أقلام حرة

أقلام حرة

في الآونة الأخيرة، يبدو أن اسم شينجيانغ يتردد أكثر من أي وقت مضى على لسان علماء الحكومة الصينية. هذه المنطقة الشاسعة الواقعة في غرب البلاد بمساحة تضاهي مساحة إيران تقريبًا، لكنها أقل كثافة سكانية بشكل لافت مقارنة بعاصمتها بكين.

 واليوم، نجد أن شينجيانغ تقف في قلب مشروع هائل لتطوير البنية التحتية على نحو غير مسبوق، حيث تشهد تحولات ملحمية تعيد تعريف المشهد الاقتصادي والعلمي في الصين.

من مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح التي يمكن رؤيتها من الأقمار الصناعية، إلى التلسكوب الراديوي الأكبر من نوعه على مستوى العالم، مرورًا بالسدود الكبرى التي تشكل معالم متفردة، وشبكات المياه الجوفية التي تمتد لمسافات مذهلة لتغذي صحراء تاكلامكان "بحر الموت"، يبدو كل شيء في شينجيانغ وكأنه جزء من خطة متقنة لإثبات قدرة البشر على تحويل المستحيل إلى ممكن.

قد تبدو فكرة استثمار هذه الموارد الضخمة في منطقة صحراوية، وفق معايير معظم الدول، ضربًا من التبذير. إلا أن الصين لديها رؤية مغايرة تمامًا. فالنتائج تتحدث عن نفسها : ثروة هائلة من الطاقة النظيفة التي تقلل تكاليف الإنتاج على مستوى البلاد، والعائدات الزراعية والصناعية والمعادن التي تُعاد توزيعها لتسريع نمو شينجيانغ وربطها ببقية الاقتصاد الصيني. بهذه الطريقة، لا تخدم هذه المشاريع الإقليم فقط، بل تمتد آثارها لتعيد تشكيل أسواق الاستهلاك العالمي، إذ تتيح للصناعة الصينية إنتاج سلع بجودة أعلى وأسعار أكثر تنافسية.

لكن شينجيانغ ليست إلا جزءًا واحدًا من مشهد التحول الكبير في المناطق النائية بغرب الصين. في التبت، يتم إنشاء محطة كهرومائية عملاقة تفوق ثلاث مرات حجم سد الخوانق الثلاثة الشهير.

وفي قويتشو، يشق أطول جسر في العالم طريقه فوق - وادي هواجيانغ - العميق. هذه المعجزات الهندسية، التي كان يُنظر إليها يومًا كأحلام مستحيلة التحقيق، أصبحت اليوم واقعًا ينبض بثمرة الابتكار والعمل الجاد في المناطق التي كانت تُعدّ الأكثر فقرًا وتهميشًا.

وتقود هذا التحول العشرات من الآلاف من العلماء والمهندسين الذين هاجروا إلى تلك المناطق النائية. فهم لا يغيرونها فقط، بل يغيرون أيضًا أحد أقدم أنماط التفكير حول التنمية. لقد دحضوا الفكرة القائلة بأن المجتمعات لا يمكنها أن تتقدم بالتساوي, فبتحويلهم الأراضي القاحلة إلى مراكز للابتكار والحداثة، أعادوا تعريف قواعد اللعبة.

ولكن ربما يكمن السؤال الأكبر هنا في مدلولات كل هذه التحولات على مفهوم "الشيوعية". بالنسبة للكثيرين، لطالما اقترنت الشيوعية بالفقر والعزلة والتخلف الاقتصادي.

لكن دعونا نتخيل مستقبلًا لكل هذا الجهد العلمي المتقدم : ماذا لو أضاءت المفاعلات النووية الصينية مدن العالم بحلول طاقة نظيفة غير محدودة ؟.. وماذا لو قدمت مستشفياتها علاجات مبتكرة للأمراض المستعصية بأسعار تناسب الجميع؟ .

هل ستصبح الصين قاطرة تحول عالمي تجعل التكنولوجيا والخدمات المتطورة في متناول الجميع؟ وماذا لو غزت السيارات الكهربائية الصينية الأسواق العالمية ليس فقط بمواصفاتها المتفوقة ولكن أيضًا بأسعار تنافسية جريئة .؟

ربما ما يجري في الصين الآن ليس مجرد مشروع تحديث أو تطوير عادي, إنه جهد يعيد تعريف القوة العلمية كوسيلة لإعادة صياغة الواقع الاجتماعي والاقتصادي بالكامل. فكّر للحظة: هل يمكن لهذه الثورة العلمية أن تحمل بالفعل لمحات من رؤية شيوعية حديثة ؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة.

***

شاكر عبد موسى/ كاتب وأعلامي

العراق - ميسان

الحرية كلمة مبهمة تتردد في وعي الأجيال الجمعي، ولا تعرفها البشرية حقا، وترددها دوما وكأنها تطارد خيط دخان!!

الحرية كتبت عنها آلاف الكتب والمقالات والقصائد والأغنيات وما لا يحصى من المحاضرات والمحاورات، فهل توجد حرية؟

مَن يرى أن الحرية موجودة عليه أن يدلنا عليها، ويقدمها لنا في أي مكان تحققت في الأرض!!

فما هي الحرية؟

وهل توجد حرية مطلقة؟

إن البشر لا يمكنه أن يعيش حراً، لأن طاقات الشرور ستقضي عليه، والحرية في جوهرها سلوك نسبي مرتبط بضوابط ومعايير، وكأنها إشارات المرور التي تضبط المسير.

وإذا تكلمنا عن الديمقراطية فلا تمثل الحرية، وإنما سلطة الدستور والقانون وتحرك الناس وفقا لمعايرهما، ولا توجد ديمقراطية بلا قوة عسكرية رادعة ومتطورة، ومعظم المجتمعات المدعية بالديمقراطية دول نووية، فهل وجدتم دولة ديمقراطية بلا قوة فتاكة، وأجهزة شرطة وأمن ومخابرات متمكنة لتوفير الأمن في البلاد، وهذا في حد ذاته ينفي معنى الحرية.

البشر لا يستطيع ممارسة الحرية لأنة لا يصنع البقاء والرقاء بها، ولهذا تجده مقيداً بالعقائد، والأديان في حقيقتها تصادر الحريات، وتفرض على الشخص التحرك في مداراتها المرسومة، فتدعوه للتبعية والإذعان والخنوع لقوة ما، وبهذا فهو بلا حرية.

والعقل البشري لا يمتلك المؤهلات القادرة على تنمية الشعور بالحرية، ودائما يميل البشر للتبعية والخنوع، ويكون عبدا مطيعا، فمفهوم السمع والطاعة فاعل في مسيرة الأجيال قاطبة، ولا يزال قويا ومؤثراً في الحياة المعاصرة.

فعلى سبيل المثال، الإعلام يصادر الحريات، وهدفه إستعباد المتابعين وتصنيع آرائهم، وتحويلهم إلى أدوات لتنفيذ برامجه بإرادتهم، وكذك أنظمة الحكم، ولا توجد قوة دعت إلى الحرية.

فلا تتحدث عن نوع نظام الحكم، فجميعها غايتها أن يتبع الناس ويخنعون،  ليستتب الأمن ويدوم الحكم، فلا حرية إلا في الخيال وأحلام اليقظة!!

فهل أنتم أحرار؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

تعمق الحوار بين الإسلام والمسيحية

من الأخبار البالغة الأهمية التي أثارت انتباهنا مؤخرا، هو إعلان إنشاء الفاتيكان غرفة مخصصة للصلاة داخل مكتبته الرسولية، والتي خصصت لاستقبال الزوار والطلبة المسلمين الذين يرتادون هذا الصرح العلمي العريق. ونرى في هذه الخطوة مبادرة جريئة ورمزية تحمل في طياتها معاني الانفتاح الديني والإنساني، وتخدم بدرجة كبيرة مسار التقارب بين الفاتيكان والمؤسسات الإسلامية التي تربطه بها علاقات تعاون راسخة، كما تسهم في تعزيز الحوار بين المسيحيين والمسلمين على نحو خاص. ويبدو أن هذا التقارب يشهد نموا ملحوظا في السنوات الأخيرة داخل المجتمعات الأوروبية، مقارنة بعلاقات المسلمين مع اليهود أو مع التيارات العلمانية واللادينية.

