أقلام حرة
علي حسين: شجون في حضرة طلعت حرب
في القاهرة ألفين سلام يا قاهرة
يمكن ساعات صوت الحقيقة أخرس جريح
يمكن يكون صوت الضلال عالي وفصيح
يمكن يتوه الحق في الكدب الصريح
لكن أكيد الحق حق ولا يصح إلا الصحيح
في القاهرة ألفين سلام يا قاهرة
وانت تزور القاهرة وحواريها لا بد ان تتذكر شاعرها الكبير سيد حجاب الذي عشنا مع كلماته وهو يتنقل بنا من ليالي الحلمية إلى أرابيسك والشهد والدموع ويختصر لنا حياة عميد التنوير العربي طه حسين:
"من عتمه الليل، النهار راجع ..
ومهما طال الليل بيجي نهار
عاش الشاعر سيد حجاب حياته، وهو يحمل قضية واحدة نذر شعره لها، هي قضية البسطاء، والبحث عن الحرية والأمان لهم، شيّد لنفسه بساتين من القصائد التي تغنّت بالأمل والثورة على الظلم، كان حجاب واحداً من صنّاع أحلام هذه الأمة التي يراد لها نفسها مؤخراً تختار الظلام والسبي والقتل والموت، وتصفق شعوبها لصنّاع الدمار وموسعي المقابر.
يقول المؤرخ اريك هوبزباوم :" لا يمكن فهم هذا العالم، من غير أن نفهم الأحلام التي راودت الشعوب. وكذلك الخيبات التي حاصرتها .
ايام ورا ايام ورا ايام ورا ايام
لا الجرح يهدى ولا الرجا بينام
كانت هذه أولى أحلام سيد حجاب، التي صاغها لتكون مقدمة لمسلسل "الأيام"، سيرة طه حسين الذي أعود اليه دائما متحيزا لمنجزه الفائق القيمة من حديث الاربعاء مرورا بالفتنة الكبرى والمتنبي وذكرى ابي العلاء وليس انتهاء بدعاء الكروان ومع ابي العلاء في سجنه، وهو نفس السجن الذي عانى منه طه حسين، فقرر ان ينتصر على الواقع :، "ما انت باعمى ..آنما نحن جوقة العميان".
لم تكن في كلمات سيد حجاب أية ظلال لافتعال ثوري، لم يكتب شعارات جوفاء، بل استطاع ان يغوص في أعماق الإنسان المتطلع الى عالم أفضل، ليستخرج منها بكلمات عامية بليغة، أجمل ما فيها من أغنيات وقصائد راح ينثر بها الدعوة إلى رفض الظلم والطغيان، مترجماً مشاعر وأحلام وأفراح ملايين الناس إلى كلمات حيّة متوثّبة مليئة بالدفء والحياة والدعوة للعدل الاجتماعي الذي كان شعار طلعت حرب وهو يرسم طريقاً إلى المستقبل ليس فيه عنف ولا نزاعات ولا طائفيون.
مين اللى قال الدنيا دى وسية
فيها عبيد مناكيد وفيها السيد
سوانا رب الناس سواسية
لا حد فينا يزيد ولا يخس ايد
جينا الحياه زى الندا ابرياء
لا رضعنا كدب ولا اتفطمنا برياء
طب ليه رمانا السيف على الزيف
وكيف نواجهه غير بالصدق والكبرياء .
في يومياته التي كان ينشرها في الصحافة على فترات، يروي سيد حجاب حكايته مع الأمل والتطلع الى المستقبل، ويدلنا على الفتى الذي غادر قريته في صعيد مصر ليحط في القاهرة ملبياً نداء االشعر والكتابة، هناك يصر ان يتلصص على الشعراء الكبار، ويقدم ديوانه الأول " صياد وجنيّة " الى الشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي يكتب له مقدمة يقول فيها :"هذا الشاعر الشاب مهموم بقضية واحدة وهي التأثير المباشر للقصيدة على الغالبية من عامة الناس، ليس فقط تنويراً لرؤيتهم ولكن مجابهةً لما يجري وتحريضاً على رفض الظلم والنهوض صوب المستقبل "
متسرسبيش يا سنينا من بين إيدينا
و لا تنتهيش ده إحنا يادوب ابتدينا
سيد حجاب حكاية عن زمن مختلف، الطوائف فيه عارضة، والدين فيه أقرب إلى الحرية الشخصية من الفرض الاجتماعي، والنضال ضد الظلم فرض على كل مثقف، اختار حياته على طريقة الشعر: موزاييك من حكمة الشعوب وروحها المرحة والعميقة .
في كل قصيدة من قصائد سيد حجاب هناك تحذير من ان يتسرب الزمن الجميل بغفلة منا: "و ينفِلِت من بين إيدينا الزمان ..كأنه سَحبة قوس في أوتار كمان "، فيما نحن لانريد ان نترك للأجيال القادمة سوى بلدان تحولت الى خيام، وبرلمانات اشبه بمنابر للتهريج، لم نترك لهم حنيناً يعودون إليه، ولا حتى ذكريات يشتاقون إليها
وتنفرط الايام عود كهرمان
يتفرفط النور و الحنان و الأمان
نسمي معالم التقدم عصراً بكامله لأنه يشمل كل شيء . في الفكر والصناعة والزراعة وطرق الحياة. ليست فقط في فكر طه حسين ومغامرات سلامة موسى مع الذين علموه وصلابة العقاد ورقة يحيى حقي والسعادة التي ينثرها نجيب الريحاني في النفوس .
انظر إلى تمثال طلعت حرب واتذكر العراقي ساسون حسقيل وزير المالية في العهد الملكي الذي كان مثل طلعت حرب خريج الحقوق، ومثله شخصاً مدهشاً حقاً. وفي الوقت الذي يقف طلعت حرب وسط القاهرة . يغطي غبار النسيان ذكرى اول اقتصادي عراقي حاول ان يضع الدولة العراقية على سكة الازدهار .
يكتب سيد حجاب في مديح قاسم امين صاحب كتاب حرية المرإة :
الحق والحرية.. روح الوجود
هما جناحين النهوض والصعود
ينداسوا.. يتساوى الوجود والعدم
وان سادوا.. سدنا الدنيا.. والخير يسود
بهذه الكلمات يختصر سيد حجاب قضية قاسم امين الذي عُرف بدفاعه عن الحقيقة وأثراه على ان تأخذ المرأة مكانها الحقيقي في المجتمع . وفي العراق كان صوت الزهاوي يعلن ان كل شيء إلى التجدد ماض – فلماذا يقر هذا القديم؟، لكن بلاد الرافدين تسعى إلى نسيان شاعرها ومفكرها الذي قال عنه طه حسين ؛: ” لم يكن الزهاوي شاعر العربية فحسب، ولا شاعر العراق بل شاعر مصر وغيرها من الأقطار، لقد كان شاعر العقل وكان معري هذا العصر، ولكنه المعري الذي اتصل بأوروبا وتسلح بالعلم" .
***
علي حسين