أقلام حرة

أقلام حرة

القرآن الكريم كتاب رب العالمين الذي انزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ليكون النور الذي يُضيء لهم الطريق، والهداية التي تُصلح نفوسهم، وتسعد بالهم، بمحافظتهم على تلاوته، وتطبيق هديه الكريم، قال تعالى (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا") (الإسراء: 9).

فهذه الآية الكريمة تلخص جوهر رسالة القرآن، فهو كتابٌ رب العالمين، جامعٌ لكل ما يحتاجه الإنسان في دينه ودنياه، ليرشده إلى الطريق المستقيم، ويهديه إلى الحقيقة التامة التي لاريب فيها، والتي تُصلح الفرد والمجتمع .

وتقوم هداية القرآن للتي هي أقوم، على قاعدة التوحيد الخالص لله تعالى، والبعد المطلق عن الشرك والضلال، قال تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: 161).

 كما أن القرٱن الكريم يربي الانسان على العدل، والرحمة، والصدق، والتسامح في حياته العملية، وفي ذلك يقول الله تعالى (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن: 9).

وهكذا برسي القرٱن الكريم للانسان أسس التنظيم الاجتماعي السليم في التعامل بين الناس، لحفظ الحقوق، ومحاربة الظلم والفساد، تحقيقا لمجتمع فاضل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) (المائدة: 8).

وبذلك يضع القرآن الكريم أسس الصلاح النفسي لتطهير القلوب من الحسد، والكبر، والغل، وسوء الظن، تحقيقا للطمانينة التامة، والراحة النفسية، والمعنوية الكاملة (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).

ولابد من الإشارة إلى أن هداية القرآن تتحقق بتلاوته، وتدبره، وقراءته، بقلب حاضر، وتأمل عميق لمقاصده، ومعانيه، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (ص: 29)، والعمل على التطبيق العملي لهديه، وجعله منهج حياة، أخلاقا، وتعاملات، وسلوكا عمليا (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(الزمر: 18).فيتحقق عند ذاك المجتمع الرشيد، الذي ينعم بالطمأنينة، ويرفل بالسعادة.

***

نايف عبوش

إن لم أكن أنا، فمن أكون؟، ذاك السؤال العميق الذي يأتينا من حدود الثقب الأسود في الذاكرة النائمة من الزمن الماضي. لن نستطيع لهذا السؤال استيفاء أجوبة قارة ومقنعة، ولا حتى الجواب عن كنهه المعرفي بغباء، ولكن حين نُريد تقمص أدوار المنجمين في تفكيك أنساق الآليات حتى بالأجزاء البسيطة منها، فقد نتواجد ضمن خانة من بات يُماثل فم الثرثار، والذي يُدمر كل شيء بالإطناب وبالإسهاب في تمطيط المبررات التسويغية.

ما يضحكنا من هذا سؤال: (إن لم أكن أنا، فمن أكون؟) والذي قد يجده البعض منَّا غبيا بحد غباء عقل الإنسان المحدود في الزمان والمكان، وقد يماثل سماع صوت رجل ميت في كفنه الأبيض، وينتظر بدايات ختم الدفن والدعاء. سؤال الرجل الميت الذي يتشبث بقشة الخلاص (هيهات ثم هيهات !!!)، ويريد أن يستغل بطولات النهايات لا البدايات، وهو يبحث عن جواب القسط الثاني من السؤال: (فمن أكون؟) ويزيد من نهم التساؤلات: هل أنا في روضة الجنة؟ كيف لي أن أهرب نحو النور بلحاف الموت الأبيض؟ حقيقة مطلقة، المسكين لا يقدر الانزياح أو التململ من مكانه، ومن مصيره الحتمي، لكنه يُشبَّه له أنه يرى جميع الأحياء يوجدون في الظلام!!! ما دامت أن الرؤية العينية الذاتية قد سرقت منه، وهو بالضبط من يتواجد في انعدام فسحة الرؤية !!! فقد يكون صاحب سؤال (فمن أكون؟) يفكر حتى في حتمية موته بأنانية مطلقة لم يفارقها بتاتا في حياته الفانية، وكأنه البطل لكنه في الحقيقة كان عبدا مطيعا للأبطال الحقيقيين. كان سؤال (فمن أكون؟) يسافر بين الأزمنة والأمكنة سريعا، وبين بيانات صفحات كتاب يمينه وشماله من أحداث الماضي إلى حاضر نهايته، وهو بتفكير الثقب الأسود ونهاية عمره بالدفن ينشغل بلا نتائج، كانت حينها بدايات الحياة الدائمة تتحد بالمساءلة والمحاسبة.

تفكيره صاحب سؤال (فمن أكون؟) في تلك اللحظات الحاسمة، كان يماثل تفكير السمك الذي يستبيح الرضا بالتعفن في الرأس من شدة اختلاط الصالح والطالح، حيث يكون شديد البحث عن فجوات الثقوب غير السوداء لكي ينتهي من الشدة في العقاب نحو سعة عيش النهايات، والتي باتت تُلازم كفنه الأبيض، وتُطارده بلا هوادة بقياس ميزان الخير والشر. حتما، لم يتأت له الكشف عن الثقب الأبيض الذي يدفع الدناسة بعيدا حتى تنجلي ذاته بيضاء ناصعة عند الحضور في احتفاليات الحزن وعمليات الدفن بريئا، بل كان صاحب سؤال (فمن أكون؟) يردد وبلا صوت مسموع عند من حضر سنة العزاء: أين ما كنتم أريد أن أبقى معكم؟ إنها بحق أنانية التمسك بالحياة، وبالبطولات والتي كان فقط جسرا طيعا لها !!!

من قريب جاءه صوت من الخلفية غير المرئية، وكان جوابا مربكا ومخيفا: يبدو أننا شيئا ما في الجحيم !!! ويجذبنا الثقب الأسود بقوة !!! ولسنا ممن يدفع به الثقب الأبيض نحو شعاع نور!!! تراجع سمعه لحظتها مثل الأصم، حين تأكد أنه ولد لأكثر من مرة، ولديه أكثر من اسم في دنيا (لم أكن أنا) !!! وبات التأسي يبدو عليه بالارتباك والخوف من تلك المآلات السيئة، وهو لازال حبيس كفنه الأبيض، وبلا حركة ممكنة، ولا دفوعات سجالية، ولا حتى سميع من إنسي يفك عنه لثام الخاتمات والنهايات، ويسانده في أجوبة سؤال (فمن أكون؟).

فكر في ترك (الجمل بما حمل !!!)، وبأن يدفع بذاته نحو التيار البحري الجارف نحو روضة أمان، ويتخلص من تلك الصخرة التاريخية التي تمسك بها حد النواجذ، ولم تقدر على حمايته بتاتا من لطمات الموج غير السارة. حينها اكتشف أنه قد يكون من الناجين بتجربة مقايسة (الخير والشر) والتخلص النهائي من سؤال: إن لم أكن أنا، فمن أكون؟ حتما، لن يكون هو البطل الخرافي، بل قد يبقى يتشبث بالقشة الضعيفة، ليعلن يوم الختم أنه كان الخاسر الأكبر في ركوب أمواج البطولات في بحر الظلمات.

***

محسن الأكرمين

تساؤلات تطرح.. هل الإنسان هو النسخة نفسها منذ ولادته حتى مماته، أم أنه يتعدد ويتحوّل عبر الزمن؟

يقول العلماء من الناحية البيولوجية، يولد الإنسان بهوية جينية شبه ثابتة، تشكل الإطار العام لخصائصه الجسدية وبعض استعداداته النفسية. غير أن هذه الثباتية لا تعني أن الإنسان يظل «نسخة واحدة» بالمعنى الوجودي أو السلوكي. فالهوية الإنسانية ليست مجرد معطى فطري، بل هي بناء تراكمي يتشكل عبر الخبرة والتفاعل مع العالم المحيط، فيما تشير الدراسات النفسية إلى أن الإنسان يمر بمراحل تطورية متعاقبة، تتبدل فيها نظرته إلى ذاته وإلى الآخرين. فقد بيَّن عالم النفس التطوري إريك إريكسون أن الهوية تمر بأزمات وتحولات في كل مرحلة عمرية، من الطفولة إلى الشيخوخة، وأن كل مرحلة تفرز «نسخة» مختلفة من الإنسان، وإن كانت متصلة بما قبلها. فالإنسان ليس كائنًا منقطعًا عن ماضيه، لكنه أيضًا ليس أسيرًا له، ويؤكد علماء المنظور الاجتماعي والثقافي، فإن الإنسان يتعدد بتعدد الأدوار التي يؤديها: فهو فرد داخل أسرته، وشخص مختلف في محيط العمل، ونسخة أخرى في الفضاء العام أو في العالم الرقمي. هذا التعدد لا يعني النفاق أو الازدواجية بالضرورة، بل يعكس قدرة الإنسان على التكيُّف مع السياقات وتتضاعف أسباب هذا التعدد مع تراكم التجارب الحياتية؛ فالصدمات، والنجاحات، والخسارات، والتعليم، والسفر، والاحتكاك بثقافات أخرى، كلها عوامل تعيد تشكيل الإنسان من الداخل. أحيانًا يشعر الفرد أنه «لم يعد الشخص نفسه» بعد تجربة معينة، وهذا الشعور ليس وهمًا، بل تعبير عن تحول حقيقي في منظومة القيم والتصورات

يقال إن الفلسفة هي ابنة زمانها، وإنها المرآة التي تعكس قلق الإنسان وأسئلته الكبرى في كل عصر، فإذا كان القرن الـ20 قرن الأيديولوجيات الكبرى والتنوع الهائل للتيارات الفلسفية المتشابكة مع علوم أخرى قد تميز باستمرار الاهتمام بالقضايا الكلاسيكية كالأنطولوجيا والإيتيقا والإبيستمولوجيا والسياسة والهوية مع ظهور أسئلة جديدة تشكلت بفعل التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية والسياسية والحداثة المتأخرة والشك في العقل واللغة واللسانيات والتحليل النفسي والأيديولوجيات ونهاية التاريخ والإنسان والمؤلف، فإن القرن الـ21 هو قرن التحولات السريعة، العلمية والرقمية والبيئية والسياسية والدينية، التي أعادت طرح السؤال الفلسفي في سياقات غير مسبوقة، علماً أن التفكير الفلسفي في هذا القرن ليس مقطوع الصلة بفلسفات القرون السابقة، بل إن بعض التيارات الفلسفية تعد امتداداً وتطويراً للأفكار الأساسية التي سادت في القرن الـ20 كأعمال جاك دريدا وجان فرنسوا ليوتار في مجال اللسانيات، وجوليا كريستيفا في فقه اللغة، وجان بودريار ورولان بارت في السيميائيات، وجيل دولوز وجاك رانسيير في الجانب الجمالي، وميشيل فوكو في الفلسفة الاجتماعية، وسيمون دو بوفوار وجان بول سارتر في الفكر الوجودي، وكلود ليفي ستروس في الأنثروبولوجيا، وفليكس غاتاري ولوس إريغاراي في التحليل النفسي... إلخ، وأن تأثير مناهج الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية والوجودية والفينومينولوجيا والهيرمينوطيقا ما زال فاعلاً في فكر جان-لوك ماريون وميشال سير وغيرهما،

وهنا يمكن القول إن الإنسان ليس نسخة واحدة جامدة، ولا نسخًا منفصلة، بل هو كيان متحول ذو جوهر مستمر، تعاملنا مع الناس، فهو بالغ الأهمية. فإذا أدركنا أن الإنسان قابل للتغير، وأن ما نراه منه اليوم ليس بالضرورة صورته النهائية، فسنتعامل مع الآخرين بقدر أكبر من التفهم، والتسامح، وعدم التسرع في إطلاق الأحكام. كما يدعونا هذا الفهم إلى إعطاء الناس فرصة للنمو والتصحيح، وألا نختزلهم في ماضيهم أو في أسوأ لحظاتهم.

وتعتبر الذات مصدر الفهم العميق للنفس، فهي تشمل المعتقدات والقيم والمشاعر والتجارِب التي تحدد هوية الشخص وطريقة تفاعله مع العالم من حوله، كما يمكن أن تتأثر الذات بالعوامل المختلفة مثل الثقافة، والتعليم، والتجارب الشخصية، مما يجعلها متطورة ومتغيرة على مر الزمن.

***

نهاد الحديثي

ناجح المعموري، ابو وهب، صديق العمر، من تبقى لنا بعد غيابه، من يتذكر تلك الايام والسنوات والغربة وأحزان الوداع والرحيل؟. فقدناه.. خسارة زمن لا تعد محطاته ولا تحسب درجاته.. اي الم يتركه البعد ويبقيه الغياب؟. كنا في اول الشباب والكتابة والنشر وأمسيات الحوار والنقد الثقافي وهموم القراءة والثقافة والسياسة والوطن. ليست تلك صور للذكرى وليست ذكرى لصور الماضي والحاضر، انها صدق الصداقة ووفاء المعرفة ونزاهة العلاقات.. لا يمكن ان ازور العراق دون ان أزوره ولا يمكن ان نلتقي دون جردة حساب للتاريخ والأمل بوطن حر فعلا وحصاد عمر مزهر.. كتبه ومؤلفاته وعلاقاته شاهد وسؤال له ولنا ولمن يتذكر بمودة واعتزاز. سجل حافل بالجهد ومملوء بالمعرفة وغني بالمحتوى وجامع للإدراك ودافع للوعي والاشتباك الثقافي، المعرفي الرصين. خبر محزن، مؤلم، موجع ان يأتيك وانت تحسب للقاء وحديث واستعادة لمعنى الصداقة في هذه الايام وهذه الاوقات وهذه المنعطفات..التي تبتعد فيها المسافات وترهق فيها أحمال الاغتراب والمنافي، داخل البلاد وخارجها. ابا وهب لك الرحمة والذكر الطيب دائما ومن الصعب ان يحل الوداع بهذه العجلة من الزمن وبهذه الساعات التي لا تعوضها الكلمات ولا تستعيدها الدمعات.. ولأن الحياة هكذا هي دون قدرة اخرى على قضائها وقدرها، فوداعا كما تريد وتظل في الذاكرة والأجيال ضوءا ومقام اخ غال وودود..

***

كاظم الموسوي

في اليوم العالمي للغة العربية في (18\12) من كل عام، تنهال على الصحف والمواقع النصوص النواحية التي تؤبّن لغة الضاد وتشيعها إلى مثواها كما يرى الرثائيون المتشائمون، الذين ينتقدون ولا ينقدون، وبدون وعي منهم يساهمون في توجيه الطعنات للعربية.

العديد من المقالات والنصوص المكتوبة باللغة العربية  تنعاها، مثلما نعاها حافظ إبراهيم قبل أكثر من قرن في قصيدته المعروفة.

فهل الراثون إستطاعوا دفنها؟

اللغة العربية أبّنَت الناعين لها، وتطورت وعاصرت وتحدّت، وهي اللغة المتواكبة مع التطورات الفاعلة في الدنيا، فلا خمدت ولا إنكسرت أو أصابها الإهمال وما تخلى عنها أهلها، لأنها هويتهم ولسان حالهم وصوتهم المتردد في الآفاق.

على الأقلام التي تكتب الإبتعاد عن الإنتقاد المناهض لواقع اللغة ودورها الحضاري، ومن واجبهم الإنساني توجيه النقد لتعديل بعض المسارات المعوجة.

للعربية أعلامها ورموزها، والناطقون بضادها، والقادرون على إستحضار معطيات العصر بها، فلا توجد لغة في الدنيا قاصرة عن إستيعاب وتمثُل ما تأتي به العقول، فكيف يصح إتهام اللغة العربية بما لا يتوافق وقدراتها التعبيرية والإستيعابية.

توقفوا عن الكتابات المستهينة باللغة العربية، والعجيب أنها مكتوبة بها، وتحاول أن تخدع أهلها بأنها عاجزة عن التفاعل مع المعطيات المتلاحقة. فهل أنها كتابات مغرضة؟

لغةُ الأجيالِ دامتْ لغتي

قوةٌ تبقى وفيها عِزّتي

لا تقلْ هانتْ بجيلٍ صاعدٍ

وبها الأفكارُ أذكتْ ثورتي

لغةُ الفرقانِ تأبى ذلةً

إنّها تحيا بروحِ الأمّةِ

***

د. صادق السامرائي

 

لم تعد الصداقة في عالمنا المعاصر علاقة بسيطة تقوم على القرب الانساني وحده، بل أضحت محاطة بأسئلة عميقة تتعلّق بالصدق والمصلحة وحدود الثقة بين الأفراد. فلم يعد الفلم يعد الإنسان يهتمّ بالبعد الروحي والتطوّر الفكري فحسب، بل أصبح يبحث عن صداقات تدرّ عليه ربحا اجتماعيا وماديا. وهنا يتولّد السؤال الجوهري: بين النضج والاستقرار الروحي، والبحث عن صداقات ذات نفع اجتماعي، ايّهما يمثّل العمق الحقيقي للصداقة في عالم معاصر متغيّر؟

لقد فرضت التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية منطقا جديدا على العلاقات الإنسانية، حيث لم تعد الصداقة تُقاس بعمق المشاعر وصدق النوايا فقط، بل بمدى قدرتها على تحقيق منفعة ملموسة في الواقع اليومي. وهنا يمكن فتح قوس للتأمل بالعودة إلى التصوّرات الفلسفية الكلاسيكية حول معنى الصداقة. فقد تساءل سقراط عن ماهية الصديق الحقيقي: أهو مجرّد رفيق طريق أم علاقة أعمق من ذلك؟ ليجيب أفلاطون بأن الصديق هو "روح واحدة تسكن جسدين"، أي امتداد للذات في الآخر. أما نيتشه، فرأى أن الصديق لا ينبغي أن يكون ظلّا لنا، بل "سيفنا أمام الأعداء ومرآتنا أمام أنفسنا" في إشارة إلى الصداقة بوصفها علاقة صدق ومواجهة. ويضيف كونفوشيوس، من زاوية أخلاقية، أن الصديق الصالح هو من يرشدك إلى الفضيلة ويقوّم اعوجاجك

غير أنّ هذه المعاني السّامية للصداقة، بكلّ ما تحمله من عمق إنساني وأخلاقي، تبدو اليوم مهدّدة بالذوبان في ما سمّاه زيغمونت باومان "العصر السائل" حيث باتت العلاقات هشّة، مقيدة بمنطق السرعة والحاجة الاقتصادية، فاقدة لثباتها ومعناها.

وفي هذا السياق، لا يمكن الجزم بأن الصداقة فقدت معناها كليًّا، بقدر ما يمكن القول إن الإنسان المعاصر أصبح ممزقاً بين حاجته إلى العمق، وضغط الواقع الّذي يدفعه إلى علاقات نفعية وسريعة. فلا يمكننا الادّعاء بأن الصداقة الصادقة، أصبحت نادرة أو منعدمة، بل الأجدر أن نسلط الضوء على تغيّر الإنسان نفسه، إذ هو من أعاد تشكيل مفهوم الصداقة، وحوّل جوهرها من علاقة تقوم على القيمة والمعنى، إلى وسيلة نفعية تخدم المصالح الفرديّة أكثر ممّا تخدم الروابط الإنسانيّة.

وعليه، تبقى الصداقة مرآةً صادقة لزمنها، تعكس طبيعة الإنسان أكثر ممّا تعكس طبيعة العلاقة في ذاتها. ومن هنا يُطرح الإشكال الآتي: هل يمكن أن نُعيد للصداقة قيمتها الأخلاقية الهادفة، وأن نجعل منها علاقة ترفع وعي الإنسان في زمنٍ تهيمن عليه المصالح واللامبالاة؟

***

الأستاذة: أميرة رخيس

 

يعد الانتماء النفسي للمنظمة ثقافة أصيلة وجذراً عميقاً من جذور النجاح المؤسسي، فهو ليس مجرد شعور عابر أو شعار يرفع، بل حالة وجدانية متكاملة تنتج طاقة متدفقة من الإخلاص والوفاء، وتشعل في داخل الموظف والمسؤول على حد سواء حساً عالياً من الالتزام والمسؤولية والانتماء الحقيقي.

عندما يتحقق الانتماء النفسي، يشع وجدان الفرد إخلاصاً وثقة بمن حوله، فيدعمهم، ويشاركهم، ويسخر خبراته وطاقاته لخدمة العمل والناس من حوله. يعمل بانسجام وراحة داخلية، دون أن يستشعر ثقل الجهد أو وطأة الإرهاق والجهد المضن، بل يبذل الكثير دون شكوى أو تذمر، لأنه يرى في عطائه معنى، وفي عمله قيمة، وفي منظمته بيتاً ثانياً لا مجرد مكان يتقاضى منه راتباً أو مصلحة يقضيها أو ينتفع منها.

الموظف المنتمي لا ينظر إلى نفسه كأجير ينتظر الأجر آخر الشهر، بل يرى ذاته شريكاً أصيلاً في النجاح، وعنصراً فاعلاً في البناء والنمو والتطوير، ومسؤولاً عن جودة الأداء وسمعة المؤسسة وصورتها المشرقة واستمراريتها نحو التقدم والأزدهار. وهنا يتحول الانتماء النفسي تلقائياً إلى ولاء مؤسسي قائم على حب العمل، والتفاني فيه، وبذل الطاقات والقدرات لإنجاحه وتطويره، حتى تتجسد هذه الجهود في صورة نجاحات ملموسة، وجودة في الأداء، واحترافية مهنية عالية تسخر فيها الإمكانات لخدمة الرؤية التي تحلم بها والرسالة المؤسسية التي تسعى لتطبيقها وتنفيذها من أجل الوصول إلى غاياتها وأهدافها.

وفي المقابل، يبرز الفارق الجوهري – بل الشاسع – بين موظف أو مسؤول يرى عمله محصوراً في الرتبة والمنصب والمنفعة المادية والأجر، ولا يحمل أي ارتباط وجداني أو استعداد للتضحية، وبين موظف أو مدير يرى العمل رسالة وحرفة، ويتعامل معه بإخلاص منقطع النظير، فيبذل كل ما يملك من وقت وجهد وفكر لينجح العمل، ويرتقي به في سلم التميز والتوسع والنمو.

إن بناء الانتماء النفسي لا يحدث صدفة، بل هو نتاج مباشر لأسلوب القيادة والإدارة. فالمسؤول الواعي يسهم بشكل حاسم في صناعة هذا الانتماء من خلال تجويد العلاقة الإنسانية والمهنية مع الموظفين، قائمة على القبول، والاحترام، والتقدير، والدعم، وعدم التخلي عنهم وقت الحاجة. يثمن جهودهم، ويعترف بعطائهم، ويمنحهم أجراً عادلاً يتناسب مع خبراتهم والجهود التي يبذلونها، ويراعي ظروفهم النفسية والاجتماعية والأسرية، إدراكاً منه أن الإنسان هو جوهر المؤسسة وقلبها النابض وركن أصيل وأساس متين في نجاحها.

