أقلام حرة
نهاد الحديثي: الحسد.. الثقافة والمعتقد

العين البشرية عندما تراقب الأشياء على اختلافها فإنها تغير في خصائصها وتقلل من تأثيرها، ولا يختلف في ذلك كونها فوتونات أو إلكترونات أو ذرات، أو حتى كتلة من مادة، وما سبق يؤكد كلام الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام من أن العين حق تأخذ حقها من الحجر، وبالتالي فالقول إن الشخص معيون أو محسود لا يدخل في دائرة الأساطير أو الهلاوس مثلما يعتقد بعض المشككين، والصحيح أنه ينطوي على حقائق متماسكة من الناحية العلمية، وثبت بالتجربة أن مراقبة الشخص لأي شيء تحرفه عن مساره، وهو المبدأ الذي تسير عليه (ميكانيكا الكم)، ومعه نظريات حديثة، تعتقد بقدرة الناس على تغيير مسار النجوم بمجرد مراقبتها لا أكثر
العين والحسد موجودان في كل الثقافات والمعتقدات، ورفضها وقبولها يتفاوت بين الناس، وأحياناً في الثقافة الواحدة، وبخلاف المعروف عنهما في الإسلام، فإنهما يعتبران من الخطايا السبع المميتة في الديانة المسيحية، والشاعر والفيلسوف الإيطالي (دانتي اليغيري) قام في القرن الرابع عشر الميلادي بكتابة ثلاثية شعرية عن الخطايا التي تؤدي بالشخص إلى الجحيم، ومن بينها الحسد، وذكر أن العقوبة التي تقع على الحسدة تتمثل في خياطة أعينهم بخيوط حديدية، وأنهم يرتدون ملابس ممزقة، ويسيرون بخطوات متثاقلة نحو الفردوس أو الجنة
كتب الفقيه الإسلامي أبو الليث السمرقندي في مؤلفه (تنبيه الغافلين) أن الحاسد تصله عقوبات قبل وصول حسده إلى المحسود، وأنها تظهر في شكل غم لا ينقطع، ومصيبة لا يؤجر عليها، ومذمة لا يحمد عليها، وفي سخط الله عليه، وإغلاق باب التوفيق أمامه، كما أن التحصين ضد العين عند المسلمين تصرف شائع؛ فبدلًا من التعبير بالإعجاب المباشر بطفل جميل مثلاً، من المعتاد قول " ماشاءالله" وهذا يعني "هذه إرادة الله" أو ذكر اسم الله على الشيء أو الشخص الذي تعبر عن إعجابك به. وقد كان هناك إيمان كبير بالعين الحسودة في الديانات القديمة منذ الأزل، وقد كان يتم استخدام التعاويذ والطلاسم كوسيلة للحماية من العين آنذاك. و بالرغم من غياب مفهوم اللعنة الحاصلة من خلال التحديق غائبة إلى حد كبير في شرق آسيا ومجتمعات جنوب شرق آسيا، فإن لعنة يوزوق تَستثنى في الفلبين. وحيث أن ذوي العيون الفاتحة في إقليم إيجة والمناطق الأخرى نادروا الوجود نسبيآ،
وعلماء النفس والفلاسفة ينظرون إلى المسألة بذات الطريقة، ولكنهم يستخدمون مصطلحاتهم الخاصة كالإحباط والقلق والاكتئاب والشعور بالدونية وفقدان الثقة، ومعها الإحساس بالتوتر المستمر عالم النفس (ريتشارد سميث) طور مقياسًا للحسد أسماه (مقياس سميث للحسد)، ووضع فيه ثمانية أبعاد تضمنت: الشعور بالدونية، والعداء، والاستياء، والرغبة في الإضرار، والمقارنة الاجتماعية، والشعور بالعدالة، والاستياء من الذات، والرغبة في تحسينها ,, سيغموند فرويد، تعامل مع الحسد بوصفه جزءا من علم النفس البشري، ولكنه أحاله إلى الأمور الجنسية، كعادته في تفسير السلوكيات الإنسانية، وخرج بما أسماه (حسد المنطقة الخاصة بالرجل)، فهو يرى أن الحسد مسألة عضوية تولد مع المرأة، في صورة اعتراض على عدم اكتمالها، وامتلاكها لعضو تناسلي خارجي يماثل ما عند الرجل، ورأيه وجد معارضة واسعة، وفي رأي أرسطو الحسد غير ملموس في العالم المادي، ولكنه يوصل إلى الأفعال السيئة الملموسة، كالعنصرية وجرائم الكراهية والتآمر على الناجحين
