابنُ خلدون: 'إلّا أنّ الحاجةَ في أوّلِ الدّولة إلى السّيفِ ما دام أهلُها في تمهيدِ أمرِهم أشدَّ من الحاجةِ إلى القلم.. وكذلك في آخرِ الدّولة حيثُ تضعفُ عصبيّتُها كما ذكرْناه.. فيكونُ للسّيفِ مزيّةٌ على القلمِ في الحالتينِ ويكونُ أربابُ السّيف حينئذٍ أوسعَ جاهاً و أكثرَ نعمةً.' أقوَى دليلٍ جاء به المتنبّي، ولم يتركْ للخصمِ شاهداً يستدلُّ به في تقدُّمِ القلمِ على السّيفِ:

حَتّى رَجَعتُ وَأَقلامي قَوائِلُ لي

المَجدُ لِلسَيفِ لَيسَ المَجدُ لِلقَلَمِ

اِكتُب بِنا أَبَـــداً بَعــدَ الكِتابِ بِهِ

فَإِنَّما نَحـــنُ لِلأَسيافِ كَالخَدَمِ

 ويتعاظمُ دورُ القلمِ في تعزيزِ وتجميلِ هيبةِ الدّول وبيانِ خصالِها والمباهاةِ بها أمام العالمِ، مع بقاءِ السّيفِ في حالةِ الأهبة والاستعدادِ للنّوائبِ والمخاطرِ المفاجئة: 'وأمّا في وسطِ الدّول> فيستَغني صاحبُها بعضَ الشّيء عن السّيفِ

وبها تكتب العشرات بل الآلاف والملايين من الدواوين الشعرية والروايات ومجلدات ضخمة عن تاريخ الحضارة البشرية والملاحم الأسطورية. إن إنجازات القلم الكبيرة والرائعة تدفعنا لمعرفة ما قيل عنه في التراث العربي وفي الكتابات المعاصرة.

روت كتب الحديث والتفسير عدداً كبيراً من الأحاديث التي تبين أن القلم هو أول مخلوقات الله، والمنقول عن النبي' ص' «إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال له اكتب، قال وما أكتب؟ قال اكتب ما يكون، أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أثر أو أجل، فكتب ذلك إلى يوم القيامة».

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

"ما زلزلت مصر من كيد ألمّ بها

لكنها رقصت من عدلكم طربا"

هذا بيت شعر يختصر تفاعل الحافين من حول الكراسي مع سيدها، ويمثل آليات التكسب والمديح الكاذب، والتصوير الباذخ بالكلمات لحالات متخيلة لا وجود لها في سلوك الشخص المعني.

معظم المدونات لا تصف بشرا واقعيا وإنما متصوَّرا، ومركونا في فضاءات الخيال، وممتطيا صهوة المستحيل الأرضي، لكنها بالتكرار تتحول إلى حقائق راسخة وكينونات ذات تأثير رومانتيكي في وعي الأجيال.

ولهذا أصبح التأريخ في أكوان أبعد من نجمة الزهرة، ونحن نمشي فوق جرم سماوي مرتعب، يخشى التوقف لثوان عن الدوران، فما أقل القدوات الحقيقية في مسيرة الأمة، وما أكثر المتخيلة منها.

فهل حقا كان السلاطين كما وصفتهم كتب التأريخ؟

"قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد........"

فكيف نخرج السلاطين من بشريتهم؟

يبدو أنها نزعة تدفع إلى الإذعان لما هو غير بشري وفقا للتصور والإعتقاد، وما أكثر الأنبياء الذين قتلوا أو قست عليهم أقوامهم، لأنهم بشر يسعى بينهم، فكيف يجوز إضفاء توصيفات مقدسة عليهم، وهم يأكلون ويشربون ويقضون حاجاتهم كأي البشر.

ومن الواضح أن التأريخ لا يكتب في حينه، بل بعد فترة قد تطول أو تقصر، وبهذا يكون للتصور والتخيل والمواقف الشخصية والرؤى الأخرى تأثيراتها الأكيدة على المدوَّن.

فكيف تتم قراءة التاريخ، وهل يجوز تصديق غثه وسمينه؟

***

دوّنوا فيها كثيراً إنهمْ

وضعوا رأيا تنامى عندهمْ

فقرأنا ما أتانا جاهزاً

وأرانا قد قرأنا فكرهمْ

دارتِ الدنيا ودامتْ علةٌ

فاحترقنا وذُكانا قولهمْ

***

د. صادق السامرائي

 

في دهاليز الروح، حيث تتشابك أنفاس الوجود بلغة لا تُنطق، وتتشكل الأحلام والقرارات على هيئة ومضات، تتجلّى الحقيقة الإنسانية كلوحة مرسومة بألوان متباينة: نزوة، عزيمة، وبصيرة. فلنتأملها، لا كمتفرجين، بل كرحالة يخوضون غمارها، ويغوصون في بحارها بأشرعة الوعي وقلوبٍ على أهبة الدهشة.

الرغبة.. غيوم تتشكل وتنجلي

هي الرغبة... ذلك الوميض الذي يمرّ في سماء النفس كغمامةٍ ناعسة، أحيانًا تُبشّر، وأحيانًا تُنذر. تسري كأنفاسٍ دافئة في ليالٍ باردة، تُغري وتعد، لكن لا تعِد بالبقاء. تتكاثف في الأفق، تحمل معها أمطار الشوق، ورعود اللهفة، وتلمع ببروق الطمع أو الحنين. تُخيل إلينا، لحظات، أنها كل السماء، أنها المصير ذاته. لكن الحقيقة الأبدية تُعيدنا إلى رشدٍ عميق: الرغبات زوّار، لا ملاك، تمرّ ولا تُقيم، تهمس ولا تأمر، تظهر وتضمحل كما السراب.

وفي معرفة عابريتها، تنكشف الحرية. من ينظر إليها بعين العارف، لا يُفتن، بل يُبصر. من يدرك أنها دخانٌ في مهبّ الوعي، لا يُستعبد، بل يتحرر. تلك هي الرغبة: نارٌ لا توقد إلا إذا نفخنا فيها من هوى، وظلٌّ لا يثبت إلا إذا أدرنا له الظهر.

