أقلام حرة

الطيب النقر: العيد...

الشيء المؤكد أني لا ألتفت إلى العيد، ولا أحفل به، هذه هي الحقيقة التي لا تقبل شكاً أو جدالاً عندي، لم تعد نفسي تخضع لسلطانه، بعد أن باتت فتنته مقبورة في المساجد والبيوت التي نطوف بها على عجل، لم يعد العيد يؤثر في نفسي تأثيراً عميقاً كما كان يفعل في الماضي البعيد، لقد تغيرت نظرتي للعيد، ولم تعد تلك النظرة التي أعرفها له من قبل، لقد كانت نظرة تمتاز بوقع خاص في دواخلي، لم يعد لتلك النظرة بريقها الذي ينفذ إلى قلبي، ويسيطر على عقلي، ويستأثر بثنايا نفسي، وفي الحق   لم أظن  أنه سيأتي عليّ يوماً قريباً أو بعيد تتغير فيه نظرتي تلك إلى العيد، لقد أمسى يوم العيد عندي كسائر الأيام التي قد أعرف فيها الرضى والسخط، وأعرف فيها الابتهاج والاكتئاب، بل قد يمر عليّ يوم العيد وأنا بائسا يائساً مغرق النفس، مكلوم الفؤاد، وليس في الأمر غرابة، ولا أخال أن الأمر قاصراً على شخصي الهزيل، فما ينتابني ينتاب غيري من الناس، فالناس- كل الناس- ودعوني أظهركم على حقائق قد تعرفونها ولكنكم لا تلتفتوا إليها أو تقفون عندها، الناس بعد أن يلموا بالمساجد، ويعكفوا على بيوت جيرانهم وأقاربهم، وينفقوا فيها وقتاً قصيراً أو طويل، يمضون بياض أيامهم، وسواد لياليهم في كسل وتراخي، حتى تنقضي أيام العطلة التي تزدريها المرافق الخاصة ويتطلع إليها العامة، لأنها تتيح لهم التوسع في الدعة والتواني، إذن العيد هو من فتح الباب لهذه الإجازة، ومهد لها طريقها، وأتاح للناس فرصة قلما تتاح لهم، إذن الكبار من الناس شغفوفين بالعيد لأنهم استيقنوا بعقلولهم وأفئدتهم، أن العيد أقصى ما يطمحون إليه فيه أن يهرعوا إلى أسرتهم ومخادعهم، بعد أن تنقضي مراسمة فيلازمونها اشفاقاً من ألا تتاح لهم فرصة أخرى قريبة تجعلهم يبلغوا منها منازل الرضا والحبور.

لم يعد العيد يملأ نفوسنا غبطة، وقلوبنا سعادة، مثلما كان يفعل ونحن في ميعة الصبا، وبواكير الشباب، لقد كان العيد ونحن في تلك السن يمتعنا بأريحيته وفكاهته، لقد كان العيد يسعدنا حقاً دون أن يكلفنا في ذلك مشقةً أو جهداً، لقد كنا نستطيع ونحن في تلك المرحلة العمرية أن نصرف لحظاته كما نحب ونهوى، لأن عواطفنا الجياشة لم يكن هناك شيئاً يدعوها إلى التحفظ والاحتياط، لقد كنا نتخذ من العيد مثلاً وأنموذجاً للمتعة التي لم يكن يعوقنا عنها عائق، لقد كانت كل أيام العيد ثراءً وخصبا، لأن حياتنا في تلك الحقبة لم تكن تعرف اضطراب النفوس وهلعها من الغد، وما يحمله هذا الغد من صعوبات وتعقيد، كنا نعشق العيد وأيامه لأن هناك يداً حانية تغدق علينا، ومهجاً حادبة لا تضيق ذرعاً بحركاتنا، كنت أحب العيد لأن العيد في أروع صوره، وأقوى مظاهره، يتمحور في شخص والدي الذي يقهر المشقات، ويذلل العقبات، وييسر ما لم يكن سبيل إلى تيسيره من أجلي، لأجل ذلك كنت أدب في هذه البسيطة دون خوف أو تردد، كانت أيام العيد هانئة لا تعقبها مرارة،  لأن طيف أمي حاضراً لم يزول، أمي  طاهرة الذيل، نقية الضمير، جوهر حياتي الذي انقضت عهوده ليثير في القلب ذلك الحزن الباق، والأسى المقيم، لم أنكر فرحة العيد، وارتاب فيها، وأنفر منها، إلا بعد أن غاصت بشاشتها، وملامحها الوادعة بعد أن اشتدت على نفسي الأزمات، وأخذتها الخطوب، برحيل حانية انفقت كل جهدها، وأفنت كل عمرها، من أجل آخر العنقود فتاها المدلل، حتى لا تمضي وتيرة حياته متباطئة متثاقلة.

لم يعد بيني وبين فرحة العيد ونشوته حجباً صفاقا، وأستاراً كثافة إلا بعد أن رحل من يمنحوه فضلاً من قوة، وأرتالاً من حنان، وكثيراً من عطف. رحم الله من صاغوا حياتي ونضروا لي أعيادها.

***

د. الطيب النقر

 

في المثقف اليوم