وشتان بين مسؤول يرى الموظف مجرد أجير يمكن استنزافه واستغلاله دون اعتبار لإنسانيته أو نفسيته، وبين مسؤول يرى فيه شريكاً، فيحتويه، ويدعمه، ويصنع معه بيئة عمل صحية وآمنة. فالأول يقتل الانتماء، ويزرع النفور، وينتج موظفاً منفصلاً نفسياً عن منظمته ومنسلخ من الانتماء والولاء، أما الثاني فيبني الولاء، ويغرس المحبة، ويخلق حالة من التوافق والانسجام تدفع الموظف للعطاء بإرادة داخلية صادقة وهمة قوية.

وخلاصة القول: إن المسؤول المهتم يصنع الانتماء، ويحول العمل إلى مساحة نمو وكرامة وإنجاز، بينما المسؤول الغافل يبدده، ويجعل المنظمة عبئاً نفسياً على العاملين فيها. فالانتماء النفسي ليس ترفاً إدارياً، بل ركيزة أساسية للاستدامة، وجودة الأداء، ونجاح المؤسسات في عالم لم يعد يقيس التفوق بالموارد فقط، بل بالإنسان أولاً وأخيراً.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

23-12-2025

النخلة، تلك الشجرة الصامتة تقف شامخة بين الأرض والسماء، شاهدة على مرور الأيام وتبدّل المواسم وجذورها تمتد في التربة بحثًا عن الماء، وسعفاتها تعانق الشمس والرياح، وثمرها يكتمل بصبرٍ لا يعرف الاستعجال.

تأخذنا النخلة في رحلة، شهرًا بعد شهر وموسمًا بعد موسم لنرى كيف تتفاعل مع الطبيعة من حولها، وكيف تصمد في وجه الحر والبرد، وكيف تمنح الظل والثمار بلا كلل وهنا بين يوم وآخر، نتعلم الصبر والمثابرة والعطاء الصامت ونرى انعكاس الزمن على كل عقدة في جذعها وكل سعفة في قمتها.

من الشتاء البارد إلى حرارة الصيف، ومن المطر إلى الرياح ومن براعم الربيع إلى ثمار الخريف سنتتبع النخلة نسمع صمتها نشعر بحياتها ونرى كيف يمكن للطبيعة أن تكون مدرسة للصبر والقوة والوفاء عبر أشهر السنة:

[كانون الثاني – يناير]

الشتاء لا يزال قاسيًا، والرياح الباردة تهب بلا هوادة وجذور النخلة تمتد في الأرض بحثًا عن أي رطوبة متبقية من الأمطار السابقة، وسعفاتها تتصلب لكنها صامدة تحتفظ بقدرتها على امتصاص أشعة الشمس القليلة، فتغذي نفسها وتعد الثمار القادمة والفلاح يمر عليها يراقبها ويعرف أي سعفة بدأت بالذبول، وكل تفصيلة فيها تبدو كصفحة يومية في سجل الحياة.

[شباط – فبراير]

الندى قد ذاب، والمطر يتكرر، والأرض تتشبع بالماء والجذور تشربه ببطء، والنخلة تتنفس وسعفاتها تتلألأ تحت قطرات المطر وكأنها تغني سر الحياة الصامتة والطلح لم يظهر بعد لكنه يستعد للنمو في عمق عقل النخلة، التي تختزن الطاقة للأشهر القادمة.

[آذار – مارس]

أول علامات الربيع تظهر، السعفات الجديدة رقيقة وخضراء فاتحة، تملأ الفراغ بين سعفات الشتاء الباهتة والفلاح يبدأ بتقليم النخلة يزيل السعفات الميتة ويترك المجال للضوء كي يصل إلى قلب الشجرة والأرض بدأت تدفأ، والجذور تعمل ببطء، تجمع الغذاء وتمتص المعادن وتعد نفسها لمرحلة الإزهار.

[نيسان – أبريل]

الربيع في أوجه، الشمس أدفأ والرياح لطيفة والنخلة تظهر براعم صغيرة على أطرافها علامات الحياة الجديدة والفلاح يراقبها بعين خبيرة يلمس جذعها ويشعر بالصلابة يعرف أن كل عقدة في الجذع تحمل موسمًا سابقًا ودرسًا في الصبر والطيور تحط على سعفها بحثًا عن مأوى ومأكل والنخلة تمنحها الظل والأمان.

[أيار – مايو]

الحرارة تتزايد، الأرض تجف بسرعة والجذور تمتد أعمق للعثور على الماء والنخلة تتحمل، تعلمها الطبيعة الصبر على النقص، تعلمها كيف تعطي بلا شكوى؟

البراعم تتحول إلى أزهار صغيرة تشبه الرؤى، لا يعرف أحد شكلها حتى تكتمل والشمس تصعد عالية، والأوراق تتأرجح مع الرياح وكأنها رقصة خفية مع عناصر الطبيعة.

[حزيران – يونيو]

الحرارة بلغت ذروتها، والنخلة تصمد بلا كلل وسعفاتها تُسقط بعض الرطوبة والجذور تعمل تحت الأرض بلا توقف والأزهار تتحول إلى ثمار صغيرة، البلح لم يتشكل بعد لكنه يحتفظ بنكهته المحتملة في الداخل والفلاح يروي الأرض عند الحاجة يراقبها بعناية، مدركًا أن هذه الأشهر حرجة للثمار القادمة.

[تموز – يوليو]

الحرارة شديدة، الشمس تقسو بلا رحمة النخلة تعلم أن الصمود فن، والظل الذي تمنحه ثمرة جهدها والبلح يبدأ بالنضج تدريجيًا، يتحول من أخضر خفيف إلى أصفر كالذهب، لكنه يحتاج إلى الوقت ليصبح حلو المذاق وكل حركة سعفاتها تحمل حياة وكل ظل على الأرض يروي قصة صبرها.

[آب – أغسطس]

البلح يكاد يكتمل، والشمس لا ترحم والفلاح يتفقد كل ثمرة، يزيل التالفة ويترك الأفضل للنضج الكامل والجذور تمتص الماء بلا توقف، تحافظ على الثمار. النخلة صامتة لكنها تنبض بالحياة، كل ورقة تحمل درسًا وكل عقدة تحكي موسمًا.

[أيلول – سبتمبر]

أيام جني الثمار بدأت، والتمر جاهز والفلاحون يجنونها بعناية، يعرفون أي ثمرة حلوة وأيها ناقصة والنخلة تفرغ قلبها من عطايا الموسم، لكنها لا تضعف، لأنها تعرف أن الحياة مستمرة، والجذور ستواصل العمل للموسم القادم.

[تشرين الأول – أكتوبر]

الحرارة بدأت تنخفض، سعفاتها تتغير تدريجيًا وبعض الثمر المتأخر يُترك والجذور تبدأ بالاستعداد للشتاء والنخلة تعود لتقوية نفسها، تمتص ما تبقى من الماء تجمع الطاقة وتستعد للصمود من جديد.

[تشرين الثاني – نوفمبر]

الأيام أقصر، الضوء أقل والنخلة تتكيف مع قصر النهار والسعفات تصبح أغمق وبعض الفروع القديمة تذبل لكنها لا تموت، والأرض تحتها تبرد، والجذور تتعمق لحماية الشجرة من فقدان القوة.

[كانون الأول – ديسمبر]

الشتاء عاد كما في بداية الدورة، والنخلة واقفة صامدة وجذورها في الأرض الباردة وسعفاتها تتحمل البرد والرياح وكل موسم مضى، وكل ثمرة قطفت، وكل سعفة ذبلت تبقى النخلة ثابتة، صامتة، وشاهدة على حياة متكررة لكنها لا تشبه نفسها أبدًا.

هكذا، طوال العام، تعلم النخلة الإنسان الصبر، تعلمه العطاء دون انتظار، تعلمه أن البقاء ليس مجرد صمود في الظهور بل عمل خفي مستمر، تواطؤ هادئ مع الأرض والماء والحرارة والرياح، حياة صغيرة لكنها مكتملة في تفاصيلها الواقعية.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

في أحضان الحقول الممتدة وتحت شمس الصباح الحارقة تقف المرأة الريفية صامدة تحمل بين يديها ثمار الأرض وحكايا الحياة اليومية وهي ليست مجرد عنصر من عناصر المجتمع، بل هي روح الأرض التي تمنح الحياة، وقلب الوطن الذي ينبض بالعطاء والصبر.

من رعاية الأسرة إلى العمل في الحقول ومن نقل التقاليد والقيم إلى صون النسيج الاجتماعي، تتجلى أهميتها في كل لحظة من حياة الريف وصبرها لا يُقاس، وعطاؤها لا يُحصى، لكنها رغم كل ذلك غالبًا ما تبقى الوجود الصامت الذي يصنع الفرق الكبير.

في هذه المقالة، سنستعرض الدور الحيوي للمرأة الريفية من جميع الجوانب: الاقتصادي، والاجتماعي، والتنموي والتعليمي، لنكشف كيف تتحول المرأة إلى ركيزة أساسية لاستمرار المجتمع وبقاء الوطن نابضًا بالحياة.

وليست المرأة في المجتمع الريفي كائنًا هامشيًا أو تابعًا لدورة الحياة اليومية، بل هي جوهرها العميق، ومحركها الخفي وعمودها الذي لا ينهار مهما اشتدت العواصف فبين الحقول، وتحت شمس المواسم القاسية، وفي تفاصيل البيت الطيني، تتشكّل صورة امرأة لا تعرف الكسل، ولا تتقن الشكوى، لكنها تمارس أعقد أدوار الوجود الإنساني بصمتٍ يشبه الحكمة المتوارثة.

أولًا: المرأة الريفية بوصفها أساس الاقتصاد الزراعي

تلعب المرأة الريفية دورًا محوريًا في الاقتصاد المحلي، خصوصًا في المجتمعات التي تعتمد على الزراعة وتربية المواشي فهي تشارك في زراعة الأرض، وبذر البذور وحصاد المحاصيل، وجمع الأعلاف، ورعاية الحيوانات، وتصنيع المنتجات الغذائية التقليدية كالألبان والأجبان والمخبوزات وفي كثير من الأحيان، تكون المرأة هي اليد العاملة الأكثر ثباتًا واستمرارية، في ظل هجرة الرجال إلى المدن بحثًا عن العمل.

ولا يقتصر دورها الاقتصادي على الإنتاج فقط، بل يمتد إلى إدارة الموارد، وترشيد الاستهلاك، وضمان الأمن الغذائي للأسرة مما يجعلها عقلًا اقتصاديًا عمليًا، يوازن بين الحاجة والقدرة، وبين الحاضر والمستقبل.

ثانيًا: المرأة الريفية حارسة النسيج الاجتماعي

في المجتمع الريفي، تقوم المرأة بدور اجتماعي بالغ الأهمية؛ فهي حافظة العادات وناقلة التقاليد، وذاكرة المكان ومن خلالها تنتقل القيم الأخلاقية، وأعراف التضامن ومبادئ التعاون، واحترام الأرض والجار والعائلة. وهي التي تُصلح ذات البين وتداوي النزاعات الصغيرة، وتعيد التوازن الاجتماعي داخل الأسرة والقرية.

كما أن المرأة الريفية تتحمل عبئًا عاطفيًا كبيرًا؛ فهي الأم، والمربية، والمرشدة الأولى وصاحبة الكلمة الحاسمة في بناء شخصية الأجيال الجديدة، خصوصًا في ما يتعلق بالصبر، والانتماء، والعمل الجماعي.

ثالثًا: المرأة الريفية والتعليم… معركة الوعي الصامتة

رغم التحديات الكبيرة التي تواجه تعليم المرأة في الريف—من فقر، وبعد المدارس وضغط الأعراف الاجتماعية—إلا أن المرأة الريفية أثبتت قدرتها على خوض معركة الوعي بصبرٍ طويل. فالمرأة المتعلمة في الريف لا تغيّر مصيرها فقط، بل تغيّر مصير عائلة بأكملها.

وقد أثبتت الدراسات أن تعليم المرأة الريفية ينعكس مباشرة على:

- تحسين صحة الأسرة

- خفض معدلات الفقر

- زيادة الإنتاج الزراعي

- رفع مستوى الوعي الصحي والبيئي

إن المرأة الريفية المتعلمة تصبح جسرًا بين الحداثة والتقاليد، قادرة على استيعاب التطور دون أن تفقد هوية المكان.

رابعًا: المرأة الريفية والصحة المجتمعية

تلعب المرأة الريفية دورًا حاسمًا في الحفاظ على الصحة العامة داخل المجتمع. فهي المسؤولة الأولى عن التغذية، والنظافة والعناية بالأطفال وكبار السن وفي كثير من القرى، تكون المرأة مصدر المعرفة الصحية الشعبية، مستندة إلى خبرات متراكمة في التداوي بالأعشاب، والوقاية، والتعامل مع الأمراض البسيطة.

كما أنها خط الدفاع الأول ضد سوء التغذية والأوبئة، والإهمال الصحي، خصوصًا في المناطق التي تعاني من ضعف الخدمات الطبية.

خامسًا: التحديات التي تواجه المرأة في المجتمع الريفي

رغم كل هذه الأدوار، لا تزال المرأة الريفية تواجه تحديات جسيمة، أبرزها:

- التهميش الاقتصادي وعدم الاعتراف الرسمي بعملها.

- ضعف فرص التعليم والتدريب.

- القيود الاجتماعية الصارمة.

- قلة المشاركة في صنع القرار المحلي.

- الحرمان من الحقوق القانونية أحيانًا.

هذه التحديات لا تنتقص من دورها، لكنها تكشف حجم الظلم الواقع عليها، وتؤكد الحاجة إلى سياسات تنموية عادلة تعترف بقيمتها الحقيقية.

سادسًا: تمكين المرأة الريفية… ضرورة لا خيار

إن تمكين المرأة الريفية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة تنموية وأخلاقية. فتمكينها يعني:

- تمكين الأسرة

- تمكين الاقتصاد المحلي

- حماية الهوية الزراعية

- تحقيق تنمية مستدامة حقيقية

ويبدأ هذا التمكين من التعليم، مرورًا بالرعاية الصحية، ووصولًا إلى إشراكها في صنع القرار، ودعم مشاريعها الصغيرة وحماية حقوقها القانونية والاجتماعية.

ختاما فأن المرأة الريفية ليست مجرد ظلٍّ للرجل، ولا تفصيلًا ثانويًا في الحياة الزراعية، بل هي العمود الفقري للمجتمع الريفي، وحارسة استمراره، وصانعة توازنه إنها المرأة التي تُنبت الحياة من قلب القسوة، وتحوّل التعب إلى معنى، والصبر إلى إنجاز.

وحين ننصف المرأة الريفية، فإننا لا ننصف فردًا فقط، بل ننقذ مجتمعًا كاملًا من الهشاشة، ونزرع في الأرض مستقبلًا أكثر عدلًا وإنسانية.

***

د.رافد حميد فرج القاضي

 

عندما تصير القراءة عادة يومية فيصبح الكتاب رفيقا للقارئ في أي مكان، حتى في غرفة النوم فجرت العادة أن بعض القراء لهم اماكن مخصصة للقراءة بعيدا عن غرف النوم التي يستسلم فيها الإنسان للراحة والكسل والابتعاد عن متاعب العقل والفكر ولكن بعض الكتاب الذين يقدسون الوقت يتخذون من هذه الغرف أماكن للقراءة والاستمتاع بوجبات فكرية قبل الخلود إلى نوم عميق و أحلام جميلة

يحدثنا المفكر الإسلامي والطبيب الجراح السوري خالص جلبي عن هذه العادة فيقول :"معظم الناس يعتبر أن غرفة النوم هي للنوم، وهذا نصف الحقيقة فيمكن أن يجعل الإنسان حصة من قراءته لوقت ما قبل النوم فينام على الكتاب، وأهميته أنها تذهب إلى اللاوعي فتشحنه بالفكر، وعلى الإنسان أن لا ينسى وضع قلم وورق بجانب رأسه لتسجيل الأفكار المنهمرة فجأة، وابن الجوزي وضع كتابا بعنوان (صيد الخاطر)، وزوجتي ـ رحمها الله ـ كانت زينتها وحليتها في الدنيا كتابا وكتابا مسطورا في رق منشور والقلم وما يسطرون، ولقد هضمت أنا العديد من الكتب في فترة ما قبل النوم، وهي نصف ساعة رائعة؛ فحاول مران نفسك على تشكيل هذه العادة الحميدة......."

فنصف ساعة قراءة كل يوم سيكون لها الأثر الكبير على الفكر والإنتاج وبإمكانك قراءة مجلدات كبيرة وسلاسل ثقافية فلا تحتقر هذه الدقائق الثمينة..

ويقول أيضا: "ومما أذكر من قراءاتي الليلية أنني قرأت بلذة ولفترة أشهر طويلة كتاب عالم الاجتماع علي الوردي العراقي في موسوعته عن التاريخ العراقي الحديث، قرأتها وأنا أحمل قلم فوسفوري وآخر رصاص فأسجل في أول الكتاب ما طاب من أفكار. ولم يكن هذا الكتاب الوحيد بل قرأت كتاب عبدالله عنان في موسوعته عن (التاريخ الأندلسي) في سبعة مجلدات وكذلك كتاب فيكتور فرانكل بعنوان (الإنسان يبحث عن المعنى) وهو كتاب رائع عن تجربته الشخصية في معسكرات الاعتقال...."

فعزيزي الكاتب المثقف القارئ لتتخذ من غرفة نومك مكانا للسباحة في عوالم القراءة السحرية والسفر عبر بحار الكلمات المشعة...فمن غرفة النوم تكون يقظة العقل وتكون الأفكار العظيمة الملهمة...

***

الكاتب: شدري معمر علي - الجزائر

 

لو أردنا تعلم مهارات التفاعل بين البائع والمشتري، علينا أن نعايش اليابانيين في متاجرهم ونرقبهم كيف يتعاملون مع الزبائن!!

أذهلني أسلوبهم وما يبدونه من إحترام وإمتنان، لأنك زرت متجرهم وفكرت في شراء حاجة ما منه.

أنا الشرقي الذي تعود أن تكون العلاقة بينه وبين البائع معركة غالب ومغلوب، أجدني أمام هذا الأسلوب الراقي من التعامل مع الإنسان وهو يتبضع في متجر ياباني، أو محل للبضائع المتنوعة.

ووسط دهشتي نهض سؤال التقدم والتأخر، فما نقوم به من تعاملات بيننا، تعكس واقع حالنا المجرد من الرحمة والإنصاف والإحساس بالآخر.

ذات مرة في مصر مع وفد أجنبي، وجدتني أتعامل مع بائع مصري بطريقتنا المعهودة، وإذا بفتاة أجنبية تقترب مني وتقول: لا داعي لهذا الأسلوب، فكّر لو أعطيته أكثر فأنك ستضع طعاما على مائدة العائلة، فخجلت من نفسي، وغضبت من طباعي الشرقية التي تكنز عدوانية، ولا تريد الرضا والفرح.

ومرة كنت مع صديق مغترب في زيارة لمدينة فيها مراقد مقدسة، وتوجه لشراء حاجة ما، فضاعف سعرها البائع وعندما حاولت المساومة دفع صديقي المبلغ المطلوب وقد تجاهلني، وعرفت بعد سنين أنه كان على حق فتفكيره ربما كان مثل ما ذكرته تلك الفتاة الأجنبية.

مَن علم الغرباء إحترام الآخر وضخ فيهم إراد التصدّق على الآخرين، فهم يرون أن الذي يطلب سعرا إنما يحتاج لذلك المبلغ من المال.

فهل أن كلامنا يناقض أفعالنا؟!!

نُسميهم كما شئنا وإنّا

بلا خُلقٍ حَميدٍ فانْكسرنا

تَراهم في تعاملهم كباراً

وفينا من تعاملنا أذانا

يدومُ الفقر في زمنٍ سَقيمٍ

إذا داستْ على ألمٍ خُطانا

***

د. صادق السامرائي

سؤال الوجود الحارق

سؤال يحلق بداخلي، يجذبني إلى هاوية العدم، يحرقني بلا نار مرئية، ويترك دفئاً أسود في أعماق الروح. إنه سؤال لا يهدأ أبداً، يصر على أن يعرف، على أن يصل إلى الحقيقة المطلقة: من أنا حقاً؟ ومن أنت في هذا الوجود المتشابك؟ ومن نحن جميعاً في هذه المسيرة العابرة؟

حين يسأل الإنسان نفسه أو غيره: "من أنت؟"، يظن واهماً أنه يملك الإجابة الجاهزة. مجرد أسماء، ألقاب، أعداد، وحروف عابرة، جمل مؤقتة تصنع انطباعاً سطحياً لشخص مستقبلي متخيل. لكن الحقيقة أعمق بكثير من كل هذه القشور. الحقيقة المرة هي أن السؤال نفسه هو الجواب الحقيقي: لماذا نحن هنا ولا ندري الهدف؟ ومن أين يجب أن نبدأ رحلة البحث هذه؟

الإنسان كائن فوضوي بطبعه، عشوائي في تصرفاته، ولا يصدق حتى ذاته المتذبذبة. كل فعل نقوم به، كل كلمة نتفوه بها، كل شعور يغمرنا، يُقاد في الواقع من قوة مجهولة كامنة. شيء ما داخلنا يدفعنا، يقوينا أحياناً، ويضعنا في صراع دائم مع أنفسنا والعالم. نظن بغرور أننا الأقوى والمسيطرون، بينما الحقيقة أننا نتبع خيوطاً قدرية لا نراها بالعين المجردة، وننفذ أوامر غامضة، ونتظاهر بالمعرفة الكاذبة، ونبحث عن الذات في ظلالها الوهمية.

هناك من يعارضك بشدة، وهناك من يؤيدك بحماس، وهناك من ينفذ ببساطة بداخلك كالسهم. أنت لست سوى نتيجة حتمية لصراع داخلي مستمر، مجموعة متناقضة من التناقضات الصارخة والحوارات العاصفة. تناقضات تصنع كيانك الفريد، وحوارات قد تهدمك أو تبنيك، وقرارات تفرض عليك قسراً بينما تعتقد بسذاجة أنها كانت محض اختياراتك الحرة. لكن السؤال الوجودي يظل قائماً: من يدفع ثمن هذا الصراع؟ ومن يشتريك كصفقة في سوق الحياة؟

نحن لسنا أكثر من معجزات بيولوجية بلا مرشد حكيم، ولا ندرك من نحن حقاً إلا بالسطحية المميتة التي نعيشها. العقل البشري يحاول السيطرة المنطقية على كل شيء، بينما الفكر يغوص بلا هوادة في بحر أسود عميق، بلا ضوء مرشد، بلا دليل يهدينا سواء السبيل. في هذا البحر، تولد الإجابات بصعوبة من رحم المعاناة الإنسانية المشتركة، وتتبلور من صراعات داخلية لا تنتهي أبداً، ليظل السؤال الأكبر والأكثر إلحاحاً حاضراً دائماً ويتردد صداه في كل مكان: من أنا؟.

