أقلام حرة

أقلام حرة

في خضم الحياة، وبين ثنايا تعقيدات العمل الوظيفي وضغوطه وتوتراته، تتكشف أمام أعيننا مشاهد كثيرة تكاد تجمع على حقيقة واحدة لا ثاني أو ثالث لها أن غياب البعد الإنساني هو أكبر الأخطاء التي يمكن أن نقع فيها في مسيرة حياتنا المهنية والوظيفية والاجتماعية في تعاملاتنا مع البشر، فحين يبتعد الإنسان عن الشعور بالآخرين ونسيان ذاك الكيان الذي يبنغي أن يولي الاهتمام به وإدراك ظروفهم واحتياجاتهم، تتبلد وتتجمد القيم وتضيع البوصلة الأخلاقية التي تهدي مساراتنا وتصحح رؤيتنا.

نعيش في زمن تتشابك فيه الأزمات وتتراكم فيه التحديات والمعضلات، وخصوصاً في سياق يشهد صراعات وحروباً تهدد وتفتك بالحجر والشجر والبشر. كل ذلك يترك ندوباً وشرخاً في النفوس والكيانات البشرية، ويكشف هشاشة الإنسان مهما بلغ من قوة أو تصنع بها أمام غيره لكي يثبت نفسه ومكانته. ومع ذلك يبقى هناك ضوءٌ لا ينطفئ ولا يخبو وهجه ولمعانه، إنه ضوء المواقف الإنسانية التي تبرهن أن الخير ما زال حاضراً وأن النفوس مهما تغيرت تعود لطبيعتها وفطرتها السليمة، وأن القيم الحقة قادرة على أن تنتشلنا من القسوة وغياب الرعاية والاهتمام، إن نحن تمسكنا بها وجعلنا نبراس تطلعاتنا وعنوان أصيل في مسيرتنا ونهج حياتنا.

إن جوهر السمت الإنساني ليس ترفاً ولا ضرباً من الخيال الذي لا يمكن تحقيقه أو تنفيذه، ولا شعاراً يستهلك لكي يرفع في المناسبات والتجمعات، بل هو ممارسة يومية تتجسد في اهتمامنا بالبشر ورعايتنا لظروفهم وقدرتنا على مشاركتهم العاطفية ودعمهم. هي مسؤولية موزعة على الجميع: كل بحسب موقعه، وبحسب ما يستطيع تقديمه من جهد، أو وقت، أو كلمة، أو حتى نظرة طيبة تخفف عن شخص مرهق أو متعب أو مهموم.

وهنا تتجلى أعظم القيم الإنسانية في التعلم من الأحداث والمواقف، فالحياة مدرسة صارمة، والأزمات مهما بلغت قسوتها وحدتها تبقى دروساً عميقة تنحت وعينا وتعيد تشكيل أولوياتنا وتدفعنا للعودة من جديد لجادة الصواب والاستقامة في الفكر والشعور والتصرف. ومن لا يتعلم من معاناته أو من معاناة غيره، يظل يدور في دائرة فارغة لا أثر لها ولا نفع يطاله.

مشاهد من واقع الحياة والعمل

في أحد الأيام، رأيت موظفاً شاباً قليل التجربة والخبرة انشغل بإنجاز معاملاته متجاهلًا مراجعة رجل كبير في السن يقف على باب مكتبه منذ دقائق طويلة. لا يقوى على تحمل رجليه لتلك الوقفه، فقد كان الرجل يترقب مبتسماً دون أن يهمس بكلمة أو تأفف، ربما يخشى أن يثقل على أحد. كان صاحب دراية وخبرة واسعة وحكمة في التصرف، لم يكن المشهد عابراً… فقد كشف أن الموقف ظهرت فيع ضعف الخبرة وقلة الوعي لغياب الحس الإنساني والمشاعري في استقبال الضيف وإراحته وتقديم الخدمات له بأسرع فرصة ممكنة، حتى لا يتحول أبسط المواقف إلى عبء كبير على الآخرين.

وفي مشهد آخر، شاهدت موظفة تنهي دوامها، لكنها لاحظت دمعة في عين زميلتها التي تواجه ظرفاً عائلياً صعباً. لم تغادر المكان. بقيت معها حتى هدأت، وقدمت لها دعماً معنوياً كبيراً لا يقاس بمال. ذاك الموقف كان أعظم قيمة من عشرات الخطب والدورات التدريبية في " امتلاك مهارات التواصل والعمل الجماعي ضمن فري قفعال ويناء قدرات الذكاء العاطفي في العمل مع الزملاء والزبائن".

وهناك مشهد ثالث لن أنساه: عامل بسيط في مؤسسة ما، لم يملك سوى أن يرفع يده دعاء لمديره الذي ساعده في ظرف صحي صعب كان في حجاة ماسة لذلك الدعم. قال يومها " والله لا أنسى ذلك موقفه معي ودعمه لي طول العمر". عندها أدركت أن بعض الأعمال الصغيرة تصنع أثراً عظيماً يتجاوز الزمن والمناصب والأموال التي تقدم لمحتاجيها.

قيمة المساندة… من الدنيا إلى الآخرة

إن أجمل ما في المشاهد الإنسانية أنها تعود إلى أصحابها، إما بهجة في الدنيا، أو تيسيراً وتسهيلاً للأمور في حياتهم، أو دعاءً صادقاً يرفع البلاء ويحمي المرء من ثرات الزمان وتقلباته، أو بركة لا نعرف مصدرها وكنهها. وربما يقع أحدنا في يوم من الأيام تحت وطأة الاختبار والامتحان، فيكون أحوج ما يكون ليد تمتد إليه لتسعفه وتنتشله من دركات ومصائب الدنيا، أو كلمة تنصفه، أو موقف يشبه الذي قدمه يوماً لغيره.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من نفَّس عن مؤمن كربة من كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». رواه مسلم

هذا الحديث ليس مجرد نص ديني، بل قانون كوني: ما تقدمه يعود إليك، وما تمنحه يعود مضاعفاً في وقت أنت أحوج إليه للخير والأجر العظيم.

ختاماً: تبقى إنسانيتنا هي رأس مالنا الحقيقي والاستثمار الذي يدر علينا الخير والبركة.

وتبقى المواقف الصادقة هي التي تخلد أسماءنا في سجلات قد تمتد ليوم القيامة.

وفي عالمٍ يمتلئ بالضغوط والصراعات، فإن أعظم ادخار يمكن أن نحققه هو أن نكون سنداً وعوناً لغيرنا. فالإنسان أولاً،،،، وسيظل وسيبقى أولوية مهما تغيرت الظروف والمواقف.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

19-11-2025

 

يتجسد الإبداع بما هو ملكة إنسانية ذاتية، يتميز بها الإنسان المبدع عن غيره، بابتكار معطيات جديدة في مختلف المجالات، والانشطة، الأدبية منها، والفنبة، والعلمية، والتقنية والموسيقية، وغيرها .

ويتطلب الإبداع بما هو ملكة ذاتية، قدرة على توليد أفكار جديدة، ومبتكرة، المبادرة إلى تحويل تلك الافكار إلى واقع حي، يتلمسه المتلقون، مثل النتاجات السردية، والقصائد الشعرية، والانجازات الفنية، وغيرها.

ولابد من الإشارة إلى أن الإبداع يتطلب حسًا مرهفًا، وموهبة متوهجة، وقدرة متمكنة على التفكير خارج المالوف من تقييدات السياقات التقليدية للأداء.

فعندما يتوهج الحس المرهف، بفيض من العواطف الرقيقة، والمشاعر المتوقدة، فلا ريب انه سيدفع الانسان المبدع إلى طرح نتاجات إبداعية وملهمة.

وهكذا يكون المبدعون الذين يمتلكون حسًا مرهفًا، وعاطفة جياشة، أكثر حساسية، للتفاعل مع المنظور من عناصر بيئتهم، مما يجعلهم أكثر استجابة، واستشعارا لعناصر الجمال، حتى في الأشياء البسيطة.

ولعل التأمل المتطلع، يمكن أن يكون عاملا مهما في تحفيز الحس المرهف للمبدع، بما يجعله أكثر استجابة، للعواطف الوجدانية، والمشاعر المرهفة.

ويظل التفاعل مع ربوع المكان، ومع الآخرين، عاملا فعالا في تفجير الإبداع، بما يجعل المبدع في تعالقه مع الآخرين، أكثر قدرة على توليد أفكار جديدة، وانجاز نتاجات متميزة.

ولا شك ان التجربة الزاخرة، بما تحمله من تراكمات ابداعية، يمكن أن تساهم في تطوير القدرة على الإبداع، وجعل المبدع أكثر عطاء، واوسع إمكانية في توليد أفكار جديدة، ورؤى مبتكرة.

***

نايف عبوش

الفكر يصنع الحضارة ويبني القوة ويشيد معالم السيادة والحرية وقيمة الإنسان ويضع الأسس الصحيحة للعطاءات الأصيلة، والمجتمعات الخالية من القيادات الفكرية، تجر أذيال التأخر والإنكماش في أحواض الغابرات ومستنقعات الباليات.

التقدم الذي إنطلق منذ بدايات القرن العشرين قاده المفكرون بشتى صنوفهم وتنوع نشاطاتهم، وتمكنوا من التأثير بمراكز القرارات، فلا توجد مؤسسة حاكمة دون أنوار فكرية ذات رؤى وتصورات مستقبلية ثاقبة.

فهل للمفكرين دور في مسيرة الأمة؟

المفكرون كثيرون ونشاطاتهم نائمة في الكتب المرفوفة في غياهب النسيان، وكل منهم صار في خبر كان، وإن نطق بالحق تعرض لقطع اللسان، فالكراسي ألد أعداء المفكرين والمبدعين، خوفا على عروشها ولكي يأنس أصحابها بغنائمهم، ولا يعنيهم المواطن المقهور والمعذب بالحرمان من حقوقه.

ويبدو أن مفكري الأمة تركوا إهتماماتهم العملية المتحدية، لأنها تجلب سوء المصير، وتحقق العيش العسير، فصار معظمهم يبرر ويسوّغ ويلقي بما يحصل على الذي كان، فاللاحق ملائكي والسابق شيطاني ومجرم وظالم كبير.

المفكرون بوصلة مجتمعاتهم، وعندما تنكرهم تتيه وتتلاطمها أمواج وأعاصير الويلات العظام.

العقائد الدينية ليست فكرا قياديا جمعيا، وإنما رواسخ فاعلة في الأعماق الفردية وقد تؤثر في السلوك، بمنعه من التورط بالشرور، لكن أكثرها تدعو للتناحر والتصارع الفتاك.

المفكرون الحقيقيون يجمعون، كما فعل المفكر الياباني (نشيدا كيترو)، الذي وضع اليابانيين في بودقة وطنية جامعة.

و"الفكر بحر لؤلؤه الحكمة"

و"كرامة الإنسان تكمن في فكره"

و"الفكر قوة فعالة دونها كل قوة هائلة"

بلاد الفكر موطنها سموقُ

إلى الأعلى بما ملكت تتوقُ

بفكرٍ سارتِ الدنيا لمجدٍ

ودامت في مرابعها تفوقُ

علائم عزها أفكار جيلٍ

يبرهنها بأفعالٍ تروقُ

***

د. صادق السامرائي

 

يبدو أن العلم قد انتصر في المعركة، لكنه خسر الحرب. فبعد قرون من التجريب والتمحيص والمختبرات، ما زال كثير من البشر يثقون أكثر في “بوست” على إنستغرام يحمل صورة فاكهة عضوية أكثر من ثقتهم في مجتمع العلماء. نحن أبناء “العصر الرقمي”، نعم، لكن عقولنا لا تزال تلبس رداء القرون الوسطى. دعونا نراجع، بهدوء ساخر، بعضًا من هذه “الأساطير الحديثة” التي تُصرّ على الحياة رغم إعلان وفاتها مرارًا من قبل المنطق.

1. اللقاحات: مؤامرة شريرة ضد البشرية: في عام 1998، قرر طبيب بريطاني اسمه أندرو ويكفيلد أن يضيف نكهة درامية للطب الحديث. فنشر “دراسة” تربط بين اللقاحات والتوحّد. بعد سنوات، تبيّن أن الرجل زوّر نتائجه، فطُرد من المهنة، واحتفت به صفحات “محاربي الحقيقة” على الإنترنت كشهيد للعقل الحر!

العلم أنكر، والإحصاءات دحضت، لكن الأسطورة ولدت من رحم الفهم الجمعي، وصارت حركة فكرية لها زعماؤها ومؤتمراتها، تمامًا كما للكنائس قساوستها.

2. حمية “التخلص من السموم”: العصير الذي يطهّرك من خطايا البيتزا: يُقال إن كوبًا من عصير السبانخ والزنجبيل قادر على غسل جسدك من “السموم” التي خلفتها سنة كاملة من المشاوي والسكريات. الحقيقة؟ الكبد والكليتان تقومان بهذا العمل منذ ملايين السنين دون أن تطلبا منك عصيرًا أخضر.

لكن الإنسان الحديث يحب أن يشعر بأنه في مهمة بطولية حتى وهو يشرب السبانخ. فيصدق أن “التطهير” في العصير، لا في العقل الذي صدّق.

3. المعالجة المثيلة: حيث تُباع القطرات الفارغة بثمن الذهب: فكرة المعالجة المثيلة بسيطة: خذ شيئًا يسبب المرض، خفّفه حتى يختفي تمامًا، ثم بِعه على أنه دواء. إنها عبقرية التسويق في أنقى صورها.

يقول العلم إن هذه المستحضرات لا تحتوي شيئًا فعالًا. ويقول المؤمنون بها: “نعم، لكنها تشفينا بالإيمان”. بهذا المنطق، يصبح كوب الماء المقدس أعظم من البنسلين.

4. الكيمتريل: الطائرات التي ترشّنا بالسموم لأن الحياة الوردية مملة: بينما تنظر إلى السماء وتتأمل خطوط الطائرات، هناك من يرى فيها “مشروع إبادة جماعي كيميائي”. هؤلاء لا يرضيهم تفسير فيزيائي عن تكاثف بخار الماء، بل يحتاجون إلى مؤامرة ذات طابع سينمائي.

فكر قليلاً: لو كانت الحكومات فعلاً ترش السماء بالكيماويات، فهل كانت ستتركك لتغرد عنها على تويتر؟

5. الأبراج: الفلكيون الجدد في زمن الذكاء الاصطناعي: منذ البابليين وحتى صانعي المحتوى على إنستغرام، لم يتوقف البشر عن ربط حياتهم بحركة المشتري.

“هو لم يتركني لأنني مزعجة… بل لأن القمر كان في برج الجدي!”

لا شيء يفسد منطق القرن الحادي والعشرين مثل عبارة “أنا لا أتناسب مع مواليد برج السرطان”. فالعلم فشل في ربط النجوم بمصيرك، لكن المنجّمين نجحوا في ربط مصيرك ببطاقتك الائتمانية.

ورغم التجارب العلمية التي أثبتت أن نسبة دقة الأبراج لا تتجاوز نسبة التخمين، فإننا نقرأها كل صباح لنشعر أن الكون يفكر بنا، أو على الأقل يتآمر ضدنا.

لا توجد دراسة واحدة أثبتت صحة الأبراج، لكن هناك دراسات كثيرة أثبتت أننا نحب تصديق ما يجعلنا مميزين. العلم يقول: لا علاقة بينك وبين نجم يبعد عنك ملايين السنين الضوئية.

الخيال يقول: “أنا لست متقلباً، أنا برج الجوزاء”.

ربما لا نحب الحقيقة لأنها بلا ألوان، بلا موسيقى خلفية، بلا مؤامرات. العلم صارم، أما الخرافة فحنونة، تربت على كتفك وتقول: “كل شيء يحدث لسبب”. ولعلّ هذا هو سر بقائها…فالعلم يشرح، لكن الخرافة تعزّي.

لقد غزونا الفضاء، لكن لا زلنا نرتجف من لقاح الإنفلونزا. صنعنا الروبوتات، لكن نصدق أن المريخ يتحكم في مزاجنا. يبدو أن المشكلة ليست في التكنولوجيا، بل في البرنامج التشغيلي المسمى “الإنسان”.

ربما نحتاج إلى تحديث عاجل للعقل، نسخة 2.0، تُصلح هذا الخلل الأزلي بين حب المعرفة وعبادة الجهل.

***

محمد إبراهيم الزموري

المجتمعات الحية والمتقدمة هي التي تنقب عن تاريخ أعلامها وشخصياتها المؤثرة لتنفض عنها غبار النسيان وتبعث سيرتها ليتعرف عليها الجيل الجديد فتكون لهم قدوات مؤثرة وفاعلة.. فهؤلاء الأعلام والشخصيات في مختلف المجالات العلمية والفكرية هم منارات هادية تعطي ثراء للمجتمع..

فما هو دورهم في تنمية المنطقة أو الوطن؟

يمكن أن نحصر هذا الدور في أمرين اثنين:

أولا: دورهم في التنمية الثقافية

يقوم هؤلاء الأعلام بدور محوري في التنمية الثقافية وصناعة الوعي من خلال إنجازاتهم العلمية والفكرية التي تنقل إلينا معارف وأفكارا عميقة تساهم في فهم قضايا المجتمع، وتقديم حلول مستنيرة، ونشر الوعي المجتمعي عبر التثقيف ونشر العلم والتوعية

كما أنهم يسهمون في مكافحة الجهل والتحيز من خلال إنتاج محتوى موثوق، ودعم كل ما هو نافع ..

فإنتاج المعرفة: فالكتب التي ألفها هؤلاء الأعلام في مختلف المجالات تساهم في التنمية الثقافية للمنطقة الولاية أو الوطن بأكمله فتحفز الأجيال على الإبداع والإنتاج الفكري ونشر العلم اقتداء بتلك الشخصيات الفاعلة المؤثرة..

الأمر الثاني صناعة الوعي: قد يتساءل المتلقي كيف تصنع هذه الأعلام الوعي في المجتمع؟ فعندما نتأمل سيرة هذه الشخصيات التاريخية وكيف قاومت الظروف الصعبة القاسية واستطاعت أن نترك بصمتها في التاريخ بإنجازاتها العلمية والفكرية فبعث تراثها العلمي والمعرفي والديني يساهم في نشر الوعي لدى الأجيال فتتحصن بثقافة عميقة ضاربة في الجذور فلا يمكن أن تتزعزع شخصيتها أمام الغزو الفكري والثقافي فعندما يقتبس الجيل الجديد من حياة هؤلاء الأعلام كل نافع ومفيد يتسلحون بالوعي وعندما نعرفهم بسيرتهم وندرسها لهم في المناهج التربوية لحظتئذ نصنع فيهم الوعي بكل تجلياته

الوعي الثقافي والاجتماعي والأمني..

لهذا هناك مسؤولية ملقاة على صانعي المناهج والنخب الثقافية فعليهم أن يؤدوا رسالتهم الحضارية ويتشروا تراث الأعلام والشخصيات في كتب سهلة ميسرة تدرس في المدارس وتحول حياتهم إلى أعمال فنية أفلام ومسلسلات حتى رسوم متحركة، لتقتبس منها الأجيال نور العلم والإيمان والتحدي ومواجهة صعاب الحياة بإرادة قوية لا تتزعزع...

لحظتئذ نكون قد نجحنا في الحفاظ على ذاكرتنا من النسيان..

***

الكاتب شدري معمر علي

الجزائر

الرياضة انواع: رياضة كرة القدم، ورياضة الكرة الطائرة، ورياضة كرة السلة، ورياضة ألعاب القوى، ورياضة كمال الأجسام، ورياضة السباحة، ورياضة المشي، ورياضة الجري، ورياضة كرة المضرب، ورياضة التمارين اللياقية، ورياضة ركوب الخيل، ورياضة الرماية، ورياضة الدراجات: الهوائية، والنارية، والمائية. وغيرها من ألوان الرياضات الجماعية، والفردية. وفيها يكتسب الجسم صحةً، ولياقةً، وطاقةً، وقوة، فيصبح قادراً على أداء أنماط حياته بشكل مرن، إضافة إلى كون الرياضة وسيلة ناجعة – بعد الله تعالى - لاتقاء كثير من الأمراض، والأعراض، والأخطار. وكلما حاول الإنسان تدريب جسمه على أصناف مختلفة من الرياضة حقق كثيراً من المتعة، والحيوية، والنشاط ، ويحرصُ كثير من الناس على الرِّياضة؛ لأنها تساعدهم على عيش حياة صحية، وبناء جسم سليم، ، والرياضة تركز على بناء عضلات الجسم كقوة ولكنها اهملت اعضاء اخرى مهمة في جسم الانسان كالعينين، واللسان، والشفتين، والأنف، والأذنين، مع أنها من أهم أعضاء الجسم، بل هي الأعضاء الأكثر دقة، وحساسية؛ لأنها مرتبطة بالذوق، والحس، والإدراك، وقد قال تعالى في سورة البلد: «أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ  وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ  وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ،، فهذه الأعضاء مهمة جداً، ويُغفِل كثير من الناس قيمتها، ومن هنا فإن استشعار هذه النعمة، والاعتناء بوظائفها، أمر في غاية الأهمية، وأظن أن المتخصصين في الطب، وعلوم الأعضاء، يؤكدون على ضرورة وجود رياضة تخصّ تلك الأعضاء

الاديب والكاتب والناقد والمثقف يركزون على مهارة القلم واللسان ، والخطيب يستعمل لسانه في أي شأنٍ تواصلي، عليه أن يمنح لسانه جانباً من التمرن على النطق السليم، والصوت الواضح، ولفت اهل الاختصاص إلى ضرورة تحريك اللسان، وتمرينه، اللسان عضوٌ إذا مرّنته، مَرَن، وإذا أهملته خار، كاليد التي تُخشّنها بالممارسة، والبدن الذي تقوّيه برفع الحجر وما أشبه، والرِّجل إذا عُوِّدَتْ المشي مَشَت». فقد جعل تمرين اللسان، لا يقل عن تمرين سائر الأعضاء، بل يربطه برفع الأثقال، وكثرة المشي، وهنا تكمن المفارقة

في المجتمعات المتقدمة، يعتبرون الرياضة ليست ترفا بل ممارسةٌ يومية تدخل في نسيج الحياة العامة، يتسع تأثيرها من الملاعب إلى المدارس، ومن الشاشات إلى الوعي الجمعي، إنها مرآةٌ لمدى رقيّ الثقافة العامة، فحيثما تزدهر الثقافة الرياضية يزدهر معها الانضباط، والتعاون، والمسؤولية، والاحترام ، كما يعتبرون الرياضة  لغة من لغات الوعي،لأنها تعلمنا كيف نتحرّك دون أن نتصادم، وكيف نتنافس دون أن نتحاسد، وكيف نحيا بروح كبيرة ترى في الملعب صورة مصغّرة للعالم الذي نريد أن نعيش فيه..

ليست الرياضة مجرّد عرقٍ يتصبّب في الميادين، ولا صخبَ مدرجاتٍ يملؤه الهتاف؛ إنها لغة الوعي حين يتحوّل الجسد إلى فكرة، والفكرة إلى سلوكٍ يعكس ما في الإنسان من اتزانٍ ونضج، فكل مجتمعٍ يدرك قيمة الرياضة لا يراها حركةً عضلية فحسب، بل منظومة فكرٍ وثقافةٍ متكاملة تصوغ علاقة الفرد بذاته وبالآخرين، وتعيد تعريف معنى الحياة المتوازنة بين العقل والجسد،، الثقافة الرياضية لم تعد هامشًا من هوامش الوعي، بل أصبحت ركناً أصيلاً في تشكيل الشخصية الاجتماعية، فهي التي تزرع مفاهيم الجهد، والمثابرة، والروح الجماعية، وتعيد صياغة السلوك العام بمنطقٍ حضاري يجعل من الفرد كائناً أكثر وعياً بنفسه وبمجتمعه.

إنها ثقافة تعيد تعريف القيم، وتحوّل الممارسة إلى مرآةٍ للأخلاق، فكل تمرينٍ رياضي هو درسٌ في الصبر والانضباط، وكل مباراة هي مختبرٌ عملي للقيم الإنسانية من شجاعةٍ وعدلٍ وتعاونٍ واحترامٍ للخصم قبل الصديق، ومن هنا فإن الرياضة لا تعلّم الجسد فحسب، بل تهذّب الروح وتربّي الضمير، الجهل بالرياضة وجهٌ من أوجه الفقر الثقافي، فإن نشر الثقافة الرياضية يصبح مسؤولية جماعية تتقاطع فيها أدوار المدرسة والإعلام والنوادي والمؤسسات، المدرسة مثلاً ليست ملعباً بدنيًّا فحسب، بل ينبغي أن تكون منبراً للفكر الرياضي، تُعلِّم النظري قبل العملي، وتغرس مفاهيم الصحة والمسؤولية، وتربط بين الرياضة والعلم، فلا تبقى مكونات وبناءات الرياضة مجرّد درسٍ عابر، بل فلسفة تربوية شاملة

الأكاديميون وخريجو كليات التربية الرياضية، فدورهم لا يقف عند حدود التدريب أو التعليم، بل يمتد إلى الوعي الاجتماعي، عبر نشر الفكر الرياضي في فضاءات المجتمع كافة، فهم حملة رسالة ثقافية تتجاوز الأجساد إلى العقول، وتحوّل الرياضة من نشاطٍ فردي إلى وعيٍ جماعيٍّ مستنير، ونشر  الوعي الرياضي يخلصنا من التوتر وضغوط الحياة بأسلوبٍ صحيّ، فالثقافة الرياضية لا تصنع أجساداً قوية فقط، بل تصنع عقولاً متّقدة وضمائرَ حية تدرك أن الحركة حياة، وأن السكون موتٌ بطيء.