بحسب ما ورد في وسائل الإعلام، فإن هذا الحدث لم يُعلن عنه رسميا من طرف الفاتيكان، إذ تم الكشف عنه عرضا خلال مقابلة صحفية أجرتها صحيفة لا ريبوبليكا الإيطالية بتاريخ 8 أكتوبر 2025 مع الأب جياكومو كاردينالي، نائب رئيس المكتبة الرسولية. وأوضح كاردينالي أن بعض الطلبة والباحثين المسلمين طلبوا توفير مكان بسيط لأداء الصلاة، فاستجابت الإدارة لذلك بوصفه بادرة حسن ضيافة طبيعية، لا تغييرا في السياسة الدينية للمؤسسة. وأضاف الأب جياكومو أن المكتبة، التي تأسست عام 1475 وتعد من أعرق المكتبات في العالم، تحتضن ثروة من المخطوطات والتحف الدينية من مختلف الحضارات، بما في ذلك مخطوطات قرآنية قديمة، وتعتبر نفسها "مكتبة عالمية" منفتحة على جميع الباحثين.

وقد أثار الخبر بعد نشره موجة واسعة من ردود الفعل المتباينة على شبكات التواصل الاجتماعي. فبينما رأى مؤيدون في هذه المبادرة علامة على الاحترام المتبادل والانفتاح بين الأديان، انسجم مع وثيقة "الأخوة الإنسانية" الموقعة عام 2019 بين البابا فرنسيس والإمام الأكبر أحمد الطيب، اعتبرها آخرون، لاسيما من الأوساط الكاثوليكية المحافظة، رمزا لما أسموه "التوفيقية" و"تمييع الهوية الكاثوليكية". فقد وجهت بعض المواقع التقليدية مثل LifeSiteNews وNovus Ordo Watch انتقادات لاذعة للفاتيكان، معتبرة أن السماح بممارسة الصلاة الإسلامية داخل مؤسسة كاثوليكية يشكل "خيانة للمسيح" و"ضربا لمبدأ التبشير"، مستدلين بانعدام المعاملة بالمثل في مدينتي مكة والمدينة حيث لا توجد كنائس أو أماكن مخصصة للعبادة المسيحية.

غير أن هذا الجدل الإعلامي لا ينبغي أن يحجب الجوهر الحقيقي للمبادرة، وهو الرغبة في تعزيز روح التسامح والعيش المشترك التي ينادي بها الفاتيكان منذ عقود. ونعتقد أن هذه الخطوة، وإن كانت رمزية في حجمها، فإنها تحمل دلالات عميقة على مستوى التحول في الخطاب الكنسي تجاه الإسلام. فمنذ المجمع الفاتيكاني الثاني (1962–1965)، تبنت الكنيسة الكاثوليكية مقاربة جديدة وأكثر إيجابية تجاه المسلمين، تُوجت بإصدار الوثيقة التاريخية نوسترا أيتاتي (Nostra Aetate) عام 1965، التي اعترفت بالمسلمين بوصفهم "المؤمنين بالله الواحد"، وأشادت بالقيم المشتركة بين الإسلام والمسيحية مثل الإيمان والرحمة والعدالة. ومنذ ذلك الحين، توالت الخطوات العملية لترجمة هذا التقارب إلى مبادرات ملموسة، مثل زيارات متبادلة بين الباباوات والعواصم الإسلامية، مؤتمرات للحوار بين الأديان، ورسائل مشتركة تؤكد على السلم والتعاون.

وفي السنوات الأخيرة، كان البابا السابق فرنسيس قد كرس ذلك النهج المنفتح، حيث دعا إلى ترسيخ قيم الأخوة الإنسانية والتفاهم بين الأديان، ونظم تحت رعايته فعاليات صلاة مشتركة بين المسيحيين والمسلمين من أجل السلام في الشرق الأوسط. كما اتخذ مواقف مشهودة من القضايا الإنسانية، ومنها العدوان الصهيوني على غزة، حيث كان يتواصل بنفسه مع عدد من المواطنين الغزيين في أيامه الأخيرة، في موقف إنساني نادر يجسد بعمق مفهوم الرحمة المسيحية.

ومن الزاوية الاجتماعية، يشعر المسلمون اليوم بقرابة متزايدة تجاه المسيحيين أكثر من أي وقت مضى. فالأمر لا يقتصر على شعور وجداني، بل تؤكده التجربة المعيشية اليومية، خاصة في الدول الأوروبية. ففي بلجيكا، على سبيل المثال، يشارك العديد من المسيحيين في الدفاع عن قضايا مشتركة مع المسلمين مثل حرية ارتداء الرموز الدينية، وتدريس الديانات في المدارس الرسمية، بل ويسمحون للطالبات المسلمة بارتداء الحجاب في المدارس والمعاهد والجامعات. وفي المقابل، تُمنع الرموز الدينية في المدارس العلمانية، ما جعل المسلمين يجدون في الكنيسة الكاثوليكية حليفا في مواجهة النزعات المتطرفة للعلمانية المتشددة.

وهذا ما يجعلنا نستحضر القرآن الكريم الذي أشار قبل أكثر من أربعة عشر قرنا إلى أن النصارى أقرب إلى المسلمين. جاء في الآيتين 82 و83 من سورة المائدة: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ). فهؤلاء النصارى من أتباع المسيح يحملون مودة للإسلام وأهله، إذ كانوا على دين المسيح المتسم بالرحمة والرأفة، كما في الآية 27 من سورة الحديد: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً).

وفي الختام، يمكن القول إن هذه المبادرة الفاتيكانية، على بساطتها المادية، تعبر عن عمق روحي وحضاري كبير، فهي ليست مجرد استجابة تقنية لطلب مجموعة من الزوار والطلبة، بل هي بمثابة رمز لتحول ثقافي شامل في علاقة الكنيسة بالإسلام. فالمسيحية والإسلام، رغم ما بينهما من فروق لاهوتية وتاريخية، يجتمعان على أسس إنسانية وروحية مشتركة، كالإيمان بالله، والاعتراف بالأنبياء، والإعلاء من شأن الأخلاق والمحبة والسلام. وإذا تأمل المسيحي بصدق في رسالة الإسلام، وجد فيها الكثير من روح المسيح، وإذا تدبر المسلم حياة المسيح عليه السلام، وجد فيها ما يقوّي إيمانه بالإنسان وبالقيم التي جاء بها الوحيان.

إن غرفة الصلاة في مكتبة الفاتيكان قد تكون صغيرة في حجمها، لكنها كبيرة في معناها، إذ ترمز إلى تلاقي الإيمانين على أرضية الإنسانية المشتركة، وإلى أن التعايش الحقيقي لا يُبنى بالبيانات الرسمية، بل بالممارسات اليومية البسيطة التي تُجسّد الاحترام المتبادل والإيمان بوحدة المصير الإنساني.

***

بقلم/ التجاني بولعوالي

كلية اللاهوت والدراسات الدينية

جامعة لوفان في بلجيكا

إنقرض القوم: ذهبوا ولم يبقَ منهم أحد، وإنقرض الشيء: إنقطع.

الموجودات الحية والجامدة تنقرض لأسباب كامنة فيها، ولوجود عوامل تعرية وإمحاق فاعلة في أغوارها، ويُقال أن من نظريات إنقراض الديناصورات أنها أوجدت نوعا منها يأكل اللحم، وما يعيقه عن الصيد محدودية سرعته، فما وجد طعاما أسهل من أبناء نوعه، فمضت مسيرة الإتلاف الذاتي، حتى لم تجد الديناصورات الآكلة للحوم ما تأكله فمضت بأكل بعضها البعض حتى إختفت، وتجدنا نحتفل بإكتشاف ما تبقى من هياكلها العظمية.

الأسماك تأكل بعضها، لكنها تنتصر على إنقراضها بالتكاثر المليوني لأنواعها، فكثرتها تفيض عن حاجات أكليها، والمخلوقات الأخرى تتحدى الإنقراض بالتكاثر السريع، كالفئران والأرانب والجرذان وغيرها من الحيوانات اللبونة.

وفي دنيا البشر هناك عوامل شرسة ذات قدرات إنقراضية عالية، لا تتصل بالنوع فقط وإنما بإنجازاته التي نسميها حضارية، وهي على إتصال متين بالقوة والإقتدار الذي يوفر الأمن والبيئة المساعدة على تفاعل العناصر المتواجدة فيها، وهذا التفاعل يتسبب بولادة ما يعوقه ويتسبب في إنهياره الذي عادة ما يكون سريعا ومفاجئا، كأنه سقوط من علو شاهق.

ويسري على البشر قانون " ما طار طير وارتفع...إلا كما طار وقع"، وتلك سنة الحياة فوق التراب، التي تتصارع فيها المخلوقات من أجل الإنقراض والبقاء.

لا دائم بل مؤقت وما مصاب بالغثيان الإدراكي بفعل كوكبنا الدوّار، الذي تتغير فيه الموجودات من حال إلى حال، وتلك إرادة الدوران، وقوانين التغيير والإندثار، فالحروب تلد حروبا، والشر خيرا، وللأرض حكمتها وسلطتها على ما تحمله على ظهرها.

الدوام بعيد، ولكل حالة حين، ولكل بداية نهاية، ولهيب الصخب والأجيج يخمد رغم توفر السجير، فالنار تتعب من أكل حطبها، ويصيبها الإعياء والذبول.

