أقلام حرة

أقلام حرة

منذُ أنْ عرفَ الإنسانُ ذاتَهُ، حملَ في روحِهِ سؤالًا مزدوجًا: مَن أنا؟ ولِمَن أنتمي؟ وبين هذين السؤالين تتأرجحُ الهويّاتُ، حتى ليبدو أنَّ الهويَّةَ الدينيَّةَ — بما تملِكُهُ من قداسَةٍ ورموزٍ وطقوسٍ وانفعالاتٍ — هي الأكثرُ حضورًا وتأثيرًا في تشكيلِ الخرائطِ النفسيَّةِ والاجتماعيَّةِ للشعوبِ. لكنَّ السؤالَ الأخطرَ يبقى قائمًا:

هل أُريدَ للدِّينِ أن يكونَ هويَّةً تُقصِي؟ أم رسالةً تُقَرِّبُ وتجمعُ؟ وهل يمكنُ للهويَّةِ الدينيَّةِ أن تُلغِي الهويَّةَ الإنسانيَّةَ المُشتركةَ التي تشتركُ فيها كلُّ الأممِ والشعوبِ؟

الآيةُ التي سبقتِ التاريخَ وظلَّ التاريخُ يتخلَّفُ عنها والقاعدةُ الإنسانيَّةُ الكبرى والتي تسبقُ كلَّ خلافٍ، قدَّمها القرآنُ حين قالَ:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

لم تُحدِّدِ الآيةُ لونًا، ولا دينًا، ولا مذهبًا، ولا قوميَّةً، بل وضعتِ الهويَّةَ الإنسانيَّةَ أساسًا لا يتغيَّرُ، وجعلتِ التنوُّعَ مقصودًا: "لِتَعارَفوا"، لا "لِتَتحاربوا".

إنَّها آيةٌ لا تنتمي فقط إلى الدِّينِ، بل تنتمي إلى الفطرةِ الأولى التي ينطلقُ منها كلُّ البشرِ. لكنَّ التاريخَ — كما جرتْ عادتُهُ — مشى في طريقٍ، وبقيتِ النصوصُ في طريقٍ آخرَ.

سؤالٌ مشروعٌ وصادمٌ: هل احترمَ المسلمونَ هذه الآيةَ عبرَ تاريخِهِم؟

الغالبُ وحسبَ التاريخِ الذي كتبوهُ بأيديهم، لم أجد (إلا ما ندرَ)  غيرَ اللحظاتِ الحالكةِ التي امتلأتْ بالتعصُّبِ، وإقصاءِ المذاهبِ، وصراعاتٍ على السلطةِ تُرفعُ فيها رايةُ الدِّينِ لتبريرِ العنفِ. وهذا ما ينطبق على الأديانِ الأخرى بالطبع. المشكلةُ ليستْ في النصِّ، بل في التأويلِ التاريخيِّ، والإنسانُ حين يَتعطَّشُ للسلطةِ، يلبسُ رداءَ القداسةِ ليُخفي شهوةَ الغَلَبةِ.

هل ثقافةُ الإلغاءِ من صميمِ الدِّينِ؟

ثقافةُ الإلغاءِ لم تولَدْ من الدِّينِ، بل وُلِدَتْ من الإنسانِ نفسِهِ حين يُحوِّلُ العقيدةَ إلى مُمتلكٍ شخصيٍّ لا إلى رسالة. فليس في أيِّ دِينٍ سماويٍّ ما يدعو إلى إلغاءِ إنسانٍ آخرَ لمجرَّدِ اختلافِهِ في معتقدٍ أو قوميَّةٍ أو طائفة. الدِّينُ — في جوهرِهِ — محاولةٌ للفهمِ، لا وسيلةٌ للهيمنةِ. لكن الشعوبَ حين تخافُ، تتمسَّكُ بحدودِها، وتحوِّلُ الهويَّةَ الدينيَّةَ إلى أسوارٍ بدلَ أن تكونَ جُسورًا، وتتحوَّلُ الطوائفُ إلى مخازنَ للخوفِ المتبادلِ، فيغيبُ التَّعارفُ الذي هو أصلُ الوجودِ الإنسانيِّ.

هل دعا اللهُ إلى التباغضِ؟

كيف يدعو اللهُ إلى التباغضِ وهو الذي بدأ الخلقَ من "ذَكَرٍ وأُنثى"، أي من وحدةِ الأصلِ؟

كيف يدعو إلى الحروبِ وهو الذي جعل معيارَ الكرامةِ التقوى، لا العددَ ولا القوَّةَ ولا الهويَّةَ؟

إنَّ الدِّينَ — أيَّ دينٍ — يحملُ رسالةً أخلاقيَّةً تقومُ على: الرحمةِ، العدلِ، احترامِ الإنسانِ، وإعلاءِ قيمةِ السلامِ. وكلُّ دعوةٍ للحربِ ليستْ من اللهِ، بل من الإنسانِ حين يُلبسُ شهوتَهُ لِباسَ الدِّينِ.

هل اللِّباسُ علامةٌ يجبُ أن تُفرَضَ؟

اللباسُ جزءٌ من الثقافةِ لا من العقيدةِ. وقد تعدَّدتْ أزياءُ المسلمينَ الأوائلِ، من اليمنِ إلى الحجازِ إلى الشامِ والعراقِ ومصرَ وتونسَ والأندلسِ والهندِ وآسيا الوسطى، ولم ينزلْ نصٌّ يفرِضُ لونًا ولا شكلًا محدَّدًا. لكن صارتْ بعضُ الأزياءِ اليومَ أشبهَ براياتٍ طائفيَّةٍ؛ فبدلَ أن يكونَ اللباسُ وسيلةَ تعبيرٍ ثقافيٍّ، أصبحَ في بعضِ المجتمعاتِ أداةَ تصنيفٍ تُفرَضُ بالقوَّةِ أو تُستنكرُ في الآخرينِ، وكأنَّ اللهَ ينظرُ إلى الثيابِ قبلَ القلوبِ.

هل الإسلامُ يُلغِي الأديانَ الأخرى؟

الإسلامُ — في نصوصِهِ الجوهريةِ — لا يقدِّمُ نفسَهُ كممحاةٍ للدياناتِ، بل كامتدادٍ لها: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ﴾، والإسلامُ هنا ليس اسمًا لطائفةٍ محدَّدةٍ، بل حقيقةَ السلامِ والخضوعِ للهِ التي جاءتْ بها كلُّ الرسالاتِ، منذ نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى.

إنَّهُ — بحسب النصِّ القرآنيِّ — جوهرٌ مُشتركٌ لا احتكارَ فيه. ولذلك قالَ: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾، وهي آيةٌ تنسفُ فكرةَ الإلغاءِ من جذورِها.

والمأساةُ: ماذا يحدثُ حين تُنسَى الهويَّةُ الإنسانيَّةُ؟ حين تُنسَى الهويَّةُ الإنسانيَّةُ، يحدثُ ما عرفَهُ العالمُ عبرَ القرونِ: حروبٌ بسببِ المذاهبِ، مذابحُ بسببِ الدِّينِ، عنصريَّةٌ بسببِ الطائفةِ، تقسيمُ البشرِ إلى "نحن" و"هم".

لقد دفعَ البشرُ — ولا يزالونَ — أثمانًا باهظةً لأنَّهم نسُوا الأصلَ: أنَّنا مِن ذَكَرٍ وأُنثى، وأنَّ اختلافَنا لِنتعارفَ لا لِنتقاتلَ.

إنَّ الهويَّةَ الدينيَّةَ حين تُفهَمُ كما أرادَ اللهُ، تصبحُ جسرًا يعبُرُ عليه الإنسانُ إلى أخيهِ الإنسانِ، لا جدارًا يعزِلُهُ عنه. وحين تعودُ الأديانُ إلى رسالتِها الأولى — رسالةِ تحريرِ القلبِ من الكراهيةِ — سيكتشفُ البشرُ أنَّ ما يجمعُهم أكبرُ بكثيرٍ ممّا يفرِّقُهم. فالإنسانُ قبلَ المسلمِ، وقبلَ المسيحيِّ، وقبلَ اليهوديِّ، وقبلَ أيِّ طائفةٍ أو مذهبٍ…

وإن ضاعتِ الهويَّةُ الإنسانيَّةُ، ضاعتْ معها كلُّ الهويّاتِ.

***

بقلم د. علي الطائي

 

يُعَدّ الأدب الشعبي العراقي واحدًا من أغنى وأقدم أشكال التعبير الإنساني في المنطقة العربية، بل إنّه يُعدّ امتدادًا طبيعيًا لإرث حضاري يمتدّ من سومر وأكد وبابل إلى العصور الإسلامية والعثمانية وصولًا إلى العراق الحديث ولأن العراق كان وما يزال ملتقى حضارات وثقافات وأعراق، فقد كان الأدب الشعبي فيه مختلفًا عن غيره، متنوّعًا في أشكاله، واسعًا في لغته، متجددًا في إيقاعه، وحاملًا لروح الناس بكل تفاصيلها وأفراحها وجراحها وأحلامها.

- البيئة العراقية.. رحمٌ ولود للأدب الشعبي

بيئة العراق بيئة غنية بالتناقضات التي تُنشئ أدبًا متنوعًا: أنهار دجلة والفرات بساتين النخيل، البوادي الواسعة، المدن الكبرى، الأرياف، العشائر، الحروب، الفقر الازدهار، الانهيارات، الوقوف من جديد وهذه المشاهد تصنع خيالًا مختلفًا، وتمنح الكلمة الشعبية مادة خامًا استثنائية فمن يزور العراق يجد أن كل منطقة فيه تمتلك نبرة خاصة في الجنوب لغة الرطب والنخيل والماء، وفي الفرات الأوسط نبرة العتابة والطور، وفي الأنبار والموصل لهجة البوادي وفي بغداد خليط من كل هذا يذوب في روح المدينة العريقة.

هذه البيئات المتنوعة خلقت أدبًا شعبيًا واسعًا لا يمكن اختزاله في نمط واحد فهو شعر وغناء وحكايات وأمثال ومواويل وروايات شفاهية وأساطير صغيرة تتناقلها البيوت جيلاً بعد جيل.

- الشعر الشعبي العراقي.. قلب الموروث

يحتل الشعر الشعبي في العراق مركز القلب. فهو ليس مجرد فن، بل هو وسيلة للتعبير وسلاح للاحتجاج، وتعزية للمصاب واحتفال بالفرح، وتوثيق للحرب، وسردٌ للتاريخ.

1. العتابة

العتابة مثال رفيع على جمال الوجدان العراقي. وهي تعتمد على الكلمات ذات الجذر الواحد واختلاف المعنى، مما يخلق تحديًا لغويًا ممتعًا وغالبًا ما تمتلئ بالحزن والحب والغربة والشكوى وصوت العتابة يخرج كأنه بكاء الأرض حين تجف، أو حنين الروح حين تتعب.

2. الدارمي

قصيرة، لكنها تحمل حكمًا وتجارب طويلة. تُقال عند المواقف، وتُستخدم في الغزل وتدخل في سرد الحوادث اليومية والدارمي دليل أن العراقي قادر على اختصار حياة كاملة في بيتين فقط.

3. الزهيري

تسعة أبيات، مع بصمة لغوية معقدة، لكنها محبوبة، وتعد من أرفع الأنواع لثرائها وقوة تأثيرها. الزهيري مدرسة مستقلة في السرد الشعبي، تربط بين الحكمة والشعر والمعنى العميق.

4. المواويل

الموال العراقي أشهر من أن يُعرّف وموال "الأبوذية" الذي يخرج كأنّه أنين إنسان عاش بين الفقد والموت والحصار والعشق والخيبة ومن يستمع لموال بغدادي أو ريفي يشعر أن الصوت يحمل تاريخ العراق كله.

5.الهوسات والدبكات

الهوسة ليست فنًا فقط، بل هي صوت الجماعة، صوت الفزعة، صوت القوة وفي الهوسات كلمات تُفجّر الروح، وتنهض القبيلة، وتُشعل الحماسة، وقد سجلت مواقف بطولية خلال الاحتلالات والحروب والأزمات.

- الحكاية الشعبية العراقية

الحكايا جزء من تكوين الذاكرة العراقية خصوصًا أن العراق شهد حضارات قصصية منذ جلجامش والحكايات تتنوع بين:

- حكايات الجدات: السعلوة، وغيرها.

الأساطير الصغيرة: قصص الخوف التي تُروى لردع الأطفال عن الخطر.

- قصص البطولة: عن الرجال الذين عاشوا في الريف، وعن الشجاعة والشرف والكرم.

- القصص المرحة: جحا العراقي بطبعات مختلفة، وروح الدعابة البغدادية التي لا تتكرر.

هذه القصص كانت المدرسة الأولى للطفل العراقي، وهي التي كوّنت مخيلته وشكّلت تصورات الخير والشر.

- الأمثال الشعبية.. حكمة العراق المختصرة

الأمثال الشعبية في العراق ليست أقوالًا فقط؛ إنها دستور اجتماعي كامل غير مكتوب زكل مثل يحكي قصة، ويحمل تجربة، ويقدّم درسًا. مثل:

"المي ما تغسل العار"

"الناموس أهيب من الفاس"

"راح الزلم وبقيت تْنِهّ"

"الباب اللي يجّيك منّه الريح سدّه واستريح"

وغيرها هذه الأمثال أثبتت أن العراقي يرى الحياة بعين الحكمة رغم الألم.

- الأغنية الشعبية العراقية

الأغنية العراقية تحمل نبرة لا تشبه أي نبرة في الوطن العربي وهي خليط من الحزن والفرح، من الطرب والشكوى، من الشجن والرقص. ومن ميزاتها:

- الأبوذية الملحنة

- الطور الريفي الجنوبي

- المقامات البغدادية

- الأغاني البدوية

- الهناوي والسويحلي

وكل منطقة صنعت لونها الخاص الذي يشبه أرضها ولهجتها ونخيلها ومائها.

- الأدب الشعبي في العراق زمن الأزمات

قلّما مرّ العراق بفترة هدوء طويلة. الحروب الحصار، الاحتلال، الضياع، الانقسامات.. كل ذلك كان مادة للأدب الشعبي، الذي تحوّل إلى مرآة صادقة لأوجاع الناس.

في الحروب، كتب الشعراء الشعبيون عن الفقد والفراق والجنود الذين عادوا نعوشًا. وفي الحصار كانت القصائد تبكي الخبز والدواء وفي الاحتلال كان الأدب الشعبي وسيلة مقاومة، يوثّق الحقيقة ويصرخ بها.

بل إن العراقيين استخدموا الشعر الشعبي في الاحتجاجات السياسية، وفي مواجهة الفساد، وفي رفع صوت الشارع، فكان الشعر أقوى من الرصاص أحيانًا.

- المدن العراقية وصوتها الشعبي

- بغداد

مدينة الشعر الناعم والسخرية الذكية. أمثالها لا تشبه غيرها، ونكاتها لها طابع فلسفي ساخر.

- الجنوب

مسقط رأس الأبوذية والطور ولغة الماء والطين والبردي والهور والشعر هناك يشبه النخل: راسخ، عميق، شامخ.

- الفرات الأوسط

مركز العتابة والزُهيريات والناس هناك يقولون الشعر كما يتنفسون.

- الموصل والأنبار

- لغة البادية والقوة والفروسية.

العراق فسيفساء أدبية، وكل منطقة تقدم لونًا يزيد المشهد جمالاً.

- لماذا الأدب الشعبي العراقي مختلف ؟

لأنه قديم قِدم الحضارة.

لأنه عاصر المجاعات والحروب والغزوات.

لأنه نابع من ناسٍ يعرفون قيمة الأرض والشرف والكرامة.

لأنه أدب صادق ومعجون بالدمع والعرق.

لأنه أدب يُقال بالعامية لكنه يحمل روح الفصحى وحكمة الأجداد.

- تأثير الأدب الشعبي العراقي على الهوية

لا يمكن للعراقي أن ينقطع عن جذوره لأن الأدب الشعبي يشده دائمًا للوراء ليرى نفسه. هذا الأدب يمنح الناس:

انتماءً

ذاكرة

شجاعة

عزاء

وضحكة وسط الخراب

إنه ليس أدبًا فقط، بل هو قوة روحية وثقافية تحافظ على تماسك المجتمع.

- الأدب الشعبي اليوم

اليوم، وبعد انتشار وسائل التواصل واليوتيوبرز والبرامج الفضائية، عاد الأدب الشعبي بقوة وصار الشعراء نجوماً، وصار الناس يستمعون للمربعات والطور والموالات أكثر من أي وقت مضى بل أن كثيرًا من القصائد الشعبية أصبحت جزءًا من الحياة اليومية.

ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر هو الحفاظ على الأصالة ومنع التشويه والسطحية فالأدب الشعبي إرثٌ يجب صونه، وتعليمه وتدوينه، وتقديمه للأجيال كجزء من الهوية العراقية.

ختاما الأدب الشعبي العراقي ليس مجرد تراث، بل هو شجرة تمتد جذورها إلى آلاف السنين وهو تاريخ العراق غير المكتوب والصوت الذي لم يخن أصحابه، والمرآة التي تعكس وجه الإنسان العراقي بجماله وخوفه وصبره وكرامته وإنه أدب يثبت أن الشعب الذي يمتلك هذا الثراء اللغوي والوجداني، قادر على الوقوف مهما اشتدت المحن.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

ذاكرة الأمم والشعوب ينبوع إلهام وبوصلة مسار نحو جوهر ذات وهوية، ولابد للمجتمعات أن تصون ذاكرتها الإيجابية ولا تكرس ما هو سلبي في مسيرتها.

الأمة تتعرض لهجمة تستهدف دفن ذاكرتها وتأكيد أنها بلا ذاكرة إيجابية، فتأريخها المستحضر سفك دماء وغزوات وتفاعلات توصف بالسيئة ذات الصراعات البينية المهينة.

مَن الذي قدم لنا تأريخنا بهذه الصورة؟

لماذا يتم طمس ما هو إيجابي وأصيل؟

وفي القرن العشرين تحقق صناعة تأريخ لا يتفق وحقيقة الأمة وقوتها المادية والفكرية والمعنوية، حتى صارت الأجيال تصدق بأن الأمة إختصرت بطولاتها ومسيراتها بسفك الدماء والقتل الشرس .

وترسخ في الوعي الجمعي أنها لتكون عليها بالسيف ومحق الآخر، أيا كان سبب الإختلاف معه، فأبناء الأمة يتذابحون بسبب إدّعاء الواحد منهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وغيره ينكرها.

بينما الأمة إنطلقت في المدينة المنورة بتنوعاتها، فكان في كيانها من معظم الأجناس البشرية، وتعايشت مع أقوام يختلفون معها.

في مصر لم تحارَب آثار الفراعنة، وفي الهند لم يُعتدَ على معابدهم، وفي العديد من المجتمعات كان لإحترام الثقافة السائدة دورها في تآلف القلوب، ونجاح الدعوة إلى الدين الذي رفعت راياته وحملت رسالته.

"إدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"

إن أروع ما في التاريخ وأنبله، يتم طمسه والترويج لما يساهم في تأمين مصالح الطامعين، وكأن الدين عدوان على أمة العالمين.

اليقظة واجبة، وإحياء جوهر المسيرة الحضارية للأمة من ضرورات المجد المعاصر، فالدنيا بعثتها أمتنا وألهمتها منطلقات الأبداع والتنوير، وأخرجتها من ظلمات القهر والإستعباد والتنكيل إلى آفاق الأنوار العقلية الساطعة المعطاء.

فلماذا نغفل علماء الأمة، ونهلل لمن وصفناهم بالسفاحين، والذي يسبق السيف العذل في سلوكهم؟!!

علومٌ في مَحافلنا تنامتْ

عقولَ الغير لو تدري أضاءتْ

بدأناها وكانَ الخلقُ يَشقى

بحالكةٍ على زمنٍ ترامَتْ

إلى غربٍ ألا ذَهبتْ رؤانا

فأحْيَت قوّةً فيهم تخابتْ

***

د-صادق السامرائي

 

وجهت الرأسمالية ضربة موجعة للإنسانية بتهميش القيم المعنوية التي تشكل جوهر وجود الإنسان، مثل الحب والوفاء والصدق والإخلاص. فأصبحت هذه القيم لا تملك قيمة او اهمية إلا عندما تقترن بالأمور المادية (البراغماتية). فتحوّلت إلى سلع، وإلى وسيلة لا لغاية حسنة، بل لتحويل الإنسان نفسه إلى سلعة، وتجريده من قيمته المعنوية، ودفعه للتفكير فقط بما هو مادي. وهكذا أصبح الإنسان، كما عبّر عنه إريك فروم، ترس في آلة الإنتاج يدور معها ولا يشعر بشيء، يكون خاوي، ضجِر، مغترب.

يرى فروم أن الإنسان في كل العصور يواجه مشكلة قهر الانفصال1. والانفصال هو شعور بالوحدة وفقدان المعنى والعجز عن التواصل الحقيقي مع الآخرين—وأن عليه أن يفهم كيف يتجاوز انفصاليته.

في العصور القديمة، كان الإنسان البدائي الذي يحيا في الكهوف، أو الهائم الذي يرعى القطعان، أو الفلاح، أكثر عرضة لهذا الشعور. وعلى الرغم من ذلك، كانوا يلجأون إلى حلول لقهر انفصالهم مثل عبادة الحيوان، والانغماس في الترف، أو حتى التضحية الإنسانية2. أما الإنسان الحديث، في عصر الرأسمالية، يعيش انفصاله بشكل مختلف؛ فهو محاط بالناس، لكنه يشعر بأنه منفصل عنهم. ويلجأ بدوره إلى حلول جديدة، مثل الامتثال، أو الهروب عبر السكر والعربدة، أو الممارسات الجنسية العابرة. لكنها حلول مؤقتة؛ فعندما ينتهي مفعول الخمر، أو تنتهي هزة الجماع الجنسي، ويعود الإنسان إلى وضعه الطبيعي، يكتشف أنه لم يحرز أي تقدما، بل ازداد احباطا وتعاسة3.

وبينما قللت الرأسمالية من قيمة الإنسان وجعلت من قيمه المعنوية أدوات للمنفعة، يبقى الحب الوسيلة التي تعيد للإنسان جوهره. فالحب، بارتباطه بالقيم المعنوية، يجعل الإنسان يختبر الوفاء والصدق والإخلاص، ويكتشف أن وجوده ليس مجرد كونِه جزءاً من آلة إنتاج، بل كائناً قادراً على الإحساس و الشعور بالمعنى. الحب ليس شعوراً عابراً، بل حركة واعية تتطلب مسؤولية ووعياً تجاه الذات والآخر. ومن خلال هذا الوعي، يعيد الإنسان اكتشاف معنى وجوده بعيداً عن المصلحة المادية والتبادل النفعي. في الحب، يجد ذاته متصلة بالآخرين وبقيمه الأساسية، ويصبح فاعلاً في حياته، لا مجرد ترس يدور بلا إحساس في ماكينة الرأسمالية.

 ويؤكد إريك فروم في كتابه فنّ الحب أن أساس المشكلة ليس في الحب نفسه، بل في الطريقة التي يتعامل بها الإنسان الحديث معه. فالمجتمع الرأسمالي يقدّم الحب كحالة شعورية مؤقتة4، ولحظة انجذاب سريعة، أشبه بلذة سريعة؛ بينما يرى فروم أن الحب مهارة، وفنّ يحتاج ممارسة وانضباطاً ووعياً5. الإنسان لا يقع في الحب بقدر ما يتعلم كيف يحب. ولهذا يميّز فروم بين الحب الذي تروّج له ثقافة الرأسمالية —حب قائم على المنفعة والامتلاك—وبين الحب الناضج الذي يُبنى على عدة أمور أساسية مثل الحرص، المسؤولية، الاحترام، والمعرفة. فمن يحب بحق يعتني بالآخر، ويتحمّل مسؤوليته بوعي لا بسيطرة، ويحترم فرديته واختلافه، ويسعى لمعرفة حقيقته لا الاكتفاء بصورة سطحية عنه. في هذه الأمور يصبح الحب الناضج الأنموذج الوحيد القادر على مواجهة اغتراب الإنسان المعاصر. لأنه يحرّر العلاقة من الحسابات والأمور المادية ويعيدها إلى جوهرها الإنساني؛ يجعل الإنسان يرى الآخر كأنسان، لا كسلعة.

وفي عالم حوّل المشاعر إلى سلع، يكون هذا النوع من الحب فعل خارج عن المألوف؛ تمرد واعٍ يعيد للإنسان ذاته، ويمنحه معنى لا يمكن شراؤه أو استبداله. وفي النهاية، يبقى الحب القوة الوحيدة القادرة على إعادة الإنسان إلى جوهره وسط عالم تصنعه الرأسمالية وتعمّقه الانفصالية. ومن خلاله يختبر الإنسان الوفاء والصدق والإخلاص، ويدرك أن وجوده لا يُختزل في كونه ترساً داخل ماكينة الإنتاج، بل كائناً يملك القدرة على الإحساس والمعنى والتواصل الحقيقي. الحب يمنح الإنسان قوة لمواجهة العزلة والاغتراب، ويعيد ربطه بما هو أعمق من المادة، وبالقيم التي تشكّل أساس كيانه. إنه يحوّل التجربة الإنسانية من دورة استهلاك وإنتاج إلى حياة لها روح ومعنى. وفي عالم يختزل البشر إلى أرقام وقيم سوقية، يبرز الحب كمساحة حرة لاستعادة الذات وإثبات إنسانيتها.

***

حيدر كريم

...................

الهوامش

1- انظر في كتاب أريك فروم ص20 وما بعدها (الحب جواب على مشكلة الوجود الإنساني)

2- المصدر السابق

3- المصدر السابق

4- انظر ص 75 (وما بعدها) الحب و تفككه في المجتمع الغربي

5- انظر ص 95 (وما بعدها) ممارسة الحب

 

في عالمٍ يتسارع فيه كلُّ شيء، ويكاد الإنسان أن ينسى نفسه تحت وطأة الضجيج الرقمي والركض اليومي، يظلُّ (معرض العراق الدولي للكتاب)، بنسخته السادسة، واحداً من آخر القلاع التي تذكّرنا بأن المعرفة ليست رفاهية، بل حاجة وجودية. ورغم امتلاك العراق إرثاً ثقافياً يمتد لالآف السنين، فإن حضور الكتاب في الحياة اليومية ما زال يعاني تراجعاً واضحاً؛ وهنا تتجلى أهمية المعرض كفعلٍ ثقافي يُعيد للكتاب مكانته ويُعيد للمجتمع شهيته للمعرفة.

لا يُنظر إلى معرض الكتاب باعتباره مجرد سوقاً كبيرة لبيع الورق المطبوع. فحين يُدار بوصفه مشروعاً وطنياً، يتحول إلى مهرجان للوعي وفضاء يلتقي فيه الكاتب والقارئ والناشر، وتتشكل فيه علاقات جديدة بين المجتمع والكتاب. هذه الفضاءات تعيد للثقافة حضورها في الشارع، وتجعل من القراءة نشاطاً جماعياً احتفالياً، لا مجرد عادة فردية صامتة.