الإرادة.. النجم الذي لا يخفت

في قلب العاصفة، حين يضجّ الكون بصراخ المغريات، تصعد الإرادة كأنها نبض الأرض. لا تتقلب كالرغبة، بل تثبت. إنها البوصلة التي لا تعرف الشمال المغشوش، والمرساة التي لا يقتلعها تيار، مهما اغتلم.

الإرادة ليست مجرد قرار، بل قوة تُصاغ من وعي ومن نار. إنها التوق إلى السيطرة، إلى الانضباط، إلى توجيه السفينة حين تتحطم أشرعتها. فيها يسكن صمت الأبطال، الذين يمشون نحو الضوء رغم انكساراتهم، ويزرعون خطواتهم على دروب من شوك دون أن يحنوا رؤوسهم. هي الإرادة التي تجعل الإنسان سيدًا، لا مستجدِياً، وصاحب مصير، لا صدىً في وادٍ مهجور.

وحين تهب العواصف، وتتعالى نداءات التخلّي، تمسكنا الإرادة من تلابيب الضياع، وتهمس: اثبت.. فأنت من يختار الطريق، لا الطريق من يختارك.

العقل.. عرش التوازن وسيف الحكمة

وأخيرًا، هناك العقل، سيّد المسرح، العرش الذي لا يُنتزع. إنه الملك الذي لا تحكمه شهوة، ولا يُضلله اندفاع. هو القاضي الذي لا ينام، والمهندس الذي يبني خرائط الخلاص. بميزانه تُوزن الرغبات، وبمنطقه تُهذَّب الإرادة، وبحكمته تُسَيَّر القافلة في صحراء الحياة.

العقل ليس سجنًا للرغبة، ولا عدوًا لها، بل عينٌ تقيس المسافة بين اللهفة والغاية، بين الدافع والمصير. وإذا كانت الرغبة نارًا، والإرادة طاقة، فالعقل هو قالب الذهب الذي يصهرها فيهما لتخرج قراراتنا صافية، واعية، متزنة.

إنه السيادة في زمن الفوضى، والقبطان الذي يرسم خط السير، لا يرضى بتيه، ولا يقبل بأن نكون أسرى لدواخلنا. هو ذروة الوعي، وتجلي الإنسان حين يختار أن يحكم نفسه، لا أن يُحكم بها.

هكذا تنسج الروح خيوطها: رغبةٌ تمر كنسيم، إرادةٌ تشتعل كجمرة، وعقلٌ يتلألأ كنجمٍ لا يغيب. وفي توازن هذه الثلاثة، يتشكّل الإنسان الحق، لا كمجرد كائن حي، بل ككائن واعٍ، حر، سيّد على ذاته، رحّال نحو أسمى مراتب السكينة والتنوير.

***

حميد علي القحطاني

مذهبة: تعلم مذهب أو مبادئ أو عقائد، وتستعمل الكلمة بمعنى سلبي  للدلالة على إستيعاب أأفكار دون أي نقد أو نقاش.

المذاهب برمتها تبدو وكأنها ألاعيب سياسية لخدمة الكراسي السلطانية القاضية بإمتهان الشعوب وإستعبادها، وتمرير رغباتها وإعطائها التخويل الرباني او الشرعي للقيام بتأمين حاجاتها وما يلزمها من قوة للقبض المطلق على الحكم، وأصحاب المذاهب أشخاص لديهم قدر ما من العلم بالدين وطرحوا آراءهم، وإتبعهم الجاهلون بالدين، وحسبوهم من أعلم العلماء وأفقه الفقهاء، ومع مرور العصور تراكمت عليهم هالات القدسية وأمانة الإتباع، وكأنهم يعبرون عن الدين القويم وغيره لا دين.

ولو أخذنا زمنهم وثقافتهم لتبين أنهم يتمتعون بمحدودية معرفية بالقياس إلى ما توصلت إليه البشرية من معارف وعلوم، لكنهم في زمنهم الذي عاشوا فيه، كانوا من المبرزين والمتفقهين.

وكانت في الأمة العديد من المذاهب والرؤى والمدارس، فكل عارف بشيئ إختط لنفسه سبيلا يؤكد فيه ما يراه، فمنهم من أبيد عن بكرة أبيه، ومنهم من أهمل، وبقيت مذاهب ذات قيمة سلطوية، وبموجبها مضى الحكم في أرجاء الأمة، فكل فترة يبرز مذهب ليكون القائد لنظام الحكم، وكلها فعلت ما فعلت في مسيرة الحاكم والمحكوم.

ولا تزال الأمة بين العديد منها، القديم والجديد، فهي أشبه بالأحزاب السياسية، وبعضها يدفع المنتمون إليه إشتراكا، ويعتبر حقا لقادة المذهب، فالواقع المتعضل يشير إلى أن المذاهب لعبة للمتاجرة بالدين، ولكل بضاعته وأسواقه وأرباحه التي يجنيها.

وفي حقيقة الدين أن لا يشفع أحد لأحد، فكل يكون لوحده أمام مصيره، ولن يساعده مذهب أو إمام أو غير ذلك، وإنما من أتى ربه بقلب سليم.

ولن يكون مسؤولا عنه غير نفسه وعقله، فلماذا لا يكون لكل إنسان مذهبه، أي وسيلته لعبادة ربه الذي يؤمن به، ويدع المذاهب جانبا، لأنها مغشوشة وذات تطلعات ثانوية غير التي تدّعيها، وجميعها وبلا إستثناء تعزف ذات المعزوفة، التي تنتهي بإستعباد الناس والقبض على مصيرهم بإسم الدين.

فكم صنعت المذاهب من تجار الدين المرائين، الذين يتراقصون على أنغام معزوفات أمارة السوء الفاعلة فيهم، وهم يتمنطقون بالدين وقلوبهم تنبض بقول شيطان رجيم!!

فهل لنا أن نصنع مذهبنا الإنساني الشخصي القويم، ونتبرأ من مذاهب لا تنفع ولا تعين؟!!