***

ايمان عبد الحكيم خريسات

يتمثل الحلم في الوعي الجمعي قيمةً إيجابية: فضاءً للحرية، ومجالًا للأمل، ودليلًا على الحيوية والطموح. غير أن هذه الصورة تخفي سؤالًا جوهريًا قلّما يُطرح وهو: لماذا نحتاج إلى الحلم أصلًا؟

لو كان الإنسان قادرًا على تحقيق مقاصده في الواقع، وعلى تحويل إرادته إلى فعل، فهل كان سيمنح الحلم هذه المكانة في حياته؟

الحلم، في صورته الرائجة لدى الناس، ليس امتدادًا طبيعيًا للفعل، بل غالبا هو بديل عنه. إنه ليس مرحلة أولى من مراحل التحقيق، بل نتيجة مباشرة لتعطّل التحقيق نفسه.

الهدف بطبيعته واقعي، محدد، مشروط بالقدرة والزمان والوسائل.

أما الحلم فهو هدف منزوع الشروط، محرَّر من القيود، لا يُسأل عن إمكانه ولا عن طريقه.

حين يعجز الإنسان عن الانتقال من الإرادة إلى الفعل، ومن التصور إلى الإنجاز، يحدث تحوّل خفي:

الهدف الذي فشل في أن يتحقق، يُعاد إنتاجه في صورة حلم.

بهذا المعنى، الحلم ليس بداية الطريق، بل نهايته المؤجلة. إنه الشكل الذي يتخذه الهدف بعد أن يُسحب من ساحة الواقع ويُنقل إلى فضاء التخيّل.

العجز عن تحقيق الحلم يولّد ألمًا وجوديًا: شعورًا بالنقص، وبالقصور، وبالاصطدام القاسي مع حدود وشروط الذات والواقع.

هنا يتدخل الحلم بوصفه آلية دفاع، يخفف وطأة الفشل دون معالجته. ويمنح الإحساس بالمعنى دون تحقيقه، ويقدّم وهم الإمكان بدل الإمكان نفسه.

الحلم لا يغيّر الواقع، لكنه يغيّر إحساسنا به. ولذلك يُفضَّل على الفعل، لأن الفعل يعرّي القدرة، بينما الحلم يحميها من الإختبار والخيبة.

يرغب الناس في الحلم لأن الحلم لا يطالب ببرهان، لا يفضح العجز، لا يفرض مسؤولية، لا يعرّض صاحبه للهزيمة.

في الحلم، الجميع ناجحون، أحرار، مقتدرون.

أما في الواقع، فالمعايير قاسية، والنتائج مكلفة، والفشل لايرحم.

الرغبة في الحلم ليست محبة للقيمة، بل هروب من المحكّ. إنها تفضيلٌ لحياة بلا امتحان على حياة تُقاس بالنتائج.

في كثير من الحالات، لا يكون الحلم نتيجة قهر خارجي فقط، بل نتيجة قهر داخلي نفسي.

حين يدرك الإنسان بوعي أو دون وعي أن الطريق يتطلب جهدًا وصبرًا، وتضحية واحتمال خيبة، فإنه قد يختار طريقًا أسهل، هو الحلم.

بهذا يصير الحلم شكلًا راقيًا من الكسل: كسل لا يبدو كذلك، لأنه يتزيّا بلباس الطموح، بينما هو في حقيقته تعليق للفعل لا تحفيز له.

وتختلف الرؤية عن الحلم في كونها: مرتبطة بإمكانات واقعية، وخاضعة للتخطيط، وقابلة للتحويل إلى أفعال.

أما الحلم بالمعنى الرائج، فهو تصور بلا جسد، معنى بلا ممارسة، إرادة بلا أثر.

إنه فكرة ارتاحت من عناء المحاولة والمخاطرة وامتلاك المستلزمات.

الحلم، حين يتحول إلى قيمة مستقلة، يصير خطرًا أخلاقيًا.

لأنه يعلّم الإنسان الرضا بالتصور بدل الإنجاز، وبالتمنّي بدل العمل، وبالاحتمال الذهني بدل الحقيقة الواقعية.

ليس المطلوب قتل الحلم، بل كشف وظيفته الحقيقية: فإما أن يكون خطوة في مسار الفعل والإنجاز، وإما أن يكون شهادة صامتة على عجز لم نجرؤ على مواجهته.

ربما، نحن لا نحلم لأننا أقوياء، بل لأننا عجزنا عن أن نكون أقوياء.

***

جميل شيخو

 

يولد الإنسان في مساحة صغيرة، بين دفء أحضان والدته وسريره الخشبي. في هذا العالم المصغر، لا تتجاوز مداركه حدود غرفته المزينة برسومات كرتونية للدببة والأرانب. هنا فقط يجد الأمان والحب، صوت الأم الذي يهدئ جوعه ودموعه، ويد الأب الذي يرفعه عاليًا ليلاعبه ويُضحكه.

مع مرور الأيام، يبدأ هذا العالم الصغير بالتوسع، تنمو عضلات الطفل وتتطور قدراته الذهنية، ليستكشف بيئته شيئًا فشيئًا بفضول لا يعرف الحدود. من الحبو إلى المشي، ومن مسك الأشياء إلى رميها واستكشافها. وفي يوم ما يكتشف أن ما وراء جدران غرفته عوالم أخرى مليئة بالدهشة والوجوه الجديدة. وقتها يسأل بحيرة وبراءة: هل العالم أكبر مما أراه؟

ويأتي دور اللغة، لتصبح أداته لفهم ما حوله والتواصل مع محيطه. الكلمة تربط بين الأشياء ومعانيها: تفاحة، بسكوتة، ألوان وصور. يبدأ بمحاكاة أصوات أمه وأبيه وهما يوجهان فضوله العارم: كل طعامك، انتبه! تدريجيًا تتحول هذه الإرشادات اليومية إلى روابط ذهنية يبني بها الطفل عالمه الإدراكي.

يكبر الطفل، ويبدأ في الجمع بين الكلمات والمعاني الأكثر تعقيدًا. النار خطرة، الخضروات مفيدة، وقواعد الأدب واضحة أمام الغرباء. تتفرع هذه المفاهيم وتتعمق مع اتساع التجارب والتفاعل مع المحيط الأوسع: الأقارب، الأصدقاء، الجيران والمعلمون. لكن ليست كل الروابط التي تتكون طفولية الطابع وساذجة في تفسيرها.

ذات يوم، يتوقف الطفل أمام باب المنزل المفتوح-عالم جديد مغرٍ ينتظره بالخارج، لكنه سرعان ما يُردع بصوت جدته وهي تحكي حكاية عن وحش يلتهم الأطفال الذين يغادرون البيت دون رفقة الكبار. في مخيلته الصغيرة، يُرسخ الطفل مفهوم جديد: خروجٌ وحيد يعني خطر مُحدق. ورغم الطابع المروع لهذه القصة، إلا أنها تحمل مأمنًا مشروطًا بحماية الكبار.

تثبت الأبحاث أن ترسخ هذه الروابط في الطفولة ليس نهائيًا؛ فمع مرور الزمن وتجريب الحياة بأنفسهم، يعيد الإنسان تشكيل هذه الروابط بما يتوافق مع واقعه الحقيقي. يكبر الطفل ليفهم أن جده خُلق الوهم عن "الوحش" لمجرد حماية لازمة لتلك السن.

ومن هنا يضع العلماء فرضية مثيرة مفادها: الحكايات المجتمعية هي عبارة عن دليل سردي يرشد إلى التعامل مع التحديات الثقافية بطريقة موجهة ومعقدة. القصص التي تُروى للأطفال تبدو بريئة وهادئة في ظاهرها لكنها تخدم غايات مجتمعية عميقة—محاولات لنقل خبرات الماضي وإعدادهم للمستقبل.

مع التقدم في مراحل الحياة العمرية واكتساب رؤية أعمق للعالم تتغير هذه القصص البسيطة. إذ تكشف التعقيدات المنبثقة عن الأنظمة الاجتماعية والهوامش الخفية للعلاقات البشرية عن وجه آخر وأكثر تعقيدًا للمجتمع. ينغمس الفرد في طبقات متعددة من السرديات التي تعكس واقع السياسة والحياة الفكرية والانتماءات المختلفة.

خذ مثالًا الفتى الذي يشاهد والده يومًا ما يتحدث بازدراء عن أشخاص فقط بسبب جنسيتهم. أو الشاب المرتبك الذي يخوض نقاشات جانبية مع زملائه عن النساء بناءً على قصص نمطية متوارثة. أو آخر قرر الغوص أكثر في آرائه السياسية مدفوعًا بتاريخ أعيد تفسيره وفق رؤية منحازة. هذه الأحداث اليومية تعكس كيف يتم غرز الأفكار وربطها بالأشخاص والسلوكيات وتكوين تصورات ذات امتدادات مجتمعية طويلة الأمد.

صحيحٌ أن الإنسان لا يتلقى كل تلك السرديات بصدر رحب أو دون تساؤل! عند التفاعل مع مجتمعات جديدة أو تجارب مغايرة، تتحدى الحقائق المكتسبة ما غُرز في داخله سابقًا. القراءة والنقاش والأسفار والمواجهات تحمل تأثيرًا متبادلًا يعيد تشكيل هذه التصورات، فيتكون لدينا مع الوقت نظام قيمي مرن وديناميكي يتفاعل باستمرار مع المستجدات.

***

شاكر عبد موس – العراق - باحث وكاتب

يُحاججني ويقول: لماذا الله غفور رحيم، أ ليس لأننا سنقترف الذنوب، ولا يمكن لمخلوق أن يخلو منها، فيطلب من ربه المغفرة والرحمة، ويتوب بعد أن فعل ما فعل من الآثام والخطايا والذنوب.

قلت: الكتاب حمّال أوجه!!

قال: من حقي أن أرى ما يدلني إليه عقلي، فالعقل قائدنا

قلت: إنها النفس الأمارة بالسوء التي تقودنا

غضب وقال: أنت تحسبنا ملائكة

قلت: العقل مطية النفس الآمرة بما ترغب، وأنت تطيع نفسك وتدّعي أن عقلك الذي يريد

قال: قل ما تقل، إن الله غفور رحيم!!

إحترت في أمره، فالشره والطمع يتوقدان في أعماقه، ويستحضران ما يبرر إندفاعه بما يرضيهما، وينكر المعقول ويحسبه نوع من الخذلان والجبن والقصور.

تلك عجيبة سلوكية يحاول البشر تبريرها بمعتقدٍ ما ليتحرر من تأنيب الضمير، فيلقي باللائمة على قوة أخرى يرى أنها ذات إقتدار مطلق.

فهل يصح القول لأن الله غفور رحيم، إفعل ما تشاء ثم أطلب المغفرة والتوبة؟!!

يُحاسبنا لأنّ العقلَ فينا

لماذا ننكرُ الأمرَ المبينا

نبرّرُ إثمنا برؤى خيالٍ

ونحسبُ ربنا دوماً مُعينا

إذا تَبعَتْ نفوسٌ مُنطواها

تناسَتْ ما جنتْ ذنبا مشينا

***

د. صادق السامرائي

القول المأثور (الأدب يستر قليل العلم، والعلم لا يستر قليل الأدب) مقولة تعكس واقعاً وجدانياً حقيقياً.. إنها مقولة وجدانية، فبغض النظر عن كونها منسوبة ولسنا في صدد دراستها سندياً أو متنياً، فذلك موكل لمحله.

ما تريده المقولة:

ليست المأساة الحقيقية أن يَقلّ علم الإنسان، فالعلم يُكتسب، ويُستدرك، ويُنمّى مع الزمن؛ وإنما المأساة أن يَقلّ أدبه، لأن قلة الأدب تكشف صاحبها مهما تحصّن بالمعارف، ومهما ازدانت سيرته بالألقاب والشهادات، فالعلم بلا أدب لا يُنقذ صاحبه، بل يفضحه.

إن الأدب هو اللغة الخفية التي تتكلم بها العقول قبل الألسن، هو الطريقة التي نختلف بها، وننتقد بها، ونعترض بها، ونعلن بها ثقتنا بأن الحقيقة لا تحتاج إلى صراخ، ولا إلى إهانة الآخر كي تثبت ذاتها، ومن هنا كان الأدب قادراً على ستر محدودية المعرفة؛ لأن المؤدب يعرف متى يصمت، ومتى يسأل، ومتى يعترف بجهله دون أن يشعر بالدونية.

أما قليل الأدب، وإن غاص في بطون الكتب، وتسلّق سلّم التخصص، فإنه سرعان ما يهوي عند أول اختبارٍ أخلاقي، فالعلم لا يمنح صاحبه حق التعالي، ولا يرخّص له احتقار الناس، ولا يبرر قسوة القول وسوء المقصد، وكل معرفةٍ لا تُهذّب صاحبها، فهي معرفة ناقصة مهما بدت مكتملة في ظاهرها.

ومن زاويةٍ أكاديمية، فإن العلاقة بين العلم والأدب ليست علاقة تزيينٍ وتكميل، بل علاقة تأسيسٍ وضبط، فالأدب هو الإطار القيمي الذي يوجّه المعرفة ويمنعها من الانحراف إلى الاستعلاء الرمزي أو العنف الخطابي.

لقد أثبتت دراسات التربية والفلسفة الأخلاقية أن التأثير العلمي لا يتحقق بقوة المعلومة وحدها، بل بأسلوب تقديمها، وبالصورة الإنسانية التي يتجسّد بها صاحبها، فالعقل لا يستجيب إلا حين يشعر بالاحترام، ولا ينفتح إلا حين يُخاطَب بأدب.

لذلك نرى في الواقع المؤسسي والفكري أن أصحاب المشاريع الكبرى لا يسقطون غالباً بسبب ضعف أفكارهم، بل بسبب خشونة خطابهم، وضيق صدورهم، وعدم قدرتهم على إدارة الاختلاف، فقلة الأدب تُحوّل العلم من رسالة إلى أداة صراع، ومن قيمةٍ جامعة إلى سلاح إقصاء.

لقد أدرك الحكماء قديماً أن الأدب هو أول العلم وآخره، فبه يُحفظ العلم من التشويه، وبه يُصان الحوار من الانفجار، وبه يُقاس نضج الإنسان لا سعة اطلاعه فقط، وكانوا يرون أن الأدب علامة الوعي، وأن سوء الأدب دليل على خللٍ عميق، مهما تلون صاحبه بلغة المعرفة.

قد يعذر الناس الجاهل المؤدب، لأن جهله لا يؤذيهم، لكنه يعسر عليهم قبول العالم سيء الأدب، لأن علمه يتحول في يده إلى أذى، فالأدب هو الوجه الإنساني للعلم، ومن فقده فقد القدرة على التأثير، ولو امتلك مفاتيح المعرفة كلها.

***

د. ليث عبد الحسين العتابي

عندما تتحول المشاعر إلى سلعة

في ظل الهيمنة الرأسمالية، لا ينجو شيء من التحول إلى سلعة، حتى أعمق المشاعر الإنسانية. الاحتلال الأمريكي للعراق في ٢٠٠٣ لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل كان أداة عنيفة لإدماج قوى بشرية وموارد جديدة في آلة الاستغلال العالمي، وضمان سيطرة رأس المال الأمريكي وشركائه على منطقة إستراتيجية. لكن هذا المشروع لم يقف عند الاقتصاد والسياسة والجغرافية، بل امتد ليُعيد صياغة الوعي والعلاقات الإنسانية ذاتها، محولاً الحب من حلقة تضامن طبيعي إلى أداة لإعادة إنتاج النظام الطبقي.

إن العلاقات الإنسانية، بما فيها العلاقات العاطفية والأسرية، تشكلها وتحددها علاقات الإنتاج السائدة التي تديرها الطبقة الحاكمة.

وقبل الانغماس في تحليلنا النقدي، لنقف لحظة أمام الظاهرة ذاتها التي نحاول حمايتها من الاختزال: الحب الرومانسي بكل قدسيته وجماله. هذا الحب الذي ظل عبر العصور أعظم ألغاز الوجود الإنساني، القادر على تحويل الروتين إلى شعر، والعادي إلى استثنائي، والزائل إلى خلود في الذاكرة. إنه ذلك الانفجار الداخلي الذي يجعل الإنسان يرى العالم لأول مرة، ليس بعينيه وحدهما، بل بعينين أخرين تشاركانه النظر. إنه التوحد الغامض حيث يختفي الفرد ليبقى الثنائي، ليس كجمع حسابي، بل ككيمياء تولد كيانًا جديدًا.

أسراره لا تُحصى: كيف يمكن لومضة عين أن تروي تاريخًا؟ كيف تتحول اللمسة إلى لغة أعمق من الكلمات؟ كيف يصبح الصمت حوارًا؟ وكيف يتحول الانكسار في حضوره إلى اكتمال؟ هذا الحب هو الثورة الروحية الأولى للإنسان، حيث يتعلم الافلات من ذاته الضيقة نحو فضاء "نحن" الرحب. إنه مدرسة التضحية غير المحسوبة، والشفافية التي لا تخشى الضعف، والهبة التي تفرح بالعطاء أكثر من الأخذ.

في حضرته، تتعطل قوانين المنطق الرأسمالي: فأغلى الهدايا قد تكون زهرة بسيطة، وأعظم الاستثمارات هو الوقت المهدر في الحضور، وأكبر الربح هو الخسارة الطوعية للذات في بحر الآخر. هذا التناقض الجميل هو ما يجعل منه أقوى مقاومة للاختزال المادي. إنه يذكرنا، في خضم آلة الإنتاج والاستهلاك، بأننا كائنات قادرة على التقديس، على اختيار شيء لا يُسعّر، على الانتصار للغزِ على الحساب، وللجمالِ على المنفعة.

لذلك، حين ندافع عن قدسية الحب الرومانسي، فإننا لا ندافع عن مجرد عاطفة، بل ندافع عن إحدى أعلى درجات الوعي الإنساني، عن تلك القدرة الفذة على خلق عالم مشترك قائم على الحرية المطلقة في الاختيار، والثقة العمياء، والجمال غير المشروط. إنه البرهان الحي على أن الإنسان، رغم كل محاولات تشييئه، يظل قادرًا على الخلق والسمو فوق مادية العالم. وهذا بالضبط ما يجعل استعادته من براثن الرأسمالية ضرورة وجودية، قبل أن تكون نضالًا اجتماعيًا.

الغزو الثقافي الذي رافق الاحتلال، عبر الإعلام والسينما والغناء، لم يكن ترفيهيًا بريئًا. لقد كان أداة إيديولوجية فعالة لغرس قيم الفردية الأنانية والمنافسة والاستهلاك. تم تقديم نموذج "الحب" كمشروع فردي يهدف الى "السعادة الشخصية" المحددة بالرفاه المادي والمنزل الفاخر والاستقرار الاقتصادي. بذلك يتلاشى الانتباه عن العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي الى البحث عن "الخلاص الفردي" عبر علاقة خاصة. هذه العملية تُفكك الوحدة الجماعية، مما يخدم مصالح الطبقة الحاكمة التي تسعى لإبقاء الجماهير مشتتة ومنشغلة بصراعاتها الشخصية.

لذلك عندما يصبح الزواج مؤسسة اقتصادية قبل كل شيء، وعندما تُقاس قيمة الصداقة بمنفعة كل طرف، فإن أساس التضامن الاجتماعي ينهار. الرأسمالية تفضل الأفراد الأنانيين، لأنهم أضعف في مواجهة نظام الاستغلال، وأكثر استهلاكًا كوحدات منفصلة، وأقل ميلاً لتنظيم أنفسهم للمطالبة بحقوق جماعية. إن انهيار العلاقات الإنسانية الحقيقية يؤدي لاستمرار تراكم رأس المال، لأنه يحول المجتمع إلى مجموعة من ذرات متفككة يمكن استغلالها والسيطرة عليها بسهولة أكبر.

في المقابل، أن الحب الحقيقي هو شكل من أشكال التضامن الإنساني الخالي من المنفعة. إنه تعبير عن الطبيعة الاجتماعية للإنسان، عن حاجته للارتباط والتعاون والعطاء غير المشروط. هذا الحب موجود في قلب الصداقة، في العلاقات الأسرية الحقيقية الخالية من حسابات الميراث والمنفعة.

تحرير الحب لا يمكن أن يتم بمعزل عن تحرير المجتمع بأسره. وتحرير المجتمع بحاجة الى نظام سياسي يرعى هذا الهدف، حيث يُلغى منطق الربح والمنافسة كقانون رئيسي للحياة، تُفك العواطف من قيود التبادل السلعي. عندها فقط يمكن للحب أن يزهر كعلاقة إنسانية خالصة، قائمة على التقدير المتبادل والتكامل والحرية الحقيقية، وليس على الخوف من الفقر أو البحث عن المنفعة.

الدفاع عن الحب الحقيقي اليوم، في ظل هجمة الرأسمالية المعولمة، هو فعل ثوري بحد ذاته. عندما نرفض أن نحب أو نختار شريك الحياة بناءً على "مصلحتنا"، وعندما نبني علاقات صداقة قائمة على التضامن الحقيقي، فإننا نقاوم منطق النظام السائد. نضالنا من أجل عالم أكثر عدلاً، حيث توزع الثروة بشكل عادل وتُلغى فيه علاقات الاستغلال، هو في النهاية نضال من أجل عالم نستطيع فيه أن نحب بحرية.

الحب هو شرارة اندلاع الثورة كما قال جيفارا.

***

حسام عبد الحسين

في زماننا كانت ثلاث كليات طب، هي بغداد والموصل والبصرة، ويتخرج منها بضعة مئات من الأطباء كل عام، وكانت الخدمات الطبية ذات قيمة إقليمية وعالمية، وأطباء الكليات الثلاث من المتميزين في إبداعهم الطبي في بلدان مهجرهم العربية والأجنبية.

واليوم توجد العديد من كليات الطب وخريجوها يبحثون عن التعينات، ولا توجد مؤسسات معاصرة تستوعبهم، وتعدهم للتخصص والتعبير عن طاقاتهم المعرفية.

فما فائدة زيادة عدد كليات الطب والمتخريجين منها، والرعاية الصحية ليست كما في الدول المجاورة على أقل تقدير؟

العيب في غياب التخطيط، والفساد والمحسوبية، وإنعدام التفكير الواضح الصريح، فالمفردات المتداولة ليست ذات قدرة على البناء.

الجامعات تؤسس كلياتها وفقا للحاجة، ولتوفير القوة الإقتصادية القادرة على تطوير البلاد وتحقبق التفاعل الواعي لها مع عصرها.

إن إنتاج الأعداد الغفيرة من الأطباء يجب أن يكون وفقا لمخططات ستراتيجية، توفر الرعاية الصحية اللازمة للمواطنين، أو أن تكون معامل إنتاج للتصدير، أي أن يتخرج الطبيب ويسمح له بالذهاب إلى دول أخرى يخدم فيها.

إن تحويل الطب إلى وظيفة، والمتخرج يريد تعيينا في دولة لا تتوفر فيها المؤسسات الكافية لإستيعاب ما تضخه الكليات كل عام من الأطباء، الذين عليهم أن يمروا بمتطلبات تعليمية لازمة لإعداد خبراتهم الكفيلة بتقديم الخدمات بسلام وأمان، فالطب ليس دراسة وإمتحان، إنه خبرة تتوارثها الأجيال، وبحاجة إلى معايشة وتدريب وتوجيه ومراقبة، لضبط السلوك العلمي وتأمين الخدمات الصحيحة.