لا تعاني القراءة في العراق من ارتفاع الأسعار ونقص المكتبات فحسب، بل تعاني أيضاً من تغيّر أنماط الحياة وسيطرة الشاشات. وهنا يأتي دور معارض الكتب في تقديم الكتاب مجدداً بوصفه خبرة حسية جذابة: أروقة ممتدة، وألوان الأغلفة، وروائح الكتب، وأحاديث القرّاء. هذه البيئة وحدها كفيلة بتذكير الزائر بأن الكتاب ليس منتجاً قديماً تجاوزه الزمن، بل جزءاً من حياته وهويته.

كما أن المعرض يوفر عناوين جديدة يصعب العثور عليها في المكتبات التقليدية، بينما تتيح الخصومات فرصاً حقيقية لاقتناء الكتب. هذه التفاصيل البسيطة هي التي تجعل الطفل أو الشاب يشعر بأن شراء الكتب الجديدة أمر طبيعي وممتع، لا مهمة مالية مرهقة. ومن خلال هذا الشعور تنمو عادة القراءة، لا عبر الوعظ والتلقين.

تعيش صناعة النشر العراقية منذ سنوات ضغوطاً متزايدة بسبب ارتفاع تكاليف الطباعة وضيق الأسواق وتراجع الاهتمام بالكتاب الورقي. ومعارض الكتب تمثل لدور النشر رئة تتنفس من خلالها؛ ففي أيام المعرض القصيرة، تتحقق مبيعات قد تساوي مبيعات أشهر كاملة، وتُبنى علاقات جديدة بين الناشرين، وتُعقد اتفاقيات الترجمة وإعادة طباعة.

وللكتّاب، خاصة الجدد منهم، تُعدُّ المعارض مساحة حرة للظهور والحوار. كثير من الأسماء الأدبية المعروفة اليوم بدأت رحلتها من منصة توقيع في معرض كتاب، حيث التقت قراءها للمرة الأولى. وهو مشهد لا يمكن أن يتكرر رقمياً مهما حاولت المنصات الإلكترونية محاكاته.

لا ينمو الوعي من الكتب وحدها، بل من النقاش الذي تولّده. ولهذا، فإن الندوات والحوارات والمحاضرات التي ترافق المعرض تشكل الوجه العميق لهذه الفعالية. ففي قاعة صغيرة داخله، قد يلتقي صحفي مع مفكر، أو باحث مع ناشط اجتماعي، ليناقشوا قضايا تتعلق بالحريات والهوية ومستقبل الشباب. هذه الحوارات قد لا تُغيّر العالم فوراً، لكنها تغيّر زاويا النظر، وتمنح الجمهور أدوات لفهم واقعه.

بل إن كثيراً من الشباب واليافعين يجدون في ورش الكتابة والإعلام والفنون داخل المعرض شرارة الحلم؛ فمنها تنشأ رغبة في الإبداع، وأحياناً تتحدد مسارات مهنية كاملة انطلاقاً من سؤال يطرحه طفل على كاتب عن سر الرواية أو معنى الشعر.

وحين يستضيف المعرض دور نشر من دول أخرى، فإنه لا يُقدم كتباً فحسب؛ بل يستضيف أفكاراً وأساليب حياة وتجارب إنسانية مختلفة. فالترجمة وحدها جسر طويل بين الحضارات، والمعرض يفتح لها البوابة واسعة. في لحظة عابرة، قد يلتقط قارئ كتاباً مترجماً من جناح دولة بعيدة، ليفتح له نافذة على أدب جديد أو فلسفة مختلفة. هذه اللحظات الصغيرة تترك أثراً كبيراً على المدى الطويل، فتغرس في الناس حسّاً إنسانياً يتجاوزالجغرافيا، وتُعزز قيم التسامح والانفتاح.

ولا يُغفل الجانب الاقتصادي؛ فكل معرض كتاب هو حركة اقتصادية متكاملة: وظائف مؤقتة، وشركات تنظيم، ومطابع، ودور نشر، وفنادق ومطاعم، وإعلام يغطي الحدث. وبهذا يترسخ في الوعي الجمعي أن الثقافة ليست كمالية، بل قطاع حيوي قادر على خلق فرص العمل وتحريك الاقتصاد.

والأهم من ذلك، أن المعرض يولد شعوراً عاماً بأن المجتمع يحتفل بالمعرفة، وأن الدولة، حين ترعاه، تعترف ضمناً بأن الثقافة عنصر أساسي في التنمية.

 لماذا نحتاج المعارض اليوم أكثر من أي وقت؟

في زمن تنتشر فيه المعلومات السطحية، وتتنافس عليه وسائل التواصل، وتستسلم فيه العقول للضجيج، تبدو معارض الكتب فعلاً مقاوماً. إنها تقول لنا: هنا مساحة للتفكير، وزمن بطيء يسمح لك بالاختيار، ولقاء بين أجيال وأفكار. هنا مجتمع يقرر أن يرفع رأسه قليلاً فوق الغبار.

ولذا فإن الحفاظ على هذه المعارض وتطويرها، هو استثمار في المستقبل. فالمجتمعات التي تحتفي بالكتاب تُنتج مواطنين أكثر وعياً، وتبني قاعدة معرفية أقوى، وتخلق فضاء ثقافياً قادراً على مواجهة التحديات. المعرض ليس حدثاً عابراً؛ بل إعلان ثقافي بأننا ما زلنا نراهن على العقل، ونؤمن بأن المعرفة طريق حقيقي نحو نهضة ممكنة.

لماذا نعود إلى الورق في زمن الذكاء الاصطناعي؟

في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا حتى تكاد تسبق أنفاسنا، وأصبحت الخوارزميات بواباتنا إلى المعرفة والترفيه والتواصل، يبدو غريباً أن يعود الإنسان إلى الكتاب الورقي؛ هذا الكائن الهادئ القادم من أعماق الماضي. لكن المفارقة أن حضور الورق لم يخفت، بل ازداد قوة ووضوحاً، وكأنه يرفع صوته وسط ضجيج الآلات ليُذكّرنا: للمعرفة روح، وللقراءة طقوس لا يكتبها الضوء الأزرق.

فللكتاب الورقي سحر لا يُختزل: الملمس، ورائحة الصفحات، وصوت تقليبها يمنحون القارئ علاقة حسّية لا توفرها الشاشات. إنها علاقة فطرية بين اليد والعين والحواس، تعيد تشكيل القراءة كتجربة جسدية ونفسية معاً. فالورق لا ينقل النص فقط، بل ينقل دفئاً وهدوءاً تستعيد بهما الروح قدرتها على الإصغاء.

وما ينقص القارئ في العصر الرقمي هو التركيز العميق؛ فقراءة الشاشة مغامرة مليئة بالمقاطعات والإشعارات. أما الكتاب الورقي فيمنح قارئه بيئة صامتة، محايدة. لذا يصبح الورق ملاذاً للمعلومة التي تحتاج إلى تأمل.

وتكشف الدراسات أن القراءة الورقية تترك أثراً معرفياً أعمق؛ فالصفحة المطبوعة تثبت الأفكار في الذهن كما تثبت الكلمات على الورق. حركة الأصابع فوق الصفحات، وتحديد الجمل بالقلم، وطيّ الزوايا للعودة لاحقاً، كلها ممارسات تمنح الدماغ "خرائط" للمعلومات تساعد على التذكر. هكذا يتحول الكتاب إلى كائن معاش، لا مجرد نافذة رقمية تزول بانطفاء الشاشة.

والكتاب الورقي يحمل قيمة تتجاوزالمعرفي؛ فهو شاهد على ذائقة القارئ واهتمامه بفنون الطباعة والتجليد. مكتبة المنزل ليست أرشيفاً فحسب، بل هوية ثقافية. الوقوف أمام رفوف الكتب يشبه الوقوف أمام مرآة صامتة تروي حكايات أصحابها.

وثمة شعوريخالج الكثيرين اليوم: رغبة في استعادة السيطرة أمام الهيمنة الرقمية. القراءة الورقية تصبح هنا نوعاً من المقاومة، طريقة للحفاظ على إيقاع بشري في عالم أصبحت سرعته لا تطاق. فحين يفتح القارئ كتاباً ورقياً، فإنه يستعيد مساحته الطبيعية.

القراءة الورقية ليست مجرد معرفة فقط؛ بل ممارسة للهدوء. الوقت بين الصفحات المطبوعة يصير مساحة للتأمل وخفض التوتر. كثيرون يجدون في الكتاب الورقي علاجاً من تشتت اليوم الرقمي، وانفصالاً إيجابياً عن الأجهزة.

ولا تزال معارض الكتب، وتوقيعات المؤلفين ونوادي القراءة  تشكل عالماً حياً لا يعوَّض رقمياً. فشراء كتاب ورقي أو تلقيه هدية يحمل طقوساً ومشاعر لا تُستنسخ بضغطة زر. هذه الحياة الاجتماعية حول الكتاب تسهم في استمرار جاذبيته الأبدية.

***

جورج منصور

 

تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب، وفي لحظات التأمل. ولأنها لغة تتجاوز حدود الكلام، فقد حملت الموسيقى دائما قدرة فريدة على بناء الوجدان الجمعي وصياغة الهوية الثقافية للشعوب. وليست الموسيقى ترفا يمكن الاستغناء عنه، ولا الغناء زينة إضافية في حياة الشعوب. فمنذ أن عرف الإنسان الإيقاع، أدرك أن الصوت قادر على أن يحمل ما تعجز عنه اللغة: الفرح، الحزن، الاحتجاج، والرجاء. ولهذا كانت الموسيقى دائما مرآة لروح المجتمع، تكشف حيويته وتعدّد أصواته أكثر مما تكشف أي مؤشر آخر.

في حضارات الرافدين القديمة، كانت الموسيقى جزءًا من البنية الروحية والاجتماعية. تخبرنا الآثار السومرية والآشورية عن وجود آلات مثل القيثارة والعود، وعن احتراف موسيقيين كانوا يُعاملون باحترام، ويؤدّون أدوارا في الطقوس الدينية والاحتفالات الشعبية. وهذا دليل على أن الموسيقى لم تُعتبر يوما عنصرا هامشيا، بل كانت جزءًا من بنية المجتمع ووسيلة من وسائل الارتقاء بالوعي. وفي أرض الرافدين أيضا، لم تُولد الكتابة وحدها؛ بل وُلد معها الحسّ الجمالي الذي عبّرت عنه القيثارات السومرية والأناشيد التي رافقت طقوس الحياة. وعلى امتداد العصور الإسلامية، لم تتوقف الموسيقى عن التطوّر رغم اختلاف المواقف تجاهها. فقد نشأت مدارس موسيقية عظيمة من الأندلس إلى بغداد، وتألّق فلاسفة وأطباء مثل الفارابي وابن سينا في تحليل تأثير الموسيقى على النفس البشرية، معتبرين إيّاها علما له قوانينه وقدرته على ضبط انفعال الإنسان وتهذيب الروح. 

اليوم، ما زالت الموسيقى تؤدي الدور نفسه في المجتمعات المعاصرة: مساحة للتسامح، ومختبر للتنوّع، وجسرا بين الأجيال. والدول التي استثمرت في الفنون ليست أكثر شهرة وحسب، بل أكثر استقرارا وانفتاحا وقدرة على بناء مشترك ثقافي يفوق الانقسامات.

لكن الجدل الذي حدث حول حفل موسيقي ـ غنائي في مدينة البصرة العريقة بفهمها للثقافة والفنون كثيرا ما يتجاوز الفن ذاته ليلامس سؤالا آخر: ما الذي نخشاه حقًا من الموسيقى؟ أهي تهديدا للهوية أو العقيدة، أم تذكيرا بحيويتها؟

الجواب في حد ذاته، على هذا التساؤل العميق في مفهومه ومغزاه ـ لمن لا يرى المرآة إلا من خلف ظهره ـ يكمن في مفردات الحقائق التالية: الموسيقى لا تنتزع شيئا من أحد. هي إضافة، لا خصم. توسّع هوامش التعبير ولا تضيقها. وحيثما تُمنع، لا يتوقف الصوت بقدر ما يتقلّص المجال العام ويضيق الأفق.. إن منع حفلة قد يوقف حدثا واحدا، لكنه لا يوقف حاجة الناس إلى التعبير. فالموسيقى في جوهرها حقّ ثقافي، وفضاء للخيال، ومؤشر على أن المجتمع قادر على أن يسمع نفسه ويحتمل اختلاف نبراته. وحين تختفي الموسيقى من المشهد العام، يختفي معها شيء من صورة المستقبل الذي نريده أكثر رحابة ووضوحا.

في النهاية، يظل الغناء فعل حياة. وكل مجتمع يحتفي بالموسيقى هو مجتمع يقول ـ بطريقته الخاصة ـ إنه مستعد للوقوف في صف الجمال ضد الضجيج، وفي صف الإنسان ضد القسوة، وفي صف الأمل ولو تنوعت أصواته.

لا يوجد مجتمع متقدم اليوم يخلو من الموسيقى. فهي جزء من الثقافة المدنية الحديثة، وحاضرة في مجالات التعليم والعلاج والفن والاقتصاد. وتُظهر الدراسات أن المجتمعات التي تحتضن الإبداع والفنون هي الأكثر قدرة على التعايش، والأسرع تطوّرا في مجالات الفكر والعلوم. فالغناء ليس مجرد استمتاع، بل وسيلة لترسيخ قيم الجمال والانفتاح، ومجال تعبير يتيح للأفراد مشاركة مشاعرهم وتجاربهم. كما أنه جسر للتواصل بين الأجيال، يحفظ الذاكرة ويعيد تقديمها بصورة متجدّدة.

في عراق اليوم، حين يُثار الجدل حول الحفلات الموسيقية، بين الهوية والحرية الثقافية ـ فإن الأمر غالبا ما يتجاوز الغناء ذاته ليمسّ رؤية المجتمع لدوره الثقافي: هل نتقدم نحو مجتمع يوازن بين قيمه المحافظة وحقّه في التعبير الفني؟ أم نتراجع عن دور تاريخي جعل من وادي الرافدين مركزا للتنوير والإبداع؟

الموسيقى، في جوهرها، ليست تهديدا لهوية أحد؛ بل هي هوية في حدّ ذاتها. هي مرآة تُظهر حيوية المجتمع وقدرته على احتضان التنوّع. منعها لا يلغي وجودها، بل يحدّ من قدرة المجتمع على التعبير عن ذاته وعلى الاستفادة من أحد أهم عناصر القوة الناعمة.

إن الغناء والموسيقى جزء من تاريخ العراق والعالم، ومن نسيج الثقافة الإنسانية ككل. رفضهما أو التضييق عليهما لا يغيّر من حقيقة ـ أنهما عنصران أساسيان في بناء الحضارة وتقدّم الشعوب. فالأمم التي تحافظ على فنونها هي الأمم التي تدرك أن الإبداع ليس نقيضا للقيم، بل أحد أعمدتها، وأن الجمال ليس ترفًا، بل ضرورة روحية وثقافية تبني الإنسان وتدفعه نحو مستقبل أرحب.

المفارقة: إن الجدل حول حفل موسيقي هنا وهناك ـ لا يكون في جوهره عن الموسيقى نفسها، بقدر ما يكشف سؤالًا أعمق: كيف نرى حاضرنا؟ وكيف نريد أن نكتب مستقبلنا؟ هل نتعامل مع الفن بوصفه تهديدا، أم باعتباره لغة من لغات الحياة التي يصنع بها الناس مساحة مشتركة للتعبير؟

***

عصام الياسري

الحروب لن تهدأ لأن الدول القوية تريد التخلص من أسلحتها التفليدية، بعد أن إنطلقت في مشاريع الذكاء الإصطناعي والنانو تكنولوجي، فما عندها من أسلحة مهما كانت متطورة أو نووية أو ليزرية أو صواريخ فرط صوتية، فأنها تحولت إلى خردة أمام أهوال ما جلبه الذكاء الإصطناعي والنانوتكنولوجي من مخترعات لا تخطر على بال.

فالحروب بمعايرها التقليدية التي تحققت في القرن العشرين، لن يكون لها دور في القرن الحادي والعشرين، فالحرب العالمية تجري وفقا لمعطيات القرن المعاصر بتقنياته التكنولوجية المتطورة.

إن التعامل مع المواد والأدوات على مقياس النانو، أي عند أحجام صغيرة جدا ما بين 1- 100 نانومتر، تسبب بتطوير مواد جديدة ذات قوة هائلة ومواصفات أصيلة.

ولا يُعرف إلى أين سيتجه العالم في عصرنا الفتاك المشحون بمعطيات إبتكارية، تتفوق على الخيال العلمي وتخترق أكوان تتمادى بإتساعها وغموضها.

النانو تكنولوجي سيأخذنا إلى عوالم مرعبة، قد تزعزع عناصر وجودنا وتصدعنا بما لا يمكننا تصديقه، وستضعنا أمام أوهامنا التي إستعبدتنا لملايين السنين.

النانو تكنولوجي بدأ كفكرة عام 1959 بمحاضرة للعالم الفيزيائي الأمريكي (ريتشارد فاينمان) (1918 - 1988) عنوانها "هناك الكثير من الفراغ في القاع"

بصغيرٍ وصغيرٍ وغريبِ

سوفَ نحيا في مداراتِ العجيبِ

شرَّح الذراتَ نانو واحْتواها

وبها جادتْ عقولٌ بالرهيبِ

لستُ أدري ما ستعطينا نُهانا

هلْ سنفنى في متاهاتِ الرغيبِ؟!!

النانو: جزء من مليار من المتر

***

د. صادق السامرائي

في هذا العالم الذي تتداخل فيه الظلال بالضوء، وتتقاطع فيه الأسئلة الوجودية مع صمت الأيام العابرة، نقف نحن—الكائنات التي تحمل قلبًا يخفق بضعفه وقوته—لنكتشف أنّ الحياة ليست طريقًا مفروشًا بالفهم، ولا رحلة مزينة بالإجابات إنها لغز أبدي، نقترب منه كلما ابتعدنا، ونفهمه كلما اعترفنا بجهلنا، ونتذوقه كلما سمحنا لروحنا أن تنفتح على اتساع الوجود.

إنّ الإنسان، بضعفه الظاهر وقوته الخفيّة، هو المشروع الوحيد الذي لم يكتمل يومًا ولن يكتمل فنحن لسنا مجرد خطوات تمشي فوق ترابٍ بارد، بل نحن أرواح تبحث عن معنى بين دخان المعاناة وبهاء الفرح ونحن أحلام تحاول أن تُترجم نفسها إلى واقع، وواقع يحاول أن يصير حلمًا، وأمنيات تُلقى على مسرح الحياة لعلها تجد لحظة إصغاء.

الروح.. هذا العالم الذي لا نراه، لكنه يرانا

حين ننظر إلى الإنسان نظرةً تتجاوز جسده وحدوده وماضيه، نكتشف أن جوهره ليس في اسمه أو عمره أو مهنته، بل في ذلك الصوت الهادئ الذي يسكن أعماقه في تلك الارتجافة التي لا يعرف سببها حين يرى شيئًا جميلًا، في تلك الدموع التي لا تفسير لها، في صراعه الدائم بين ما يريده وما يخافه، بين ما يشعر به وما يتظاهر بأنه لا يشعر.

الروح الإنسانية ليست مجرد كتلة من المشاعر إنها كائنٌ يتنفس، ينمو، يثور، يهدأ يتسع، يضيق، يموت ويُبعث مرات لا تُعد وكل تجربة مهما كانت صغيرة، تترك فيها خطًا، وكل ألم يفتح بابًا نحو فهم أعمق، وكل فرح يوقظ فيها طاقة كانت نائمة تحت رماد القلق.

بين الماضي والحاضر.. رحلة لا تهدأ

الماضي ليس خلفنا كما نظن إنه في كل خطوة نخطوها في كل كلمة ننطقها، في كل قرار نتخذه. إنه أرواح من نحن، وظلال من كنا وأسباب من سنكون.

كل ذكرى هي نبضة زمن ما زالت حيّة في داخلنا

ولحظة فرح تشبه شمسًا صغيرة تنام في القلب

ولحظة ألم تشبه حجرًا ثقيلًا نحمله ولا نعرف كيف نضعه جانبًا ولحظة حب نادرة نعود إليها كلما احترقت الروح ولحظة فقدٍ لا يغادرنا مهما ابتعد الزمن وتغيرت الوجوه.

من هنا نفهم أن الإنسان ليس عمرًا بيولوجيًا، بل هو تجارب متراكمة، ومحطات من نور وظلام، وخطوط طويلة من الأسئلة التي لم تجد جوابًا بعد.

الكتابة.. محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الزمن

حين يكتب الإنسان، فهو لا يوثق فقط، ولا يحاول فقط أن يجمّل واقعه أو أن يهرب منه. الكتابة شكل من أشكال العناق..

عناق بين الكاتب وزمنه وبين حزنه وذاته، وبين روحه والفراغ الذي يحاصره.

الكاتب يحاول أن يسرق لحظة من يد العابر، أن يحميها من الضياع، أن يعطيها شكلًا وكثافة ومعنى

يحاول أن يقول للزمن:

"مهلًا.. لن تمر من هنا دون أن أقبض عليك."

وكل حرف هو نبض، وكل عبارة هي محاولة لرصف ذلك الطريق الداخلي الذي تتعثر فيه الروح، لعلها تتعلم المشي من جديد.

الشعر.. الموسيقى التي تعزفها الروح حين تختنق الكلمات

الشعر ليس ترفًا لغويًا، ولا زخرفة بديعية.. إنه مرآة الروح حين تكون بلا مرآة. وهو اللغة التي نكتب بها خوفنا وضعفنا، حبنا وحنيننا، دهشتنا وإيماننا باللحظة.

في الشعر نواجه أنفسنا بجرأة، نخلع عنها الأقنعة نضعها في ضوء الحقيقة ونقول لها:

"ها أنتِ.. بلا تجميل ولا ادّعاء."

والشعر هو الجسر بين عقل يريد أن يفهم، وقلب يريد أن يشعر، وبين حلم يريد أن يطير، وواقع يريد أن يرسينا على الأرض.

الصمت.. النافذة التي نرى منها الحقيقة

في عالم يشبه سوقًا كبيرًا صاخبًا، يصبح الصمت بحد ذاته ثورة.

فالصمت ليس غياب كلام، بل حضور وعي وليس خواء، بل امتلاء وليس توقفًا عن الحديث، بل بداية للاستماع لما هو أعمق من الصوت:

لنبض الروح، لصرخة القلب لوجع كان محبوسًا، لأمل كان يتيمًا.

في الصمت نرى ما يغيب عنا حين نتحدث كثيرًا:

نرى خوفنا، رغباتنا، أحلامنا ضعفنا، قوتنا، ذلك الكائن الحقيقي الذي يختبئ خلف ضجيج الحياة.

الإنسانية.. القدرة على أن نتجدد رغم الانكسار

الإنسانية ليست فكرة فلسفية ولا تعريفًا ثقافيًا إنها القدرة على أن نحب رغم الجراح، وأن نعطي رغم التعب، وأن ننهض رغم السقوط، وأن نبتسم رغم الألم، وأن نؤمن بأن الغد مهما بدا بعيدًا، يحمل معه بذرة ضوء جديدة.

فكل جرح هو نافذة، وكل خسارة هي درس، وكل انكسار هو بداية بناء جديد ذلك أن الإنسان لا يقاس بعدد مرات سقوطه، بل بعدد المرات التي قرر فيها ألّا يبقى ساقطًا.

الحياة.. موسيقى صامتة لا يسمعها إلا من منح قلبه أذنًا

الحياة ليست أيامًا متشابهة ولا مسارًا مستقيمًا، ولا خطًا واحدًا.

إنها لوحة كبيرة ترسمها التجارب والأحلام والمصادفات، ويشارك فيها الزمن والناس والذكريات والمفاجآت، وتتبدل ألوانها كلما تغيرنا نحن.

قد تكون الحياة صعبة نعم..

لكنها أيضًا مدهشة.

قاسية.. لكنها معلمة.

غامضة.. لكنها حقيقية.

تعاقب.. لكنها تمنح.

تأخذ.. لكنها تعيد إلينا بطريقة أخرى ما لا نتوقعه.

ووسط هذا كله، يبقى الإنسان يبحث عن الجمال في الأشياء الصغيرة قبل الكبيرة :

في نظرة صادقة، في خطوة أولى، في كلمة تُقال بحب في لحظة هدوء، في يد تربّت على كتفه، في طفل يضحك، في غيمة تمر، في زهرة تتفتح، في قلب يقترب.

وفي االختام نكتشف أننا لسنا أبناء الحزن وحده، ولا أبناء الفرح وحده، بل أبناء هذه الرحلة المركّبة التي تصنع منا ما نحن عليه.

وأن كل لحظة—حتى تلك التي حسبناها بسيطة أو بلا قيمة—كانت جزءًا من الحكاية الكبرى التي تُكتب في داخلنا دون توقف

حكاية الإنسان الذي يتألم.. لكنه يستمر

يسقط.. لكنه ينهض

يخاف.. لكنه يحلم

يضيع.. لكنه يبحث

ويتعب.. لكنه يخلق من تعبه معنى جديدًا للحياة.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

كلمة «فلسفة»  كلمة إغريقية تتألف من جزأين «فيلو - سوفيا»؛ فيلو: تعني حب  وأما سوفيا: فتعني الحكمة، وهكذا يصبح معنى فلسفة: حب الحكمة أو حب المعرفة والفيلسوف إذن هو المحب والعاشق للحكمة التواق للمعرفة، فلا يمكن لمن يدعي الفلسفة والتفلسف أن يعادي قيم أمته ويصادم هويته بدعوى التنوير والحداثة فهذا الفيلسوف المدعي يحتاج إلى مراجعة فكرية عميقة ذاهبة في جذور المعرفة الكونية ليزيل طحالب العصبية وضيق الأفق و النظرة القاصرة للحياة، فعقل الفيلسوف يتجاوز عقل المفكر بسنوات ضوئية فكل فيلسوف مفكر وليس كل مفكر فيلسوفا فهذه المكانة المعرفية والثقافية والفلسفية تجعله يطرح الأسئلة بعمق ويتجاوز ما هو عادي وسطحي وآني إلى الغوص عميقا في قضايا الوجود باحثا عن المعنى.  

فالفيلسوف حسب الدكتور سامي محمود إبراهيم هو: "شخصية لا تكتفي بالإجابات الارتجالية والسطحية والساذجة. إنه إنسان يرفض الاعتقاد بوجود أفكار جاهزة ومعارف مسلم بها، إنه، كذلك، رجل سجال ونقد، رجل إقناع واقتناع، يقارع الحجة بالحجة، علما بأنه يؤمن بالاختلاف. ومن ثمة فإنه ضد جميع أشكال العنف؛ خصوصا الإرهاب الفكري الذي يمارسه كل متسلط، علاوة على أصناف القهر الجسدية والنفسية. إن الفيلسوف إنسان ملتزم بقضايا عصره، وبهموم المجتمع، وبرغبة الإنسان الدائمة نحو الحرية والعدل. الفيلسوف إنسان صادق مع نفسه أولا، وصادق مع الآخرين ثانيا. وصدقه هو الذي يجعله ينزع بأفكاره نحو الكونية، فيدعو الناس إلى مشاطرته أفكاره. وسعادة الفيلسوف المثلى تتجلى في الوصول إلى المعرفة لذاتها، أي أنه يحاول باستمرار أن يتخلص من البعد الدوغمائي للمعرفة"..(1)

ويقولون في تعريف الفيلسوف: " إنه ذلك النهم للمعرفة، الذي تغشاه روح الطفولة، ولا تفارقه روح الدهشة، وفضولية الطفل وحبه اللعب والإصغاء ولو لفلاح جاهل، مع نسيان النفس، وتأمل كل قديم بنظرة جديدة..."