مذاهبها إلى الأديان ذخر

كأن لشهدها لذعٌ ومرُّ

بها دينٌ على ذاتٍ تعالى

بدائبة بها كرٌ وفرُ

معسجدةٌ رؤانا دون غيرٍ

فلا دينٌ سوى ديني يمرُ

بسفك دمائنا عشنا صراعا

ونعلم أن كلّ الخلق حرُ

***

د. صادق السامرائي

هو الذي وجه أو أمر محمد بن إسحاق لكتابة السيرة النبوية، لتكون معينا ثقافيا لولي العهد من بعده (المهدي) زوج الخيزران التي أنجبت الهادي وهارون، ويقال إنها قتلت إبنها الهادي لأنه أذلها أو حد من صلاحياتها.

السيرة النبوية كتبت سنة 150 هجرية، وإختصرها إبن هشام، ويُقال أن أبو جعفر المنصور طلب من إبن إسحاق أن يخقفها، لأن المهدي لا قبل له بقراءة مئات الصفحات، ويذكر أن السيرة النبوية مكتوبة بواقعية في زمن عثمان بن عفان، وأحرقها الأمويون لأنها تشيد بالأنصار، الذين أبادوا معظمهم في موقعة الحرة (63) هجرية، التي قادها مسلم بن عقبة.

السيرة فيها الكثير من اللاوافعية، والإبتعاد عن ومضات السيرة في القرآن :"قل إنما أنا بشر مثلكم ...."، "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل...."

في عصر أبي جعفر المنصور(136 - 158) هجرية، إنطلقت حركة التدوين، ونقل الروايات الشفاهية إلى القراطيس، وهو الذي بدأ بالحث على تدوين الأحاديث وكتابة الصورة التي نعرفها اليوم عن الإسلام وتأريخه وسيرة نبيه.

التفاعلات الواقعية لم تدون بل تحقق إضفاء المثالية والملائكية على منطلقات الدين من بدايته لتبرير ما وصلت إليه أو أرادت أن تصل إليه الدولة العباسية، بعد أن إنقلبت على حلفائها، وتفردت بالسلطة والحكم.

أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، وواضع البنى التحتية لقيامها وإنطلاقها وتواصلها وفقا لرؤيته الثاقبة وتصوراته كباني إمبراطورية وصانع تأريخ.

ولوفاة إبنه البكر جعفر الأكبر (125 - 151) هجرية، عهد من بعده لإبنه الثاني محمد المهدي، وبهذا تغيرت مسيرة الدولة العباسية من بعده، ووصلت إلى ذروتها ثم إنحدرت بسبب الصراعات بين أولياء العهد الذين تماحقوا.

تدونت الحوادث بعد قرنِ

فمن قول إلى رسم وفنِ

ووثقت الكلام يراع كسبٍ

ومنقولٍ لمنقولٍ بظنِ

فلا تعتب على صورٍ تجلت

بها الأجيال من كتبٍ تكني

***

د. صادق السامرائي

قال لي ابن ابنتي "نسيم" الرائع ـ الشغوف شغفا مذهلا وهو في السادسة من عمره ـ بالفضاء والمجموعة الشمسية بادق تفصيلاتها، وبالمجرات، قال فجاة: "جدو هل رايت كيف زالت حضارة الديناصورات؟" فكأنه جاء بالالهام الغائب الذي كنت ابحث عنه طويلا، ضمن محاولتي ايجاد مسرب للكائن البشري من وطاة الجسدية/ الديناصورية/ بما هي حالة فناء مقرر كونيا، بغض النظر عن الفارق بين الكائن البشري الناطق، حامل العقل بصيغته الاولية الابتدائية، واجمالي تكوينه الجسدي الارضوي الغالب، ومترتباته من زاوية فرضية الفنائية او عدمها، واذا كانت حتمية وشرطا شاملا للكائنات الحية، بغض النظر عن تدرجات انواعها.

وماقد اثار دهشتي ان "نسيم" وضع لي فلما على تلفونه، عنوانه "ماالذي سيحدث في المستقبل؟" وهو تعداد لمراحل التطور المنتظر بالتفاصيل، من نوع غلبة المعدات الافتراضية الايهاميه مع عام 2050، وقت يصير الكائن البشري قادرا باستعماله وسائل مبتكرة لان يرى مايتخيله، الى ان يصل الامر لحد امكانية وضع عدسه مساعده على العين مباشرة، تخلصها من الالة، وتساعد على جعلها هي بذاتها اداة خلق عوالم مفترضة، في عام 2061 سوف يمر بنا مذنب هالي، وهذا ليس من قبيل الخطوات التي يمكن عدها ضمن التطورات المتوقعه، الى 2100 حين يسيطر الذكاء الاصطناعي وتنقلب الحياة تماما، سواء من ناحية العمل ومن يضطلع به، او بما يخص الادارة والوظيفة، مايولد اشكالا خطيرا وجوهريا بخصوص الشغل ودور الكائن البشري فيه، وصولا الى مامن الطبيعي وقوعه من تازم ناجم عن البطالة المعممة، الاهم من ذلك ان الفيلم يتعرض لهذه الناحية متوقعا حصول انتفاضات بشرية ضد مزاحمة الروبوتات، تواجه، وهذا الاهم في المعروض، بقوات آليه من الروبوتات القمعية، مالابد ان يثير الخيال البشري، تصورا لنوع وطبيعة الحياة البشرية في حينه، مع مترتبات انقلاب في الوظائف الكائن البشري مقذوف خارجها، ومتصاغر قياسا لها ولحكمها القاهر، مع تحول الذكاء الطاريْ الى وسيلة لتكريس السلطه، مع ان الفيلم لايتطرق لهذه الناحية، ولا يقول لنا من الذي سيكون سائدا ومتغلبا وقتهان وبناء على اية سياقات مستجده، مع ان الاصل والمحرك فيها هو الكائن البشري نفسه، مع اجمالي ماضيه التسلطي التمايزي المتجدد.