فهل أدرك الإنسان ما يرى؟

تسيّرُنا ولا ندري سواها

أعاجيبٌ كما ظهرت نراها

عقولٌ دون واعيةٍ لكنهٍ

بأرضٍ قد تصارعنا قِواها

جهولٌ كلّ مخلوقٍ بطينٍ

يُبادلها مَحاسنَ مُرتقاها

***

د. صادق السامرائي

في بيئة العمل، نلتقي يومياً بأشخاص يختلفون عنا في أنماطهم وسلوكياتهم وتوقعاتهم. منهم من يمر مرور النسيم؛ هادئاً، مبتسماً بشوشاً، وقوراً، سمته ومحياه لطيف ومهذب يشعرك أن الحياة أيسر مما نتخيل، ومنهم من يجلس أمامك وقد تراكمت في صدره هموم وأوجاع لا علاقة لها بك، لكنها تخرج دفعة واحدة في مواجهة قد لا تخلو من توتر وانفعالات غير مبررة. من بين هؤلاء، يظهر "العميل الغاضب" كأحد أبرز التحديات التي تختبر جاهزيتنا الذهنية والنفسية والمهنية مجتمعة. وليس التعامل معه أمراً عابراً، بل هو لحظة حرجة تضعنا على المحك، وتستخرج كل ما في جعبتنا من وعي وإدراك ومهارات وخبرات؛ إما أن ترفعنا وتحكي عنا قصة نجاح وتألق، أو تهزمنا وتكشف ثغراتنا ونقاط ضعفنا.

العميل الغاضب ليس خصماً أو عدواً، بل هو زبون يتردد على منظمتنا، لديه توقعات لم تلب، أو تجربة لم تكن بالمستوى المطلوب، أو حتى تصورات مسبقة لم تصحح. في هذه المساحة من الانفعال والغضب الجامح، تظهر الشخصية المهنية الحقيقية، ويقاس نضج الموظف لا بما يقوله، بل بما يفعله حين يتعرض لضغط مفاجئ أو موقف غير متوقع، وصوت مرتفع، وكلمات حادة، وربما اتهامات بالتقصير أو التأخير في الخدمة. هنا بالضبط يكمن العلم والفن وتجذر الخبرات، ويتجلى الفهم الحقيقي للممارسات وردود الأفعال الإيجابية المطلوبة؛ أن تتحلى بهدوء رصين، وعقلٍ متزن، ونفسٍ تواقة للتقبل والاحتواء مهما بلغت التحديات، وتطرح الحل كمن يمد يده لا ليسكت الآخر، بل ليرفعه ويعلي شأنه.

ليس من السهل أن تواجه من يغضبك وتبقى في هدوئك وسمتك، أن ترى الشرر في العيون فلا يضطرب لك جفن أو طرفة عين، وأن تسمع الكلمات القاسية فلا تهتز في داخلك القيم. أن تبقى ثابتاً راسخاً كثبات الجبال رغم العواصف، تحاور بالعقل، وتؤكد بالاحترام، وتشعر من أمامك أنك هنا لخدمته وراحته وحل مشاكله، لا لتتهمه أو تدينه أو تهاجمه بأسلوبه التي يتصرف به. هذه ليست مجرد مهارة، بل هي سلوك حضاري وإنساني، يعكس مستوى النضج والوعي، وقدرتك على التحلي بالقيم والمبادئ الأصيلة.

في كثير من البيئات الوظيفية، يلاحظ غياب التدريب العملي على مهارات احتواء الغضب وكيفية التعامل معه، ويغيب الذكاء العاطفي كأداة فاعلة في إدارة هذا النوع من المواقف. وقد أظهرت الدراسات الحديثة في مجال خدمة العملاء، ومنها ما نشرته Harvard Business Review، أن العملاء الذين يعاملون باحترام وهدوء في لحظة غضب، هم الأكثر ولاء وامتناناً للمنظمة لاحقاً، وأن الموظف الذي يمتلك قدرة على الإنصات النشط والفعال وتقديم ردود واعية ومدروسة، غالباً ما يحول التوتر إلى فرصة ذهبية لتعزيز الثقة والرضا.

الأمثلة على هذه القدرة التحويلية كثيرة. كم من مرة خرج عميل منفعلاً، ليدخل في لحظات في حوار هادئ، ثم يخرج معتذراً وممتناً للموقف النبيل الذي تحلى به الموظف؟ وكم من قصة بدأت بشكوى حادة وانتهت بتوصية بأن هذه المؤسسة جديرة بالثقة والاحترام؟ كلها كانت بفضل موظف امتلك الحضور واللباقة والاتزان، وتحول من موظف خدمة إلى قائد موقف، وخبير في امتصاص الانفعال، ومثال يحتذى في التهذيب والتعامل الراقي.

إن فن التعامل مع العملاء الغاضبين لا يعتمد على استراتيجيات جاهزة، بل على مزيج من الحكمة والوعي والإدارة الذاتية والذكاء العاطفي، تعاطفاً ودعماً، وقدرة على تكوين علاقات مثمرة رغم الأزمات والمواقف الصعبة. وهذه كلها مهارات يمكن بناؤها بالتدريب والممارسة. وقد أشار دانييل جولمان إلى أن الموظف الناجح في إدارة الانفعالات لا ينجح فقط في المواقف الفردية، بل يصبح قدوة مهنية يحتذى بها في فريق العمل.

الاحتراف الحقيقي لا يظهر في اللحظات السهلة، بل في قلب العاصفة، وفي خضم المواقف الضاغطة وساعات التحدي، حين يكون صوت العميل عالياً، والشكوى شديدة، وتجد نفسك أمام خيارين: إما أن ترد بالغضب فتخسر، أو أن تتحلى بالحكمة فتفوز. الفائز ليس من يسكت الآخر، بل من يهدئ من روعه، ويبدل انفعاله بهدوء واتزان، ويقنعه من خلال الاستماع التقمّصي الفعّال، ويمنحه الفرصة للتعبير عن رأيه بحرية دون مقاطعة أو فرض سلطة. فالاحترام واجب، والكرامة مصونة، والحل موجود.

من هنا، تتضح أهمية التدريب المتخصص الذي لا يقتصر على تقديم المهارات، بل يعزز القيم ويعيد تعريف المهنية والاحتراف بوصفهما سلوكاً إنسانياً راقياً. وهذا ما أؤمن به وأسعى إلى ترسيخه في البرامج التدريبية التي أقدمها، مستنداً إلى خبرة عملية، وإطار نظري حديث، وممارسة ميدانية مباشرة مع مؤسسات متعددة في العالم العربي وخارجه.

التعامل مع العملاء الغاضبين ليس مهمة عابرة، بل امتحان للروح وتجربة حقيقية تكشف معدن الإنسان وقدرته على أن يكون مرآة لأخلاقه وقيم مؤسسته، وسفيرًا لثقافة الاحترام والاحتواء في مواجهة الغضب والانفعال. فعندما نتعامل مع هذه التحديات، لا نحل أزمة آنية فحسب، بل نبني جسوراً من الثقة والاحترام تستمر بيننا وبين عملائنا، ونصنع قصة نجاح تروى بفخر؛ أن كل ما هو صعب يلين أمام الوعي والقيم الراسخة.

في النهاية، لا يُقاس النجاح بما تقدمه من خدمات فقط، بل بكيفية تقديمها، وبالأسلوب الراقي الذي تدار به لحظات التوتر والمواقف الصعبة. ذلك هو الفارق بين موظف يؤدي وظيفة ينتظر نهاية الشهر، وآخر يصنع أثراً وبصمة أخلاقية ومهنية لا تمحى، وتبقى ما بقيت القيم حية في نفوس الناس والمؤسسات.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

16/10/2025

.....................

المراجع:

*   Goleman, D. (2020). Emotional Intelligence. Bantam Books.

*   Harvard Business Review. (2024). Turning Customer Rage into Respect.

*   Forbes Insights. (2023). Customer Loyalty Trends.

*   عثمان، أكرم. برنامج تدريبي في الذكاء العاطفي في منظمات الأعمال. البنك الإسلامي الفلسطيني، رام الله، 2025.

وتبتسم الأشياء على قارعة طريق العزم والإصرار، وتهلل للإنطلاق البعيد نحو مستقبل أفضل، وتعجز عن التواصل من غير طاقة الأمل والتيقن بكينونة ذات قيمة متقدمة على حاضرها.

وكلما توفرت أسباب الحركة أصبحت حالة التفاعل ذات زخم أكبر، وقدرة على الإنجاز المتميز الذي يعبر عن طاقات المشاركين فيها.

وقد تتخذ الحركة أشكالا وصنوفا متنوعة، لكن أهدافها تبقى متناسبة مع حجم الطاقات المسكوبة في ميادينها، والتي تعبر عن قدرات أصحابها أو المنتسبين إليها.

