أقلام حرة

سجاد مصطفى: تشريح إبستمولوجي للعقل الأكاديمي المزيّف

إن أخطر ما يهدد الفكر، ليس الجهل الصريح، بل المعرفة الزائفة التي ترتدي عباءة العقل، وتندس في مراكز البحث كداءٍ مزمنٍ لا يُكشف بسهولة. نحن اليوم أمام ظاهرة مرعبة: باحثون يملكون كل أدوات التزييف، ولا يملكون أداةً واحدةً للفهم.

إنني لا أكتب هذه الكلمات من باب النقد، بل من باب التشريح. فالسكين التي تُشرّح الجثة، لا تشتمها، لكنها تُظهر ما في داخلها من عفن. وهؤلاء الباحثون – أو قل المتقمصون للبحث – هم جثث فكرية تتحرك على أقدام الورق، ولا تحمل في عقولها سوى ضوضاء صمّاء.

لقد قلتُ ذات مرة: إنّ الفكر ليس تراكماً، بل اشتعال؛ والبحث ليس تلخيصاً، بل اختراق.

لكن الباحث الزائف لا يخترق شيئاً، بل يدور في حلقة مفرغة من النصوص، كأعمى يتحدث عن الألوان. يرصّ المفاهيم رصاً، كما تُرصّ الحجارة في سورٍ بلا باب، ثم يزعم أنه بنى علماً

هو لا يُنتج فكرة، ولا يهدم يقيناً، ولا يسائل مسلّمة. إنه يعيش في استقرار الجهل، حيث لا أسئلة تُزعجه، ولا تناقضات تُؤرقه، ولا هوّة تُرعبه. إنه في سلامٍ تافه مع نفسه، لذلك لا يخطو خطوةً واحدة نحو الحقيقة، لأن الحقيقة لا تُمنح إلا لمن تمزّقه أسئلته

قال نيتشه: أشد الناس خطراً على الفكر، هم أولئك الذين يملكون نصف فكرة ويظنون أنهم فلاسفة

وهؤلاء الباحثون الغافلون لا يملكون حتى ربع فكرة، لكنهم يغرقون القاعات بندواتهم، والورق ببحوثهم، والمؤسسات بخداعهم. هم أعداء الوعي المقنّعون، جنود الرداءة الذين يرفعون لواء الأكاديمية بينما هم لا يتقنون حتى التفكير المنهجي

وأقولها الآن بقلمي الذي لا يعرف التراجع: ليس كل مَن كتب بحثاً صار باحثاً، كما أن ليس كل من ارتدى تاجاً صار ملكاً؛ فالقيمة لا تُمنح، بل تُنتزع بشجاعة العقل وعرق السؤال

فليعد كل من يظن نفسه باحثاً إلى مرآة وعيه، وليتأمل: هل سؤاله أصيل؟ هل وجعه حقيقي؟ هل بحثه يضيف للمعرفة أم يسرق من وقت القارئ؟ فإن لم يجد جواباً، فليعلم أنه لم يكن يوماً باحثاً، بل كان ظلّاً لجملة منقولة، ووهمًا يرتدي معطف التقدير.

***

سجاد مصطفى حمود

في المثقف اليوم