إن زيادة أعداد كليات الطب يجب أن يتواكب مع توفير المؤسسات الصحية القادرة على إستيعاب الخريجين، وإلا فالبطالة لذوي الخدمات الطبية ستسود، وستفقد مهنة الطب قيمتها ودورها في بناء المجتمع المعافى السليم!!

جعلوا الطبَ كسيحاً جاثماً

وأصابوا بخيابٍ حالما

حَسبوا الطبَ عديداً فائضاً

وطبيبٌ عاش فيها نادما

لا مكان لطبيبٍ جاهزٍ

كلّ خريجٍ توارى هائما

***

د. صادق السامرائي

 

(عدم قدرة الحكومة على دفع الرواتب لا يعني انهياراً اقتصادياً)

اليوم شاهدت عن طريق الصدفة فيديو قصير تتحدث فيه مقدمة البرنامج مع احد خبراء الاقتصاد.

هو يقول ان عام ٢٠٣٠ سوف يشهد انهياراً اقتصادياً في العراق اذا استمرت نفس السياسات الاقتصادية، لكنها تسأله قائلة : هل يعني ذلك انه في عام ٢٠٣٠ سوف لن تستطيع الحكومة دفع الرواتب؟

بمعنى آخر انها تعتبر ان الانهيار الاقتصادي يعني عدم قدرة الحكومة على دفع الرواتب!!

لكن الرواتب ودفعها هي أمور ترتبط بالموازنة الحكومية ومدى توفر الاموال اللازمة لتسديد التزامات الحكومة المختلفة وليس فقط الرواتب وماهو في حكمها فقط..

اما الانهيار الاقتصادي فهو يعني تراجع كبير وطويل الأجل في الناتج المحلي الاجمالي وشيوع البطالة وتراجع انتاج القطاعات الاقتصادية المختلفة واغلاق المشاريع وافلاس البنوك وتراجع قيمة العملة وانهيار الاسواق المالية واسعار الاسهم وشيوع الفقر والجريمة كنتيجة لكل ذلك.

وهذا ليس من السهل حصوله، قد يحصل تباطؤ في النمو وترتفع معدلات البطالة وظهور بعض الاختلالات الهيكلية وتتراجع قيمة العملة الوطنية، لكن ذلك لا يصل بالضرورة الى حد الانهيار...

عندما يهبط سعر النفط فان الحكومة تحصل على دولارات اقل مقابل مبيعاتها من النفط وبالتالي تحصل على دنانير اقل مقابل دولاراتها التي تبيعها للبنك المركزي وبالتالي لا تستطيع الايفاء بالتزاماتها المقررة في الموازنة .

اي ان الموازنة سوف تعاني من العجز الذي يجب ان يغطى بواسطة الاقتراض او خفض سعر الدينار لغرض الحصول على دنانير اكثر من البنك المركزي مقابل دولارات الحكومة المحدودة، وهذا له انعكاسات خطيرة على الوضع الاقتصادي للبلد اولها ارتفاع معدل التضخم وانخفاض القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود..

في كل الاحوال فان دولارات النفط سوف تبقى متوفرة لدى البنك المركزي لغرض بيعها لمن يحق له ذلك كالمستوردين مثلاً وبموجب سعر الصرف الذي تقرره السلطة النقدية بالاتفاق مع الحكومة وكما اشرت الى ذلك في اعلاه.

اي ان نشاط القطاع الخاص مثلاً لاغراض الاستيراد التجاري او الاستثماري يمكن ان يستمر بدرجة معينة ويحافظ على مستوى معين من النشاط الاقتصادي.

الانهيار يحصل اذا توقف تصدير النفط تماماً لأي سبب وانقطع المورد الاساسي او شبه الوحيد للعملات الصعبة للبلد..وهذا الاحتمال لايوجد مايدعمه وفق المعطيات المعروفة.

***

د. صلاح حزام

 

تبدأ الحكاية من العبث. من عبث منظم، يرتدي رداء المؤسسة، ويتستر خلف أسماء كبرى، لكن روحه تشي بالفوضى. وزارة الثقافة المصرية، هذا العالم الواسع، الذي يحتضن تحت سقفه ثروة من الهيئات والمجالس: المجلس الأعلى للثقافة، والهيئة العامة للكتاب، وقصور الثقافة، والمركز القومي للترجمة، وأكاديمية الفنون... وغيرها.

لكنك إذا اقتربت، تجد هذه الجزر المنعزلة. كل كيان يعيش في قارته الخاصة، يحرس حدودًا وهمية، ويفتخر بسيادته على أرض لا تزرع سوى الأوراق والإهمال . قل أن تسمع همسة تنسيق، أو نبضًا لرؤية واحدة. وأوضح تجليات هذا التشظي يأتي في أكثر الملفات إثارة للأسئلة: جوائز الوزارة الثقافية. ذلك العالم الموازي الذي يحكمه التخبط، وتسوده معايير مرتجلة، وتلعب به أهواء الاستمرارية والتوقف، كقارب في لجة بلا دفة.

الاسم الواحد والأبواب المتعددة

انظر إلى اسم واحد: "نجيب محفوظ". اسم يملأ العالم، ويكفي أن يرفع راية ليكون مَعلَمًا. فماذا تفعل دولة تفتخر به كأبرز أدباءها؟ تكرره. وتكرره بطريقة تثير الحيرة.

في المجلس الأعلى للثقافة، توجد "جائزة نجيب محفوظ في الرواية العربية". أُطلقت عام 1999، ثم غابت ثمانية عشر عامًا، كأن الاسم ذهب في إجازة طويلة. عادت عام 2017، بجائزة مالية مقبولة، تمنح لمصري وآخر عربي.

لكن المفارقة الأكثر سخرية تأتي هذا العام. فبينما قد يستعد المجلس لإعلان الفائزين يخرج علينا المسئول عن معرض الكتاب، معلنًا ميلاد جائزة جديدة! تحمل الاسم نفسه: "نجيب محفوظ"، لكنها هذه المرة تابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب، وبقيمة أكبر.

سؤال مباشر: ألا تلتقي الهيئتان تحت سقف وزارة واحدة؟ ألا يعلم كل منهما ما يفعله الآخر؟ أم أن الأمر تحول إلى سباق لرفع راية الرمز فوق مبنى، وكفى؟

ثم تأتي المفارقة الأوسع. فهناك جائزة ثالثة، خارج أسوار الوزارة تمامًا: "الجائزة الدولية لنجيب محفوظ" التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ 1996، وهي جائزة محترمة، تترجم الفائز للإنجليزية، ولها ثقلها.

والسؤال الجوهري: كيف تترك الدولة المصرية، بمؤسساتها الرسمية، اسم علمها الأدبي الأبرز يدار - ولو جزئيًا - من قبل جهة أجنبية، مع ما يحمله ذلك من احتمالية تحميل هذا الاسم الرمزي تصورات قد لا تتطابق تمامًا مع سياقه الثقافي الأصلي؟

الحل ليس في منع الآخر، إنما في ترتيب البيت أولاً. لماذا لا تكون هناك جائزة مصرية رسمية واحدة قوية، شفافة، وذات قيمة معتبرة، تحمل اسم محفوظ، وتدار بتنسيق كامل بين المؤسسات، ويكون لها حضورها الدولي المحترم؟ حضور يدار بعقل مصري، ويحفظ للإرث هيبته.

جوائز لا تطعم خبزًا

انتقل من أزمة الأسماء إلى أزمة القيمة. انظر إلى عشرات الجوائز التي تعلن عنها جهات مثل المجلس الأعلى للثقافة وقصور الثقافة. ستجد قيمتها تتقافز بين خمسة آلاف وعشرة آلاف جنيه، بل إن بعضها يهبط إلى ألف أو ألفين. في زمن تضاعفت فيه تكلفة الطباعة، وصار شراء كتاب واحد رفاهية لكثير من المبدعين الشباب.

يأتي التبرير الجاهز: هذه الجوائز للشباب، أو للتحفيز. وكأن الشباب يعيشون خارج كوكب الحياة، لا يدفعون إيجارًا ولا ثمنًا للورق. هل يعقل أن تكون قيمة جائزة "وطنية" لإبداع أدبي، أقل بكثير من مكافأة لاعب كرة قدم مبتدئ في ناد من الدرجة الثالثة؟

النتيجة: تتحول الجائزة من وسيلة لدعم المبدع، إلى مجرد "إعلان شكلي". ورقة تعلق على الحائط، من دون أي أثر فعلي في دفع مسيرته خطوة واحدة للأمام. وغالبًا ما تصاحب هذه الضآلة المالية ظاهرة تكرار الأسماء نفسها في لجان التحكيم أو قوائم الفائزين، مما يحول الجائزة إلى دائرة مغلقة، أو مكافأة داخلية. هنا لا يصبح الحديث عن هزالة مادية فحسب، بل عن هزالة معنوية تدفع بالثقة في المؤسسة إلى الحضيض.

الشروط العجيبة: عقاب التميز!

وإذا خرجنا من دائرة القيمة إلى دائرة المعيار، نجد العجب. خذ ما أعلنته قصور الثقافة عن "جائزة الثقافة الجماهيرية في الآداب". من شروطها: ألا يكون المتقدم قد حصل سابقًا على إحدى الجوائز العربية الكبرى! وأن يكون قد مضى على نشر كتابه الأول عشرين عامًا!

تأمل الشرط الأول: فهو يقصي مبدعًا حصل على "البوكر" أو "زايد" أو "كتارا".. ليمنح الجائزة لمن لم يحصل عليها! أي فلسفة هذه التي تعاقب التميز والنجاح، وكأنها تقول للكاتب: "احتفظ بتميزك لنفسك، فلدينا جوائز للمغمورين فقط"؟

أما الشرط الثاني – عشرون عامًا على الكتاب الأول – فيبدو وكأنه يستهدف جيلاً محددًا من كتاب التسعينيات. فهل الجائزة لفئة عمرية؟ ولماذا عشرون عامًا بالضبط؟ أليس في هذا الشرط التعسفي قتل لروح المنافسة وتحديد مسبق للفائزين؟

هذه الشروط لا تحتاج إلى ناقد أدبي لفك شفرتها. إنها تطرح سؤالاً بسيطًا: ما الفلسفة الثقافية التي تحكم هذه الجوائز؟ أم أنها مجرد قواعد إدارية عشوائية، وضعت على عجل، من دون تفكير في الغاية؟

جوائز بلا ذاكرة

وأخيرًا، تأتي قضية النسيان المؤسسي. فمعظم جوائز الوزارة تعيش في لحظتها الإعلانية فقط. تُعلن، ثم تختفي بعد حفل التسليم، كأنها لم تكن. أين الأرشيف الشامل؟ أين أهدافها ومعاييرها عبر السنين؟ أين قوائم الفائزين منذ البداية؟ والأهم: أين أسماء لجان التحكيم في كل دورة؟ تلك اللجان التي تملك سلطة منح الشرعية.

على النقيض، تأخذك الجوائز الكبرى عالميًا وعربيًا إلى مواقع إلكترونية واضحة، تفصل كل شيء: الفلسفة، الشروط، الأعضاء، الأرشيف. إنها تمتلك ذاكرة موثقة، ووجودًا مستمرًا يضمن الشفافية. أما عندنا، فالكثير من الجوائز تفتقد لأبسط مقومات الاحتراف: الذاكرة. وهذا الغياب ليس تقصيرًا تقنيًا، لكن دليل على نظرة قاصرة للجائزة كـ "فعل إداري" ينتهي بتوزيع الشيكات، وليس كـ "مشروع ثقافي" متكامل يبني تاريخه ويراكم رصيده.

في الختام: الاستثمار في الخيبة

أزمة جوائز وزارة الثقافة هي أزمة رؤية وتنسيق قبل أن تكون أزمة موارد. الدولة تعلن في كل مناسبة دعمها للثقافة كركن من أركان القوة الناعمة. وأول تجليات هذا الدعم الحقيقي يجب أن يكون في إعادة هيكلة هذه المنظومة المضطربة.

لا بد من خطوات عملية عاجلة:

1. التوحيد: تشكيل لجنة عليا تتبع الوزير مباشرة، مهمتها حصر ومراجعة كل الجوائز، ودمج المكرر، ووضع خريطة تكاملية تمنع التضارب. جائزة واحدة قوية لنجيب محفوظ خير من ثلاث.

2. إعادة النظر في القيمة: ربط قيمة الجوائز بتكلفة المعيشة والتضخم، وجعلها قيمة تحفيزية حقيقية تليق بالجهد الإبداعي وتحدث فرقًا.

3. مراجعة المعايير: إلغاء الشروط التعسفية، ووضع معايير واضحة تركز على الجودة الإبداعية، وليس اعتبارات إدارية غامضة.

4. بناء الأرشيف: إنشاء منصة إلكترونية موحدة توثق تاريخ كل جائزة كبرى، وفلسفتها، وأرشيف الفائزين ولجان التحكيم. الجائزة بلا ذاكرة هي جائزة بلا هوية.

5. الشفافية: إعلان أسماء لجان التحكيم مبكرًا، ونشر تقارير مبررات الفوز (ولو مختصرة)، لبناء جسر من الثقة.

الجائزة استثمار. استثمار في المبدع، وفي الإبداع، وفي صورة مصر الثقافية. وهي عندما تكون رشيقة، متماسكة، شفافة، وعادلة، تصبح محركًا حقيقيًا للمشهد. أما وهي على حالها اليوم - متعددة الأسماء، هزيلة القيمة، غريبة الشروط، وبلا ذاكرة - فهي لن تكون أكثر من ضجيج إداري، يضيع في زحام الصور الاحتفالية، ولا يترك وراءه سوى ركام من الخيبة، ومساحة شاسعة من الفراغ، يتساءل فيها المبدع عن مصير الثقافة في بلد يدعي أنه صاحب أعرق حضارة عرفها التاريخ.

***

د. عبد السلام فاروق

 

ينظر متفلسفو الغرب وتابعيهم النقليين الى البدئية العظمى الافتتاحية باستصغار مستهينين بقيمه ومستوى الاختراقية الكونية المتصله باللحظة الابتداء من علاقة العقل بحالته القصورية الابتدائية للكون وظواهره والوجود ومقتضياتيه، ومن هذا المنطلق يمكن ان تلحظ ظاهرة الميل الى تقديس المنجز المتاخر والحداثي في هذا المجال على حساب ماقبله وماكان لحظة الافتتاح في كشف العقل بصيغته المتوفره عن العلاقة بالوجود وهي المهمه الاعظم مقارنة بكل ماقد بني عليها واستند لها.

 وهكذا وضع تسلسل الوعي ضمن متواليه: الاسطورة، الدين، الفلسفه، كما فعل هيغل على سبيل المثال، وكان الفلسفة هي القمه الاعقالية البشرية، مع ان مثل هذه المعادلة تبدو بوضوح مختلة فالدين ليس بالمرحله التي يمكن نسبتها للماضي المنقضي، وهو موجود في الحياة وفي الكينونه البشرية بقوة تفوق بما لايقاس موقع الفلسفة النخبوي المحدود، بحيث يحتل المنظور الماورائي موقع العنصر الوجودي المجتمعي خارج السياقات الجغرافية والكيانيه على مدى يشمل المعمورة بمعظمها بصفته لازمة وجود، بما يمكن، لابل يجب ان يجعل من محاولة وضع مثل التدرجات المذكورة اعلاه في خانة التوهمية غير المدقق فيها، والمرتكزه لاعتبارات السطحية الموكوله الى العجب المتاخر بالذات بناء على مفعول عنصر حضر من خارج العملية المجتمعية بصيغتها الاولى اليدوية، من دون اي قدرة على الارتقاء لمستوى وحقيقة الفعالية العقلية البدئية الوجودية كما عاشتها المجتمعات الاولى ابان تبلورها الافتتاح.

 وتستوجب هذه الظاهرة اعادة قراءة للسردية العقلية الادراكية البشرية، بين منجز الافتتاح البدئي وذلك اللاحق، وبالاخص منه الذي رافق ونجم عن الانقلاب الالي بصيغته الاولى المصنعية الاوربية وتوهماتها، الامر الذي يمكن ان ياخذنا الى القول بان المنطلق الرؤيوي الاول المجتمعي بصيغه الاسطورية السماوية بازاء الوجود والكون المبهم، هو الصيغة العليا من الرؤية العقلية البشرية المؤجله، والتي لم تكن قادرة على التحقق في حينها، لاسباب تتعلق بنوع وسيلة الانتاج المتاحة والممكنه من جهة، وحكم القصورية الاعقالية الابتدائية، ولزوم تجاوزها الى النطقية التحولية الباقية خافيه، تتعدى القدرات المتاحة من الادراكية العقلية حتى اللحظة الراهنه.

 وهنا تقع القصورية الكبرى في النظر الى الحقيقة الوجودية والمسار البشري المقرر والمصمم بنية وكينونه، مع العجز عن التعرف على الحقيقة المجتمعية الاساس اللاارضوية الدالة على خضوع الوجود لقوة التحولية العظمى الى العقلية بدل الجسدية، فالمجتمعات تبداكمنطلق بالتبلور في ارض سومر، لاارضوية ذاهبة الى مابعد ارضوية جسدية وهذا هو جوهر الوجود البشري ومنتهاه، مقابل ذلك الذي يرى المجتمعية جسدية ابدية ونهائية، فيعمد الى تكريس هذا النوع من النظر على انه الواقع، الى ان ذهب ليدعمه لاحقا بما يعتبره "منظور العلم" والعقلانيه، مقابل الماورائية والميتافيزيق، هابطا بالمروية المجتمعية التحولية الى الدرك الارضوي المغلق، بما في ذلك منتهياته المفترضة "الاشتراكية" وعموم صيغ اليوتوبيا الارضوية، التي تقف بالكينونه البشرية عند حدود ونطاق الجسدية الحاجاتية التي هي بالاحرى محطة لازمة مؤقتة وعابره، مفروضة لاجل توفير اسباب الانتقاله العظمى التحولية مابعد الجسدية.

 الابراهيمه العراقية السومرية هي التعبيرية الاولى اللاارضوية اي التعبيرية التحولية الاولى ضمن اشتراطات استحالة التحقق، وتحت وطاة اشتراطات اليدوية وغلبة الارضوية وطفولة العقل، تتكامل برغم مجافاة الواقع نبويا حدسيا بما يوافق اشتراطات الازدواج البشري المجتمعي التفاعلي الانتقالي الطويل، الذاهب الى نهاية الطور اليدوي الانتاجي، حين تبدا بالتبلور ساعتها ومن هنا فصاعدا اسباب التعبيرية الثانيه اللاارضوية، "العليّة / السببية" ويصير الانتقال من الجسدية واقعا معاشا، مع توفر اسبابه على صعيد وسيلة الانتاج العقلية/ التكنولوجية العليا، والرؤية المنتظرة، تلك البدئية الثانيه، الغاية والغرض الاعلى.

 والتعبيرية اللاارضوية التي هي اول رؤية ابتدائية للكون والوجود هي المنظور "العلمي" الاول للكون والوجود قبل اوانه، يقر اولا بوجود قوة عليا خارجة عن الارادة البشرية هي المتحكمه بمسارات الوجود، وهي حين تتم صياغتها في حينه، فانها تاتي ملزمه بالخضوع لما متاح لها من ممنكات التعبير اللاارضوي. وهنا نجد التوافق الضروري بين اشتراطات الوجود البشري الاولى ومستوى الادراكية وبين اجمال البنية الربانيه من دون تجاهل عبقرية الصياغة ضمن المتاح آنيا مقابل المنظور الفرعوني التالهي الارضوي الجسدوي، المادي الارضوي الموكول للحاجة، لنصبح امام رؤية تسحب السلطة من الارض لتودعها في السماء، متعدية الملوك والفراعنه وكل صنوف الحكام، فاذا ادمج حكم الغائية الكونيه العليا ب "الله" فان اللحظة وشروطها وسبل وممكنات التعبير عنها ضمانا لفعلها، تكون مرهونه بممكنات الرؤية الاولى للوجود والعالم والكون، بالاخص ضمن اشتراطات اليدوية، الى ان تنتهي مفاعيلها وتحل ساعة الانتقال الالي التكنولوجي العقلي، ووقتها تحل ساعة العلية السببية اللاارضوية التي يسمونها ارضويا " العلمية" و"العقلانيه" الارضوية، وقد آن اليوم اوان انحسار فعلها المؤقت التوهمي، مع بدء تبلور الاسباب الضرورية للتحوليه العظمى ماديا " تكنولوجيا".

 لم يصل الكائن البشري مستوى يؤهله للتعرف على قوانين تطوره ومسارات وجوده وغاياته، فهو مايزال مجرد موضوع، ثمه قوة عليا هي المتحكمه به وبكل مايخص ترقية ووجهته، فاذا حدث وانبثقت الرؤية الثانيه للوجود من هنا فصاعدا، وغدا الكائن البشري قادرا على التعرف على اليات وجوده ومساراته، فان مفهوم " الله"، اي الغائية الكونيه العليا الناظمه للكون والياته، لابد سيصبح اكثر ملموسية، وياخذ بالتشكل بما يوافق صيغة التحول العظمى البشرية الى "الانسان/ العقل"، على انقاض "الانسايوان" الحالي المنتهية صلاحيته، بما هو محطة انتقالية اخيرة بين "الحيوان" و"الانسان"، ووقتها حين يكون العقل المتحرر بذاته من وطاة الجسدية،هو الحاضر الفعال، فان كل مايخص النظر للذاتيه والكينونه والوجود يصير في عالم اخر مختلف نوعا، لسنا بعد قادرين على وصفه، مع ان العمل على استجلائه صار هو المهمة الاعظم على مستوى التاريخ البشري الممتد عودة الى عصور الحيوانية، ذهابا الى الخليه الاولى.

***

عبد الأمير الركابي

 

العامل المشترك بين علماء الأمة في مسسيراتها الحضارية أنهم حفظوا القرآن في سن مبكرة، فما علاقة ذلك بنبوغهم وتألقهم المعرفي؟

القرآن فيه 77439 كلمة والغير مكررة منها عددها 19209، هذا الثراء اللغوي يعطي حرية وفضائية مطلقة للتفكير.

العقل بحاجة إلى مفردات لغوية لأنها أدوات التفكير وعناصر التعبير عن الفكرة، وبدونها يبدو عاطلا وبليدا، فضخ المفردات يعني إحياء نشاطات العقول وتحفيزها للإتيان بالأصيل.

بينما في واقعنا المعاصر هناك فقر لغوي مدقع، تسبب في تضييق مساحة التفكير وفقدان القدرة التحاورية لغياب عناصر الحوار اللغوية.

وتجد الدول القوية تهتم بضخ المفردات اللغوية في رؤوس الأجيال منذ الصغر، ولهذا يستطيع الطفل عندهم التعبير عما يعتريه بالكلمات، لا بالدموع والصرخات.

فالمجتمعات الفقيرة لغويا ضعيفة ومهزومة، والعكس صحيح، والمخزون اللغوي عندنا يميل للنضوب.