لست اعرف كيف ومن اين جاء من قرروا وضع الفيلم المذكور، بمثل هذة التوقيتات، بالاخص منها تلك غير الطبيعية، مثل تاريخ 2200 حين يحل التطور الهائل في المجالات كافة كما تدل الصور امامنا، ونحن نرى السيارات الطائرة، لا يلبث ان تتبعها عام 2300 موجه من الزلازل المدمرة، مع انفجارات وفيضانات وبراكين هائلة، بما يضفي على المشهد نوعا من التناقضية، كانما الاصطراعية، فالفعل البشري ومسعاه الى التطور، يبدو مؤطرا كانما بردود فعل طبيعية معاكسة، ان لم تكن مضادة ساحقه، تنتهي عام 2744 بانتهاء المجال المغناطيسي الارضي،  يتبعه عام 2880 اصدام مذنب جديد بالارض، من شاكله ذلك الذي اصطدم بها، وادى الى انتهاء وجود الديناصورات.

المهم في الفيلم انه يقول بان الحياة تعود من جديد ومرة اخرى عام 3، 000، بمعنى عودة ظهور كائن اخر غير الكائن البشري الحالي، وكاننا امام حالة تعاقب مخلوقات كتب عليها ان توجد لتفنى، ابتداء من الديناصورات، الى الكائن البشري الحالي، الى مالانعرف حتى الان من سيكون وماهي مواصفاته، وكاننا امام لوحة عدميه من تعاقب المخلوقات الحية، تنتهي مع انتهاء اصلها وموطنها وسبب وجودها، الارض نفسها، والمجموعه الشمسية التي تنتمي لها، وكل هذا مع مايتولد عنه من الحيرة التي تجلل محيا نسيم العميق الاحاسيس المضطرب،  والحائر امام مسالة كبرى، المفترض ان مثله ومن في عمره بعيد عن عوالمها، وماتتطلبة من ربط منطقي وسببي معلل بالاختبار والتجربة.

وجدت نفسي دون قصد مني، ولانني مولع بهذا الكائن غير العادي، ماخوذا بالبحث عن تبرير قد يساعد في اخراج الحالة من المازق التدميري المكتوب لها، فقفزت منطلقة مني بلا ارادة، كلمات من نوع "اظن انه يجب ان يتحرر"، انتبه نسيم لما قلت واقترب مني متسائلا بعينيه المعبرتين كانه يقول " فسّر"،  فتوقفت مترددا وخائفا من ان افشل في شرح ماقد خطر لي بخصوص المراحليه الخلقية التي استقيتها من المسار المتغير للمخلوقات، والتعاقب المفضي الى الكائن البشري، محل الديناصورات، وكأنما الكائن الاول غير مؤهل ولاضرورة لوجوده، قياسا لنوع الكائن المقرر ان ياتي بعده، بالذات على مستوى الازدواج " الجسدو/ عقلي" للثاني، مقابل "الجسدي " الصرف للاول، مايعني دخول عنصر ثالث للمشهد، مع ممكناته، وان تكن غير معاينه ابتداء،  مع انهاغير خاضعه، اوبالامكان اخضاعها كليا لمزاج الطبيعة وكوارثيتها الافنائية.

يختلف الكائن البشري عن الديناصور بكونه محكوم لديناميات تشكلية ترقوية، وهو يبدا حيوانا مثل الديناصور، العقل ضمنه ابتداء غير ظاهر، واقع تحت وطاة الغلبة الجسدية الكاسحه، لكنه ينتقل لاحقا الى الانتصاب على قائمتين والنطق، وظهور العقل وان بصيغته الاولى وهو مالا يعرفه الديناصور، باعتباره تجربة اختبارية اولى ناقصة فاشله، علما بان الكائن البشري يوجد ويظل حتى بعد ظهور العقل، اقرب الى الاحادية الحيوانيه، يعاني من وطاتها الغامرة بسبب القصور الادراكي العقلي من جهه، ووطاة نوع الانتاجية المهيمنه على حياته الحاجاتيه الجسدية يدويا، مايظل يعزز الوعي والمنظور الارضوي الجسدي على مدى قرون طويله.

امتدحني نسيم وهو يقول "جدو انت تقول اشياء جميله "، كنت اعرف انه ربما يحسها، لكنه من الصعب ان يدركها مع انه كان يبتسم وعينيه تلتمعان ذكاء، فقلت له "جدو ليس ماقلته هو الاهم"، ولحظتها عدت الى محاولة التبسيط الاقصى التي اعرف انها غير مفيده تماما، مع انها مع نسيم بالذات ستكون بمعنى ما مفرحة، وبناء عليه جازفت بالقول" الكائن البشري يصير موجودا حين يتحرر من وطاة الطبيعه"، وكنت موقنا بان هذا هو المخرج الذي لم يكن الديناصور يملكه، فالكائنات الحية هي موضوعات مرهونه وخاضعه للارض وتطورها وتقلباتها بما هي موضوعات من دون ذاتيه ولا فعالية ارادية للطرف الحي، من طبيعة اخرى مختلفه،  الامر الذي لابد لاجل تحققه من ان تاتي لحظة من الحياة، يمتلك فيها الكائن الحي البشري القدرة على ادراك اللاارضوية كظاهرة مواكبه لبدايات تبلور الظاهرة المجتمعية، ومايتصل بها من ضرورة الانتقال العقلي نحو عالم اخر مستقل عن الجسدية، الامر الذي لابد من تركيز فعل العقل عليه، بدل الحال القصوري الراهن المستمر، الواقع تحت وطاة الارضوية وفعل نوعها الافرادي،  الغالب بقوة مفعول الانتاجية اليدوية، بالاخص بعد ان بدات تتوفر الاسباب المادية للانقلاب العقلي، مع التكنولوجيا العليا، الضرورية لنقل الكائن البشري من الانتاجية اليدوية وشروطها،  الى العقلية، حين نتعرف ساعتها على ذاتية الكائن المستقلة المتحررة من هيمنه الارضوية واشتراطاتها الاحادية الافنائية لمايماثل نوعها الجسدي المادي البحت كما حصل للديناصور.

وقتها ضحك نسيم ضحكة بلا تتوقف، وظل يتلوى على الارض، بينما اصبت بحالة لااستطيع وصفها، دخل جسدي معها حالة من الارتعاش الملهم، والدموع الغامرة، وانا احتضن الكائن الرائع، وقد غدونا خارج المرئي والملموس.