***

نهاد الحديثي

غنّتْ على المجوز والطبلة والطبل والرباب والعود والناي والشبّابة أو المنجيرة أغنيةً ذاعت في أربع أرجاء المعمورة وسُرَّ أو فرِحَ أو إنطربَ بها الملك والأمير والشيخ والفتى الصغير والطفل الرضيع المقمّط بالسرير. وحكايةُ هذه الأغنية أنّ أحدَهم عشق إحداهنّ عشقاً أين منه عشق قيس لليلى أو عشق جميل لبثينة أو عشق كُثير لعزّة أو عشق عنترة لعبلة أو عشق سلفادور دالي لغالا أو عشق شاه جهان لممتاز محلّ أو عشق روميو لجوليات، وإذا الآباء العذريّون صرّحوا بما يتلاطم في أرواحهم وقلوبهم وصدورهم فإنّ صاحبنا آثرَ الكتمان، وما إنقضتْ أشهر قليلة حتى غلبَ عليه ما هو فيه مِنِ إنحباسٍ وتيه وصارَ عقلُه يلعب به وعيناه تغشّانه، ومثالاً رأى في مرّة طاولة صغيرة ظنّها مأدبة لفرد واحد، جرى إليها لكي يمسك منها بنيانه، وهو قريب رآها لا تعدو أن تكون ذات حبيبته وقد إنحنتْ بوضعيّةٍ رياضيّة تلامس كفّاها الأرض، أصابَه ذعر أنّ يكون قد فكّر بإلتهامها، قالَ لروحه المذعورة وهو يُدبِر: "وإحسبيني يا روحي غولاً، هل سمعتِ يوماً أنّ غولاً أكلَ غولتَه"؟. وفي مرّة إستبدّ به العطش، ورأى جرن ماء طافحاً إلى جمامه يتلألأ في عين الشمس، ركض إليه وفي نيّته أن يفرغه في جوفه، ورأى، وهو عند  الجرن، وجهها الذي لم يكن غير وجهه منعكساً في الماء، إندهش فيما هي  مندهشة، ظنّ أنّها تستحم وغطست خجِلةً، فرّ مبتعداً أن تكون قد ظنّت به الظنون مثل أن يكون مصاباً بداء البصبصة. 

وعلى هذا النحو طولاً وعرضاً حتى أصابَه نحولٌ مهول، وحتى برزتْ عظامُه كأنّه  مصاب بداء النحافة _ أنيروكسيا. ونهضتْ له روحُه وهي تكاد مثله تلفظ  أنفاسَها الأخيرة وقالت: "يا نور عينيّ، ما ذنبي أنا لأنفقَ إذا أنت تريد أن تنفق؟، وإذا أنت تريد أن تنفق إلى أين من بعدك سأذهب وماذا سيحلّ بي؟، لماذا لا تطلعها  على ما فيك؟، فإذا قبلتْ قلْ  بلغتَ مرادَك وإذا رفضتْ قلْ كما قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي: "سلام عليها ما أحبّت سلامنا، فإن كرهته فالسلام على أخرى"!. قاطعَها لكي تكفّ عن هذه الثرثرة بكلّ ما أوتي من حياة بعدُ فيه وقال: "لا أظنُّكِ تعتقدين أن الشمسَ هي من إختراعك، ماذا لو صارحتُها وهي صدّتني؟، ماذا إذا روّجت، ولو مِنْ باب التباهي، أنّها حبّوبة، محبوبة، مرغوبة ومطلوبة، أو مِنْ باب المراسلة المُشفَّرة لكي يعلم آخَر هي تحبّه أنّ حديدان ليس وحده في الميدان، ولكي يفوز بها عليه أن يُسرِع إليها؟، أو مِنْ بابِ الكلام بكلام وبلغ عاذلاً إستغلّها فرصة للتشويش والتعريض بي وإستعجل مِنْ حقلٍ إلى حقل ومن بيدر إلى بيدر ومن معلف إلى معلف ومن إسطبل إلى إسطبل متقوّلاً إنّها أنكرتْني لأنّي أشهق وأزفر عوض أن أزفر وأشهق أو لأنّ ذيلي  عصعوص _ عصاص _ عصّ _ لا نبريش ماء وإنّ يديَّ وقدميَّ حزوز جبنة "لافاش كي ري" - البقرة الضاحكة - وليستا حوافر أو صخوراً؟، وبأسرع مِمَّا تلتهمُ النارُ في الهشيم سأغدو على كلِّ شفة ولسان، وستقولُ العجائز: "ويله، مَن غشّنا ليس منّا"، وسيتبعني الأولاد في الأزقّة قارعين على التنك وصائحين: "الجاسوسْ أَهُوْ أَهُوْ، الجاسوسْ أَهُوْ أَهُوْ"، وإذّاك، يا روحي، كم سألعنكِ، وكم سألعن الداية التي سحبتْ رأسي، وسأتمنّى من أعمق أعماق قلبي لو تظهر الضبع أمّ عامر وتزلطْني مثلما يتمنّى المنفيّون عن أهلهم وأحبّتهم وأوطانهم لو تنشقّ الارض وتبتلع القومَ الظالمين". 

وفيما روحُه تتّهمه بالجنون وهو يتّهمها بالحمرنة وهي ترجوه أن يكفّ عن جنونه وهو يقطّب لها جبينَه إستنكاراً لعقلها الذي لا عقل فيه، أو فيما هي تكاد تفرّ منه وهو يكاد يفرّ منها وإذْ محبوبته مُقبِلة على "الدقّه ونصّ" كأنّها ترقص وتحاذيه مُضيّقةً عليه، ويلمسُ بطنُها العامرُ بطنَه الضامرَ، وتقف تحت أنفه، ويفرك عينيه ويتشمّم عطرها ويقول لذاته: "هذه هي محبوبتي سالبة عقلي ولبّي بجسمِها المنطاد وذراعيها وساقيها الخيطان ويديها وقدميها الكَشَاتْبين"، ويضيف لروحه: "أنظري، إنّها تموت بتلابيبي"!. وعوض أن يناغيها سرعان ما يجافيها ويتأخّر عنها. قالت له روحه وقد أخذتها المفاجأة: "ماذا دهاك؟، إنّها أمامك على طبق من فضّة أو ذهب"!. وأشارَ أن تكفّ عن السخف وقال إنّه سيلفّ وسيدور، وهل حضارة الإنسان إلاّ من اللفّ والدوران؟، وإنّه سيسأل أهلَه أن يسألوا أهلَها بعد لفٍّ ودوران، وسيقولون وهم يلفّون ويدورون إنّ إبنهم ولا مثله بالعمل مِنَ الفجر إلى النجر  ويحمل على ظهرِه ما ينوء به جمل، وأهلُها سيلفّون وسيدورون وسيقولون إنّ إبنتهم آية، وقولوا لها: "حااااا" وستمشي، وقولوا لها: "هشششششْ" وستقف، وسيعطوني، وسيباركون لي، وستكون أفراح وليالٍ ملاح، وسيدكّ الخلاّنُ الأرضَ بأقدامهم، وسيلوِّحون بمحارمِهم، ولسانُ حالهم يقول وأعمار الكرام تطول: "نحن هنا وسنظلّ هنا"، وسأطلب ألاّ تكون فرقعة أو كركعة لئلا تتأذّى فراشة أو بعوضة، أنا أريد فرَحاً لا ترَحاً، وسيلبّون جميع طلباتي".

وعلى هذا النحو أيضاً كانت روحُه تسمع وترى وتلطم وتولول حتى مِنْ لا مكان برز جحشٌ إسمه جحشان مقبلاً عدواً على خمس سيقان وعيناه على فاتنة الألباب التي كانت في ذهاب وإياب إنتظاراً لحمار الحمير حتى يَفرغ مِنْ حوارِ الطرشان مع روحه. وقفز جحشان، وزقزقَ عصفور، وفاضت القدور، وإستيقظَ نائمٌ من بين النيام متوعّدَاً البرَّ بمزيدٍ مِنَ البعر والزفيرِ والشهيق بعد تسعة أشهر بالتمام والكمال.

وعصرَ يومٍ تصادفا عند بعضِ الماء، قالَ لجحشان بصوت قرضته الجراذين والفئران: "يا حمار الحمير، أنا أخوك وأنت أخي، بأي شريعة تغدر بي؟، كيف طاوعَك ضميرُك، لا صبر بي بعدُ، إعطني خنجراً مسموماً أريد أن أنتحر.. وعلى الدنيا العفا والسلام"!.

وسمعَ رعاةٌ وتسامروا بما سمعوا في العشيّات، ونقل عنهم ركبانٌ الى أبعدِ البلدان، وقامَ شاعرٌ نظّام وشالَ وحطَّ وأنقص وأضاف وحملَ ما صنع إلى ملحِّن عملَ ما عمله، ومعاً إستعرضا مطربين ومطربات ومغنّين ومغنّيات ومؤدّين ومؤدّيات، وصار عقْدٌ مع غنّوجةٍ من الغنّوجات الفرعونية العينين، التفاحيّة الخدّين، العبليّة الزندين، التي صنعتْ فيديو كليب، غنّت وتشخلعتْ وعملتْ حركات سويديّة، وحقّقَ الفيديو نجاحاً، وأكثر من أُعجب به قادة ورؤساء وملوك وقياصرة وأكاسرة قصّوا الألسن، صلموا الآذان، جدعوا الأنوف، سملوا العيون، قطعوا الأيدي والأرجل مِنْ خلاف، وأُمهِلوا ولكنْ لم يُهمَلوا قطّ.   

***

شوقي مسلماني

الزمن والوعي: الطريق إلى الحكمة

يمر الإنسان عبر مراحل عمرية تتغير فيها خبراته ورؤاه، ليس فقط في الجسد، بل في وعيه العميق للذات والعالم، ومع مرور الزمن، تتبدل المواقف وتتعمق الإدراكات، ويصبح فهم الحياة أكثر شمولية، فهنا يظهر الدور الفلسفي للوعي بالتغيير المرتبط بالعمر، كطريق مباشر نحو اكتساب الحكمة.

أولًا: الوعي بالعمر.. حين نكبر في الداخل لا في السنوات

ليس التقدّم في العمر مجرّد حركة زمنية ميكانيكية، بل هو تحوّل في الوعي، يُعيد تشكيل نظرتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا. فالإنسان، منذ بداياته الأولى، يعيش بين صورتين: ما يظنه عن ذاته، وما تكشفه له الأيام عن تلك الذات. وكلما اتسعت المسافة بينهما، ازداد الوعي عمقًا. هنا يبدأ ما يمكن تسميته الوعي بالتغيير المرتبط بالعمر، وهو وعيٌ يفتح أبواب الحكمة لمن يمتلك شجاعة النظر في مرآة الزمن دون خوف.

قال سقراط: «اعرف نفسك»، وكأنّه كان يدعونا إلى إدراك أن معرفة الذات لا تحدث دفعة واحدة، بل تنمو معنا كما ينمو الجسد. فكل مرحلة عمرية تكشف وجهًا جديدًا من وعينا، وتعلّمنا كيف نفهم ما تغيّر فينا لا لايعده فقدًا، بل اكتسابًا لفهمٍ أعمق. أما أرسطو فكان يرى أن الحكمة هي «العلم بالأسباب الأولى»، أي إدراك ما وراء الظواهر من علل وغايات. ومع مرور الزمن، يكتسب الإنسان هذا المنظور الهادئ للأشياء، فلا يتعامل مع الأحداث كوقائع معزولة، بل كجزء من نسق أوسع للحياة والمعنى.

ويضيف هيغل بُعدًا جدليًا لهذا الفهم حين يقول إن الوعي يتطوّر عبر التناقضات. فالإنسان، كلما واجه صراعًا بين ما كان عليه وما أصبحه، نما وعيه، وتحوّل التناقض في داخله إلى طاقة فهم. أما شوبنهاور فيقدّم وجهًا أكثر تأمّلًا، إذ يرى أن الشيخوخة لا تمنحنا الحكمة تلقائيًا، لكنها تُهدّئ فينا انفعالات الشباب، وتجعلنا أكثر تسامحًا مع ضعفنا وضعف الآخرين، فيتجلّى فينا نوع من الرحمة الوجودية التي تشبه النضج الروحي.

أما نيتشه، فيقف عند الضد تمامًا، مؤكدًا أن الوعي بالتغيير لا يجب أن يقود إلى الاستسلام، بل إلى تجاوز الذات، لأن كل مرحلة من العمر ينبغي أن تكون انبعاثًا جديدًا للروح، لا انطفاءً لها. وهكذا، فإن من يعي تغيّره لا يذوي، بل يتجدّد، بمعنى انه رأى ان الألم والتأمل يصنعان فينا القوة والحكمة.

ثانيًا: من الوعي إلى الحكمة.. الزمن مرآة الداخل

الحكمة لا تولد من كثرة السنين بل من الوعي بما تصنعه السنين فينا. فالعمر كما يقول الفيلسوف الفرنسي مونتين، لا يعلّمنا شيئًا ما لم نتأمّل ما يحدث فينا أثناء مروره. إن من يعيش عمره بغير وعي يكرّر أخطاءه، ومن يتأمّلها بصدقٍ يتعلّم كيف يحوّل التجربة إلى بصيرة.

الوعي بالتغيير هو إذًا عملية فهم للذات في حركتها، والاعتراف بأننا لسنا الكائن نفسه في كل لحظة. وكلما زاد إدراكنا لذلك، اقتربنا من جوهر الحكمة: التصالح مع الزوال، دون أن نفقد الشغف بالوجود.

الخاتمة: الحكمة ثمرة الوعي لا السنين

ليس العمر ما يجعل الإنسان حكيمًا بل ما يفعله بوعيه أثناء مروره في الزمن. فالحكمة لا تسكن في عدد الأيام بل في نوع التجربة، ولا تُقاس بطول الحياة بل بعمقها. إن من يعي تغيّره لا يخشى الشيخوخة، بل يراها مرحلة صفاء، يتبدّى فيها المعنى الأصدق للوجود. فحين نفهم أن الزمن لا يسلبنا، بل يُعيدنا إلى جوهرنا، ندرك أن الوعي بالتغيير هو أرقى أشكال الحكمة، وأن النضج الحقيقي هو أن نكبر في فهمنا، لا في أعمارنا.

***

ندى صباح اسدالله

 

كثيرا ماكنت أقف حائرة، أشعر باغتراب موحش، تتضارب في أعماقي أسئلة حيرى، قد أكون أنا المخطئة فانكفأ على نفسي، أحاول البحث عن إجابات تنقذني من هذا التيه..

عالم متسارع، التغيرات التي عاصرناها تتجاوز حدود إدراكنا أحيانا، كل ما حولنا يتغير بسرعة مفرطة، لا أنكر دهشتي وإعجابي كثيرا أمام هذه التطورات العلمية، والتحولات التكنولوجية، فنحن أمام نتائج الذكاء الصناعي بما فيها من إيجابيات وسلبيات نبهر مذعنين كمعاجز موسى وعيسى..

هذه العالم الذي أخذنا معه فبتنا أبناء الصورة رضينا أم أبينا ثقافتنا تشكلها الصورة أكثر من الكلمة، وسائل التواصل والعالم الافتراضي بات يتحكم برؤانا وعلاقاتنا وأسرنا والأهم قيمنا وأخلاقنا، فما عدنا نعرف هل نحن حقيقة ذات وجود ومعنى، أم دمى في عالم تاهت فيه المعالم.

لا شيء ثابت، وكل ما في هذه الحياة ينمو ويتغير، حقيقة إن لم ندركها ونستوعب معطياتها، قد نقذف خارج التاريخ.

هل هذا يعني أن القيم والأخلاق تتغير، قد تتغير مصاديقها، ما كان جرأة قد يكون شجاعة، وما كان حياء قد يبدو ضعفا، لست ضد تغير المصاديق من حيث الزمان والمكان، ولكن السؤال الذي أقف أمامه حائرة :

حين أكون بمجلس وتدخل كبيرة بالسن فاجدني أتقزم وأنا بنت الخمسين، لعدم أفساحي لها المكان، وأنظر حولي لأجد بنات العشرين والثلاثين يتوسطن الأماكن المريحة دون أن يهتز لها جفن؟!

وفي الشارع والسوق كثيرا يستوقفني المنظر الأم تحمل شنطة أغراضها سواء كانت ثقيلة أم خفيفة وابنتها بجانبها تمشي بكامل أناقتها تأبى حمل ما يعكر برستيجها؟؟!!

كيف كنا نخجل من النوم في فراش وثير وهناك من تكبرنا سنا تنام على الأقل؟!

نسارع لحمل ما يثقل كاهل الكبير حتى وأن لم نعرفه، والآن المساعدة تحسب بالميزان، وما خلف الشاشة لا يعبر أبدا عما تظهره؟!

قد نكون نحن جيل التضحيات على خطأ حين تنازلنا عن كل ما يسعدنا، راحتنا لأجل الآخرين تحت مسميات عدة، ولكن أنا ومن ورائي الطوفان لغة الحاضر إلى أين ستأخدنا؟!!

قد نكون على خطأ حين أعطينا الآخرين أولوية على حساب أنفسنا، وتحملنا عقد الأهل وأمراضهم، والعادات والتقاليد فحملنا أمراضهم معنا ونسينا أنفسنا، دون أن نتشفى؟!

هل تضخمت الأنا بتضخم الآلة أم أم أنها فتحت أعينهم مالم نكن نبصر؟!

ولكن ما أراه الآن أقف عاجزة عن تحليله؟!

هل تقييمنا للآخر بما يلبس من ماركات وأنا لست ضدها، ولأنفسنا بمقدار تناسق مظهرنا وجمالها، ولست ممن يقلل أهمية ذلك، ولكن؟

حين أقف أمام المرأة كيف أجد نفسي؟

هل هناك معنى أعمق من المظهر؟!

هل توقير الكبار وأحترام الآخر، ومد يد المساعدة لمن يحتاج، ودفع الأذى عن الآخر و حق الطريق وووو.. كيف نوزنها الآن وبأي ميزان؟؟!!

لست بصدد مدح جيل وذم آخر، ولا بتسليط الضوء على سلبيات نعاني منها بل تساؤلات حيرى تبحث عمن يتعمق فيها.

***

منى الصالح

هناك لحظات، لا تطرق الباب ولا تستأذن، تشعر فيها بأن كل شيء حولك يتحرك بإيقاع لا يشبهك. الناس يتحدثون، يضحكون، يخططون لغدٍ يبدو ثابتًا في أذهانهم، بينما أنت تشعر وكأنك تقف خلف زجاج لا يكسره أحد. تراقب، وتهزّ رأسك كأنك تفهم، لكن شيئًا داخلك لا يشاركهم هذا العالم بالكامل.

الغربة ليست سفرًا، وليست مدينة جديدة، ولا حتى ابتعادًا عن بيت تعرف زواياه. إنها شيء أكثر خفاءً.. شيء يتسلل إلى الروح في اللحظة التي تدرك فيها أن العالم لا يشبهك كما كنت تتخيل. وكأنك تبحث عن ملامحك في مرايا كثيرة، لكنك لا تجد إلا أطيافًا لا تطابق وجهك.

أحيانًا تأتي الغربة كحزن هادئ، وأحيانًا تأتي كحنين لا تعرف مصدره. حنين لشيء لم تعشه أصلًا. وكأن الروح تعرف طريقًا كانت تمشيه قبل أن تولد، ثم ضلّت عنه. ولهذا يبدو كل شيء جديدًا وسطحيًا، وكل لقاء مؤقتًا، وكل تعلق هشًّا. الغربة ليست نقصًا.. بل شعور زائد عن الحاجة.

في القرآن لم يكن العالم موطنًا دائمًا للإنسان؛ كان دائمًا “متاعًا”، محطة لا إقامة. وربما لهذا نشعر بهذا الثقل الداخلي؛ لأن أرواحنا تتعامل مع الدنيا كأنها مكان مؤقت، بينما نحاول نحن أن نعيشها كأنها وطن ثابت. هناك تعارض خفي بين طبيعة الروح وطبيعة العالم، بين ما نحتاجه وما يُقدّم لنا. ولذلك تبدو الأيام أحيانًا كأنها تُعاش على الهامش، بلا انتماء كامل.

الغريب الحقيقي ليس من ابتعد عن أرضه، بل من فقد اتفاقه الداخلي مع الحياة. من يشعر أن هناك معنى ما يفلت منه، رغم كل المحاولات لإمساكه. الغريب هو الذي يجلس في مكان مزدحم ويشعر بالفراغ. الذي يضحك صدقًا، لكنه يعود إلى صمته كأنه يعود إلى بيته الأصلي.

وربما.. ربما تكون الغربة هي أوضح دليل على أن الروح أكبر من هذا المكان. أنها تتذكر شيئًا لا نتذكره نحن، وتحنّ لشيء لا يمكن أن نسمّيه. وهذا الحنين ذاته هو ما يجعلنا نسعى ونفكر ونكتب ونتأمل. لولا هذا الشرخ الخفيف داخل الروح، لما بحث الإنسان عن المعنى أصلًا.

الغربة ليست لعنة، رغم قسوتها. إنها البوصلة التي تشير إلى أن القلب لا يزال يقظًا، وأن الروح لم تستسلم بعد لبلادة العيش. وكلما أحسّ الإنسان بهذا الثقل الداخلي، فهم أكثر أنه لم يُخلق ليستقر هنا. وكأن الغربة تذكير خافت بأن الطريق الحقيقي ليس خلفنا ولا أمامنا.. بل فوقنا.

في النهاية، لا أحد ينجو تمامًا من الغربة. لكن يمكن للمرء أن يتصالح معها، أن يعاملها كظلّ ثابت لا كوحش مطارد. أن يفهم أن الشعور بعدم الانتماء ليس دائمًا علامة ضعف، بل قد يكون أرقى درجات الوعي. فمن رأى هشاشة العالم، لا بد أن يشعر أنه أكبر قليلًا من مقاس المكان.

***

بقلم الكاتب مازن جراي

أدب العرب شعر ونثر (سجع ومرسل)، وفي الشعر تألقت الكتابة وفقا للبحور التي إكتشفها الفراهيدي، والنثر طغى في الخطابة والمراسلات، وما أكثر النثر المرسل بالكتب والمدونات، والمرسل كتابة حرة غير مقيدة بقافية أو وزن، والسجع أن تتشابه نهايات العبارات.

ومن المجددين في الكتابة عبد الحميد الكاتب (60 - 132) هجري، الذي لازم آخر خليفة أموي وما خانه، وتم قتله من قبل العباسيين.

والتجديد في الكتابة بأنواعها محاولات منذ أزمان بعيدة، وفي الشعر ظهر العديد من الشعراء المجددين كأبي تمام، وبشار بن برد، والمعري، وأبي نؤاس، وشعراء الأندلس، وغيرهم.

وفي النثر ومنذ عصر ما قبل الإسلام ومسيرات التفاعل الإبداعي المتواكبة مع عصورها في إزدهار وتألق.

وتواصل التجديد وفقا لمعطيات الزمان والمكان، وسيستمر في التوالد الإبداعي المفيد.

والكتابة بصنوفها المتنوعة لها توصيفاتها وضوابطها وأشكالها، ولا يصح الخلط بينها، والتجني عليها، بحشر ما لا يمت بصلة لجوهرها فيها.

فالشعر شعر والنثر نثر ولا يجوز الخلط بينهما، فلكل أصوله وضوابطه وقواعده، كما إعتادت عليها الذائقة العربية منذ أقدم العصور، فكيف يصح في الأفهام الخلط المناهض للذوق والطبيعة السليمة؟

والأواني تنضح بما فيها، ولا تنضح بما في وعاء غيرها، وما يحصل في واقعنا أننا نتوهم بأن ما تنضحه أوعية الآخرين، يمكننا أن ننضحه من أوعيتنا، وهذا يتنافى مع طبائع الأمور وبديهيات الحياة ومنطلقات الدوران، فلكل مقام مقال، ولكل حالة ملامحها ومميزاتها المعبرة عنها، ولا يجوز الخلط والتفاعل الإفتراضي المتصور ما بين الحالات.

من يريد أن يعرف لماذ يكتب اليابانيون الهايكو عليه أن يعيش معهم ويتفهم لغتهم وأساليب حياتهم وآليات تفاعلاتهم، وكذلك الذي يكتب على النهج الغربي وغيره.

إن الشعر العربي له خصائصه ومواصفاته الراسخة المتوارثة المتوافقة مع نبضات النفوس لأبناء الأمة، ولهذا فأن المنتشر في وسائل التواصل هو الشعر المتعارف عليه عبر الأجيال، ومن النادر أن تجد نصوصا أو مقاطع مما يسمى بالشعر الحر، حتى لأبرز شعرائه.

هناك من كتب (الشعر المر) لسنوات طويلة، وعندما حوّل نصوصه إلى مقالات لم يقل أحد عنها بأنها شعر، بل نثر كأي نثر جميل.

ذلك واقع علينا وعيه لننجب الأصيل!!

الشعر طاقة إبداعية تنتشل المجتمع مما هم فيه وعليه، وتأخذهم إلى آفاق التواصل مع عصرهم، ولا يجوز أن يكون إنتكاسيا مهرولا وراء الآخرين.

بإبهامٍ وترميزٍ كتبنا

لخالية وخابيةٍ مَشينا

حسبنا الشعر تنضيدا وثردا

وهرولةً وإبداعا حزينا

مضينا في مجاراةٍ لغيرٍ

فضاع عطاؤنا وغدى هَجينا

***

د. صادق السامرائي

‏ كشفت صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية مؤخرًا أن الولايات المتحدة تنوي فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي أثار قلق المحكمة وموظفيها، علمّا بأن بنيتها التحتية ترتبط تقنيّا بالمورّدين الأمريكيين.

 ولعلّ أحد الأسباب الأساسية هو أن المحكمة تجرأت في تشرين الثاني / نوفمبر 2024 على إصدار مذكرتي اعتقال بحق بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت لشنّ إسرائيل حرب إبادة على غزة وبقية الأراضي الفلسطينية.