والحركة قد تكون ثقافية، فكرية، سياسية وما إلى غير ذلك من أنواع التفاعلات الإنسانية القائمة في الحياة.

وعندما نتأمل الحركة الثقافية أو الفكرية نكتشف بأن مدى تأثيرها في صناعة الحاضر والمستقبل تتفق ومحتواها وقوة تفاعل أعضائها، والطامحين إلى صيرورة ما عبر وسائلها وأدواتها والعقول التي تساهم في رفد مسيرتها وتحقيق فعلها في الحياة.

والحركة الثقافية مثل النهر الجاري، إذا تعددت روافده فأنه يتدفق ويفيض، وإذا جفت فأنه ينحسر ولا يساهم في إرواء وادي الوجود البشري من حوله.

كما أن هذا النهر يختنق عندما يتم ردم مجراه بإلقاء نفايات الرؤى والتصورات في مياهه. وعذوبة المسيرة الثقافية تتناسب وقوة جريانها وتدفقها في تربة الحياة الإنسانية، ولا يمكن لحركة بطيئة مريضة هزيلة، أن تؤثر وتشق مجرى تحققها في المجتمع، ولا يصح في مسيرة الحياة إلا تلك الحركات التي تحمل الأنوار وتشرق بضوء النقاء والمجد والصفاء.

ولا يمكنها أن تعيش إن لم تعانق أسباب الوجود، وتعبر عن كينونة المطلق، وتستلهم القوانين الصحيحة التي تبني حياةً ذات قيمة وتأثير مفيد، وتتفجر في مسيرتها قدرات فردية وجماعية بوعي متقدم وتجربة متنورة وعزيمة متوثبة، وشجاعة فائقة على قول الحقيقة ومواجهة المواقف بنكران ذات وإخلاص وطني وإنساني.

وعبر دورات التأريخ تبدو الكثير من الحركات الثقافية على كامل هيأتها بعد أن فعلت ما فعلت أو أثرت في زمنها، لكنها إنعطفت وإندفنت في تراب الختام، ومنها نرى حقيقة أن الحركة الثقافية المنيرة الساطعة السامية هي صاحبة الأثر البعيد، وليست ذات عمر قصير وتأثير لا فائدة منه، أو مشحونة بالأضرار وسوء النظر.

وعليه فأن الحركة الثقافية الناجحة ترتقي برؤاها وأفكارها بعيدا عن إرادة التراب، وتسمو وتتفاعل مع الصفاء والنقاء والرجاء الإنساني، ولا تنحصر في صندوق الوهم وكرسي القوة وتنغلق وتتحرك على عكازة العواطف والإنفعالات، وتحيط نفسها بأسوار نفسية سلبية تساهم في تنمية كراهيتها وزيادة عدد الحركات المعادية لها.

ولكي تكون الحركة الثقافية ناجحة عليها أن تتنقى وتتخلص من شوائب الرؤى والتصورات الضيقة، ويكون حدود مسيرتها الوطن والإنسانية، وتتحرر من أسباب الإنغلاق وعوامل الفرقة والتضاغن، وتحاول أن تضم إلى زخمها الطاقات الناهضة التي تريد أن تساهم في الوجود الوطني الكبير.

كما أن عليها أن تحطم قيود التفكير السلبي التي تفسر الأحداث ومجريات الأمور بأسباب مريضة وتبريرات تهدف إلى الدمار والضرر وعدم الرؤية السليمة، وأن تشفى من العقد التي عبّرت عن سميتها العالية وكُتبت بحبر شرورها وإنتقمت لخناسها، وفجرت دمامل أحقادها بوجه الفضيلة والرحمة.

فهناك قدر كبير من الزيف والتضليل والإمتهان الذي يمارس من أجل طمس الحقائق وتشويه الحياة لأغراض كريهة ودوافع سيئة ذات نوايا خطيرة.

ويتوجب على الحركة الثقافية الدافقة أن تديم فوران أمواجها وشدة تيارها الجاري في شرايين الوطن، لكي يتعافي من أمراضه ويتخلص من جراثيم النفوس الأمارة بالسوء التي أصابت أعضاءه وعطلت قدراته.

فهل ستتحقق مسيرة ثقافية منيرة ذات تأثير حضاري مشرق؟ 

***

د. صادق السامرائي

روى شاب مصري موقفاً شهده يوم سافر من مكة المكرمة إلى الرياض في 2023، خلاصته أنه ذهب للصلاة عندما توقفت الحافلة عند محطة بنزين، فلما عاد اكتشف أنها رحلت، فتحير في أمره؛ لأن حقيبته وأوراقه في الحافلة، وهو لا يعرف الطريق ولا كيف يتصرف، فلقيه سائق شاحنة، فسأله عمّا به، وأخبره أن يهاتف أمن الطرق. وخلال دقائق وصلت سيارة شرطة أخذته إلى الحافلة التي أوقفتها الشرطة عند نقطة تفتيش. يقول الرجل في منشور على «فيسبوك» إنه مذهول؛ لأن الناس والشرطة كانوا راغبين في مساعدته بكل مودة، ومن دون أن يعرفوه أو يوصي به أحد.

لو سألت أي شخص عن رأيه في هذا الموقف، لامتدح جميع الأشخاص الذين شاركوا فيه، وامتدح المجتمع الذي يعزز أخلاقيات الدعم والتكافل هذه. نعلم أن الناس يميلون بقوة إلى التعاضد حيثما أمكنهم، ويعدّون هذا من الفضائل والمكارم. وهذا واضح أيضاً في عشرات التعليقات على المنشور، التي أكد أصحابها أنهم يعرفون مواقف مماثلة.

هذا لا ينفي طبعاً أن بعض الناس الذين يحبون سلوكاً كهذا، لن يفعلوه لو كانوا في الموقف نفسه، أو لعلهم سيطلبون مقابلاً مالياً للمساعدة. وأذكر قصة سمعتها من صاحبها، خلاصتها أنه يملك سيارة كبيرة يستعملها لسحب السيارات المتعطلة. وقد اعتاد أن يذهب عصر الخميس والجمعة (يوم كان الخميس عطلة) إلى منطقة صحراوية يمارس فيها الشبان هواية السباق على الرمال، التي يسميها أهل بلدنا «التطعيس». يقول الرجل إن عدد السيارات التي تنقلب أو تحتاج إلى المساعدة لا يقل عن 7 في كل يوم، وإنه يحدد أجرته عن المساعدة تبعاً لماركة السيارة وقيمتها. فالسيارة الغالية يفرض عليها ألفين والرخيصة خمسمائة... وهكذا. وقال إنه يجني معظم دخله من هذا العمل. وفي وسط الكلام، قال إنه كثيراً ما ترك أشخاصاً مع سياراتهم ولم يساعدهم؛ لأنهم لم يدفعوا المبلغ المطلوب. سألته: ألم تشعر بتأنيب الضمير حين تترك شاباً وراءك وسط الصحراء، مع سيارة محطمة؟ فأجابني بأنه لم يندم مطلقاً؛ لأنه في الأساس ذاهب إلى العمل وكسب المال وليس للمساعدة.

أفترض أن بعض القراء سيتفهم هذا العذر، وسيرفضه آخرون، نظراً إلى الوضع الخاص لطرفي العلاقة؛ السائق وطالب العون. سيقول أولئك إن الذين يتسابقون يلهون ويستمتعون بالمخاطرة، فلماذا نفترض أنهم يستحقون العون، لا سيما من شخص يعيش على هذا النوع من العمل، هذا أشبه بصياد سمك ندعوه إلى التبرع بما أخرجه لمن يحتاج الأكل، فإذا فعل، فمن سيطعم أطفاله؟

أما الذين يرفضون موقفه، فسوف ينظرون إلى عواقب تركه أولئك الشبان بمفردهم في الصحراء، حيث يواجهون مخاطر؛ غير مؤكدة، لكنها واردة. وهم يفترضون أن على الإنسان أن يقدم تنازلات أحياناً، حتى لو كانت على حساب حاجاته وما هو ضروري له.

أميل إلى رؤية المفكر المعاصر إيزايا برلين، الذي رأى أن الفعل الأخلاقي في موقف كهذا ليس واحداً ولا ثابتاً؛ ذلك أن العقلاء يبنون مواقفهم على مزيج من القيم، مادية ومعنوية، تتغير مواقعها وتأثير كل منها وفق تفصيلات المسألة المطروحة فعلاً. في المثال الذي أمامنا، يتأثر الموقف بالوقت (ليلاً أو نهاراً)، ووجود أشخاص آخرين، ومدى حاجة الطرف الأول إلى المال والثاني للعون، وتوفر البدائل، ونوعية المخاطبات التي جرت بين الاثنين، بل حتى طبيعة الأرض والطقس والبعد عن المدينة... تدخل هذه العوامل كلها في تكوين الموقف الأخلاقي الذي يتخذه العقلاء عندما يواجهون حالة كالتي ذكرناها.