***

عبد الأمير الركابي

 

لم أتحسس في حياتي الدراسية مثلما تحسست في درس الضمائر في قواعد اللغة العربية!! ولا زلت اتذكر المرة الاولى التي تناهى الى سمعي تفاصيل الموضوع من خلال الشرح الذي قدمه استاذ شهاب (رحمه الله) مُدّرس اللغة العربية في ثانوية الرميلة للبنين حيث كنا طلابا في الثانوية آنذاك ولكنني لم أفهم السر في انزعاجي وانقباض صدري الذي شعرت به مع استعراض استاذنا تصريفات الضمائر واحكامها عندها رحت اتساءل مع نفسي : لم كل هذه المشاعر السلبية التي اعترتني في هذا الدرس دون غيره؟ ولكي أجد جوابا لهذا السؤال المُلِح رِحتُ أتمعن في كل كلمة وردت في تعريفه الذي يقول: بأنه ضمير مستتر لا نستطيع لفظه، ولكننا نستطيع تقديره وفهمه من خلال سياق الكلام، وأن هناك من الضمائر ما هو واجب الاستتار ولكنني لم اجد تفسيرا مقنعا لسؤالي بل زادت حيرتي وفي النهاية تجاهلت الأمر خصوصا مع مغادرتي مقاعد الدراسة ودخولي عالم الحياة العملية.

مضت الايام مسرعة ولم يدر بخلدي ان درس الضمائر سيرافقني في مسير حياتي كالكابوس المستمر، وما لم أفهمه في أيام المدرسة فهمته في لعبة الحياة فاكتشفت اسرارا صادمة كان يخفيها درس الضمائر فعرفت من أي طين حقير مخلوق (هو) وأي نفس وضيعة (هي) وقد بدت لي كل سوآتهما وصار معلوما طبيعة العلاقة التي تربط(هما) وتساقطت الاقنعة عن وجوه (هم) القبيحة وانكشف كيد(هنّ) وبانت الاعيبهنّ القذرة.

وكما فعلتم في اللغة يا ضمائرنا الغائبة فقد فعلتم كل ما هو سيء وقبيح في هذا الزمن الردئ فقد رفعتم الواطين الاخساء وجعلتموهم في محل رفع، وأجرمتم بحقنا حينما خدعتمونا ووضعتمونا في موضع نصب!! بل انكم ذبحتمونا حينما وضعتم قبلنا من التافهين الصغار لنكون في محل جر!!.

 فإلى متى تصرون على دس رؤوسكم في التراب يا ضمائرنا؟ والى متى سيدوم ظلمك يا (انت)؟ وكم مرة ستخذلوننا يا (أنتما)؟، وهل ستطعنوننا بظهورنا مجددا يا (أنتم)؟. والى متى ستكسرنا يا (هاء الغائب)؟

 يا ضمائرنا الغائبة، يا من ضيعتم الامانة، وطمستم الحقائق، يا من حللتم سفك دماءنا، يامن كنتم السبب في اختلال الموازين وضياع الحقوق، هل من امل في ظهوركم على الملأ وكسر قيود الغياب والصدح بالحقيقة ؟.

رحمك الله يا استاذ شهاب اليوم ادركنا ما كنت تقصده في درس الضمائر، وفهمنا معنى كلامك عندما قلت: انكم ستجدون ان نصف الجُمّل في اللغة العربية تحتوي على ضمائر غائبة بينما في حياتكم العملية قد لا تجدون ضميرا حيا واحدا فأغلبها غائب ومفقود!!.

يا اصحاب الضمائر الغائبة: الا تعلمون ان هناك شعرة الهية هي من تضيئ القلوب والارواح اسمها الضمير الحي؟ ويا اصحاب الضمائر النائمة: الى متى ستبقون بلا محل من الاعراب؟.

***

د. محمد علي شاحوذ

 

يقول المنطق العقلي (ان الحق الذي لا يستند الى قوة تحميه باطل في شرع السياسة)، وهنا يتم ربط الحق بالقوة، وكأن القوة هي التي تعطي معنى للحق والحق بدون القوة لا شيء له في الاعتبار.. بيد ان الحق حتى لو كان بدون القوة يبقى حقا و(العدالة) إذا توفرت هي التي تحمي الحق دون حاجة لحماية القوة.. عندئذ، فأن إرادة القوة ستنحني أمام العدالة.. هذا المفهوم يتعارض مع المنطق العقلي.. ولكن، هل تنتهي ارادة القوة؟

دعونا نحلل معنى الحق، وهو مرتبط بالإمكانات وبالظروف الموضوعية.. وكما نرى أن فلسطين، حق للشعب الفلسطيني وحق للعرب وهذا الحق مغتصب ولا يزول، لأنه يرتبط بالعدالة فلو كان اليهود يؤمنون بالعدالة لتعايشو كأقلية مع الشعب الفلسطيني كأكثرية، ولكنهم لا يؤمنون بالعدالة بل يؤمنون بالقوة.. والقوة لا تمحي الحق، والحق لا يسقط بالتقادم.. والقوة ترتبط بالامكانات والظروف الموضوعية.

ولكن من يخلق الظروف الموضوعية ويحشد عناصر القوة من اجل التحرير؟ هي (إرادة القوة) وهذه الإرادة لا تقتصر على شعب فلسطين إنما تنسحب على العمق العربي.. فهل الفلسطينيون وحدهم، وهل معهم العمق العربي الموحد سياسيا وعسكريا؟، وهل هناك إرادة قوة عربية ؟ وهل يسقط الحق حين تضعف القوة أو تتراجع أو تعيش في حالة سبات؟

إذن، من يمتلك القوة ؟

الحكومات هي التي تمتلك (القوة) بجيوشها واسلحتها وحشودها.. ولكنها لا تمتلك (إرادة القوة).. ويبقى الحق معلقاً بين القوة وإرادة القوة ومن الصعب حسم هذه الاشكالية إلا بتحرير (ارادة القوة) لكي تنجز وظيفتها بدعم الحق الذي لا يسقط بالتقادم.