فمنذ أن تولّى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سدّة الرئاسة، وهو يعلن جهارًا نهارًا أنه لا يتورّع عن فرض عقوبات على كل من يعارض الولايات المتحدة، وتلك إحدى تجليات السياسة الراهنة التي اتبعتها واشنطن لفرض نهجها وحليفتها إسرائيل على العالم. وتستمرّ سياسة ترامب وديبلوماسيته الدولية بالتقليل من شأن الأمم المتحدة وبقية المنظمات الدولية، وقد قامت بحرمانها من جزء غير قليل من الدعم المالي، وذلك بهدف فرض الهيمنة الكليّة عليها وتهميشها، بحيث تصبح سياستها نسخة أخرى من سياسات واشنطن، والأمر يشمل المحكمة الجنائية الدولية، حتى قبل حرب الإبادة على غزة، لكي يفلت المرتكبون من العقاب، الأمر الذي يستبعد مساءلة الجنود الأمريكيين المتهمين بارتكاب جرائم ترقى إلى جرائم حرب، وكذلك إرتكابات إسرائيل المتكرّرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وما يزيد قلق المحكمة الجنائية الدولية هو توقّعها قيام واشنطن بقطع خدماتها التقنية والمصرفية، ولذلك فهي تسعى لإيجاد بدائل عنها، بما فيها تأمين رواتب الموظفين حتى نهاية العام الجاري. الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات في وقت سابق على أفراد (قضاة ومدّعون)، وهي اليوم تدرس إمكانية فرض عقوبات على المحكمة برمّتها.

وكانت واشنطن في 13 شباط / فبراير 2025 قد فرضت عقوبات على المدّعي العام للمحكمة كريم خان بعد أيام من توقيع الرئيس ترامب أمرًا تنفيذيًا يقضي بمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية لإصدارها مذكّرة اعتقال بحق نتانياهو وغالانت.

‏وبالطبع هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها واشنطن المحكمة الجنائية الدولية، التي تأسست في روما وأُبرم ميثاقها فيها العام 1998، فقد ناصبتها العداء منذ قيامها، ودعت الدول إلى عدم الانضمام إليها، وقبل انتهاء المدة المحدّدة للانضمام العام 2000، انضّمت إليها قبل دقائق من إغلاق باب الانضمام لتصبح دولة مؤِّسسة، وتبعتها إسرائيل، لوضع عراقيل وألغام في ميثاقها، وخصوصًا الامتناع عن مساءلة جنودها عن ارتكابات محتملة يمكن أن تقوم بها، مستبعدةً اعتبار الاستيطان جريمة دولية، وكذلك جريمة شن الحرب والعدوان، وحين اكتمل توقيع وتصديق 60 دولةً عضوةً على المعاهدة، كما تقتضي مدوّنتها، انسحبت منها الولايات المتحدة في اليوم التالي وتبعتها إسرائيل، وذلك حين دخلت حيز النفاذ في 1 تموز / يوليو 2002.

‏كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على المدّعية العامة السابقة في المحكمة الجنائية الدولية السيدة فاتو بنسودا التي أعربت عن نيتها في إجراء تحقيق بخصوص جرائم الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة على أفغانستان، والتي تشير إلى تورّط جنود أمريكيين، كما فرضت عقوبات على أحد القضاة في مكتبها.

‏ومنذ اليوم الأول للمناقشات بشأن ميثاق روما، حاولت واشنطن وضع العصي في عجلة المحكمة، مستفزّة دولّا مثل إيطاليا وفرنسا والعديد من الدول الأوروبية المتحمسة لإنشاء المحكمة وإبرام ميثاقها، ومن جملة اعتراضات واشنطن على الميثاق اعتباره مليء بالعيوب، وينبغي أن تخضع المحكمة لمجلس الأمن الدولي الذي تمتلك فيه "حق الفيتو".

وكان الكونغرس قد دعا إلى إقرار قانون أطلق عليه "قانون حماية أعضاء الخدمة الأمريكية"، وهو ما عُرف بقانون الضد من قانون لاهاي، واعتبر الكونغرس ميثاق المحكمة يمثّل خطرًا ليس على الولايات المتحدة فحسب، بل على الرئيس الأمريكي، وكان هذا الأخير قد أكّد أن أي حالة اعتقال أو احتجاز من جانب المحكمة الجنائية الدولية لأي من الأشخاص الذين تشملهم الحماية الأمريكية، فيحق للرئيس الأمريكي استخدام جميع الوسائل الضرورية المناسبة لإطلاق سراح المعتقل أو المحتجز، سواء لدى المحكمة الجنائية الدولية أو من ينوب عنها، ومثل هذه النصوص عادة ما تدخلها الولايات المتحدة في الاتفاقيات الدولية التي توقّعها مع الدول لاستثناء الجنود الأمريكيين من المساءلة، وهو ما ورد في المعاهدة العراقية – الأمريكية، التي تم التوقيع عليها في العام 2008.

وإذا كانت وظيفة القضاء تحقيق العدالة ومساءلة المذنبين أو المخالفين للقواعد القانونية، فإن واشنطن وضعت نفسها فوق القضاء الدولي، وهي التي قامت بمعاقبته، لأنه أراد تحقيق العدالة، وإن بحدّها الأدنى.

***

عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي

لو قُيِّضَ للأنهار كتابة يومياتها، لكان دجلة أكثرها أحداثاً، فكم حضارة، سادت ثم بادت، نشأت على شاطئيه، وغمرها ماؤه، مِن أول جريانه وحتَّى جفافه، هكذا تناقلت الأخبار، أنَّ المنبع حُجب بالسُّدود العملاقة حجباً مُحكماً، مع أنَّ العدالة في المياه مِن حقّ الدول المتشاطئة، بينما جريانه داخل العِراق (1400كم) مِن (نحو 1800كم)، فماذا يحدث بجفافه، سيكون وادٍ «غير ذي زرع»، يُبحث فيه عن الماء. حسناً فعل مَن سبق الحدث وصنّف لتاريخ دجلة «فيضانات بغداد»، قصّ فيه أحمد سوسة قصة النَّهر العملاق، الذي كان مِن أربعة ذُكرت في «الكتاب المقدس»(حداقل).

مَنْ لم يوظف الكناية: «إذا حضر الماء بطل التيمم»! في الإشارة إلى المفاضلة بين شيئين أو شخصين، ولا أظن أنَّ أهل العراق أكثروا من توظيف الكناية، مثلما لا أظن أن لجأ أهل الأهوار والمجاورين للشطّ والنهرين والزابين إلى أداء صلاة الاستسقاء لزرعهم وضرعهم! إلا أن المصيبة لم نسمع بدولة تحولت مياهها إلى تراب، ونباتها الطري شوكاً وعاقولاً، ونسيمها بريح السموم، مثلما حصل لدلتا النهرين الأهوار، وعيون الماء في الجبال!

وهناك ما يُشبع الفضول في ربط العراق بالماء، حيث أقام، ونما على أرضه الصابئة المندائيون، ومعلوم أن عبادتهم تعتمد ماء الأنهر الحي. ومثالاً على شهرة هذه البلاد بالماء يُروى أن أحدهم سأل النبي محمد(ص)، وهو يتجّه مع رجل من أصحابه إلى موضع بدر (رمضان 2 من الهجرة)، بلا سابق معرفة: «ممَنْ أنتما؟ فقال رسول الله (ص): نحن من ماء! ثم انصرف عنه. قال: يقول الشيخ: ما من ماءٍ؟ أمِنْ ماء العراق!» (الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك). وفي اقتران العراق بالماء قال الشاعر: «ارفق بعبدك إنّ فيه فهامةً/ جبليةً ولك العراق وماؤها».

هذا، والحديث حول ماء العراق ذو شجون، فإن تحدثنا عن دجلة وروافدها، والزابين، والفرات، لأشار البردي والقصب بأطرافهما، وليس لنا إهمال ما أورده عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255ه) في أهوار جنوب العراق، حيث دلتا دجلة والفرات، من كلام موجز وبليغ.

قال: «لو اجتهد أعلم الناس، وأنطق الناس أن يجمع في كتاب واحد منافع هذه البطيحة، وهذه الأجمة لما قدر عليها. قال زيد: قصبة خير من نخلة. وبحق أقول: لقد جهدت جهدي أن أجمع منافع القصب ومرافقه وأجناسه، وجميع تصرفه وما يجيء منه فما قدرت عليه حتى قطعته، وإنما معترف بالعجز مستسلم له» (كتاب البلدان).

وهذا بشار بن بُرد قال في صفاء ماء الرافدين رداً على الكوفيين، وهو ينساب إلى البصرة عبر البطائح (الأهوار): «الرافدان توافى ماء بحرهما/ إلى الأبلة شرباً غير محضور».

عندما يجفُّ دجلة لا يجفُّ ماؤه فقط، تجفُّ ثقافة وأدب، ويهاجر البشر، فقد بنوا مدنهم على الماء، سيرحل الصَّيادون، وينعدم الغذاء، الذي كان يهبُه ماؤه، من أسماك وطيور وزروع، ستتصل كرخ بغداد برصافتها بلا جسور، وما بنيت بغداد ومُصرت عاصمة إلا بوجود دجلة، سيمتد أذى الجفاف إلى العراق كافة، وستتأثر البحار التي تُغذيه بالماء.

ستتأثر الأمطار، فلم تنشأ السُّحب منه، وتشتد عواصف الأغبرة. إنَّ جفاف دجلة أكثر خراباً مِما تتركه الحروب، باجتياح أو غزو، لأنه يقضي على واحد مِن أهم وأخطر أسباب الحياة، وكم مِن غزو شهدتها بغداد، وأحالتها خراباً، ويُعاد إعمارها بماء نهرها.

يُفهم مما تقدَّم أن العراق مقرون بماء رافديه، وها هو القرين بخطر، ولو بيع لبيع مثلما يباع النَّفط عبر صهاريج، وأنابيب بلا عدادات، ولتقاسمت الأحزاب الأنُهر والشطوط، لكنهم فرطوا ولم يحافظوا على النَّهر.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

من الاسئلة التي أثارت جدلاً واسعاً بين من أرخ لتاريخ تنظيم الدعوة الاسلامية وطُرحت حولها اجابات مختلفة هي:

ـ من هو صاحب فكرة تأسيس هذا التنظيم؟

ـ وفي أي سَنة تأسس؟

ـ ومن هم مؤسسوه الأوائل؟

لقد اثبتنا في حلقة سابقة ان المفكر الشهيد محمد هادي السبيتي هو صاحب فكرة تأسيس تنظيم الدعوة الاسلامية، وهذا الاثبات يغنينا عن اثبات انه كان ضمن قائمة مؤسسي التنظيم وحاضر في اجتماعاته التداولية والتأسيسية الأولى لأنه من غير المعقول ان يكون صاحب الفكرة خارج نطاق المؤسسين وهذا أمر غريب ربما لم يحدث إلاّ في تنظيم الدعوة الاسلامية، وان استبعاد اسمه من قائمة المؤسسين للحزب من قبل بعض المؤرخين هو خطأ تاريخي ومنهجي تختفي وراءه أسباب غير منهجية.

 لقد حصل تخبط كبير من قبل بعض الباحثين في تحديد عدد واسماء مؤسسي الدعوة الاسلامية، ووضعوا لذلك بعض الشروط والمقاييس:

منها: ان المؤسسين هم الثمانية الذين حضروا اجتماع النجف الاشرف.

ومنها: ان المؤسسين هم الذين حضروا اجتماع  كربلاء.

ومنها: ان المؤسسين هم من حضروا اجتماعي النجف وكربلاء.

 لقد حدد بعض الباحثين ان عدد المؤسسين ثمانية ثم أصبحوا تسعة ثم عشرة عندما اضيف لهم الدكتور المرحوم جابر العطا. وعلى هذا النمط من التخبط والعشوائية وعدم الموضوعية جرى تحديد عدد واسماء المؤسسين، ونسجل على هذا التخبط بعض الملاحظات:

الملاحظة الاولى: إن مسألة تحديد مؤسسي الدعوة ليست خاضعة للبحث العلمي الانتقائي لأنه ليس كل من حضر في اجتماعي التأسيس في النجف وكربلاء أو في أحدهما يعتبر مؤسس وغيره ليس كذلك، بل يجب ان تؤخذ هذه المعلومة إما من المؤسسين الأحياء او من المنتمين الأوائل الذين عايشوا تلك المرحلة وعاشوا الحدث. وهم من يحدد ذلك.

الملاحظة الثانية: لم يعرف يومذاك في عرف المنتمين لتنظيم الدعوة الاسلامية وجود مؤسس حضر الاجتماع وغيره لم يحضر الاجتماع التأسيسي، بل كان قادة ومؤسسي الدعوة معروفين للدعاة ولم يكن في المسألة يومذاك لبس ولا غموض كما يقول الاستاذ محمد صالح الاديب: (ففي ذلك الوقت كان الأمر يختلف فلم يكن الأمر مشخصاً على أساس أن هؤلاء هم قيادة الحزب وإنما هم أخوة يقومون بمثل هذا العمل بشكل طبيعي دون ان يشكل هذا الأمر امتيازاً..)(1).

الملاحظة الثالثة: ان بعض مؤسسي تنظيم الدعوة الاسلامية كانوا لا يحفظون ولا يتذكرون بشكل دقيق الاشخاص الذين حضروا الاجتماعات التأسيسية الاولى ومنهم الاستاذ محمد صالح الأديب الذي يقول: (فأنا شخصياً لم احفظ أسماء جميع من حضر الاجتماع التأسيسي ولكن عندما أجلس مع أخواني.. وأقول لهم تعالوا نتذكر من حضر الاجتماع التأسيس فقد يتذكر احدنا اثنين أو ثلاثة وينسى البقية...)(2).

 ورغم الملاحظات التي ذكرناها يمكن ان نثبت حضور الاستاذ السبيتي في اجتماعات التأسيس من خلال الشهادات التالية:

أولاً: شهادات المؤسسين:

شهادة السيد مرتضى العسكري:

يقول السيد مرتضى العسكري (رحمه الله): (اجتمعنا أربعة أشخاص، أنا والسيد مهدي الحكيم، والشهيد الصدر والرابع لا استطيع ذكر اسمه لأنه لا يزال حياً وقررنا تشكيل الحزب، وبعد ذلك دعا كل منّا من يعرفه فدعوت محمد هادي السبيتي ومحمد صادق القاموسي وصالح الأديب، ودعا السيد مهدي الشهيد عبد الصاحب دخيّل، وعقدت هذه المجموعة اجتماعها الأول...)(3).

شهادة الأستاذ محمد صالح الأديب:

رغم ان الاستاذ الاديب (رحمه الله) لم يذكر حضور الاستاذ السبيتي بشكل مباشر في اجتماع كربلاء ولكنه يشير الى نقطة مهمة وغير مباشرة تدل على حضور الاستاذ السبيتي في ذلك الاجتماع، فقد بقي عالقاً  شيء في ذاكرته من ذلك الاجتماع إذ يقول: (والذي اتذكره من ذلك الاجتماع بأنه خُتم بالدعاء الذي يردده كل من ينتمي الى حزب الدعوة الاسلامية في قنوت صلاته وهو الدعاء المعروف: "اللهم إنا نرغب اليك في دولة كريمة تُعز بها الاسلام وأهله وتُذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة الى طاعتك والقادة الى سبيلك، وترزقنا فيها كرامة الدنيا والآخرة"..)(4). وهذه النقطة التي يذكرها الاستاذ الاديب لها ربط بشهادة السيد مرتضى العسكري (رحمه الله) إذ يقول: (فقد أقترح علينا محمد هادي السبيتي أن نقرأ في القنوت أثناء الصلاة دعاء "اللهم إنّا نرغب اليك في دولة كريمة..الخ")(5) وأغلب الظن ان هذا المقترح طرحه الاستاذ السبيتي في اثناء اجتماع كربلاء وهو يدل بشكل واضح على حضوره فيه.

ثانياً: شهادات غير المؤسسين:

شهادة السيد محمد حسين فضل الله

يقول السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله): (..التقت هذه المجموعة، والتقيتُ معها لأن أعضاءها كانوا في معظمهم أصدقاء لي. لكن الجلسات كانت أقرب إلى الحديث العام منه إلى الخاص. لم يكن هناك تنظيم عندهم. ثم التقت هذه المجموعة مع السيد محمد باقر الصدر الذي بدأ يفكر إسلامياً بعد أن كان مستغرقاً في عالم الفقه والأصول في دراسته الحوزوية التي برز فيها مبكراً. وبرز من المجموعة المتحركة السيد مهدي الحكيم ابن المرجع السيد محسن الحكيم، الذي اغتالته المخابرات العراقية في السودان في عهد الصادق المهدي. ومن أعضائها أبو حسن السبيتي الذي بدا ايضاً ان المخابرات العراقية اغتالته بالتعاون مع المخابرات الأردنية. والى جانبهما، الحاج عبد الصاحب دخيل الذي اعتقله النظام العراقي وذَوَّبه بـ"الأسيد". وهناك أسماء غير بارزة..)(6).

شهادة الشيخ علي الكَوراني:

يقول الشيخ علي الكوراني (رحمه الله): (كان لأبي حسن دور في تأسيس الدعوة، وكان في قيادتها الى أن استشهد (رحمه الله)، وقد شارك في جلسات القيادة باستمرار)(7).

شهادة الحاج كاظم يوسف التميمي:

يقول الحاج كاظم يوسف التميمي "ابو صاحب" (رحمه الله): (كانت فكرة اللقاءات في البداية بين اسلاميين حركيين من السُنة والشيعة، وكانت الفكرة تدور بشأن حركة دعوة اسلامية عامة تضم أبناء الطائفتين، وفي آخر اجتماع تأسيسي لم يحضره ممثلو السُنة، فأقتصر الاجتماع على محاور الشيعة التنظيمية فقط. تلك الاجتماعات الأولية كانت تضم اسماء كثيرة، لكن فيما بعد اقتصرت هذه الاجتماعات على [تسعة] اشخاص فقط، وهم الذين شكّلوا الدعوة الاسلامية، ولم تُعرف باسم حزب الدعوة في ذلك الوقت، فتشكلت الدعوة حسب علمي بدايات ١٩٥٩ أو نهاية ١٩٥٨م، وكان مؤسسوها [التسعة] الأوائل هم الدكتور جابر عطا، والسيد محمد باقر الصدر، وطالب الهندسة محمد هادي السُبيتي، ورجل الدين السيد مرتضى العسكري، ورجل الدين السيد محمد مهدي الحكيم نجل المرجع آية الله السيد محسن الحكيم، ومحمد صالح الاديب، والسيد طالب الرفاعي، والسيد محمد باقر الحكيم،[وعبد الصاحب دخيّل])(8).

شهادة السيد هاشم ناصر الموسوي:

يقول السيد هاشم الموسوي "ابو عقيل": (.. فحضر الاجتماع التأسيسي كل من السيد محمد باقر الصدر ومحمد باقر الحكيم ومهدي الحكيم ومحمد هادي السبيتي والحاج صالح الأديب وأبو عصام صاحب دخيل وعقد الاجتماع في بيت الحكيم بكربلاء، ونُقلت لي رواية هذا الاجتماع وما دار فيه من قبل الحاج صالح الأديب ومن السيد مرتضى العسكري. هذه المجموعة شكلت النواة الأولى لتأسيس حزب الدعوة الإسلامي..)(9).

اعتقد ان ما ذكرنا من ملاحظات وشهادات تثبت ما اردنا اثباته وستخرج مستقبلاً ادلة ومؤيدات أخرى تكشف الحقيقة وتنصف المظلومين.

***

أزهر السهر

 

تدور الكثير من أحاديثنا حول التعب، نقص الوقت، القلق، والإنهاك الذي نشعر به يوميًا عند مواجهة واجباتنا والتزاماتنا – مهما كانت ملحّة أو متطلبة. كثيرًا ما يُستحضر ما يسمى بـ متلازمة الاحتراق النفسي (burnout)، الناتجة عن التعرض الطويل للضغط المهني. لكن علينا أن نتساءل: أليست هذه الحالة المزمنة من الضيق نتيجة سبب أعمق؟ طريقة العيش المفروضة علينا، الشكل الذي ينظم وجودنا في العالم، والذي اعتدنا عليه مضطرين.

ألا يكون هذا التعب نتيجة ترويض صامت وصبور لإيقاعاتنا، لإرادتنا، ولأفكارنا؟ ترويض يستنزف طاقتنا يومًا بعد يوم دون أن نكاد ننتبه. ولهذا فقد حان وقت العصيان؛ والعصيان، في أصله اللغوي، يعني التوقف عن الامتثال لأوامر تخدم مصالح تسلبنا حريتنا.

لسنا متعبين بسبب ما ننجزه، بل بسبب ما لا ننجزه (خارج حدود الإنتاجية والنفعية)، وبسبب الجوهر الوجودي الخانق الذي تعبر فيه حياتنا. ما المنطلقات الأنثروبولوجية والاجتماعية والوجودية التي أجبرنا على قبولها كي نعيش كما يُملى علينا أن نعيش؟ المشكلة ليست فينا (كما يقال لنا بلهجة اتهامية: "أنت لست كفء"، "أنت لا تتأقلم"، "اذهب إلى العلاج")، بل في كل ما نُحرم من فعله حين لا نستطيع إلا أن نقول نعم لنظام فُرض علينا العيش فيه، ولا يمكننا رفضه إلا بثمن النفي، العزلة، والاقتلاع. كتبت سيمون فايل: "غرس الجذور ربما يكون أهم حاجة – وأكثرها إهمالًا – في النفس البشرية".

اليوم تُثار نقاشات كثيرة حول النوستالجيا، وهل ينبغي استعادة عناصر من الماضي لإسقاطها على الحاضر. لكن لا أحد يفكر في الأساس: في الحرمان العاطفي المتعمد الذي يعيشه الإنسان المعاصر، وفي شعور التخلي الذي يجعله يبحث عن ملاذ في الماضي أو المستقبل لأنه يشعر مطرودًا من حاضره وضائعًا فيه. نحن منهكون لأننا صدقنا السردية القائلة إن الحرية تعني أن نضطر للاختيار بين أفق لا محدود وضاغط من الإمكانيات. نُسينا أن هذا الخيار نفسه يقيدنا في عجلة إنتاجية شرهة، قائمة على التوتر والمراقبة والإنجاز، يُرغموننا أن نتأقلم معها – باسم المرونة.

إنها ليست مجرد حالة نفسية أو طبية، بل حالة وجودية (أنطولوجية) تفسر شعورنا بالإنهاك، وخيبة الأمل، والحزن إزاء حياتنا العادية. ومن هنا أطرح مفهوم "الإرهاق البنيوي": إنه ليس مرضًا، بل كسْر صامت تولّده أوامر تجبرنا على الاحتمال والطاعة والامتثال.

لم يعد الذهاب إلى العلاج النفسي كافيًا، لأن العلاج غالبًا يساعد الإنسان على التكيف مع واقع معيب بدلًا من تغييره. نحن بحاجة إلى زلزلة مجتمعية واعية تجعلنا نفكر لا في الأحداث فقط ("ما الذي يحدث؟")، ولا حتى في آثارها ("لماذا نشعر هكذا؟")، بل في أصل الواقع نفسه: ما الذي يجعل ما يحدث ممكنًا؟

هذا الإرهاق البنيوي أشبه بعَرَض بلا مرض، حزن بلا سبب ظاهر. أعتقد أنه يعود إلى حداد لم نكمله بعد: إنه اختفاء ما هو خالد. على مر التاريخ، ظل الإنسان مفتونًا بما يتجاوز الفناء: بالسماء، بالبحر، بالخلود. أما اليوم، فقد أُخضعت أجسادنا لإملاءات "التحمل" و"المرونة"، وسُرقت منا القدرة على التوجه إلى ما يسمو على قيودنا. صارت حياتنا أسيرة فراغ تافه، تسلية استهلاكية، ومنطق إنتاجي بلا معنى.

لكن ثمة شيء في داخلنا يرفض أن تختزل الحياة في دورة الاستهلاك والسرعة والجدوى. نحن نُحسّ بفقدان الخالد، ونعاني من نوستالجيا المطلق (كما سماها الشاعر نوفاليس). كتبَت ماريا ثامبرانو: "بينما تمتلئ الحياة بالأدوات التقنية والعجائب الميكانيكية، تبقى الروح والقلب فارغين، وتُستعبد الساعات بفراغ زمن ميت، حتى يستولي الفراغ على الحياة."

في النهاية، نحن نتوق – ربما بلا وعي – إلى ما لا يذبل ولا يفنى. نتوق إلى الجمال، إلى الخلود، إلى مجتمع يعترف بأن الآخر ليس "آخر" بل هو نحن في الجوهر، كما قال أفلوطين: "النفوس كلها واحدة".

لقد دُرِّبنا على العيش كأن كل شيء له تاريخ انتهاء: المشاعر، الروابط، حتى الكلمات. لكن ما يجعلنا بشرًا، ما يربطنا ويمنع عزلتنا، هو ذاك الحنين إلى المطلق، إلى ما لا يشيخ. ومن هنا، علينا أن نحرس ونحافظ على ما هو خالد فينا، لأنه وحده ما يمنحنا الحرية والجذور.

***

محمد إبراهيم الزموري

مؤلم جداً أن نرى دولنا تتذيل قوائم التصنيف العالمي والدولي فيما يخص مستويات العلم والخدمات وغيره من مواكبة التطور الذي يشهده العالم. مؤلم جداً أن ترى تراجع نصنيف مستويات الجامعات العراقية عالمياً أو تعرضها لأحتمال سحب الثقة بينما ترتقي جامعات شابَة أخرى لم تكن في يوم من الأيام منافسة لجامعاتنا وقد يكون هذا الأرتقاء بجهود وعقول عراقية. بل مؤلمٌ أكثر عندما لا يُصَنّف بلدنا بالأساس ضمن قائمة تصف ميَزة إيجابية أو خاصية أساسية او سلوك عام يخدم المواطن نفسه.

