أقلام حرة
عبد السلام فاروق: الرقابة الذكية.. الوهم الكبير!

الواقفون اليوم، على عتبات الفن يمسكون ميكروفوناتهم ويصرخون بحماس: "أيها الجمهور، فلنعقم الدراما ونطهرها من الجراثيم، فلننقها من شوائب الإبداع، ولنغسلها بالماء والصابون كي تصبح نقية كالزجاجة المعقمة!" وكأن الفكرة العبقرية هذه أتت من أناس يظنون أن الفن سجادة يمكن تنظيفها بالمِكنسة، أو طبق سلطة يغسل تحت الصنبور! لكن الفن ليس عدوى ولا فيروسًا، إنه شعلة متألقة تحرق أي قفاز بلاستيكي، وتتفجر من أي صمام مغلق.
التاريخ يضحك بصوت عال، حين تتذكر أن "نجم" الذي أثار الدنيا بصوته، و"إمام" الذي قلب المواجع بجرأة، كانا ممنوعين في زمنٍ كان الممنوع هو المسموح الوحيد! كانت أغانيهما تُنسخ على أوراق كراسات المدارس، وتتسرب عبر أشرطة لا تحمل عنوانًا. الحقيقة تخترق أي ثقب، فالسجن لا يُخنقها، والمنع يزيدها اشتعالًا كالماء الذي يغلي تحت الضغط.
أما اليوم، فقد حل عصر الميديا، حيث يمكن لطفلٍ يمتلك هاتفًا قديمًا أن يحوّل العالم إلى سينما، والفن التلقائي ينتشر كالنار في الهشيم. لا أحد يستطيع التحكم في الريح، أو تقييد صوت الموسيقى بسلاسل حديدية. الكلام الجريء يتخطى الجدران، والأعمال الفنية المبتذلة التي تروج للدعاية تفسد في اليوم التالي كعلبة زبادي منتهية الصلاحية.
الفن الحقيقي ليس سلطة مغلفة تحت إشراف الرقابة، إنه يولد عاريًا صارخًا ملطخًا بتراب الواقع، ويرفض أن يتنظف ليرضي من يبحثون عن صورة مثالية في المرآة. الفن الذي يدافع عن نفسه بموهبة لا بموافقات مسبقة، الفن الذي يخيف الجبناء ويحاربه العاجزون، هو الفن الذي سيظل ينزف ألوانًا على جدار الصمت، ويحرق أي قطعة قماش بياء تحاول تغطية عيوب النظام.
اتركوا الشعلة تذيب القيود، اتركوا الموهبة تدور في فضاءاتها وتولد رغمكم جميعًا. الفن الحقيقي لا يحتاج إلى تصريحكم، فهو أكبر من كل اللجان. لو فتحتم الباب، سيدخل من النافذة، وإن أغلقتم النوافذ، سينزل من الأنابيب، وإن أغمضتم أعينكم، سيتسلل تحت الجفن. الفن الحي يستمد روحه من الشارع، لا من ورقةٍ مكتوب عليها "تصريح".
ومصر العظيمة، التي تنفست الفن منذ أن كان النيل يلعب في تربتها كطفلٍ يلهو بالملوخية، لا تحتاج إلى تعقيم ولا تنظيف. هي تحتاج إلى أناسٍ يفهمون أن العظمة لا تكمن في التحنيط، بل في إطلاق الروح لتحلق حيث تشاء.
بينما “الحرس القديم واقفين على الأسوار بمناشيرهم ومطارقهم عايزين يبنوا سورًا حول الفن عشان ما يتعداش حدود الخيال المسموح! يتخيلوا إن الإبداع قالب جبنة نستطيع تقطيعه بمقاسات متساوية وتغليفه بورق شمع كي لا يتعرض للهواء! "
لكن الفن الفطري المشوه ذاك الذي يتسرب من بين أصابعهم، مثل الماء من وعاء مهترئ، يروي العطشى في الصحراء، قبل أن يدركوا أنهم أضاعوه بين رمال التحكم!
هل تعلموا.. أن أعظم اللوحات الفنية في التاريخ، ولدت من رحم الفوضى؟ أن أجمل السيمفونيات هربت من قيود النوتات؟ أن الشعر الحقيقي كتبه عشاق مجانين على أوراق مبعثرة في المقاهي؟ لكن لجان التطهير تريد أن تقدم لنا فنًّا معقمًا في قفاز طبي، فنًّا لا يعطس ولا يسعل ولا يصرخ، فنًّا مغلفًا ببلاستيك شفاف نعرضه في متاحف البروباجندا!
الغريب أنهم يصرون على محاربة الأشباح! ألا يرون أن عصر "التابوهات" انتهى عندما صار كل بيت مسرحًا وكل جدار شاشة سينما؟ يحاربون ظلالًا بأيد فارغة، بينما المبدعون الحقيقيون يحولون القيود إلى سلالم، والرقابة إلى نكات ساخرة تنتشر كالنكتة الممنوعة التي يضحك منها حتى الحراس!
أما صناعة "الفن المطابق للمواصفات"، فهي كمن يحاول إنعاش جثة بالعطور! تنتج مسلسلات كالوجبات السريعة: مليئة بالمواد الحافظة، فاقدة للطعم، تشبع الجيوب ولا تشبع العيون! بينما الفن الذي يُصنع في السراديب، بين أكواب القهوة الباردة وأنفاس اليائسين، يظل كالنبيذ القديم: كلما حاولوا إخفاءه، ازدادت قوته وعطره فتنة!
ولا تنسوا أن "الرقابة الذكية" التي يتغنون بها هي مجرد وهمٍ كبير! فالشباب الذي يشاهد مسلسلًا ممنوعًا عبر شاشة هاتف في ظلام الغرفة، سيحفر الكلمات المحذوفة في ذاكرته أكثر من أي مشهد معَـد مسبقًا! الحظر لا يمحو، بل يضاعف القداسة! كأنك تُشعل مصباحًا في قاع البحر؛ كلما زاد عمقه، اتسعت هالة الضوء حوله!
فكروا للحظة: ماذا لو حولوا كل هذه الطاقة المهدرة في المراقبة والتطهير إلى دعم الموهوبين الذين يصرخون بأفكارهم من فوق الأسطح؟ ماذا لو كان "تعقيم الفن" يعني حمايته من التلوث التجاري لا خنقه بأكياس بلاستيكية؟ لكنهم للأسف كالطبيب الذي يقتل المريض ليطهر الجرح!
ومصر التي علمت العالم كيف ينحت الأحجار ويصهر الذهب، أليست جديرة بأن يولد فنها من رحم معاناتها دون وصاية؟ أليست الثورات الفنية التي انطلقت من حواريها عبر القرون أكبر برهان على أن الإبداع ابن الحرية لا ابن التوجيهات الرسمية؟
الخلاصة: الفن لا يدار بالدبابيس على الخريطة، ولا يقاس بمسطرة البيروقراطيين. كل محاولة لترويضه ستجعل منه وحشًا أجمل، وكل سجنٍ لصوته سيحوله إلى ترنيمة تهمس في الأذن سرّا. فابقوا في أبراج المراقب، ونحن سنبقى نحفر أنفاقًا تحت أسواركم... فالحياة أقوى من كل التعليمات، والفن أقسى من كل السجون!.
***
د. عبد السلام فاروق