***

د. جودت صالح

25/7/2025

الخليفة: مَن يخلف غيره ويقوم مقامه، مَن ولي الإمامة العامة للمسلمين، الرئيس الأعلى لدولة الإسلام.

فكرة حكم تطورت مع الزمن لتصبح تعني نائب الله أو ممثل الله في الأرض، وهذا هو السبب الذي دفع بالخلفاء منذ الدولة الأموية إلى إنتهاج الحكم المطلق، وتسويغ سفك الدماء وقتل الأبرياء، لأنهم صاروا يتوهمون بأنهم ينفذون إرادة الله.

في فترة الخلفاء الراشدين كانت تعني القائد الذي جاء بعد الرسول ليقود دولة الإسلام فالدين دولة، وإمتزج فيها القائد السياسي والديني، وما تطورت إلى حد أن يكون الخليفة متماهيا مع الله كما حصل بعدها.

وقد وردت في آيات عديدة توصيفات النبي الكريم ومعناه، ومنها:

"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل...." آل عمران: 144

" ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيئ عليما" الأحزاب: 44

"...فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد" آل عمران: 20

"...إنما على الرسول البلاغ المبين" المائدة: 92

"مأ على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون" المائدة: 99

"فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين" النحل: 82

"لستَ عليهم يمصيطر" الغاشية: 22

"....وما أنا إلا نذير مبين" الأحقاف: 9

"قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي...."الكهف: 110

وفي جميع الآيات هناك فصل واضح بين النبي والرسول والرب، ولكل حدوده ودائرته التي يتحرك داخلها، فالرب مطلق وما دونه محدود ونسبي، وإرادة ما دونه نسبية، وإرادته متعالية ينفذها كما يشاء، لا كما يشاء عباده، أيا كانوا.

فكرة الخليفة تطورت، وإكتسبت قدسية وخصائص إلهية وهمية، فالخليفة يتوهم بأنه يمثل الله وينوب عنه في تنفيذ أمره بالعباد، فالظلم يبرَر بسخط الله على الضحية، والقتل إرادة الله التي ينفذها نائبه في الأرض، ولهذا إكتسب الخليفة معنى أكثر من نبي أو رسول، فهو سلطة إلهية مسلطة على الناس.

وسُخِّر الدين بأساليب متنوعة للفتك بالبشر، فالمعارض يقتل بتهمة دينية، وقميص (الزندقة) معروف، وقتِلَ الآلاف من الأبرياء بتلك التهمة.

وعندما نتصفح تأريخ الخلفاء، نكتشف بأنهم كانوا مستبدين ظالمين يسفكون الدماء، ويتخذون من الدين مطية لتنفيذ رغباتهم وتصوراتهم، ويحيط بهم جمهرة من الفقهاء المنافقين الدجالين المتاجرين بالدين.

وحياة الخلفاء قاسية دامية لكثرة مظالمهم، وسيادة إنفعالاتهم، وما يقترفونه بحق الرعية وأنفسهم، وهم المقدسون المهابون المطاعون الذين لا يخطئون، فالجميع لا يراهم بل يتخيلهم ويضفي عليهم ما ليس فيهم من الصفات، لأنهم قد خرجوا من كونهم بشرا، وتحولوا في الوعي الجمعي إلى آلهة.

والحقيقة أن الخلفاء بشر كأي البشر وفيهم من العاهات والإضطرابات السلوكية والنفسية ما لدى البشر، خصوصا عندما أصبحت الخلاقة وراثية، مما يعني أن الذي يأتي للخلافة قد يكون مصابا بأمراض، ولا يمتلك المهارات القيادية لإدارة دولة شاسعة الأطراف، وأنه في عمر مبكر، وبلا خبرات إجتماعية وثقافية وسياسية وغيرها، فيتحول إلى دمية بيد الحاشية التي تمرر تطلعاتها ورغباتها من خلاله، وترسم له صورة في أذهان الناس مغايرة لواقع حاله.

وقد لعب الشعراء دورهم السلبي في إظهار الخلفاء على غير ما هم عليه، لأنهم كانوا يتصورونهم ولا يرونهم على حقيقتهم، و يسقطون عليهم صورا متخيلة من نسج خيالهم المستجدي، الذي يبحث عن العطايا بأساليب تسولية مشينة.

فالشعراء في وصفهم أو مدحهم للخلفاء كانوا من أفظع الكذابين، لأنهم يتكسبون بشعرهم.

والحالة المحيّرة التي لا يتوقف عندها المؤرخون والفقهاء، أن القرآن واضح في وصفه للنبي الكريم، وما رفعه إلى درجات تخرجه من بشريته، ولم يمنحه صفات ذات معاني إلهية، فكيف تمكن الخلفاء من بعده الوصول إلى درجة النيابة عن الله في الأرض؟!!

مَن الذي أوصل الحالة إلى هذا المستوى من الوهم؟

وكيف تحقق توارثها وتطويرها حتى صارت وهما لذيذا، نتمتع به في أنظمة حكمنا العتيدة المعاصرة، التي تحول فيها الكرسي إلى ممثل للرب؟!!

***

د. صادق السامرائي

براءة الأطفال في السلوك قد تدفع إلى ما لا تحمد عقباه في زمن تتعقد فيه الأمور وتسوء الأحوال، وقد سمع شاب بما يسمى " مسابقة القادسية للرواية"، وكانت في دائرة الشؤون الثقافية في شارع الجمهورية، وزمانها ثمانينيات القرن العشرين، أثناء الحرب العراقية الإيرانية.

فكتب صاحبنا رواية، وذهب إلى باب المعظم لعمل أربعة نسخ منها، وقدمها للمسابقة، لكنها لم تفز، وكرر المشاركة في المسابقة الثانية، والثالثة، والرابعة، ولم تفز أي من رواياته الأربعة!!

فذهب غاضبا متحمسا إلى تلك الدائرة، وإلتقاه سكرتيرها، فباغته غاضبا: كيف لا تفز ولا رواية من رواياتي، وأنتم تعلنون فوز روايات باهتة لا قيمة لها ولا معنى، وهي عبارة عن أكاذيب مسطورة بلغة ركيكة!!