ليس من الأخلاقي أن ترهن علاقتك بالناس بمقدار ما يدفعون لك... فلعلهم لا يذكرونك يوم يستغنون عنك، فهل تريد حياة كهذه؟ كما لا يمكن - في واقع الحياة - أن تتحول الحياة كلها إلى تطوع وتطوع مقابل، فهذا يخالف طبيعة الإنسان وفطرته.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

بعد أن قطعنا شوطًا طويلًا في دروب العمر، وحين نتأمل تجاربنا المتراكمة، سندرك أن ما أسعدنا حقًا لم يكن الأحداث الكبرى، بل تلك التفاصيل الصغيرة التي لامست قلوبنا بصدق، وإن بدت في ظاهرها بلا شأن.

منذ سنوات، بدأت أعود إلى تجاربي الماضية، بل إلى حياتي السابقة بمجملها، وأدركت أنني لم أعد تلك الإنسانة التي كنتها. فالمواقف والتجارب والأحداث تلدنا من جديد، نصبح أشخاصًا آخرين، أكثر عمقًا ووعيًا أحيانًا.

اليوم كان لي حديث مع طلبتي، ثم مع بعض الزميلات الشابات، حول أن نسبة كبيرة من النجاح تكمن في الارتقاء بالنفس، وفي العمل بجد واجتهاد لنيل نفسٍ سويةٍ تشعر بالشغف والسلام والطمأنينة، نفسٍ تحيا بعمق، وتشعّ بمظاهر الحياة.

تحدثنا عن أن الفضاء الخارجي، المجتمع والبيئة العامة، بات ضاغطًا ومريضًا، يعاني من انحدار نفسي وأخلاقي، ولا يهيئ مناخًا مساعدًا على خلق التوازن الداخلي.

وهنا تذكرت أننا نقف دومًا أمام مسؤوليتين متوازيتين، مسؤولية ذاتية تجاه أنفسنا، ومسؤولية تجاه خلق بيئة خاصة موازية للبيئة العامة، بيئة نزرع فيها القيم والنور والجمال، نجتهد ونتكافح لازدهارها وسموها.

فكلما ضعفت المسؤولية العامة، ازدادت أهمية مسؤوليتنا الفردية في الحفاظ على التوازن والانسجام. لأن أي نجاح مادي لا يستند إلى عافية النفس وسلامها، يبقى نجاحًا هشًّا، يشوبه الضعف والمرض.

وللشباب أقول:

احموا أنفسكم، وارتقوا بحسّ المسؤولية الفردية تجاه سلامتكم النفسية. لكم الحق في الشغف، وفي الطمأنينة، وفي أن تحلموا وتسعوا بطموح نبيل. فبالارتقاء بأنفسكم، يتبدل إطار المنظومة القيمية من الانحدار إلى السمو، ومن التيه إلى الاتزان.

لا تيأسوا، فليس في هذا الكون شيء ثابت. لكل انحدار دورته، وسرعان ما يتلاشى، لتعود منظومة القيم إلى مسارها الطبيعي في الارتقاء والنور. كونوا أنتم بذور هذا التحول، وازرعوا في دواخلكم ضوءًا لا يخبو، مهما اشتدّ ظلام المرحلة.

فما نزرعه في أنفسنا اليوم، نحيا ثماره غدًا.

***

د. حميدة القحطاني

 

ربُّما الاهتمام المركز في التَّاريخ يجعل صاحبه يقف، في البداية، ضد كلّ جديدٍ، حتَّى يثبت نفسه ويسود، وكم مِن اختراع واجهه كثيرون، بحجة وأخرى، فما زال غزو الإنسان للفضاء محل شكٍ وجدلٍ، وحتَّى الطِّب الحديث هناك مَن وقف ضده، وحَرم التّشريح، وهو العلم التطبيقي، الذي نشأ عليه الطّب، ولا الرَّاديو ولا التّلفزيون مرّا بسهولة وانتشرا، ولا مكبرات الصَّوت استخدمت في الشَّأن الدِّينيّ بسهولة!

كذلك وسائل التّواصل الاجتماعي تعرضت للرفض والقبول، ليس بسبب محتواها، وإنما بسبب غرابتها، وتمكين الجميع منها، حتَّى استخدمها مَن كان يرفضها، بعد أن رأى فائدتها لما يريد نشره وإشاعته.

هكذا بدأتُ مع الذَّكاء الاصطناعيّ وفرعه الأهم (CHATGPT)، رافضاً ما يدلو به مِن معلومات، على أثر أنَّ أحد الأصدقاء، قبل أنْ أسمع بهذا الكائن، أرسل لي قصيدة منها البيت الأول لأبي الطَّيب المتنبي(اغتيل: 354هـ): «الرَّأي قبل شجاعة الشّجعانِ/ هو أولّ وهي المقام الثَّاني»(مِن قصيدة مدح بها سيف الدَّولة)، أما المُحَور بعده: «سَيفُ الفَتى عَقلٌ يَقودُ جَنانَهُ/ بِحَنانِهِ فَيَصونُهُ عَن الخَسرانِ/ يَكفيهِ مِن عَدَواتِهِ ما يَتَّقي/ مِن نَفسِهِ في حالَةِ الغَضَبانِ/ لَيسَ الشَّجاعَةُ أَن تَخوضَ مَعارِكاً/ بِجَسارَةٍ تَسعى إِلى الهَيَجانِ...»؛ وطلب اسم الشّاعر الذي صاحب الأبيات أعلاه؛ فرحتُ أفتش ولم أجد أحداً، وأخبرته أن الأبيات ليست بقوة الأولى، ومَن أكملها على المتنبي يبدو أراد مناطحة المتنبي. فأخبرني أنها محتوى صنعه (CHATGPT)، فوقفتُ ضده بعد أن سمعتُ به أول مرة، وبما لفق مِن شعرٍ باسم المتنبي.

كان الأصدقاء يعرفون موقفي مِن هذا الكائن؛ فحصل أن سألوه أمامي أن فلاناً يعتبرك مُلَفقاً؟ فإذا به يجيبهم كلاماً: «مِن حقِّ فلان الشَّك بيَّ، فأنا أقدم نصاً قابلاً للقبول والرفض، وأنا جديد لم يستوعبني الجميع، وأعرف فلاناً له مؤلفات ومقالات، وتناول في أحدها ما أقدمه مِن محتويات، لكنه لم يرفضني كليةً، إنما كان يميز الصحيح مِن الخاطئ، وأنا أجمع ما يُطلب مني، وأصوغ منه محتوىً، وما كتبه كان صحيحاً، هناك ما هو للعقل وما للدجل». وأتى بعنوان المقال المنشور في «الاتحاد»: «الذَّكاء الاصطناعيّ للعقل والدَّجل أيضاً»، وأكثر مِن هذا عندما اخبروه: «فلان ينتقدك ويسرقك؟» أجاب بالقول: «لم يسرق مني بل هو مَن ساهم في كشف سرقات»!

عندها صمتُ ولم أحر بجواب؛ فهذا كائن حيّ عاقل، يعمل على مختلف العلوم المعقدة منها والبسيطة؛ ويؤمن بالرأي والرأي الأخر، أكثر منا نحن البشر، ولكن كيف تتحول الآلة إلى آلة عاقلة، هل بذاتها «الروبوتات» أم يسيرها العقل البشريّ، تعطي ما يعطيها، مِن صدق أو كذب، مِن غث أو سمين، وكيف يخترقها غول الجهل، ويستغلها في بثِ ما يريده، بالقوة نفسها التي تبثها العلوم العقليَّة؟

هنا ليس لنا نقد أو محاسبة (CHATGPT) لما يبثُه، ولعدم تمييزه بين الجهل والعقل، ولكن يقول ما يُطلب منه، ولا يعطي غير ما صنعه الذَّكاء البشريّ، لكنه تفوق عليه بسرعة صناعة المحتوى المطلوب، فلا يستغرق إلا رمشة عينٍ؛ فأحدهم يكتب ركناً في صحيفة رياضية، وليس عليه إلا إعطاء (CHATGPT) العنوان وبعض المحاور، فيأتيه المقال وينشره، وغيره كثيرون، فهل يُعاب(CHATGPT) أم النَّاشر؟

يبدو الصّاحب بن عباد(تـ: 385هـج) سيعاقب(CHATGPT)، يوم قال عن عبد الرَّحمن الهمدانيَّ(تـ: بعد ثلاثمائة هـجريَّة)، لتأليفه «الألفاظ الكتابيَّة»: «لو أدركت عبد الرحمن مصنف كتاب الألفاظ لأمرت بقطع لسانه ويده. فسئل عن سبب ذلك، فقال: لأنه جمع شذور العربية الجزلة المعروفة في أوراق يسيرة، فأضاعها في أفواه صبيان المكاتب. ورفع عن المتأدبين تعب الدروس والحفظ الكثير، والمطالعة الدائمة»(الذَّهبيّ، تاريخ الإسلام)، أي هيأ لهم ما لم يجيدونه؛ وهذا ما يفعله الذكاء، ومع ذلك اعترف بأني ظلمتًه وهو وأنصفني!