ويوضح الكاتب " أحمد البرقاوي " مفهوم الفيلسوف في نظره فيقول : " لكن سؤال ما الفيلسوف لا يحتمل ويجب ألاّ يحتمل إلا إجابة واحدة ألا وهي: الفيلسوف هو الذي ينتج جهازا في المعرفة، جهازا من المقولات أو المفاهيم التي تكون وعيه بالعالم وبالمشكلة الأساسية التي يراها. وفي ضوء ذلك ينتج نظرة إلى العالم. ولا شك أن لا فلسفة بلا فيلسوف غير أن الفلسفة تضم جمهورا أكبر من جمهور الفلاسفة بالمعنى الذي أشرت إليه" (2)

فما أحوجنا إلى عقول الفلاسفة الكبار الذين اكتووا بنيران الأسئلة العميقة بحثا عن الحقيقة ومن أجل إسعاد الإنسانية، الفلاسفة الذين يتجاوزون مرارة الواقع وانغلاقه للتحليق بعيدا في سماوات الإشراق والنور ...

***

الكاتب: شدري معمر علي - الجزائر

......................

1- سامي محمود إبراهيم ، الفلسفة وفقه الواقع، إسلام أون لاين.

2- أحمد برقاوي ،سؤال الفلسفة وهوية الفيلسوف ، صحيفة العرب .

لا يختلف منصفان على ان النزاهة هي تتويج للصدق والقيم الأخلاقية العالية، كما هي أساس التنمية في المجتمعات وبناءها على أسس سليمة تستطيع مواجهة الأزمات الاقتصادية والظروف الطارئة، وقد ظلت النزاهة والى وقت قريب واحدة من أبرز سمات الجهاز الإداري العراقي، ففي العهد الملكي كانت هناك مؤسسات دستورية وقانونية وإدارة مالية مستقلة مع وجود نظام رقابة مالية صارم يشرف على الأداء الحكومي، ويتداول العراقيون حكايات كثيرة عن النزاهة لأول وزير مالية للعراق في العصر الحديث هو العراقي اليهودي " ساسون حسقيل 1860 ــ 1932 " الذي استلم وزارة المالية عام 1921 واضطلع بدور في تأسيس الدولة العراقية ووضع ركائزها الأساسية، وتدور هذه  الحكايات عن حرصه الشديد على المال العام وأمانته في الصرف وشدته وإصراره على رأيه وتدقيقه في مصروفات الدولة العراقية ومنها أنه عندما طلب منه الملك فيصل الأول (1921-1933) صرف مبلغا لبناء مدرسة ابتدائية في مدينة الديوانية رفض حسقيل ذلك قائلا للملك "لقد أقرّت الميزانية في مجلس النواب وليس هناك مجال للتلاعب بأي رقم، ولا يختلف الحال في مطلع العهد الجمهوري حيث يذكر المعماري العراقي " محمد مكية  "  في الصفحة 178 من كتابه (خواطر السنين) الذي دوّن فيه سيرته ويومياته عن محلته البغدادية (محلة صبابيغ الآل) انه كان في لجنة المتقدمين للدراسة المعمارية وان المعمارية الراحلة " زهاء محمد حديد " كانت ضمن المتقدمين مع توصية من العلامة احمد سوسة بطلب من والدها الذي كان وزيرا للمالية بعد 1958 ومع تعاطفه لقبولها بالانتماء الى المدرسة المعمارية الا ان نسبة معدلها كانت اقل من المتقدمين الآخرين، لذا انتظر فرصة انسحاب احد المتقدمين حتى يتم قبولها وفقا للأصول المرعية، تخيل النزاهة والأمانة في الترشيح للمجالات العلمية في السابق  وبين معايير الترشيح للوزارات والسفارات التي يتم اعتمادها اليوم، ومن قصص نزاهة الأمس هناك قصة لا ندري مدى صحتها تقول انه في العام 1964 م وحين كان الفريق طاهر يحيى رئيساً للوزراء أصدر أمراً تحريرياً بصرف مبلغ (50) خمسون ديناراً عن قيمة نثرية لمكتب رئيس الوزراء لتدارك نفقات شراء القهوة والشاي لضيوف مكتب رئيس الوزراء، ولكن حين وصلت المعاملة الى الخزينة المركزية فقد رفضها احد موظفي التدقيق ويدعى (كريم عبدالله) وهو موظف من الدرجة السابعة (كاتب تدقيق حسابات) يحمل شهادة الدراسة المتوسطة، فرفض الموافقة على صرف المبلغ، وكتب على ظهر مذكرة مستند الصرف (إنها دائرة حكومية وليست مقهى ومن اراد أن يضيّف الآخرين عليه أن يضَيّفهم من جيبه الخاص وليس من أموال الخزينة العامة التي هي مال الشعب) وبعد يومين أرسل رئيس الوزراء طاهر يحيى شخصياً (إعتذاراً) للموظف وطلب من وزير المالية منحه قِدَماَ لمدة ستة أشهر تقديراً لنزاهته وحرصه على المال العام، وتم تعميم الكتاب وصورة مطالعة الموظف على ظهر مذكرة مستند طلب الصرف على جميع دوائر الدولة في العراق .

يقول محاضر التنمية البشرية الأمريكي " زيغ زيغلر " (صحيح ان النزاهة وحدها لن تجعلك قائدا، لكن أيضا بدون النزاهة لن تكون قائدا) .

***

ثامر الحاج امين

يبقى" العراق" بناء عليه بلا هوية، هي ارفع واعلى من القدرات المتاحة للعقل البشري من حيث مقاربة الظاهرة المجتمعية، لتظل مغفله كما كان "الاصطراع الطبقي" على الطرف الاخر من المتوسط وظل مستمرا الى القرن التاسع عشر قبل ان يماط اللثام عنه، وهو الادنى مقارنه بالاصطراع الازدواجي المجتمعي  اللاارضوي الارضوي لارض مابين النهرين، الاعلى ديناميات من تلك الازدواجية الطبقية، والذي سيتاخر كشف النقاب عنه الى مابعد الطورين الاول المصنعي، والثاني التكنولوجي الانتاجي من الانقلابيه الالية، وقت تحضر او تصير وشيكه وسيلة الانتاج العقلي مافوق الارضوي، لتبدا ساعتها الاصطراعية الكبرى مع ارث الارضوية المجتمعية وتوهميتها الحداثية الكبرى، المحايثة زمنيا لتاريخ التشكلية الرافدينيه المبتدئة مع القرن السادس عشر.

  وعليه وهكذا يكون العراق كهوية وذاته قضية كبرى كونيه شامله للمعمورة، عندها يحصل الانقلاب الالي مجتمعيا كما كان مقررا له ان يكون، فلا انتقال آلي على مستوى المعمورة الا بحضور الحقيقة الرافدينيه مجتمعيا بما هي حقيقة فوق يدوية اصلا وابتداء، ان من يبحثون اليوم في وضع العراق وترديه الاقصى مستعملين وسيلتهم المستعارة باسم الدولة المدنيه والديمقراطية، ارتكازا على الحداثيات التوهمية الغربيه المنقرضة في ارضها، هم بالاحرى الظاهرة الاكثر تهافتا مقارنة بما يحاولون انتقاده، والتحذير من مغبه استمراره، وهؤلاء بالاحرى ليسوا سوى عنصرا وعاملا من بين عوامل الانحطاطية المدمرة الحالة على العراق اليوم مثلهم مثل من ينتقدونه.

  فالعراق  على النمطية الغربيه لن يوجد، ولاهو قابل لان يولد على الاطلاق، ومانشهده اليوم هو مآل هذا المشروع المركب من خارج الكينونه الذاتيه وقد ثبت بالتجربة انتفاء صلاحيته، لابل ثقل وطاته على العراق  كصيغة مفروضه، القصد منها امحاء العراق باجباره على الرضوخ للمشروع التوهمي الغربي بصيغته ونموذجه " الدولة / الامه" الادنى كينونة ونمطية، مقارنه بالكينونه التاريخيه الرافدينيه مابين النهرينيه الازدواجية المجتمعية الذاهبه الى مابعد مجتمعية جسدية حاجاتيه ارضوية.

 يوم دخل الانكليز من الفاو وذهبوا صعدا الى العاصمه الامبراطورية المنهارة، ساد مجتمعية اللاارضوية شعور بالخطر الوجودي، مصدرة نوع الطرف الغازي وعدته، ماقد استدعى في حينه النهوض العشريني اللاارضوي الاول غير الناطق، والناطق  بالدلالة العفوية ب" الطوب احسن لومكواري" لنصبح وقتها امام عراقين، العراق الاسفل الذي استدعى عزم القوات البريطانيه على الانسحاب من العراق، والعراق الاعلى البراني، حيث تقرر استعمال سلاح الدولة البرانيه كوسيله لضمان ماممكن من نفوذ في هذا الموضع من المعمورة، وهو ماقد حدث باقامه دولة برانيه من خارج النصاب المجتمعي،  مع مايقتضية سلوك كهذا من "سردية" تكفل بها الضابط الملحق بالحملة البريطانيه "فليب ويرلند" مقررا عراقا لاوجود له في تاريخ المكان، راى انه مؤلف من ثلاث ولايات هي بغداد، والبصرة، والموصل، لتكتمل عناصر الافنائية للافق ومجال انبثاق ثورة العشرين مياعني واقعا ان العراق بعد دخول المحتل البريطاني صار عراق ثورة العشرين مقابل عراق الدولة المفتعله المركبه من اعلى من خارج التشكلية الوطنيه والمدعومه من الاحتلال.

  اقيمت الدولة البرانيه الحديث عام 1921 ، ولم تلبث ان اقيمت بوجهها دولة لاارضوية مستبدله بسبب تعذر النطقية الذاتيه في حينه، كان مقرانطلاقها عاصمة المنتفك / الناصرية/ حيث تاسس الحزب الشيوعي اللاارضوي، وحزب البعث الذي من نوعه، بعد محاولات "افندوية" تاسيسيه فاشله جرت في بغداد على يد حسين الرحال، واخرين حاولوا اقامة حزب البعث، منهم عرب، وماكان على "فهد" والزنجي  الباقي من ثورة الزنج غالي الصويح، ومعهم " فاسيلي" البعوث الروسي الى الناصرية المتخفي بصفة خياط، ان يفعلوا اكثر من اعلان مايحملونه من افكار وصلت الى ارض اللاارضوية ضمن اشتراطات اصطراعية افنائية، قبل تتوفر اسبا ب النطقية، و بلا حركة فكرية او من هم بموقع القدرة على ازاحة النقاب عن منطوى الذاتيه، فالواقع كان مهيئا حينها للقيام بما يلزم استبدالا، بالاخص في مكان هو الارقى كينونه على الصعيد اليوتوبي المجتمعي، ففي ارض كوراجينا وحمدان قرمط الاشتراكية تعاش كوجود دائم، ارفع من الطبقية الماركسية واكمل، ولهذا شهدنا في حينه وبمواجهة دولة الانكليز البغدادية البرانيه، مرحله ثالثة بعد القلبية، والانتظارية النجفية، هي المرحلة اللاارضوية الشيوعيه المستعارة شكلا، والغامرة لدرجه ستستدعي لاحقا من النجف اصدار فتوى بتحريمها بعدما حولت وجود الدولة البغدادية الى استحالة، وصولا ل"جبهة الاتحاد الوطني" المرتكزة للاليات المجتمعية بغض النظر عن الاتباعية الايديلوجيه، وصولا الى عام 1958 يوم امكن اجتثاث دولة البرانيه الافنائية البريطانيه  وسحقها بعد ثلاثين سنه  من الاحتدام الاقصى، من الاضرابات والانتفاضات التي لم تهدا بعد اختراق الدولة السفلى للعراق الاعلى، وللعاصمه المنهارة، وصولا لساعة الثورة اللاارضوية الثانيه غير الناطقة، والتازم الكبير بين الثورة بصفتها دولة لادولة لاارضوية، واشتراطات الدولة والمفهوم الويرلندي الاوربي الذي ستتبعه وتذهب لتبنيه الاحزاب الاكثر فاعلية،  من التي تشكل "جبهة الاتحاد الوطني" ماقد اوقع الافتراق بينها وبين الاساس والخلفية التي اعطتها الحضور  والفعالية التي حظيت بها، لينتهي طور بدا في الثلاثينات وانتهي مع الستينات، مع اصرار هذه الاحزاب على تحقيق"العراق"الويرلندي، ومنجزات الثورة البرجوازيه، وهو ماكان الحزب الشيوعي قد اعتمده ليخرج من ساعتها من عالم "اللاارضوية".

 والاحزاب الايديلوجيه ليست وطنيه بل ويرلندية، تتبنى المنظور البريطاني للعراق بلا ذاتيه وطنيه، ولا اي محاولة  لارساء منظور وسردية تشكلية عراقية راهنه، مستنده الى رؤية في الديناميات الاساس التكوينيه والتاريخيه،  مقابل السردية  الافنائية المفروضه من قبل المحتل، فاذا كانت هي قد اكتسبت خلال الفترة الاولى وحتى ثورة تموز، صفة القوى الوطنية فان ذلك قد لحق بها جراء  مفعول الديناميات الاصطراعية الواقعية غير الناطقة، بالرغم منها، ومن دون ان يكون لها اي دور فيما تمتعت به من مكانه وموقع.

   والحزبان  الشيوعي، وحزب البعث،ماعدا الوطني الديمقراطي، يمران بنوعين متباينين من الكينونه تجعل منهما حزبان لاعلاقه لاحدهما بالاخر،اولى لاارضوية بحسب اشتراطات الواقع الازدواجي العراقي ودينامياته،  وتستمر من الثلاثينات الى ثورة تموز1958 في الفترة الفاصلة مابين الثورتين اللاارضويتين غير الناطقتين، والثانية من الستينات الى الوقت الحاضر، الاولى لاارضوية،  بالنسبه للحزب الشيوعي تاسس على يد " فهد" يوسف سلمان يوسف في مدينة الناصرية، وصار راس حربة الاصطراع مع الدولة والمشروع الاحتلالي، زعيماه الاول " فهد"، والثاني سلام عادل، قتلا اعداما للاول، وتحت التعذيب للثاني، واما الطور الثاني الارضوي فمؤسسه عزيز محمد، منذ ان سطى على قيادة الحزب عام 1964، هو ومن جاء بعده الى اليوم،  لم  يعرفوا لاالقتل ولا حتى الازورار، واخرهم جاء من الوزارة المحاصصاتيه الامريكيه، الى سكرتاريا الحزب. والبعث يبدا في الناصرية مع فؤاد الركابي الذي سيقتل لاحقا على يد محوري الحزب الى حزب سلطوي، الى جانب النواة القرابيه والريع النفطي، وقد انتقل الى الاعلى، الى تكريت للعسكريين واحمد حسن البكر، ثم صدام حسين، اما الحزب الوطني الديمقراطي فهو حزب بغدادي غير مؤثر، وبلا فعالية جماهيرية، ينتهي بالذوبان عند الستينات ذاتيا ومن دون تدخل من خارجه لانتفاء الضرورة.

 ـ يتبع ـ 

***

عبد الامبر الركابي

كتاباتنا بائدة لأنها باكية متشكية وتنطق بلسان المظلومية، فما قيمة التحليلات والتفسيرات والتوقعات وغيرها من القراءات المتفانية في معرفة الواقع المبتلى بنا.

لا نستطيع الكتابة بمداد التحدي والإصرار، والإيمان بقدراتنا الذاتية وطاقاتنا المعرفية، لخوفنا وتعللنا بما نحن عليه من واقع يزدحم بمباعث الوجيع ومراجل الآهات ويتصاعد من أرجائه الأنين، ويعشعش فيه الفساد والمحسوبية والظلم والتبعية وعدم الإهتمام بالوطن والمواطنين، ولا بد لنا أن نتباكى ونجلد أنفسنا بسياط أضعف الإيمان، وأشجعنا من يستطيع الهروب والإنزواء في صومعة رؤاه المنفطمة عن واقع لا يراه، لكنه يتصوره، ويلهث وراء ما تبثه وسائل الإعلام من أضاليل وإفتراءات، وتسويغات لآفات لا تشبع من النهب والسلب وسفك الدماء، فالشجاعة أن تقتل أبناء وطنك ودينك، وتقضي عليهم بفتوى من جاهل أفاك، فتريح ضميرك وتؤدي واجبك الشرعي وتكون من المفربين إلى ربك الذي لا تعرفه.

العالم يتحرك على سكة الإبداع والإبتكارات وهو في سباق محموم نحو ما هو أصيل وغير مسبوق، ومعظمنا يجيد مهارات نبش القبور والإذعان للأجداث ويريدها أن تقود، وكأنه ليس من أبناء العصر ولا ينتمي للحياة.

فلماذا الكتابة ما دامت ثريدا حول صحون الويلات؟

ليس من السهل أن نأتي بجواب جامع، وفلكل قلم جوابه، ودوافعه للكتابة ومزاولة العبث اللذيذ!!

فاكتب فسلال نفايات العصور تنادي هل من مزيد!!

البكاء داء والتحدي دواء، فلا تتدحرج للوراء!!

أرى القرطاسَ يَشقى من يراعِ

يُدثرهُ بمَمجوجِ المتاعِ

كتاباتٌ كما شاءتْ وقالتْ

تعلّمنا مُعاداةَ اجْتماعِ

مدادٌ من دموعِ العينِ فيها

يُخبَرنا بآياتِ الوداعِ.

***

د. صادق السامرائي

بين ملامح الكاتب وبلاغة النص

بين الصورة والفكرة تتشكل مساحة شديدة الحساسية مساحة يقف فيها النقد متأرجحًا بين العقل والانفعال، وبين قواعد الذوق العام واستحقاقات الحرية، بينما نقف نحن—الكتّاب وأصحاب الرأي—عند تخوم سؤال يتجدد في كل عصر وكل منصة: هل الصورة امتداد للفكرة أم عبء عليها؟ وهل الانتقاد موجّه لجوهر النص أم موجّه لهيئة صاحبه؟ لقد أعاد الزمن الرقمي صياغة علاقة الإنسان بما ينتجه؛ إذ لم تعد الكلمة وحدها سفيرة الكاتب بل بات الوجه المرافق لها عنصرًا من عناصر الهوية وجزءًا من عملية التواصل ومكوّنًا من مكوّنات الفضاء العام وفي علم الاتصال الحديث يُعدّ هذا الظهور جزءًا من بنية الخطاب، لا زينةً خارجية.

وحين يضع الكاتب صورته إلى جانب نصّه فهو لا يسعى لتجميل الفكرة بقدر ما يعلن مسؤوليته عنها، تمامًا كما هو واضح في نظريات “المصداقية البصرية” التي تشير إلى أن الظهور الإنساني الحقيقي يعمّق جسور الثقة بين المُرسِل والمتلقي فالصورة ليست قفصًا للمعنى، بل نافذة تُطلّ منها النبرة الصادقة للنص.

وأي اعتراض على هذا الظهور لا يجد له سندًا في الشرع أو القانون أو الأعراف الراسخة، لأن جميع تلك المنظومات تنظر إلى الإنسان بوصفه كيانًا حرًا يمتلك الحق في أن يُعرّف نفسه كما يشاء ما دام لم يخالف ذوقًا عامًا ولم يخدش حياءً أو قيمة.

غير أنّ النقد، الذي يفترض أن يكون ممارسة معرفية راقية، كثيرًا ما ينزلق في فضاءات التواصل إلى مستويات لا تمتّ للنقد بصلة، بل إلى ما يسميه علم النفس الاجتماعي “التركيز على الشخص بدل الفكرة” وهي آلية دفاعية يلجأ إليها البعض حين يعجز عن مجابهة المضمون فبدل تحليل الفكرة، يتم تفكيك الصورة، وبدل تفكيك النص يتم تناول ملامح الكاتب.

 وهذا التحويل من الجوهر إلى المظهر ليس نقدًا، بل انفعالًا متنكرًا في هيئة نقد فالنقد الحقيقي يشتغل على بنية الخطاب، على قوة الحجج، على انسجام الفكرة على انسجام النص مع الواقع، لا على إطار الصورة ولا على تفاصيل لا تؤثر في الرسالة.

وفي سياق علم الاجتماع الثقافي، يُعدّ الهجوم على صورة الكاتب—لا على فكرته—جزءًا من صراع رمزي يتولّد عادةً حين يبدأ حضور شخص ما في التشكّل وحين يرى البعض في نجاحه مرآة تعكس عجزهم أو تقصيرهم إذ تشير دراسات “تهديد المكانة الرمزية” إلى أن بعض الأفراد يشعرون بالانزعاج من صعود صوت جديد، ليس لأنه مخطئ، بل لأنه يُذكّرهم بأنهم توقفوا بينما تقدم غيرهم لذلك كثير من التعليقات ليست سوء فهم للصورة، بل ضيق من حضور صاحبها وهذا ما يجعل الكلمة القاسية أحيانًا اعترافًا غير مباشر بقوة الشجرة المثمرة.

وعلى الرغم من ذلك، يبقى النظام القيمي الذي يلتزم به الكاتب هو الفيصل فإن كان قد نشر صورته بما يليق، ولم يتجاوز حدود الأدب، ولم يخرق قانونًا، ولم يمسّ عرفًا سليمًا، فهو إذن لا يدافع عن فعل مشبوه، بل عن حق طبيعي يمارسه كل يوم ملايين الأشخاص في العالم بل إن الامتناع عن الظهور في زمن الشفافية قد يُقرأ أحيانًا كنوع من الغموض بينما الظهور الواضح يُقرأ كتأكيد على المسؤولية والانتماء إلى الفضاء العام بلا مواربة.

والكرامة الإنسانية، في بعدها الفلسفي، لا تُقاس بعدد الانتقادات، بل بقدرة الإنسان على البقاء ثابتًا أمام محاولات التشويش. فالإنسان الذي يعرف قدر نفسه لا يُمزّقه تعليق عابر، ولا يُفقده التوازن رأي متسرّع. من يستند إلى قيمه لا يتأرجح بأمزجة الآخرين ومن يستمد يقينه من داخله لا يضطرب حين يرتفع ضجيج الخارج والراسخون في الأرض يشبهون الجبال: قد تطرقهم الرياح، لكنهم لا ينحنون إلا لخالقهم.

إن الكاتب ليس ظلًا يتخفّى في زوايا نصوصه، ولا صوتًا يخرج من وراء ستار فالكاتب إنسان كامل، له وجه، وله ملامح، وله حضور، وهذه العناصر ليست ترفًا بصريًا بل جزءًا من تكوين الرسالة. الظهور ليس استعراضًا بل تأكيدًا: “أنا هنا، أكتب أمامكم، ولست متواريًا خلف اسم لا يدلّ عليّ” ومن يرى في الصورة عيبًا أو حرجًا فذلك انعكاس لرؤيته هو، لا لحقيقة الأمر فالثقافة الإنسانية عبر آلاف السنين حملت وجوه الفلاسفة والشعراء والعلماء إلى العالم ولم يجرؤ أحد على القول إن ظهورهم انتقاص من قيمة أفكارهم.

ومع ذلك، إن كانت بعض الانتقادات تنطلق من نصيحة صادقة، فهي تُستقبَل بالاحترام لأن النصيحة خيط من النور في طريقٍ مزدحم بالضجيج أما إن كانت تنطلق من تجريح، فإن التجريح لا يُسقِط إلا صاحبه، ويحفر في صورته هو لا في صورة من ينتقده. فالكلمة الجارحة كالحجر الذي يُرمى إلى الأعلى؛ يعود دائمًا إلى يد من ألقاه، لا إلى رأس من وُجّه إليه.

وهكذا نمضي، نكتب ما نؤمن به، ونظهَر كما نحن، ونحمل وجوهنا مع كلماتنا لأن الإنسان لا ينفصل عن أثره. وما دمنا لم نخالف قانونًا ولا خلقًا ولا عرفًا سليمًا، فإن الطريق أمامنا مفتوحة مهما تكاثر حولها الكلام. فالشجر المثمر وحده يُرمى، والكاتب الحاضر وحده يُنتقد والصورة الصادقة وحدها تبقى أقوى من ألف كلمة مغموسة بالحسد أو الشك أو الخوف من ضوءٍ جديد.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

قراءة عميقة في جرح الهوية وقلق المستقبل

بلدٌ تتجاور فيه الحضارات كما تتجاور الجراح فالعراق ليس بلداً عادياً، ولا يمكن مقاربته بالأدوات التقليدية في التحليل الثقافي فهنا في أرض ما بين النهرين، لا تزال طبقات التاريخ تتراكم فوق بعضها مثل أوتار عودٍ قديم تزدحم فيها الأنغام وإذا كانت الثقافة مرآة الأمم فإن المرآة العراقية تئن منذ عقود، لكنها رغم التشقق ما زالت تعكس وجهاً لم ينطفئ فيه الضوء قط.

وإنّ الحديث عن القضايا الثقافية في العراق ليس ترفاً فكرياً ولا بحثاً في الماضي بل بحثٌ في مصير وطن تقف روحه على حافة السؤال:

هل ما زال بإمكان العراق أن يصنع مشروعاً ثقافياً يليق بتاريخه؟

أولاً: الثقافة العراقية بين ميراث الحضارة وضغط اللحظة.

ليس في العالم بلدٌ يملك المدى الحضاري والزمني الذي يمتلكه العراق ومن سومر وبابل وآشور إلى بغداد، ومع ذلك، حين ننظر إلى المشهد الثقافي اليوم نجد مفارقة مريرة:

عراقة بلا مشروع، وذاكرة بلا خطة، وإرثٌ ضخم بلا حاملٍ مؤسسي يحميه من التآكل.

1. أزمة الهوية الثقافية

العراق اليوم يعاني من ازدواج هوية لم تُحسم:

هل هو بلد تقوده الذاكرة أم المستقبل؟

هل يصنع ثقافته من جذوره أم من جراحه؟

هل يريد الدولة الحديثة أم الدولة الذاكرة؟

هذه الأسئلة ليست نظرية بل تُلقي بظلها على التعليم واللغة، والفنون، والوعي العام، والجدل اليومي بين المواطن والدولة.

2. ثقافة الصدمة المستمرة

منذ نصف قرن، يعيش العراقي داخل سلسلة متصلة من الصدمات:

صراع سياسي، اضطراب اقتصادي، هجرة العقول…

هذه الصدمات جعلت الثقافة تتحول من قوة بناء إلى وسيلة نجاة، ومن صناعة وعي إلى صناعة اخرى.