حدق السكرتير بوجهه مندهشا، وتردد في الجواب، ثم ترك كرسيه، واقترب منه وهمس بأذنيه.

- لو لم يكن قريبك فلان الفلاني صديقي، لإنتهيت إلى الأمن!!

- أنت تكتب عن حالات إنسانية، والمطلوب أدب معركة!!

- أ تعرف ما معنى أدب المعركة؟!!

وقف متسمرا ومذهولا ومرعوبا، لكنه إستعاد رباطة جأشه وقال:

- كيف تقوز رواية تتحدث عن جندي يرقص فرحا للموت، أ هذا يتطابق مع السلوك البشري؟!

إشتاط السكرتير غضبا، وكأنه هم بطرده من المكتب، لكنه عاد وقال:

- أرجو أن تفهم معنى أدب المعركة!!

إحتار صاحبنا في الأمر، وقال:

- لن أشترك بعد اليوم في هذه المسابقة فلا جدوى من ورائها!!

وأضاف:

بودي أن أطلع على رأي لجنة التحكيم بما قدمته لهم

فذهب السكرتير إلى داخل الدائرة وجلب إحدى الروايات وكان مكتوبا عليها " الكاتب يمتلك طاقة إبداعية تفيده مستقبلا"، والتوقيع جبرا إبراهيم جبرا

أخذ الرواية، وغنم بهذا الرأي الذي مضى يتأمله طويلا.

وغادر الدائرة وهو يتلفت يمنة ويسرى ولا يدري كيف سار في شارع الجمهورية، وفي رأسه تتردد عبارة أدب المعركة!!

لعن الرواية وكتابتها، وقرر أن لا يعود إليها بعد اليوم، فكل شيئ بحاجة إلى سوق، ومعظم الأدب للنفاق والدجل والمتاجرة، ومن الصعب أن يكون الكاتب حرا، ولهذا قرر صاحبنا الصمت!!

وأدرك أن الأحرار منبوذون، والرقص على إيقاع الجموع الهادرة بما لا تعنيه، هو الطريق نحو الحياة في مستنقعات التضليل والنفاق.

ومضى يتساءل عن أسرار دفن الحقائق في جثامين الأبرياء المغفلين!!

أضاليل بها الأجيال فازتْ

تغفلها وفي وهمٍ تداعتْ

قواها من بديع الخوفِ تُسقى

وإن نطقتْ بحقٍ إسْتراعتْ

فلن تحيا شعوبٌ في قطيعٍ

إذا غُنِمتْ بعدوانٍ تثاغتْ

تَشابهتِ الحواضرُ والغوادي

كأنّ سُراتها فيها تواصتْ

***

د. صادق السامرائي

 

الاغلبية المطلقة من دول العالم تحتاج الى ان تمتلك ارصدة بالعملات الصعبة (القابلة للتحويل) لكي تستطيع الانخراط في عمليات التبادل التجاري الدولية.

السبب هو ان المصدّرين لتلك الدول يحتاجون الى الاطمئنان لضمان استلام مبالغ صادراتهم الى تلك الدولة. لذلك ترسل الدولة المستوردة رسالة اعتماد الى المصدّر لضمان تسديد مبالغه. ويقوم المصدّر بارسال تلك الرسالة الى البنك الذي توجد فيه ارصدة الدولة المستوردة والذي يقوم بدوره بابلاغ المصدّر بتوفر المبلغ وانه قام بحجزه لصالحهم وتحويله عند اتمام عملية التصدير.

لكن لو ارادت دولة مثل الولايات المتحدة (صاحبة الدولار) او بريطانيا (صاحبة الباوند) او احدى الدول الاوربية (صاحبة اليورو) او اليابان (صاحبة الين) ان تستورد، فهل سوف يطالبها المصدّر ببيان ارصدتها بالعملات الصعبة؟؟

الجواب هو لا، بالطبع، لان عملاتها الوطنية هي عملات صعبة وقابلة للتحويل في كل العالم ومقبولة ومأمونة !!

الدول الأخرى تحتفظ بعملات تلك الدول المختارة كارصدة، فلماذا تحتفظ هي بعملات اجنبية كأرصدة؟؟

هذه ميزة عظيمة تمتلكها تلك الدول وتقاتل بشراسة للحفاظ عليها... هذه الميزة تم منحها للولايات المتحدة (الدولار) في اتفاقيات برتن وودز في الاربعينيات بعد انتها الحرب العالمية الثانية ودمار معظم اقتصاديات العالم ماعدا الاقتصاد الامريكي الذي ازدهر بسبب ازدهار الانتاج بكل اشكاله لتغذية آلة الحرب. لكن كانت هنالك مخاوف من استغلال تلك الميزة والتوسع في طبع الدولار. لكن الولايات المتحدة تعهدت باحترام قواعد الرصانة النقدية اضافة الى كونها كانت الدولة الاقوى المهيمنة على العالم الغربي الذي كان ينتظر العون الامريكي لاعادة البناء.

في سنوات لاحقة خشي الاقتصادي الامريكي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، ميلتون فريدمان، من استغلال هذه الفرصة والذهاب الى الطباعة تحت ضغوط العجز ودعا الى تعديل الدستور الامريكي واضافة مادة تحرّم طبع العملة لكنه لم ينجح بالطبع.

في وقتنا الحالي بدأ التذمر يتصاعد بين دول العالم من هذا الوضع الذي يجعل تلك الدول المختارة قادرة على شراء موارد حقيقية مقابل اوراق تطبعا بسهولة (والآن لايحتاجون الى الطباعة بل الى الاصدار النقدي الكترونياً وتداول ارصدة وتحويلات على الهواء دون وساطة عملات نقدية خاصة مع انخفاض حصة العملة في التداول من عرض النقد الكلي الى نسب متدنية جداً والاعتماد على التداول الالكتروني).