الكلمة ومعناها لا تُدَرس في مدارسنا، بينما المجتمعات المتطورة تعلم أبناءها أصوات الحروف وكيف يتم صناعة الكلمات بها، ومن ثم العبارات التي تشير إلى فكرة بوضوح وسهولة.

الإحتفاء باللغة العربية ليس فخرا وغزلا ورثاءً وتمجيدا، إنه بالعمل الجاد على إظهار مهاراتها المعاصرة، وضخ المفردات اللازمة للتعبير عن الأفكار المتفاعلة مع حاضرنا المعلوماتي الدفاق، وبثورة مَعجمية، لزيادة الثروة اللغوية في رؤوس أبنائها.

فهل يمتلك الواحد منا نصف عدد كلمات القرآن؟!!

مفرداتٌ خاوياتٌ عِندنا

فارْتضينا لقصورٍ هَوننا

لغةُ الضادِ أشادتْ مَجْدنا

وتباهتْ وأنارتْ عَقلنا

فاطلقوا الأضواءَ فينا حُرّةً

أمّتي شعّتْ وطافتْ كَوْننا

***

د. صادق السامرائي

 

الأكاديميون يخاطبوننا بمفردات لا تسترعي تفاعلنا وفهمنا، لأنها إستعلائية تخصصية ذات رمزية وغموضية صعبة، بينما المتعارف عليه في مسيرتنا عبر العصور أنهم يبذلون جهدا متواصلا لتبسيط اللغة التي يعبرون فيها عن أفكارهم وطروحاتهم المتنوعة.

هذا التباعد بين القارئ وما يأتي به الأكاديميون، رغم أهمية طروحاتهم، لكن التفاعل بينهم والمتلقين تكاد تكون معدومة، حتى الصفوة من الناس تعجز عن التواصل مع ما يطرحونه، وكأنهم يحسبون التعقيد والتصعيب في عباراتهم ومفرداتهم يدل على ثقافتهم، بينما الحقيقة تشير إلى أن الذي يعرف مادته الأكاديمية يقدمها بأبسط وأسهل لغة.

فبسّطوا ولا تعقدوا، ففي البساطة قوة وقدرة على التفاعل الإيجابي والتقدم.

من معاضل مجتمعات الأمة أن النشاطات الأكاديمية لا تستند إلى مفردات واقعية ولا تتفاعل مع المجتمع بإيجابية، ولهذا يكون للجامعات دور ضعيف في التوعية وإستنهاض الأجيال، والسير بهم ومعهم نحو آفاق مستقبلية معاصرة.

المطلوب مفردات لغوية سهلة الفهم، وتقدم الفكرة بآليات قادرة على تحويلها إلى سلوك، وكينونة واضحة متفاعلة مع الحياة ومؤسسة لمنطلقاتها الإيجابية.

فلا قيمة للمقالات والخطابات والقصائد الملغزة المبهمة الغامضة، فالمواطن لا يمتلك القابلية على تفتيت العبارات وتشريح النص المنشور، لأن الأساليب التربوية أفقرت معجميته، وكرهته بالكلمة ومعناها، ويبدو أن أبناء الأمة من أقل المجتمعات كنزا للمفردات، ولهذا يعجزون عن الحوار والتفاعل الحضاري، ويكون للعضلات دورها وللقوة المتصورة أثرها في تقرير مصيرهم.

نُخاطبهمْ بترْميزٍ غريبِ

ونَحْسَبُ قولنا صوتَ اللبيبِ

هي الأفكارُ إنْ عَسُرَتْ أغاضَتْ

وجادتْ من تثاقلها بريبِ

محاسنُ ضادِنا أبْدتْ وضوحاً

ويسّرتِ المعارفَ للأريبِ

***

د. صادق السامرائي

 

ليس الحزنُ ظِلًّا عابرًا في نهار الروح، ولا طيفًا يتسلّل إلى القلب كما تتسلّل نبرةُ ليلٍ واهنةٍ في آخر العمر؛ بل هو أحدُ الأركان التي بُني عليها الوجودُ الإنساني، كالماء في أطراف الأرض، والهواء في جوف الرئة، والنور في حدقة العين. إنسانٌ بلا حزنٍ، هو كائنٌ لم يعرف حرارة التجربة، ولم يمسّ جوهر الحياة في أكثر مواضعها كشفًا وإيلامًا وعمقًا. فالحزنُ ليس نقيضَ الحياة، بل أحد أسماء نضجها.

من لا يحزن، لا يعرفُ لذّة الشفاء. ومن لا ينكسر، لا يعرفُ معنى الوقوف. إن الحزنَ هو المدرسة التي لا يدخلها القلبُ إلا ليتعلّم: كيف يكون أقوى عندما يبدو أضعف، وكيف يرى أبعد حين تغشى العينَ غيمةٌ من الدموع. إننا لا نتطهّر بالفرح وحده، بل نتطهّر بالحزن أكثر، لأنه يهبنا صفاءً خالصًا لا يشبهه شيء؛ ينفض عن الروح زيفها، ويجعلها تقف عاريةً أمام حقيقتها الأولى.

كم من إنسانٍ خرج من رحِم الحزن كما تخرج السنبلة من ظلمة التراب؛ ناضجةً، ناصعة، ممتلئةً بحكمة الأرض وملحها ومطرها. وكم من روحٍ لم تعرف عمقَ ذاتها إلا حين انفتح فيها جرحٌ، صغيرٌ أو فادح، لكنه كان البابَ الوحيد إلى النور.

ليس الحزنُ دعوةً للانكسار، بل دعوةٌ لفهم الوجود. هو الوجهُ الذي نرى فيه هشاشتَنا، فنخجل من قسوةٍ صدرت عنّا، أو من حبٍّ ضيّعناه، أو من فرصةٍ أفلتت من يدٍ لم تُحسِن القبض عليها. إنه يذكّرنا بأننا بشر: لسنا آلاتٍ للضحك، ولا تماثيلَ للتماسك، بل كائناتٌ تُخطئ وتتعلم، تُحبّ وتُخذَل، تبني وتنهدم، ثم تعود لتبني من جديد.

إنسانٌ بلا حزنٍ، هو إنسانٌ بلا ذاكرة. بلا تلك اللحظات التي تكوّن صورَنا الداخلية، وتمنحنا القدرة على التعاطف، وعلى فهم آلام الآخرين. فالقسوةُ لا تولد من الحقد، بل من خواءٍ شعوري، من نفوسٍ لم تذُق طعم الخسارة، ولم تتأمل ملامحها في مرآة الليل.

وما الحزنُ إلا البلّور الذي تتشكّل فيه أعمقُ مشاعرنا. لولاه، لبقينا غبارًا عالقًا في هواءٍ ساكن، بلا وزنٍ ولا أثر. لكنّه يعيد صهرنا، يحوّلنا إلى معدنٍ قابلٍ للطرق، ثم يخرج منّا شكلًا جديدًا، أكثر رهافةً، وأكثر قدرةً على أن يرى غيره.

اليوم، في عالمٍ مزدحمٍ بالأقنعة، لم يعد الناس يخجلون من الفرح، بل يخجلون من الحزن. يضعونه خلف ظهورهم كما لو كان عيبًا، بينما هو شهادتهم على أنهم كانوا أحياء. أن يتألم الإنسان، يعني أنه ما زال قادرًا على الحبّ، على التعلّق، على الخسارة، على الانتظار، على الوقوف أمام ذاته دون زيف.

ولذلك…

إنسانٌ بلا حزنٍ يساوي لا إنسان

لأن الحزن هو الدليلُ الأخير على أن في داخلنا قلبًا ينبض، وروحًا تتفاعل، وذاتًا تتشكّل. هو توقيعُ الحياة على صفحاتنا الشخصية. هو أشبهُ بخيطٍ دقيقٍ في نسيجٍ معقّد، لكنّه الخيطُ الذي يمنح النسيجَ معناه.

إنه ليس عدوًّا ينبغي طرده، بل رفيقُ دربٍ ينبغي فهمه. فإن حضر، لا تُغلق البابَ في وجهه. دعه يجلس قليلًا؛ سيمنحك درسًا لا تمنحه آلافُ الكتب. وعندما يغادر، يغادرُ تاركًا وراءه روحًا أوسعَ من قبل، وقلبًا يحتمل الحياة كما هي: مُذهلةً حينًا، قاسيةً حينًا، لكنها دائمًا تستحق أن نعيشها.

فمن لا يحزن…

لا يعرف نفسه.

ومن لا يعرف نفسه…

لا يمكن أن يكون إنسانًا كاملًا.

***

بقلم: د. علي الطائي

 13-12-2025

حين نتابع بدايات الزمان كباحثين في شؤون الفلسفة تبدو هذه البدايات والنهايات هلامية، وهذا يعني ان لكل بداية نهاية.. والتساؤل هنا كيف هو شكل ما قبل الوجود وشكل ما بعد الوجود؟ وهل كان هناك زمان قبل الوجود وبعد الوجود؟

هذه المقاربة تكشف وجود فضاءات كونية عائمة أبدية خالية من الزمان.

ويتضح من ذلك أن الزمان هلامي خارج الوجود، كما يبدو في قاموس الفلسفة، هو زمان لا حدود له، فضاء سرمدي يتحرك فيه الوجود حركة ذاتية دائبه أزلية.

في هذا الفضاء السرمدي كان الوجود وكان العدم،

فهل كان قبل الوجود عدم؟

وإذا كان كذلك إفتراضا، فكيف يخلق الوجود من العدم؟

ليس ذلك تشكيكا ، إنما مطارحة فكرية طرحها سبنوزا وسارتر، وهيدجر قبلهما حين بحث إشكالية

إن الوجود سابق للعدم، حيث يتشكل المنطق المجرد (وجود – عدم – وجود).. وناقش ايضا موضوعة ان العدم يسبق الوجود (عدم – وجود – عدم)، والتساؤل هنا هل يخلق الوجود من العدم؟ بينما يقول منطق العقل أن العدم لا يخلق الوجود، لماذا؟ لأنه عدم.

إذن، من يسبق من..؟

هل يولد الوجود من العدم؟

وإذا كان ما قبل الوجود عدم وما بعد الوجود عدم فإن الوجود سيكون بين عدمين أي (عدم – وجود – عدم) بمعنى (قبل الولادة عدم وبعد الموت عدم).. وهذا يعني ان الوجود الانساني في حقيقته نسبي وإن العدم في حقيقته مطلق. وهذا يؤكد أن وجود الكائن في الحياة وجودا نسبيا بين عدمين.. وتلك من بديهيات فلسفة الوجود والعدم.

***

د. جودت صالح

إسطنبول 1/ 9/ 2025

........................

*عن فلسفة الوجود والعدم [هيدجر ونيتشه وسبنوزا وسيمون دي بوفوا وجون بول سارتر وهنري بيرغسون وكولن ويلسون وغيرهم.]

ابن القطعة هو إسماعيل بن نصر بن عبد المحسن السلاحي. ولا يُعرف عنه شيء سوى أنه مؤلف مخطوط عثر عليه رياض مصطفى العبدالله بدار الكتب الظاهرية الأهلية بدمشق، فضبطه وحققه، ثم أصدرته دار الجيل ببيروت في طبعة أولى سنة 1413هـ-1992 م.

الكتاب يحمل عنوان (ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار)، واعتبر المحقق أن إصداره يندرج ضمن جهد المؤرخين لتوفير محطات ارتياح نفسية وفكرية، عن طريق ذكر النساء وأخبارهن و طرائفهن، متوسلا بذلك إلى انتزاع بسمة من ثغر القارئ وهو يطالع قصص الكيد والدهاء، والمواعظ التي ترى في النساء بلاء وشرا مستطيرا. وتزعم أن الزهد فيهن هو عين الصواب، وأن راحة المرء في اعتزالهن والفرار منهن إلى رؤوس الجبال!

يتوجه المؤلف في مقدمة الكتاب إلى شخص لا ندري من هو، سأله أن ينظم له أبياتا في وصف عيوب النساء "الغالبات لكل غالب". فبادر المؤلف إلى نظم قصيدة من أربعة وثمانين بيتا، يعرض فيها لقصص الأنبياء والصالحين، ومرويات من التاريخ تتفق كلها على إلباس المرأة لباس الشر والنقمة، وتحميلها وزر كل بلاء أو فتنة. واتبع في ذلك مزجا غريبا بين الأحاديث النبوية وأقوال جالينوس وحكماء الهند، بل حتى الأقوال السائرة التي لا يُعرف قائلها.

يشعر متصفح الكتاب أن النزعة الذكورية مهيمنة على الكتاب بشكل قاس، كأن الغرض من تأليفه هو شن حملة للقضاء على جنس حواء، وتخليص الرجال "الأخيار" من شرورهن ومكائدهن. فلم يبق صحابي أو حكيم أو رجل صالح إلا وألقى المؤلف على لسانه موعظة أو وصية أو حكمة تبطل مفعول الأنثى في حياته، وتجعل السلامة في الابتعاد عنهن، والتماس الموت أو الطلاق حبالا للنجاة من كيدهن!

أشار المحقق في تقديمه للكتاب إلى أن النقول والروايات التي جمعها ابن القطعة قد عرضها " بذكاء رائع وعرض بارع"، غير أن متابعة القراءة تكشف تخبطا وانزياحا عن الهدف الذي قرره المؤلف، حيث يعرض لأخبار وأقوال منافية للسياق الذي ارتضاه لمصنفه. بل إن بعضها لا يؤكد شر المرأة بقدر ما يفضح حمق الرجل وخفة عقله.

ومن الأمثلة التي أوردها في هذا الشأن، خبر زرقاء اليمامة التي اشتهرت بحدة بصرها، وسارت مضرب المثل في قولهم : أبصرُ مِن زرقاء اليمامة، وأحكمُ مِن زرقاء اليمامة. إن هذه المرأة، كما ورد في مجمع الأمثال للميداني، كانت تبصر الشعرة البيضاء في اللبن، وتنظر الراكب على مسافة ثلاثة أيام، وتنذر قومها إذا أوشك جيش أن يغزوهم فيستعدوا لملاقاته.

وحدث مرة أن احتال بعض الغزاة عليها، فقطعوا الأشجار وأمسكوها بأيديهم أمامهم. ونظرت الزرقاء فقالت: إني أرى شجرا يقبل عليكم، فكذبوها وقالوا: خرفت وذهب عقلك! وعند الصبح داهمهم الغزاة وقتلوا زرقاء اليمامة وشقوا عينيها.

فهل يكون مصير زرقاء اليمامة أن يُدرجها ابن القطعة ضمن قائمة النساء الأشرار؟

وهل من الإنصاف أن نلوي أعناق النصوص والأحداث لتصبح الضحية مسؤولة عما اقترفه جلادها؟

لقد جاء وصف الكيد في سورة يوسف منسوبا للنساء، كما جاء أيضا على لسان يعقوب عليه السلام منسوبا لإخوة يوسف (الذكور): " قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا، إن الشيطان للإنسان عدو مبين" يوسف-الآية5-.

 أما الابتلاء والعنت الذي لقيه الأنبياء عليهم السلام من بعض النساء، فقد لقوا أشد منه من الرجال، سواء كانوا آباء، أو إخوانا، أو أبناء، أو عشيرة.

وأما توظيف الأحاديث الشريفة لتعزيز طرح المؤلف، وإضفاء شرعية على موقفه السلبي إزاء المرأة، فيعكس استمرار النظرة الجاهلية للمرأة تحت غطاء ديني، يعزز كفة الرجل، ويجعله حملا وديعا أوقعه سوء الحظ بين براثن ذئبة خبيثة!

إن العدل الإنساني رهين برجحان كفتيه على مستوى الحقوق والواجبات، وإرساء العلاقات الإنسانية على أسس التعاون والبر والرحمة. وبغض النظر عن الأسانيد الواهية التي اعتمدها المؤلف في جل مروياته، فقد تمنيت لو كانت غايته هي تصحيح المسار، والتنبيه لهذا الجور الذي يخالف التشريع القرآني والمنهج النبوي، بدل أن تكون تسلية لمُترف جفاه النوم!

***

حميد بن خيبش

تنتشر على مواقع التواصل الإجتماعي صور المغفور له الملك فيصل الثاني منذ طفولته حتى يوم القضاء عليه، ومعها تعليقات تمجده وتحن إلى زمانه وتترحم عليه، وتعبّر عن الندم وقوة تأنيب الضمير الجمعي الفاعل فينا.

يحضرني قول أحد مشايخ أبناء الشمال الكبار في مجمل حديثه معي، وهو يردد " منذ أن قتلنا فيصل الثاني ما هدأت البلاد ولن تهدأ"!!

إنها عقدة الذنب المتوارثة في أجيالنا منذ عدة قرون، ولن نشفى منها، وسيظل ناعور الدموع يدور، ومصانع الويلات تنتج المزيد من النكبات، لتوفر أسباب الشعور بالذنب الأليم، ولتأمين مواطن اللعنات السارية فوق التراب الحضاري منذ لعنة أكد وما قبلها.

الملك كان شابا في عشرينيات عمره وعلى أعتاب الزواج، وكان بسيطا لطيفا يريئا يحاول السعي لتدبر أمر المملكة ومواصلة بناء الدولة الحديثة المقتدرة، وكان للشعب صوت في زمانه، وطاقم حكومته ومجلس أعيانه من المتمرسين بالسياسة والعارفين ببواطن التفاعلات الدولية.

فكان لا بد من نسف الوجود الإيجابي وتأهيل البلاد للتفاعلات الدامية بالتلاحي المبيد وسفك الدماء الشديد.

فهل يمكن المقارنة بين أعداد مَن تم قتلهم وإعدامهم في العهود الملكية، مع ما جرى للناس في العهود الجمهورية؟

لقد هدمنا بيوتنا على رؤوسنا، وفقا لأضاليل مستوردة ذات شعارات فارغة براقة، هدفها إستنزاف طاقاتنا وتدمير معالم وجودنا الحضاري، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من مآل.

ويمكن القول أننا رسمنا مصيرنا بمداد الإنفعال والغفلة والتضليل، حتى غاصت رؤوسنا في أوحال الثورات المدمرة لمعالم وجودنا وإنهاكنا في صراعات عبثية قاهرة.

وعاشت الكراسي المبجلة!!

قتلوا رمزاً جميلاً حالما

وإذا الأيامُ تُدني الظالما

كمْ جَهرنا بسلوكٍ خائبٍ

ثورةُ الأغرارِ جاءتْ صادما

بشعاراتِ افتراءٍ زائفٍ

نحروا مجداً وهانوا عالِما

***

د. صادق السامرائي

في مجتمعاتٍ تعاني من أمّية معرفية متفاقمة، ومن ارتباك أخلاقي، وانجرافٍ سهل نحو الخرافة والتديّن السطحي، يبرز مشهد يبدو للوهلة الأولى عبثيًا حدّ التناقض: خطابات فلسفية معقّدة، ومقالات مُثقَلة بالمصطلحات، ومحاضرات تُلقى بلغة لا يفهمها إلا القليل، بينما الشارع يزداد بُعدًا عن المعنى، وأقرب إلى السذاجة الفكرية والتأويل الديني المشوَّه. هنا لا يكون السؤال عن قيمة الفلسفة بذاتها، بل عن جدوى هذا النوع من الخطاب، ولمن يُكتب، وما الذي أضافه فعليًا إلى وعي المجتمع أو أخلاقه أو قدرته على التمييز.

الفلسفة، في أصلها، لم تكن لغة نخبوية مغلقة، ولم تُخلق لتُحجَب عن الناس. سقراط لم يحتج إلى مصطلحات معقّدة وهو يحاور العامة في السوق، وأفلاطون لم يكتب أطروحاته في لغة غامضة بل في حوارات حيّة، والديانات نفسها — وفي مقدّمتها الإسلام — لم تُخاطب الناس بوصفهم فلاسفة، بل بوصفهم بشرًا. القرآن لم ينزل بلسانٍ مغلق، ولم يطلب من المتلقّي أن يمتلك أدوات فلسفية كي يفهم مقاصده الكبرى؛ قال بوضوح: العدل، الرحمة، الصدق، حفظ النفس، كرامة الإنسان. لغة فصيحة، عميقة، لكنها مبينة، تصل إلى الراعي كما تصل إلى التاجر، إلى الأمي كما تصل إلى المتعلم.

المشكلة تبدأ حين يتحوّل الشرح الديني أو الاجتماعي إلى استعراض لغوي، وحين تُستبدل الفكرة بالمصطلح، والمعنى بالزخرفة الاصطلاحية. نسمع اليوم خطابات مليئة بالهرمينوطيقا، والأنطولوجيا، والبراغماتية، وكأن هذه المفاهيم، بحدّ ذاتها، تحمل خلاص المجتمع. لكن السؤال البسيط الذي لا يُطرح هو: ماذا فهم الناس؟ ماذا تغيّر في سلوكهم؟ هل خفّ العنف؟ هل تراجعت الطائفية؟ هل انحسرت الخرافة؟ الواقع يقول إن الفجوة بين الخطاب النخبوي والشارع تتّسع، لا تضيق، وأن اللغة المعقّدة لم تُنتج وعيًا، بل أنتجت اغترابًا إضافيًا.

الدين، حين يُشرح بلغة لا يفهمها الناس، لا يعود هاديًا، بل يتحوّل إلى طقس فارغ أو شعار أيديولوجي. وحين تُقدَّم المفاهيم الأخلاقية الكبرى بلغة غائمة، يملأ الفراغَ خطابٌ أبسط، لكنه أكثر خطورة: خطاب الخرافة، والتكفير، والتعصّب. ليس لأن الناس يكرهون العقل، بل لأن العقل حين لا يخاطبهم بلغتهم، يتركونه ويبحثون عمّن يفهمونه، ولو كان مضلِّلًا.

هنا تبرز مسؤولية المثقف والفيلسوف. ليس مطلوبًا منه أن يتنازل عن العمق، بل أن يفهم أن العمق لا يعني الغموض، وأن الفكرة القوية تستطيع أن تكون واضحة دون أن تكون ساذجة. الفيلسوف الذي لا يستطيع إيصال فكرته إلا بلغة مغلقة، ثم يلوم الناس على عدم الفهم، لا يمارس تنويرًا، بل يعيد إنتاج نخبوية عقيمة. الفلسفة، إن لم تمسّ الواقع الاجتماعي، تبقى ترفًا ذهنيًا، لا قوة تغيير.

في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، وفي العراق تحديدًا، لا نعاني من نقص في الدين، بل من اختلال في الخطاب الديني، ومن انفصال بين النص وروحه الأخلاقية. الدين حاضر بقوة، لكن الأخلاق غائبة، والشعارات كثيرة، لكن القيم ضعيفة. هنا لا يكون الحل في مزيد من التعقيد الفكري، ولا في إغراق الناس بمصطلحات لا تعني لهم شيئًا، بل في إعادة الدين إلى لغته الأولى: لغة الإنسان، والضمير، والسلوك اليومي.