في دراسة عالمية بقيادة مايلز ريتشاردسون، أستاذ الارتباط بالطبيعة في جامعة ديربي ضمت العديد من الباحثين من بريطانيا والنمسا ونشرتها مؤخراً مجلة أمبيو وأعادت نشرها الكارديان تركزت حول تفاعل الأنسان مع الطبيعة وارتباطه بها، تبين أن النيبال هي الدولة الأكثر ارتباطاً بالطبيعة، تليها إيران وجنوب أفريقيا وبنغلاديش ونيجيريا. كرواتيا وبلغاريا هما الدولتان الأوروبيتان الوحيدتان ضمن العشرة الأوائل، تليها فرنسا في المركز التاسع عشر. تأتي هولندا، وكندا، وألمانيا، وإسرائيل، واليابان، وإسبانيا في مرتبة متأخرة عن بريطانيا، وهي الأقل ارتباطاً بالطبيعة من بين الدول الـ 61 التي شملها الاستطلاع. الدراسة التي شملت 57 ألف شخص، بحثت في كيفية تشكيل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والثقافية لمواقف الناس تجاه الطبيعة. الارتباط بالطبيعة مفهوم نفسي يقيس مدى قرب علاقة الفرد بالآخرين وبالطبيعة. وقد وجدت الدراسات أن الأشخاص الذين يتمتعون بمستويات أعلى من الارتباط بالطبيعة يتمتعون برفاهية أفضل، وهم أكثر ميلاً للتصرف بطرق صديقة ومحبة للبيئة. وقد تم تحديد انخفاض مستويات الارتباط بالطبيعة كأحد الأسباب الرئيسية الثلاثة الكامنة وراء فقدان التنوع البيولوجي، إلى جانب عدم المساواة وإعطاء الأولوية للمكاسب المادية الفردية. قال ريتشاردسون، الذي أقر بأنه لم يُفاجأ بتدني مستوى بريطانيا في قائمة الارتباط بالطبيعة: "لا يقتصر الارتباط بالطبيعة على ما نفعله فحسب، بل يشمل أيضاً مشاعرنا وتفكيرنا وتقديرنا لمكانتنا في العالم الحي."

لكي لا أبتعد في مقالتي هذه عن عنوانها، فأنا لا أبحث هنا في تعزيز عوامل الطبيعة واقامة حدائق عامة ولا في تشجيع الحكومة على أنشائها والناس على زيارتها والعناية بها، رغم أهمية ذلك للراحة النفسية والصحة العامة وتحسين الظروف اليئية ولا أُريد التذكير هنا بأنها تُعَد مقياساً يُجريه البنك الدولي لمدى ملائمة الدولة للأعمال التجارية. الا أنني أتسائل، أين نحن من هكذا دراسات وبحوث وتصنيفات؟ أين يقع العراق في هذه القائمة؟ خصوصاً وأن الدراسة شملت دول مجاورة! لماذا لا يعتبرنا علماء العالم ويدرجونا ضمن دراساتهم وبحوثهم؟ هل أصبحت صحتنا النفسية والعقلية لا تهم؟ وماذا عن التلوث البيئي في سمائنا وهوائنا ومائنا؟ هل هنالك من يراقبه ويهتم لمراقبته؟ الأسوأ، أنه حتى في الدراسة الأولى من هذا النوع فأنه لم يتم اعتمادها البيانات التي تم جمعها من العراق والسبب كان (عدم امكانية اعتمادها لتدني النوعية)! الا يوجد عندنا من يُعتَمَدْ عليه لجمع البيانات حسب المقاييس العالمية؟

أقول، أذا كانت دول مثل بريطانيا وايرلاندا التي تمتلك أجمل مواقع الطبيعة، فالريف البريطاني ومزارع ايرلآندا تعتبر مزاراً يتوافد اليه السائحين من جميع أنحاء العالم وهما محط انظار أغنى مستثمرين العالم ورغم ذلك فأن هذا الريف الذي تتخلله البحيرات والأنهار وتزينه شلالات المياه الجميلة لم تعد تستقطب الناس وتثير مشاعرهم ليتفاعلوا ويرتبطوا به.  في هذا الصدد، تقترح الدراسة أعلاه أن من العوامل الأكثر تحديدًا التي وجدتها والمرتبطة بانخفاض الارتباط بالطبيعة، مستويات التحضر، ومتوسط الدخل، واستخدام الإنترنت.

السؤال الأخير للمواطن والحكومات في منطقتنا منطقة الشرق الأوسط ودول العالم الثالث، هل تستوعبون أين العالم الآن وأين نحن منه؟ أذا كانت دول اوربية مثل بريطانيا وأيرلاند في ذيل قائمة لأرتباط الناس بالطبيعة، فأين سنكون نحن لو دخلنا هذا التصنيف؟ أعتقد ان الجواب على هذا السؤال يُعَدُّ موجود ضمنياً وهو أننا (خارج نطاق التغطية) 2120 obaydi الدول العشرة الأكثر أرتباطاً بالطبيعة 2121 obaydi

 

الدول العشرة الأقل أرتباطاً بالطبيعة

***

الدكتور مهند العبيدي

قالَ مبارَك بالقهقهة - وهي لسانُ القرد - إنّ النهيق منطِقُ الحمار، وإن المُطفأ لا يَعرِف أكثر ممّا عرفَ على أبويه اللّذين لم يعرفا أكثر ممّا عرفا على أبويهما، تسلسلاً حتى رأس ناحية البراري والإسطبلات وآذانِ ناطحاتِ السحاب. تعلّمْ يا مبروك أنّ لون اللّون الأبيض أحمر ياقوت"!. وشخرَ مبروك ونخر وسبَّ الشمسَ والقمر وقال: "لا يستقيم الظلُّ والعُودُ أعوج"، اللّون الأبيض لونه أخضر زمرّد وليس غير أخضر زمرّد"!. ونعقا على بعضيهما البعض أو نهقا أو زعقا. وسمعَ أخوهُما برَكة وركض نحوهما وضحك بعدما سمع ما قالاه حتى إنقلب على ظهرِه ضحكاً، ومثلما يُقال "ذهبَ الحمارُ يطلبُ قرنين عادَ مصلومَ الأذنين" قال وهو لا يزال على ما هو فيه: "لا يا مبارك ولا يا مبروك، لا أحمر ياقوت ولا أخضر زمرّد، هو أزرق فيروز ". غضب مبارَك ومبروك أن يكون أخوهما بَرَكة على هذا القدر من التيه، قالَ مبارَك لابطَاً بالطول والعرض: "على الباغي يا بركة تدور الدوائر، اللّون الأبيض لونه أحمر ياقوت"، وقالَ له مبروك وعيناه تكتظّان بالتحدّي فيما يوسّعهما: "لا يا برَكة، لا أحمر ياقوت ولا أزرق فيروز، بل هو أخضر زمرّد وليس غير أخضر زمرّد". واختلطَ الحابل بالنابل عواءً ونباحاً، وكان في الجوار ظربّان - دويّبة فوق جرو الكلب منتنُ الريح.

وفي اليوم التالي وهم عند أجران الماء قالَ مبارك كأنّما إعتذاراً عن حديثِ الأمس: إنّ "أعْقَل الناس أعذرُهم للناس"، وقالَ مبروك: إنّ "مَنْ طلبَ أخاً بلا عيب بقي بلا أخ"، وقالَ بركة: "شُخْبٌ في الإناء وشُخْبٌ في الأرض - مثلٌ يُضرَب للرجل حين يصيب في فعلِه أو منطقِه مرّة ويُخطئ مرّة، وأصل المثل في الحالِب الذي تارةً يُخطئ فيحلب في الأرض وتارةً يصيب فيحلب في الإناء، والشُخْبُ هو الحليب يخرج مِنَ الضرع - وقيل: "بكلّ وادٍ أثرٌ مِنْ ثعلبة - مثَلٌ قالَه رجل مِنْ بني ثعلبة رأى في قومِه ما يسوؤه، فإنتقل إلى غيرهم، فرأى منهم مثل ذلك - وحثَّ شقيقيه مبارك ومبروك أن يكون لهم معاً كلام واحد في لون اللّون الأبيض. قالَ مبارَك لذاته: "تلبَّدي تَصِيدي - والتلبّد هو اللّصوق بالأرض لختْلِ الصيد - وقال لأخويه: "كلامنا الموحّد هو أنّ لون اللون الأبيض أسود بلون الماس الأسود". ارتعدتْ مفاصلُ مبروك وقالَ: "موقفُنا هو إنّ لون اللون الأبيض أصفر بلونِ زهرِ الصبّار الأصفر وكلُّ كلام آخَر لا إعتبار له حتى يشيب الغراب"، ونظرَ إلى برَكة وقال له: "ويلك يا أزرق العين" - ويُقال: يا أزرق العين للعدوّ، ويقولون في معناه: هو أسود الكبد - وضربَ الأرضَ بقدمِه، وتقدّم وتأخّر، والتفتَ إلى مبارَك وقال: "لون اللون الأبيض أصفر بلونِ زهرِ الصبّار الأصفر وهذا آخر كلام عندي". وقالَ برَكة: "خذوا لبيطاً إذا شبع اللئيم، وإذا هو من مدينة عبقر قولوا هو حمار إبن حمار أو حمار الحمير لا يكفّ عن التخاطب مع غيرِه باللغة التي لا يفقهها أحد غيره، لون اللون الأبيض بلون الياقوت الكشميريّ الأزرق السماويّ وليس بغير الياقوت الكشميريّ الأزرق السماويّ". قاطعاه، مبارك ومبروك، باللّطم، وحثّاه على الإهتداء. ومَنْ كان نعجة أكلَه الذئبُ، ونهشتِ الحيّةُ ولدغتِ العقرب، ومبارك ينعق نعوقَ الغراب ومبروك يهدر هديرَ الجَمَل وبرَكة يعزف عزيفَ الجنّ حتى رأوا أسداً مقبلاً على صهوة الريح. فرّوا لا يلوون على شيء خوفاً من الموت المحتّم.

وفي اليوم الثالث كانوا إلى مأدبة، قالَ مبارك: "لكلِّ صارمٍ نبوة" - ونبا السيفُ: تجافى عن الضربة - و"لكلّ جوادٍ كبوة" - وكبا الحصانُ: عثر - و"لكلّ عالِمٍ هفوة" - وهفوةُ العالِم: زلّتُه - والتقاه مبروك وقال: "النهيق مُنتَج طبيعيّ وطبعه المرح فيما الزعيق مُنتَج صناعيّ مثل أزيز الرصاص وجعير الصواريخ وغيرهما مِنْ لغاتِ اللّصوصيّةِ والكراهيّة". وافق بركة وقال: "إذا تكاثرتِ الحوافرُ تكاثرت المشاجرات وحوادثُ المرور". وإتّفقوا أنَّ الكلب الحيّ خير مِنَ الأسد الميْت وأنّ المهراجا أو الخواجا أو الكونت أو الباشا أو اللّورد نار على عَلَم - والعَلَم هو الجبل المرتفع - وأنَّ صاحبَ الحاجة أعمى، وأنّ العبدَ مطيّة الإقطاعيّ، وأنَّ الكومبرادور ذيل البرجوازي أو الرأسماليّ أو الإمبريالي.

وطاروا إلى كبيرِهم، ودخلوا عليه وحدّثوه فيما اختلفوا فيه وهم جاهزون لسماع ما سيقول فقال: يُقال "أعقلْ لسانَكَ إلاّ في أربعة: حقّ توضحه وباطل تدحضه ونعمة تشكرها وحكمة تظهرها"، والرجالُ أربعة: "رجلٌ يدري ويدري أنّه يدري فذلك عالِمٌ فاتبعوه، ورجلٌ يدري ولا يدري أنّه يدري فذلك نائمٌ فأيقظوه، ورجلٌ لا يدري ويدري أنّه لا يدري فذلك مسترشدٌ فعلّموه، ورجلٌ لا يدري ولا يدري أنّه لا يدري فذلك جاهلٌ فارفضوه". ضقتُ بكم ذرعاً، ألسنا على العهد إذا أُشكِل علينا أو غُرِّر بنا نحتكم من فورنا إلى ميدان الطعان والمنتصِر يكون قد نطق بأصدق المقال والمهزوم يكون قد نطق بالباطل أو المحال"؟.

وقال الراوي يا سادة يا كرام، ولا يطيب الكلام إلاّ بحضرة ذوي الأفهام، إنّ أبي العيناء سأل رجلاً عن دربِ الحمير؟، قال الرجل: "أدخلْ أيّ دربٍ شئت". يكذب مَنْ يقول إنّ الحضارة هي مُنتَجُ العنف، ولو ذلك صحيح لرأيتم الحمران، وأيديهم حوافر، قد سبقوا إلى القمر، وربّما هم يغتذون على الضوء ملتهمينه لا لا بالملعقة أو المغرفة بل بالشوكة والسكّين".

وخرج الأخوة الأعداء إلى ميدان الطعان، وتقاتلوا بالسيوف الحدب والرماح المكعّبة، وكان مبارَك أخْيَر بمواقع الطعن وأرشق، وأتتْ طعنةٌ منه في صدرِ أخيه مبروك، ثمّ فرغ لأخيه برَكة، وصارَ بينهما طعنٌ يقصف الأعمار، وشخصتْ لهما الأبصار، وتعاكستْ بينهما ضربتان وإذْ كلٌّ منهما يبري رقبةَ الآخر كما يبري الكاتبُ القلم.

ورأى الكبيرُ وسمع، وزفرَ وشهق، وقالَ كأنّه في تياترو: "دواءُ الدهر الصبرُ عليه، ماذا عندي في هذه الفانية؟، ما لي ثاغية ولا راغية" - والثاغية هي النعجة والراغية هي الناقة - ولو اتّجرتُ بالأكفان ما ماتَ أحد". وقبل إسدال الستارة إنهارَ على الأرض، ورفع يداً والدمع لا يكفّ عن خدّيه وقال: "ماتوا جميعاً، ليتَ واحداً منهم نجا لأعلم به ما ربّ لون اللّون الأبيض"؟!.

***

شوقي مسلماني

 

ناقم: ساخط، غاضب، مستاء

ما أن يبرز شخص له علاقة بنا كأمة، حتى تنهض الأقلام الناقمة من بيننا لتنهال عليه بالقدح والتراشق بما يؤكد بأننا لا يمكننا أن نكون، وعلينا أن ننغمس في مستنقعات الدونية والأنين.

أبناء أمتنا يفرضون وجودهم ونبوغهم وقدراتهم الحضارية النادرة في دول الدنيا، ونحن نتنكر لهم ونتبرأ منهم ونتهمهم بما يسيئ إلينا وإليهم، وكأننا مسخرون للعمل ضد أمتنا.

يفوزون بجوائز نوبل وبمناصب سياسية ولا نقف معهم بل نطاردهم بالكلمات، التي تحط من قدرهم وتبحث عن مثالبهم وسيئاتهم البعيدة والقريبة.

أصحاب المواقف المناوئة لأي نجاح، لا يستطيعون الخروج من خنادق الهوان والإمعان بالدونية وتقنيط وجود الأمة وتحنيط الأجيال في قمقم كان.

من الواضح أن الأجيال السابقة قد قهرت رموزها وأنوارها الذين نفتخر بهم ونعلي من شأنهم، علماء وأعلام بأنواعهم كانت نهايات معظمهم مأساوية، حتى فقهاء الدين أصابهم القهر والعدوان المروع.

ويبدو أن ما يحصل في واقعنا المتشائم لا يختلف عما حصل في العهود الماضيات، وكأننا نعادي أنفسنا وننكر عقولنا، ونميل للتبعية للقوي الشديد، وما أن يتهاوى حتى تظهر حقيقة نوايانا تجاهه، وهذا ما أصاب العديد من قادتنا في القرن العشرين، نخضع لهم في حياتهم ونعاديهم ولا نعارضهم مثل باقي شعوب المجتمعات المتحضرة، وننال منهم في مماتهم، فتفاعلاتنا إقتلاعية إجتثاثية وإمحاقية، لا بد من إبادة مَن لا نستطيع موازاته لكي نبقى ونتمكن.

إن هذا السلوك يرتد على أصحابه بأشد مما فعلوه، وتلك الموازين الفاعلة في دنيا الأكوان، ومنها الأرض التي دبت على ظهرها الخلائق.

و"يرتكب المنتقم نفس الخطيئة التي ينتقم لأجلها"

علينا أن نفتخر بأعلامنا ونتخذهم قدوة لأجيالنا، بدلا من هذا التفاعل السلبي مع منجزاتنا الحضارية، وإيهام الأجيال بأن البطولة ليست عقلية وإبداعية، وإنما عضلية تفوح منها روائح الدم والعدوان والفتك بروح الإنسان.

أعلامُنا عقولهمْ أنوارنا

فلنهتدي بعطائهم في يومنا

إبداعهم توهّجت آفاقه

وتواكبت بمرابعٍ ليست لنا

آهٍ على حضارةٍ بمسيرةٍ

تآفلت بديارنا من جهلنا

***

د. صادق السامرائي

 

كان صوتاً نادراً يعلو فوق ضجيج الوهم، وبصيصاً من نور في ظلام الجهل الذي يلف عقولنا. رحل الدكتور أحمد شوقي.. راهب المعرفة الذي اختار أن يكون حارساً للعلم في زمن باتت فيه البهلوانية علماً، والخرافة معرفة، والصراخ فصاحة، والتفاهة عمقاً. عاش بيننا كأنه نبياً من أنبياء العقل، يحمل لوحاً من نور في يد، ومشعل حق في اليد الأخرى، يسير بهما بين ظلام هذا العصر الموبوء بالخرافات.

أتذكر حين قدمني إليه أستاذي الراحل الدكتور أحمد مستجير قائلاً: "هذا هو الرجل الذي يحمل مشعل العلم الأصيل في زمن الدجالين". نظرت إلى عينيه الهادئتين فوجدت فيهما ذلك النبل والنقاء الذي يميز العلماء.. الذين وهبوا حياتهم لشئون لا تشترى بالمال ولا تكال بالميزان. كان تشع من وجهه الطمأنينة التي لا توجد إلا في عيون العارفين، أولئك الذين اختبروا عمق الحياة وغور المعرفة.

كان الدكتور أحمد شوقي - كما عرفته- عاشقاً للعلم بروح المتصوفة. كان يجلس في مكتبه المتواضع بكلية الزراعة في جامعة الزقازيق، محاطاً بالأبحاث والمراجع، وكأنه في محراب. كان ينفق من راتبه الضئيل على نشر "الكراسات العلمية" التي كان يعدها بنفسه، وكأنه يقدم القربان لمعبد العلم. كم مرة رأيته يحمل حزمة من الأوراق بين ذراعيه، متجهًا إلى المطبعة، يدفع من جيبه الخاص وهو يبتسم تلك الابتسامة الهادئة التي تقول: "هذا هو دوري في الحياة".

اليوم يرحل هذا العالم الجليل، ولا أحد يعلم. لا تكريم ولا نعي في الصفحات الأولى، ولا خبر في التلفزيون. انشغلت بلادنا بالمهرجين، وبمن يشرحون لك كيف يسرقك الجن ويعاشر زوجتك! وانشغل الإعلام بمن يحذرونك من النظر الذي قد يفسد صيامك! في عصرنا هذا، أصبحت الشاشات مسرحاً لبيع الوهم، وباتت الصحف منابر للجهل المُعلب، بينما يموت العارفون في صمت، وكأنهم أخطاء تاريخية يجب محوها.

في بلادنا.. يموت العقلاء في صمت، ويعيش الباعة على الأضواء. يموت أمثال الدكتور أحمد شوقي كمداً واحتقاراً، بينما يرقص باعة الوهم على شاشاتنا، ويحتلون الصفوف الأولى في مؤتمراتنا. صار التطبيل للجهل صناعة، والتسويق للخرافة مهنة، بينما يحمل العلماء على أعناقهم نعوشهم وهم يصارعون النسيان.

أحمد شوقي كان آخر فرسان موكب نبيل.. الموكب الذي ضم مستجير، وسمير حنا صادق، وشوقي جلال، ومصطفى فهمي ورفعت لقوشة. رحلوا جميعاً وتركوا وراءهم فراغاً هائلاً، وتركونا في برية موحشة يصول فيها ويجول أدعياء العلم. كلما رحل واحد منهم، انطفأ مصباح من مصابيح المعرفة، وازداد الظلام قتامة وكثافة.

كان الدكتور شوقي يجسد تلك الروح النادرة.. روح العالم الحقيقي الذي يرفض أن يكون بضاعة، ويأبى أن يكون سلعة. كان يرى أن العلم رسالة، والمعرفة خدمة للإنسان. كان خفيض الصوت، منطقي التفكير، شريف الخصومة. كان يجادل بالحجة، لا بالصوت العالي أو بالشتيمة الرخيصة. كم مرة استمعت إليه وهو يحاور خصومه، فيقول: "أختلف معك تماماً، لكنني أحترم عقلك" - كانت هذه هي أقصى درجات الخلاف عنده.

اليوم وقد رحل، أتساءل: من سيروي ظمأ الأجيال الجديدة للمعرفة الحقيقية؟ من سيحرس بوابة العلم الأصيل في زمن طغت فيه الأوهام والخرافات؟ من سيعلم شبابنا أن العلم ليس مجرد شهادة على حائط، ولا وسيلة للثراء السريع، وإنما هو رحلة بحث عن الحقيقة، وشغف لا ينتهي؟ من سيقف سداً منيعاً في وجه هذا الطوفان الجارف من اللامعرفة، وهذا التسويق الممنهج للجهل؟

رحل أحمد شوقي، لكن إرثه باق. باق في كل عقل استنار بمعرفته، وفي كل نفس تعلمت منه أن العلم رسالة وأمانة. باق في تلك الكراسات العلمية التي أنفق عليها من راتبه، وكتبها بحبر روحه. كم طالب فقير وجد في هذه الكراسات ملاذه، وكم باحث شاب استضاء بها في بداية طريقه.

إلى الدكتور أحمد شوقي.. الذي رحل بصمت كما عاش.. إلى حارس العلم الحقيقي في زمن المزيفين.. إلى الراهب في محراب المعرفة.. السلام لك حين رحلت، والسلام للعلم في بلاد لا تعرف قدر أبنائها البررة.

والآن.. من للعلم؟ من يحميه من المدعين؟ من يقف على أبوابه في عصر التسول الفكري؟ كنا نظن أن الموت وحده هو الذي يمكن أن ينتزعهم من بين أيدينا، لكننا اكتشفنا أن هناك منتزعات أشد قسوة.. هناك الإهمال، والنسيان، والاحتقار، ولوعة القلب التي تسبق الموت.

كان يمكن للدكتور أحمد شوقي أن يكون نجماً إعلامياً، لو أراد أن يسلك طريق الدعاة الجدد.. طريق التلاعب بعواطف الناس، واستغلال جهلهم، وبيعهم الوهم المعطر بالآيات. لكنه آثر أن يظل في مختبره، بين المعامل والكروموسومات، يفسر أسرار الحياة لمن يريد أن يعرف، لا لمن يريد أن يسمع ما يسر. كان يرفض أن يكون تاجر وعظ، ويأبى أن يكون مساحاً للضمائر.

أتذكر مرة قال لي بهمسة المحبط: أحياناً أشعر أنني أحارب طواحين الهواء.. أنشر العلم بينما ينتشر الجهل بتمويل من كبار التجار! ثم صمت برهة وأضاف: لكنني سأستمر، لأن رسالة العالم مثل شمعة تحترق لتنير لغيرها. كانت عيناه تفيضان بإيمان لا يتزعزع، بإيمان من يعرف أن الحق قد يغيب وقتاً، لكنه لا يموت أبداً.

اليوم احترقت الشمعة حتى آخر فتيل فيها، وانطفأت في صمت.. بينما كانت الأضواء الكاشفة مسلطة على "الداعية" الذي يفسر كيف يدخل الجن جسد الإنسان، وكيف يمكن للشيطان أن يعاشر المرأة في فراشها! في أيامنا المقلوبة، أصبح الترهات علماً، والعلم ترهات، وأصبح ناشروا الخرافة مرشدين، والعلماء منبوذين.

في بلادنا.. يتحول بائعو الوهم إلى نجوم، ويحاصر العقلاء في زوايا النسيان. يموتون موتا مزدوجا.. موت عندما يلفظهم المجتمع، وموت عندما تلفظهم أجسادهم. يذهبون كما جاءوا.. بصمت العارفين، وكرامة العظماء، وعبقرية المفكرين الذين لم تلههم المساومات عن البحث عن الحقيقة.

في وداع الدكتور أحمد شوقي، لا نودع رجلاً فقط، بل نودع نموذجاً كاملاً للإنسان العالم.. الإنسان المتواضع الذي لا يتعالى، المتسامح الذي لا يتعصب، المنطقي الذي لا يهذي، الشريف الذي لا يدلس. نودع ذلك الجيل الذي كان يعتقد أن العلم رسالة وأمانة، وليس وسيلة للشهرة والثراء.

نودع ذلك الجيل الذي كان يؤمن بأن الثقافة العلمية هي أساس تقدم الأمم، وليس الطقوس والشعوذة. جيل كان يرى في المعرفة نوراً يجب أن يصل إلى كل إنسان، وليس حكراً على نخبة أو سلعة لأغنياء. جيل كان يعتبر البحث العلمي ضرباً من ضروب العبادة، والعلم محراباً للتفكر في عظمة الخالق.

رحل أحمد شوقي ومشروعه الطموح "الكراسات العلمية" الذي كان يحلم بأن يصل إلى كل طالب، وكل معلم، وكل إنسان يريد أن يفهم العالم من حوله. رحل وهو يحمل أحلاماً لم تتحقق، ومشاريع لم تكتمل، ورسائل لم تصل. لكنه رحل وهو يعلم أنه بذل كل ما في وسعه، وأنه وقف في وجه الجهل حتى آخر نفس.

لكن.. سيظل نوره باقياً في كل عقل تنور به، وكل روح أضاءها. سيظل نموذجه شاهداً على أن مصر أنجبت رجالاً حقيقيين، لم تلههم المساومات الرخيصة عن البحث عن الحقيقة. سيظل حياً في ذاكرة كل من عرفه، وكل من قرأ له، وكل من استفاد من علمه.

إلى الدكتور أحمد شوقي.. الذي صعد إلى حيث لا أضواء كاشفة، ولا صفوف أولى، ولا تكريمات مزيفة.. إلى العالم الحقيقي في زمن المزيفين.. إلى الراهب في معبد العلم.. إلى آخر فرسان الموكب النبيل.. السلام لك.. ولأمثالك الذين رحلوا فخبا ضوء العقل، وتراجع سيف المعرفة، وتقدمت جيوش الظلام.

