أقلام حرة

شاكر عبد موسى: ثقافة القرية تتسلل إلى المدينة

يشير مفهوم المدينة إلى مساحة أكبر من القرية وتتميز بوجود مجتمع حضري متطور، من جهة أخرى، فإن الكثافة السكانية وحجم المساحة ليست معايير كافية لتمييز المدن عن القرى من وجهة نظر وظيفية.

على سبيل المثال، يعتبر تقسيم العمل أحد العوامل المميزة التي تفصل بين العواصم والقرى الصغيرة. ويرتبط مفهوم "القرية" و"المدينة" بوصف الحياة الريفية والحضرية على التوالي، ويستخدم مصطلح "المدينة" لوصف العيش في بيئة حضرية، ويتباين الفرق بين الاثنين من خلال عدد الأشخاص الذين يعيشون في بيئة حضرية.

وتكون القرى أصغر من المدن. وعلى العكس، تتميز القرى بنمو سريع للموارد الطبيعية مقارنة بالمدن، بينما تتميز المدن باستغلال كامل للعناصر البيئية الطبيعية في عملية التحضر.

ومن المعروف أن أهل القرى يفضلون حياة الخشونة والتعب والعنف، ويتجاهلون حياة الرخاء والسلام والتنمية.

بعد عام /2003، تم السماح لسكان القرى والأرياف بالسكن في العاصمة بغداد والأنتقال بين المدن العراقية بما فيها أقليم كردستان العراق شبه المستقل عن العراق، فاستوطنت الغالبية الفقيرة منهم الأراضي الحكومية المخصصة في الأصل للمساحات الخضراء أو لبناء المدارس أو المعسكرات والدوائر الحكومية المنحلة، والتي أطلق عليها اسم "حواسم".

 توجهت مجموعات أخرى من النازحين إلى أطراف المدن بحثًا عن فرص أفضل للعيش وللهروب من البيئات الريفية القاسية التي تضررت بسبب تجاهل التنمية في عهد النظام السابق، مما أجبرهم على ترك الزراعة وتربية الحيوانات وصيد الأسماك والطيور المهاجرة، والتوجه نحو الوظائف الحكومية المدنية والعسكرية.

وخلافًا لما حدث في أوروبا، حيث انتقل الناس تدريجيًا من الريف إلى المدن بسبب انخفاض الحاجة إلى العمل في الريف وازدهار الاقتصاد الحضري، فإن النازحين في هذه الحالة لم ينتقلوا بشكل تدريجي، بل كان الانتقال سريعًا وغير مخطط له.

كما أن أولئك الذين انتقلوا إلى أطراف المدن أحضروا معهم قيمًا تقليدية أضعفت القيم الحضرية التي كانت موجودة مسبقًا واستبدلتها، مما زاد من التعقيدات. وأصبح الوضع أكثر تعقيدًا عندما وصل سكان الريف إلى مناصب السلطة في العاصمة بغداد وإدارة المحافظات، تحت مظلة البرلمان المنتخب والسلطات التنفيذية ومجالس المحافظات.

في أوقات الأزمات، تتطلب قوة سكان الريف كل قيم الريف ومشاعره المتعصبة، ويحيط بهم السكان القبليون والمحليون ويتجاهلون كافة مسؤوليات المدينة ويضيع حلم التنمية.

ويعاني سكان الريف من الطرق والمصانع ذات الأداء الضعيف (على الرغم من الدعاية الحكومية، فإن معظم المصانع الريفية غير مربحة وعديمة الفائدة، وتعتمد على مساعدات الدولة، أو تحاول المنافسة في السوق من خلال منع الواردات من المنتجات المماثلة، حتى لو ادعى بعض الناس ذلك).

من العوامل التي شجعتهم على ذلك هو الانتخاب المباشر للمحافظ وبعض أعضاء مجلس المحافظة منهم، مما زاد الطين بلة، حيث انتشر العنف داخل المدينة وتضاءلت روابط المحبة والسلام والثقافة المجتمعية، بالإضافة إلى انتشار المخدرات.

كما أن أصحاب السلطة الريفية هؤلاء يتلقون دعمًا كبيرًا من أهل المدينة الذين ينتمون إلى كتلهم السياسية أو الحزبية، رغم أن معظمهم لا يتجاوزون كونهم مجموعة من الحاصلين على شهادات دراسية في العلوم الدينية ومن عديمي الخبرة والفائدة.

ونتيجة لذلك، انتشر العنف والجريمة المنظمة في المدينة، وتضررت الثقافة وانخفض مستوى التعليم وتدهور الذوق العام، كما انتشرت الأسلحة والإطلاق العشوائي للرصاص، وأصبح امتلاك السلاح غير المرخص شائعًا، حتى أن محاولة مصادرة الأسلحة منهم تتعارض مع عقلية القرويين العراقيين الذين يرون في ذلك خوفًا واستسلامًا، آذ يعتبرون أن امتلاك السلاح يؤكد وجودهم في المدينة. وهكذا، يسعون إلى السيطرة على المدينة والسلطة ويشترون كل شيء من خلالها.

وفي الوقت الحاضر، معظم سائقي العربات الصغيرة (تكتك) في مدينتي هم من أبناء الريف، فإذا طلبت من أحدهم أن يوصلك إلى مكان ما، فإنه يقول لك: "أرشدني إليه".

***

شاكر عبد موسى/ كاتب وأعلامي

في المثقف اليوم