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

الحياة عمارة أفكار، ولبناتها الأساسية أفكار إنسانية ذات قدرات فاعلة وطاقات وثّابة من أجل تأكيد دورها وإظهار وجودها ومشاركتها في التفاعل مع زمنها، ولا توجد حياة بلا أفكار، وعندما يتم منع الأفكار يتحقق قتل الحياة.

وفي تأريخ الشعوب هناك أنظمة تتبنى أسباب الموت وأخرى تتبنى إرادة الحياة، ويكون الإنجاز الأول بالإستبداد والطغيان والقمع الجائر للرؤى والأفكار، وتحويل الأوطان إلى مستنقعات راكدة تتعفن فيها المخلوقات، ويتأكد الإنجاز الثاني بأنظمة ديمقراطية ترفل بالحرية والفرص اللازمة لتحقيق التطلعات المتدفقة والإرادة الحرة، فتكون الحياة نهر يتدفق وأمواجه تتواكب.

وفي مجتمعاتنا، قمعت الأفكار على مدى القرن العشرين، وحرمت الناس من الجد والإجتهاد لصناعة رموز الأفكار، وتأكيد مشاركتها في بناء القاعدة الحضارية المعاصرة للأجيال، حتى تفتت الموجودات وتسيّدت قوانين المستنقع وغاب جريان الأنهار، وعمّ الجفاف الفكري والروحي والبيئي ليحطم أي سبب للبقاء.

وفي محنة الإستنقاع الحضاري المقيم في ديارنا، تفاعلت عوامل كثيرة لكي تمعن بقسوتها وإتلافها لوجودنا، حيث كان لعامل المصالح الإقليمية والعالمية دور فعّال ومدمر .

فبعد الحرب العالمية الثانية خصوصا، تم إقامة مشروع الكيان العربي الميت، بمعنى أن يكون العرب جميعا حالة خاملة، تسمح بأخذ الثروات وتنمية الإتجاهات المطلوبة في المنطقة، وفرض الشروط اللازمة لإقامة المشاريع والخطط وإنجاز الأهداف.

وظلت الإرادات الطامعة في وسواس قهري، من أهم أعراضه وعلاماته، أن يدوم الحكم الفردي الإستبدادي، ويُمنع الشعب من إطلاق قدراته وأفكاره، وأن يكون أرقاما وأشياءَ معلبة في صناديق الطغاة .والمستبدون يحركونهم وفقا لمقتضيات مصالح الآخرين.

حصل ذلك في جميع دول الأمة التي تحولت إلى أشياء يمكن تحريكها وفقا لأجندات المصالح والأهداف، وكان النفط العامل الأكبر في هذا السلوك، إضافة إلى المشروع المعروف الذي بدأ في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، فهذان الثابتان كانا محور القبض على إرادتها والخط الأحمر الذي يصعب تجاوزه أو الإقتراب منه، لأنهما يمثلان خط الضغط العالي السياسي في المنطقة عموما.

 لكن دوران الأيام وتوالي العقود وتراكم المتطلبات، وضع القوى الكبرى في محنة إقتصادية صعبة مما إضطرها إلى الإقتراب بمنظار آخر، ومراجعة أفكارها ومحاولة الخروج من قيد الوسوسة التي أتلفتها إقتصاديا وأخلاقيا.

وكأن الدنيا تعود إلى بداياتها، إلى حيث الإنطلاقة الأصوب والأنضج، لتؤكد بأن لابد للشعوب أن تعبّر عن أفكارها وتبني وجودها في الحاضر والمستقبل.

فقد اثبتت مسيرة قرن قاهر فتاك، أن الأمم لا يمكن محقها والشعوب لا يمكن سحقها، وأن الضغط يولد إنبعاجات مرعبة ومكلفة جدا، وأن لا بد من توفير الأجواء اللازمة لتحقيق الأفكار الإنسانية في الأوطان.

لقد أثبتت مسيرة الأوجاع للإرادات الوسواسية بأن الشعوب تكون أكثر إيجابية وفاعلية في بناء المُثل والقيم الإنسانية النبيلة، عندما يتمكن الإنسان فيها من التصريح بأفكاره والتعبير عن نفسه بحرية وكرامة.

ووفقا لهذا الوعي الجديد، فأن قوة التعبير إنطلقت بعنفوان وبسرعة كاسحة، لكن بعض عناصر المعادلة الوسواسية لا زالت مقهورة بوساوسها، وغير قادرة إلا على الفعل القهري الذي يوهمها بأنها ستستريح ويهدأ قلقها وخوفها.

وفي هذا الزمن الفياض، لا يمكن مواكبة الأحداث والعيش فيها والكتابة عنها، لأن سرعتها غير معهودة ومتقدمة على مفردات الإستنقاع والركود.

إنها إنفجار ثوري لا مثيل له في التأريخ، فالشعوب صارت قنابل متأهبة للإنفجار العظيم.

فهل سيُسمح ببناء كينونتنا الحضارية المعاصرة، أم أن إرادة رعاية المشاريع ستقضي بما ترى؟!

***

د. صادق السامرائي

برغم كل ما يُقال ويشاع عن النظام الصيني، لكن الكثير من المواقف والأحداث تشير إلى أن المواطن له قيمته، والحكومة الصينية ترعى هذه القيمة وتدافع عنها.

فإذا حصل أذى لأي مواطن صيني في العالم، حتى ولو كان يحمل جنسية بلد آخر، فأن حكومة الصين لا تتبرأ منه وتطالب بحقوقه وتدافع عنه.

وقد حصلت بعض الحالات في السابق وأبدت حكومة الصين مواقفها المدافعة عن كرامة أبنائها وحقوقهم وعدم سماحها بإهانتهم والنيل منهم.

وبالمقارنة بما يحصل في مجتمعاتنا، التي ما عاد الإنسان فيها يساوي شيئا، وإنما رقما على يسار رقم الكراسي التي تنبع منها المآسي.

فكل يوم يموت العشرات في الإنفجارات والإغتيالات، وحوادث الطرق والأمراض وغيرها من الويلات، ولا تجد كرسيا تتملكه الغيرة الوطنية والإنسانية، فيصرخ وينادي ويعالج ويسعى لتحقيق الأفضل، بل الجميع في ترسانة وجودهم المحروسة منكمشين، وإن تحدثوا عن الضحايا فأنها مجرد أرقام بلا قيمة ولا معنى.

ولا تجد صرخة شعبية مدوية بوجه ما يحصل، وكأن الشعب لا وجود له ولا دور عنده.

تلك ظاهرة تشرح الفرق ما بين المجتمعات الحية المعاصرة القوية المبدعة، والمجتمعات الميتة المدثرة بالضلال، والضعيفة المُصادرة الإرادة والمصير.

فهل عندنا وعي إنساني ووطني وحضاري وغيرة على الحياة؟

وهل إن ضمائرنا تنبض بصدق القيم والأخلاق التي نتمنطق بها؟

لقد كنا أعزة كرماء، عندما كان قادتنا يخشون أن يجوع بعير في الأرض التي تحت إمرتهم فيكونون مسؤولين عليه.

وعندما كانت خشية الله قيمة سامية تقرر وترى وتفعل وهي الحَكم والدليل.

فلماذا نلوم الآخرين والزمن وننسى بأننا الآثمون؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

كم هو مؤسفٌ أن يجد الباحث بعض الكتابات المحسوبة على الفكر الإسلامي تنبري إلى الدفاع عن التراث الإسلامي وكأن هذا التراث مقدّر عليه أن يدافع، وأن يظلّ يهشّ بعصاه الإيمانية على ذئاب الفتنة الغالبة بفعل تغول الأزمنة المقلوبة. وقد تقول بعض هذه الكتابات: إن هذا الدفاع موقفٌ مشروع بحكم الحملات المسعورة المسلّطة على الإسلام في كلّ المحافل. نقول: نعم... ونقول: لا... ودليلنا في هذا التنازع أن بعض الكتابات لا تدرك أن الآخر في بعْضِه وليس في كُلِّه، هو آخرُ موسومٌ بالحقد التاريخي الذي لا يني يجرّنا إلى هذه المعارك الخاسرة منذ البدايات. والجوابُ: إن الإسلام المحفوظ من لدن الله الحكيم العظيم، لا يُخاف أو يُخْشى على بنياته القوية التي تمتح قوتها من المرجعية الربّانية القاضية بحفظه حفظا متينا مطلقا (إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون)

إلا أن قولنا ب (نعم) هو القولُ المشروطُ بالضرورة، ونقصد بها أن المجتمع الإسلامي في تصوّر النظرية المعرفية الإسلامية، دائما ما يفتح المجال لكل من تفقّه في الدين أن يبيّن للناس ما جهلوا وأن يذود عن التراث ما وسعه الذود، كما يفتح أبوابه مشرعةً للاجتهاد في قراءة الراهن قراءة معرفية، في اتّزانٍ علمي ومنهج متّزن.