السلام لعصر مضى.. ولرجال لن يعودوا. السلام لزمن كان فيه العالم عالِماً حقاً، والعلم علماً صحيحاً، والمعرفة معرفة نقية. السلام لأيام كنا نرى فيها وجوه العلماء في الشاشات، ونقرأ لهم في الصحف، ونستمع إليهم في الإذاعات. السلام لزمن كان فيه العقل مصوناً، والعلم محترماً، والعالم مكرماً.

الآن وقد رحل آخر الفرسان، من بقي يحمل الراية؟ من بقي يحرس المعبد؟ من بقي يصون العقل؟ أسئلة تتداعى في الذهن، وأجوبة تتساقط كأوراق الخريف.. لا جواب إلا صمت القبور، وهدير الموج المتكسر على شاطئ النسيان.

***

د. عبد السلام فاروق

 

تظل المشاعر العاطفية، والحس المرهف، والتفاعل الحي مع معطيات الحياة، حالة إنسانية حية، ومواهب شخصية، مرتبطة بالذات الإنسانية، التي تميزه عن الجمادات، وعن غيره من المخلوقات.

وهكذا يكون الإنسان بهذه الخواص الفريدة الحية، التي حباه الخالق، جل وعلا بها، قادرا على التفاعل بحيوية، مع الموثرات المحفزة لمشاعره، والمدغدغة لعواطفه، سلبا أو ايجابا، حزنا أو فرحا، جدا او هزلا.

وفي ضوء التطور السريع للثورة الرقمية، ولاسيما تلك القفزات النوعية التي تحققت حتى الآن، في مجال الذكاء الاصطناعي، وما تراكم منها من منجزات مدهشة، فاقمت السعي المحموم، لطرح الإنسان الرقمي الآلي، الذي سيحل مكان الانسان الحيوي في كل مجالات العمل، والانشطة المعروفة، فان التخوف من أن يحل الذكاء الاصطناعي، بما سيحققه من قدرات خارقة، وامكانيات هائلة، في التصرف، واتخاذ القرارات، محل العقل البشري، بما قد يعطل الكثير من قدراته، ويمسخ الكثير منها، يظل تخوفا مشروعا حقا، ولاسيما عندما تكون خوارزميات تطبيقاته، متعمدة، وغير محايدة.

ولذلك بات الأمر يتطلب تعزيز الوعي الجمعي بمخاطر مثل هذا النهج، بحيث يكون الجميع على دراية تامة بالتأثير المحتملة للذكاء الاصطناعي على مشاعرنا ووعينا، وعواطفنا مستقبلا، وهو ما يتطلب ان يكون التفكير الجمعي نقديا صارما، عند التعامل مع موضوعة استخدامات الذكاء الاصطناعي، بحيث لا يتم التسليم بكل ما يقدمه من معطيات مطلقا، وان لا يتم القبول بكل ما يتم التوصل إليه من انجازات، دون تقييم، أو تمحيص.

ولعل الحفاظ على التواصل الإنساني الحقيقي الحي، في واقع الحياة اليومية، بعد فجوة الانفصال عن الواقع الاجتماعي الحي، بالانغماس التام في فضاء الواقع الافتراضي الموازي، هو ما ينبغي المحافظة عليه، وعدم السماح باستبدال العلاقات الإنسانية الاجتماعية الحية، بالعلاقات الآلية للذكاء الاصطناعي، التي تؤثر على سلبا على مشاعرنا، وتمسخ الكثير من قيمنا، وذلك تعزيزا للمشاعر والمناقبيات الإنسانية الأساسية الحية، وعدم فسح المجال للذكاء الاصطناعي أن يستلبها، ويستبدلها بقيم الية مصطنعة .

ولذلك بات الأمر يتطلب تعزيز الرقابة العلمية والتقنية والاجتماعية، على مسارات، واتجاهات التطور، في مجال الذكاء الاصطناعي، والعمل على تنظيم استخدامه، بحيث لا يستخدم للمس السلبي بالوعي، ومصادرة العقل، واستلاب مشاعر الحس المرهف عند الإنسان بتاتا، مع التوكبد على أن يكون الذكاء الاصطناعي، اداة لخدمة مصالح الإنسان، والحفاظ على طبيعته البشرية في كل الأحوال.

***

نايف عبوش

لا يجوز الخلط بين أنوار العصور وتقديس بعضها، فما كان صائبا في أوانه لا يصح في غير عصره.

بعض المجتمعات تعاني من غياب الفواصل بين العصور، ويتسيّد في وعيها الجمعي عصر تنتقيه على ما يليه من العصور، ويفترس وجودها المعاصر.

قراءة الأحداث يجب أن تكون بعيون عصرها، لتتأكد الموضوعية النسبية، ويضمحل التضليل والتوظيف المنحرف للأحداث لغايات خفية.

قراءتنا للأحداث بعيون عصرنا إعتداء على الأجيال التي عاصرتها وأحدثتها، فلكل حدث أسبابه الموضوعية ونوازعه البشرية، وتفعل فيه النفوس الأمّارة بما فيها، ما دامت عناصره بشرية، عاشت وماتت، فلا يمكن القول بأنها ليست للبشر بصلة، مهما كان مركزها وتوصيفها.

لكل حدث أسباب وأفعال، وعندما يُنظر إليه بعد زمان، يكون الصدق في التعبير عنه محال، لأنه سيكون صورة لما يراه الشخص الذي تناوله، فهو يكتب ما أثاره فيه وأيقظه في أعماقه، ولهذا فالكتابات التي تسمى تأريخية بحاجة لتمحيص وتنقية أو غربلة مبنية على مناهج وأسس ذات قيمة علمية ومنطقية.

كيف تصح في الأفهام موضوعية الكتابة عن حدث حصل قبل أكثر من قرن أو قبل عدة قرون، فمهما كان المنهج المستعمل فأنه سيكون ثرياً بالتصورات ومعطيات الخيال.

لا توجد كتابات تأريخية تتحدث عن أي موضوع في حينه، بل لا بد له أن يحصل ويؤثر ويثير ويبلغ مرتبة الإستحقاق للكتابة عنه، وفقا للرؤى والتصورات التي تحيطه، والمشكلة أن صناع التأريخ لا يكتبونه.

إن الذين يكتبون عن وقائع أصحابها رميم، وبعد عشرات القرون، إنما في الأوهام يغطسون، وعلى أنفسهم وأجيالهم يجنون، ويبيعون النفيس بالرخيص، لأن أكثرهم يعتمدون على قال وقيل، وتندر لديهم المصادر الموثوقة والأدلة الدامغة.

"إن التأريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق"

"نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا...فكيف بأمر الغابرين نصدق"

إذا قالوا فهل صدقوا بقولِ

ندونه ولا ندري بأصلِ

حوادثها بما فيها توارتْ

نصورها كما وردت كفعلِ

بتكرارٍ وأجيالٍ توالتْ

تنامتْ في مرابعنا لجهلِ

***

د. صادق السامرائي

إرادة التأريخ أقوى من إرادة البشر، فما هي إرادة التأريخ؟

إنها ليست الدور الذي يلعبه وعي الإنسان وقدراته وأفعاله في توجيه مسار الحياة، إنها قوة خفية تجري بين المخلوقات وتقرر مصيرها وتلد عناصرها المؤهلة لتنفيذها وهي من مجاهيل الغيوب، لكنها تفعل فعلها ويظهر أثرها في مسيرات الحياة.

بغتة وأنت ترى الأيام هامدة والجهود خامدة، والأهداف جامدة، وإذا بإنطلاق طاقة ذات قدرات إجتياحية، كالفيضان أو الإعصار الشديد، تغيّر الأوضاع وتضع المسيرة على سكة جديدة تأخذها إلى مواطن رؤاها.

هذه الطاقة يعجز عن غلبتها أعتى العتاة، وأثرى الأثرياء، إنها إنبثاق روح الحياة المتآلفة مع مكانها وزمانها، فللدوران مؤثراته وإتجاهاته الدافعة نحو ما ينفع الأرض وما عليها وفيها.

والأمثلة عديدة وهي تعبر عن هذه الرؤية الإدراكية لإيقاعات الدوران على الموجودات التي تسري فيها الروح، والأمم بقادتها، ولو تأملنا قادة البشرية لتبين أنهم موجودات إنطلقت من مكامنها، كالبذور التي تنبت في التراب وتصبح أشجارا وغابات، فلا فرق بين البذور بأنوعها، ما دامت تكنز الحياة.

"دع المقادير تجري في أعنتها...ولا تبيتن إلا خالي البال"

هارون الرشيد كان حريصا على أن تستمر دولته بقوتها وتألقها، فعهد بالولاية لثلاثة من أولاده، فمحقوا بعضهم من بعده، ولم يخطر بباله أن المعتصم سيكون خليفة فما أعده لذلك، لكنه أصبح خليفة ومضت الخلافة في ذريته.

إن المتسائلين عن لماذا ولماذا، ومن المفروض أن يكون كذا وكذا، إنما في غفلتهم يعمهون، فالدنيا لا تخضع لإرادة الأشخاص والأحداث، إنها ذات إيقاع مرسوم وهدف معلوم، لا نرى مفرداته بسهولة لكنها فاعلة فينا، وتقودنا إلى حيث تريد.

إنها تعثر على من فيه المؤهلات التي ترضيها فتتعهده وتسلمه راية المسير إلى حيث تريد، إنها بذرة تنبت في تربتها الصالحة التي إحتوتها.

إرادة التأريخ تستخدمنا لتأكيد ما تختزنه من التطلعات وتكنزه من الطاقات، حتى لنتوهم بأننا المقتدرون والمهيمنون، لكنها تصرعنا دون إشعار، وتدوسنا سنابكها، فتتبدل الدنيا من حال إلى حال، وفقا لسلطة الدوران السرمد.

نرى زمنا بهِ الأزمانُ ضاقتْ

ولا ندري بما فعلتْ ورامتْ

تخبّرنا الحوادثُ عن عَجيبٍ

وترْدعُنا بقاضيةٍ توالتْ

فما عَرفَ النجاةَ بها خليقٌ

إذا انْهمَرتْ أعاصيرٌ ودامتْ

***

د. صادق السامرائي

 

ليس سراً أن الوضع الصحي في العراق يعاني من تدهور ملحوظ وممنهج. طوابير الانتظار الطويلة، ونقص الادوية الاساسية، وتردي خدمات الطوارئ، إضافة الى المستشفيات المتهالكة والبيئة غير الصحية، وهجرة الكفاءات الطبية بأعداد مخيفة، ليست سوى أعراض سطحية لأزمة عميقة الجذور. غالبا ما يُلقى اللوم على الاطباء او الظروف الاقتصادية، متجاهلا التشخيص الحقيقي للازمة: السياسات الحكومية الخاطئة والفاسدة التي قادت قطاعا حيويا الى حضيض التدهور، مفضلة الادارة البيروقراطية للازمات على التخطيط الاستراتيجي لمنعها.

اول حلقات التدهور

تبدا الحلقة الاولى من هذه الازمة من جذرها المالي. فالمبالغ المخصصة للصحة في الموازنة العامة للدولة لا تتناسب مع حجم الاحتياجات الفعلية للسكان. هذا القصور المالي المزمن لا يترجم فقط الى نقص في الاسرة والمستلزمات، بل يؤدي الى تجميد التعيينات، واهمال صيانة البنى التحتية التي اصبحت بعضها اشبه بخرابات، في وقت كان فيه العراق يمتلك منظومة صحية كانت تُعد ضمن الاكثر تطورا في المنطقة.

تدهور التعليم الطبي وتحويله الى سلعة

كان العراق من اوائل الدول التي اسست كليات طب مرموقة ومستشفيات تعليمية ذات سمعة اقليمية ودولية. الا ان السياسات الحكومية في العقود الاخيرة، وخصوصا في مجال التعليم العالي، عملت على تفريغ الطب من مضمونه الاكاديمي والانساني. فاتجهت الوزارات المعنية الى التوسع الكمي غير المدروس، بفتح الكليات الطبية الاهلية في بيئة تفتقر الى المعايير الاكاديمية الصارمة. هذه السياسات ادت الى:

1- التوسع الكمي غير المدروس: تمت الموافقة على إنشاء عدد كبير من الكليات الطبية الأهلية في بيئة تفتقر إلى المعايير الأكاديمية الصارمة.

2- اضعاف التعليم السريري والبحثي: حيث يتخرج الاف الطلبة دون تدريب كاف في المستشفيات التعليمية، مما ينعكس سلبا على كفاءتهم.

3- تفريغ الطب من رسالته الانسانية: تآكل القيم والأخلاق الطبية بين اوساط العديد من الخريجين، حيث ادى ضعف التأهيل الأكاديمي والانساني الى ممارسات غير مهنية، مثل انتهاك خصوصية المرضى وضعف التواصل معهم، والترويج للعلاج في العيادات الخاصة، وعدم المساواة في معاملة المرضى، ووصف اعداد كبيرة من الادوية حتى وان لم تكن الحاجة لها، والاتفاقات غير النزيهة للاطباء مع الصيدليات ومختبرات التحليل الطبي، ما يمثل خروجاً صارخاً عن المعايير الأساسية لمهنة الطب.

4- غياب تسعيرة رسمية وشفافة للأدوية ادى الى فوضى عارمة، تجلت في تفاوت غير مبرر في الأسعار، التلاعب بالجودة والنوعية (مما يهدد سلامة المرضى)، وتفشي الفساد الذي يهيمن على قطاع استيراد المواد الدوائية والصيدلانية بأكمله.

5- ارتكاب الاطباء لاخطاء كبيرة بعضها قاتلة ولكنهم وفي معظم الاحيان ينجون من المحاسبة ولم يسمع لليوم ان طبيبا منع من ممارسة مهنته او تعرض للمحاسبة القانونية.

ويرى الدكتور محمد العبيدي في مقال له حول ازمة التعليم الطبي: "ان بقاء التعليم التقليدي في كليات المجموعة الطبية على ما هو عليه الآن والذي لا يتماشى إطلاقاً مع التطور الحاصل في هذا الجانب من التعليم، فإن التعليم الطبي في العراق سيبقى يسير من سئ إلى أسوء".

الخصخصة غير المنظمة

يقابِل تقشف القطاع الصحي الحكومي تساهل مريب مع القطاع الخاص، الذي تحول في كثير من الاحيان الى سوق للمضاربة على صحة المواطن. فسياسات الخصخصة غير المنظمة ادت الى:

1. انتشار المستشفيات الاهلية: التي تقدم خدماتها باسعار باهظة، دون رقابة حقيقية على جودة خدماتها او الالتزام بالاخلاقيات الطبية.

2. الاهمال المتعمد للمستشفيات الحكومية: التي تواصل معاناتها من نقص حاد في الادوية، وتردي البنية التحتية، وهجرة الكفاءات الطبية المدربة.

3. غياب التخطيط الصحي الوطني: حيث لا توجد استراتيجية واضحة لتوزيع المستشفيات او الكوادر الطبية حسب الحاجة السكانية والفئوية.

ويشير الدكتور نشوان الطائي في منتدى العراق للنخب والكفاءات الى ان "القطاع الصحي الحكومي بات عاجزا عن تقديم ابسط الخدمات، ما دفع المواطن الى اللجوء للقطاع الخاص، رغم كلفته العالية".

غياب العدالة الصحية وتفاقم الازمة

نتيجة حتمية لهذه السياسات المتخاذلة، برزت كوارث اجتماعية وصحية:

1. تفاقم الفجوة الطبقية: فاصبح العلاج الجيد حكرا على القادرين ماديا، بينما يعاني الفقراء من الاهمال والانتظار الطويل في المستشفيات الحكومية المتهالكة.

2. تراجع المؤشرات الصحية الوطنية: حيث تشهد معدلات وفيات الامهات والاطفال انتشارا متزايدا، دون وجود انظمة فعالة للمتابعة والرعاية.

3. هجرة العقول الطبية: تهرّب الكفاءات الطبية والاطباء الاختصاصيين الى الخارج بحثا عن بيئة عمل لائقة، مما خلق نقصا حادا يزيد من عبء من تبقى منهم ويُعمق الازمة.

رؤية للاصلاح

بناءً على هذا التحليل، فان انقاذ المنظومة الصحية في العراق يتطلب ارادة سياسية حقيقية وتبني حزمة من الاصلاحات الاستراتيجية، منها:

1. مكافحة الفساد في القطاعين الصحي والأكاديمي: من خلال تعزيز النزاهة والشفافية في مؤسسات التعليم الطبي والخدمات الصحية، وتطبيق أنظمة رقابية صارمة للقضاء على الممارسات الفاسدة.

2. زيادة موازنة الصحة بشكل جذري: لضمان توفير المستلزمات الاساسية، وصيانة البنى التحتية المتدهورة، وتوسيع نطاق الخدمات لتشمل جميع المحافظات.

3. اعادة هيكلة التعليم الطبي: وربطه عضويا بالمستشفيات التعليمية الحكومية وضرورة ارتباط كل كلية طب بمستشفى تعليمي، مع اعتماد معايير الاعتماد الاكاديمي الدولية لضمان جودة المخرجات التي حددها المجلس الوطني لاعتماد كليات الطب وفقا للمعايير الدولية.

4. وقف التوسع العشوائي في الكليات الاهلية: وربط فتح اي كلية جديدة بمعايير صارمة تضمن جودة البيئة التعليمية والتدريب السريري.

5. اطلاق خطة وطنية شاملة: لاعادة تاهيل المستشفيات الحكومية وتوفير بيئة عمل محفزة وجاذبة للكفاءات الطبية لمنع هجرتها.

6. فرض رقابة صارمة على القطاع الخاص: من خلال هيئات رقابية فعالة لضمان جودة الخدمات ومنع الاستغلال ووضع تسعيرة عادلة.

7. تأكيد الرعاية الصحية المجانية كـحق دستوري اساسي للمواطن العراقي، وليس مجرد خدمة هامشية، مع وضع استراتيجية متكاملة جديدة لرحلة المريض من التشخيص إلى العلاج.

8. توفير الحماية اللازمة للأطباء من التدخلات العشائرية، مقابل تطبيق النقابة اجراءات تأديبية صارمة بحق أي اهمال مهني مثبت، بما في ذلك سحب الاجازات.

9. تأسيس صناديق دعم متخصصة لتقديم المساعدة المادية الكاملة أو الجزئية للمرضى من ذوي الاحتياج الاقتصادي.

10. مكافحة الممارسات الاحتكارية وتضارب المصالح في قطاع الرعاية الصحية، خصوصاً ما يتعلق بتجهيز الأدوية، واجراء الفحوصات المخبرية، والتصوير الاشعاعي (المرتبطة بتحالفات بين الاطباء والصيادلة واصحاب المختبرات).

فالاستثمار في الصحة ليس تكلفة، بل هو ركيزة اساسية لامن المجتمع العراقي واستقراره وتقدمه، واحياء لارث طبي كان العراق يفخر به.

***

أ. د. محمد الربيعي

على طريق بناء ثقافة وطنية ديمقراطية جُعلت من الثقافة الوطنية بتنوعها الثري مرادفا للتقدم والديمقراطية والابداع اذ ان التحركات بما احتوته من اشكال ثرية ومتنوعة تؤشر في الحقيقة بالظروف  المجتمعية الشعبية التي تخوض مضمارها بمختلف قطاعاتها وطبقاتها وفئاتها وشرائحها الاجتماعية و، تبرز الاهمية المحورية للعمل الجماهيري والنشاط المطلبي، باعتباره أحد روافع النشاط السياسي للقوى الحاملة للمشروع العابر للطوائف، والتي لن يكون بمقدورها أن تؤدي رسالتها التنويرية والحداثية، إلا إذا اعتمدت بجدارة على الجماهير واجتذبها الى النضال من منطلق الاهداف والمهمات والشعارات التي تنسجم مع المصالح والحاجات الحيوية لهذه الجماهير في اللحظة التاريخية الملموسة، ان أزمة العقل البشري في العالم الثالث تُخيِّلُ له أن العمل لتغيير الواقع لا يمكن أن يتم إلا من مدخل السياسة وهي مع الاسف أزمةٌ عامة تُعبِّر عن ثقافةٍ في هذه المجتمعات. وإن إحداث تغييرٍ حقيقي في موقعٍ يتفنَّنُ أهله في مثل تلك الممارسات، إن للاستبداد السياسي حدوداً لا يملك تجاوزها بحال، ومواقعَ لايُمكن أن يصل إليها على الإطلاق.

ان مواقع المسؤولية في الحكومات لا تمن على شعوبها، ولا تتصدق عليهم من جيوبها أو جيوب كبار مسؤوليها، والوزراء يعتاشون على رواتبهم من ضرائب الشعب، والمواطن هو السيد وليس العكس، والحكومة مجرد مجري أو موظف يذهب لحال سبيله إذا قدم خدمات فاشلة للمواطن أو أساء إدارة مال شعبه او احيل على المعاش وفقا للقانون.

واثبتت التجارب أنه بدون العمل الجماهيري لن تحل الأزمات البنيوية المتفاقمة وهي الوسيلة المثلى لتغيير الواقع، ومن المعلوم ان لا تنهض المجتمعات الكبرى ولا تستقر من دون حكومة معينة، حتى لو كانت هذه الحكومة عاجزة عن تحقيق تطلعات الشعب وإن كانت أكثر الحكومات في العالم رجعية، ولا تواكب العصر الحالي وإذا لم تساير الحكومات تغيرات العصر وتحاول اعطاء الشعوب حقوقها والاهتمام الأهداف القصيرة المدى على أن تتواصل من أجل تحقيق الأهداف طويلة المدى حتما سوف ستقل قدرتها تدريجيا على ادارة شعوبها، ويزداد السخط الشعبي عليها، ويشعر المواطنون أنهم حُرموا من حقوقهم التي يكفلها لهم القانون لذلك سوف تتحرك من اجل تحقيق مطالبها سلباً وايجاباً.

ان الاوضاع الصعبة التي يمر بها العالم اليوم يتطلب إدارات نموذجية من الحكومات وهذا لا يمكن ان يتحقق إلا بشرط منها الكفاءة وتجفيف بؤر الفساد بأنواعه' ما من بلد محصن من الفساد، وتؤدي إساءة استخدام الوظيفة العامة لغرض تحقيق كسب خاص وإلى تقويض ثقة الشعوب في حكوماتها ومؤسساتها، وإضعاف فعالية السياسات العامة والانتقاص من عدالتها، وتحويل اموالها بعيدا عن الإنفاق على المدارس والطرق والمستشفيات'، مما يتطلب إخضاع جميع الانشطة الادارية او السياسية وغيرها للاختبار والتقويم، حيث تخضع لمعايير النجاح والفشل، لذا تتحدد قيمة الإدارة استنادا الى معياريّ النجاح والفشل وحيث يقسّم الادارة وفقا لشرطيّ النجاح والفشل والادارة الناجحة لا تكون إلا بمقوماتها، من شروط ومقتضيات وإلا ستكون فاشلة. ومن أهم مقومات الإدارة الناجحة هي المداراة لشعوبها وفي إدارة شؤون المجتمع والتعامل مع الناس مما يُعبّر عنه بمدرسة التعايش بدل تخير السلطة الحاكمة المواطن الذي لا حول له ولا قوة بين أمور كلها غير منطقية أصلا ولا علاقة بين بعضها والبعض الآخر منها مثلا، بناء الدولة أو الحصول على خدمات عامة، وبناء مشروعات وبنية تحتية أو توفير سلع للجماهير التي لا يمكن الاستغناء عنها أصلا،

***

عبد الخالق الفلاح- باحث واعلامي

 

وتغير حياتك وغيرك للأفضل

في زحمة الحياة وضجيج المسؤوليات والركض وراء الطموحات والأماني، يغفل كثيرون عن تلك القوة الخفية التي تمنح الوجود لوناً جميلاً وطعماً مختلفاً، إنها " قوة المحبة التي تكمن في داخلنا ". فالمحبة ليست كلمة عابرة نتبادلها في اللقاءات والمناسبات، ولا شعوراً مؤقتاً يسكن القلب لبعض الوقت وتتخلله القسوة في معظمها، بل هي سلوك عملي يتجلى في تفاصيل صغيرة، يترك أثراً كبيراً لا يمحى، وقيمة لها وقعها وبصمتها.

تخيل رجلاً مسناً يجلس وحيداً في الحديقة، تخلى عنه من عاش معهم سنوات عمره وقدم لهم من حياته كل ما يملكه من رعاية وخدمة وتربية، فهو الآن يفتقد من يؤنسه أو يبادله الحديث ويذكره بماض عاشه ووهب لغيره الكثير، وهو يفتقر لمن يخدمه ويسر حياته ويدخل عليه السرور والسعادة. يقترب منه شاب مبتسم، يلقي التحية، يجلس بجانبه لبضع دقائق يتحدث معه ويسأله عن أحواله وصحته وأجمل ذكرياته التي عاشها عبر سنوات من سجلات الحياة. بعد أن يغادر، يبقى العجوز ينظر إليه بعين الامتنان والشكر، وكأن الحياة منحت روحه دفئاً إنسانياً بعد برودة الوحدة وقسوة أفرادها.

ذلك الشاب لم يقدم مالاً ولا جهداً كبيراً، لكنه منح ما هو أعمق: المحبة في صورة اهتمام بغيره، وربما أنقذ بتصرفه البسيط قلباً وحيداً من الغرق في العزلة والانكفاء بالنفس والغرق في تحديات همومها ومشاكلها.

ناهيك عن نشر الأنس والمشاعر الإيجابية في العمل الوظيفي، في العناية بمن نعمل معهم، نقف بجوارهم في السراء والضراء، نسهم في رفع ألم ينتابهم وندخل البهجة في نفوسهم، ونسرهم بابتساماتنا وكلماتنا التي كأنها بلسم على الجروح النازفة والنفوس المثقلة بالهموم والآهات.