فالمثقف العراقي لم يُمنح وقتاً كافياً ليكون مفكراً، كان دائماً مجبراً أن يكون شاهداً.

ثانياً: التعليم… البوابة التي لا يمكن بناء ثقافة من دون تعليم، ولا يمكن بناء تعليم من دون بيئة مستقرة.

لكن التعليم في العراق يعيش جروح متراكمة:

1. المناهج التي لا تواكب الزمن اذ لا تزال الكثير من المناهج أسيرة الماضي، لا علاقة لها بسوق العمل ولا التقدم العلمي ولا الاقتصاد العالمي.

فالطالب يخرج بمعرفة نظرية بلا أدوات تفكير، بلا مهارة تحليل، بلا قدرة على الإبداع.

2. الجامعة والفكر الواعد

كانت الجامعات العراقية في السبعينيات والثمانينيات قبلة العرب، واليوم صارت غارقة بين:

- ضعف التمويل

- هجرة الأكاديميين

- تدخل السياسة

- تراجع البحث العلمي

- غياب المعايير العالمية

3. موت القراءة في مجتمع كان يقرأ بالفطرة.

بغداد التي كانت تمتلك “ورّاقيها” و”سوق الورّاقين” أصبحت تعاني من تراجع حاد في القراءة.

ومنذ متى لم نشهد كتاباً عراقياً يثير جدلاً وطنياً؟

منذ متى لم يتحول شاعر عراقي إلى ظاهرة ثقافية عربية كما كان السيّاب أو البياتي أو النواب...والقائمة تطول؟

إننا نرى تحولاً مقلقاً: ثقافة الصورة تلتهم ثقافة الكتاب.

ثالثاً: الفن العراقي… ذاكرة معلّقة على الحبال

الفن العراقي كان مدرسة مهيبة في التشكيل والمسرح والموسيقى ولكنه اليوم يعيش حالة "الفن بلا مؤسسات".

1. المسرح العراقي الذي هزَّ العروش

ان المسرح في العراق كان يوماً سلاحاً نقدياً فتاكاً، من يوسف العاني إلى سامي عبد الحميد وغيرهم واليوم بقيت المسارح قائمة شكلياً، بينما تراجع الإنتاج النوعي وغيبتها الظروف.

2. الفن التشكيلي… الذي لم يعد يجد جداراً يعلّق عليه لوحته

من إسماعيل الشيخلي إلى فائق حسن وجواد سليم…

كان الفن التشكيلي لغة العراق الأثيرة أما اليوم فمعارض كثيرة بلا رؤية وفنانين بلا دعم، ونقاد بلا مشروع.

3. الموسيقى… حين يتحول العود إلى شاهد على الأسى

موسيقى العراق، من المقام إلى الأغنية الريفية، فقدت الكثير من بريقها.

والسؤال:

هل يمكن لموسيقى بلد يئنّ أن تكون مزدهرة؟

رابعاً: المثقف العراقي… بين سلطة النص وسلطة الواقع

فالمثقف العراقي مأسور بثلاث مشكلات خطيرة:

1. غياب الدور الريادي

المثقف لم يعد صانع رأي عام، بل مجرّد معلّق على الأحداث فالفضاء العام تُرك للسياسة، السوشيال ميديا والشارع.

2. المثقف الذي يعيش في المنفى، والمثقف الذي يعيش في الداخل فالأول يكتب بحرية لكنه بعيد عن الواقع

والثاني يعيش الواقع لكنه مقيد والمشهد الثقافي فقد الجسر الذي يربط الاثنين.

3. المثقف الفرد… لا المؤسسة

لا توجد مؤسسات ثقافية قوية ولا توجد استراتيجية وطنية ولا توجد بيئة تحتضن المفكر أو الشاعر أو الفنان او .

خامساً: الإعلام والثقافة… من صانعة الوعي إلى صانعة الضجيج.

الإعلام اليوم يُنتج ضوضاء أكثر مما ينتج معرفة وبرامج الحوار تتحول إلى ساحات خصومة سياسية والمحتوى الثقافي يُعامل كفقرة ترفيهية، لا كجزء من بناء الوطن.

في حين أن الدول الحديثة تستخدم الإعلام لصناعة صورة، نحن نستخدمه لصناعة جدل.

سادساً: كيف يمكن أن ينهض العراق ثقافياً؟

هذا السؤال هو قلب المقالة

1. إعادة بناء التعليم جذرياً.

تعليم حديث، مناهج حديثة جامعات مستقلة، وتمويل محترم للبحث العلمي.

2. حماية الإنتاج الثقافي بقوانين واضحة

دعم الكاتب، الفنان، الباحث والمبدع ليس رفاهية…

إنه جزء من الأمن الوطني.

3. صناعة مشروع ثقافي وطني ومشروع يتجاوز الحركات السياسية والطوائف والمناطق ومشروع يشترك فيه الأكاديميون والفنانون والمبدعون والمؤسسات.

4. تحويل الثقافة إلى اقتصاد

فالكتاب سلعة، المسرح صناعة، الموسيقى مورد المتحف مصدر دخل السياحة الثقافية قوة ناعمة.

هكذا نجحت الدول، وهكذا يمكن أن ينهض العراق.

5. عودة العراق إلى دوره الحضاري

فالعراق يجب أن يعود قائداً ثقافياً في العالم العربي، كما كان دائماً وهذا ليس طموحاً رومانسياً، بل استحقاق تاريخي.

ختاما ان العراق… وطن يكتب تاريخه بقلمٍ لكنه لا يتوقف مهما اشتدت الأزمات، يبقى العراق “بلد الإمكانات العظيمة المعطَّلة”.

بلد إن نهض ثقافياً، نهض سياسياً واقتصادياً واجتماعياً…

فالثقافة ليست رفاهية، بل هي العقل الذي يوجّه الدولة والروح التي تمنح المجتمع معنى ولأن العراق بلدٌ لا يموت، فإن مشروعه الثقافي سيبقى سؤالاً مفتوحاً ينتظر من يكتب فصله القادم…

وقد يكون هذا الجيل هو الذي يفعل ذلك.

***

د. رافد حميد فرح القاضي

 

كاليجولا امبراطور روماني حكم بين 37-41 م اشتهر بجنونه واستبداده كان له حصان ابيض استورده من بلاد الشام الخاضعة انذاك لحكم الرومان وقد اطلق على حصانه لقب (صاحب السعادة) ثم عينه عضواً في البرلمان الروماني وقد دربه تدريبا جيدا على تعلم البروتوكولات الرسمية فكان هذا الحصان يوجه الدعوات الرسمية في المناسبات الى القادة واعضاء مجلس الشيوخ والسفراء واجمل النساء وكان هؤلاء ياكلون ويشربون ويرقصون معه حتى الصباح وهو يشرف على مدعويه من منصة عالية ويقوم على خدمته وصائف من اعرق سلالة من بيوت روما. ويقول مؤرخو روما ان الامبراطور كاليجولا لا يعرف الرحمة الا لمخلوقين فقط هما: زوجته وحصانه الذي جعل منه (قنصل روما) وهو اعلى منصب رسمي بعد الامبراطور وجعل له ديوانا للتشريفات وسجلا للزيارات وكان يتولى نيابة عن الامبراطور اقامة الولائم الرسمية فكان يطعمه افخر الاطعمة ويسقيه الخمر بكؤوس من ذهب، وروى ان طعام هذا الحصان كان من الشوفان المخلوط مع دقائق الذهب ويروي المؤرخ الروماني (كاسيوس) ان كاليجولا دخل ذات يوم مجلس الشيوخ وكان ممتطيا حصانه ولما ابدى احد النواب اعتراضه قال له الامبراطور: انا لا ارى لاعتراضك على دخول جوادي المحترم فهو اكثر اهمية منك لانه يحملني.. وهتف المنافقون تاييداً للطاغية فاصدر قراره بتعيينه عضوا في البرلمان الروماني واعد الامبراطور احتفالا كبيرا بهذه المناسبة حضر فيها اعضاء مجلس النواب بملابسهم الرسمية وكانت المفاجأة التي اذهلت اعضاء مجلس النواب كانت ان المادبة الغذائية التي اعدها كاليجولا لهم ليست سوى الشعير والتبن واضطر الاعضاء الى تناول الشعير والتبن باواني من ذهب رغم انوفهم لان الذي يرفض تناول هذا النوع من الطعام يقتل وقال كاليجولا لهم اثناء تناولهم للشعير والتبن (انه لشرف عظيم ان تاكلوا مثلما ياكل جوادي).

كاليجولا يدعي الالوهية

وهكذا اصبح حصان الامبراطور هو الامر الناهي في البرلمان. في السنة الاخيرة من حكم هذا الامبراطور اعلن انه اله يجب ان يعبد في كل ارجاء الامبراطورية وامر بصنع تمثال له من الذهب كي يعبد بعد وفاته فامر جنوده بان يرموا بالسهام الاله الرئيسي في روما وهو الاله (جوبتير) حتى يقضوا عليه ووجه الجنود سهامهم للاله (جوبتير) وادعوا انهم قتلوه من اجل صفاء الجو للامبراطور كي يعبد وحده.

وبعد ان ايقن انه اصبح فعلا اله بعد مقتل كبير الالهة توجه الى الشعب ليشبع نزواته الجنونية فاخذ يلقي بالسجناء حتى ولو كانت التهمة سرقة بسيطة الى السباع والنمور الجائعة وهي داخل حلبات معدة خصيصا لهذا الغرض لتفترس هؤلاء المساكين ويقف هو ليشاهد النمور والسباع وهي تلتهمهم بكل لذة . وقد حاول احد هؤلاء السجناء ان يخاطب الامبراطور الاله قائلا: ايها الرب كاليجولا نحن عبيدك ومخلوقاتك فكيف تلقينا لهذه الحيوانات المفترسة من دون ذنب؟ فنظر اليه الامبراطور بغضب وقال له: انتم حقا مخلوقاتي ولكن هل نسيتم ان السباع والنمور من مخلوقاتي ايضا.

نهاية كاليجولا

وفي ليلة صافية اخذ كاليجولا يحدق في القمر فاصدر امرا بحضور جميع قادته وجنوده ولما حضروا طلب منهم ان يقوموا بغزو الفضاء والمجيء بالقمر اسيرا، ولما ذكر له القادة ان هذا امر مستحيل انتابته نوبة من البكاء الشديد اعقبتها نوبة من الحزن والكابة وعندما لاحظ احد حراسه حالته هذه دخل عليه فطعنه عدة طعنات قاتلة اودت بحياته فانقذ الشعب في روما من هذا الطاغية المعتوه .

***

غريب دوحي

في دولة تأسست في الربع الأول من القرن العشرين، مضت تعاني من أزمة سكن منذ نشأتها ولا تزال الأجيال الوافدة أكثرها بلا سكن، وقد ترددت هذه العبارة على مدى عقود وعقود دون الإقتراب منها بجدية وعزيمة صادقة لحلها، وذروة المستطاع لمواجهتها مضت بأسلوب توزيع قطع الأراضي التي ما أوجدت حلا ناجعا لها، لأن بناء الأرض أشد مقاساة من عدم تواجد السكن، لصعوبة توفر مواد البناء وغياب الرؤية العمرانية المعاصرة.

في الصين يُقال أن الآلاف من الشقق السكنية تبحث عمّن يتوطنها، فلا توجد أزمة سكن برغم أن فيها أكثر من مليار ونصف من البشر، وتسعى الحكومة للتخلص من البنايات الشاغرة، وعندنا تسعى الحكومات لتوفير الظروف القاضية بالتخلص من الكثرة البشرية.

في الصين واليابان رحت أبحث عن مشرد أو متسول، فعجزت أن أعثر على شخص يمكن أن أوثقة بصورة، وعندما تساءلت عن السبب، كان الجواب أن النظام الإجتماعي لا يسمح بالتشرد والتسول فلكل شخص مأوى ومأكل.

وفي مجتمعات أمة من أركان عقيدتها الزكاة ومساعدة الفقراء والتصدق على المحتاجين، تجد الفقر يتنامى والتشرد يتعاظم، وكأن أبناء المجتمع الواحد يعادون بعضهم، ويجتهدون في تأمين أسباب الوجيع والحرمان لجميعهم.

العلة ليست في المجتمعات أيا كانت، وإنما في قياداتها، فكيف لدولة تأسست في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين تتفوق على دولة ولدت في ربعه الأول، مع الفارق الشاسع بعدد السكان؟

إنها القيادات التي إستطاعت الإستثمار بطاقاتها البشرية وتوظيفها لتأمين الحياة الحرة الكريمة.

مجتمعات بلا موارد طبيعية، هي الأغنى والأقوى، ومجتمعاتنا الثرية بكل شيئ هي الأضعف والأفقر والأشد تبعية للآخرين، فكيف نفسر ذلك إن لم يكن للقيادات دور فاعل في بناء أحوالها؟

مجتمعاتنا لا تعرف الإستقرار، ويغيب عنها الأمان، وتديرها فئات تسمي نفسها ثورية، وهي التي أخذت العباد من سيئ إلى أسوأ، ولاحقها ينتقم من سابقها ويمحق ما يشير إليه.

وإن مجتمعات دولنا أفرادها غلابة!!

نواعيرُ اسْتياءٍ دونَ خَيرِ

تدوّرها روافد ذات شرّ

مُشرّدة تطاردها المَنايا

وتدفعها النواكبُ نحوَ فرِّ

حكوماتٌ بلا هدفٍ رفيعٍ

تناستْ شعبها وقضتْ بقهْر

***

د. صادق السامرائي

بين إثبات الهويّة والابتكار والتجديد

في زمنٍ تتلاشى فيه الحدود بين الواقع والافتراض، ويتحوّل فيه العالم الرقمي من أداة مساعدة إلى محيطٍ شاملٍ للوجود الإنساني، يقف المثقف أمام سؤال مركزيّ: كيف يمكن له أن يحافظ على هويّته الفكريّة والأخلاقيّة، وفي الوقت ذاته يشتبك بفاعلية مع تقنيات الذكاء الاصطناعي والإبداع الرقمي؟

لقد باتت التكنولوجيا —بما تحمله من قدراتٍ تحليلية وخوارزميات عميقة— شريكاً جديداً في عملية إنتاج المعرفة، لا يكتفي بدور الوسيط، بل يطمح لأن يكون منتجاً وموجِّهاً. وهنا تتجلّى مسؤولية المثقف في تجديد أدواته، وفهم التحولات التي تصنعها التقنية في البنية الذهنية للمجتمعات، وفي طرائق القراءة، والتلقي، والإنتاج الفني والفلسفي.

أولاً: المثقف بين الحضور الأخلاقي وتحولات العصر

يذهب المفكر إدوارد سعيد إلى أنّ “المثقف هو من يقف في مواجهة السلطة لا من يبرّرها”، وهي رؤية تكشف أن وظيفة المثقف ليست مجرد نقل معلومات، بل تأسيس وعي نقدي يمكنه مواجهة التمويه، والانحياز، والهيمنة. وفي زمن الذكاء الاصطناعي، تتضاعف هذه المهمة؛ إذ لا يعود الصراع بين الإنسان والسلطة وحدها، بل بين الإنسان والخوارزمية أيضاً.

فالتقنية، كما أشار هربرت ماركوز، تحمل إمكانية “خلق إنسان ذي بُعد واحد”، أي إنسان ذائب داخل الإيقاع التقني، فاقد القدرة على التأمل. ولذلك يصبح دور المثقف اليوم تحرير الإنسان من طغيان السرعة والسطحية، واستعادة الحس النقدي وسط السيل الجارف من البيانات والتطبيقات.

ثانياً: الذكاء الاصطناعي بين التهديد والتحفيز الإبداعي

يُتّهم الذكاء الاصطناعي بأنه سيسلب الإنسان إبداعه، وقد يحلّ محل الفنان والكاتب والمفكر. لكن الحقيقة أعمق من ذلك؛ فالذكاء الاصطناعي —بحسب دراسة لجامعة MIT— قادر على “توسيع القدرة الإدراكية للإنسان عبر توفير آفاق جديدة للابتكار”، شرط أن يكون الإنسان هو الذي يقود الإبداع لا الآلة.

لقد تحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد برنامج إلى محرّك للتخييل؛ يساعد المبدعين على تخيل صور لم تكن لتخطر لهم، أو صياغة احتمالات سردية ولغوية تعيد تشكيل الحكايات.

وكما يقول جيل دولوز: “إن الإبداع هو مقاومة.”

والذكاء الاصطناعي يضع أمام المثقف تحدياً يحتاج إلى مقاومة خلاقة، لا مقاومة رافضة؛ مقاومة تُحوّل الأداة إلى فرصة، لا إلى خطر.

ثالثاً: الإبداع الرقمي وإثبات الهوية الثقافية

لم تعد الهوية مفهوماً ثابتاً، بل أصبحت ـ كما يصفها ستيوارت هول ـ “نتاجاً مستمراً للتحوّل”. والإبداع الرقمي اليوم يعيد تشكيل هذه الهوية عبر ثلاثة مستويات:

1. إعادة إنتاج التراث بلغة رقمية

فالمخطوطات تُرقمن، والحكايات الشعبية تتحوّل إلى ألعاب تفاعلية، والقصيدة العربية تجد صوتها في الفضاء الإلكتروني. وهكذا تتحول الثقافة من ذاكرة إلى طاقة متجددة.

2. حضور ثقافي يتجاوز الحدود

بفضل المنصّات الرقمية، يمكن لأي نص أن يتحول إلى خطاب عالمي. إنّ الأديب أو الباحث العربي لم يعد محاصراً بالحدود الجغرافية؛ بل أصبح جزءاً من حركة معرفية كونية.

3. مقاومة الذوبان في الثقافة المعولمة

ورغم انفتاح الفضاء الرقمي، تبقى مهمة المثقف هي حفظ خصوصية الصوت المحلي دون السقوط في الانغلاق. فكما يقول عبد الكبير الخطيبي: “الهويّة ليست قفلاً، بل باباً.”

والمثقف هو من يفتح هذا الباب على العالم دون أن يسمح للعالم بأن يجرفه.

رابعاً: المثقف شريك التقنية لا خصمها

يجب أن يتحوّل المثقف إلى قارئ خبير للخوارزميات: يفكّ شفراتها، ويحلل مؤثراتها الاجتماعية، ويستخدمها لتوليد معرفة جديدة. إنّ الشراكة بين الإنسان والآلة ليست إذعاناً، بل صناعةَ توازنٍ جديد يضمن ألا تتحول التقنية إلى قوةٍ عمياء.

إن على المثقف اليوم أن يفعل ما دعا إليه بيار بورديو:

“تحويل المعرفة إلى قوة اجتماعية.”

ولا يمكن تحويل المعرفة إلى قوة دون فهمٍ عميق لمنابعها الجديدة، ومنها الذكاء الاصطناعي.

خامساً: نحو مشروع ثقافي رقمي

إن المستقبل يقتضي مشروعاً ثقافياً يتأسس على ثلاث ركائز:

تعليم مهارات التفكير النقدي في مواجهة هيمنة الخوارزميات.

دمج الذكاء الاصطناعي في العملية الإبداعية بوصفه أداة للتطوير لا بديلاً للإنسان.

بناء أرشيف رقمي للهوية الثقافية العربية يضمن حضورها العالمي وقدرتها على المنافسة.

بهذه الركائز، يمكن للمثقف أن يصنع توازناً بين الهوية والابتكار، وبين الذاكرة والمستقبل.

خاتمة

إنّ المثقف في عصر الذكاء الاصطناعي مطالبٌ بأن يكون جسراً لا حاجزاً: جسراً يصل الماضي بالمستقبل، والإنسان بالآلة، والهوية بالعالم. إن دوره لم يعد تنظيرياً فحسب، بل تحوّل إلى دورٍ بنائيّ يشارك في صياغة المشهد الرقمي الجديد.

ولعلّ أجمل ما يختتم به هذا التأمل ما قاله محمود درويش:

“على هذه الأرض ما يستحق الحياة.”

واليوم نقول:

وعلى هذا الفضاء الرقمي ما يستحق أن نعيد تشكيله، كي يبقى الإنسان مركز الكون لا ذيله.

***

بقلم:  ربى رباعي /الاردن

...........................

مراجع ومصادر مقترحة

إدوارد سعيد، صور المثقف.

هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد.

ستيوارت هول، الهوية الثقافية وما بعد الحداثة.

عبد الكبير الخطيبي، الهوية والاختلاف.

بيار بورديو، أسئلة علم الاجتماع.

بول ريكور، الذات عينها كآخر.

جيل دولوز، ما الإبداع؟

دراسات حديثة حول الذكاء الاصطناعي

MIT Media Lab: دراسات حول الإبداع الآلي Augmented Creativity.

Stanford AI Index Report: تقارير سنوية حول تأثير الذكاء الاصطناعي على المعرفة والمجتمع.

UNESCO: أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (2023).

 

لاريب ان الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يدركه إلا المرضى، كما يقال.. فنعمة الصحة والعافية من نعم الله تعالى، وحري بالعبد أن يشكر الله تعالى على هذه النعمة الفضيلة، وان يعمل على حسن استخدامهما.. على قاعدة (وصحتك قبل مرضك) فلا يشعر الإنسان بقيمة هذه النعمة الا عندما يصيبه المرض، وينغص عليه حياته، بفقدان نعمة الصحة والعافية.

ولذلك فإن مقولة (الصحة والعافية أثمن رأسمال) مقولة صحيحة تمامًا، لأن الصحة هي الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء، في حياة الإنسان، فبدونها لا يمكن الاستمتاع بالمال أو ملذات الحياة، فهي نعمة لا تُقدر بثمن، وهي الثروة الحقيقية التي تمكننا من الاستمتاع بوجودنا، ومن ثم فهي هي أثمن من الذهب والفضة، لأنها تمنحنا القدرة على العطاء، والعيش بسلام، وسعادة.

وتجدر الإشارة إلى أن الصحة والعافية في عصرنا الحديث باتت تعتبر من أثمن الأصول التي يمتلكها الإنسان، وذلك بسبب الانتشار الواسع للأمراض، والفايروسات، التي تسببها.

لذلك فنعمة الصحة تعكس حالة من الإكتمال الجسدي، والنفسي والاجتماعي، للانسان المعافى. وفي ذلك يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع) (الصحَّةُ خزائنُ اللهِ في الأرضِ).

 فاستحقت إن توصف بانها اثمن راسمال بحق.. فهي أساس العطاء والابداع، واداء متطلبات الحياة اليومية، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف).

ولاريب أن نعمة الصحة تُمكن الإنسان من الاستمتاع بالحياة، وقضاء احلى الاوقات مع الأحبة، وممارسة الهوايات المفضلة على افضل نحو، وبالتالي فهي تعكس جودة الحياة.

 وما دامت حقيقة الصحة هكذا، فإنه يتطلب الحفاظ عليها بالتغذية، والرياضة، والنوم الكافي، والرعاية الصحية، لاسيما وان النوم الكافي يُعيد للجسم نشاطه٫ ويُحسن الصحة النفسية، وذلك حقاً هو أعلى عائد، من أي استثمار مادي يمكن أن يحقق الإنسان.

وتظل الصحة عنوان السعادة الداخلية.. فالصحة النفسية، والجسدية، تُسهم في شعور الإنسان بالرضا والسعادة.

 وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ الصَّحَّةُ وَالْفَراغُ)..

 فليحافظ الانسان على الصحة بالتغذية المتوازنة، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا).

وكذلك يتطلب الحرص على النشاط البدني، وممارسة رياضة المشي بانتظام، للحافظ على اللياقة البدنية، والصحة العامة، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف).

 ولعل الوقاية من الأمراض، والفحص الدوري، والتلقيحات، يمكن لها أن تحمي صحة الانسان، من الأمراض الخطيرة والمعدية، فالصحة لا يمكن تعويضها بالمال،

فكيف يستمتع الغني بثروته إن كان مريضًا ومُعذبًا؟ وقد يضطر لإنفاق كل ثروته ليعيش يومًا واحدًا دون ألم، ولذلك جاء في الدعاء الماثور (اللهم أني اسالك العفو والعافية والمعافاة التامة في الدين والدنيا والٱخرة).

***

نايف عبوش

الفقيه: العالم بأصول الشريعة وأحكامها، مَن يقرأ القرآن ويعلمه، العالم والعارف، ويطلق على المجتهد.

المآسي التي عانت منها أمتنا على مر العصور يذكيها الفقهاء المتزاحمون حول الكراسي المتسلطة، وكل منهم محمّل بما يريد قوله لتبرير المظالم وتأمين هيمنة وإستبداد وجور السلاطين بأنواعهم وبمسمياتهم، مهما كانوا من الآثمين.

فهم الذين يضفون الشرعية على الكراسي، ويغنمون الجاه والقوة والحماية والثروة والمكاسب الدنيوية الأخرى، والقليل منهم شذ عن ذلك، واتقى الله وآمن بالحق وما خاف في الحق لومة لائم، وهؤلاء هم الذين سطعوا وترسخوا في وعي الأجيال، أم أولئك المتعبدون في محراب الكراسي فقد ذهبوا مع الذين كانوا بهم يؤمنون، ولخطاياهم يبررون.

والمدونات الواردة من أعماق العصور تشير إلى المآسي التي إرتكبها السلاطين مؤزّرة بفتاوى الفقهاء الحائمين حول الكراسي، والمتنعمين بعطاءات مسخريهم لشرعنة أفعالهم الجائرة، وقرارتهم الضارة بالبلاد والعياد.

وما أكثر فتاواهم بوجوب طاعة السلطان، والخنوع لإرادته والإذعان، بل والركوع لكل غالب وذي قوة في البلاد، أيا كان سلوكه وما يأتي به من فساد.

ولا يزال فقهاء الكراسي فاعلين في أنظمة الحكم في عدد من دول الأمة، وبسببهم أصيبت المسيرة المعاصر بعثرات وتداعيات، لأنهم من المعوقات التي دفعت بالأجيال في أتون الإبتعاد عن إعمال العقل وإستعماله لمواجهة التحديات، فمعظمهم يأنس بتمويت العقول وتعطيلها، ومنعها من التفاعل والعطاء لأنهم يحسبون ذلك ضدهم.

وهم الذين منعوا الأمة من الإنطلاق في بداية القرن التاسع عشر عندما إعتبروا العلم بدعة منكرة، ولا يزال الكثير منهم على هذا التصور، ويتنعمون بما أوجده العلم من ضرورات تطوير الحياة وتسهيلها.

قد يرى البعض أن ما تقدم عدوانا على ثوابت، ومسلمات، لكنها أوصلت الأمة إلى الحضيض، وفقهاء الدين برون أن لا دين إلا دينهم، وأن على الدنيا أن تدخل في دينهم أفواجا، وهم يقدمون أسوأ الأمثلة التي تدحر الدين بالدين.

فهل سيبتعد الفقهاء عن الكراسي، ويتحرروا من سلوك الفتاوى البهتانية، ومن هو الواحد منهم ليخول نفسه بإطلاق فتاواه، وتضليل الآخرين بما يراه، إن الفتاوى بحاجة إلى مجالس علمية إفتائية ذات طاقات بحثية ومعرفية شاملة، ولا يمكن لشخص أن يكون مفتيا لوحده، فهذا إعتداء على الدين وأهله.