هل للدين ذنب في ما نعيشه؟ النص بذاته ربما لا!!، لكن الخطاب الذي قُدِّم باسم الدين، نعم. وحين يلتقي خطاب ديني مشحون بالعاطفة مع خطاب فلسفي معزول عن الناس، تكون النتيجة مجتمعًا بلا بوصلة: لا عقلًا ناقدًا، ولا إيمانًا أخلاقيًا حيًا. القرآن لم يحتج إلى وسائط لغوية معقّدة ليبني أمة، ولم يستخدم لغة لا يفهمها الناس، بل خاطب الفطرة قبل العقل، والوجدان قبل المصطلح.

لا أدعو إلى إلغاء الفلسفة، لأن كل الناسِ فلاسفة وإن لم يشعروا!! ولا إلى تبسيط مخلّ، ولا إلى تسطيح المعرفة، لكننا بحاجة ماسّة إلى مسؤولية لغوية وأخلاقية في الخطاب. أن نقول ما نريد قوله بوضوح، وأن نختار المصطلح حين يكون ضروريًا، لا حين يكون زينة. فالمجتمع الذي يغرق في الجهل لا يُنقَذ بخطاب لا يفهمه، ولا يُصلَح بدروس لا تصل إليه.

إن أعظم فشل للفكر ليس أن يُعارَض، بل أن يُتجاهَل. وإذا كانت الفلسفة، أو الخطابات الدينية المعقّدة، لا تغيّر شيئًا في واقع الناس، فعليها أن تراجع نفسها، لا أن تتهم المجتمع بالقصور. فالمعرفة التي لا تُضيء الطريق للناس، تبقى حبيسة الورق، مهما بلغت من العمق والرصانة.

***

بقلم: د. علي الطائي

منذ خمسينيات القرن الماضي، حين اقترح آلان تورينغ ما عُرف لاحقاً باختبار تورينغ لتمييز قدرة الآلة على التفكير، بدأت مرحلة جديدة في العلاقة بين الإنسان والآلة. فقد فتح هذا الاختبار الباب أمام ولادة ما أصبحنا نسميه اليوم الذكاء الاصطناعي، بكل ما يحمله من طموحات معرفية، وتحديات تقنية، وتساؤلات أخلاقية لا تكفّ عن التنامي مع كل تقدّم جديد.

لقد أصبحت أخلاقيات الذكاء الاصطناعي حقلاً بحثياً قائماً بذاته، لا يعنى فقط بالأسئلة النظرية، بل أيضاً بكيفية تعليم الآلة اتخاذ قرارات تحمل أبعاداً أخلاقية ضمن سياقات حساسة مثل القيادة الذاتية، الرعاية الصحية، أو حتى أنظمة العدالة.

وقد كان الروائي إسحاق أسيموف من أوائل من تخيّلوا إمكانية إخضاع الروبوتات لقواعد أخلاقية صريحة عبر قوانينه الثلاثة الشهيرة التي اقترحها في الأربعينيات. شكّلت هذه القوانين محاولة مبكرة لما يمكن تسميته اليوم بالأخلاق المبرمجة، أي إدخال مدونة سلوك واضحة داخل البرمجيات. وترتكز هذه الرؤية على فكرة مفادها أن الأخلاق يمكن ترجمتها إلى تعليمات متسلسلة: افعل هذا، لا تفعل ذاك، وإذا حدث A فافعل B وإذا لم يحدث فانتقل إلى C. غير أن هذا النموذج البرمجي الكلاسيكي، مهما بدا منطقياً، يواجه مشكلة أساسية، وهي أن الأخلاق لا يمكن اختزالها إلى معادلات إجرائية أو تعليمات ثابتة، لأن السلوك الإنساني بطبيعته مرن ومتعدد السياقات ويستند إلى عقل نقدي لا يمكن تقليده بخطوات جاهزة.

ومع تطور تقنيات التعلم الآلي، ظهر اتجاه جديد يجعل الآلة تتعلم الأخلاق من البشر، لا من خلال القواعد الصريحة، بل عبر تحليل ملايين القرارات البشرية. وتُعد تجربة «الآلة الأخلاقية» التي طورها معهد MIT مثالاً بارزاً على هذا النهج، حيث يُطلب من المشاركين اتخاذ قرارات أخلاقية افتراضية كما في معضلة السيارة ذاتية القيادة: من يجب أن يُنقذ؟ الراكب أم المار؟ الطفل أم الشيخ؟ الطبيب أم الشخص المجهول؟ بعد جمع ملايين الإجابات، تتعلم الخوارزمية أنماطاً من القرارات، ثم تُستخرج منها «قواعد» سلوكية ضمنية. إلا أن هذا الأسلوب يثير إشكالات عميقة، أبرزها أن الخوارزمية قد تصل إلى نتيجة صحيحة لكنها لا تستطيع تفسير السبب، وغياب التبرير في الأخلاق يمثل عيباً جوهرياً لأن القرار الأخلاقي ليس مجرد نتيجة بل مسار عقلاني. يضاف إلى ذلك مشكلة التحيزات البشرية؛ فإذا كانت البيانات متحيزة ضد فئة معينة، فإن الخوارزمية ستعيد إنتاج هذا التحيز، ما يطرح سؤالاً فلسفياً قديماً: هل الأخلاق هي ما تقرره الأغلبية؟ أم أن هناك قيماً تتجاوز الأهواء الجماعية؟

يضاف إلى ذلك سؤال آخر: من يسمح له بأن يشارك في تعليم الأخلاق للآلة؟ هل يأخذ رأي الجميع؟ هل يستبعد أصحاب الآراء المتطرفة؟ وكيف نحدد ما هو «طبيعي» أخلاقياً؟ فكل عملية اختيار للعينة تحمل حكماً أخلاقياً مسبقاً، حتى قبل البدء في التجربة، وكأن الإنسان يفترض مسبقاً معرفته بالخير والشر قبل أن يسأل الآخرين عنهما. وهذا يقود إلى خلاصة مهمة وهي أن الآلة لا يمكن أن تتعلم الأخلاق إذا لم يتفق البشر أنفسهم على معايير هذه الأخلاق.

إن جوهر الأخلاق، كما اتفق عليه الفلاسفة من اليونان إلى مفكري الحداثة، يكمن في القدرة على التفكير النقدي، وعدم الاتباع الأعمى للجموع، والتمييز بين الصواب والخطأ عبر العقل لا عبر التقليد. ولهذا فإن تحويل الأخلاق إلى مجرد تقليد للأغلبية يشكل خطراً كبيراً، سواء في التربية الإنسانية أو في تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي. فالأخلاق ليست في اتباع مدونة جامدة مثل قوانين أسيموف، ولا في تكرار السلوك الشائع بين الناس، بل تكمن قيمتها الحقيقية في معقولية الفعل.

في النهاية، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أخلاقياً بمجرد تقليد البشر، ولا بتطبيق قواعد جاهزة؛ فالأخلاق ليست لعبة تقليد، بل ملكة بشرية مركّبة تتطلب وعياً ونقداً وضميراً. وإذا أردنا أن نعلّم الآلة أخلاقاً، فعلى الإنسان أولاً أن يحدد بدقة معنى الخير الذي يتوقع من الآلة أن تتبناه. إن مستقبل الأخلاق الرقمية لن يُبنى على الخوارزميات فقط، بل على الفلسفة والقانون والتعليم والإنسان نفسه.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

في الحياة أنماط متعددة من البشر، تختلف مشارِبهم وغاياتهم وطرقهم. فمنهم من يسير خلف هواه، لا يرى إلا نفسه ورغباته وملذاته، فيسعى لتحقيق ما يسره ويبهجه، غير ناظر إلى الطريق الذي يسلكه والنهج الذي يسر عليه، ولا إلى ما إذا كان فعله منسجماً مع قيم الأخلاق وآدابها، وموافقاً لرضا الله وتعاليمه ودستوره العظيم وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. غايته المنفعة، وغاية الحكيم النجاة.

وعلى النقيض، هناك من يسير بخطى ثابتة راسخة، منضبطاً بقيم الشرع وضوابط القرآن العظيم، تلاوة وتدبراً وعملاً به وتطبيقاً له. يزن خطواته بميزان الهداية، ويتحرك ضمن نواميس كونية أودعها الله رحمة وهداية وبياناً فصلاً يوضح معالم الطريق السالكة بالنجاح، ليحيا الإنسان حياة طيبة في دنياه، ويهنأ في آخرته بالسعادة الأبدية في جنات الخلد، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وكيف لا؟ وقد وعد الله:  "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ". سورة يونس: 26

فكما قال المفسرون" الحسنى هي الجنة والزيادة رؤية الله سبحانه وتعالى.

ومن حقيقة الفلاح والنجاح أن يوقر الإنسان ربه، وأن يقف عند حدوده، وأن يدرك أن الوقار لله ليس كلمة تقال، وإنما سلوك يظهر في السر والعلن، وفي القول والعمل، وفي التعامل مع الذات ومع الناس ومع رأفة بالحيوان والشجر والحجر. فمن الوقار أن يستثمر المرء ذاته، وأن يخرج أجمل ما بداخله خلقاً وإبداعاً وأداء، وأن يزن كلامه قبل أن يخرج من فيه، فيختار المهذب اللطيف الرفيق، وأن يتصرف بسلوك راقٍ يقدر قيمة من حوله، ويسمو تجنباً على اللأحقاد والأنانية والتكبر؛ يعامل الناس لكونهم بشراً خلقهم الله وكرّمهم، لا لمراتبهم أو درجاتهم أو مناصبهم، بل لإنسانيتهم ورسالته السامية هذه الدنيا.

والوقار لله أن يرحم الناس، وأن يتعاطف معهم، وأن يدعمهم، ويقوي شوكتهم، ويشاركهم همومهم، ويرفق بالصغير، ويوقر الكبير، ويحفظ لكل ذي قدر قدره ولكل شخص حذوته ومكان من الاحترام والتوقير والإعانة.

فهل من الوقار أن يدمر الإنسان نفسه بالانشغال بما لا يفيد؟ أو أن يقحم ذاته في ما يضعف روحه ويهلك صحته ويعطلها عن أهداف خلق من أجلها؟ وهل من الوقار أن يطلق لسانه كيفما يشاء، ويتصرف وفق هواه دون ضابط يحكمه أو خلق يردعه؟ إن الضوابط لم توضع لتقييد حرية الإنسان، بل لحفظ كرامته، وتوجيه خطاه نحو الإبداع الحقيقي، ومنعه من الانزلاق في متاهات لا قيمة لها ولا وزن، فقد وجدت القوانين الكونية والنواميس الآلهية لسعادة البشر في الدراين.

وهل من الوقار لله أن يقطع علاقاته بالناس بحجة أنهم لا يستحقون قربه؟ أو أن يردد العبارات المثبطة والسلبية التي يؤمن بها العديد من الخلق ": كل شيء بتزرعه بتحصده إلا الإنسان؛ إذا زرعته بخلعك"، فينشر اليأس ويقطع حبل المودة والصلة مع غيره؟ وهل من الوقار أن يحجب خبرته عنهم، أو أن يتسلط عليهم، أو يقسو في حكمه وسلطته ومركزه، في حين أن الله أمر بالرحمة والعدل، والإحسان، لا بالتجبر والتسلط؟ وقهر الموظف والعامل، بل إكرامه ومساندته والملاينة معه.

وهل من الوقار أن يتصرف المدير أو المسؤول بسلطة متعالية، ناسياً ومتناسياً قيم الدين وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، بدل أن يلين للناس، ويدعم جهودهم، ويساند الضعيف والمريض منهم، ويحقق مبدأ العدالة والإنصاف في الرواتب والحقوق والمعاملة؟ الوقار لله أن ترى الموظفين بعين المسؤولية والأمانة، لا بعين الاستعلاء والهيمنة والاستغلال لمن يحتاج عمل يوفر لنفسه وعائلته حياة كريمة وخالية من الهموم والمشكلات.

بل هل من الوقار لله أن يظلم الحيوان الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه ولا أن يعبر عن حاجته؟ أليس الرفق به عبادة وخلقاً وميزاناً لرقة القلب؟ فقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا أطعمتها ولا تعطي لها حريتها حتى تأكل من فضل الله ومنته. كما قال صلى الله عليه وسلم" دخَلَتِ امرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ، ربَطَتْها، فلَمْ تُطْعِمْها، ولَـمْ تَسْقِها، ولَـمْ تُرْسِلْها فتَأْكُلَ مِن خَشَاشِ الأَرْضِ". أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد

هنا يظهر الفرق العظيم بين من يغفل أحياناً عن توقير الله، وبين من يجاهر بالمعصية ويكسر حاجز الحياء، ويتجبر على العباد ظلماً وعدواناً. فالغافل قد تحجبه شهوته حيناًًا، لكن قلبه ما زال فيه بقية نور، فإذا تذكر ونهض قلبه، عاد إلى رشده واستقام بعد انحراف. أما ذاك الذي يتجبر ويسلب وينهب ويقسو بفعله وقراره ولسانه، فيمضي في معصيته بلا خجل ولا خشية ولا حياء، فهذا قلبه قد تحجر حتى صار لا يعرف للين باباً ولا للإنابة طريقاً؛ يظلم العباد، ويهين الضعفاء، ويأكل الحقوق، فلا يرجى منه خير ولا ينتظر منه رجوع، إلا أن يشاء الله.

فشتان ما بين قلب يغفل ثم يفيق، وبين قلب يقسو حتى لا يستيقظ من غييه وطغيانه. من غفوته وضلالة. وبعده عن ربه وشعوره بالهيبة والوقار له. الأول ترجى له الهداية والعودة للصواب والأستقامة، والآخر قد غلبه ظلمه وعناد نفسه وعقله الذي ضله وأبقاه على هواه وتجاوزاته وتكبره. إن الوقار لله في السر والعلن، في غدونا ورواحنا، وفي أفكارنا وأقوالنا وأفعالنا، هو طريق السعادة، وطريق العلو، وطريق الصلاح، وهو مفتاح بركة في الدنيا، وفوز عظيم في الآخرة.

***

د. أكرم عثمان

-12-202517

يوم ان  تهيأت اسباب ظهور العقل متخلصا من وطاة الغلبة الكاسحه الجسدية الحيوانيه التي ظلت غالبة على مدى  مئات الملايين من السنين، تغيرت ديناميات وآليات فعل الطبيعه في الكائن الحي على الصعيد الارتقائي التحولي، وفي حين كانت الاسباب والعوامل الفاعلة في الكائن الحي غير المدرك، ولا الواعي المساهم في عملية ارتقائه ونشوئة بصيغته الاولى الحيوانيه، بما يضمن  المزيد من ممكنات الاقتراب من تحرر العقل الاول والابتداء، تدرجا عبر المحطات الحيوانية، وصولا الى اللبونات والانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، بما لايفضي لمغادرة البنية الحيوانيه، باعتبار الحاصل اخيرا كبنيه جسدية ضرورة لاجل دخول  الطور الاعلى من عملية الارتقاء، الذاهبة كليا الى مابعد حيوانيه، بما في ذلك متبقيات الجسدية الناطقة "الانسايوانيه"، الطور الانتقالي بين الحيوان و"الانسان".

والى حينه ومع الحضور الابتدائي الافتتاحي للعقل (طفولة العقل التي نعيشها الى اليوم ) بعد الغيبة الطويله جدا داخل الجسد، لم تتغير حالة وموقع الكائن البشري بما خص اشتراطات ومسارات ترقية وتحوليته، باعتباره موضوعا تتكفل به الطبيعه وتؤمن مساراته، وعملية تشكله المستمر، ذهابا الى الغاية المضمرة غير المكشوف عنها النقاب، لا في الطور الجسدي الحيواني طبعا، وولا في الطور الانتقالي مابعد حضور العقل بصيغته الابتدائية القاصرة الحالية، بانتظار التحرر الادراكي من وطاة شروط اليدوية الحاجاتية الارضوية،  حيث يتحقق الانتقال الى العقل الضرورة، الامر الموافق لطبيعة اليات وديناميات الحركة التحولية، مع فارق هائل بين ماهو واقع راهنا على العقل ومسارات تطوره بعد حضوره الابتدائي الحالي، مقارنه بالتاريخ التحولي النشوئي الحيواني، وما قد استغرقه  من مليارات السنين.

والمسالة الجديرة بالانتباه بقوة هنا نظرة وموقف البداهه من مسالة البروز او الانبثاق العقلي المكتمل، من دون حتى مقارنه بسيطة بين جسدية اضطرت لعده تحورات من الخلية الاولى مرورا بالعضية واللبونات، قبل الوقوف على قائمتين وحضور فعل اليدين اي المنتهى التطوري للعضو البشري كما قرر دارون، الذي راى بان العضو البشري قد بلغ قمة تطوره النهائي، على عكس العقل الذي لم يظهر ويصير حاضرا الااليوم، بمايعني وجوده في حال ولاده، ، يكون العقل فيها قد دخل العتبة الاولى من عتبات تشكله، وعيا وحدود ادراكية وعلاقة بذاته وبالوجود، والحقيقة الكونيه.

ونحن نقلب بهذه المناسبة مفهوم عملية النشوء والارتقاء، من الجسدية الى العقلية، معتبرين الكائن الحي ظاهرة "مزدوجة" من عقل / وجسد، العنصر الجوهر فيها، ومحور تحولها الارتقائي " عقلي" لا"جسدي"، الجسد فيهاحامل ضروري واساس مؤقت، يكون غالبا كليا عند الابتداء، وعامل وطاة على العقل وحضوره لاحقا، الى ان تتيأ الاسباب الضرورية لتحرر  العقل بعد اكتسابه المقومات الانتقالية الضرورية بالتجربة ومسار الاصطراعية بالاخص بصيغتها الاخيرة المجتمعية اليدوية الحاجاتيه الجسدية.

بهذا يصير مخطط النشوء الارتقائي منذ انبثاق الصيغة البكر من العقلية بعد تحررها من الغلبة الجسدية المطلقة، بدء عملية تشكل اكتمالي، تتهيا بموجبه الاسباب الضرورية لاكتمال حضور العقل، وهي عملية طويلة ماقبل مجتمعية تحكمها مراحل ومحطات وصولا الى الصيغة الاخيرة الاعلى المجتمعية، وقت يصبح المجتمع حاضرا كوعي ذاتي ابتداء بمقابل الكون وموجبات الوجود الحي، تبدا غير متخلصه من فعل ووطاة الجسدية التي تستمر في الحضور والفعل مستمدة قوة فعلها من الاشتراط الوجودي المجتمعي الحاجاتي الجسدي الاول انتاجيا مع صيغة وواقع الانتاجية اليدوية وانعكاسها على المجتمعية كينونة وبنية.

ولن تكتمل المجتمعية او تصبح واقعا الا بالحضور العقلي خارج المبدا القائل توصيفا للتبلور المذكور على انه (تجمع + انتاج الغذاء) فالطور السابق طور الصيد واللقاط لم يعرف الرؤية ولا دخل عالمها باية درجه بينما المجتمعية الرافدينيه في ارض السواد وتحديدا ارض سومر  انتجت حزمة متكامله من  المنظورات السماوية والارضوية وصولا الى الكتابه  والقانون وبداية التاريخ البشري الى قصص الخليقة  والعلاقة بالكون باعتبارها الموضع الاول التبلوري المجتمعي على مستوى المعمورة المنطوي على الاسباب التكوينيه البنيوية الضرورية  المتخلصه الى حد الضرورة من وطاة الارضوية اليدوية، فارض الرافدين الاصل هي موضع اللاارضوية والاصطراع الازدواجي المجتمعي، وهنا يكمن السبب في ريادتها المميزة والخاصة التي ظل الاعقل عاجزا عن كشف النقاب عنها، واستمر يلحقها عن النظر اليها بغيرها من مجتمعات ارضوية على نمط  تلك المتشكله في مكان قريب ونهريا ايضا في وادي النيل نموذج الكيانيه والنبيه المجتمعية الارضوية بلا  تفاعلية اصطراعية تنتج ابتداء والى اليوم مجتمعية دولة، تقابلها على المنقلب الاخر المتوسطي  مجتمعية ارضوية ازدواجية خاضعة للاصطراع الطبقي، الادنى  من حيث التوافق مع ضرورات الارتقائية الاشمل المجتمعية نت تلك "المجتمعية" الرافدينيه الذاهبة الى اللاارضوية.

من رؤية اوليه للوجود والكون هي ما متاح للعقل على ماهو عليه من بدئية تشكلية ضمن اشتراطات اليدوية الارضوية الحاجاتيه الى الرؤية التحولية الكبرى تلك هي مسارات المجتمعية عقليا، في الثانيه منها يكون العقل قد توفر على الاسباب اللازمه لان يتحول من موضوع ومادة خاضعه لاشتراطات الطبيعة وديالتيكها  ووجهتها الترقوية من دون وعي منه ولا فعل الى قوة فعالة تعي اشتراطات وجودها والقوانين الناظمه لسيرورته وترقيها المقرر من الطبيعة ومنها بلوغه مرحله وعي الذاتيه والوجود وهو ماتحتاجه الطبيعة ومنتظمه ضمن مبتغياته النهائية.

ليس الوجود الحي هو الاكل والشرب واطفاء الحاجات الجسدية والنظر للكون واجمالي الوجود الحي بمنظور البقائية على الشكل القائم الجسدي فالكائن الحي هو عقل منطو داخل الجسد بانتظار ساعه حضوره المتفقه مع حقيقة كون الحياة ليست الجسدية المفردة وان الحياة ليست واحده مشروطة بالملموس والبيولوجي، بقدر ماهي كونية اخرى غير مرئية خارج الادراكية القصورية الحالية وان الوجود الكوني الحي هو عملية تحول من المرئي الى اللامرئي  حيث الوجود " طاقة" عقلية.

***

عبد الأمير  الركابي

 

في عالمنا المليء بالصخب، حيث تتسابق الأصوات وتتزاحم الأضواء على كل لحظة انتباه، نجد أن الصفوف الأمامية دائمًا ما تُمنح الاحترام الظاهري والتقدير الاجتماعي، بينما تُسجَّل الصفوف الخلفية في خانة الخمول أو التشتت وهذه النظرة السطحية، رغم شيوعها تخفي حقيقة أعمق : فالأمر لا يتعلق بالمكان في الصف، بل بالوعي الذي يحمله المرء، وبالحكمة التي يمارسها في صمت بعيد عن الأضواء.

والجلوس في الخلف ليس خضوعًا للواقع ولا استسلامًا للظروف وإنه اختيار واعٍ لمن يعرف قيمة الملاحظة، وفن قراءة التفاصيل الصغيرة التي تغفل عنها أعين المتسرعين. ومن في الخلف يرى ما لا يُرى من أمام يلتقط حركات الأجساد ونبرة الكلمات يتلمس المشاعر الخفية ويفهم دوافع الناس من صمتهم قبل كلامهم وهذا النوع من الفهم العميق لا يُكتسب إلا عبر الصبر والمراقبة وليس عبر الانفعال اللحظي أو التسرع في الرد.

إن الصمت في الخلف هو صمت مليء بالقوة وهو صمت يختزن المعرفة، ويجمع التجارب، ويقوّي القدرة على التمييز بين ما يستحق الرد وما لا يستحق فكم من مرة قد ينجو المرء من جدال عقيم أو مواجهة سخيفة لمجرد أنه اختار المراقبة بدل الانخراط ؟

أولئك الذين يجلسون في الخلف يعرفون أن الحياة لا تمنح قيمة لكل لحظة، وأن بعض الأحداث تمر لتُدرس، لا لتُواجه فورًا.