هكذا تعمل المحبة والاهتمام بغيرنا مفاعيل السحر في العقول والقلوب، تسرها وتثلج الصدور وتحيطها قوة ومنعة، تحول الأرض القاحلة إلى خضراء، وتنبت النبت بعد الجفاف، وتزين النفس بعد الجفاء.

كل عمل نفعله بدافع صادق لمساعدة الآخرين، مهما بدا بسيطاً وهيناً، يضاعف قيمتنا ويمنح حياتنا معنى أعمق. ليس لأننا ننتظر مقابلاً لأفعالنا وممارساتنا، بل لأن العطاء يولد سعادة داخلية لا تساويها مكاسب الدنيا بمادياتها ولا يعادلها شيء. فالمشاعر المخلصة تصل إلى القلوب وتترك فيها بصمة وتأثيراً كبيراً في نفوس الآخرين.

إن المحبة تضاعف قيمتنا لأنها تجعلنا بعداً مهماً من قصص الآخرين. عندما نمنح حبنا واهتمامنا، نترك وجوداً في القلوب لا ينسى. فالمناصب تزول، والأموال تنفد، لكن الأثر الإنساني يبقى خالداً.

فالناس لا يتذكرون كلماتنا بقدر ما يتذكرون كيف جعلناهم يشعرون بالانبساط والبهجة في نفوس تتراكم فيها إحباطات وأحزان الحياة وبؤسها؟.

حين نمنحهم الأمان والطمأنينة والدعم في أوقات ضعفهم ومشكلاتهم، نزداد قيمة في نظرهم، وتتعاظم قيمتنا في نظر أنفسنا. ورسالتها وأفعالها وما نقدمه من مشاعر وأحاسيس نبيلة تعرف قيمتها في عيون من نتعامل معهم، وترفع معنوياتهم، وتلامس قلوباً تحتاج منا عظيم أفعال تدعم وتساند من يثقل الهم نفسه ويكثر عليه حمل الحياة.

ولكي نحيا بالمحبة كل يوم، يمكن أن نجعلها أسلوب حياة عملياً:

ابدأ صباحك بابتسامة مشرقة وبكلمة طيبة تبعث الأمل في قلب من حولك.

مارس أفعال العطاء الصغيرة، كأن تساعد زميلاً وتقف معه في محنته ومشكلاته.

أنصت بقلبك لا بأذنيك فقط، فالإصغاء الحقيقي الفعال أصدق صور المحبة والمشاعر الفياضة.

اصنع لحظات فرح بلا مقابل؛ لأبنائك، لعائلتك، لأصحابك ومعارفك، أو حتى لزميل أنهكه التعب وأضعفته نكد الحياة.

واختتم يومك بتأمل صادق: ما الذي فعلته اليوم بدافع المحبة والاهتمام بغيرك؟ وكيف يمكن أن أزيده غداً؟

إن الحياة قصيرة والأيام تمضي سريعاً، وما يبقى بعد رحيلنا ليس ما جمعناه، بل ما منحناه وقدمناه بمحبة خالصة وقلب صاف رقراق.

قد تكون كلمة، أو لمسة حنان، أو بشاشة، أو موقف عطاء يصدر من القلب.

فلنجعل حياتنا لوحة من ألوان العطاء، نترك فيها أثراً لا يمحوه الزمن.

عِش المحبة والقرب في كل يوم، فكل عمل نابع منها يضاعف قيمتك، لا عند الآخرين فقط، بل في أعماق نفسك وصميم فؤادك حيث يسكن المعنى الحقيقي للحياة وقيمتها.

***

د. أكرم عثمان

  5-11-2025

مع التقدم التكنولوجي المتسارع في كل المجالات، وما افرزه من ثورة رقمية هائلة، وما تمخض عنه من تطور هائل من مخرجات لا حصر لها، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بجدية هو : ما هو حجم التأثير المتوقع للذكاء الاصطناعي على وعي الإنسان؟ وبالتالي هل يمكن أن يمسخ الذكاء الاصطناعي وعينا مستقبلا؟ ويغير من طبيعة تفكيرنا؟ ويمسخ هويتنا البشرية؟

ولا ريب أن الذكاء الاصطناعي، بما بات يتمتع به من قدرات خارقة، يمكنه أن يؤثر على وعينا بطرق متعددة، وذلك من خلال قدرته الفائقة على تحليل البيانات الضخمة، وتقديم التوصيات بالخصوص في اللحظة، وبالتالي فإنه يمكن أن يؤثر الذكاء الاصطناعي على قراراتنا وآرائنا بشكل او بآخر إلى حد بعيد، ولاسيما في ظل سياق التوجه العام للانسان، في الوقت الراهن، بالاستمرار في الاعتماد الكبير على التكنولوجيا في كل المجالات الفنية، والعلمية، والطبية، وغيرها.. مما يعزز الإعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي سيتغلغل في كل مفاصل حياتنا، مما سيؤدي إلى تغيير في طريقة تفكيرنا، وتعلمنا، بشكل كبير، ولاسيما عندما تكون خوارزميات تطبيقات الذكاء الاصطناعي غير محايدة.

ولعل الخطر الحقيقي يمكن عند ذاك، في فقدان السيطرة على مقاليد التكنولوجيا، وخاصة إذا ما ترك المجال مفتوحاً أمام الذكاء الاصطناعي، لكي يتطور دون رقابة، أو ضوابط، تحكم مسار تطوره، الأمر الذي سيؤدي إلى تداعيات خطيرة، ونتائج غير متوقعة، يمكن أن يصبح معها الذكاء الاصطناعي عندئذ، أكثر ذكاءً من الإنسان، بحيث يكون هو المسيطر الحقيقي على كل تفاصيل، ومجريات الحياة.

ويطرح التوسع غير المنضبط للذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى ما تقدم من تداعيات، تحديات صاخبة، واشكاليات أخلاقية كبيرة، تتعلق بتحديد المسؤولية عن قرارات الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن ضمان أن تكون قرارات الذكاء الاصطناعي عادلة، وموضوعية، وغير متحيزة، وبما يضمن استخدام الذكاء الاصطناعي على نحو مقبول، وبطريقة مسؤولة.

 وفي الوقت الذي يمكن أن بكون الذكاء الاصطناعي أداة قوية لتحسين قدرات الإنسان، والإرتقاء بأدائه، ومن ثم، تطوير حياته نحو الأفضل، إلا أنه لابد من أن نكون على دراية تامة بكل التحديات، والمخاطر المحتملة للتوسع في قدراته، وبالشكل الذي يضمن قيام الذكاء الاصطناعي بخدمة مصالح الإنسان، دون أن يشوه تفكيره، او يمسخ وعيه، او يمس عواطفه، وهو ما يتطلب ضمان استخدام الذكاء الاصطناعي مستقبلا، بطريقة آمنة، ومسؤولة، ومطمئنة تماماً.

***

نايف عبوش

أقلامنا تخط بمداد الرثاء والاستياء على مر العصور، ولا تزال في أوج تعبيراتها البكائية وإبداعات الندب والقسوة على الذات والموضوع.

دموع دموع، إيقاع تفاعلاتنا دامع حزين، يفوح منه الأسى والأنين، ولا توجد كوة للفرح أو نافذة لدخول أنوار الحياة إلى دياجير مآسينا.

ثراء وخواء، ومعاشر مساكين وفقراء، يعيشون بإملاقٍ وعناء، وبعض يثرى ويبني كروشا، وأكثرية جائعة تستجدي العطاء من سراق حقوقها الأجلاء.

إستياء إستياء وما آمن من خوف ولا أطعم من جوع، بل أسهم في تعاظم البلاء.

نعمتنا نقمتنا، صناديق ثرواتنا تنانير لسجرنا، معتقداتنا تفرقنا، قبليتنا تقودنا، وفرقتنا وسيلتنا للتباهي بوجودنا المتهالك الأبعاد.

يقولون الإستياء والرثاء لسان حالنا، ولا يمكننا أن نأتي بما ليس فينا، والحقيقة أننا قتلنا ما عندنا وإستحضرنا الأدغال من بلدان الآخرين، فمات زرعنا وتنامت أدغال الهيمنة على حياتنا، فأصبحنا نتوجع من الأشواك التي تحاوطنا وتنغرز في بصائرنا، فذهبت عقولنا، وتسيّدت نفوسنا الأمّارة بالسوء والبغضاء، وهي منبع إبداعاتنا، ومداد أقلامنا الأليمة.

لماذا لا نتحدى ونتوثب، ونتمسك برؤى وتصورات مشتركة ترعى مصالحنا، وتعين أجيالنا على بناء الأفضل، والتفاعل المعاصر مع دول الدنيا التي خرجت من شرانقها الصفراء؟

تساؤلات كثيرة والإستياء أمير والرثاء قدير، ومن العجب أن إبداع الإستياء مرغوب، وقول الرثاء محبوب، ذرف الدموع مطلوب، وكل ملمة برروها بما هو مكتوب، والأيام أظهرت قولهم الكذوب، فالملمات يصنعها الشعب المغلوب، الغاطس بالذنوب!!

رثاءٌ واستياءُ مستدامُ

وبعضٌ في تفاعله الخصام

دموع مسيرنا طفحت وفاضت

يبررها التتحامل والحطام

فرائسها لغيرٍ إستكانت

مجندةً يعززها انتقامُ

***

د. صادق السامرائي

4\11\2025

لا يهم إن كانت العلاقة قد استمرت عشر سنوات أو أربعة أشهر، ولا فرق إن كنت قد رأيت النهاية تقترب بخطى باردة أو سقطت عليك فجأة كبيانو من الطابق العاشر. عندما ينكسر الرابط العاطفي، لا ينهار القلب وحده؛ بل تنهار معه منظومة كاملة من المعنى. يصبح الواقع مشوشًا، وتضيع الإشارات، وكأن نظام تحديد المواقع العاطفي بداخلك قد تعطل فجأة، وتركك عالقًا في دوّارٍ لا مخارج له.

الانفصال ليس مجرد غياب شخص. إنه انسحاب التفاصيل الصغيرة التي صنعت عالمكما: الرسائل المضحكة على "واتساب"، الطقوس المسائية أمام "نتفليكس"، خطط المستقبل التي لم تولد بعد، والأحد الطويل الذي كان يعني شيئًا. كل ذلك يتلاشى، كأنه لم يكن. ويبقى دماغك في مواجهة قاسية مع الصمت الجديد، مضطرًا إلى إعادة برمجة نفسه لأن الحكاية التي كانت تنظم حياتك قد انتهت.

وما الذي نفعله نحن، حين يبدأ الألم في غزو المساحات؟ نهرب. ليس كحكماء الزِن، بل كمن فزعته النار. نبحث عن أي شيء يمنعنا من النظر إلى الداخل: علاقة جديدة، تطبيقات المواعدة، أو سيل لا ينتهي من فيديوهات "تيك توك" عند الثالثة صباحًا. أي شيء... إلا الفراغ.

لكن الحزن، هذا الغريب العنيد، لا يقبل أن يُهزم في معركة واحدة. هو ليس مشكلة لحلّها بعد الظهر، بل عملية. متعرجة. فوضوية. إنسانية. يومٌ في سلام، وآخر تغرق فيه دموعك لأن أغنية معينة انطلقت في سوبرماركت. ليس للحزن منطق. هو عاصفة ذات طقس متقلب.

الخطأ الأكبر هو أن نخلط بين الراحة والتعافي. أن تجف دموعك لا يعني أنك تجاوزت. أحيانًا نعتقد أننا تجاوزنا، حتى تفتح إشعارًا، أو تصادف صورة، ويهوي قلبك من جديد. لا بأس. هذا طبيعي. لست محطمًا... بل في الطريق.

في جلسات العلاج، أرى وجوهًا تتشبث بالألم كما لو كان طوق نجاة في زلزال. يعيدون قراءة الرسائل القديمة، يستحضرون المشاهد مرارًا، يبحثون عن "السبب" ليطمئنوا. لكن الحقيقة؟ لا يُتجاوز الانفصال بالعثور على الإجابات... بل بالتصالح مع غيابها. لا بالنسيان، بل بتعلم ألا تنزف كلما مرّ طيف الذكرى.

أسوأ فخ هو "الإدمان العاطفي". قد لا تكون مدمنًا على من أحببت، لكن عقلك، الذي يكره التغيير أكثر من كره القطط للماء، يرتبك. لأنك بنيت جزءًا منك حول ذاك الشخص، وعندما يرحل، تترنح هويتك. تختلط مشاعر الفقد بقلق الوحدة، وتتشكل العاصفة الكاملة.

ما الحل؟ لا سحر، ولا وصفة سريعة. بل وقت، وتعاطف، وقرارات صغيرة تتكرر. أولها: دع نفسك تحزن. ابكِ، تحسر، تذكر، ولا تخجل من فقد ما كان. أن تفتقد، لا يعني أنك ترغب بالعودة، بل أنك ما زلت تتعلّم كيف تودّع.

وثانيها: لا "تدير" مشاعرك كما تُدير بريدك الإلكتروني. الحزن ليس مشكلة... بل رسالة. استمع. عقلك يخبرك أن شيئًا عميقًا قد تغيّر.

وثالثًا: توقف عن البحث عن "زر المرور". لا يوجد وقت معياري لتجاوز القلب المكسور. من يخبرك أن الأمر ينتهي خلال ثلاثة أشهر، قد يعتقد أيضًا أن الأبراج علم. كل روح لها توقيتها، وجرحها، وطريقتها في الشفاء. لا تقارن نفسك... فذلك حمل إضافي على حقيبة ظهرك.

الحياة لا تعود كما كانت. لكن يمكنك أن تعود أنت. لا كما كنت، بل كنسخة أكثر وعيًا بذاتها. بعد الانفصال، لا تستعيد فقط روتينك، بل تعيد بناء خريطتك الداخلية: من أنت دون ذاك الآخر؟ وهذا، رغم ألمه، فرصة نادرة.

لكن إياك أن تقع في فخ "التمكين السطحي": لا الأمر يتعلق بيوغا صباحية وعبارات من نوع "أنا كافٍ"، ولا بحيل تحفيزية. بل بتعاطف هادئ مع النفس، وسقوط متكرر، ونهضات غير مكتملة. فحتى حين تظن أنك شُفيت، قد يصفعك طيف، ويُعيدك خطوة. لا بأس. عقلك لا يمحو، بل يعيد ترتيب الذكرى.

وإن كنتَ الآن في هذا النفق، فاعلم: أنت لا تفقد صوابك، بل أنت حزين. لا تحتاج للهرب... بل لبعض الوقت، وجرعة صغيرة من التوجيه، وقليل جدًا من القسوة على نفسك.

لأن أحدًا لا يخرج من جرح عاطفي كما دخله. لكن إن عبرت الألم دون أن تهرب، ستجد على الطرف الآخر نسخة جديدة منك... لم تعد بحاجة لاختصارات كي تبقى واقفة. وهذا، في عالم هش مثل عالمنا، ثورة كافية.

***

محمد إبراهيم الزموري

لابد من القول، بادئ ذي بدء، بأن ظاهرة التملق الاجتماعي هي سلوك إنساني سيء ومتدن، يشيع غالباً في المجتمعات المتخلفة، ويمكن أن تكون له تداعيات سلبية سيئة، على الأفراد والمجتمعات.

في حين نجد ان ثقافة الصدق والصراحة، تشجع الأفراد على التعبير عن أنفسهم بصدق، وبدون خوف، او تملق او مسايرة، ومن ثم فهي بهذا النهج السليم، تعمل على بناء انسان صادق، أكثر ثقة بنفسه، في سلوكه، واقواله، وتصرفاته الاجتماعية، وبالتالي، فانها تصنع مجتمعا رصينا، خاليا من الزيف، والتبجح.

 ويظهر التملق الإجتماعي بما هو سلوك إنساني متدني، ومقرف، على السطح عادة، عندما يسعى الأفراد المتملقون إلى كسب رضا الآخرين، من ذوي الجاه، والمكانة الرفيعة، والإمكانات المالية، وذلك من خلال التعبير عن آراء زائفة، أو مشاعر متلونة، وغير صادقة.

وتاخذ ظاهرة التملق الشائعة في العديد من مجتمعات اليوم، أشكالًا متعددة، بدءا من التملق اللفظي، مرورا بالمحاباة، والمسايرة، والسلوكيات الاجتماعية المصطنعة، وغيرها من السلوكيات الهابطة.

ولعل من بين اهم أسباب ظاهرة التملق الاجتماعي، ضعف الوازع الأخلاقي، والديني، وعقدة الشعور بالدونية تجاه الآخر، عند البعض من ضعاف النفوس، الأمر الذي يدفع بالمتملق للتقرب من الآخر، في مسعى رخيص منه لكسب الود، طمعا في الحصول على مكاسب مادية رخيصة، او لغرض الحصول على قبول اجتماعي في محيطه، مما يدفعه إلى التملق للآخرين.

كما يمكن الإشارة إلى المتملق يخشى الرفض، أو الانتقاد في مواجهة الآخر، مما يجعله يلجأ إلى التملق تجنب للمواجهة، والاستقلال بالرأي والقرار بعيداً عن أي تاثيرات للآخر.

على ان السعي وراء المكاسب المادية أو الاجتماعية المتواضعة، قد تغري ضعاف النفوس، وتدفع البعض منهم، للسعي المحموم إلى التملق، بغية الحصول على مكاسب مادية أو ميزات اجتماعية، مثل الحصول على وظيفة، او وعد بترقية في العمل، أو كسب صداقة شخصية مؤثرة تطلعا للتبجح وحب الظهور.

ولا ريب أن ضعف الثقة بالنفس، وشعور البعض بالدونية، قد يدفع المتملق، الى ممارسة سلوك انتهازي منبوذ، إرضاء للآخرين، تعزيزا لثقته المتواضعة بنفسه.

على تداعيات ظاهرة التملق الاجتماعي لابد لها أن تنعكس سلبا على الفرد والمجتمع في نفس الوقت، فقد يؤدي التملق إلى فقدان الثقة بين الأفراد والمجتمعات، حيث تختلط عندهم الامور، وتضيع بينهم المقاييس، بتفشي الظاهرة، ومن ثم يصبح من الصعب عليهم عندئذ، التمييز بين الإنسان الصادق، والمزيف.

ويمكن أن يؤدي التملق أيضا إلى علاقات اجتماعية غير صحية، حيث يصبح الأفراد أكثر انشغالًا بكسب ود الآخرين وارضائهم، بدلا من السعي المطلوب، لبناء علاقات ودية، حقيقية وصادقة.

وبالاضافة إلى ما تقدم من تداعيات، وافرازات سلبية، فان التملق قد يؤدي إلى خلق ضغط نفسي على الإنسان المتملق، بحيث يعيش حياته بقلق، طالما اقتصر دوره على لعب دور الممثل، الذي يمارس أدوارًا غير حقيقية، ليصبح (لوگي) كما يوصف شعبيا.

 وهكذا يتسبب التملق في فقدان استقلال الهوية الشخصية للفرد المتملق، بعد أن يصبح إمعة بيد اسياده الآخرين، ليظل عاجزا عن التعبير عن آرائه، ومشاعره الحقيقية، بصدق وشفافية.

***

نايف عبوش

يفتتح كافكا رواية التحول بعبارة تصدم كل من يقرؤها ويجعله يعيش حالة من الذهول اللحظي، عبارة تستطيع ان تشاهدها وتشعر بها وتعيشها، ونسأل عن الظروف التي دعته لخطها وجعلها فاتحة الرواية وعتبتها، فكيف يمكن لأنسان ان يستيقظ من حلم سيء ليجد نفسه حشرة! ويموت وهو حشرة وكأنه لم يعش كأنسان ابداً!

" استيقظ غريغور سامسا ذات صباح، على إثر أحلام سادها الاضطراب، وجد أنه قد تحول وهو في سريره الى حشرة عملاقة."

هذه العبارة كفيلة بأن تمثل المشهد الإنساني في العراق اليوم، فالعبث لدينا لم يعد مجرد تجربة وجودية لأنسان فقد المعنى من وجوده، بل تحول الى ممارسة مقصودة من قبل السلطة تصنع اللامعنى عبر ترويجها للخير والوفرة على نهر جاف ومريض! فالساسة في العراق لم يتحولوا الى حشرات منبوذة كما حدث مع  غريغور سامسا، بل الى مسوخ فاعلة تعيد تشكيل الواقع على صورتها المشوهة، ولأنها فقدت احساسها بالواقع الحقيقي صار مشروعها الانتخابي هو القضاء على كل ما تبقى من الحس الإنساني والمبادئ الأخلاقية، فبمجرد رؤية صورهم الانتخابية معلقة على نهر دجلة العريق وهوَ في حالة الاحتضار سنعلم بأننا تجاوزنا مرحلة الانسان الذي يعاني من عبث العالم، وصرنا نعيش في زمن العالم الذي يجعل العبث هدفاً له، فالجفاف الذي يهدد النهر ليس حدثاً بيئياً وحسب، بل هو سيمياء مباشرة وصريحة لنهاية الوجود الانساني في العراق بكل قيمه، وبكل ما فيه من حياة.

فقد تركب شعار "اريد وطن" وتضخم حتى صار " اريد الحياة".... فيا شاعر العرب الأكبر لقد أصبت حين قلت : يا دجلة الخير...أدري بأنك من ألفٍ مضت هدراً... للآن تهزين من حكم السلاطين      فيباس دجلة ليس سورى صورة حية من وحي الطبيعة لوضع الانسان العراقي اليوم، الذي ذبلت أماله في وطن افضل وصالح للعيش، دجلة الذي ترسبت فيه المياه الآسنة والطين الملوث، والذي لم يعد مكاناً صالحاً لعيش الكائنات فيه، لا يختلف عن عقولنا الآسنة والراكدة في جوف بلادتها وعجزها، صورة النهر وهو يفقد هويته، انعكاس بيئي لاضمحلال ضمائرنا في فضاء الأيديولوجيات التي ترفض ان توجه ببصرها نحو شريان العراق وماؤه.

انظر يا طاليس الى الماء لم يعد اصلاً للوجود، بل لم يعد هنالك اساساً حياً له.

***

زهراء ماجد الطائي

 

يبدو أن مصير المكتبات الشخصية ربما سيكون أسوأ من مصير بيت الحكمة في بغداد يوم اجتياحها في (8-10\2\1258).

في السبعينيات كان لي عدد من المعارف الذين يجمعون الكتب والمجلات، وعندما غادروا بيوتهم تحولت مكتباتهم إلى سجير في التنور، وذات مرة أنقذت بعض الكتب من فم التنور ولا زلت أحتفظ بها، لأنها أضحت نادرة.

أعرف العديد من الذين جعلوا المكتبة ديكورا في غرفة الإستقبال، والكثيرون وضعوا الكتب في رفوف شغلت حيزا كبيرا من البيت، وبعد مغادرتهم تتلقفها النيران أو سلال المهملات، فلا قيمة لها إلا عند أصحابها الذين جمعوها بحب وإنغماس في صفحاتها.

أين مكتبات العقاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم؟

هل لها مكان في أروقة المكتبات العامة، أم أنها غادرت الدنيا معهم؟!!

رموز الثقافة الذين أثروا في الأجيال وأسسوا إمتداداتهم المعرفية كان لديهم مكتبات شخصية، وأكثرها ذات مصير مجهول.

المكتبة شاهد عصرها ومرآة صاحبها، تعيش معه وتموت بعده.

فهل أنها سِنة الحياة المتجددة وإرادة الأرض الدوّارة المتحكمة بخلقها؟

الكتاب الرقمي إجتاح الكتاب الورقي كأنه الفيضان العارم، والسيادة الرقمية تتحرك بإصرار والذبول يدب في الأوراق، وتكسد أسواق القلم.

أرى كتباً توارتْ في رفوفٍ

أصابتها عقابيلُ العزوفُ

بنا حفلتْ وعاشتْ في أمانٍ

تعلمنا مصارعة الظروف

أصيبَتْ من معيّتنا بداءٍ

يُدحرجها مُبعثرةَ الحروفِ

***

د. صادق السامرائي

 

قد تبدو كرة القدم، في ظاهرها، مجرد لعبةٍ تُمارس على رقعةٍ من العشب، غير أن جوهرها الأعمق يتجاوز حدود الملاعب ليبلغ تخوم الاجتماع الإنساني ذاته. ولو قلنا للعالم إن كرة القدم كانت يوماً سبباً في إسكات أزيز الحرب في العراق، لظنّ الناس أننا نسرد أسطورةً من نسج الخيال، غير أنها — في العراق عام 2007 — كانت واقعةً من لحمٍ ودم. ففي زمنٍ كانت الطائفية تمزق الجسد العراقي، بزغ فجرُ الانتصار في كأس آسيا، فغدت الكرة، على بساطتها، رمزاً لوحدةٍ غابت، وشرارةً أطفأت نار الفرقة.

لقد تجلّت في تلك اللحظة حقيقة فلسفية عميقة: أن الرياضة ليست فعلاً جسدياً فحسب، بل طاقة روحية قادرة على إعادة تشكيل الوعي الجمعي، وإذابة الفوارق التي توهّمتها العقول.

غير أن هذا الانتصار، على عظمته، ترك في الذاكرة المؤسسية ظلاً ثقيلاً، إذ انحسر اهتمام وزارة الشباب والرياضة لعقود في مدار كرة القدم، حتى كادت أن تغدو وزارةً لكرة القدم لا للشباب ولا للرياضة. غاب التوازن، وغابت معه الرؤية الكلية التي ترى في تنوّع الرياضات تنوعاً في الفكر، وفي الشغف، وفي إمكانات الأمة.

حتى جاء الدكتور أحمد المبرقع، فهدم تلك النمطية الجامدة، وأعاد إلى الوزارة روحها الأولى، فكانت ثورته — بحق — ثورةً في الفكر قبل أن تكون في الإدارة. لم يُقصِ لعبةً على حساب أخرى، ولم يجعل من كرة القدم معبوداً مؤسسياً، بل وزّع الضوء على الجميع، فأنبتت الرياضات المهمّشة أجنحتها، وارتفعت كرة القدم ذاتها في مدارج الرقي.