دول صاعدة بقوة مثل الصين وروسيا والهند ترفض استمرار هذا الوضع وبدأت بخطوات بهذا الاتجاه منها التبادل التجاري فيما بينها بعملاتها المحلية (يوان وروبل وروبية) واستبعاد عملات الدول الغربية من ذلك التبادل . ومنها اصرار روسيا على تسديد قيمة مبيعاتها من النفط والغاز الى بعض الدول بالروبل وذلك لاجبارها على طلب الروبل  واضافته الى احتياطياتها لكي تستخدمه في التسديد الى روسيا...

بعض الصراعات والتوترات بين الدول الكبرى قد يكون لها وجه سياسي او عسكري او ايديولوجي، لكن جوهرها هو الصراع الاقتصادي..

الغرب المهيمن صاحب العملات القابلة للتحويل يرفض الاعتراف ببروز حقائق جديدة وقوى جديدة. ذلك السلوك وهذه النزعة من الدول الغربية ومن الدول الناشئة تهدد السلم العالمي.

***

د. صلاح حزام

هل الأرض لوحدها مأهولة؟

تساؤل داعب أذهان البشر منذ الأول، وأحاطته أعاصير الغيوب، وتمخضت عن عقائد وتصورات ما إنقطع تيارها.

الكون فيه ما لا يُحصى من المجموعات الشمسية، ولا يُعقل أن تكون الأرض لوحدها مأهولة، بل ربما توجد آلاف أو ملايين الأجرام الكونية المأهولة.

ترى ما هي المخلوقات التي تتوطنها؟

وهل هي صاحبة ذكاء فائق؟

وهل لديها القدرة على التواصل مع بعض البشر؟

هلاوس وأوهام وتفاعلات ذهنية عجيبة، تقصر عقولنا عن فهمها، ونخوّل لأنفسنا توصيفها كما نرى ونستطيع، فهل ما نقوم به صحيح؟

الأدلة التأريخية وما كشفته الحفريات ورسائل الأقدمين، تخبرنا عن وجود تواصل بين مخلوقات كونية في أجرام بعيدة ، وربما بلغت درجات فائقة من الرقي وتفاعلت معنا، أو جاءت ببعضنا من مواطنها، فكما يفكر بعضنا بإستعمار المريخ، ربما تلك الأقوام قررت إستعمار الأرض بعد أن وجدتها صالحة للحياة.

ويُقال أن هناك أدلة لا يجوز الكشف عنها لأنها ستقلب الحياة رأسا على عقب، وستفند الكثير من الأوهام، وستضع البشر أمام مصير مرعب وخطير، فلكي يتحقق الشعور بالسكينة والتوهم بالمعرفة والإدراك، على الدنيا أن تسير على سكتها التي إعتادت عليها.

والمشكلة أن التطورات العلمية ستفرض نفسها، وستنطلق حقائقها وإكتشافاتها عندما تفيض وتنتصر على المعوقين لظهورها وإنتشارها.

فهل نحن مقبلون على حياة أرضية مرعبة، خالية مما كنا نراه؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

يأتي الفكر أحيانًا كعاصفة. خليط من المشاعر والأفكار والذكريات التي تتلاطم في أذهاننا، فتتركنا في حالة من الفوضى والارتباك. في هذه اللحظات، نميل إلى الثقة بـ"عفويتنا" أو "حدسنا"، ونأمل أن يقودنا هذا التيار العشوائي إلى بر الأمان. نعتقد أن الحرية تكمن في ترك أفكارنا تجري بلا قيود، كحصان بري في سهل واسع.

لكن هذه العفوية غالبًا ما تكون وهمًا. فالحصان البري لا يجري بحرية مطلقة، بل يتبع مسارات حفرتها العادة والخوف والغريزة. وعقولنا التلقائية ليست صفحة بيضاء نقية، بل هي ورشة قديمة مليئة بغبار التحيزات الموروثة، وصدأ الأفكار المسبقة، وفوضى العادات الذهنية الكسولة. أن نثق بها ثقة عمياء هو أن نسمح لهذه الفوضى بأن تبني لنا حياتنا.

الثورة الحقيقية في الفكر تبدأ عندما نقرر أن نكون مهندسي عقولنا، لا مجرد سكان عشوائيين فيها. أن ندرك أن المنهج ليس قيدًا على الحرية، بل هو الأداة التي تصنع الحرية الحقيقية. إنه يشبه تنظيف الورشة وترتيبها قبل البدء في أي عمل فني عظيم. المنهج هو الذي يحررنا من طغيان أنفسنا الخفية.

تخيل بنّاءين كُلفا ببناء منزل. الأول، معتمدًا على عفويته، بدأ يضع الحجارة فوق بعضها بحماس، مسترشدًا بشعوره اللحظي. أما الثاني، فتوقف أولاً، ورسم مخططًا دقيقًا، وحدد الأساسات، وفكك المهمة إلى خطوات واضحة. في النهاية، كان منزل الأول جميلاً في بعض زواياه، لكنه كان مائلاً وغير آمن. أما منزل الثاني، فقد كان صلبًا ومتناغمًا وقادرًا على الصمود في وجه العواصف.

أن تفكر تفكيرًا حقيقيًا يعني أن تمتلك الشجاعة لتطبيق هذا الانضباط الهندسي على عالمك الداخلي. أن تحدد مشاكلك بدقة، وتفككها إلى عناصرها البسيطة، ثم تعيد بناء الحل خطوة بخطوة، دون القفز إلى النتائج. هذا ليس قتلًا للإبداع، بل هو خلق للظروف التي تسمح للإبداع الحقيقي بالظهور.

"لا تثق بعفويتك ثقة عمياء، بل كن مهندس منهجك. عقلك التلقائي ليس صفحة بيضاء، بل هو أرض مليئة بالتحيزات الخفية. لكي تفكر بحرية حقيقية، عليك أن تبني ورشة منهجية داخله. قبل أن تبدأ أي مشروع فكري، مارس 'هندسة التفكير': حدد المشكلة بدقة، فككها إلى أبسط أجزائها، أعد بناء الحل خطوة بخطوة. هذا الانضباط ليس قيدًا، بل هو الأداة التي تحررك من سجن أوهامك."

***

مرتضى السلامي

 

في المثقف اليوم