فهل من يقظة وإدراك؟!!

ولماذا إتخذنا القرآن مهجورا؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

تكمن أهمية سيادة القانون في تحقيق العدل والاستقرار، حيث تضمن تطبيق القانون على الجميع دون تمييز، مما يحد من الحكم التعسفي ويعزز حماية حقوق وحريات الأفراد. كما أنها تدعم النمو الاقتصادي من خلال توفير بيئة آمنة للاستثمار والأعمال، وتعزز السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي، وتوفر إطاراً للمجتمعات للتقدم والازدهار/ تكمن أهمية سيادة القانون في التنمية العراقية في كونها الركيزة الأساسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، حيث توفر بيئة آمنة لجذب الاستثمارات وتحفيز النمو الاقتصادي، وتضمن تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حقوق المواطنين وحرياتهم. إن سيادة القانون تعني خضوع الجميع، حكاماً ومحكومين، للقانون، مما يحمي الأفراد من التعسف ويوفر إطاراً عادلاً ومستقراً للعمل في المجتمع، الحديث عن التنمية الاقتصادية المستدامة يرتبط بشكل وثيق بسيادة القانون، فلا يمكن للتنمية الاقتصادية ان تحدث في بيئة تنعدم فيها سيادة القانون، وبذات القانون ليس نقيضاً للتنمية، بل هو شرط موضوعي لنجاحها وصيانتها، وبغياب القواعد المنظمة لها تتبدد العدالة وتتراجع الثقة فيها، وهما الركيزتان اللتان لا تقوم تنمية بدونهما؛ ولذلك فإن الدولة الحديثة، حين تضع خططها التنموية، تنظر إلى القانون بوصفه شريكاً في التصميم لا مجرد أداة للضبط؛ فكما أن التنمية تسعى إلى تحريك عجلة الاقتصاد، وتوسيع نطاق الخدمات، وتحسين جودة الحياة، فإن القانون هو الأداة التي تضمن أن تكون تلك الحركة منضبطة، ومتزنة، وعدالة توزيعها مؤسسية؛ فكل مشروع تنموي، مهما بلغ طموحه، يحتاج إلى مظلة قانونية تضمن له الانضباط والاتساق مع المصلحة العامة، كما يحتاج كل تطور تشريعي إلى أرض تنموية خصبة تكشف فعاليته وتختبر أثره على أرض الواقع؛ ومن هذا المنطلق تبرز التحولات الكبرى التي يشهدها وطننا الغالي، حيث لم يعد بالإمكان الحديث عن التنمية بمعزل عن منظومتها التشريعية، فالعلاقة بينهما لم تعد علاقة تقاطع عابر، بل أصبحت تقاطعا عضويا يحدد اتجاه الحركة التنموية ويحفظ مقوماتها ويصون استدامتها في آن واحد

hلتنمية والقانون علاقة تبادلية ضرورية؛ حيث يعمل القانون على تنظيم وتوجيه مسار التنمية لضمان تحقيقها بشكل مستدام وعادل، بينما تحتاج التنمية إلى قانون مرن ومواكِب ليساهم في دفع عجلة التقدم وتجنب الجمود. يتجسد هذا التقاطع في ضمان حقوق الإنسان، وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وضمان الاستدامة البيئية للأجيال القادمة، كما تشمل العلاقة تهيئة بيئة قانونية داعمة للاستثمار وتشجيع القطاع الخاص، وضمان انسجام القوانين المحلية مع الاتفاقيات الدولية

تُعد سيادة القانون أمرا ضروريا لتهيئة بيئة ملائمة لتوفير سُبل العيش المستدامة والقضاء على الفقر. وغالبا ما ينبع الفقر من عدم التمكين والإقصاء والتمييز. وتعزز سيادة القانون التنمية من خلال تعزيز أصوات الأفراد والمجتمعات، عن طريق إتاحة سُبل الاحتكام إلى القضاء، وضمان اتباع الإجراءات القانونية الواجبة وترسيخ سُبل الانتصاف فيما يتعلق بانتهاك الحقوق. ومن شأن تأمين سُبل المعيشة والمأوى والحيازة والعقود أن يمكِّن الفقراء ويجعل في استطاعتهم الدفاع عن أنفسهم في حال وقوع أي انتهاكات لحقوقهم. ولا يقتصر التمكين القانوني على توفير سُبل الانتصاف القانونية بل يدعم تحسين الفرص الاقتصادية

يُعد ضمان سيادة القانون في استغلال الموارد الطبيعية عاملا أساسيا في ضمان النمو الاقتصادي الشامل والمستدام والتنمية وفي احترام وحماية وإعمال حقوق الإنسان للأفراد. ويمكن أن تكون الموارد الطبيعية التي تُدار بشكل مستدام وشفاف محركا للرفاه الاقتصادي وأساسا للاستقرار والسلام في المجتمعات. وتستلزم الموارد، مثل الموارد المائية العابرة للحدود، درجة عالية من التعاون بين البلدان المشاطئة وأطرا قانونية مناسبة لدعم الإدارة المستدامة. والإدارة السليمة للموارد الطبيعية، وفقا لسيادة القانون، هي أيضا عامل رئيسي في تحقيق السلام والأمن، يبرز الترابط بين الركائز الثلاث لمنظومة الأمم المتحدة. ويزداد خطر نشوب نزاع عنيف عندما يسبب استغلال الموارد الطبيعية أضرارا بيئية وفقدانا لسُبل المعيشة، أو عندما توزّع الفوائد على نحو غير متكافئ. وتحقيقا لهذه الغاية، يُمكن أن يتسم ضمان مساءلة القطاع الخاص عن أنشطته، فضلا عن دعم القطاع الخاص لتوطيد سيادة القانون، بأهمية بالغة.

ومن هنا جاء تميز التجربة الفريدة في العقد الأخير، إذ اندمج التشريع بالتخطيط الاقتصادي في نسيج واحد، فحين أطلقت الدولة -رعاها الله- برامج التحول الوطني ومبادرات ومشاريع رؤية الوطن الطموحة، لم يكن البناء الاقتصادي والتنموي مجرد اندفاع نحو الاستثمار والخصخصة، بل كان مترافقاً مع بناء تشريعي متين يعيد تعريف العلاقة بين الفرد والدولة، وبين السوق والمجتمع، وبين المستثمر والمستضيف، وفق قوانين حديثة وتجارب دولية معتبرة؛ فأضحت القوانين تسن لتواكب الرؤية التنموية لا لتلحق بها، هذا الاندماج يتجلى من خلال إقرار العديد من التشريعات الجديدة وتحديث القائم منها في قطاعات حيوية وذات بعد اقتصادي، ويتبدى ذلك مثلاً في قوانين الاستثمار، والتخصيص، والتعدين، والعقار، والعمل، والشركات، والمنافسة، وما إلى ذلك؛ تلك التحولات التشريعية الفرعية لم تكن عملاً إدارياً بحتاً، بل ترجمة لوعي تنموي ورؤية متفردة ترى أن استدامة النمو تقتضي بيئة قانونية متكاملة وعادلة وشفافة، وتتميز بالمحفزات الاستثمارية، وتمنع الاحتكار وتحمي المستهلك والمستثمر في آن واحد؛ وهكذا أصبح القانون أداة لرفع كفاءة التنمية نفسها، لا إطاراً يقيدها؛ وفي المقابل، فرضت التنمية المتسارعة على المنظومة التشريعية أن تتسم بالمرونة والقدرة على التحديث المستمر، فالقوانين الجامدة تعيق التجدد، والأنظمة غير المواكبة للتحول تخلق فجوات في التنفيذ والمساءلة واستقرار المراكز القانونية؛ لذلك تبنت المملكة نهج المراجعة التشريعية الدورية، إدراكاً منها بأن تطور الأنظمة لا يقل أهمية عن التطور الاقتصادي، وأن الرؤية الشاملة لا تكتمل إلا بتكامل مرونة البنية القانونية مع حركة التنمية العمودية والأفقية.

إن تقاطع التنمية مع القانون هو في جوهره تقاطع بين الإرادة والطموح، وبين النمو والتنظيم، وبين الفعل والانضباط، بحيث لا تكون القوانين عائقاً أمام التقدم، ولا يكون التقدم مبرراً لتجاوز القانون؛ فالتنمية تحتاج إلى القانون كي لا تتحول إلى فوضى، والقانون يحتاج إلى التنمية كي لا يتحول إلى جمود؛ والتنمية التي لا يضبطها القانون قد تنفلت، والقانون الذي لا يستوعب ضرورات التنمية قد يتكلس، وبين هذين الحدين، تتجلى رؤية قيادتنا الحكيمة -أعزها الله- في العمل على رسم هذا التوازن الدقيق كي تولد نهضة مستدامة تقوم على منطق المصلحة العامة ومبدأ العدالة الشاملة؛ ولهذا نقول إن تقاطع التنمية مع القانون هو التقاء الوعي القانوني بروح التنمية النوعية في سبيل بناء دولة عصرية في تشريعاتها، متزنة في مؤسساتها، طموحة في رؤيتها، راسخة في قيمها.

***

نهاد الحديثي

 

- الإستنزاف: لمفهوم الاستنزاف في علم الجيوبوليتيكا أبعاده واتساعاته وذلك عند النزاع السياسي الذي قد يجر الى الحرب، والحرب تعتمد على الجغرافيا والموارد المادية والبشرية والنفسية فضلا عن التحالفات التي تقوم على قاعدة المصالح.

وتتوقف الحرب بناء على قرار أحد طرفي الحرب أو كليهما أو نتيجة لقرار أممي. فجغرافية الحرب لها اهمية قصوى في مجال العمق في الدفاع، الذي يأخذ بنظر الأعتبار العامل البشري والموارد والقدرات التي تضمن زخم الاستمرار في الحرب.

ومن هنا يبرز مفهوم الاستنزاف البشري والمادي والنفسي بكل وضوح، الامر الذي يدعو الى الاستفسار:

من يستنزف من..؟

الاستنزاف يعتمد، كما اسلفنا، على تلك العوامل، فكلما تمتعت الدولة بجغرافيا واسعة للدفاع في العمق، كلما اكتسبت منزلة القدرة في الحرب والعكس صحيح، ولكن الدول التي ينقصها العمق الجغرافي قد تعوضه بالآت الحرب الحديثة وبالتحالفات.

فهل ان الصراع بين الكيان الصهيوني والدول العربية يمكن توصيفه بالاستنزاف تحت يافطة التهديد بالحرب؟ وكيف يمكن توصيف (الحرب) الأخيرة بين اسرائيل وايران؟ وهل هنالك حرب فعلية بين ايران واسرائيل ومن أجل أي هدف؟ هل هو هدف (فلسطين - القدس) أم هدف نطنز ومراكز تخصيب اليورانيوم وبالتالي صراع نفوذ وتوازن قوى في المنطقة؟ ولا علاقة لمركز نطنز بفلسطين.

الضربة الإستباقية الاسرائيلية لمركز الأبحاث في ايران تتعلق حصراً بمنع ايران من الحصول على السلاح النووي.. إذن، هو صراع قوى إقليمية في منطقة رخوة تفتقر إلى حشد عناصر قوتها.. ومع ذلك، يظل الاستنزاف قاعدة للصراع، فمن يستنزف من؟

ان قطبا الصراع، يدركان اهمية مفهوم العمق الجغرافي، ففلسطين المحتلة تفتقر الى العمق الجغرافي، فيما يتسع العمق الجغرافي العربي.. أما الموارد فإن الكيان الصهيوني لا يمتلك الموارد الكافية لإدارة حالة الاستنزاف المتوقعة عند نشوب الحرب، فضلا عن الكتلة البشرية الاسرائيلية التي لا تصمد أمام الكتلة البشرية العربية المتحدة سياسيا وعسكريا، ولكن مع ذلك يتم الترجيح عن طريق الدعم الغربي العسكري والمالي واللوجستي لهذا الكيان، كلما باتت علامات الاستنزاف ظاهرة في أية حرب بينه وبين العرب.

الكيان الصهيوني يدرك نقاط ضعفه في مساحة الارض والكتلة البشرية والموارد المالية فضلا عن شعوره بانه طاريء والدول العربية تدرك نقاط ضعفها في مكوناتها (العرقية والدينية) فضلا عن تحالفاتها الضعيفة المرتبطة بالمصالح وحالة الاستنزاف في الموارد، لذلك فان الاستنزاف الاسرائيلي يكون اكثر عبئاً في حالة الحرب من الاستنزاف العربي الاقل تأثيراً.. ورغم الدعم الغربي للكيان وزخمه المتلازم مع تطورات الحرب، فأن الاستنزاف في تخطيط (الدولة) العبرية تعير له أهمية بالغة، طالما ان حلفاؤها غير قادرين على المجازفة في حالة الحرب ادراكا منهم لحالة الإستنزاف.. أما الايديولوجيا(الثيوقراطية) الدينية فلا مستقبل لها في العصر الحديث.

ومن هذه الزاوية فان الاستنزاف يعد اكثر خطورة لدى النظام (الثيوقراطي) منه لدى الكيان الصهيوني العنصري.. فالثيوقراطية تعمل بمنهج (الباطنية) كلما توفرت الارضية الممكنة.

وخطوات الاستراتيجيا - ذات المنهج الثيوقراطي - يلخصها مبدأ تصدير (القوة)، الذي يعتمد على تشكيل (القوى) في الخارج من اجل استخدام القوة.. ولا علاقة لها (بالقدس).. لأن الصراع بين الكيان الصهيوني والنظام الثيوقراطي هو صراع مصالح وصراع نفوذ والحرب التي قامت بينهما كانت من أجل منع النظام الثيوقراطي من (التخصيب)، الذي تجاوز نسبة (4,67) الرسمية إلى ما يقرب من (60) بالمئة خلافاً لقواعد العمل في الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. إذ أن هذه النسبة من التخصيب غير مسموح بها دولياً، والهدف من رفع درجة التخصيب واضح جدا و(يتساوق) مع منهج تصنيع الصواريخ بمدياتها المختلفه. فلماذا الإصرار على النووي، كما هو حال الكيان الدموي الصهيوني الذي يمتلك الذراع النووية التي يجب نزعه.

تعداد نفوس هذا الكيان تقريبا (3.3) ملايين نسمة، فيما تعداد نفوس العرب يقترب من (450) مليون نسمة وتعداد نفوس الايرانيين يقترب من (90) مليون نسمه.. وهذه مفارقة ليست غريبه لأن ستراتيجية النظام الثيوقراطي وستراتيجية الكيان الصهيوني تاريخيا لا تؤشران صراعاً بل تنسيقا بالضد من العرب، والتعاضد هذا يستند على الكراهية المشتركة.. فلو كان النظام الثيوقراطي عادلا، فلماذا يسعى إلى التوسع؟!

- المجال الحيوي:

والملاحظ ان النظام الثيوقراطي يسرف في التسلح ويهدد جيرانه ولا يكترث بالعواقب الوخيمة التي تسفر عن إصراره على التسلح والتوسع لتحقيق ما يسمى (المجال الحيوي) المنقرض لإعادة تأسيس امبراطورية ثيوقراطية غابرة.

فبدلاً من الاصرار على التسلح غير المبرر بسلاح تقليدي وغير تقليدي، فالضرورة تقتضي الدعوة إلى نزع سلاح المنطقة.. إلا أن النظام الثيوقراطي لا يرغب في ذلك بل يصر على تخصيب اليورانيوم خلافاً للأعراف الدولية، ويصمت ازاء الاعلان عن ضرورة إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل ويمارس اسلوب التصعيد والدعوة المبطنة لتسليح المنطقة وتعريض شعوبها والعالم الى الخطر.

***

د. جودت صالح

1/ 12/2025

بينما كنتُ أتصفح آخر الأخبار، استرعى انتباهي إعلانٌ لحفل غنائي لمغنٍّ شاب معروف سيُنظَّم قريبا بمدينة بروكسل، وتتراوح تذكرة الدخول فيه بين 53 و96 يورو للشخص الواحد! ويُتوقّع أن يحضره الآلاف من الجمهور. وقد أثار هذا الخبر مجموعة من التساؤلات والأفكار، وددت أن أتقاسمها في هذه الخواطر الذاتية.

وأرى بداية أنّ مجتمعاتنا المسلمة باتت تشهد اليوم مفارقات صارخة إلى حدّ يدعو للاستغراب والتأسف، بل وللمراجعة الجذرية لأولوياتنا الفردية والاجتماعية والتربوية. وهذا الحدث يكشف عن جانب من تلك المفارقات؛ فمُغنّ شاب يعلن عن حفل في مدينة أوروبية يقترب ثمن تذاكره من المائة يورو، ومع ذلك سوف يتوافد الآلاف بلا تردّد، ويحجز بعضهم قبل أسابيع أو أشهر، ويسافر آخرون من مدن بعيدة فقط ليعيشوا سويعات من المتعة الفنية.

وفي المقابل، يحضر مفكر أو فقيه أو عالم قضى عقودا من عمره في التحصيل والبحث والتأليف، يخدم مجتمعه وأمته بلا مقابل، ليلقي محاضرة في جامعة عريقة أو مركز إسلامي أو مؤسسة بحثية، فلا يتابعه إلا حفنة من الناس يُعدّون على أصابع اليدين؛ رغم أن الدخول مجاني، بل وغالبا ما يتكبّد المحاضر نفسه عناء السفر والوقت من دون أن يسأل شيئا.

وأعتقد أن هذه المفارقة لا تحدث صدفة، بل هي مرآة تعكس بصدق طبيعة الاهتمامات التي باتت تحكم كثيرا من تصرفاتنا وخياراتنا نحن المسلمين. إننا نجيد لوم واقع الأمة، والتحسر على تخلفها، وندب انحطاط الوعي، لكننا نغفل أو نتغافل عن النظر الجاد في أسباب هذا التقهقر، وكيف وصل بنا الحال إلى ما نحن عليه، حتى أصبحنا مثار سخرية لأمم كانت تعتبرنا في الماضي قدوة ومثالا. فالمجتمعات لا تتقدم بالشعارات، ولا ترتقي عبر التفاهات، بل تتحقق نهضتها عندما يصبح العلم نبراسها، والمعرفة سفينتها، والأخلاق ديدنها، وعندما يكون للعالم والمفكر والباحث والأديب وزنٌ اجتماعي حقيقي يضاهي، أو يفوق وزن الفنانين واللاعبين ومؤثّري التفاهة والروتين اليومي.

ولا يعني هذا أننا ننكر أهمية الفن والجمال والأدب وأثرها الإيجابي والسامي، لاسيما عندما تكون راقية وملتزمة، لكن الإشكال القائم اليوم هو أن هذه العناصر الترفيهية والتحسينية في الحياة والمجتمع تحوّلت إلى أولوية مطلقة في وسائل الإعلام والمناهج التربوية والبرامج السياسية، بينما ينزوي أهل الفكر والعلم والمعرفة خلف جدران الصمت، ولا نكاد نسمع بهم إلا عند رحيلهم.

ومن هذا المنطلق، فإن الأزمة الحقيقية لا تكمن في المُغني الشاب، بل في الجمهور الذي يقرر أين يضع أمواله وجهده ووقته. فإذا كان آلاف الناس مستعدين لدفع ما يقارب مائة يورو لحفل يستمر ساعات أو مقابلة كرة قدم لا تتجاوز ساعتين، فلماذا لا يستطيع هؤلاء أنفسهم حضور محاضرة علمية أو ندوة فكرية لا تكلّف شيئا؟ وإذا كنا نردد ليلا ونهارا أن الأمة تحتاج إلى نهضة ووعي وإصلاح، فمن أين ستأتي هذه النهضة إذا كان أكثرنا لا يمدّ يدا نحو منابع العلم، ولا يفتح أذنا لكلمات العلماء، ولا يخصص وقتا للاستفادة من الأدمغة التي تحفظ ميراث الأمة وتطوّره؟

وفوق ذلك، يوجد في الجانب الآخر من العالم من المستضعفين من ينتظر شربة ماء تُنقذ حياته، ولقمة خبز تُسكت جوعه، بينما تُصرف مئات الآلاف من اليوروهات على أمور ثانوية قد لا تزيدنا إلا غفلة. والمشكلة ليست في الترفيه ذاته، بل في اختلال ميزان الأولويات، حين يصبح الترفيه قاعدة، والعلم استثناء، وتصبح التفاهة هدفا، والمعرفة عرضا.

لذلك، فإن إصلاح حال الأمة يبدأ من الفرد، وبالتحديد من وعيه الشخصي، ومن خياراته اليومية البسيطة. ولا تتغير هذه الحال حتى تنصلح الأمة، ويقرر الناس حضور محاضرة نافعة بدل استهلاك ترف غير هادف، ودعم أهل العلم والمعرفة كما يُدعم الفنانون. ولن تتحقق هذه الأمنية الغالية إلا عندما يصبح العالم قدوة، ويصير للفكر قيمة، ويضحى حضور مجالس العلم نمطَ حياة لا مناسبة موسمية.

وفي خضم هذه الوضعية المزرية، تكتفي الغالبية بالتباكي على واقع المسلمين! والمفارقة العجيبة أنّ أوّل المتباكين هم أنفسهم أولئك الذين يدفعون بسخاء لمتابعة سويعات من حفل غنائي أو مباراة رياضية. ولا يمكن أن نتوقف حقا عن هذا التباكي أو البكاء إلا عندما نراجع قراراتنا، ونحاسب أنفسنا، وندرك أولوياتنا؛ فالأمة لا تنهض بالغناء أو الترفيه وحده، بل تنهض عندما يصبح العقل نبراسا، والمعرفة أولوية، وأهل العلم والفكر والأدب قدوة حقيقة.

***

بقلم: التجاني بولعوالي

الدول القوية لا ترتكز على الوظائف في تفاعلاتها مع المواطنين، بل تعتمد على دعم الطاقات الفردية القادرة على إنشاء المشاريع اللازمة لتوفير فرص عمل ذات قيمة إقتصادية وإبداعية أصيلة.

والبشرية في مسيرتها تعتمد على النشاطات التي يقوم بها الأفراد، فلكل منهم حرفته التي تساهم في رفد الإقتصاد الوطني وبناء القوة اللازمة للحياة الحرة الكريمة.

البشرية في تطورها لم تعتمد على الوظائف أولا، بل أن العقول المتفاعلة فيها أوجدت ميادين للجد والإجتهاد، والإتيان بالمبتكرات والأفكار الجديرة بالإستثمار.

فلو نظرنا لواقعنا المعاصر لظهر لنا أن النشاطات الفردية أوجدت مسارات جديدة، وأشرعت أبواب العمل والجد والإجتهاد، ولم تكن ناجمة عن وظيفة ما في دائرة حكومية.

إن بعض المجتمعات تتوهم أنها قادرة على إستيعاب الأجيال الوافدة في وظائف، وبسبب عجزها تحاول التخلص منهم بأساليب عدوانية، أسهلها أن تزجهم في حروب متنوعة التوجهات والشعارات المضللة.

ولا توجد دولة في الدنيا قادرة على إستيعاب الأجيال في وظائف، بل لابد للأجيال أن تشق طريقها وتتعلم مهارات حِرفية، وتدير نشاطات إقتصادية ذات آليات لضم بعضها في تيار الإنتاج النوعي المتميز، الذي يخدم الإرادة الوطنية ويعزز إمكانيات التناقس ومواجهة التحديات.

فهل ستستطيع بعض أنظمة الحكم التحرر من نفق التفكير الوظيفي، وتفسح المجال للطاقات الوافدة أن تمارس ما تسعى إليه، بتوفير الظروف الملائمة والدعم المادي والمعنوي، لكي يتحرروا من الإستعباد بالوظيفة، ويصنعوا أعمالهم ولا يتوسلون الآخرين لتوظيفهم.

التوظيف عجز إقتصادي، لأن الموظف لا ينتج بقدر ما يستهلك ويبدد، وتكون الحصيلة أن الدولة عبارة عن مُرضعة لأجيال تحسبهم دون سن الرشد بكثير، فالموظف ربما تكون له حقوق أكثر من الواجبات، والدولة ستجد نفسها ذات يوم غير قادرة على الإيفاء بحقوقه، وكأنه أصبح عالة عليها.

وظائفهم تعطلُ مُرتقاهمْ

وتمْنعُ أنْ تسيرَ بها خطاهمْ

تحرّرْ أيّها المَرهونُ فيها

وعاقرْ فكرةُ نهرتْ رؤاهمْ

عبيدُ وظيفةٍ أرقامُ مَحقٍ

فكنْ عَلماً يُباري مُحتواهمْ

***

د. صادق السامرائي

 

كل مكتوب يجب أن يكون واضحا وسهلا على الفهم، هذا ما سار عليه الأوائل من أعلام الأمة، وحاولوا أن يبسّطوا أفكارهم وييسرونها للعامة، ومَن يقرأ كتاباتهم يستشف في مقدمات كتبهم مراميهم ومجاهدتهم في التبسيط والتوضيح، ولهذا كان لكتاباتهم أثر وبقيت متداولة عبر العصور.

وعالمنا المعرفي المعاصر يزدحم بالكتابات العسيرة والمفردات المعقدة ويميل للترميز والإبهام والغموض، مما تسبب بتنافر بين القارئ والمكتوب، وخصوصا ما يُسمى بأدب الحداثة، التي توهمت التجديد، وما هي إلا نسخ وتقليد، وإضطراب أفكار وإستعارات غريبة عن واقع لا يهضمها ويعجز عن تمثلها.

وبما أنها كتابات لا مفهومة، فأصبحت مذمومة ومنكرة لا علاقة لها بواقع تكتب عنه، فالبعض يرى أنها كتابات صومعية نخبوية ومن هذيانات الخيال وتداعيات التصورات المأمولة في فضاءات التحليق الأقصى البعيد عن ملامسة التراب.

وآخرون يرون أنها ذات صدى وتأثير وتحفيز للوعي وإغناء للإدراك، والواقع على مدى أكثر من عقدين يشير إلى أنها هذيانات حول صحون الويلات، فما أطعمت من جوع ولا آمنت من ظلام وإنكلام.

وبين العديد من الرؤى والتصورات والتحليلات والمعارضات، تبقى الحاجة إلى الكلمة المباشرة الواضحة اليسيرة الفهم مما يستوجبه الإبداع بأنواعه.

فهل أن الحداثة زوبعة في فنجان التنائي عن منابع الأحزان؟

وهل ستموت في تابوت أكثر من نصف قرن من التجاهل والإهمال؟

فالمتداول أشعار عرفها العرب منذ عصور، وما وجدنا للحديث حضور!!

معالمُ شعرنا نغمٌ طروبٌ

يهزُ الروحَ تعشقهُ القلوبُ

تجدّدتْ بنا نغماتُ لفظٍ

بأبْحُرها مَعانيها تذوبُ

فهلْ وَصفتْ مشاعرَنا بسلبٍ

ونَبضُ وجودِنا فينا يدوبُ

***

د. صادق السامرائي

 

هل توقفت يومًا لتتأمل هذا العالم الجميل الذي نعيش فيه؟ نعم، أعني هذا العالم الذي يزخر بالمواعظ العظيمة على لافتات الطرق والنصائح المبهجة في الأخبار، وأغاني الحنين التي تُرسل مباشرة إلى أذنك بينما أنت تعلق في زحمة لا تنتهي وعالمنا يشبه طبق السلطة: كل شيء فيه مختلط، أحيانًا يلسعك البصل أحيانًا يضحكك الطماطم وفي النهاية تبقى تتساءل لماذا أنت جائع أصلاً.