ذلك لأن العدل في الرؤية يُثمر عدلاً في النتائج، ولأن التوازن لا ينتج إلا من عقلٍ يدرك فلسفة الكلّ، لا من ذهنٍ أسيرٍ للجزء.

أما في ميدان الشباب، فقد تجلّى المبرقع بوصفه مفكراً اجتماعياً أكثر منه وزيراً تنفيذياً؛ إذ انشغل بتأسيس وعيٍ جديدٍ للشباب، يرى فيهم لا مجرد طاقة عاطفية عابرة، بل “قوة وجود” قادرة على صياغة القرار، ومجابهة واقعٍ يمتحن الإنسان في كل يوم. لقد جعل من فكرة الشباب محوراً لرؤيته كلها، إيماناً منه بأن الأمم لا تُبنى إلا حين يتحوّل الشباب من جمهورٍ منتظر إلى فاعلٍ صانع.

ومن مبادرة (اقرأ) التي أحيت في النفوس لذّة الورق والمعرفة، إلى المجلس الأعلى للشباب الذي جعل من الطاقات مشروعاً وطنياً متدفقاً، إلى الورش السينمائية التي كسرت القوالب وأطلقت الخيال العراقي نحو صناعة الصورة والمعنى — كلها دلائل على أن الرجل لم يكن يُدير وزارة، بل كان يُعيد تعريف مفهوم الدولة الثقافية ذاتها.

إن ما فعله أحمد المبرقع هو أنه استبدل منطق الإدارة بمنطق الرسالة، وحوّل الوزارة من مؤسسةٍ جامدة إلى كائنٍ حيٍّ يتنفس الشباب ويعبّر عنهم. لقد ردّ الاعتبار إلى الفكرة الجوهرية التي تأسست عليها الوزارة: أن الشباب هم المبدأ، والرياضة هي الامتداد، وأن كليهما سبيلٌ نحو الارتقاء بالإنسان والمجتمع.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

بلسانِ الجعجعة وهي لسان الرحى قالَ: "لا تهرفْ بما لا تعرف - والهَرَفُ هو الإطناب في المدح والمثَل يُضرَب لمن يتعدّى الحدود في مدحِ الشيء قبلَ تمام معرفتِه - شرّ أيّام الديك يومَ تُغسل رجلاه - ويكون ذلك بعدَ الذبح والتهيئة للطبخ - يا إبن أمِّه إعلمْ إنّ الحوافر هي للملاكمة والحميرُ تُعرَف بالنهيق و"عندما يُطلِعُنا رجلُ العلِم على نتيجة تجربتِه يُطلِعُنا على كيفيّة إجراء تجربتِه أيضاً لكي يكون بمقدورِنا أن نجريها وإذا لم نحصل على النتيجة المرجوّة ذاتها فإنّ نتيجةَ تجربتِه لن نقبلَها كحقيقة". وبربرَ وزمجرَ وجرجرَ وبأْبأَ بفِيه وقال: "أظهرتْ تجاربي أنّ اللبيط عِلم ولكنّه عِلم قائم لذاتِه لا بذاته"!. وسمعَ إبنُ أمّه وقال: "تحكّكتِ العقربُ بالأفعى - والمثل يُضرَب لمن ينازع مَنْ هو أقوى وأقدر - ياااا إبن أبيه "إنَّ الغزال الذي يقف ساكناً ويتلقّى رصاصةَ الصيّاد التي تقتله لو يمتلك عقلاً واعياً لإستفاد منه وعرِف ما يجري ويُحاك له وأنقذَ حياتَه مِنَ الموتِ المحتّم"، إنّ الحوافر هي أيضاً للدّعْس والمعْس والفعْس والهرْس، أنتَ كالمربوط والمرعى خصيب؟!، خسئت، ليس اللبيط عِلم قائم لذاته بل هو عِلمٌ قائم بذاتِه ويُشرِف مِنْ أعلى برج الأسد على اللياقةِ البدنيّة والأمنِ والإستقرار، ما هكذا تُورَدُ يا سعدُ الإبل، و"قيل إنّ حماراً تنكّرَ في شبه أسد، فلّما رفعَ صوتَه وصاحَ عُرِفتْ حقيقتُه"، ويقولُ الزير قهّار المواكب.. رماني الدهرُ في كلِّ المصائب.. فلا تسمع أخي قولَ الأعادي.. لأنّ الضدّ شوره ليس صائب.. ويشورون عليك في رأيٍ وخيم.. ليسقوكَ أخي كأسَ العواطب"، وقالتِ إمرأةٌ لجارتها: "كيف صار الرجل يتزوّج بأربعة ويملك مِنَ الإماء ما يشاء والمرأة لا تتزوّج إلاّ واحداً ولا تستبدّ بمملوك؟، قالتْ: قومُ الأنبياء منهم والخلفاء منهم والقضاة منهم والشُرَط منهم فحكموا فينا كما شاؤوا وحكموا لأنفسِهم بما أرادوا"، "يا أحمق مِنْ ناطحِ الماء لا تشرب السمّ إتّكالاً على الترياق". ردّ إبنُ أبيه حانقاً: "مفتاحُ البطن لقمة" ومفتاحُ الشرّ كلمة لا نهقة، ويقولون للحمار: "حااااا" ويصبر، ويقولون له: "هِشششششْ"، ويصبر، فما العجب إذا أمسى لقمةً سائغةً في فم الأسد أو الفهد أو الضبع أو النمِر أو الذئب أو الثعلب أو إبن آوى أو إبن عُرس أو إبن كلّ عَرص؟، "إنّي آكل لحمي ولا أدعه لآكل". وقال رجلٌ لمزبّد: "إذا استقبلكَ الكلبُ في الليلِ فاقرأْ: يا معشرَ الإنسِ والجنّ إن استطعتم أن تنفذوا مِنْ أقطارِ السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطان" - الآية 33 مِنْ سورة الرحمن - قال مزبّد: "الوجه عندي أن تكون معك عصا".

إرتعدتْ فرائصُ إبن أمّه وقال: "يا أختل مِنَ الذئب"، ردّ إبن أبيه قائلاً: "يا أحقد مِنَ الجمَل"، قال إبن أمّه: "أسدٌ اشتدّ عليه الحرّ فدخلَ في بعضِ المغائر يتظلّل، أتاه جرذٌ ومشى فوق ظهرِه، فنظرَه الأسد وضحكَ منه وقال: ليس مِنَ الجرذ خوفي وإنّما كبر عليّ احتقاره لي - أي أنّ الهوان على العاقل أشدّ مِنَ الموت - قال إبنُ أبيه: "وقفتْ بعوضةٌ على قرنِ ثور، وحين قالتْ: أثقلتُ عليك؟ أجاب: لا يهمّ، فنزولك مثل رحيلك".

وهكذا تهامزا وتلامزا حتى إستشعرَ إبنُ أمِّه إرهاقاً وطلبَ السلامةَ بالسؤال قائلاً: "ألا يُقال إلى أمّه يلهفُ اللهفان"؟ - والرجلُ يلهفُ إلى أهلِه، واللهفانُ هو المتحسِّر والمكروب - قالَ إبنُ أبيه: "الإيناسُ قبلَ الإبساس - ويقال للناقة قبلَ حلبِها "بس بس" والناقةُ التي تدرُّ على الإبساس تُسمّى "البسوس - قالَ إبنُ أمّه لذاتِه: "مَنْ خشي الذئبَ أعدّ كلباً"، وقال لإبن أبيه: "لماذا لا نذهب إلى كبيرنا الكونت - الخواجا - المهراجا - وهو يعثر لنا على العقل الذي ضاعَ بيني وبينك"؟!.

وطارا إلى وادي النار وجبلِ الكبريت وإذا حميتِ الشمسُ تغدو مثل جهنّم، ونظراه يُعلِّق على صدرِ إمرأةٍ حبلى إتّقاءَ ليليث - الجنيّة ليلى - الجناح الأيسر لدجاجة، وإنتظرا حتى زفرتْ وشهقتْ وخرجتْ. سجدا له وعرضا عليه ما أشكل عليهما. قالَ: "لا يحمل الحقدَ مَنْ تعلو به الرتب.. ولا ينال العُلا مَنْ طبعه الغضب. مَنْ طلبَ العُلا مِنْ غير كدّ.. سيدركها إذا شابَ الغراب". أليس ديننا يحثّنا إذا أُشكِل علينا أو غُرِّر بنا أن نقصد حومةَ الميدان ومَنْ يطعن خصمَه ويريحه مِنْ عمرِه أو يضربه على هامِه ويلقي رأسَه قدّامه تُضرَب له النوبات وتزغرد النساءُ والبنات ويكون على الحقّ فيما القتيل هو على الباطل والخزي والعار"؟، قال إبنُ أبيه لإبنِ أمّه: إنّ "مَنْ يضع نفسَه مواضع التهمة لا يلومنّ مَنْ أساءَ به الظنّ".

وإنطلقا إلى حومةِ الميدان، وقالَ إبنُ أمّه: "أنا البطل الرئبال"، وقالَ إبنُ أبيه: "أنا قومُ اللقا عندَ النطاح"، وإصطدما كأنّهما جبلان وتعاكستْ بينهما ضربتان وسقطا على الأرض أربع قطع. وقال سيّدُهما وقد رأى بأمّ عينيه وأبيهما: "إستراحَ مَنْ لا عقل له"!.

***

شوقي مسلماني

بما أن الدين هو مجموعة من السلوكيات العملية تُمارس في المجتمعات الإنسانية والفرد عليه إطاعتها والعمل بها حسب معرفته وإيمانه بها بمقدار تفكيره وعقله وفهمه لها وهذه المجموعة من القوانين والنواميس والسنن الذي يتفرد بها الله تعالى بسنها لتوجيه عباده في المجتمعات فالإنسان لابد أن تكون هذه القوانين والسلوك والمنهاج الكامل الرصين الضابط والقائد لسلوك الحياة وبناءها حرة كريمة مستقيمة يُعبر عن هذه القوانين والسلوكيات بمفهوم (الدين) وأن هذه السلوكيات حث الله تعالى بني آدم المتعلم على العمل بها وصيانتها من التلوث والإهمال البشري وأن يسير على نهجها ليرسم ملامح حياته حتى قيام الساعة وأعطى الحق تعالى للإنسان الحرية في توسيع دائرة  معرفتها وفهمها وتطبيقاتها حسب تطور المعرفة الفكرية والنمو العقلي للفرد وحسب متغيرات نمط العيش للبشرية ومتطلباتها اليومية وللإنسان الحق في الإضافة والتوسع في المفهوم والتفكير والمعرفة على شرط عدم المساس بالثوابت والجوهر والقواعد الموضوعة بإتقان رباني لهذه السنن والنواميس الكونية التي وضعت من قبل الله تعالى منها العمل الصالح والعمل الحسن والعدل والمساواة والإيمان بالله تعالى ومعرفته حق المعرفة من خلال مخلوقاته في الكون الدالة على عظمته وبرمجته لهذا الكون الشاسع والارتقاء بالفطرة السليمة للعقل البشري وحث الإنسان على العمل بالأخلاق والقيم والمبادئ النقية وتطهير ساحة الإنسان من الظلم والجور لأخيه في الأرض وعدم ارتكاب الجرائم بحق المجتمع .علينا أن لا ننسى العلاقة التي تربط الإنسان بالله تعالى وهذه العلاقة الخاصة بين العابد والمعبود المتفرد بالعبادة والطاعة المطلقة بفرائضه وشعائره وحلاله وحرامه من شعائر تعبدية وطقوس دينية تقربه لله عز وجل بينها الصلاة والصوم والزكاة والحج والإيمان برسله وكتبه بدرجات متفاوتة بالممارسات التعبدية من غير تشدد ولا مغالاة ولا رهبانية ولا طاعة عمياء لغير الله تعالى كما يدعون بها رجال الدين بالتدين فأن الإيمان القلبي الواعي والممارسات لهذه الشعائر المذكورة هي هوية الرسالة المحمدية صلوات الله عليه وسلامه وأتباعه خاصة والتي تقيم محبتنا وتبيان هويتنا عن باقي الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والملحدين كل هذه الشعائر التعبدية تصب في مصلحة الفرد وتزداد قيمتها عندما يقترب الفرد من تنقيتها من الشوائب الدنيوية وحين توافق السلوك الديني الصحيح وتحقيق الغاية المرجوة منها من قبل الفرد .

علينا أن لا نخلط بين الدين والتدين والشعائر التعبدية للفرد ولا نفضل أحدها على الأخرى إلا أن السلوك الأخلاقي المجتمعي المرتكز على المبادئ والسنن والقوانين والعمل على رفعة المجتمعات الإنسانية وبناء ركائزها برصانة متينة والنهوض بها أخلاقيا ومجتمعيا واحترام قوانين الله تعالى وصيانة خلقه والحفاظ على العلاقات السليمة الراقية فيما بينهم بالفطرة السليمة والقلب المحب والتفكير المتدبر وحفظ النفس الزكية والإيمان بوجود الله تعالى ومعرفته حق المعرفة بالعلم والعقل السليم لا بالطاعة العمياء الغير متدبرة ومحاولة الاندماج في المجتمع بروابط وثيقة الصلة إنسانيا وفكريا وعقائديا مبنية على السلام والحب وإلغاء الخوف والقلق والابتعاد عن الإسلام كدين شامل لجميع البشر والكون وجعله النور الإلهي الذي يشع للعالم جميعا بأنواره وإيجاد المشتركات الأخلاقية الموضوعية والقيم والمبادئ والسنن واحترام العقل البشري والمنظومة الحياتية على الكون وخصوصا الأرض ونذوب بأخلاقنا وعقيدتنا الناصعة كمسلمين أتباع النبي والرسول محمد بن عبد الله صلوات الله عليه في المجتمع الكبير الواحد في الأرض وبهذا نحقق مراد الله تعالى والدين الحنيف الإسلام.

***

ضياء محسن الاسدي

 

من القوانين الفيزيائية المعروفة " لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الإتجاه"، وفي واقعنا لا وجود له، لأن أقوى ردود أفعالنا أقوال وإنفعالات وتنديدات وإحتجاجات وهتافات وتظاهرات لا غير، ونكيل الإتهامات لبعضنا.

مزايدات، مناشدات، بكائيات، لطميات، وإتهامات!!

أمتنا مشكلتها بقادتها، الذين ينساقون وراء العاطفة والمهاترات والشعارات الفارغة، وقد شخص ذلك الراحل (الحبيب بورقيبة) في (3\3\1965) في خطابه بمدينة أريحا، والذي دعى فيه العرب إلى التحدث مع المحتل بعد النكبة حول قرار التقسيم والقبول به، والتمسك بإعادة الحق المغتصب بالكامل فيما بعد، وكأنه قرأ واقع حال الأمة اليوم وأنذر بأنها ستبقى نردد ذات الكلمات بعد أجيال وأجيال، وقالها بوضوح لو لم نقبل بالحكم الذاتي في تونس عام (1954) لما نلنا الإستقلال، أي أن الحل المنقوص أوصلنا للحل الكامل.

وبإختصار الشعب متحمس وإرادته حديدية ولديه روح ثائرة غيورة، لكنه مبتلى بقيادات لم تبلغ سن الرشد، وبوصلتها عواطفها وإندفاعيتها المحمومة، وقرارتها المسعورة الغير آبهة للتداعيات والنتائج.

وقد برهنت الأحداث عن المسافة ما بين الجماهير والكراسي المكرسة لتأمين مصالح الآخرين.

الأفعال تقابَل بردود أفعال، وفي دولنا تقابل بردود أقوال، وأحيانا بتآزر معيب مع الفعل الواقع علينا، ذلك أن القيادات ما تعلمت بناء القوة، وغطست في الكراسي والتمتع بما تغنمه على حساب البلد الذي تتسلط عليه.

الفاعل يتقوى، والمفعول به يتطوى، ويستجدي قوته من الفاعل به، والمدجنه لتنفيذ إملاءاته، لكي يبقى لفترة أطول في الحكم، فالكفيل يغير الوكيل بين آونة وأخرى.

وتبقى الأقوال الرنانة الطنانة فاعلة في الأجيال، والوحوش المفترسة تنهش الأمة، وقد بدأت برأسها منذ زمان، فخبرت كيف تحشوه بما يتوافق ومصالحها، أما بدنها فتنخره آفات التبعية والخنوع والهوان.

فالأمة المشلولة الأفعال عليها أن لا تدعي البطولات بالأقوال، فإذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب!!

وأقوالها دون الفضة بكثير!!

فإلى أين المسير؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

من يقرأ نعوم تشومسكي اليوم يظن أننا أمام حكيم منبوذ يصرخ في صحراء الخراب، يصف العالم لا كما ينبغي أن يكون، بل كما صار بالفعل: حروب لا تنتهي إلا لتبدأ، كوارث بيئية تُدار كأعمال جانبية، مستويات غير مسبوقة من انعدام المساواة الاجتماعية، وأنظمة استبدادية أشبه بالتماثيل الفرعونية؛ لا تتزحزح ولا تتشقق مهما انهار من حولها. هذه ليست مقدمات فيلم بائس من إنتاج هوليوود، بل "عواقب الرأسمالية" كما يسميها تشومسكي ببرودة جراح يعرف أن الجسد ميؤوس منه لكنه مع ذلك يفتح الجرح ليُري الجميع القيح.

الرأسمالية في خطاب تشومسكي ليست مجرد نظام اقتصادي، بل أسلوب حياة عالمي، أيديولوجيا ببدلات رسمية وعطور فرنسية، تحوّلت إلى حفلة نهاية العالم حيث العزف على القيثارة أثناء احتراق روما صار وظيفة رسمية للحكومات. نحن لم نعد فقط في اقتصاد السوق، بل في سوق للنجاة نفسها، سوق تُباع فيه حتى آمالنا على أقساط.

يقول تشومسكي إن أمامنا وقتاً قصيراً للتحرك، خصوصاً في ملف المناخ. لكن دعونا نضحك قليلاً: الوقت القصير عند الرأسمالية يُترجم إلى مزيد من المؤتمرات، مزيد من التقارير المصقولة بالفوتوشوب البيئي، ومزيد من الخطابات التي تُباع كبطاقات دخول إلى وهم "التحول الأخضر". اللعبة لم تنته بعد؟ ربما. لكن الجمهور ملّ هذه المباراة، فيما الكبار يوزعون الأرباح ويضاعفون الانبعاثات.

جون ديوي وصف النظام الحالي بـ"الإقطاع الصناعي". وما أعمق هذا التعبير. إقطاعٌ بإنترنت فائق السرعة، ومصانع لا تصنع إلا المزيد من الاغتراب. السياسة اليوم ليست سوى ظل الشركات، والظل أطول من صاحبه بكثير. إزالة هذا الظل ليست مهمة بسيطة، بل جراحة كونية، لكنها تظل ممكنة إن لم نُسلم الأمر للقدر ونكتفي بالتصفيق.

خذوا مثالاً مذهلاً ذكره تشومسكي: إدارة ترامب أعدّت تقريراً بيئياً من خمسمائة صفحة لتستنتج أنه لا داعي لتقليل الانبعاثات لأن الكارثة قادمة لا محالة! المنطق هنا يشبه من يقرر الاستمرار في التدخين لأن الرئة احترقت أصلاً. هذا ليس تقريراً علمياً، هذا إعلان رسمي لانتحار جماعي على طريقة الإمبراطور نيرون، لكن هذه المرة ليست روما وحدها التي تحترق، بل الكوكب بأسره.

والأدهى أن هذا التسيير الكارثي يُدار بابتسامة بيروقراطية عقلانية. الحكومة الأقوى في العالم تقول لنا حرفياً: "استمتعوا قبل النهاية". هذه ليست سياسة عامة، هذا مانيفستو نهاية العالم مكتوب بحبر رسمي.

ومع ذلك، ليس كل البشر مجرمين ذهانيين كما تتخيلهم هذه الأنظمة. في الدنمارك، نصف الطاقة تقريباً سيكون متجدداً بحلول 2030، وفي 2050 سينتهي استخدام الوقود الأحفوري. الصين، رغم فقرها النسبي، تنتج طاقة شمسية أكثر من بقية العالم مجتمعاً. إنهم، على الأقل، يحاولون إنقاذ المركب بينما قادة النظام العالمي يحفرون فيه ثقوباً إضافية ليزيد من سرعة غرقه.

تشومسكي لا يكتفي بالتحليل، بل يعيد طرح السؤال الأخلاقي الذي نخاف جميعاً أن نسمعه: ماذا فعلت أنت؟ ماذا لم تفعل؟ وماذا يمكنك أن تفعل الآن؟ في لحظة تاريخية يُدار فيها العالم بأسلوب شركات سجائر تبيع السرطان في عبوات ملوّنة، علينا أن نختار بين أن نكون موظفي معسكرات الإبادة البيئية أو أن نتحول إلى مقاومين لهذا الانتحار الجماعي.

القصة التي تتكشف أمامنا، كما يشير تشومسكي، أكثر رعباً من ما يقع في فلسطين، لأنها عالمية، بطيئة، وتُدار بابتسامات مديري مجالس الإدارة. والأجيال القادمة، إن وجدت، لن تسأل: "لماذا حدث هذا؟" بل ستسأل: "ماذا كنتم تفعلون وأنتم تشاهدون كل هذا؟".

***

محمد إبراهيم الزموري

الذين يتصورون أن النفط هو أساس الاقتصاد في وهم كبير، فالدول القوية إقتصاديا ليست نفطية، النفط يتسبب بالفساد وتعطيل العقول وهدر قيمة الإنسان.

المعضلة الكبرى أن أنظمة الحكم تفكيرها غير إقتصادي، ومنهجها الركض وراء سراب الشعارات الطوباوية الخالية من الطاقات الإيجابية الضرورية لتأمين حياة طيبة للمواطنين، وإشعارهم بوجودهم الوطني العزيز. ومن أركان الاقتصاد المهمة:

أولا: الثروة الزراعية

النخيل والأشجار المثمرة ودائمة الخضرة والتي تنتج الأخشاب.

يجب أن يكون الشعار السائد "في كل بيت نخلة"، وأن توجد محفزات لتشجيع المواطنين على العمل به، وعلى المسؤولين إبتكار ما يحفز على ذلك.

كما أن إحترام التربة وإستثمارها لإنتاج مفردات الطعام الأساسية من ضروارات الأمن الغذائي الحصين.

ثانيا: الثروة الحيوانية

المواشي (الأغنام، الماعز، الأبقار)

الطيور بأنواعها (الدجاج، البط، القطا، السمان، الديك الرومي، النعام)، وغيرها الكثير من الطيور الداجنة.

الدول المتقدمة تعي قيمة الثروة الحيوانية وتحافظ على تطويرها وتعرف دورها الاقتصادي وأثرها الفعال في توفير الطعام ومردوداتها المالية اللازمة لإقتصاد قوي ومتحرك بحيوية وإبداع إنتاجي متدفق.

الأمم والشعوب تتفاخر بثروتها الحيوانية، ونحن نخجل منها ولا نحسبها بصمة قوة وإنتصار.

ثالثا: الثروة المائية

"وجعلنا من الماء كل شيئ حي"

الماء موئل الحياة وبدونه تنتفي وتغيب، ولابد من برامج معاصرة للحفاظ على المياه ومنع هدرها، والعمل على توفيرها وفقا لما إستجد من أساليب وآليات لشق الأنهر وإنشاء البحيرات، والإبتعاد عن إعتبار الأنهار مكبا للنفايات.

رابعا: الصناعات الغذائية

الصناعات الغذائية تتطور في معظم الدول، وتبدع عقول أبنائها بإيجاد ما يساهم في تطوير المحاصيل الزراعية وتنويع منتجاتها وتعدد روافد إستثمارها، وتحويلها إلى بضائع تملأ رفوف المخازن والأسواق، وعلى سبيل المثال من الرز صنع الآسيويون العديد من المنتوجات الغذائية والمشروبات، ولو كان التمر متوفرا عندهم لتفننوا بصناعات غذائية لا تحصى منه.

خامسا: الثروة البشرية

دول الدنيا تريد بشرا لدعم الاقتصاد وتوفير الأيادي العاملة، فبدون البشر ينكمش الاقتصاد، وتهزل الدول، وبعض المجتمعات تنوء من الكثرة البشرية، ولا تمتلك مهارات الإستثمار فيها، ولهذا تجد أنظمة حكمها مؤهلة للتداعي فيما يتسبب بمحق البشر من صراعات بينية وحروب تدميرية.

الطاقات البشرية من أركان الحياة العزيزة الأبية، وعندما يشعر كل مواطن بقيمته ودوره فأن البلاد ستنتعش، وتنبثق في ميادينها أساليب التنافس الإيجابي المنقطع النظير.

فهل عرفنا إطلاق طاقات بشرنا الحضاري المتميز القابليات والأصيل الرؤى والتطلعات؟

هذه بعض أعمدة الاقتصاد الأساسية التي تتمسك بها الأمم والشعوب، للحفاظ على سيادتها وحريتها وقوتها التفاعلية مع الآخرين.