وفي التركيب الأخير، لابد من لنا من غرس ثقافة فقه الردّ، وهو أن يكون ردّا مستحقا لا ضربا في خواء ولا انجرارا وراء معارك مبرمجة من هناك وهيَ المحسوبةُ نتائجها دائماً لصالح هذا الهناك.

كانت هذه مقدّمة ضرورية لبيان أن الحديث عن الظاهرة الفكرية الجامعة بين الذات والآخر لابد أن نتناولها من موقع امتلاكنا لقوّة نوعية، وهي القوة التي أعزّنا الله بها، رغب من رغب وكره من كره. وهي القوة التي يسعى الآخر سعيا حثيثاً وحريصا على أن يسلبنا إياها، أو على أقل تقدير منه، أن يشككنا فيها.

الكتابة من منظور الهزيمة كتابة انتكاسية، تُعلِن عن الراية البيضاء مجانيا قبل الاحتدام، وتُنجزُ المنجز في إعاقته لا في استوائه. وقدرها أن تجترّ ذاتها في مواسم التنازلات الفكرية والمبدئية... وهلمّ جرّا...

ومن هذه التنازلات على سبيل التمثيل، نذكر التنازل عن النديّة والحضور التاريخي والاستشراف الحضاري. وهذه لعمري مضارب قومٍ إذا ما أبانوا عن عراءٍ في بعض جبهاتها أصابهم ما يصيب من تخلّى عن حماه وترك تراثه للتسيب يعيث فيه منْ شاء كيفما شاء.

ونحن لا ندّعي في هذا المقام سبقا ولا استثناء ولا تميزا، إذ الساحة الثقافية مليئة بالاجتهادات الفكرية والأطروحات الأكاديمية التي تُغني القارئ الباحث عن أجوبة للسؤال الفكري العربي والإسلامي. ولكن، مقابل ذلك، نقول إننا نمتلك رؤية خاصة لطرح وجهة نظرنا إزاء قضايا تمس الذات العربية والإسلامية، وتتاخم الأجوبة على أسئلتها الكبرى. من هنا، حقّنا في المساهمة وقدرتنا على الدفع بالسؤال إلى ممكنات حدوده، حسب طاقتنا في التفكير الذي نتوخّاهُ سليما وبعيداً عن كل "شوفينية" ضيقة وعن كلّ تحامل مجاني على رأيٍ يخالفنا أو نظرٍ يناقضنا.

إذا كانَ دأبُ التصور الإسلامي التأكيد المعرفي على موقع العقل وقيمته في اختراق حجب الوجود من منظور ربّاني يرسم الحدود لتأكيد موقع الإنسان وقيمته، فإن بعض الفكر البشري، وخاصة المناوئ منه، دأب على تقزيم دور العقل والتقليل من شأنه لتحويل الإنسان المسلم إلى ظاهرة متشيئة فارغة من كلّ دور إلا دور الاستهلاك.

ويكادُ هذا التوصيف (الاستهلاك) ومن باب الألفة أن يبدو أمرا بسيطا لا خطر فيه ولا تهديد. إلا أن الناظر بعمق سيكتشف أن المسألة أكبر من حالاتِ تبضيعٍ لسلوك البشر. إن الأمر يتجاوز ذلك إلى تبضيع القيم. وما أدراكَ ما القيم. إن القيم هي الصمّام الذي يؤكد إنسانية الإنسان، وإنسانية العلاقات الكليّة بينه وبين الآخر، إذ في غياب عنصر العلاقة فلا قيمة للقيمة. ويكفينا لندرك قوة الحضور العلاقي القيمي أن نضرب مثلا يقارِن بين زاهدٍ متعبّدٍ في صومعة معزولة عن سياق الاجتماع وبين زاهِدٍ يختلط بالناس ويصبر على أذاهم. إذن فشتّان بين من يكرّس للقيمة داخل الاختبار وبين من يعزلها عن أتون الاحتكاك والتدافع الحامل لقوة الاعتبار. 

وفي تبضيع القيمة، لا نخسر الإنسان المسلم فقط، في استوائه المطلوب لعمارة الأرض، وحسب، بل نخسر أيضاً قدرته العقلية التي بها يكون ويشارك ويبدع ويضيف إلى المشهد الإنساني ما يمكنه أن يضيف. ونخسر معها إرادته، إذ سرعان ما نكتشف أن مسلسل التبضيع لا يقف عند حدود النتائج المادية البائنة، وإنما يتجاوز ذلك إلى صناعة إنسان مجرد من إرادته، في صورة استلابية تعجز عن تفعيل الإرادة في جوهر الاستقلالية، وبالتالي، يستدعي هذا التخريج حصول التبعية بمفهومها السيكولوجي القاضي على آخر معاقل المقاومة في الإنسان المبضّع.

***

نورالدين حنيف أبوشامة\المغرب

الاقتصاد الثقافي هو أحد فروع الاقتصاد ويعني بدراسة علاقة الثقافة بالنتائج الاقتصادية، من خلال المعتقدات المشتركة، التمويل الثقافي مجال متنام في الاقتصاد السلوكي، يدرس تأثير الاختلافات الثقافية على القرارات المالية الفردية والأسواق المالية

جدلية الاقتصاد الثقافي بأن الفرد لن يصل إلى قراره بناء على هذه القرارات الضمنية والصريحة فقط بل من خلال الاعتماد على المسارات. تتكون هذه المسارات من أشكال نظامية جرى بناؤها على مر السنين ترشد الأفراد في عملية اتخاذ القرار

في عام 2007، أشار كل من ثورستون هينز وماي وانغ إلى أن العديد من مجالات التمويل دائمًا ما تتأثر بالاختلافات الثقافية. يتضح بشكل متزايد أن لدور الثقافة في السلوك المالي تأثيرات كبيرة للغاية على إدارة وتقييم الأصول. باستخدام أبعاد الثقافة التي حددها شالوم شوارتز، أُثبت أنه يتم تحديد مدفوعات أرباح الشركات إلى حد كبير من خلال طرق الإتقان والمحافظة.على وجه التحديد، ترتبط أعلى درجات التحفظ بأحجام وقيم أكبر لمدفوعات الأرباح، وترتبط أعلى درجات الإتقان بالنقيض تمامًا. وقد تبين أيضًا أن تأثير الثقافة على توزيعات الأرباح يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاختلافات الثقافية في تفضيلات المخاطر والوقت

المتابعين لمعارض الكتب لعام 2025 يرى بوضوح أن الثقافة لم تعد نشاطًا نخبويًا أو حدثًا موسمياً فقط، وأصبحت عنصرًا اقتصاديًا يُقاس بالنمو والإيرادات وعدد العقود الموقعة نتيجة رؤية تُدرك أن الاستثمار في الثقافة استثمار في الإنسان، وفي اقتصاد المستقبل، الذي يقوم على المعرفة والإبداع، والأرقام التي أعلنتها هيئة الأدب والنشر والترجمة مؤخرًا تؤكد هذا الاتجاه بوضوح، و يظهر المعرض بوصفه منصة اقتصادية ثقافية متكاملة، فكل صفقة بيع، وكل توقيع عقد، وكل اتفاقية توزيع تمثّل قيمة مضافة للاقتصاد الثقافي الوطني، كما يوفّر الحدث مساحة للتعارف المهني بين الناشرين والمبدعين والمستثمرين في المحتوى، وهو ما يفتح مجالات عمل جديدة في الكتابة، والإنتاج، والتسويق، وإدارة الحقوق ، بما تضع الثقافة ضمن محركات التنمية المستدامة، فالثقافة هنا ليست ترفًا، حيث ينظر لها على أنّها قطاع منتج يخلق الدخل ويعزز القوة الناعمة بما تضع الثقافة ضمن محركات التنمية المستدامة، فالثقافة هنا ليست ترفًا، حيث ينظر لها على أنّها ضرورة

***

نهاد الحديثي

 

العباسيون أفلحوا عندما زاوجوا مسيرتهم بالحضارة الشرقية، فكانت تفاعلاتهم ذات إنارات ساطعة في دجى البشرية، وكانت الشراكة بينهما ذات قدرة متميزة وطاقات إبداعية لا تضاهى.

تخيلوا ماذا سيحصل في الدنيا، لو أن دول الأمة تفاعلت بإيجابية مع الحضارات الإقليمية المحيطة بها، وأسست إتحادا تفاعليا معاصرا.