في عالمنا، أصبح من الطبيعي أن يكون كل شخص "خبيرًا" في كل شيء لا يهم إذا كنت طبيبًا، مهندسًا، أو حتى بائع خضار المهم أن تعرف كل شيء عن السياسة والاقتصاد والفلسفة وعلم الفضاء وأغلب هؤلاء "الخبراء" لم يقرأوا أكثر من عنوان صحيفة أو منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن ثقتهم.. آه، ثقتهم في آرائهم لا يهزمها حتى عقل أفلاطون.

أما عن التكنولوجيا، فهي أعظم مسرحية كوميدية على الإطلاق فكل يوم نتحمس لابتكار جديد يعدنا بأن حياتنا ستصبح أسهل، ونكتشف بعد أسبوع أن الابتكار نفسه قد جعل حياتنا أكثر فوضى فالهواتف الذكية، على سبيل المثال، صارت تراقبنا أكثر مما يراقبنا جيراننا في أيام زمان نلتقط صورة لشاي الصباح، وفجأة يظهر إعلان لشراء فناجين الشاي على كل موقع نفتح ولم تعد الخصوصية كلمة، بل مزحة سخيفة نضحك عليها ونحن ندفع ثمن البيانات الخاصة بنا.

ولننتقل إلى السياسة، حيث الكوميديا تصل إلى ذروتها فالسياسيون أصبحوا كالشخصيات في مسرحية مستمرة  كلماتهم مطاطية، ووعودهم كالفقاعات، ومهارتهم الأكبر في تقديم خطاب طويل بلا معنى بينما الجماهير تصفق لأن الصراخ أصبح موضة وكل الوعود تتحول إلى نكتة، وكل قانون جديد هو نسخة محسنة من القوانين السابقة، لكن أكثر تعقيدًا وأكثر قدرة على إرباك المواطنين.

المجتمع؟ آه، المجتمع ! مجتمعنا يشبه حديقة مفتوحة وكل شخص يحاول أن يبرر تصرفه الغريب بعبارات رنانة مثل "التطور الطبيعي" أو "الحرية الشخصية"، بينما يصرخ الآخرون من حوله: "انتبه، هذه ليست حرية، هذه فوضى !" ورغم ذلك، لا أحد يوقف العرض، لأن الجميع مشغول بالتصفيق.. أو بالتقاط صور منها لاحقًا على وسائل التواصل الاجتماعي.

ولا ننسى ثقافة الشهرة، حيث أصبح كل شخص نجمًا في عالم افتراضي وهمي فما أهمية الإنجاز الحقيقي عندما يمكنك الحصول على ألف إعجاب على صورة لقهوة الصباح أو فيديو قصير لنوم القطط؟ الشهرة الآن ليست نتيجة جهد أو موهبة، بل نتيجة قدرة الفرد على جذب الانتباه بأية طريقة ممكنة، حتى لو كانت سخيفة أو مهينة.

وإذا ما حاولت التفكير بجدية، ستكتشف أن السخرية هي البقاء، والفكاهة هي الوسيلة الوحيدة لفهم هذا الجنون لأننا في النهاية لسنا في مسرح حقيقي، نحن في مسرحية متواصلة بدون نهاية، حيث كل واحد منا يلعب دوره بشكل مبالغ فيه، وكل المشاهدين.. هم أنفسهم أبطال هذا الجنون يصنعونه ويعايشونه في الوقت ذاته.

باختصار، عالمنا جميل، لكنه أجمل عندما نضحك ضحكته الساخرة، ضحكته المريرة ضحكته التي تجعلك تتساءل هل نحن أبطال أم كومبارس؟ هل نعيش الحياة، أم أن الحياة تعيشنا ونحن نكتب لها نصوصًا لم نكتبها؟ الحقيقة أنها مسرحية عبثية، وكل يوم نكتشف أن النهاية ليست نهاية، وأن كل شيء مجرد فقاعة.. لكنها فقاعة مضحكة جدًا.

***

د. رافد القاضي

الإنسان، تلك الكائنات الصغيرة التي تحمل في صدرها عالماً كاملاً، تعيش على هامش اللحظة، تتأرجح بين خيوط النور وظلال الألم، بين همسات الأمل وصراخ الفقدان. وهو ذلك المسافر الأبدي في صحراء الحياة يحمل حقيبة مليئة بالذكريات، بعضها ثقيل وبعضها يذوب كندى الصباح على أوراق الخريف.

فالحياة ليست مجرد أيام تمر، ولا مجرد ساعات تتراكم على ساعة الزمن وإنها محيط من الأحلام التي نغرق أحيانًا فيها ومن الأوهام التي نحملها كما نحمل زجاجًا هشًا، خائفين من أن ينكسر في أصابعنا. وكل لحظة تمر، كل نبضة قلب، تحمل معها سؤالًا جديدًا : لماذا نعيش؟ ولماذا نحب؟ ولماذا نرحل؟

في أعماق الإنسان، هناك حكايات لم تروَ وجرح لم يلتئم، وابتسامة اختارت أن تختبئ خلف ستار من الصمت فالشعر، هو اللغة التي تحاول الإمساك بالزمن، وهي اليد التي تمتد لتحنو على قلبٍ منهكٍ من سيل الحياة والقلم، هو السلاح الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يقاتل به وحدته، أن ينسج من الكلمات جسورًا إلى أرواح الآخرين، أن يزرع في الحروف بذور الأمل حينما يذبل الزهر من حوله.

فالإنسان أيضًا شاعرٌ، حتى حين يجهل ذلك. في صمت الليل، حين تنطفئ الأضواء يكتشف الإنسان أن قلبه ينبض كما لو أنه فرس مقيد في ساحة الحرية، يركض بين الحلم والواقع، بين الحب والخوف، بين الفرح والحزن وكلما اقترب من الحقيقة أدرك أن الحقيقة ليست مطلقة، بل هي لوحة مُرَسَّمة بريشة عاطفته، لونها أزرق كالسماء أو رمادي كالرماد، أحيانًا حارقة كالنهار الصيفي، وأحيانًا باردة كنسيم الشتاء العميق.

وفي هذا العالم، تتجلى العاطفة في أبسط الأشياء: في ابتسامة طفل يلهو بين الطين في دمعة أم تتلمس وجه ابنها، في يد صديق تمسك يدك حين يهتز العالم من حولك والعاطفة هي اللغة التي لا تحتاج إلى ترجمة، هي الجسر بين الأرواح، والملاذ الأخير لكل من فقد البوصلة في متاهات الحياة.

لكن الإنسان أيضًا معرض للخطأ، معرض للخيبة، معرض لأن يرى العالم من خلال عيونٍ لم تعد ترى سوى الظلال وفي تلك اللحظات، يحتاج إلى الشعر كما يحتاج العطشان إلى الماء، يحتاج إلى الفن كما يحتاج الجريح إلى ضماد يلتئم به قلبه. والفن لا يغير العالم، لكنه يمنح الإنسان القدرة على حمله، ويعلّمه كيف يتحوّل الألم إلى نور، وكيف يمكن للدموع أن تغسل الروح قبل أن تغسل الوجه.

وإن الرحلة الإنسانية ليست سوى رحلة نحو الذات، نحو اكتشاف معنى الوجود، نحو محاولة الإمساك بالحظات التي تمر بسرعة الضوء. وفي كل لحظة، هناك فرصة للقاء مع النفس، فرصة للإبحار في أعماق الوعي فرصة لإعادة صياغة الحياة، فرصة لتعلم الحب بلا شروط، والرحمة بلا حدود.

وفي النهاية، يظل الإنسان كاتبًا في دفتر الكون الكبير، كل خطوة يخطوها، كل كلمة ينطق بها، كل صمت يحتضنه، هو جزء من قصيدة الحياة التي لا تنتهي وكلنا نبحث عن القلم الذي يمكننا من التعبير عن صراعاتنا وأحلامنا، عن النور الذي يهدينا في ليالينا الطويلة، عن الأمل الذي يذكرنا أننا، مهما تعثرت أقدامنا، سننهض دائمًا لنكتب يومًا آخر، صفحة أخرى، قصة أخرى… قصة الإنسان الذي يعيش، يحب يتألم، ويستمر في رحلته رغم كل شيء.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

في منشور سابق استعرضت الآليات المختلفة لتغيير سعر الصرف او التأثير فيه ودفعه الى الارتفاع او الانخفاض. في هذا المنشور سوف احاول بيان كيفية تأثر الاقتصاد الوطني ككل او ميزانية الحكومة بتحركات سعر الصرف.

لاتوجد عملة في العالم ليس لها سعر صرف تجاه مختلف العملات لأن ذلك اساسي لعلاقات التجارة والتبادل الدوليين.

ولكن الدول تختلف في كيفية تحديد اسعار صرف عملاتها.

فدولة مثل الولايات المتحدة تكون اسعار صرف عملتها معوّمة، اي تخضع لعوامل العرض والطلب على العملة .

اما دولة مثل العراق مثلاً فان السلطات هي التي تحدد سعر الصرف رسمياً واذا لم يكن ذلك السعر واقعياً تنشأ سوق صرف سوداء موازية.

بعض الدول تكون فيها الحكومة هي المالك شبه الوحيد للعملات الاجنبية التي تحصل عليها من تصدير مادة تملكها الدولة (النفط مثلاً).

لكن الحكومة لا تستطيع تداول الدولار في الداخل ولذلك تقوم ببيع دولاراتها الى البنك المركزي مقابل سعر الصرف الرسمي. وتحصل على الدنانير التي تحتاج اليها كموارد للموازنة الحكومية ..

ولذلك عندما يحصل عجز في الموازنة يمكن ان تلجأ الحكومة الى خفض سعر صرف الدينار امام الدولار (خفضه من ١٣٠٠ دينار مثلاً الى ١٥٠٠ دينار) وبذلك تحصل من البنك المركزي على دنانير اكثر مقابل نفس الكمية من الدولارات.

اما في الولايات المتحدة فأن الاحتياطي الفدرالي يراقب اوضاع الاقتصاد واذا تطلب الأمر خفض او رفع سعر صرف الدولار فأنه يتدخل عن طريق ادوات السياسة النقدية مثل خفض او رفع سعر الفائدة لتشجيع الطلب على الدولار او خفضه.. كذلك يتبع الفدرالي اساليب مثل التيسير الكمي وتخفيف قيود الاقراض على البنوك..

ولو أخذنا الاقتصاد العراقي كنموذج، تصبح لدينا مجموعة أجراءات محددة تمثل دورة العملات في العراق والتي هي الدينار والدولار:

- الحكومة تصدر النفط

- تذهب الايرادات الى وزارة المالية

- تبيع وزارة المالية دولارات النفط الى البنك المركزي بموجب سعر الصرف الرسمي

- تستخدم وزارة المالية تلك الايرادات لدفع رواتب واستحقاقات المؤسسات الحكومية

- ينفق الناس اموال الرواتب والتقاعد وارباح الاعمال وباقي الايرادات، على السلع المستوردة

- يذهب التجار الى البنك المركزي لشراء الدولار لتمويل الاستيرادات.

***

د. صلاح حزام

في بلدان عدة نجح القابضون على السلطة في استغلال النصوص الدينية للتوظيف السياسي واتخاذها وسيلة للهيمنة السياسية والاقتصادية وكذلك استخدامها اداة للقمع ومصادرة الحريات وخداع عقول البسطاء وجعلها أسيرة إرادتهم الشيطانية وذلك من أجل البقاء في السلطة لتحقيق مآرب شخصية ومصالح فئوية، ويذكر لنا التاريخ انه عندما قام يزيد بن المقفع بأخذ البيعة ليزيد بن معاوية على مضض من الناس تصدى له احدهم بقوله (اني ابايع وانا كاره للبيعة) فأجابه معاوية الذي كان حاضرا الموقف: بايع يا رجل فان الله يقول (وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم)، انظر كيف تم توظيف النص في هذا الخطاب السياسي الذي نجحت العديد من الأنظمة الدكتاتورية في البقاء فترة طويلة في السلطة نتيجة توظيف النص زورا لتبرير فسادها وفشلها وقمعها المخالفين لسياستها وافعالها فهم حرصوا على ترجمة القول المنسوب لابن خلدون (إذا أردت أن تتحكم في الجاهلين فغلف كل باطل بغلاف ديني)، وقد ذهبت عدد من الجماهير ضحية الساسة الاشرار الذين امتهنوا الدجل واللعب بعواطف البسطاء ما جعلوا النص الديني موضع المساءلة والاتهام لدى الغالبية التي لا تفرق بين النص والخطاب .

والاستغلال السياسي لم يقتصر على توظيف النص الديني في خطاب السياسيين فحسب انما تعداه الى استغلال الطقوس والمناسبات الدينية لتمرير الخديعة فنشاهد عدد كبير من المسؤولين يستثمرون الطقوس لأغراض شخصية حيث تراهم يتسابقون على الظهور في مجالس العزاء بالملابس السوداء والمشاركة في تحضير وجبات الطعام والمسيرات والقاء الخطب وتقديم الدعم المالي للقائمين على اعداد هذه الفعاليات وكل ما يقومون به مكشوف النوايا وهو استمالة البسطاء لشخصهم وليجعلوا منهم قاعدة انتخابية تتيح لهم الوصول الى السلطة، وهذه الأساليب المفضوحة لا تنطلي على الشعوب الواعية حيث سرعان ما تكتشف هذه الشعوب الخديعة فتقوم بازاحة الساسة السيئيين عن المشهد السياسي واستبدالهم بساسة وطنيين حريصين على بناء الدولة ورسم مستقبل مشرق لأجيالها، أما الشعوب المخدوعة بالشعارات والخطابات الزائفة فانها تبقى أسيرة الخداع والتلاعب بمستقبلها، فالنصوص الدينية وجدت لإصلاح الحياة وليس لاستغفال البسطاء والتسلق عل اكتافهم من أجل تحقيق منافع دنيوية .

***

ثامر الحاج امين

يعيش الإنسان محمولاً على كتفيه ثقل الحاضر، مثقلاً بأخبارٍ تتشابك كالأشواك، ومكدوداً بأحوالٍ تتغيّر أسرع مما يتغيّر مزاج الطقس. ومع ذلك يبقى للجمال، ذاك المسافر الخفيف، قدرة عجيبة على أن يشقّ نفقاً في الجدار، وأن يفرض حضوره مهما ضاقت المسالك. إننا - شئنا أم أبينا - لسنا سوى قنوات تعبر من خلالها شرارات الجمال، تتنقّل فينا كما يتنقّل التيار في الأسلاك الخاملة.

وحين تصبح الحياة ضيّقة مثل صندوقٍ خشبي، قليلة القابلية للنشر والبهرجة - فلا سفرٌ كثير، ولا صالات رياضية، ولا مطاعم رائجة أو منْسية - يبدأ المرء في تخصيص وقتٍ لصيد الجمال كما لو كان يصطاد «بوكيمونات» متخيّلة. وكلما خرجت شخصيا من المدن، أدركتُ أن هذا الصيد لا يحتاج إلى شبكاتٍ واسعة؛ يكفي أن تتفتح جهنميةٌ على السور، أو يصدح هديل يمامةٍ عند الفجر حتى يتوهّج العالم. وأرى الجمال أيضاً في حياة الآخرين؛ أراقبه من دون حسد، كمن يعترف بأن ما يملكه الآخرون سيكون - بطريقةٍ ما، وفي زمنٍ ما - له أيضاً. وأجده في الكتب، أو بالأحرى عبرها، كأنها نوافذ تطل على حدائق الآخرين.

قرأتُ أن فان غوخ قال - وهو الذي كان يحوّل الألم إلى ذهبٍ لغوي -: «كما نأخذ القطار للانتقال إلى تَراسكون أو روان، نأخذ الموت للسفر إلى نجم». ووجدتُ هذه العبارة في آخر مقالات أنطونيو خ. مالدونادو في كتابه «حواس الزمن»، وهو كتاب بطعم الشاي المغربي: حزنٌ فيه نزعة حيوية، وطبقاتٌ تتوالى، وأثرٌ يبقى كعلامةٍ دافئة في الحلق، ويخلّف رغبة صغيرة في الابتسام؛ تلك الابتسامة التي لا تأتي من البهجة بل من إدراكك المفاجئ أنك إنسان، صغيرٌ جداً وكبيرٌ جداً في اللحظة نفسها. فالعظمة الحقيقية للإنسان تكمن في معرفته الحقيقية بصِغَره.

كتب مالدونادو مقالاً لا غاية له ولا أطروحة له، وهذا ما جعله يعاني في إنهائه. كانت مهمته الوحيدة أن يندهش معنا وأن يتركنا نتمتم بدهشةٍ تشبه ضحكةً مكبوتة. يعجبني تيهه «الوالسيري»، ذلك التيه الذي يقترب من الهذيان الجميل، لأنه يتكلّم كثيراً عن الفيزياء الكمّية.

نحن نحبّ الفيزياء الكمّية تماماً كما نحبّ النسبية، وحتى النيوتنية! كأنّ كلّ فرعٍ من فروع الفيزياء يفتح فينا نافذة صغيرة على هشاشتنا. «عظمة الإنسان تكمن في فهمه لصِغَره»… ونفهم هذا الصغر جيداً حين نواجه عالماً يعمل بقوانين لا تنصاع للحدس، لكنها - بطريقةٍ ما - تشبه الشعر.

بدأ شغفي بهذه المواضيع منذ سنوات قليلة، بدافع الدهشة ولأجلها ومن خلالها. شاهدت محاضرات معهد الفيزياء النظرية بنهم، وقرأت بعض الكتب، وتأمّلت بمراهقة فكرية لا تخجل من سذاجتها. ووجدت لذّة غير متوقعة في مفاهيم تبدو كأنها التقطت من متحف بورخيس أو من أفلام الغرب الأمريكي المتأخر أو من أناشيد المريدين:

أفق الحدث، التشابك الكمّي - ذلك «الفعل الشبحي عن بُعد» الذي أذهل آينشتاين -، اللامحلية، مبدأ عدم اليقين… كلها كلماتٌ فقيرة رياضياً لكنها غنية شعرياً. كأن الفيزياء منحت للأدبيين الذين تركوا الأرقام إلى غير رجعة فرصةً ثانية للاندهاش دون أن يُطلب منهم اعتذارٌ عن جهلهم بالجبر.

ومع مرور السنوات، وصلنا - نحن «أهل الأدب» كما كان يسمّينا أصدقاء المسار العلمي - إلى الفيزياء عبر استعاراتها قبل قوانينها: آينشتاين يجري بسرعة الضوء، مفارقة التوأمين، شرودنغر وقُطّته التي ماتت وعاشت في اللحظة نفسها، فندق هيلبرت اللامتناهي.. كلها صورٌ تتطلب خيالاً أكثر مما تتطلب برهاناً.

لم يختلف اهتمامنا عمّا فعله أجدادنا حين وقفوا ليلاً تحت سماء مرصّعة بالنجوم، تلك التي رسمها فان غوخ بذبذباتٍ تكاد تكون كمّية.

وقد شهدتُ في الآونة الأخيرة أن كثيرين استسلموا لهذا السحر؛ يكفي النظر إلى ظاهرة فيلم «أوبنهايمر» أو النجاح الصاروخي لكتب بنخامين لاباتوت، ومن خلفهما ظهر تجار أكثر إثارة للالتباس: مدربو «التنمية الذاتية الكمّية» وبائعو الأوهام الذين يخلطون بين العلم والتهويم كما يُخلط الماء بالزيت.

نعم، نحن نحبّ ميكانيكا الكمّ.

نحبّها لأنها تقول لنا إن العالم لم يُقلِ كلمته الأخيرة بعد؛ إننا ما زلنا في مرحلة «التمتمة الكونية»، وإن خلف هذا الروتين الرمادي الذي يزداد قتامة يوماً بعد يوم، يوجد شيء مبهج، شيء يتوهّج.

ونحبها لأنها أعادت الفيزياء إلى أحضان الفلسفة والشعر في عصرٍ جاف، فصرنا نعود معها إلى البدايات الأولى للدهشة، إلى لحظة الإغريق حين وُلد السؤال قبل أن يولد الجواب، وحين كان العالم - كل العالم - تفسيراً مجازياً واحداً كبيراً.

***

محمد إبراهيم الزموري

لا يمكننا التركيز أثناء الخوض العميق في بؤرة المشاكل المستعصية، لأن الأمر قد يمتد نحو الخوض في الغشاء الفاسد الذي يفسد الزرع والإنبات. اليوم نبحث بالكشف عن نموذج من إجراء المحاكاة المحتملة لتوقع حلول شافية وممكنة التطبيق لكل المشاكل غير المستفحلة! حتما، قد نصطدم مع مشاكل ذات أحجام متنوعة وتراكمية ولما لا تراكمية من زمن الخلق والبدايات البشرية، لكنا لا نقدر على البرهنة بأن تلك الحلول لن تصنع مشاكل أخرى رديفة ومستجدة، وقد تزيد حياتنا ثقلا لا قدرة لنا على حمله أسفاره على الإطلاق.

تتنوع المشاكل التي قد تعترض الجميع من الصنف الخفيف إلى الصنف الأشد ثقلا إلى المتوسط منها، من تم قد لا تكون هنالك حلول نمطية تتشابه وتتواقف في المخارج والانفراجات بين عموم ما يعترضنا من متاعب الحياة الاجتماعية.

في خضم المشاكل (يحميكم الله منها)، يُمكن أن يُولد الإنسان أكثر من مرة، وقد يحمل أكثر من اسم في تنوعها وتشابها. فقد يكون ممن يصب النار على زيت حمئة. وقد يكون من ذوي الأعراف لا هو مع زيد ولا ضد عمرو. وقد يكون ممن يبحثون عن الحلول التوافقية والعودة بالمشكلة إلى نقطة الصفر. وقد يكون ممن يتنبؤون بالحلول ومن ما يحدث لاحقا، وهو يزهو في معيارية التنظير وعلم النفس/ الاجتماعي، والحكمة النمطية.

المشاكل بِجلِّ مواصفاتها وتشعباتها تسعى إلى تدمير الذات والوضعية الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، لكنها حتما تبقى صناعة حصرية من ابتكاراتنا المتعارضة والمتباينة والمتهالكة. فبدل إدخال الدماغ في قوقعة السلحفاة، فقط أخبرني من تكن؟ وبهذا قد أضع فكري في نفس القوقعة للحصول على رؤية جلية وهوية زمنية للمشاكل. وبالرغم من معرفة سلم المشكلة المشتتة، فلن أضع حلولا لما يعترض ذواتنا من عوائق، ولكني أقدر على خَبْرِ الأفكار نحو القرارات الممكنة بالحلول السهلة، وهذا مما يمكن إقامة علامات تشوير ميسرة. من تم فمن يمكنه رؤية الأفكار، يجب علينا تأمينها بالحماية، والكتمان وخفض الأسرار من الفضح المميت.

مشاكلنا لا تنتهي بالحاضر، بل تسلك عبورا عبر الطريق السيار نحو المستقبل، وقد تمسنا بالذكريات وكأنها تحدد هويتنا وبصمتنا الجينية. لذا لا نبحث عند الحلول التي تقتل وتصنع الانعزالية، بل لا بد من تذكر أن الأشياء التي ترتبط بذات المشاكل لا تنزوي نحو السلبية أو الإيجابية والتوقف (STOP)، وإنما تسعى لخلق المطاردة المتواصلة والمفحمة في موقد النار بالتهشيم والدخان والرماد.

من الحكم القديمة، ألا نرسل أرنبا لقتل ثعلب، فقد نضيع الأرنب عنوة في نزال فاشل وخاسر. لذا من الحكمة السديدة وضع العقلانية والصدق فوق كل الاعتبارات، وتجنب التحجر في الرأي والرأي المضاد، والذي لن ينفك يقضي على الذات والآخر ويستهلك الحياة في مواقف لا قيمة لها بالوقوف الإجبار (STOP) ومن بعده ضابط رقيب وحسيب.

حقيقة، نريد حياة بلا حروب كبرى ولا صغرى. نريد حياة بلا حروب مشاكل متجددة ولن تنتهي بتلك الحلول الممكنة والسهلة. نريد حياة بلا عذاب ضمير ولا عذاب مستيقظ من الآخرين في المنعرج الغائر. نريد حياة بلا ألم ولا وجع من محيطنا الصغير إلى الكبير. نريد حياة تصنع العدل والكرامة والقيم والمنطق العقلاني والعدل.

***

محسن الأكرمين

 

عندما تطرح فكرة تغيير سعر الصرف لأي عملة تجاه الدولار مثلاً، تثار حولها الكثير من المخاوف والتساؤلات والقلق.

سعر الصرف هو عبارة عن علاقة حسابية بين عملتين تستخدم في التسويات الدولية.

لاتوجد عملة واحدة في العالم ليس لها سعر صرف تجاه العملات الأخرى. لانه بدون ذلك سوف تستحيل عملية تسوية الحسابات بين الدول والناتجة عن التجارة الدولية وباقي التعاملات.

كيف يتم تحديد سعر الصرف؟

هنالك عدة نماذج من آليات تحديد سعر الصرف:

- سعر الصرف المحدد رسمياً، حيث يقوم البنك المركزي بتحديد العلاقة التحويلية بين العملة الوطنية والعملات الدولية القابلة للتحويل (العملات الصعبة) او مع عملة واحدة منها كالدولار (كما هي الحال في العراق حيث كان الدينار ولازال مرتبطاً بالدولار الامريكي بسعر صرف تحدده السلطة النقدية).

- الاسلوب الثاني في تحديد سعر الصرف هو اسلوب التعويم، حيث يترك سعر الصرف عائماً وتحدده عوامل العرض والطلب على العملة الاجنبية.

- الاسلوب الآخر هو التعويم المدار، حيث يتم تعويم سعر الصرف ولكن البنك المركزي يراقب حركته في السوق ويتدخل من خلال عمليات السوق المفتوحة عن طريق طرح المزيد من العملات الصعبة او سحبها لإبقاء سعر الصرف ضمن الحدود المرغوبة ( تستخدم بعض الدول النامية هذا الاسلوب)

- الاسلوب الآخر هو ربط العملة بسلة عملات بحيث يكون سعر الصرف هو متوسط تحركات تلك العملات حيث ان بعضها يرتفع وبعضها ينخفض.