***

د. صادق السامرائي

تتصاعد الأزمة بين نقابة الفنانين العراقيين ولجنة الثقافة والسياحة والآثار في مجلس النواب، بعد مطالبة الأخيرة بسحب يد نقيب الفنانين الدكتور جبار جودي، على خلفية تصريحاته التي انتقد فيها أداء اللجنة وتركيبتها،، بدأت حين ظهر جودي في تصريح متلفز قال فيه إن اللجنة البرلمانية التي تحمل اليوم اسم «لجنة الثقافة والسياحة والآثار» – وكان اسمها سابقاً «لجنة الثقافة والسياحة، تخلو من أي مثقف أو فنان،، مضيفا فهذه اللجنة لا تضم مثقفاً واحداً أو شخصاً يفهم في الشأن الثقافي والفني، وهناك قطيعة بيننا لا يمكن ردمها إلا إذا فاز فنان في البرلمان.» هذا التصريح أثار حفيظة أعضاء اللجنة، الذين أصدروا بياناً طالبوا فيه بسحب يد النقيب، معتبرين أن حديثه يمثل إساءة لمجلس النواب ولجنة الثقافة تحديداً. لكن جودي لم يصمت، بل رد ببيان لاذع قال فيه إن النقابة كانت تنوي تقديم ما يثبت جهودها الكبيرة في دعم الفنانين والمثقفين، إلا أن بيان اللجنة ذاته احتوى – بحسب قوله – على 26 خطأً لغوياً وإملائياً، ما اعتبره دليلاً على صحة انتقاده. وأضاف: «ندعو السادة النواب في اللجنة إلى الالتحاق بدورات مجانية في الإملاء واللغة في مقر النقابة، وسنقترح عليهم بعد ذلك كتباً وندوات، كي يكون في لجنة الثقافة مثقفون فعلاً.» ما يحدث اليوم «يكشف أزمة احترام متبادلة بين مؤسسات الدولة والوسط الثقافي» السلطة لا تزال تنظر إلى المثقف كصوت مزعج لا كشريك في بناء الوعي العام». والفنان حين ينتقد، فإنه يفعل ذلك بدافع الغيرة على الثقافة، لا رغبة في الصدام. لكن المؤسف أن النقد في العراق يُستقبل كتهديد لا كفرصة للإصلاح». وتابع الساعدي حديثه بالقول: «ما يحتاجه المشهد الثقافي اليوم هو مساحة من الاحترام المتبادل، فالثقافة لا تُدار بالعصا، ولا تُصان إلا بحرية الرأي والتعبير،، واعتبر ناشطون وفنانون ان ما جرى بأنه «صفعة على وجه الحرية»، مؤكداين أن الحادث ليس مجرد خلاف عابر في مشهد سياسي مرتبك، بل مؤشِّر خطير على تراجع مساحة التعبير عن الرأي التي كفلها الدستور العراقي في مادته (38)، والتي نصت بوضوح على أن الدولة تكفل حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، بما لا يخل بالنظام العام والآداب. ويتساءل العامري بمرارة: «أين هي كفالة الدولة اليوم؟ وأين هو احترام الدستور؟ وقرر فنانو العراق إقامة تظاهرة كبرى ردا على محاولة لجنة الثقافة البرلمانية سحب يد نقيبهم -- وتقديم اعتذار رسمي إلى جميع الفنانين العراقيين ونقابة الفنانين المتمثلة بنقيبها المنتخب دستورياً وجماهيريا، وطالبوا أعضاء لجنة الثقافة النيابية ان يقدموا منجزا واحداً لهذه اللجنة من 2003عدا فترة عمل د.علي الشلاه

العداء بين المثقف والسياسي قديم أزلي، لا تخطئه في مرحلة من مراحل التاريخ افنحن نؤمن أن القلم أشد بأسًا من فوهة البندقية، أما السياسي فدستوره يتلخص في قول جوبلز: كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي. ذلك لأننا نناضل بسن القلم الذي نشعر بغربته أحيانًا في عالم غير متزن ونشعر ببعض غربته فينا؛ لذا سرعان ما ينهزم لكنه أيضًا سرعان ما يقوم ولا تنضب طاقته.ويخبرنا التاريخ وكتب الفلسفة والسياسي الذي يصل للحكم عنوة لا يعرف للحرية معنى ولا للديمقراطية قيمة، فهما ألد أعدائه طوال بقائه، ويحارب كل من يناصرهما وفي المقدمة المثقف الذي يؤمن بتلك القيم الغائبة عن قصور الرئاسة حولنا، وما ذلك إلا لأنه لو وُجِدت الحرية لما وصل إلى الحكم، ولو وُجِدت الديمقراطية لما استمر فيه. لذا يعلن الحاكم عداءه سافرًا على كل المنافذ التي تنشر الوعي بين الشعب؛ فإما تواليه وتسبح بحمده، وإلا يغلقها ويشرد أهلها أو يعتقلهم، ولا ينزعج من اعتقال الأقلام ولا يهُزُّه غلق الصحف. وانعدام الفن

علينا أن نتعلم من تجارب الشعوب، إن الأمم لا تزدهر في ظل ساسة يعتقدون أنهم وحدهم يعرفون مصلحة البلاد.. فالعدالة الحقة لا مكان لها في ظل رجال يخططون من أجل الوصول إلى درجة من الإيمان، بأنه لا خيار أمام الناس سواهم..لأنهم وحدهم يملكون القوة والحزم، مستبدون يخيفون الناس، لكنهم عادلون في توزيع العطايا والمنح على مقربيهم، وعادلون أيضا في توزيع الظلم على الناس.. أدركت هذه الشعوب، أن الحل في دولة مؤسسات يديرها حاكم إنسان وليس نصف إله، يتغير كل فترة لكي لا يتوحد مع كرسيه، ويتصور أنه بطل منقذ.. اكتشف العالم أن فكرة دولة الخلاص إنما هي أوهام يصرّ المستبدون على زرعها في نسيج المجتمع،، اليوم الناس بحاجة الى بناء دولة حديثة. وهذا يعني أن كل "البكتيريا" المضرة التي تكونت على جسد الانتخابات المزورة، لا بد من مكافحتها وإزالتها بأجود انواع "مبيدات" الديمقراطية.. فلا مكان لمسؤول وسياسي يعتقد ان المنصب فرصة للاثراء بسرقة البلاد.. فالمكان فقط لدولة، تتحقق فيها الحريات العامة، ويجد فيها المواطن مناخا للتعايش لا للسيطرة من طرف واحد.

***

نهاد الحديثي

 

سؤال يُطرح دائما: لماذا يلجأ الطلبة للدراسة الخصوصية، ولماذا يتبادر لأذهان اولياء الأمور عن تجربة ملموسة لأبنائهم، ومحيطهم أن التدريس في المدارس الحكومية غير كفوءة اكاديميا لأعطاء محاضرات بجودة علمية عالية؟، لربما كان السبب عدم توفر بيئة تعليمية تصلح لجذب أهتمام الطلبة لتلقي المعلومات، فاصبحت مشكلة عامة لمجتمع يشغله نجاح ابناءه بالسعي وراء أي أسلوب كان من أجل النجاح والأنتقال لمرحلة أعلى، عبر البحث عن سبل تغنيهم عن هموم ومشاكل المدارس، اضافة لعدم تفرغ الأهل لمتابعة تدريس ابنائهم بانفسهم، لذا يلجأ اولياء الأمور إلى وضعهم في معاهد دراسية، أو مع مجموعة طلاب ومدرس خصوصي لتدريسه كل المواد أما في بيت المدرس أو يحاضره في بيت الطالب وتبقى حسب مقدرة الأهل المادية، وبهذا يكون ابناؤهم بايادي أمينة، لأن المدرس الخصوصي سيكون متفرغا لشرح المادة ببساطة، وإعادة الشرح أن تطلب ذلك منه، كما يتيح للطالب ان يسأل ويستفسر من الاستاذ وطرح أفكاره بلا رهبة ولا خوف ولا لوم، وهولا يبخل عليه بالأعادة، لأن يهمه ان يحيط الطالب بكل معنويات الدراسة للحفاظ على سمعته العلمية والبعض معروف بعلميته واسمه أذ يضمن نجاح الطالب أو تفوقه وهذا كثيرا ما يحصل، ويكون مسؤل عن متابعة الطالب ومعرفة درجاته ليفهم نقاط ضعفه أن صح القول لو أخفق بمادة ما، ليدرك مدى استفادته من التدريس علما الأساتذة الخصوصين لهم طرق معينة لتقريب المادة لفهم الطالب وأسلوب شرح يبقى في ذهنه، بينما في المدارس تلقى المحاضرة أمام الطلاب من يفهم يفهم، ومن لا يفهم فهناك طريق الدروس الخصوصية والتي اصبحت سمة عامة في كل المدارس، وأن تكلف الأهل فوق طاقتهم المادية والمعيشية وترهق جيوبهم، خصوصا لو لعدة مراحل للعائلة الواحدة، أضافة الى تكاليف سبل التوصيل وتنظيم المواعيد والمتابعة باطمئنان الأهل على مستقبل أبناءهم، تبنى علاقة ود وتبادل التقدير والاحترام بينهم...

من مساوئ اللجوء للدروس الخصوصية:

بعض الطلاب اصبح لديهم تعود على الدروس الخصوصي وهذا يجعلهم عدم الأعتماد على أنفسهم حتى لو كانت مادة سهلة لا تستحق التوضيح، أو في مرحلة ليس بالصعوبة التي تستوجب الدرس الخصوصي، لكن عدم ثقته باستيعاب الموضوع، حتى لوكان مدرس المادة ممتاز بشرح المادة، لكن تكاسل الطالب بعدم انتباه وتشتت تركيزه لأن هناك مدرس آخر يستطيع أن يفهم منه، بذلك يتهيأ فكر الطالب نفسيا ولا وعي منه لعدم متابعة الدرس بحرص بحجة عدم فهمه للمادة إلا من مدرس خصوصي، لذا يتعرض أستاذ المادة بأتهامه بالتهاون، وعدم قدرته على توصيل المادة اليهم، وحين يشغل فكر الطالب احتياجه للدروس الخصوصية ستسبب له سلوكيات واهية، وتنشأ عنده صفة اللامبالاة.. عدم شعوره بالمسؤلية تجاه نفسه وأهله ولا يهمه مستقبله خاصة من هم في أعمار المراهقة، ولا يملك القدرة ليواجه الحياة بكل صلابة إلا بالإتكال على من يسانده في كل خطوة، وبهذا لا يكون مواطنا صالحا ينفع ويستفيد في مجتمعاتنا، بل يكون طفيليت يعيش على كد الآخرين....

وإن كان الأرهاق المادي لتوفير مبالغ عند عموم الأهل خاصة ذوي الدخل المحدود، ومعظم ابناء الشعب كسبة قد  لا يحصلون على ما يسد رمق العائلة ومتطلباتهم، مما يؤثر على مستوى معيشتهم بضغط الأبناء على الأهل لأهمية الدروس الخصوصية وكي ينال أعلى الدرجات كما يفعل أقرانه، وإلا فلن ينجح، وأسهل الطرق هي الدروس الخصوصية للبعض لأن له مقدرة مادية فلا تتأثر معيشته، والأغرب أن هناك من يتباهى بالدروس هذه، وأنه يدرس عند الأستاذ فلان وفلان وهذا يعني مقدرة أهله على توفير مبالغ لاساتذة معينين بمستواهم التدريسي، وهو ما يخلق فجوة بين الطلاب و تمايزا طبقيا، وكثيرا ما أدت الى مشاكل تتسع بين العوائل، والتباغض بين الطلاب والبعض الآخر مجرد تقليد حتى لو يستوعب من الأستاذ بالتشبيه بالآخر صفة غير سوية تخلق منه انسان مقلد وغير مبدع....

بعض الطلاب له مزاجه الخاص في مرحلة من مراحل عمره قد ينفعل بسرعة أو يتاثر من مشكلة بينه وبين أحد الطلبة أو بينه وبين الأستاذ، ربما يتعرض للتنمر من الطلبة أو الجهة التدريسية أثر حدث ما، لذا يفقد الرغبة للدوام وشغف المتابعة لذا يفضل الإبتعاد عن محيط المدرسة بالانتساب، والبعض له التزام عائلي أو عمل مهم معيشي أو مرضي يتطلب منه البقاء في البيت، أو لعدم شعوره بأهمية الدوام يبقى في فراشه كسولا مهملا، مدلالا لا شغف للحياة لديه وهذه مشكلة على الأهل حلها ...

ما يحدث في السنوات الأخيرة أن معظم طلاب المراحل المنتهية يسارع الإنتماء للمعاهد أو كروبات دراسية منذ العطلة الصيفية ليحصل على فرصة مقعد فيها بسبب الزخم الذي عليها، وعند بدأ الدوام يترك المدرسة بصيغة الإنتساب المتوفرة حاليا من قبل وزارة التربية من أجل أن يتفرغ للداوم في معاهد التدريس الخصوصي، لماذا؟:لأنه يبحث عن فرص أفضل للدراسة والفهم، وهذا ما يوفره الدرس الخصوصي أن كان الطالب جادا لبذل جهوده، الأستاذ الخصوصي يشرح المادة بالتفصيل ويعطي دلالات كوسائل توضيحية تبقى منطبعة في ذهن الطالب كما نراه على اليوتيوب وبرامج النت عموما، لاستيعاب المادة بمستوياتهم العقلية وتسهيل الحفظ، أضافة لكسب الوقت، والتفرغ للتركيز والدراسة، مع انه يستفاد من اختبارات المدرسة واختبارات اساتذة المعهد وهذا من حقه لتحديد مستقبله ولأنها مرحلة تقرير مصير...

هناك نقطة مؤلمة لفتت انتباهي بقدر ما أصبح الأساتذة يسعون للدروس الخصوصية لرفع مستواهم المعيشي بقدر ما يعتبر إهانة لمهنة التعليم لمن على عاتقه إيصال هذه الرسالة المقدسة وتنزيه مهنة التدريس بمنزلة أسمى رسالة أنسانية لمن يحمل شهادة معلم، لكن الإحتياج المادي أدى إلى إذلال المهنة وأصحابها بانحراف هدفها الأسمى عن الوجه الصحيح مع الأسف، لذا أعتقد أن أصعب موقف يمر به المعلم حين يساوم الأهالي على علميته وجهده وتعبه وهو الجرح النازف في العراق الحبيب بلد الحضارات وأول الحروف ومسلات النظام والتشريع، فهل يكون المدرس معذورالجيب أو الضمير، أم نعذر ضمير أولياء الأمور وجيوبهم، لتعريضيه لهذه المواقف، لقد ذهبت هيبته وهيبة العلم، كان لمرور المعلم رهبة في اي مكان يظهر ينهزم الطالب من أمامه خوفا منه وخجلا أن يراه في سوق أو شارع وذلك احتراما له والمقولة كانت سارية المفعول في صدر بيت الشعر الآتي " كاد المعلم أن يكون رسولا !!

هل التدريس الخصوصي يحل مشكلة الطالب وتذمره من عدم فهم المادة وحجته عند عدم حصوله على درجة نجاح يطمح لها هو أو الأهل؟

كي لا نحيد عن بعض السلبيات التي طرأت منذ سنين عن تخلف المستوى الدراسي للطلبة ولا نغفل عن كثير من المسببات، لنعطي فكرة عامة ومركزة نستهل بيت الشاعر مُعد بن يكرب الزيدي ...

لقد أسمعت لو ناديت حيا ...ولكن لا حياة لمن تنادي

 أن أولى المعوقات تأتي من المؤسسات التربوية المعنية والتي اضحت مجردة من مسؤولياتها، غافلة أو متعمدة بعدم الاهتمام والتماهل والتناسي لتهيئة الأحتياجات بمراقبة مستمرة لسد هذه الثغرات المهمة في المدارس، فاللوم الأكبر عليها لأسباب منها:

 كثرة المناشدات لإدارات التربية المختصة، ولكن لا جدوى لدعمهم لأحتياجات الأساتذة، ولا استجابة تلوح في الأفق، واليأس دب في ربوع المستوى التعليمي من أبسط متطلباته إلى أكثر أهمية منه، وأخذ المدرس يصرف خلال فترة دوامه من راتبه الذي لا يكفيه لآخر الشهر على تجهيزات تعنيهم، لأن الأدارة لا توفر له وسائل راحة بأبسط ما يمكن من مكان مجهز خلال فترات الاستراحة بين الدروس "الفرصة" في الصيف والشتاء، إذ لا توجد مراوح ولا أجهزة تبريد في الصيف، ولا تتوفر مدافئ في فصل الشتاء، وأن وجدت من عصرها القديمة..لا فرش للأرضية، حتى النفط يتم تجهيزه من قبل الأساتذة، حتى لا تتوفر لوكرات لكتبهم، كثرت شكوى الأساتذة عن هذا الموضوع لإدارات المدارس، لكن الإدارة أيضا لا تملك سلطة صرف والخزانة خاوية لا نثريات ولا غيره، وليس باليد من حيلة إلا المناشدة لكن دون استجابة، وبما أن المدرسة هي البيت الثاني للطلبة ونصف النهار التواجد فيها أن تهتم إدارة المدرسة بتوفير المرافق الصحية من حمامات مجهزة بمتطلبات النظافة وتوفر الماء لحاجة مهمة للطلاب، لكن في كثير من المدارس لا توجد وأن وجدت لا تتوفر فيها مواصفات النظافة وبدون ماء دوما، أما للأدارة يمكن أن تتوفر بشكل أفضل .....

وحتى لا نبخس حق المدرس، مع كل هذه المعوقات المؤلمة والمنغصات اليومية للأساتذة، وتحت كثير من الضغوط يوجد من هو حريص بأمانة استاذ يتحمل من أجل شرح المادة للطلبة بعدة طرق، ومع كل هذا يتعرض الأستاذ لأهانات وتعدي من كثير من الأهالي أّذا رسب ابنهم فالملام الأول هو الأستاذ وهذه مشكلة عويصة تُعرض كثير من الأساتذة الى الضرب وحتى التهديد بانفعال وتهور أولياء الأمور بغياب العقاب وكثرة مفعول تنامي قانون العشائرية، وينسون أن الطالب يعيش بكل مراحل عمره ما بين بيئته ومحيط المدرسة، وهذا الجحود الإنساني لا مبرر له إطلاقا، وعلى الأهالي أن يفهموا ويتعاونون مع ادارة المدرسة، أن يبحثوا عن أسباب فشل ابنهم والتعامل مع الأستاذ والأدارة بكل وعي واحترام لحل مشكلته وتطبيق ما يشار إليه، لان أي استاذ يتمنى ان ينجح كل الطلاب وأن تفاوت مستواهم العلمي، ولايفرح بضياع تعبه فما ذنبه أن كان الطالب تحت تأثير عدة مشاكل في البيت وهي الأصعب ...

احيانا الأستاذ لا يعطي المادة بضمير حي، بل مجرد اداء واجب، بغير حرص ولا اهتمام، فلا يعطي للدرس قيمته لأن الراتب لا يكفي لهذا يريد أن يحفز الطلاب للدراسة الخصوصية عنده، فيكون شرحه مختصر، نراه ينزعج من أسئلة الطلاب أن طلبوا الإعادة لعدم فهمهم ينهرهم ..يلومهم ..يحرجهم ..يستهزأ بهم ..ويستفزهم، مما يخلق فجوة نفسية بين الأستاذ والطالب، أو بين الطالب والمادة بنتائج سلبية تؤدي لمشكلة ترك المدرسة، أو يضطر الطالب للدراسة الخصوصية عنده أو عند غيره، ربما يُكره لأخذ الدروس الخصوصية عند نفس أستاذ المادة التي يعاني من تقصيره بها، وهناك مشاكل تطرأ على الطالب عندما من يدرس الخصوصي عند غير أستاذ المادة سيرسب في مادته، وهو عقاب خفي نرجسي بعقدة نفسية لا ذنب للطالب فيه، ونتيجة التنافس بين اساتذة المدرسة نفسها على الدروس الخصوصية على اختيار أو حجزطلابهم، يخلق مشاكل وشقاق بينهم بأشكال عدة تكون وطأة مخلفاتها وسلبياتها على الطلاب .......

المدرسة كما نعرف والمتعارف عليه هي البيت الثاني للطلبة والأساتذة كعائلة واحدة، وهي أساس لنشر العلم، وزرع القيم والأخلاق في فكر الطالب، لتنشئته مواطنا صالحا في المجتمع، وبث حب المعرفة لأجل الارتقاء بالمستوى العلمي والثقافي والأجتماعي والصحي لمستقبل أفضل، وعلى ضوء كل المستويات أن تكون المدرسة ملمة بكل ما يحتاجه الطالب نفسيا..جسديا..فكريا.. وصحيا وغيرها، وبتوفيرهذه الأجواء المهمة للدراسة تفتح شهية الطالب لفهم الدروس والتعلق بالدراسة والدوام المنتظم، بكل هذا التدبر يتجلى حب الوطن...

أن يكون الأستاذ ملما بعلم النفس لأهميته، ويتعامل على أساسه لتلافي أي مشكلة تحدث بين الطالب والأستاذ.. بين المادة والطالب.. بين الطالب وأسرته..أو بين الطالب ومدى شغفه لتحفيزه على التنافس مع أقرانه وغرس روح الطموح بأفكاره ويجد ويجتهد...

 أن يتمتع الأستاذ بروح التواضع والبساطة للتعامل مع مستوى مرحلة الطالب، ومستوى تفكيره، وعمره، ودرجة وعيه، لا يجرحه.. لا يسخر منه.. لا يتنمر عليه لأي سبب كان حتى لو كان أصعب المشاكل بل عليه أن يجد حلول دون هروب أو يتذمر منهفالمواجهة اسهل الطرق تذلل كل الصعاب إذ لا مشكلة بدون حل....

استخدام طرق تدريس حديثة ومتغيرة بوسائل إيضاح بين عملي ونظري ومشاركة افكاره بموضوع الدرس فإن أحب الطالب المادة وتقبلها بنفسية مرتاحة يجتهد وينجح، وأن يتهيأ خلال الدوام برنامج عن عدة سفرات ترفيهية وثقافية الى معارض فنية ومشاركات أدبية وتعريفية على تراث البلد من جميع النواحي حسب مرحلته العمرية....

أن لا يعطي الاستاذ واجب يومي أكبر من طاقة الطالب واستغلال كل وقته للدراسة ، أن يكتفي بما الزمه من واجب يومي خلال محاضرة الدرس، ولا يستمر بإرسال مادة أضافية أخرى على كروبات المادة خارج وقت الدوام أضافية بوقت متأخر، والتي حاليا ما تعتمده اساتذة المدارس بالتواصل مع الطلبة من خلال الكروبات، ولكل مدرس مادة كروب مع طلابه يخص مادته، أحيانا يتذكر الأستاذ آخر المساء ويضيف واجب تحضيري أكثر من المعتاد، ذلك يرهق الطالب ويجعله تحت ضغط بقية الدروس، بحيث يفقد السيطرة، ويشتت تركيزه حتى على مادة واحدة، على الأستاذ أن يذلل صعوبة الدرس للطالب لا أن يعقده عليه وايضا الطالب يحتاج لستراحات كي يبدع ويجتهد، فلا يضغط بطلباته فوق مستوى تحمل الطالب بل يقسم المادة على مراحل حتى يستطيع استيعابها...

وختاما أن وجدت مؤسسات تربوية بمتابعة قويمة للأساتذة بادخالهم دورات تدريبية علمية ونفسية، ومن المهم زيادة راتب المدرس لأن مهنة التدريس مهنة متعبة جدا تتطلب جهدا جسديت ونفسيا وصحيا، ولدينا اساتذة بمستوى عال العلمية ومبدأهم الحرص والأمانة في التدريس يستحقوا التقييم والاحتفاء بهم وتقديرهم بفرص مادية وعلمية أكثر أهمية وفائدة للطرفين كليهما .

***

إنعام كمونة

 

قرات مقالا يوجه فيه الكاتب انتقاده لأصحاب الدورات والورشات التدريبية حول الكتابة الإبداعية، لأن الكتابة الإبداعية حسب الكاتب هي موهبة ربانية لا يتعلمها الإنسان..

 ذكرني هذا الجدل بمقولة الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف فيما معناها: " إن المدرسة يمكن أن تخرج لنا طبيبا، مهندسا، استاذا، لكن الشاعر من صنع الله وحده " ...اي إن الموهبة لا تكتسب بالتعلم والتدريب وعن طريق الورش والدورات...

يقول الروائي حجي جابر في مقال له بموقع الجزيرة بعنوان " جدل ورش الكتابة الإبداعية":

"القول إن ورش الكتابة لا تصنع مبدعا، هذا قول سليم، إذا ما نظرنا إلى الأمر كخط إنتاج مصنعي، تدخل مواده الخام من جانب وتخرج مكتملة من الجانب الآخر. وفي هذه الحالة، ما الأمر الآخر الذي بإمكانه صنع مبدع على هذا النحو؟

في المقابل، ثمة من وقف منافحا عن الرواية كي يضمن ألا يتسرّب إليها ناقصو الموهبة والخيال والأدوات. تلك المنافحة قادتْ -من ضمن جملة أمور- إلى موقف صارم في رفض ورش الكتابة الإبداعية، كونها لا تعدو محاولات إنعاش يائسة لجثث فقدت أيّ فرصة في الحياة.

لي رأيٌ في فكرة حماية حرم الرواية والوقوف على بوابته في وجه "المتطفلين"، وما يحمله ذلك من تزكية للنفس وفرض لمنطقها وذائقتها، وافتراض مسبق لكون صاحب الفكرة، صاحبا للمكان، فيما الآخرون وافدون عليه. لكني هنا سأتجاوز رأيي في ذلك لأدخل مباشرة في الحديث عن تلك الورش الإبداعية التي وإن بدا أنّ رافضيها يقفون على أرضية واحدة، فإنهم -وفق ظني- ينطلقون من أسباب شتى.

أول أسباب الرفض، هي القول إن ورش الكتابة لا تصنع مبدعا، وهذا قول سليم، إذا ما نظرنا إلى الأمر كخط إنتاج مصنعي، تدخل مواده الخام من جانب وتخرج مكتملة من الجانب الآخر. وفي هذه الحالة، ما الأمر الآخر الذي بإمكانه صنع مبدع على هذا النحو؟ الحقيقة لا شيء! لا شيء بمقدوره تحويل الأشخاص العاديين بضغطة زر إلى روائيين مبدعين، لا القراءة المكثفة ولا مرافقة الكُتّاب، ولا غيرها من الوسائل"

رغم ان هذه الورش منتشرة في أمريكا وتقدم في الجامعات وتمنح لها الشهادات وأنا في نظري هناك فائدة وحيدة يكتسبها المبدع الشاب الذي هو في بداية الطريق هو اكتسابه مهارات وفنيات تساعده على تجويد عمله الإبداعي ولن تخلق منه كاتبا فالكتابة كما قلت هي قراءة جيدة متبصرة وتجربة عميقة في الواقع ومكابدة روحية وتحليق في عوالم نورانية مشرقة..

***

الكاتب: شدري معمر علي

 

في المثقف اليوم