أقلام حرة

محمد سعد: حينما كان الحب بريئًا على ضفاف الترعة!!

في قريتنا تلبانة، حيث تُطل البيوت على الترعة كأنها تلقي بظلالها الحنونة على الماء، كان للحب نكهة مختلفة. لم بقلم محمد سعد، من يوميات كاتب في الأرياف.

مجرد نزوة عابرة أو رسائل إلكترونية باردة، بل كان روحًا تحلق في الأفق، يتعانق فيها العشق مع نسيم المساء، ويتشابك صمت العيون مع خرير الماء.

كنت فتى يافعًا، أخطو كفارس فوق جواد، أرتدي جلبابًا أبيض كأنني استعرت خيوطه من سحابة مارقة، وأتطيب بعطر أخفيه عن عيون الكبار، وأدك الأزقة الطينية مرات ومرات، أبحث عن طيفها خلف الشبابيك الخشبية والأواني الفخارية. لم يكن الحب في تلبانة صاخبًا، بل كان حكاية تُروى بالعيون، وموعدًا مكتوبًا على حافة الترعة.

ذات مساء، حين كان البدر بكرًا، والنسمات تحمل سرًّا قديمًا، مشينا بمحاذاة الترعة. إلى يميننا امتدت الحقول الخضراء في سكون، وإلى يسارنا كانت الترعة تغرق في وحشتها، إلا من بقايا قمر يتهادى فوق سطحها. كنا نخشى أن تدركنا العيون، لكن أيدينا تشابكت في حنو لم ندرك معناه إلا حين افترقنا.

مرت السنون، وجبتُ بحارًا، وعبرت مطارات، وعانقت ثقافات مختلفة، وعرفت نساءً من كل الألوان، لكن شيئًا ما كان يرفض الرحيل عني. ظللت أبحث عن ذلك الدرب الريفي، عن لمسة كف محفورة كالوشم في الروح. كأن قلبي لم يغادر تلبانة أبدًا، بل ظل هناك، عند شجر التوت الذي كان على شاطئ الترعة بطريق قرية جديدة الهالة، حيث كنا نتبادل الوعود الصامتة.

جلست أتذكر السدة الشتوية، حين كنا نسبح في الترعة للصيد والاستحمام، ونغسل أجساد المواشي والحمير، بينما تقف أسراب الأوز على شاطئ الترعة تزين المكان، يتقدمها أوز صغير بريش أخضر جميل، كالطفل يحبو وراء أمه في البيت. وعلى الضفاف، كانت أشجار الصفصاف تتمايل مع النسيم، كأنها تهمس بأسرار المكان.

قبل الغروب، كانت الطرقات تمتلئ بعودة المواشي والأغنام من الحقول، والحمير تحمل أحمال البرسيم، سيمفونية تتناغم مع عودة طابور الأوز إلى البيوت. نحتاج إلى لحن حزين بعد أن تبدلنا إلى ذئاب ووحوش في عصر لا يرحم الضعيف.

اليوم، حين أعود إلى قريتنا، أجد الترعة ذاتها، لكنها ليست كما كانت، والبيوت نفسها، لكنها فقدت بعض حكاياتها. ربما تغير المكان، لكن الذكرى باقية، تفوح في الروح عبقًا، حزن وحنين.،،!!

***

بقلم محمد سعد - من يوميات كاتب في الأرياف

في المثقف اليوم