***

د. صلاح حزام

صراع الأجيال هو خلافات وتوترات تنشأ بين الأجيال المختلفة، مثل الآباء والأبناء، نتيجة اختلاف وجهات النظر والقيم والتجارب بسبب التغيرات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية المتسارعة. يظهر هذا الصراع في مختلف جوانب الحياة، مثل العلاقات الأسرية والبيئة المهنية، ويمكن تخفيفه من خلال الحوار المفتوح، وفهم الآخر، والبحث عن أرضية مشتركة بين الماضي والحاضر

كثيرة ومثيرة هي الدروس والعبر التي تنسجها المواقف والحكايات في هذه الحياة المليئة بالدهشة والأسرار، وكل ما علينا أن نفعله هو أن نتلفت بلهفة وشغف من حولنا، لنُشاهد السماء وهي تُلهم أسراب الطيور المهاجرة باتجاه محاضن البهجة والجمال، ونراقب الأشجار وهي تحمي أزهارها بكتيبة من الأشواك، ونُمعن النظر في عالم الحشرات المكتنز بالقصص الملهمة

يبدو أن العلاقة بين الأجيال والعصور، عادة ما تكون مثيرة وملتبسة، فلكل جيل أفكاره وقناعاته ولكل عصر أدواته وظروفه التي تختلف بالضرورة عن الأجيال والعصور الأخرى، ولكن المشكلة تبدأ حينما تُفرض الأفكار والآراء بشكل مباشر وباتجاه واحد، يصنع ما يُشبه الاغتراب والتنافر بين الأجيال والتجارب المختلفة والمتعاقبة. فقد تجد في العائلة الواحدة، ثلاثة أجيال مختلفة في الأعمار والأفكار والرؤى، وهو أمر طبيعي ولا يدعو للخوف أو القلق، ولكن الصراعات والصدامات والاختلافات التي تنشأ بين الأجيال الثلاثة هي التي تستحق التفكّر والتأمل والحذر

صراع الأجيال ظاهرة اجتماعية ثقافية تعيشها المجتمعات الإنسانية؛ وهو عبارة عن صراع أيديولوجي بين جيلين اثنين: جيل قديم راديكالي ومحافظ، وجيل جديد يدعو إلى الحداثة والمعاصرة، فالأجيال تتوالد والسلف يورث الخلف عاداته وتقاليده ومعتقداته وقيمه، فإيقاع الحياة هو المختلف، فالخلاف هو خلاف طبيعي ضمن سياق التطور الاجتماعي، وهي قضية مجتمعية مهمة لأنها قد تضعف العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة نتيجة للتباينات والاختلافات في الآراء والمواقف ووجهات النظر وتضعف من كيان الأسرة.

حسب علم الاجتماع التغير في حجم وشكل المجتمع مصحوب دائماً بتغير في المفاهيم وأساليب الحياة الجديدة من أجل أن يستطيع المجتمع التكيّف مع هذه التغيرات والحفاظ على التوازن وتحقيق الاستقرار، لذلك من الطبيعي أن تتغير شخصية الإنسان طبقاً لما يدور حوله من تحولات وتطورات في شتى مجالات الحياة، وبالتالي فإن هذه العلاقة الجدلية والضرورية بين الشباب وكبار السن ممن دخلوا في مرحلة الشيخوخة حالة صحية وطبيعية ومرتبطة بطبيعة الفرد والمجتمع ومسيرة الإنسان، وهي حالة عامة لا تقتصر على شعب واحد أو مجتمع واحد، ففي كل مرحلة من مراحل الحياة البشرية تكون هناك فجوة بين الأجيال المختلفة في الأعمار والأفكار والطموحات وهذه الفجوة تتراوح بين خيارات الصراع والانعزال والتكامل بين هذه الأجيال.

التواصل بين الأجيال لا يعني تطابق الآراء، بل يعني القدرة على الإصغاء والفهم قبل الحكم. فحين يفهم الكبار أن التكنولوجيا ليست عدوًا، بل وسيلة، ويفهم الصغار أن القيم ليست قيودًا، بل جذور، يبدأ الجسر بالتشكل، المؤسسات التربوية والأسرة تلعبان دورًا محوريًا في تقليص فجوة الأجيال...

لطالما وُصف صراع الأجيال بأنه معركة أزلية لا يخلو منها زمان أو مكان. جملة واحدة تُقال كثيرًا على لسان الكبار: "جيل اليوم لا يشبهنا"، تقابلها نظرات تمرد في عيون الشباب، وكأن بينهما جدارًا من الاختلاف لا يمكن هدمه. فهل هذا الصراع أمر طبيعي ناتج عن اختلاف الزمن وتطوره؟ أم أنه نتيجة خلل في جسور التواصل التي لم تُبْنَ كما ينبغي؟ السؤال معقد، والإجابة تتطلب تأملًا عميقًا في طبيعة الإنسان والمجتمع.

إن صراع الأجيال ظاهرة اجتماعية متكررة؛ فهو ليس وليد العصر الحديث، بل عرفه التاريخ عبر العصور. فأفلاطون نفسه اشتكى من جيل الشباب، وقال إنهم "لا يحترمون الأكبر منهم سنًا ويفضلون الثرثرة على العلم". وهذا يُثبت أن الاختلاف بين الأجيال ليس جديدًا، لكنه يتخذ أشكالًا مختلفة تبعًا للتغيرات الثقافية والتكنولوجية.

في العصر الحديث، تسارعت وتيرة التغيير إلى حد جعل الهوة بين الأجيال أوسع من أي وقت مضى. التكنولوجيا، على سبيل المثال، غيّرت طرق التفكير والتفاعل وحتى القيم. جيل الآباء الذين نشؤء في عالم دون إنترنت، قد لا يفهم تمامًا احتياجات جيل نشأ على وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي. ومن هنا تبدأ التصادمات: الأب يرى ابنه "مدمنًا على الهاتف"، بينما الابن يرى والده "منفصلًا عن الواقع".

لكن السؤال الجوهري يبقى: هل هذا الصراع حتمي وطبيعي، أم يمكن تلافيه بالتواصل الفعال؟

الحقيقة أن جزءًا كبيرًا من هذا الصراع ينشأ من سوء الفهم، وليس من جوهر الاختلاف. فكل جيل يعيش زمنًا مختلفًا، يحمل تحدياته الخاصة، ويحتاج إلى أدوات فكرية وسلوكية تتلاءم مع عصره. ما يحدث في الغالب هو أن الأجيال الأكبر تحاول فرض معاييرها على الأصغر، بينما الأخيرة تحاول التحرر وبناء هوية مستقلة. وهنا يحدث "الخلل في التواصل"؛ كل طرف يرفض الإصغاء للآخر، ويظن أنه يمتلك الحقيقة كاملة.

التواصل بين الأجيال لا يعني تطابق الآراء، بل يعني القدرة على الإصغاء والفهم قبل الحكم. فحين يفهم الكبار أن التكنولوجيا ليست عدوًا، بل وسيلة، ويفهم الصغار أن القيم ليست قيودًا، بل جذور، يبدأ الجسر بالتشكل.

المؤسسات التربوية والأسرة تلعبان دورًا محوريًا في تقليص فجوة الأجيال. فعندما تُعلّم المدارس الطلاب كيف يحاورون باحترام، وتُدرب الأهالي على فهم نفسية المراهق لا السيطرة عليه، يصبح الحوار أكثر توازنًا. وسائل الإعلام كذلك يمكن أن تسهم في تقديم نماذج إيجابية للحوار بين الأجيال بدلًا من تضخيم الفجوات.

في نهاية المطاف، صراع الأجيال ليس قدرًا محتومًا، بل فرصة ذهبية للنمو المشترك. نعم، هناك اختلافات، لكنها لا تعني العداء بل التنوع. الطبيعة علمتنا أن التنوع يولد التوازن، كذلك هو حال المجتمع. حين نتعلم كيف نُصغي بدلًا من أن نحكم، كيف نُرشد بدلًا من أن نفرض، حينها فقط تتحول الفجوة إلى جسر، والصراع إلى تعاون.

الجيل الجديد لا يريد أن يهدم الماضي، بل يريد أن يفهمه ليبني عليه. والجيل القديم لا يريد أن يوقف الزمن، بل أن يُطمئن قلبه بأن القيم ستبقى. وبين هذا وذاك، تكمن قوة الكلمة والحوار. فلنعد بناء الجسور، لأن جيلًا يفهم الآخر هو جيل لا يُهزم.

أطفالنا وشبابنا وأجيالنا الجديدة، بحاجة ماسة لأن يصنعوا حياتهم كما يُريدون وكما هي طريقة حياتهم وطبيعة ظروفهم، لا أن نُرغمهم تحت ذرائع النصح والإرشاد على أنماط وأساليب لا تُشبههم. نعم، قد نُمارس دور المراقب والمعلم بشكل أنيق ومدروس لكي نعطيهم ونزودهم بكل ما نملك من خبرات وتجارب قد تُعينهم وتُساعدهم على تجاوز الكثير من المصاعب والتحديات ولكن دون أن يُفقدهم القدرة على التحليق في أحلامهم

***

نهاد الحديثي

 

التشجير والتعمير من أساسيات الحياة الحرة المستقيمة، التي تحفظ الكرامة وتعز الوطن والمواطنين. وهناك علاقة خفية بين المطر واللون الأخضر وكأن الشجر في تخاطب متواصل مع السماء. التشجير بحاجة إلى منظومة رعاية، فالشجرة تريد من يرعاها، فالتشجير بلا رعاية جهد ضائع، وتدمير للبيئة وعدوان على الحياة.

المياه الجوفية وشق الأنهار الموازية والبحيرات وبناء الخزانات ومنع الهدر المائي إجراءات وقائية ضرورة لصناعة الحياة الطيبة ، ومياه النهرين من المفروض أن تسقي تراب وأبناء البلاد لا أن تذهب إلى البحر.

حدود المدن عليها أن تكون من أشجار الكالبتوس الدائمة الخضرة، والتي تحمي ضد الهجمات الغبارية والرملية.

والنخلة من أولويات الشجر الذي عليه أن يكون في كل مكان يناسبه، لأن النخلة عنصر مهم في سلة الطعام، فهي التي تمنع الجوع وتوفر العديد من الحرف والتفاعلات الإقتصادية النافعة.

أما الإعمار فمن ضرورات القوة النفسية والعزة والكرامة الوطنية، وتنمية الثقة وتحفيز القدرات على التفاعل المتميز مع العصر، وفي البلاد الكفاءات الهندسية الكافية لبناء وطن متفوق عمرانيا على ما حوله من الأوطان، فهو يمتلك المواد والعناصر والقدرات الجاهزة للإنطلاق في حملة إعمار وطنية.

الوطن الأخضر الجميل بعمرانه الباهي المتميز يعز أبناءه ويطعم المشاعر الوطنية بما هو إيجابي، ويشد المواطن إلى تراب بلاده، ويمنحه شعورا بالسعادة والسرور، فيتماهى معه، ويذود عنه ويشارك في بناء حاضره ومستقبله.

لابد من برامج وخطط وآليات رعاية وإدامة لكل خطوة أو مشروع.

الأشجار بحاجة للماء، وعندما ننطلق بمشاريع كهذه لتوفير منظومة إرواء قادرة على تأمين حياة الشجرة ورعايتها وفقا للضوابط الخاصة بها .

وبما أن البلاد فيها مخزون هائل من المياه الجوفية، فيمكن للأشجار بعد فترة أن تصل بجذورها إليها، فتستغني عنا، وتتمكن من إرواء نفسها، فربما تكون رعايتنا للشجر قصيرة الأمد، فحالما تستقر الشجرة في مكانها تصبح قادرة على الحياة لوحدها.

المجتمعات التي لا تهتم بالتشجير ولا تحترم اللون الأخضر يداهمها الخطير.

التشجير يساهم في تنشيط التفاعل الإيجابي مع الحياة، ويدفع إلى طرد التصحر وإستدعاء الأمطار، فالعلاقة بين الشجر والسماء خفية وذات مخاطبات متبادلة، فعندما تعطش النباتات تستدعي الغيوم فيهطل المطر.

قد لا تصدقون ذلك لكن النباتات عندها آليات إستسقائية متواصلة مع الفضاءات البيئية التي تكونها وتؤسس لمنطلقاتها الحياتية.

لفد علمتني الحياة في البرية وجود تلك اللغة التخاطبية بين الزرع وأسباب المطر، ولا يهم الفصل الذي تتحقق فيه أمنيات النباتات، وكيفيات إدامة مروجها الخضراء.

كان العراق يسمى بلاد السواد أي أنه كان بساطا أخضرا من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، فتفاعلت معه إرادة السماء وأرسلت الماء عليه مدرارا، تناغما مع نداءات الزرع المتسامق في ربوعه.

ويبدو أنه أبتلي بأجيال تقطع ولا تزرع، فذبلت مروجه وتحول نخيله إلى أعجاز خاوية، ونشطت إرادة الصحراء فزحفت على الأراضي الخصبة وأحالتها إلى يباب، وشارك النهران بغضبهما على الذين لا يحترمون الماء والتراب فساد التصحر والجفاف، وعز عطاء الأرض، حتى صارت البلاد تستورد الخضراوات من باقي البلدان.

حياةٌ دون تشجيرٍ خواء

فصن وطنا يباركه الرجاء

علائم هوننا إنا قطعنا

فعز طعامنا وطغى البلاء

إذا الأقوام ما زرعت نباتا

توسدها التذلل والعناء

***

د. صادق السامرائي

 

تاخرت ولادة العراق في مايعرف بالعصر الحديث، ومع ان  الموضع المعروف بما بين النهرين قد ابتدا بالتشكل في دورة راهنه ثالثة منذ القرن الخامس عشر وتحديدا السادس عشر مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك" 1530في ارض السواد سومر التاريخيه، الا ان العملية المشار اليها كانت ابعد من ان تكتمل مولدة الصيغة التاريخيه الازدواجية الامبراطورية اللاارضوية كما الحال ابان الدورة الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، ومابينهما من فترات انقطاع اول من سقوط بابل الى الفتح الجزيري، والحالي الثاني المستمر من عام  1258مع سقوط العاصمة الامبراطورية وتحولها الى مركز براني تتعاقب عليه السلالات والدول واشباه الامبراطوريات، الى ان حضر الانكليز مع العقد الثاني من القرن العشرين، وتبدل نوع البرانيه بحكم تبدل المرحلة التاريخيه المجتمعية بعد انبثاق الاله في اوربا، وماتولد عن ذلك من متغيرات نوعيه على مستوى المعمورة.

 اي ان ارض مابين النهرين مرت خلال فترة الانقطاع الحالي المستمر من سقوط بغداد بفترتين من البرانيه، الاولى يدوية هي الاطول، وثانيه تبدا مع القرن العشرين، وانقلابيه آليه مختلفة نوعا وعلى مستوى الوسائل واشكال ممارسه الحضور البراني، في الاولى مر ت ارض السواد ابتداء مابين القرن الثالث عشر والسادس عشر بفترة من الفوضى الانتاجية  وفي المجالات كافة، وفي الثانيه اخذت تتبلور صيغ من الحضور المستقل من دون اعلان، بدات بالفترة القبلية  المنتفجيه، ثم ومع القرن الثامن عشر  بتبلور فترة الانتظارية الحديثة النجفية، كانت بغداد خلالها  تحكم ذاتها، سلطتها لاتتعدى العاصمة المنهارة  مقابل العراق الاسفل المستقل عنها من دون اعلان، وبلارغبة في ذلك لاسباب تتعلق بالكينونه، مع ان الفترة المذكوره لم تخل من  احداث من نوع الثورة الثلاثية 1787 تحررت فيها المنطقة الممتدة من بغداد الى الفاو، ناهيك عن جمله من التصرفات الداله على الاستقلاليه بلا استقلال، مثل طرد اتحاد قبائل المنتفك للصفويين من البصره، وتحريرها منهم من دون تدخل من بغداد واجمالي ماكان يحكم منطقة ارض السواد فعليا، بغض النظر عن توهمات بغداد وصولا الى 1831  واضطرار العثمانيين لاعادة احتلال بغداد ضمن مسلسل التعاقب الساري، ومحاولة الاتراك ايجاد صيغة احتواء  للعراق الاسفل، ابرز مظاهرها بناء مدينه الناصرية عاصمة اتحاد قبائل المنتفك على اسم ناصر السعدون، وجعله اول "متصرف" للواء الجنوبي ايام مدحت باشا.

  ويمثل تصرف الاتراك العثمانيين وقتها بدايات التحول الى البرانيه الحديثة الاليه بالواسطة ابتداء، ماقد مثله للحاجه ضمن الاصطراعية بين العراق الاسفل والاعلى، اخر المماليك داود باشا الذي جاء الى الحكم على انقاض سعيد ابن سليمان الكبير، وصهر داود  ممثل المنتفك كما ورد في رساله وجهها داود من منفاه في الشمال عند ال بابان قائلا " ان ىسعيدا حكم العرب اهل الظلم والغشامه"،وحين اقتحم داود بغداد، كانت العاصمة المنهارة تضم الف مقاتل من  المنتفج دافعوا عنها ضد هجوم داود وانصاره، ماكان يدل بوضوح على قوة الاحتمالية "الاستقلاليه" الناتجه عن الاصطراعية الازدواجيه، وهو ماقد تمثل في اعتماد داود باشا للظواهر والاساليب المنتميه للطور الحداثي الغربي المتنامي على شاكله محمد علي الالباني في مصر،والذي يشبه به  داود باشا(1) مع مايمكن ان يتوقع من احتمالات غير محسوبه، كان واضحا ان الاصطراع سينبثق عنها، وهو ماقد دفع  بالعثمانيين الى الاسراع تداركا،  باعادة احتلال العراق للمرة الثالثه وازاله داود باشا.

  لم يسبق ابدا ان جرى تناول العراق الحديث بناء للسردية التشكلية الحديثة الذاتيه، وظل يسقط لهذه الجهه المنظور البراني الغربي ومنهجياته في القراءة التاريخيه، التي  تزيل خواص التشكليه السفلى التي هي خاصية اساسية ضمن قانون الدورات والانقطاعات الخاص بهذا الموضع  الازدواجي المجتمعي من المعمورة، فلم ينظر على سبيل المثال للعلاقة بين الديناميات التشكلية التاريخيه و"المدينه" وموقعها، وكيفيات قيامها والدوافع التي تجعلها ماهي، ومن ثم فان اي حكم على بغداد الحاليه لم يصدر بما يتفق مع المسار التاريخي، باعتبارها مدينه موصولة الى الاليات الصعودية الاصطراعية الخاصة بالدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية المنتهية، والمتحولة الى مكان براني لاعلاقة له بالاليات العراقية الراهنه، على العكس من مدينه لم يكن لها من وجود، اقيمت اليوم تحت فعل آليات اللحظة الراهنه كالناصرية  القبلية،او النجف من حيث الفعالية المميزه ب"نظام الاجتهاد"، وهما مدينتات راهنتان  مقارنة ببغداد واجمالي وجودها ودورها الراهن.

  ولان فكرة الاحادية البرانيه راسخه وهي الحال الباقي مستمرا الى الان، فان منظور الكيانيه الموحده كبداهة لايناقش، وهو يعلو على ايه احتماليه اخرى، حتى وان ظل حضورها كواقع ومعاش  بارزا  فلم يسبق ان خطرت على البال، او بدر مايمكن ان يفصح عن اية دالة يمكن ان تاخذ اليها، فضلا عن ان تكشف عنها وعن حقيقتها المتعدية لممكنات الاحاطة البشرية، الامر المميز للحالة مابين النهرينبه ابتداء تاريخيا، فهذا الموضع له مقوماته التي تناظر لابل تتسامى على المعاش من ممكنات انتقالية مجتمعيا، وجدت مرتهنه للشرط الانتاجي اليدوي، وخاصياته الجسدية الحاجاتيه، الا في  ارض السواد حيث توفرت بيئيا تحديدا،  الاسباب الضرورية لقيام مجتمعية "لاارضوية" بحكم المجافاة الطاردة بيئيا لدرجة العيش على حافة الفناء، ومن ثم انتاجيا، مولدة نمطا مجتمعيا، ونوعا غير قابل للتحق في كيانيه موضعية، تجلت ابتداء وضمن الاصطراعية الاولى السومرية البابلية بالابراهيمه كصيغة تعبيرية مجتمعية لاارضوية كونيه،  متعدية للمكان والقوم، او الجغرافيا، ومرتكزة الى الكينونة البشرية الازدواجية هي الاخرى، (العقل /جسدية) بعكس مايعتقده الارضويون مكرسين الاحادية الجسدية.

    ولابد من التذكير بكوراجينا حيث عرفت للمرة الاولى في التاريخ البشري كلمة (حرية / امارجي) وكل حقوق الانسان التي يتغنى بها اليوم، مع حقوق المستضعفين في الدورة الافتتاحية الاولى، والقرامطة واخوان الصفا والاسماعيليه  والحلاجية وغيرها في الثانيه، ثم الى  السناين التي لم يسبق ان سمعنا باحد من عباقرة "علم الاجتماع"الحديث قد حاول النظر فيها والتعرف على جنسها ونسبتها المجتمعية، هذا غير "الحسجة" ومنظومه الاطوار الشعرية الحديثة، كما لم يحدث اطلاقا ان سمعنا عدا صراع البداوة / الحضارة، توقفا عند شخص " الفريضة" ماهو ومادلالة وجوده في العشيرة، والاهم شخصية اخرى باهرة هو "العارفة"وجمعها " العوارف" وكلها موضوعات متعلقة بالعتبة القبلية المنتفجية، مايتصل بها بالكاد يجري التعرض له بابتذال منقول ومقزز تحت يافطة جاهزة باسم "الفولكلور" باسقاط مجحف ومزر لكينونه تشكلية وتعبيرية مجتمعية بدئية رفيعه نوعا مقارنه بتلك الكيانوية الارضوية .

  اما الاهم والاخطر كمنجز تعبيري مجتمعي  مسقط من الاعتبار والحسبان فظاهرة النجف و" نظام الاجتهاد" الذي ابتدعته،  لمجموعه من الفقهاء "المفكرين" الذين يسكنون مدينه على طرف ارض السواد، يمارسون دورهم الفقهي الحياتي، متحولين الى  قيادة ودولة لادوله لاوجود لها الا في الخيال البشري واليوتوبيا، لانظام محدد وملموس يحكم دينامياتها ويقرر زعامتها لصالح "مجتهد اكبر" لابالانتخاب ولا التصويت، بل "بالصيته"  والحضور،اسلوب تداول المشيخه المشاعية غير الوراثية في ارض السواد، هذا غير نظام التقليد وارتباط العشيرة المشاعوديمقراطية بالفقيه، الى ان وجد الخميني في نظام "المجتهد الاكبر" ممكنا ارضويا يطابق كينونته، فبادر الى تحويره الى نظام سلطوي عادي باسم "ولاية الفقية"، التي هي بالاصل ولاية " المجتهد" الاكبر النجفي، كل هذا ولم يحدث اطلاقا ان عرف في العراق الى الساعة اي مسعى يمكن ان يفتح الباب ل " ثقافة عراقية"، مرهونه للذاتيه المجتمعيية التاريخيه بل ظلت المحفوظات والمقولات الجاهزه المنقولة تمحي العراق من  الوجود، بلا اي مظهرذاتي، هو بالاحرى لازمه، حدوثها ابتداء ثورة كونيه لااكتمال للمنظور البشري وللاستمرارية الحياتيه من دونها.

    ـ  يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

منذ الأزل والحروب ذات غايات وأهداف إقتصادية، وكانت على مدى قرون هي التفاعل الإقتصادي السائد بين البشر، فالتقاتل بينهم دام طويلا ولا يزال، وقبل الدول كانت القبائل والجماعات تتقاتل من أجل الموارد بأنواعها، وما نجت مجموعة بشرية في أي مكان وزمان من هذا السلوك.

والقول بأن العرب لوحدهم كانوا يتقاتلون وغيرهم من بشر الدنيا ملائكة متآلفين، فيه الكثير من الإجحاف والتضليل.

فهل كانت شعوب الأرض في زمانهم لا تتقاتل؟

وتجدنا نركز على حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس، ونتجاهل حرب المئة عام بين فرنسا وبريطانيا، ونصم العرب بالجاهلية وكأنهم أوباش ووحوش تفترس بعضها، وهذا أفك وبهتان.

العرب كانوا يحترمون الرأي الآخر، ولا يتقاتلون بسبب المعتقد، والدليل أن الكعبة كان فيها عشرات الأصنام التي تتبعها القبائل، وكانوا يحجون إليها ويؤدون طقوسهم مجتمعين بلا تخاصم أو إقتتال.

فهل كان مثل هذا السلوك قائما في شعوب الدنيا آنذاك؟

الدول التي نسميها متقدمة الآن، كانت تعيش في عصور مظلمة وتمارس أبشع السلوكيات بحق بعضها، والعرب في ذروة التوهج المعرفي والتنوير العلمي، وما تجدهم يتحدثون عما إقترفوه من خطايا وآثام وإجرام بإسم المعتقد والدين، وكانت الكنائس مستبدة ومن لا يطع أمرها يدق رأسه بالمطرقة أو يشطر إلى نصفين.

الآثار والشواهد القائمة تخبرنا بما كانوا يفعلونه في أزمنة متأخرة وحتى تحقق التحرر من قبضة الكنيسة وطغيانها.

والحروب بين الدول المتقدمة متواصلة، وهي التي خاضت الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي بداية النصف الثاني من القرن العشرين حاولت أن تتجاوز ماضيها وتفكر بمصالحها فإتحدت، ويبدو أن تلك المسيرة ربما ستساهم بعودة حليمة إلى عادتها القديمة.

نشوّهُ ماضياً نوراً تبدّى

ونحسبُ حاضراً فينا تردّى

كأنّ شعوبهمْ كانوا مَلاكاً

وإنّ شعوبَنا شرٌّ تعدّى

نَسينا إننا أبناءُ فيضٍ

إذا انْحرفتْ بساطعةٍ تصدّى

***

د. صادق السامرائي

ما اثقل وطاة مسببات الايهامية عند لحظتها ومحطتها النهائية قبل انبثاق الرؤية الكبرى المنتظرة الفاصلة، تلك التي بموجبها تلوح معالم التفارق العقلي الجسدي، وصولا الى الاحترابيه المتعسكرة مابين عالمين منفصلين كليا ومتناقضين، يدخلان اليوم زمن الامحاء المتقابل، تحت طائلة اما الفنائية الوجودية او ممكنات الاستمرارالموضوعيه الموافقه للديناميات الكونيه المضمره.

 واهم مايميز الفترة المشار اليها، انتقال تعبيريتها الرئيسية الى "العقل" من دون رؤية مواكبه ولا تصور، وهو مايميز مامعاش راهنا، فماكان يتميز ابان الطور الالي الاول المصنعي بالاصطراع الطبقي، او الصراع من اجل الديمقراطية والدولة المدنيه ومايقتضيانه ويستثيرانه من رؤى ضرورية، اصبح في الوقت الحالي انتقالية عقلية نحو مايعرف ب "الذكاء الاصطناعي"  الذي هو بحاجة لا الى التنظير، بل الى الاسقاط من الوعي والنظر،لكل الاحتمالات الخطرة المتصلة به على صعيد احتمالية ازاحه الحضور البشري في العملية الانتاجية  والابداعيه من ناحية، وهو المتوقع بظل مامعروف من انتاجوية جشعه حاجاتيه، عدا عن ايقاف مفعول الحضور البشري الفعال في  الحياة بصورة عامه، واستبداله بالمبتكر التكنولوجي المحدود،  مامن شانه تغييب الكائن البشري  عما  يتعلق بشؤونه الحيوية واجمالي وجوده.