والصفوف الخلفية هي مختبر العقل الباطن للمراقب العارف وهناك، حيث يتنفس الهواء بحرية بعيدًا عن صخب الضجيج، يختبر الشخص صبره، ويصقل قدراته على فهم الآخرين. يلاحظ الأخطاء دون أن يعجل باللوم، يلاحظ النجاحات دون أن يتبجح بها، ويستوعب العلاقات الإنسانية بعيون واعية لا تنقاد للأوهام السطحية وهذه الخبرة المكتسبة من المراقبة الصامتة تصنع شخصية متزنة، متعمقة، قادرة على اتخاذ القرارات في الوقت المناسب وبطريقة مدروسة.

كما أن الصفوف الخلفية تمنح فرصة للتأمل الذاتي، فرصة للغوص في أعماق النفس بعيدًا عن الانشغال بالمظاهر الخارجية فالتفكير في الذات، ومراجعة الأفكار، وفهم دوافع النفس البشرية، كلها أمور تتطلب مساحة هادئة لا يملؤها التوتر أو السعي وراء الانتباه ومن يجلس في الخلف يملك هذه المساحة، ويعرف أن القوة الحقيقية تكمن في التحكم بالنفس قبل التحكم بالآخرين، وفي معرفة متى تتحرك ومتى تبقى صامتًا، ومتى تتحدث ومتى تراقب.

والأشخاص الذين يختارون الصفوف الخلفية غالبًا ما يكونون حكماء بلا تظاهر أذكياء بلا صخب، وواعين بلا غرور وهم الذين يرون الأشياء على حقيقتها، يفهمون سياق الأحداث قبل الانفعال بها ويستثمرون وقتهم في التعلم والملاحظة بدلًا من الانجرار وراء اللحظات العابرة. هذا الصمت الواعي ليس ضعفًا، بل هو قوة داخله، قوة تتجلى في القدرة على اتخاذ القرار الصائب حين تأتي اللحظة المناسبة، وفي القدرة على التأثير على الآخرين دون الحاجة للظهور الدائم في الضوء.

فالصفوف الخلفية هي مساحة العباقرة الذين يعرفون أن الحياة ليست سباقًا نحو الأضواء، بل رحلة نحو الفهم والوعي وهناك تُبنى استراتيجيات النجاح بصمت، وتُصقل المهارات بالهدوء، وتُزرع بذور المعرفة في صمت متواصل لتثمر في الوقت المناسب بطرق تتجاوز كل توقعات أولئك الذين يقتصر فهمهم على المظاهر.

وفي النهاية، قد لا تُحظى الصفوف الخلفية بالثناء المباشر وقد لا تحتل مكان الصدارة في الصورة الظاهرية، لكنها تحمل بين طياتها قوة حقيقية: قوة المراقب، وحكمة الصامت، وعمق الفهم. أولئك الذين فضلوا الخلفية على الصدارة، سيكتشف الزمن أن تأثيرهم أعمق، ورؤيتهم أصدق، ووجودهم أكثر قيمة مما يدركه من يسعى دائمًا للمقدمة بلا وعي وإن الصفوف الخلفية ليست مجرد مكان في الصف، بل موقف فلسفي، ودرس في الحياة، وعبرة لأولئك الذين يبحثون عن المعنى قبل الشهرة، وعن الحكمة قبل التصفيق.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

رؤية فلسفية للعلاقة بين الإنسان والبيئة

في عصرنا الحالي، أصبحت قضية البيئة قضية عالمية، وضرورة الحفاظ عليها، أحد أبرز القضايا التي تواجه الإنسانية بأجمعها، فالتلوث البيئي العالمي، والتغير المناخي، وفقدان التنوع البيولوجي، وغيرها من المشاكل البيئية باتت تهدد وجود الكائنات الحية على الأرض، وفي هذا السياق يصبح السؤال عن واجب الإنسان الأخلاقي تجاه البيئة التي يعيش فيها سؤالاً مهماً وضرورياً في الوقت ذاته.

ماذا يحدث حينما تُقطع الأشجار، وأين تذهب الطيور؟

تعيش الطيور، والحيوانات، منذ القِدم في أحضان الطبيعة، بسلاٍمٍ وأمانٍ، حيث يُعانق تغريد الطيور حفيف الأشجار، منسجمين في تناغمٍ و وفاقٍ، وتقضي الطيور حياتها بين الأشجار، وتبني اعشاشها على الأغصان، لقد كانت الطبيعة وما زالت موطن الكائنات الحية بما فيها الإنسان، ومرت السنوات والأعوام، وتطور نمط حياة الإنسان، وبدأ يبني المدن والمصانع والبيوت الكبيرة، وبدأ يقطع الأشجار الواحدة تلو الأُخرى، وفجأة وجدت الطيور أعشاشها تتهاوى على الأرض، مع سقوط الأشجار المقطوعة، ولم تستوعب هذه الكائنات اللطيفة لماذا يقطع الإنسان الأشجار، لماذا تتهاوى أعشاشها على يده، لماذا يتركها بلا مأوى تحتمي به من الأمطار، الأشجار هي بيوت الطيور، وهي المكان الذي تحتمي به وتقضي كل حياتها فيه، وترعى فيه صغارها، وتجد تحت ضلاله غذائها، ولكن حينما تُقطع الأشجار، أين تذهب الطيور؟!

إن هذا السؤال ليس مجرد إستفسار عن مصير الطيور التي تعيش على الأشجار، وبين الأغصان، بل هو دعوة للتفكر في طبيعة الوجود، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، ومسؤوليته تجاه بيئته، وتجاه الكائنات الحية التي تشاركه البيئة ذاتها.

إن هذا السؤال حول مصير الطيور يطرح نفسه في كل مرة، أشاهد فيها طيراً بلا مأوى يحتمي به من برد الشتاء القارص، ولكن ما زال السؤال بلاجواب، أين تذهب الطيور التي كانت تسكن هذه الأشجار؟

الطيور قد تذهب الى أماكن أُخرى، حيث تبني من جديد أعشاشاً جديدة لتكون لها مأوى، لكن ليس دائماً هذا ما يحصل، فالطيور تواجه تحديات ومخاطر كبيرة عندما تُقطع الأشجار، فهي تفقد بيوتها، وتفقد غذائها، وتفقد صغارها، بعض الطيور تموت، وبعضها تتنقل بين الأماكن بحثاً عن شجرة تصبح بيتاً جديدا وماوى لها.

لنزرع الأشجار في كل مكان

الطيور المحلية هي جزء من الطبيعة والبيئة التي يعيش الإنسان فيها، وهي جزء من حياتنا، وحينما تغادر الطيور يختل التوازن البيئي، وفي ذلك ضرر للانسان والطبيعة معاً، فواجب الإنسان هو حماية الحيوانات والبيئة من أجل مصلحة الجميع، لذلك دعونا نحافظ على الأشجار، ولنسمح للطيور بأن تبني أعشاشها بحرية في أحضان الطبيعة، دعونا نزرع أشجاراً جديدة، لتبني الطيور أعشاشاً جديدة.

دعوا الأشجار تتنفس

عندما نقطع الأشجار، فإننا نقطع أيضاً جذورنا التي هي في الأرض، ونفقد صلتنا بالطبيعة، وبفطرتنا وذواتنا، ونفقد إحساسنا بكل قيم التعايش البيئي السلمي، والمعاني الروحية، والأخلاق النبيلة، ولأن الأشجار هي مستقبل أبنائنا، وتمثل جزءاً مهماً من بيئتنا، لذلك فمن واجب الإنسان أن يحافظ عليها، ويحميها، ويتركها تتنفس.

***

شيماء هماوندي

العبثية تشير إلى شعور الإنسان بأن الحياة بلا معنى واضح أو هدف، ويبدو أن البحث عن معنى للحياة في مفاهيم بعض الفئات قد إستحضر حالات، وأثار تساؤلات فارغة بلا محتوى حياتي معاصر ومنها:

لماذا فلان لم يكن خليفة، ولماذا تقاتل الأَخَوان، ولماذا جعل هارون الرشيد ثلاثة أولياء عهد، ولماذا مضى على شاكلته المتوكل؟

هذه أسئلة كأمثلة تهيمن على الوعي الجمعي، وتستنزف الوقت وتسفك الدماء، وتتسبب بالفرقة والتلاحي المرير.

فهل تساءل مدّعوها ما الفائدة منها، وقد حصلت قبل قرون عديدة؟

ما نقع الحديث في الغابرات والتوهم بالقدرة على تصحيح ما قد حصل؟

يبدو أنها لعبة عبثية تجارية، وأساليب إستحواذية للإغتنام  والتسلط على الآخرين، والقائلين بها من المترفين الذين يبيعون بضاعتهم الفاسدة على الأبرياء المضللين بما يُسمى دين.

محطات التلفزة والمواقع بأنواعها تزدحم بالناطقين بما لا يقبله عقل، ولا يتوافق مع العصر الذي يقوده العلم والإبتكار، وتتمكن منه القوة التكنولوجية المزدهرة الأركان.

ما فائدة الحديث عمّا فات، وما فات مات، وهل يعود الأموات؟

الإستماع لهذه الأحاديث والتصريحات تثير الشكوك، وتبرهن على أنها مغرضة وتؤدي وظيفة تدميرية للمجتمع، لكي يتمتع بالسعادة أعداء الأمة.

فهل أن دينكم دنانيركم أيها المصدّحون بالغثيث، والمصنعون للمرير، وهل أن الدين فرقة وتنكيل وتكفير وإفتاء بسفك دماء الأخوة في الدين؟

ترى لماذا يتمنطق بها القابعون بالكراسي؟!!

عَبثٌ يُخرجنا من طبعِنا

يمحقُ الأجيالَ دوماً بيننا

غفلةٌ طابتْ وأخرى أخْتها

وسؤالٌ مِن لهيبٍ قدّنا

أمّة الأمْجادِ فاضَتْ روحُها

وطواها بترابٍ جَهْلنا

***

د. صادق السامرائي

 

ليست البيئة في العراق مجرد إطار طبيعي للحياة، بل هي ذاكرة وطن، وجغرافيا حضارة، وسجلّ طويل من العلاقة المعقّدة بين الإنسان والأرض. فمنذ فجر التاريخ، شكّلت أرض الرافدين واحدة من أغنى البيئات الطبيعية في العالم؛ حيث الماء الوفير، والتربة الخصبة، والتنوّع الحيوي الذي جعل من العراق مهد الزراعة والاستقرار البشري. غير أن هذه الصورة المضيئة أخذت تتآكل عبر العقود، حتى باتت البيئة العراقية اليوم واحدة من أكثر البيئات هشاشة وتهديدًا في المنطقة.

- العراق.. من جنّة الأنهار إلى أزمة الماء:

كان دجلة والفرات شريانَي الحياة، لا يغذيان الأرض فقط، بل يمدّان المجتمع العراقي بالاستقرار والهوية. إلا أن العراق اليوم يواجه أزمة مائية غير مسبوقة، بسبب تراجع الإطلاقات المائية من دول المنبع، وسوء إدارة الموارد داخليًا، فضلًا عن التغير المناخي الذي زاد من حدّة الجفاف وقلّل من معدلات الأمطار. وقد انعكس هذا الشح المائي بشكل مباشر على الزراعة، فهجرت آلاف الأسر الريفية أراضيها، واتسعت رقعة التصحر، وتراجعت المساحات الخضراء التي كانت تشكّل خط الدفاع الأول ضد الغبار والعواصف الترابية.

- التصحر.. الزحف الصامت:

يُعدّ التصحر من أخطر التحديات البيئية في العراق، إذ تشير التقديرات إلى أن نسبًا كبيرة من الأراضي الزراعية مهددة بفقدان خصوبتها. فالإفراط في استخدام المياه الجوفية، وغياب التخطيط الزراعي، وقطع الأشجار، والرعي الجائر، كلها عوامل أسهمت في تحوّل مساحات واسعة إلى أراضٍ قاحلة. ولم يعد التصحر مجرد مشكلة بيئية، بل أصبح أزمة اجتماعية واقتصادية، دفعت بالكثير من سكان الريف إلى الهجرة نحو المدن، مما زاد من الضغط على الخدمات والبنى التحتية الحضرية.

- التلوث.. وجوه متعددة لأزمة واحدة:

يعاني العراق من أشكال متعددة من التلوث يأتي في مقدمتها تلوث الهواء الناتج عن حرق الوقود الرديء، والمولدات الأهلية وعوادم المركبات، فضلًا عن الغازات المنبعثة من الحقول النفطية. أما تلوث المياه، فيُعدّ الأخطر، إذ تُرمى كميات هائلة من المخلفات الصناعية ومياه الصرف الصحي غير المعالجة في الأنهار، ما أدى إلى تدهور نوعية المياه وانتشار الأمراض، خصوصًا في المحافظات الجنوبية.

ولا يقلّ تلوث التربة خطورة، حيث خلّفت الحروب المتعاقبة مخلّفات عسكرية ومواد سامة، إضافة إلى الاستخدام العشوائي للمبيدات الزراعية، ما أثّر سلبًا على سلامة الغذاء وصحة الإنسان.

- الأهوار.. ذاكرة الماء المهددة:

تمثّل الأهوار العراقية واحدة من أندر النظم البيئية في العالم، وقد كانت على مدى قرون موطنًا للتنوع الحيوي ومصدر رزق لآلاف العائلات. ورغم إدراجها على لائحة التراث العالمي، إلا أنها لا تزال تعاني من شح المياه، والتلوث، وضعف الدعم الحكومي. وجفاف الأهوار لا يعني فقدان نظام بيئي فحسب، بل ضياع نمط حياة وثقافة ضاربة في عمق التاريخ العراقي.

- التغير المناخي وأثره على العراق:

لم يعد التغير المناخي مفهومًا نظريًا في العراق، بل واقعًا ملموسًا يتمثل في ارتفاع درجات الحرارة، وتزايد العواصف الترابية، وتقلّب الفصول. وقد بات العراق من أكثر الدول تأثرًا بالتغير المناخي، رغم كونه من أقل الدول إسهامًا في مسبباته. هذه المفارقة تضع العراق أمام تحدٍ وجودي يتطلب سياسات بيئية عاجلة، تتجاوز الحلول المؤقتة والخطابات الإعلامية.

- مسؤولية الدولة والمجتمع:

تقع على عاتق الدولة مسؤولية كبرى في حماية البيئة، من خلال تشريع قوانين صارمة، وتفعيل الرقابة البيئية، والاستثمار في مشاريع معالجة المياه، والطاقة المتجددة، وإعادة التشجير. لكن الدولة وحدها لا تكفي؛ فالمجتمع شريك أساسي في هذه المعركة. إذ لا يمكن الحديث عن بيئة نظيفة في ظل ثقافة الاستهلاك المفرط، ورمي النفايات، والتعدي على المساحات الخضراء.

- الوعي البيئي.. طريق الخلاص:

إن بناء وعي بيئي في العراق لم يعد خيارًا ثقافيًا، بل ضرورة وطنية. يبدأ هذا الوعي من المدرسة، حيث يتعلم الطفل احترام الطبيعة، ويمرّ عبر الإعلام الذي يجب أن يتجاوز التناول الموسمي للبيئة، وصولًا إلى الفرد الذي يدرك أن الحفاظ على الماء والكهرباء، وزراعة شجرة، وعدم تلويث الشارع، أفعال بسيطة لكنها تصنع فرقًا كبيرًا.

ختاما إن البيئة العراقية اليوم تقف على مفترق طرق: إما أن تستعيد عافيتها بإرادة سياسية ووعي مجتمعي حقيقي، أو تواصل الانحدار نحو أزمات أعمق تمسّ الأمن الغذائي والصحي والاجتماعي فالعراق الذي علّم البشرية معنى الزراعة والحضارة يستحق بيئة تُصان لا تُستنزف، وتُحمى لا تُهمَل. والرهان الأكبر يبقى على الإنسان العراقي، القادر – إذا ما وعى خطورة اللحظة – أن يعيد التوازن بينه وبين أرضٍ طالما أعطته أكثر مما أخذت منه.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

اسرار صراعات الزوجة اثناء زيارة اهلها في دار الزوجية.. قراءة نفسية واجتماعية

إن زيارة أهل الزوجة في بيت الزوج قد تتحول أحيانًا إلى لحظة توتر وصراع خاصة عندما تصر بعض الزوجات على الصياح وخلق المشاكل وافتعال المواضيع مع الزوج. هذه التصرفات ليست مجرد انفعال عابر، بل هي غالبًا نتيجة لتشابك عدة عوامل نفسية، اجتماعية، وثقافية. لفهم هذا السلوك، يجب النظر إلى الجوانب المختلفة التي تؤثر على المرأة أثناء هذه الزيارات، وكذلك على تفاعل الزوج معها.

أولًا: شعور الزوجة بالضغط النفسي والاجتماعي

زيارة أهل الزوجة في بيت الزوج غالبًا ما تحمل معها شعورًا بالرقابة والملاحظة وحتى إذا كانت العلاقة الزوجية مستقرة فإن وجودها في بيئة جديدة ومشاركة أفراد الأسرة في حياتها اليومية يثير توترًا داخليًا.

هذا التوتر يمكن أن يتحول إلى صراخ أو جدال أو افتعال مواضيع، كرد فعل نفسي للتنفيس عن الضغوط المكبوتة، أو لإظهار استقلاليتها وحدودها الشخصية في موقف تشعر فيه بأنها مراقبة أو مضطرة للتصرف بطريقة معينة أمام أهلها.

ثانيًا: الصراع بين الانتماء للأسرة والالتزام بالزوجية

الزوجة، عند استضافة أهلها في بيت زوجها، قد تعيش توترًا بين شعورها بالانتماء لأسرتها وواجباتها تجاه زوجها وهذا الصراع النفسي يظهر أحيانًا في صورة صياح وافتعال مواضيع، كوسيلة لتأكيد نفسها أمام الطرفين.

فعندما تشعر بأن الزوج أو أسرته لا يفهمون حاجاتها أو أن هناك ضغطًا من أحد الأطراف، قد تلجأ إلى خلق جدالات كوسيلة دفاعية، محاولةً بها إعادة توازن القوى العاطفية والاجتماعية في الموقف.

ثالثًا: التعبير عن احتياجات عاطفية مكبوتة

غالبًا ما يكون الصياح وخلق النزاعات رسالة غير مباشرة عن مشاعر مكبوتة أو احتياجات عاطفية لم تُلبَّ بعد.

المرأة قد تشعر بأن الزوج غير متجاوب بما يكفي عاطفيًا أو معنويًا، وتخرج هذه المشاعر في شكل صراع ظاهر عند وجود أفراد أسرتها وفي بعض الأحيان، يكون افتعال المواضيع مجرد تنبيه للزوج لضرورة الاهتمام والدعم النفسي، وليس رغبة حقيقية في خلق المشاكل.

رابعًا: الأنماط السلوكية المكتسبة

العديد من النساء يتعاملن مع الضغوط بأسلوب الصراخ والجدال نتيجة أنماط سلوكية مكتسبة منذ الطفولة أو من التجارب العائلية السابقة.

إذا كانت المرأة معتادة على حل المشكلات أو التعبير عن الغضب بالصياح، فإن أي موقف مماثل قد يثير هذه الأنماط تلقائيًا خصوصًا في وجود أهليها في بيت الزوج.

خامسًا: الدفاع عن الذات وإعادة ضبط الحدود

في بعض الأحيان، ترى الزوجة أن وجودها مع أهلها في بيت الزوج يهدد شعورها بالمساحة الشخصية أو استقلاليتها.

الصياح وافتعال المواضيع يصبح وسيلة لإعادة فرض الحدود وإظهار سيطرتها على الموقف، حتى لو بدا للزوج أنه تصرف سلبي أو مفتعل.

بالنسبة للزوجة، هذه الطريقة قد تكون وسيلة لحماية كرامتها واحترامها أمام أسرتها وزوجها في نفس الوقت.

آثار هذا السلوك على العلاقة الزوجية

1. زيادة التوتر والاحتكاك اليومي، ما قد يؤدي إلى صراعات أكبر في المستقبل.

2. ضعف التواصل العاطفي إذا لم يفهم الزوج طبيعة الرسائل الخفية وراء الصياح.

3. إحباط الطرفين إذا لم يتم التعامل مع السبب الجذري للسلوك.

4. تأثير سلبي على الأطفال أو الأقارب الحاضرين، حيث تتحول الزيارة إلى موقف متوتر بدلاً من مناسبة للتواصل والفرح.

كيفية التعامل مع هذا السلوك:

1. الفهم قبل الرد.

الزوج الحكيم يرى الصياح كـ إشارة لمشكلة أو شعور مكبوت، وليس مجرد تحدٍ شخصي.

2. التواصل الهادئ والمباشر.

التحدث عن المشاعر والتوقعات قبل الزيارة وبعدها، لتقليل سوء الفهم.

3. التحلي بالصبر والهدوء.

الانفعال المضاد يزيد الصراع، بينما الهدوء يقلل التوتر ويظهر الاحتواء العاطفي.

4. دعم احتياجات الزوجة العاطفية.

إظهار الاهتمام والتقدير يقلل شعورها بالإهمال ويدفعها لخفض حدة التصرفات.

5. وضع حدود واضحة أثناء الزيارات.

الاتفاق على سلوكيات مقبولة يخفف الاحتكاك ويجعل التفاعل أكثر توازنًا.

6. اللجوء للاستشارة الأسرية عند الحاجة.

وجود طرف محايد يساعد على فهم الأسباب الحقيقية للسلوك، ويقترح حلولًا عملية للحفاظ على العلاقة.

ان الصياح وافتعال النزاعات أثناء زيارة أهل الزوجة في بيت الزوج ليس هجومًا شخصيًا، ولا دليلًا على ضعف الحب أو العلاقة. بل هو غالبًا رسالة عن احتياجات غير مُلباة، ضغوط نفسية، وصراع داخلي بين الانتماء للأسرة والحفاظ على الحياة الزوجية.

الزوج الذي يفهم هذه الرسائل ويستجيب لها بحكمة وصبر، لا يحافظ على العلاقة فحسب، بل يبني أساسًا من الثقة، الطمأنينة، والتفاهم العميق، حيث تتحول الصراعات إلى فرص للتقارب، والجدالات إلى دروس في الصبر والتقدير.

في النهاية، الهدوء والحوار والتفهم، هي أدوات القوة الحقيقية التي تحول زيارة قد تحمل توترًا إلى تجربة إيجابية، تجعل العلاقة الزوجية مساحة أمان ودعم، بدل أن تكون ساحة صراع وتوتر.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى عام 1918 انشئت في عام 1920 منظمة عصبة الامم بهدف عدم استخدام القوة في فض المنازعات بين الدول الا ان هذه المنظمة فشلت في تحقيق اهدافها بقيام الحرب العالمية الثانية وبعد نهايتها عام 194 قررت الدول الكبرى التي انتصرت في الحرب تأسيس منظمة جديدة تأخذ على عاتقها مهمة منع قيام حرب عالمية ثانية وهي (منظمة الامم المتحدة) حيث وقعت على ميثاقها (51) دولة من ضمنها العراق واختيرت مدينة نيويورك مقرا لهذه المنظمة وقدم العراق طلبا للانضمام الى المنظمة وتم قبوله يوم 21/12/1945 ورفع العلم العراقي فوق مبنى المنظمة ايذانا بقبوله عضوا فيها .