العجيب أن بعض المختصين يرى أن الأشياء الجافة وغير الرطبة معرضة للحسد، وأنه من المهم جعل كل ما يهم الشخص في حالة رطبة، وهذا الكلام موجود في الرقية الشرعية الإسلامية، وفي دولة أرمينيا، حيث يقوم الناس بالبصق على كل من يشعرون بالحب أو الحسد نحوهم، وفي المقابل، قدم العالم (روبرت شيلدرك) وجهة نظر مختلفة حول العين والحسد، وفي رأيه، الكائنات الحية إجمالاً محاطة بطاقة كهرومغناطيسية تحميها من الحساد وسهام العين، ولكنها لا تنجح إلا في الحالات البسيطة، كالإعجاب والتعلق الخفيف، أما إذا زادت الحالة عن هذا الحد فإنها تحدث عند الشخص تكيفا نفسيا وعقليا، يجعله قادراً على التركيز العالي في الشيء محل الإعجاب، وبصورة تعطيه طاقة نفس حركية، يمكنها اختراق الطاقة الكهرومغناطيسية، ما يؤثر سلباً في الشخص المستهدف، وقد يأتي التأثير في صورة تعب أو مرض وربما تسبب في الوفاة
تشهد كمية الأدلة الأثرية والأدبية على أن الاعتقاد بالعين الحسودة في منطقة البحر الأبيض المتوسط الشرقي انتشر من آلاف السنين بدءا من هسيود، كاليماخوس، أفلاطون، ديودوروس سيكولوس، ثيوكريتوس، بلوتارخ، هيليودورس، بليني الأكبر وألوس قاليوس. وفي كتاب «الإغريق والحسد» (1978) أشار المؤلف بيتر والكوت إلى أكثر من مائة من أعمال هؤلاء المؤلفين والتي تتحدث عن العين الحسودة. كما أن دراسة هذه المصادر الموثقة من أجل الكتابة عن هذه العين لا يؤدي إلا إلى رؤية جزئية للموضوع، سواء كانت تمثل الفلولكلورية، اللاهوتية، الطراز التقليدي أو الأنثروبولوجية المتبعة لفهم عين الشيطان. في حين إتجه هذه المناهج المختلفة إلى التزود بمراجع شبيهة، تقدم كل منها استخدامات مختلفة لعين الحسد ويستند الخوف من هذه العين على الاعتقاد بأن بعض الأشخاص تتميز نظرة أعينهم بالقدرة على إصابة الآخرين أو حتى قتلهم بقصد أو بغير قصد.
يستند الإيمان بالعين الحسودة خلال العصور القديمة على الأدلة من المصادر الأثرية مثل: أرستوفان وأثينايس وبلاترش وهيلودرس. وقد ذكر تفسير بلاترش العلمي أن العين كانت المصدر الرئيسي إن لم تكن الوحيدة للأشعة المميتة التي تنطلق كالأسهم المسمومة من عين الحاسد. فقد كان هذا التفسير العلمي للعين الحسودة شائعًا في الفترة اليونانية-الرومانية. وقد تعامل مع ظاهرة العين الحسودة كمصدر للتعجب وسبب في التشكيك لا يمكن تفسيره. وقد تعدد الإيمان بالعين الحسودة خلال العصور القديمة في مختلف المناطق والفترات. فلم يكن حجم الخوف من العين متساويًا في كل زوايا الإمبراطورية الرومانية. كانت هناك مناطق حيث يشعر الناس فيها بخوف أكثر تجاه خطورة العين. وفي الأيام الرومانية لم يكن الأفراد وحدهم هم من يستطيعون الإصابة بالعين، وإنما القبائل ككل، ولا سيما قبائل بونتوس وسيثيا. وقد كان سحر فالس الذي يطلق عليه مسمى فاسينوم باللاتينية، والذي يعني «إلقاء السحر»، يستخدم ضد عين الحسود. يُعتقد أن انتشار الإيمان بالعين نحو الشرق كان بسبب إمبراطورية الاسكندر الأكبر، الذي نشر هذا الاعتقاد بالإضافة إلى أفكار يونانية أخرى عبر إمبراطوريته
يعتبر الإيمان بالعين الحسودة شائعاً بشكل قوي في الشرق الأوسط خاصة منطقة اسيا الوسطى وجنوب اسيا وشرقها حيث يعتقد أن أصحاب العيون الخضراء والزرقاء لديهم القدرة على التسبب للآخرين بالعين بقصد أو بدونه. ومن المحتمل ظهور هذا الإيمان لدى مختلف الثقافات الغير معتادة على العين الحسودة كما في أوروبا الشمالية، حيث تفرض ضريبة محلية ضد تجاوز المدح أو التحديق في الأطفال. لذلك تستخدم التمائم ضد عين الحسود في اليونان وتركيا على شكل عين زرقاء. ويعتبر مصطلح «الحسد» عند أولئك الذين لا يؤمنون بالعين حرفيًا، وذلك يرجع إما بسبب الثقافة التي نشأوا فيها أو لعدم إيمانهم بمثل هذه الأشياء ببساطة، يعني أن تحدق في الشخص بنظرة غضب واشمئزاز.
***
نهاد الحديثي