أقلام حرة

محمد سعد: خذلتني النخبة.. وعلّمتني الصفعة

خذلتني النخبة التي ظننتها ذات يوم عماد التغيير، فإذا بهم عشّاق "اللقطة"، أسرى "ثقافة الفرجة"، يبيعون الكلمات في أسواق الشهرة، ويتقدّمون الصفوف لا لأنهم أهلها، بل لأن الكاميرا كانت هناك. خذلتني التجربة، وأخجلني أن أعرض ما تبقّى من وجعي في مجتمعٍ أصمّ، لا يسمع سوى صدى صوته، يصفّق لمن يصرخ أكثر لا لمن يصدق أكثر.

كنت أظن أننا نحمل معًا القضية ذاتها، فإذا بنا نبيعها عند أوّل صعودٍ، أو نُسكتها إذا تعارضت مع المصلحة أو الأنا. كلّما نظرت حولي، وجدت البطولة مجرّد استعراض، والشعارات تُغنّى ولا تُمارس. كم من مرّةٍ حاولتُ أن أصرخ، أن أُشير إلى الخراب، فوجدتني كمن يتحدّث إلى الطرشان في ميدان صاخب، يضحكون، يلتقطون صورة، ثمّ يمضون.

خذلتني "النخبة" كما خذل الزمن رجالاً صدقوا، وسقطوا دون أن يصفّق لهم أحد. لكنّني تذكّرت "صفعة الأم"، لا تلك التي توجع، بل التي توقظ. تذكّرت كيف يمكن ليدٍ واحدةٍ أن تُعيد إنسانًا من حافة الانهيار، وتمنعه من السقوط في العدم. هناك، في الزنزانة أو الحفرة أو قاع النفس، لا تنفع الكتب ولا الخطب، بل يدٌ تقول لك: انهض، لست وحدك، ولا يليق بك الانكسار.

أنا كاتب في قرية، أعيش على هامش المدن وأسواق العواصم، لا أملك سوى الكلمات سلاحًا، والدفاتر وطنًا، ومع ذلك صرخت... لا من أجل مجدي، بل لأجل من غرقوا في الصمت. لكن لم أجد من يُنصت، لم أجد سوى صدى صوتي يرتدّ إليّ في بلاد الطرشان. كتبت عن الخبز، والظلم، وعن أرملة تنتظر معاشًا، وعن طفلٍ لا يجد دواء، وعن وطنٍ يُباع بالتقسيط، لكن الردّ كان التجاهل أو التشكيك أو الابتسامة الباردة.

تعلمت من السجناء الحقيقيين، لا أولئك الذين يدّعون الاعتقال على "تويتر"، كيف يُبنى العقل ليصمد أمام التعذيب، وكيف تُقاوم الهزيمة بالشعر والصمت، لا بالشعارات الفارغة. رأيت كيف يمكن لإنسانٍ أن يكون رئيسًا بلا قصر، وبطلًا بلا موكب، وناجيًا بلا حقد.

الصفعة ليست إهانة، بل امتحان. والنخبة ليست من يصرخ في المنصّات، بل من يهمس في الخفاء ليصنع شيئًا. والحرية، ليست أن تقول ما تشاء، بل أن تبقى وفيًا لما كنت تؤمن به حين كنت وحيدًا.

اليوم، حين يسألني أحدهم: لماذا لا تنتقم..؟ أقول: لأنّني أرفض أن أبقى سجينًا للخذلان. وحين يسألون: لماذا لم تتسلّق مثلهم..؟ أقول: لأنّني ما زلت أؤمن أنّ الطين أطهر من الذهب إذا التصق به ضمير.

سأمضي، وقد لا أملك شيئًا سوى ظلّ هذه الصفعة، وصفاء هذا الحزن، وذاك الصوت الخافت في داخلي: "لن يأخذوا مني ما لا أمنحه".،،!!

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث

في المثقف اليوم