- دور الدكتور فاضل الجمالي في تاسيس الامم المتحدة

الدكتور محمد فاضل الجمالي هو سياسي ودبلوماسي ومفكر عراقي حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة (هارفرد) في الولايات المتحدة الامريكية , مثل العراق في العديد من المحافل الدولية وقد لعب دورا محوريا في تأسيس الامم المتحدة بصفته ممثلا للعراق حيث وقع على ميثاقها جنبا الى جنب مع الرئيس الامريكي (روزفلت) ورئيس وزراء بريطانيا (تشرشل) كما انه شارك في صياغة الميثاق وتأسيس لجانه الرئيسية واسهم في ادراج مواد مهمة تتعلق باستقلال الدول مما جعله احد مؤسسي المنظمة الدولية هذه ورمزا للدبلوماسية العربية , كما انه ترأس الوفد العراقي في عدة جلسات للجمعية العامة وشارك في اجتماعات الجامعة العربية الخاصة بقضية فلسطين .

وفي عام 1995 دعي كضيف شرف بمناسبة مرور 50 عاما على تأسيس الامم المتحدة وقد اعرب عن سروره لحضور اليوبيل الذهبي لتأسيس المنظمة وفي عام 1951 انتخب نائبا لرئيس الجمعية العامة وكانت له علاقات مع العديد من الشخصيات العربية وقادو دول العالم وبذلك اصبح شخصية عالمية وقد وصفه الدبلوماسيين العرب بانه (عملاق من عمالقة التاريخ العربي الحديث) .

- الجمالي في العراق في العهد الملكي 1953- 1958

في 4/نيسان/1939 توفي الملك غازي ملك العراق في حادث السيارة وكان عمر ابنه فيصل (4) سنوات وقد تولى الوصاية عليه وعلى العرش خاله الامير (عبد الاله)، وفي عام 1953 بلغ فيصل سن الرشد وبذلك انتهت الوصاية وفي 2/5 من تلك السنة توج فيصل ملكا على العراق بأسم الملك (فيصل الثاني) وجريا على المراسيم الدستورية قدم (جميل المدفعي) استقالة الى الملك وبعد فترة قليلة استقال المدفعي فاستدعى الملك الدكتور فاضل الجمالي وكلفه بتشكيل وزارة جديدة فشكل الجمالي وزارته الاولى وقدمها الى الملك وكان معظم الوزراء من الشباب لذا سماها الملك (وزارة الثورة البيضاء) الا ان الوزارة لم تستمر طويلا فاستقال في سنة 1954 الا انه استمر في التشكيلات الوزارية فقد تبوء منصب وزير الخارجية لست مرات حتى عام 1958 .

- الجمالي في العهد الجمهوري

عندما قامت ثورة 14 تموز اعتقل الجمالي بعد يومين من قيامها  وزج في السجن مع اقطاب النظام الملكي ثم حوكم في المحكمة العسكرية التي حكمت عليه بالاعدام وقد انتشرت شائعات تفيد بانه قتل ومثل بجسده غير انه ظهر في اليوم التالي على شاشة التلفزيون واقفا في قفص الاتهام , ان ظهوره في قفص الاتهام اثار غضب الكثيرين من زعماء العالم من رؤساء وملوم واتصلوا هاتفيا بالزعيم عبد الكريم قاسم طالبين منه اطلاق سراح الجمالي وكان من بينهم الرئيس التونسي (الحبيب بورقيبة) الذي التمس من الزعيم (عبد الكريم قاسم) اطلاق سراحه والسماح له بالتوجه الى تونس للتدريس في جامعة الزيتونة فاستجاب الزعيم الى طلبه وسافر الى تونس استاذا لمادة التربية .

وفي عام 199 توحه الجمالي الى لندن لغرض العلاج وتوفي في احد المستشفيات هناك , وان وفاة الجمالي خسارة كبيرة للعراق والعالم فقد فقد العراق والعرب والعالم شخصية دبلوماسية فذة كان لها دورها في تأسيس الامم المتحدة وجامعة الدول العربية .

*** 

غريب دوحي

 

وإيقاظ حنين الوجدان إلى وهج أيام زمان

لله درك الأديب التراثي الزاخر محمد اليونس.. ايقظت فينا بمعجم مفرداتك الريفية القح في منشوراتك الإبداعية حنين الوجدان إلى وهج أيام زمان..

 فذاكرتك الحية متوقدة في الإستذكار حتى لكأنك في سرديات استذكاراتك الابداعية، مصطف مع الربع في بيادر القرية..

وهكذا تنثال سردياتك للموروث الشعبي الريفي بطريقة ابداعية مدهشة.. ومع قحيتها الصرفة.. يحس المتلقي من بقايا ذلك الجيل،الذي عاش تلك المفردات بتفاصيلها.. انه اليوم يلثغ رطانة، عندما يتلفظ بها.. وذلك لطول عهده بتداولها.. حتى قد يخيل له أن ساحر خيالك.. هو من يوحي اليك بتلك المفردات..!!

أما عن تراثية الصورة.. فحدث عنها ولاحرج.. فقحية ريفيتها التي تتجسد بالزي الشعبي .. الچاكيت والزبون والغترة والعگال ..والكيش والملفع والصاية.. وطريقة الوقوف المترعة بالدلالات التعبيرية..  تعمق عراقة إيحاءاتها الوجدانية..

 فرفقا بمشاعر متلقيك التي عصرنتها الحداثة الزائفة.. حتى غدا حسها متبلدا ..فلم يعد يتمكن من الترادف مع موروثه بحس أيام ذلك الزمن الجميل..

***

نايف عبوش

منذُ أنْ عرفَ الإنسانُ ذاتَهُ، حملَ في روحِهِ سؤالًا مزدوجًا: مَن أنا؟ ولِمَن أنتمي؟ وبين هذين السؤالين تتأرجحُ الهويّاتُ، حتى ليبدو أنَّ الهويَّةَ الدينيَّةَ — بما تملِكُهُ من قداسَةٍ ورموزٍ وطقوسٍ وانفعالاتٍ — هي الأكثرُ حضورًا وتأثيرًا في تشكيلِ الخرائطِ النفسيَّةِ والاجتماعيَّةِ للشعوبِ. لكنَّ السؤالَ الأخطرَ يبقى قائمًا:

هل أُريدَ للدِّينِ أن يكونَ هويَّةً تُقصِي؟ أم رسالةً تُقَرِّبُ وتجمعُ؟ وهل يمكنُ للهويَّةِ الدينيَّةِ أن تُلغِي الهويَّةَ الإنسانيَّةَ المُشتركةَ التي تشتركُ فيها كلُّ الأممِ والشعوبِ؟

الآيةُ التي سبقتِ التاريخَ وظلَّ التاريخُ يتخلَّفُ عنها والقاعدةُ الإنسانيَّةُ الكبرى والتي تسبقُ كلَّ خلافٍ، قدَّمها القرآنُ حين قالَ:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

لم تُحدِّدِ الآيةُ لونًا، ولا دينًا، ولا مذهبًا، ولا قوميَّةً، بل وضعتِ الهويَّةَ الإنسانيَّةَ أساسًا لا يتغيَّرُ، وجعلتِ التنوُّعَ مقصودًا: "لِتَعارَفوا"، لا "لِتَتحاربوا".

إنَّها آيةٌ لا تنتمي فقط إلى الدِّينِ، بل تنتمي إلى الفطرةِ الأولى التي ينطلقُ منها كلُّ البشرِ. لكنَّ التاريخَ — كما جرتْ عادتُهُ — مشى في طريقٍ، وبقيتِ النصوصُ في طريقٍ آخرَ.

سؤالٌ مشروعٌ وصادمٌ: هل احترمَ المسلمونَ هذه الآيةَ عبرَ تاريخِهِم؟

الغالبُ وحسبَ التاريخِ الذي كتبوهُ بأيديهم، لم أجد (إلا ما ندرَ)  غيرَ اللحظاتِ الحالكةِ التي امتلأتْ بالتعصُّبِ، وإقصاءِ المذاهبِ، وصراعاتٍ على السلطةِ تُرفعُ فيها رايةُ الدِّينِ لتبريرِ العنفِ. وهذا ما ينطبق على الأديانِ الأخرى بالطبع. المشكلةُ ليستْ في النصِّ، بل في التأويلِ التاريخيِّ، والإنسانُ حين يَتعطَّشُ للسلطةِ، يلبسُ رداءَ القداسةِ ليُخفي شهوةَ الغَلَبةِ.

هل ثقافةُ الإلغاءِ من صميمِ الدِّينِ؟

ثقافةُ الإلغاءِ لم تولَدْ من الدِّينِ، بل وُلِدَتْ من الإنسانِ نفسِهِ حين يُحوِّلُ العقيدةَ إلى مُمتلكٍ شخصيٍّ لا إلى رسالة. فليس في أيِّ دِينٍ سماويٍّ ما يدعو إلى إلغاءِ إنسانٍ آخرَ لمجرَّدِ اختلافِهِ في معتقدٍ أو قوميَّةٍ أو طائفة. الدِّينُ — في جوهرِهِ — محاولةٌ للفهمِ، لا وسيلةٌ للهيمنةِ. لكن الشعوبَ حين تخافُ، تتمسَّكُ بحدودِها، وتحوِّلُ الهويَّةَ الدينيَّةَ إلى أسوارٍ بدلَ أن تكونَ جُسورًا، وتتحوَّلُ الطوائفُ إلى مخازنَ للخوفِ المتبادلِ، فيغيبُ التَّعارفُ الذي هو أصلُ الوجودِ الإنسانيِّ.

هل دعا اللهُ إلى التباغضِ؟

كيف يدعو اللهُ إلى التباغضِ وهو الذي بدأ الخلقَ من "ذَكَرٍ وأُنثى"، أي من وحدةِ الأصلِ؟

كيف يدعو إلى الحروبِ وهو الذي جعل معيارَ الكرامةِ التقوى، لا العددَ ولا القوَّةَ ولا الهويَّةَ؟

إنَّ الدِّينَ — أيَّ دينٍ — يحملُ رسالةً أخلاقيَّةً تقومُ على: الرحمةِ، العدلِ، احترامِ الإنسانِ، وإعلاءِ قيمةِ السلامِ. وكلُّ دعوةٍ للحربِ ليستْ من اللهِ، بل من الإنسانِ حين يُلبسُ شهوتَهُ لِباسَ الدِّينِ.

هل اللِّباسُ علامةٌ يجبُ أن تُفرَضَ؟

اللباسُ جزءٌ من الثقافةِ لا من العقيدةِ. وقد تعدَّدتْ أزياءُ المسلمينَ الأوائلِ، من اليمنِ إلى الحجازِ إلى الشامِ والعراقِ ومصرَ وتونسَ والأندلسِ والهندِ وآسيا الوسطى، ولم ينزلْ نصٌّ يفرِضُ لونًا ولا شكلًا محدَّدًا. لكن صارتْ بعضُ الأزياءِ اليومَ أشبهَ براياتٍ طائفيَّةٍ؛ فبدلَ أن يكونَ اللباسُ وسيلةَ تعبيرٍ ثقافيٍّ، أصبحَ في بعضِ المجتمعاتِ أداةَ تصنيفٍ تُفرَضُ بالقوَّةِ أو تُستنكرُ في الآخرينِ، وكأنَّ اللهَ ينظرُ إلى الثيابِ قبلَ القلوبِ.

هل الإسلامُ يُلغِي الأديانَ الأخرى؟

الإسلامُ — في نصوصِهِ الجوهريةِ — لا يقدِّمُ نفسَهُ كممحاةٍ للدياناتِ، بل كامتدادٍ لها: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ﴾، والإسلامُ هنا ليس اسمًا لطائفةٍ محدَّدةٍ، بل حقيقةَ السلامِ والخضوعِ للهِ التي جاءتْ بها كلُّ الرسالاتِ، منذ نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى.

إنَّهُ — بحسب النصِّ القرآنيِّ — جوهرٌ مُشتركٌ لا احتكارَ فيه. ولذلك قالَ: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾، وهي آيةٌ تنسفُ فكرةَ الإلغاءِ من جذورِها.

والمأساةُ: ماذا يحدثُ حين تُنسَى الهويَّةُ الإنسانيَّةُ؟ حين تُنسَى الهويَّةُ الإنسانيَّةُ، يحدثُ ما عرفَهُ العالمُ عبرَ القرونِ: حروبٌ بسببِ المذاهبِ، مذابحُ بسببِ الدِّينِ، عنصريَّةٌ بسببِ الطائفةِ، تقسيمُ البشرِ إلى "نحن" و"هم".

لقد دفعَ البشرُ — ولا يزالونَ — أثمانًا باهظةً لأنَّهم نسُوا الأصلَ: أنَّنا مِن ذَكَرٍ وأُنثى، وأنَّ اختلافَنا لِنتعارفَ لا لِنتقاتلَ.

إنَّ الهويَّةَ الدينيَّةَ حين تُفهَمُ كما أرادَ اللهُ، تصبحُ جسرًا يعبُرُ عليه الإنسانُ إلى أخيهِ الإنسانِ، لا جدارًا يعزِلُهُ عنه. وحين تعودُ الأديانُ إلى رسالتِها الأولى — رسالةِ تحريرِ القلبِ من الكراهيةِ — سيكتشفُ البشرُ أنَّ ما يجمعُهم أكبرُ بكثيرٍ ممّا يفرِّقُهم. فالإنسانُ قبلَ المسلمِ، وقبلَ المسيحيِّ، وقبلَ اليهوديِّ، وقبلَ أيِّ طائفةٍ أو مذهبٍ…

وإن ضاعتِ الهويَّةُ الإنسانيَّةُ، ضاعتْ معها كلُّ الهويّاتِ.

***

بقلم د. علي الطائي

 

يُعَدّ الأدب الشعبي العراقي واحدًا من أغنى وأقدم أشكال التعبير الإنساني في المنطقة العربية، بل إنّه يُعدّ امتدادًا طبيعيًا لإرث حضاري يمتدّ من سومر وأكد وبابل إلى العصور الإسلامية والعثمانية وصولًا إلى العراق الحديث ولأن العراق كان وما يزال ملتقى حضارات وثقافات وأعراق، فقد كان الأدب الشعبي فيه مختلفًا عن غيره، متنوّعًا في أشكاله، واسعًا في لغته، متجددًا في إيقاعه، وحاملًا لروح الناس بكل تفاصيلها وأفراحها وجراحها وأحلامها.

- البيئة العراقية.. رحمٌ ولود للأدب الشعبي

بيئة العراق بيئة غنية بالتناقضات التي تُنشئ أدبًا متنوعًا: أنهار دجلة والفرات بساتين النخيل، البوادي الواسعة، المدن الكبرى، الأرياف، العشائر، الحروب، الفقر الازدهار، الانهيارات، الوقوف من جديد وهذه المشاهد تصنع خيالًا مختلفًا، وتمنح الكلمة الشعبية مادة خامًا استثنائية فمن يزور العراق يجد أن كل منطقة فيه تمتلك نبرة خاصة في الجنوب لغة الرطب والنخيل والماء، وفي الفرات الأوسط نبرة العتابة والطور، وفي الأنبار والموصل لهجة البوادي وفي بغداد خليط من كل هذا يذوب في روح المدينة العريقة.

هذه البيئات المتنوعة خلقت أدبًا شعبيًا واسعًا لا يمكن اختزاله في نمط واحد فهو شعر وغناء وحكايات وأمثال ومواويل وروايات شفاهية وأساطير صغيرة تتناقلها البيوت جيلاً بعد جيل.

- الشعر الشعبي العراقي.. قلب الموروث

يحتل الشعر الشعبي في العراق مركز القلب. فهو ليس مجرد فن، بل هو وسيلة للتعبير وسلاح للاحتجاج، وتعزية للمصاب واحتفال بالفرح، وتوثيق للحرب، وسردٌ للتاريخ.

1. العتابة

العتابة مثال رفيع على جمال الوجدان العراقي. وهي تعتمد على الكلمات ذات الجذر الواحد واختلاف المعنى، مما يخلق تحديًا لغويًا ممتعًا وغالبًا ما تمتلئ بالحزن والحب والغربة والشكوى وصوت العتابة يخرج كأنه بكاء الأرض حين تجف، أو حنين الروح حين تتعب.

2. الدارمي

قصيرة، لكنها تحمل حكمًا وتجارب طويلة. تُقال عند المواقف، وتُستخدم في الغزل وتدخل في سرد الحوادث اليومية والدارمي دليل أن العراقي قادر على اختصار حياة كاملة في بيتين فقط.

3. الزهيري

تسعة أبيات، مع بصمة لغوية معقدة، لكنها محبوبة، وتعد من أرفع الأنواع لثرائها وقوة تأثيرها. الزهيري مدرسة مستقلة في السرد الشعبي، تربط بين الحكمة والشعر والمعنى العميق.

4. المواويل

الموال العراقي أشهر من أن يُعرّف وموال "الأبوذية" الذي يخرج كأنّه أنين إنسان عاش بين الفقد والموت والحصار والعشق والخيبة ومن يستمع لموال بغدادي أو ريفي يشعر أن الصوت يحمل تاريخ العراق كله.

5.الهوسات والدبكات

الهوسة ليست فنًا فقط، بل هي صوت الجماعة، صوت الفزعة، صوت القوة وفي الهوسات كلمات تُفجّر الروح، وتنهض القبيلة، وتُشعل الحماسة، وقد سجلت مواقف بطولية خلال الاحتلالات والحروب والأزمات.

- الحكاية الشعبية العراقية

الحكايا جزء من تكوين الذاكرة العراقية خصوصًا أن العراق شهد حضارات قصصية منذ جلجامش والحكايات تتنوع بين:

- حكايات الجدات: السعلوة، وغيرها.

الأساطير الصغيرة: قصص الخوف التي تُروى لردع الأطفال عن الخطر.

- قصص البطولة: عن الرجال الذين عاشوا في الريف، وعن الشجاعة والشرف والكرم.

- القصص المرحة: جحا العراقي بطبعات مختلفة، وروح الدعابة البغدادية التي لا تتكرر.

هذه القصص كانت المدرسة الأولى للطفل العراقي، وهي التي كوّنت مخيلته وشكّلت تصورات الخير والشر.

- الأمثال الشعبية.. حكمة العراق المختصرة

الأمثال الشعبية في العراق ليست أقوالًا فقط؛ إنها دستور اجتماعي كامل غير مكتوب زكل مثل يحكي قصة، ويحمل تجربة، ويقدّم درسًا. مثل:

"المي ما تغسل العار"

"الناموس أهيب من الفاس"

"راح الزلم وبقيت تْنِهّ"

"الباب اللي يجّيك منّه الريح سدّه واستريح"

وغيرها هذه الأمثال أثبتت أن العراقي يرى الحياة بعين الحكمة رغم الألم.

- الأغنية الشعبية العراقية

الأغنية العراقية تحمل نبرة لا تشبه أي نبرة في الوطن العربي وهي خليط من الحزن والفرح، من الطرب والشكوى، من الشجن والرقص. ومن ميزاتها:

- الأبوذية الملحنة

- الطور الريفي الجنوبي

- المقامات البغدادية

- الأغاني البدوية

- الهناوي والسويحلي

وكل منطقة صنعت لونها الخاص الذي يشبه أرضها ولهجتها ونخيلها ومائها.

- الأدب الشعبي في العراق زمن الأزمات

قلّما مرّ العراق بفترة هدوء طويلة. الحروب الحصار، الاحتلال، الضياع، الانقسامات.. كل ذلك كان مادة للأدب الشعبي، الذي تحوّل إلى مرآة صادقة لأوجاع الناس.

في الحروب، كتب الشعراء الشعبيون عن الفقد والفراق والجنود الذين عادوا نعوشًا. وفي الحصار كانت القصائد تبكي الخبز والدواء وفي الاحتلال كان الأدب الشعبي وسيلة مقاومة، يوثّق الحقيقة ويصرخ بها.

بل إن العراقيين استخدموا الشعر الشعبي في الاحتجاجات السياسية، وفي مواجهة الفساد، وفي رفع صوت الشارع، فكان الشعر أقوى من الرصاص أحيانًا.

- المدن العراقية وصوتها الشعبي

- بغداد

مدينة الشعر الناعم والسخرية الذكية. أمثالها لا تشبه غيرها، ونكاتها لها طابع فلسفي ساخر.

- الجنوب

مسقط رأس الأبوذية والطور ولغة الماء والطين والبردي والهور والشعر هناك يشبه النخل: راسخ، عميق، شامخ.

- الفرات الأوسط

مركز العتابة والزُهيريات والناس هناك يقولون الشعر كما يتنفسون.

- الموصل والأنبار

- لغة البادية والقوة والفروسية.

العراق فسيفساء أدبية، وكل منطقة تقدم لونًا يزيد المشهد جمالاً.

- لماذا الأدب الشعبي العراقي مختلف ؟

لأنه قديم قِدم الحضارة.

لأنه عاصر المجاعات والحروب والغزوات.

لأنه نابع من ناسٍ يعرفون قيمة الأرض والشرف والكرامة.

لأنه أدب صادق ومعجون بالدمع والعرق.

لأنه أدب يُقال بالعامية لكنه يحمل روح الفصحى وحكمة الأجداد.

- تأثير الأدب الشعبي العراقي على الهوية

لا يمكن للعراقي أن ينقطع عن جذوره لأن الأدب الشعبي يشده دائمًا للوراء ليرى نفسه. هذا الأدب يمنح الناس:

انتماءً

ذاكرة

شجاعة

عزاء

وضحكة وسط الخراب

إنه ليس أدبًا فقط، بل هو قوة روحية وثقافية تحافظ على تماسك المجتمع.

- الأدب الشعبي اليوم

اليوم، وبعد انتشار وسائل التواصل واليوتيوبرز والبرامج الفضائية، عاد الأدب الشعبي بقوة وصار الشعراء نجوماً، وصار الناس يستمعون للمربعات والطور والموالات أكثر من أي وقت مضى بل أن كثيرًا من القصائد الشعبية أصبحت جزءًا من الحياة اليومية.

ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر هو الحفاظ على الأصالة ومنع التشويه والسطحية فالأدب الشعبي إرثٌ يجب صونه، وتعليمه وتدوينه، وتقديمه للأجيال كجزء من الهوية العراقية.

ختاما الأدب الشعبي العراقي ليس مجرد تراث، بل هو شجرة تمتد جذورها إلى آلاف السنين وهو تاريخ العراق غير المكتوب والصوت الذي لم يخن أصحابه، والمرآة التي تعكس وجه الإنسان العراقي بجماله وخوفه وصبره وكرامته وإنه أدب يثبت أن الشعب الذي يمتلك هذا الثراء اللغوي والوجداني، قادر على الوقوف مهما اشتدت المحن.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

في المثقف اليوم