أقلام حرة
يونس الديدي: السلطة تخاف من الجمال أكثر مما تخاف من الرصاص

الجمال كسلاح لا يُقهر
عالم اليوم تتصارع فيه الأفكار مع القوة الغاشمة، وتتشابك فيه السياسة مع الفن، يبرز الجمال فيه كسلاح لا يُضاهى، أكثر رعبًا للسلطة من أي رصاصة أو تهديد عسكري. هذا ما أثبته الفنان الصيني المعارض ي ويه وي، الذي لم يكتفِ بتحدي النظام برسومات أو منحوتات تقليدية، بل حوّل التابوت - رمز الموت والنهاية المطلقة - إلى عمل فني يسخر من احتكار السلطة لكل شيء، حتى مصيرنا الأخير. في عمله المثير للجدل "إزالة التبعية"، كسر تابوتًا ضخمًا من الرخام بجرأة، معلنًا عبارته الشهيرة: "السلطة تخاف من الجمال أكثر من الرصاص". هذه ليست مجرد كلمات عابرة، بل إعلان عن حقيقة تاريخية تتكرر عبر العصور، من الفلاسفة في أثينا القديمة إلى الثوار في شوارع المدن المعاصرة. الجمال، بقدرته على اختراق القلوب، يصبح تهديدًا وجوديًا لأي نظام يعتمد على الخوف والسيطرة.
الوعي: بداية التحول
الوعي هو المفتاح الذي يفتح أبواب الحرية الحقيقية. عندما يستيقظ الفرد من سباته الطويل، وينغمس في أعماق ذاته بعيدًا عن ضوضاء العالم الخارجي، تبدأ لحظات التحول. هذه اللحظات ليست مجرد ومضات عابرة أو تأملات مؤقتة، بل هي ثورة صامتة تُفكك الأوهام التي صنعتها النخب الحاكمة بعناية فائقة على مر العقود. تلك الأوهام التي جعلتنا نصدّق أن الحرية تُمنح كهدية من السلطة، وليست حقًا ننتزعه بأيدينا. لكن هذا الوعي لا يأتي بسهولة؛ إنه يتطلب شجاعة نادرة لمواجهة الحقائق المرة، والتخلي عن الراحة المزيفة التي تقدمها الأنظمة مقابل صمتنا. في كل لحظة تحول، يولد إنسان جديد، قادر على رؤية العالم بعيون لا تعرف الخضوع.
ي ويه وي: فنان السخرية المقدسة
ي ويه وي ليس مجرد فنان، بل رمز للمقاومة الإبداعية. يُطلق عليه "فنان السخرية المقدسة" لأنه يحول الألم إلى جمال، والقمع إلى تحدٍ. في عمله "إزالة التبعية"، لم يكسر التابوت الرخامي فقط، بل حطم فكرة أن السلطة تملك السيطرة المطلقة على حياتنا ومماتنا. السخرية هنا ليست مجرد وسيلة للتهكم أو التسلية، بل سلاح حاد يفضح هشاشة الأنظمة المستبدة وخوفها العميق من أي تعبير حقيقي عن الذات. عندما يقف الفنان أمام النظام، مسلحًا بفرشاة أو مطرقة، فإنه يزرع بذور الشك في عقول الملايين. هذا ما يجعل السلطة ترتعد: ليس خوفًا من العنف، بل من تلك القوة الخفية التي يحملها الفن في إيقاظ الضمائر وتحريرها من قبضة الخوف.
ثمن الحرية الحقيقية
الحرية ليست مجانية، وأسعارها باهظة تتجاوز مجرد التضحية المادية. إنها تتطلب مواجهة الذات قبل مواجهة الآخرين، واستعدادًا للتخلي عن الأمان الوهمي الذي توفره السلطة كجائزة ترضية لمن يختارون الطاعة العمياء. ي ويه وي يذكرنا أن الفن ليس ترفًا أو هواية للنخبة، بل ضرورة وجودية. إنه الجسر الذي ينقلنا من الاستسلام إلى المقاومة، من التبعية إلى الاستقلال الفكري. لكن هذا الطريق ليس مفروشًا بالورود؛ إنه مليء بالتحديات، من مراقبة النظام المستمرة إلى التهديدات التي تواجه كل من يجرؤ على تحطيم الأصنام. الفنان الصيني، الذي يعيش تحت عين الرقابة، يجسد هذا الثمن بكل وضوح، لكنه يثبت أن الجمال يستحق المخاطرة.
لماذا تخاف السلطة من الفن؟
التاريخ مليء بالأمثلة التي تُظهر محاولات السلطات قمع الفن الذي يحمل بذور الوعي. في الصين، يعيش ي ويه وي تحت المراقبة الدائمة، وأعماله تُثير ردود فعل عصبية من النظام. لماذا تخاف السلطة من فنان يحمل مطرقة بدلاً من بندقية؟ لأن الجمال يمتلك قوة تفوق السلاح التقليدي. الرصاص قد يقتل الجسد، لكنه لا يستطيع إسكات الفكرة. أما الفن فيحرر العقل، ويزرع الأمل، ويُلهم الجماهير لتتخيل عالمًا مختلفًا. في لحظة التحول هذه، عندما يدرك الناس أن بإمكانهم رفض الروايات الرسمية وصياغة قصصهم الخاصة، تنهار جدران السجن الذهني الذي شيدته النخب بعناية.
التحرر من الأوهام
في النهاية، السلطة لا تخشى الرصاص لأنها تملك ترسانة كافية لمواجهته. لكنها ترتعد أمام الجمال لأنه يحمل قوة لا يمكن السيطرة عليها بالقوة الغاشمة. ي ويه وي، بتابوته المحطم، يقدم درسًا لنا جميعًا: لا تخافوا من كسر القيود، سواء كانت مادية أو فكرية. الحرية تبدأ حين نرفض أن نكون مجرد أرقام في لعبة النخب، وحين ندرك أن الوعي هو السلاح الأقوى. الجمال هو أداتنا، والتحول هو طريقنا، وكل عمل فني يتحدى السلطة هو خطوة نحو تفكيك الأوهام التي كبّلتنا لعقود. عندما تنمو بذور الشك والأمل، لن يبقى أمام الأنظمة سوى الانهيار، لأن الجمال، في النهاية، لا يُقهر..
***
ذ. يونس الديدي كاتب مغربي متخصص في الشؤون السياسية والاجتماعية