  بالمقابل لم تظهر الى الساعه رؤى مقابله، في حين ظل القصور التاريخي العقلي حاضرا باخطر اشكاله، ومع غياب اية مظاهر دالة على الازدواج المجتمعي والبشري في الماضي، فلقد استفرد  المنظور الارضوي الاحادي، بالموقف بغض النظر عما تظهر من اراء وكتابات مخالفة ومنتقده، هي من حيث المنطلقات والحجج، ارضوية غير قادرة على فتح الباب نحو افق اخر مقابل، منطو على احتمالية اخرى مقابله، هي اليوم الحقيقة الفعليه المحركة لاجمالي ماقد بلغته اللحظة التاريخيه، مع الانتقال الى الاصطراعيه التكنولوجية الارضوية اللاارضوية.

 وليس من المنطقي ان نتخيل خاصيه للحظة التاريخيه الراهنه، مشابهه او من نوع ومستوى اية   لحظة انقلاب او تحول تاريخي مراحلي سابق ، بما في ذلك المراحل الكبرى الدهرية من نوع الانتقالات من الصيد واللقاط الى المجتمعية وانتاج الغذاء، فما نقصده ينظر اليه اليوم على اساس  انقضاء مسار ملاييني، لابل ملياري على مستوى السنين والتحولات، ابتداء من الخلية الاولى الى الوقت الراهن، هو الوجود المادي التاريخي  وارتقائيته الذاهبه الى اللحظة الحالية حيث ينقلب الكائن الحي البشري في اخرياته الى العقل، متحررا من الجسدية، ومغادرا عالم الارض الموضع المناسب للطور المادي الجسدي، والضروري لتوفير اسباب التحولية العظمى الذاهبه الى الاكوان اللامرئية.

  خلف التكنولوجيا الانتاجية الجسدية وفعلها الحالي، ومامتولد عنها، تقف اليوم التكنولوجية العليا العقلية منتظرة لحظة الوعي الضروري، وانبثاق التصورية اللاارضوية المضمرة المغيبه تاريخيا بسبب القصور العقلي الملازم لظهور العقل بصيغته الاولى الارضوية المحكومة باشتراطات اليدوية، ومع انتقال فعل التكنولوجيا من المجال الارضي الى الجسد وداخله، تظهر امامنا مسالة غاية في المنطقية الاعتيادية غير المنتبه لها: فلا احد يسال مثلا:لماذا يظل 85 بالمائة من العقل البشري خارج الاستخدام والفعل، وماالدلالة والمغزى الاصل من وجود ظاهرة كهذه، الااذا كانت ال15 بالمائة متناسبه فقط مع اشتراطات اليدوية، ثم لماذا سارت العملية الاليه، من المصنعية الى التكنولوجيا الحاليه الانتاجية، بينما المؤشرات تدل بسطوع على قرب انتقالها (2) الى الطور الاعلى الدال على امكانيه تحفيز ودفع ال85 الى الحضور، لابل والتحول الى محور اهتمام، ما يحول هذا الانتقال الى غرض وهدف اساس للوجود، بناء على كل الدالات التي تاخذ بالعقل الحالي لان يبلور موقفا اخر ضمن سيرورة تحوله من الخلية الاولى حتى اليوم، خارج منظورات القصور العقلي الارضي.

 لم تعد الصراعات ولا الثورات ارضوية، كما كانت ايام  الغلبه الارضوية  الكاسحه وهو مايشبه تقريبا  حال الجسدية ايام الحيوانيه وغلبتها شبه المطلقه، الى ان ظهر العقل بصيغته الاولى، وتبدلت التفاعلية النشوئية الارتقائية موضوعا، واليوم ومع الطور العقلي الثاني وتوفر وسيله الانتاجية المطابقه لطبيعته تكنولوجيا، ماعاد جائزا للاصطراع التفاعلي ان يظل احاديا ارضويا، بل حالة "ازدواج"، يتنامي الطرف الغائب منه مع الادراكية اللاارضوية، ذهابا متصلا، الى ان تتكامل صيغته الضرورية، وهو مايفترض بداهة استغراقه من الوقت والجهد والعمل مالا سابق له، لقد بدا الاعلان عن "اللاارضوية" (3)، اي اعلان  بد التاسيس للانقلابيه التحولية العظمى، ليغدو الجهد المركز على تبيان موضوعات واسباب وسبل الثورة  الكيانيه البشرية بلا توقف، وهو ماسيطول حكما انتظاره.

  نريد ال 85 بالمائة ذكاء بشري انساني،لاالذكاء الاصطناعي، هذا محور جهدنا ومدار فعلنا القادم، لا سلاح ولا معارك بالايدي او بالاسلحه، فمسار الحياة وماقد بلغه من تازم لن يلبث ان يتحول الى مالايمكن تجاهله او تحمله، والوسيله المادية، و الجهد العقلي المستمر والتواصل، استشرافا وتدليلا، سوف يسقط في نهاية المطاف متبقيات من نوع " الكيانات "، واشكال  وصيغ التنظيم الارضوية  وطنيه وقوميه  ومايواكبها من اشكال تنظيم مضاد للعقل، لن تلبث ان تسقط لصالح اللاارضوية الكونيه، والانتماء البشري المتحرر من كل اشكال التمايز، والوسائل من قبيل كيفيات تطوير الحضور والفعل، هي الاخرى سوف تتعزز، هيئات وتجمعات عمل اختراقي علمي تكنولوجي ومفهومي انقلابي تحولي،  بلا كيانويات ولا اوطان، فالوطن الوحيد القابل للحياة من هنا فصاعدا هو العقل الذاهب الى التحرر من وطاة الجسدية والارضوية الى الاكوان العليا، اتفاقا مع موجبات ومنطويات الوجود الكوني التحولي ولابد هنا من ان نتخيل قدر مانستطيع  حضور 50 بالمائة من ال85 المعطله فقط وكيف سيكون حال الكائن البشري واجمالي الوجود مقارنة  بالراهن الذي هو مادون 20 بالمائة ونحاول تصور مفعول قوة من هذا القبيل بما خص تسميه الكائن الحالي مقارنة بالكائن العقلي المنتظر .

 اعلم بانني اعلن بهذه المناسبه عن الثورة اللاارضوية، مع انني قد فعلت ذلك من قبل تواليا من دون توقف بلا افصاح جاء من هنا فصاعدا اوانه، وحلت ساعته.

***

عبد الأمير الركابي

.....................

(1)" عرفت الولايات المتحدة في العقود الاخيره تسارعا في تطور بدا في القرن التاسع عشر، فتوالدت جماعات دينيه كثيرة وعلى امتداد الثمانينات من القرن العشرين سعى معهد دراسات الدين الامريكي لاحصائها، وفي تقرير له نشر في عام 1988 في موسوعة الاديان الامريكيه اشار الى وجود 1586 جماعه دينيه في الولايات المتحده، منها 700 سماها "غير تقليديه"  / مدينه على جبل: عن الدين والسياسه في اميركا/ طارق متري/ دار النهار ـ بيروت

(1)            https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=608992

 يراجع الهامش.

(2) كتاب العراق/ الكتاب اللاارضوي المنتظر منذ سبعة الاف عام/ عبدالامير الركابي/ دار الانتشار العربي ـ بيروت/ ط1 ـ .2024

 

تحية لمؤرخنا الألمعي وهو يتحفنا بكتاباته المنوّرة الوهاجة بالأدلة والبراهين، والتي تبدو كوثائق تأريخية ذات طاقة تفاعلية نافعة للقارئ، وتبعث روح التواصل مع الأجيال.

فما أحوجنا للمؤرخين الصادقين الأوفياء المحايدين الذين ينيرون دروبنا، ويمدوننا بما يعيننا على مداواة ما أصابنا من العاهات، والأمراض السارية والمعدية التي توطنت وعينا الجمعي، وسلختنا من ذاتنا موضوعنا، حتى توهمت الأجيال بأنها بلا جذور ومرتكزات، أو أن جذورها فاسدة.

ما أقرأه لأستاذنا العلاف (إيراهيم خليل العلاف)، يمثل قدوة معرفية سامقة تستدعي التفاعل والإحتذاء، فهو يقدم مثالا حيا على ما يجب أن تكون عليه آليات المشاركة في وسائل التواصل والتفاعل المعاصرة بأنواعها.

فلا بد من الأمانة والصدق والأدلة والبراهين، وإحترام المتلقي والمعلومة المنشورة، ومن ضوابط وأصول سلوكية تحكم النشاطات التواصلية بين الناس.

أستاذنا العلاف، يُنبهنا بأن الأمة بخير، ويذكرنا بأفذاذها الذين شيدوا معالمها المنيفة، ومميزاتها النزيهة النظيفة، فما أبدعهم وأرقاهم، جميعنا من نسلهم الأصيل، فلماذا لا نحذوا حذوهم، ونؤمن بأنفسنا وأمتنا وبقدراتنا على التحدي والمعاصرة؟!!

أستاذنا العلاف، عطاؤه وفير، وعلمه غزير، ونشاطه كثير، وهدفه سامي وأثير، فما أحوجنا لأمثاله في زمن تحول اليسير فيه إلى عسير، وهاجمتنا أقلام العدوان على الكبير، ومحاولات إقتلاع تراث الأمة وتأريخها من وعي الأجيال، ليوهموهم، بأن أجدادهم ما أنجزوا غير الحصير، ليناموا عليه والناس تسير.

أستاذنا العلاف، لا أعرفه شخصيا، لكني أحب الموصل، وأمضيت فيها سنواتي الجامعية، وأفتخر به، لما يمثله من رمز علمي ثقافي فكري تنويري، يبرهن بكتاباته بأننا سنكون، ونأبى أن نهون، فماضينا القريب والبعيد عتيد، وفينا أباة ضيم، وبناة مجد أثيل.

فما أجمل بلادي، وأعظم شموخها وكبريائها، وأجلّ أعلامها، وأروع أقلامها، وما تقدمه من النماذج الفريدة، في ميادين الحياة العديدة.

أيها العراق، أنت علم يرفرف بالآفاق، وكينونة تعانق الإشراق!!

" العراق جمجمة العرب، وكنز الرجال، ومادة الأمصار، ورمح الله على الأرض، وحربة الإسلام، وحصن الثغور"!!

عاشت رموز العراق الأبي الخالد!!

***

د. صادق السامرائي

أية جامعة بلا كلية زراعة في بلادنا ناقصة ولا تخدم المجتمع وتفتقد دورها المعرفي البنّاء.

ليس هذيانا وتوهما ونقصا في الوعي والإدراك، وليس كلاما على عواهنه، إنها الحقيقة المريرة التي نتجاهلها، ونستهين بها، لنبقى جياعا نتوسل الآخرين لإطعامنا.

فالعقول بلا طعام تعني الحطام والعبث والخصام!!

فما هو دور الجامعات في المجتمعات التي تكون فيها؟

أي مدينة زراعية فيها جامعة يجب أن تكون فيها كلية زراعة، تساهم بتطوير أساليب الزراعة وتحسين نوعية الإنتاج، ويكون لها حقولها التعليمية وبرامجها الخاصة لتنشر الثقافة الزراعية وإجراء البحوث، والحفاظ على الأمن الغذائي.

لا يزال مجتمعنا ينظر بعين الريبة لكليات الزراعة والبيطرة، ولا يرى قيمتها وأهميتها في الحفاظ على الإقتصاد الوطني القوي.

الثروة الزراعية والحيوانية أعمدة إقتصادية راسخة في الوعي البشري منذ الأزل، وأي نكران لقيمتها الحياتية يتسبب بنكبات مريرة، ومجاعات مروعة، والمسيرات المعاصرة تشهد على ما أصاب البشرية من تداعيات آفات الجوع الشديد، وكم يموت من الأطفال جوعا كل يوم.

المجتمعات التي لا تطعم نفسها ناقصة السيادة، وتهرول وراء الذين يمدونها بالطعام.

ثقافة الطعام من ضرورات السعادة الوطنية لأنها تعلم المواطن مسؤولية إنتاج الطعام والحفاظ على الأمن الغذائي المجتمعي.

شعوب الدنيا لا تترك أي مساحة من أرضها جرداء مهما كانت صغيرة والعديد منها تزرع على سطوح المنازل وفي الشرفات لتأمين ما تحتاجه من الطعام.

ففي اليابان مثلا معظم المزروع للأكل، ويستغل الياباني القدم المربع من الأرض لإنبات ما يأكله، أما الشاي الأخضر والرز فهما المهيمنان على الساحات في البيوت والمزارع الخضراء.

فلماذا في بلداننا نعادي الشجر ونجتث النخيل، ونجرّف البساتين، بحجة الأمن السياسي على حساب الأمن الغذائي؟

السائد في مجتمعاتنا وخصوصا النفطية أن الإستهلاكية لا الإنتاجية منهج فاعل في أيامنا، ويدمر قدراتنا الإبداعية، ويناهض إرادة التفاعل الإيجابي مع الأرض، فيصيبها الجدب وتستحيل إلى رمضاء ينكرها الماء.

زراعتُنا بها نَسعى لمَجدِ

سيادتُنا بلا زرعٍ كندِّ

هي الأوطانُ في أرضٍ تنامتْ

وإنْ غفلتْ تواصَتْ بالتردّي

فهلْ غَنِمَتْ شعوبٌ مُرتقاها

إذا عَجِزتْ وعاشتْ دونَ مَدِّ

***

د. صادق السامرائي

في رحاب الحياة يسير الإنسان غالباً وفق فسطاطين متناقضين الفسطاط الأول مؤنس لذاته يستلهم رؤيته من آفاق عميقة تنبع من قيم أخلاقية وربانية ومن مبادئ توازن وجوده وتحكمه في مسيرته. هذا المرء يقيم أفعاله وفق ضوابط واضحة وينظر في قراراته بعقل وضمير فلا تجره العواطف السلبية أو الأهواء الخاطفة إلى الهلاك والدمار بل توجهه نواميس الحياة السليمة ومنطلقاتها إلى الرشاد والصواب.

أما الفسطاط الثاني فهو مضل يسير على هوى مطاع وتخبط عشوائي لا يعرف له قواعد تحكم أفعاله فيضل في ظلام دامس وقد يقوده ذلك إلى الندم والخراب فهذا هو شيطان النفس الذي يستغل ضعفنا ويجرنا وراء الأهواء والمصالح الشخصية الضيقة متجاهلاً عواقب أفعاله وينسى ضوابط العقل والفطرة السليمة السمحاء التي خلقنا بها مذ ودلاتنا وخروجنا ورؤيتنا النور في هذه البسيطة.

في الحياة الأسرية:

في الحياة الأسرية الوالدين الذين يربي أبناءهم وفق قيم الاحترام والتفاهم يزرعون فيهم الثقة والمسؤولية ويكسبون محبتهم وولاءهم، مثال ذلك الأم أو الأب الذي يستمع إلى أولاده بحنان ويشاركهم اهتماماتهم ويعلمهم تحمل المسؤولية، بينما من يتصرف وفق أهوائه يغضب بلا سبب فيفرض قيوداً تعسفية أو يتجاهل احتياجات الأسرة فإنه يزرع الفوضى وعدم الاستقرار النفسي كما يحدث مع أحد الآباء الذي يتأفف من كل تصرف صغير لأطفاله وينسى أن يراعي ظروفهم ومشاعرهم واحتياجاتهم بما يتلائم مع مراحل نموهم ونشأتهم.

في بيئة العمل:

ففي بيئة العمل الموظف الذي يتصرف وفق قيم النزاهة والانضباط والامتثال يحصد احترام زملائه وثقة رؤسائه ويصبح مؤثراً في تقدم نفسه والمنظمة التي يعمل بها ويثري نجاحها بتميز وتألق. فعلى سبيل المثال موظف يلتزم بمواعيده ويكمل مهامه بجدية ويقدم دعماً لزملائه عند الحاجة يزرع جواً من الإنسجام والألفة والاحترام والمحبة ، ويرسي قواعد من التعاون والشراكة الإيجابية، بينما الموظف الذي يستسلم لهواه في سلوكيات وممارسات الكذب أو التملق أو الاستغلال الشخصي والمنفعة الأنية فغالباً ما يؤدي ذلك إلى فقدان مصداقيته وأمانة تصرفاته مكانته ويصبح عبئاً على نفسه والجميع كأن يتفتقد الإخلاص في عمله، لا ينتمي ولاءاً له، يتجاهل أخطاءه ويتهرب من المسؤولية الملقاة على عاتقه، يغش ويدلس، يقرب ذاك ويبعد آخرين، لا يتورع عن التزييف في عمله وتقاريره حتى يخفي ضعفه وتقصيره.

في التعامل مع الذات:

في التعامل مع الذات الشخص الذي يلتزم بالصدق مع نفسه يعترف بأخطائه ويتعلم منها يعيش مطمئناً وسعيداً بنموه الشخصي وما يحمله من قيم وأخلاص وقواعد وضوابط في حياته المهنية والاجتماعية. مثال ذلك الشخص الذي يراجع قراراته بعد أي خطأ ويصحح مساره ويحرص دوماً على النقاء والجودة في حركاته وسكناته، دائم التطلع إلى ما هو أفضل وأصوب في عمله ومهامه، لا يهمه تعبه وما بذل من جهود في الأداء الذي يبذله ويقدمه، همه أن يسعد نفسه ويميزها ويقدم الأداء الذي يليق بطموحه ورؤيته.

بينما من يبرر أفعاله السلبية ويدافع عنها باستماته وكل ما أوتي من قوة، يترك نفسه تحت تأثير الشهوات أو الغضب الذي يسكن بداخله، فإنه يترك للشيطان الداخلي مجالاً ليقوده نحو القرارات المدمرة كأن يصر على عادة غير إيجابية أو قرار متهور رغم معرفة العواقب التي قد تحصل له ولغيره، لا يهمه سوى مصلحته والمنفعة التي يجنيها من وراء ما يفعل ويعمل. فشتان ما بين صاحب رؤية صادقة وعظيمة تدفع للمنفعة والمسرة وما بين سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً سوى الخداع والكذب البواح.

الخلاصة والرسالة النهائية

الرسالة الأساسية هي لا تكن شيطان نفسك ولا تترك أهواءك تقودك إلى الظلام تمسك بالقيم والضوابط واتبع الفطرة السليمة فالحياة لا تعطي فرصة ثانية لكل من يضيع مساره الإنسان القوي ليس من يحقق كل رغباته بل من يسيطر على رغباته ويقودها نحو الصواب وفي النهاية كل فسطاط تختاره لنفسك يحدد مسار حياتك ويصنع من داخلك ضوءاً أو ظلاماً.

***

بقلم د. أكرم عثمان

تاريخ: 26-11-2025

قد يكون مانحن بصدد التطرق له عسير المقاربه وغير مالوف، لابل وغير مسبوق مع انه قد صار من هنا فصاعدا مسالة لازمه وآنية، ان لم تكن ملحه، تلك هي مسالة التحري العقلي للعقل كما مستخدم من قبل الكائن البشري الحي الى الساعة، من ناحية كونه ليس "العقل" المجردـ بل "العقل اليدوي الجسدي"، وهو الذي انبثق وقتها مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين والنطقية، وهي لحظة بلاشك رغم نوعيتها الانقلابيه، ليست نهائية، ولم تتحقق مكتمله، وان راى العقل الجسدي انه هو "العقل" بالاطلاق، من دون ان تخطر له احتمالية ان تكون عملية وديناميات التحولية ماتزال سائرة بالكائن الحي، من الخلية الاولى الى اللبونات، ومن ثم الحضور العقلي بصيغته الاولى المجتمعية اليدوية، نحو مرحله اخرى تتوفر اسبابها بالتفاعلية المجتمعية، ذهابا الى مابعد جسدية، وبعدعقل جسدي محكوم لاشتراطات اليدوية.

هذا يعني ان العقل الحاضر والمستعمل الى اليوم، هو "طفولة العقل" ومحطته الاولى الذاهبه الى الكمال بفعل تراكم التفاعلية المجتمعية، ونقلة العبور من "اليدوية" الى الالية التكنولوجية، ساعة يخرج العقل الابتدائي الاول الجسدي من دائرة الفعل، ولايعود قادرا ولاقابلا لمواكبه اشتراطات التحولية البشرية المجتمعية، ويناظر هذا المسارالذهاب الضروري من العنصر او المادة الحية الموجودة باعتبارهاموضوعا"غير واع" لاشتراطات مساره التحولي، وهو ماكانت تضطلع به الطبيعه لوحدها من دون حضور، وبلا تدخل من الكائن البشري او الحيواني، قبلا، والخاضع سيرورة كليا لفعل ديناميات "ديالكتيك الطبيعه"، وماهي مصممه لكي تنطوي عليه من عملية حيوية، فالحيوان وتنقلاته التحولية الذاهبه بعد اللبونات الى الانتصاب واستعمال اليدين، "الانسايوان"، هو ماده خاضعه كليا لصناعه الطبيعه بلا اي دور يذكر من قبله، الامر الذي يستمر على ماهو عليه بعد انبثاق العقل وحضوره، بصيغته الابتدائية الغالبة الى اللحظة الراهنه، من دون ان يعي باي قدر كان، بان ماهو عليه، ومايكتنف وجوده وصيرورته هو طور انتقالي "انسايواني"، ومحطة انتقاليه اخيرة بين الحيوان والانسان، بل يظن بكل اعتداد بانه كائن فاعل استثنائي، وفعال، مع العلم ان اجمالي فعله وجملة مساره الطويل هو فعل الطبيعة التي تحتويه ك "موضوع"،وهو ماقد نوه له البعض مثل "ماركس" بغض النظر عن معتقده هو نفسه بوحدانيه الحقيقة البشرية الراهنه، ونهائية وكمال القائم منها اليوم.

ينطوي الكائن البشري دائما على موجبات ومستلزمات انتقالاته التحولية، بالذات على مستوى محور التحولية الاساس العقلي، فاذا انتقل الحيوان من طور اللبون الى المنتصب على قائمتين، وتغير قوامه الجسدي، وهو الظاهر، فان العقل الذي هو غاية التحول الجسدي يكون حاضرا، لابل هو الاساس الذي وفقا له ولمقتضياته يكون قد حدث ماقد حدث من التحول المادي الجسدي الشكلي الهائل، وكل شيء يحصل هنا بناء على موجبات و"قرارات"، تكون الطبيعه قد اتخذتها لوحدها وفقا لاحتسابات مقرره من لدنها، وهذا مايحدث للمجتمعية المحطة ووسيلة انضاج التحولية في خطوتها الاخيرة الفاصلة، ساعة يبدا الانقلاب الالي، وتظل اداة الادراكية والوعي المفترض دون مقتضيات وموجبات الحدث التحولي الفاصل، قبل الانتقال نهائيا من عالم الحيوان والجسد ومتبقياته ومحمولاته.

هذا يعني لحظة هي الاعظم الاخطر في التاريخ الحيوي البشري التحولي، مع مايمكن تخيله من منطوياتها الهائلة، ولنتصور حالة انتقال من الكائن البشري غير الفعال ولا الحاضر في تعيين مسارات وجوده ككائن باعتباره مجرد" موضوع"، الى مخلوق سائر الى التحكم بمجريات وجوده ومستقبله، مع مايتطلبه ذلك من اسباب، ومن مستويات ادراك خارج التخيل بحسب المتاح للعقل الانسايواني الجسدي الارضي، عقل الحاجاتية اليدوية، والارض المسطحة قبل الطائرة الكروية لاحقا، ومافيها وماتتيحه ومن ثم تفرضه من اشتراطات غير مكتوبه، مقارنة بانقلابيه تحوليه وجودا وموضعا بعيدا عن الارض، لابل عن الكون الملامس والبادي منه بحسب قدرات العقل الراهنه، وهو ضئيل للغاية، مايزال بغض النظر عن "علوم" الفضاء واستكشافاته البدائية، هو الاخر، مع الارضوية التي تخضع الكون لاشتراطات كوكب زائل، موجود لاداء مهمه محسوبه، يزول يوم يؤديها، ولايعود الكائن المتحول الحي بحاجة لها كمحطة مؤقته ضرورية.

ليس العقل قوة الابتداء المحسوبه والفاعله على نسق الحاجاتيه الارضوية، تترقى متشكله بصفتها قوة كونيه، الحري بان توجد لها نظرية نشوئية ترقوية غير الجسدية الحالية محكومة بداهة لمقصد اعلى متعد للارضوية المحطة الابتداء الضرورية، تصاغ بافق مافوق ارضي لتقارب موجبات محطات ثلاث كبرى : اولى هي الكمون العقلي الكلي ضمن شروط الغلبه الكاسحة للجسد وتحولاته محطاته ومراحله وصولا الى اللبونات ومابعدها، وهي التي استغرقت الملايين من السنين، قبل ان تنبثق المحطة الثانيه المستمرة الى الان، يتحقق فيها حضور العقل بشروط الجسدية، بحكم فعل اليدوية الانتاجية، والطوران الآنفان هما طوري الكائن الحي والبشري المنزوع القدرة على وعي اشتراطات واليات ومستهدفات وجوده، لصالح فعل الطبيعة ومستهدفاتها التحولية العظمى، قبل ان تبدا المرحلة او الطور الراهن الثالث الفاصل الحاسم انتقاليا تحوليا، حيث يحضر العقل باعتباره العنصر الفاعل الرئيس، وتصير النسبه العظمى المدخرة والمؤجله الفعل والحضور منه وهو مايزيد على الثماتنين بالمائة منه، هي نقطة التفاعل الرئيسة، بالضد من متبقيات الجسدية، وبالذات ابتداء مواطن الفعل " الحاجاتية" داخل الجسد، و"دكتاتورية" الموت الجسدي على العقل الذي هو من صنف ونوعيه اخرى على مستوى الاستمرارية ومدى الحياة بحسب الكينونه الكونيه المباينه للجسدية.

هذا الانقلاب لن يحدث الا اذا توفرت الاسباب " المادية" لتحققه، وهو مايظل غير ممكن لحين الانقلاب الالي، وبعد وقوعه بوقت، لحين وصول تحورات الاله الى الوسيلة الانتاجية العقلية التكنولوجية العليا، ماقد صار من هنا فصاعدا على الابواب، بانتظار الانقلاب الادراكي واسقاط القصورية العقلية التاريخيه، وهو ماتكون " الطبيعه" هي ايضا من سبق ووفرت المدخل اليه، بحكم ماقد قررته ابتداء وكينونه من تمييز اصل، لازم من دون تحقق، الظاهرة المجتمعية كصيغة مجتمعية موجودة خارج الطاقة الاعقالية، يمنعها من الحضور القصور العقلي المنوه عنه، بما هي مجتمعية لاارضوية، تتداخل ساعة نطقيتها مع لحظة التازم الاكبر المجتمعي الارضوي، وقت الانتقال الى فعل التكنولوجيا العليا، لنصبح وقتها في رحاب لحظة وحدة فعالية (التكنولوجيا العليا + النطقية اللاارضوية).

ـ يتبع قسم اخير رابع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

في المثقف اليوم