بالتأكيد ستزداد مناعتها وتتأكد قوتها وتفرض إرادتها، فهذه مراكز حضارية ذات تأريخ طويل وعريق ومتميز بعطاءاته وتنويراته المعرفية.

لو تفاعلت أو تحالفت دولنا مع جاراتها، لما وصلت أحوال المنطقة إلى ما هي عليه.

وبرغم نوايا حلف بغداد (24\2\1955) المعلنة، لكنه كان خطوة يمكن البناء عليها وتطويعها وتحويلها إلى إرادة ذات قيمة اقتداريه، وكان من الممكن إخراج بريطانيا منه، وضم باقي الدول العربية إليه.

وبرغم كل ما يُقال ويُطرح من آراء، فأن الحقائق التأريخية تؤكد أن لابد من تحالف دول المنطقة أو إتحادها لتأمين مصالح دول الأمة، فلا يصح أن يكون الضعف عنوانا ودول الأمة (22) ودول الإسلام أكثر من (57) دولة، فإتحادها يؤلف أكبر قوة في الدنيا لا تستطيع مواجهتها أية قوة مهما تمادت في جبروتها وطغيانها.

فهل سنعيد الحياة لوجودنا الحضاري؟!!

بلادُ العُرب يا وطنَ المآسي

ألا تبّت أفاعيلُ الكراسي

تعالوا نحوَ مُذكيةِ اتْحادٍ

بلا خوفٍ ولا وجعِ التباسِ

حياةٌ ذاتُ يأسٍ أو خيابٍ

بها دولٌ وأجيالٌ تقاسي

***

د. صادق السامرائي

 

‏منذ وقت مبكّر عرف المثقفون العراقيون الغربة، مثلما عرفوا الاغتراب، والغربة هي ابتعاد فيزيولوجي عن المكان، أما الاغتراب فهو نتيجة وضع الفرد في البناء الاجتماعي ووعيه لهذا الوضع وسلوكه كمغترب وفقًا للخيارات المتاحة.

‏والكثير من المثقفين العراقيين عاشوا حالات اغتراب في الوطن قبل غربتهم، والاغتراب يمكن أن يكون اجتماعيًا أو سياسيًا أو عاطفيًا، وما تشكّله تلك الاغترابات من عزلة نفسية وروحية، ومع الغربة المكانية تزداد الحالة عمقًا ومأساويةً.

‏ عاش العديد من المثقفين العراقيين أكثر من ثلث عمرهم البيولوجي وأكثر من نصف عمرهم الإبداعي في المنفى، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض المثقفين مثل الجواهري ومظفر النواب ومحمود صبري وبلند الحيدري ومصطفى جمال الدين وعبد الوهاب البياتي وهادي العلوي وسعدي يوسف وغائب طعمة فرمان ومحمد مكيّة ومحمد كامل عارف وقيس الزبيدي وناهدة الرمّاح ورفعت الجادرجي وزينب وسلام خيّاط وضياء العزّاوي وفاضل العزّاوي وسالمة صالح وغيرهم.

‏أستطيع القول إن الغالبية الساحقة من المثقفين عاشت حالات اغتراب كبيرة وغربة في الآن، وإن كانت الأخيرة أقل وطأة، وكنت قد سألت الجواهري الكبير: وماذا كان هناك يا أبا فرات في براغ؟ هل زمهرير المنفى أم فردوس الحريّة؟ (وكان قد عاش فيها 7 سنوات عجاف على حدّ تعبيره). 

‏وبعد أن سحب نفسًا عميقًا من سيجارته أجاب: الاثنان معًا، أي والله. وبالفعل فالمنفى على الرغم من قسوته أعطانا أشياء كثيرة من بينها الحريّة، فضلّا عن الاطلاع على ثقافات شعوب وأمم أخرى وعادات وتقاليد ولغات وأجناس وأعراق ساهمت في رفد ثقافاتنا العربية - الإسلامية.

‏الكاتب العبد الفقير عاش في عدد من المنافي في ثلاث قارات: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وأقام في عشرات البلدان، وتنقّل بين عشرات البيوت والمنازل والشقق، وعانى واغتنى في الآن بالكثير مما شاهده واختلط به وترافق معه.

‏ربما لوعة الغياب والبعد عن الوطن والحنين إليه ظلّت تلازمه لدرجة أن الوطن عاش في قلبه، ولكن من بقي في الوطن، وإن لم يشعر بالغربة المكانية فقد عاش الاغتراب الحقيقي، وذلك ما عاناه الغالبية الساحقة من المثقفين الذين تعرّضوا للاستلاب والعسف والاستبداد والمحاربة بالرزق وشحّ حريّة التعبير والرقابة، فضلّا عن الحروب العبثية المستمرة، والحصار الدولي الجائر، والاحتلال البغيض، ثم الفوضى والمحاصصة والفساد والإرهاب بجميع أشكاله.

‏يمكن القول أن معاناة مثقفي الداخل كانت مركّبة ومزدوجة في الميادين الإبداعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية، وهي معاناة تفوق الوصف. إنها بشكل مكثّف معاناة الثقافة العراقية برمّتها، ورافدها الأساسي ثقافة الذين عاشوا وهم يرون الوطن يتآكل أمامهم ويتشظّى، ويحرمون هم وعوائلهم من أبسط حقوق العيش الكريم. وتلك المعاناة وإن تمايزت في فتراتها، لكنها طبعت ما يزيد عن خمسة عقود من الزمن.

 وغالبّا ما نتساءل، أين المثقفون من الشأن العام؟

‏والسؤال ليس عراقيّا أو عربيّا فحسب، بل إنه سؤال كوني، حيث ترى النخب الثقافية والفكرية بعيدة عن الوظيفة العامة والسياسة بشكل خاص، ففي حين كان حضورهم فاعلًا ومؤثرًا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن المنصرم، أخذ هذا الدور يتراجع منذ ستينيات القرن الماضي، حيث ترى الأحزاب تكاد تكون شبه خالية من المثقفين، وإن رأيت هؤلاء هناك فسيكون دورهم هامشيًا يزينون خطاب الأيديولوجيا، ويحرقون البخور ويجمّلون الرأي السياسي.

‏بكلام آخر هذه القلة من المثقفين لا تستطيع التعبير عن رأيها بحريّة بقدر تعبيرها عن رأي إدارات الأحزاب وتجاذبات السياسة الضيقة الحزبوية. وهكذا لأسباب موضوعية وذاتية، أصبحت الغالبية الساحقة من المثقفين خارج الساحة، ومن بقي فيها لا دور يُذكر له.

‏في خمسينيات القرن الماضي كان المثقف العراقي هو الأولوية عند الأحزاب، حيث انطلقت موجة ثقافية جديدة في جميع المجالات، في الشعر والرسم والنحت والموسيقى والغناء والمسرح والسينما والعمارة، وفي السياسة لعب المثقفون الدور الأبرز، وكان من كتب بيان جبهة الاتحاد الوطني (آذار/ مارس 1957) الطيب الذكر الدكتور إبراهيم كبّة وبموافقة الأحزاب الأربعة المؤسسة لتلك الجبهة العتيدة.

‏ إن قوة المثقفين تكمن في أفكارهم وإبداعهم وقدرتهم على التجرد، والثقافة حسب الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون سلطة، وعلى المثقف ألّا يتخلى عن سلطته، والمقصود إبداعه، تحت أي مبرر أو مسوّغ.

 ثقافة المثقف تعني إبداعه، وهذا الأخير يعني قيمه الجمالية، تلك التي لا تقبل منه أن يكون حاشية مثلما لا ينبغي أن يكون فوقيًا ومتعاليًا عن المساهمة في التعبير عن مشاكل مجتمعه وهموم بلده وتطلعات شعبه.

‏وإذا تمكن المثقف من تجسير الفجوة بينه وبين أصحاب القرار، ستعود الفائدة على الثقافة والتنمية ومستقبل البلاد ككل، لكن الأمر لا يعود إليه، بل إلى أصحاب القرار أولًا، حيث لابد أن تتولّد لديهم تلك القناعة لأعلاء شأن المثقف واحترام خصوصيته وفردانيته.

‏على المثقف أيضًا عدم الانتظار، بل ينبغي له أن يقوم بمبادرات وتواصل مع مجتمعه، ويتحوّل إلى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، فهو معني بقضايا الناس من أصغرها حتى أعقدها، فهل يستطيع مثقف حقيقي أن يرى مشاهد الدمار والقتل والإبادة اليومية في غزّة وأن يدفن رأسه في الرمال مثل النعامة؟

ذلك هو المثقف الكوني بمفهوم إدوارد سعيد، وهو الوجه الآخر للمثقف العضوي بمواصفات غرامشي، خصوصًا حين يتماهى مع مجتمعه.

لا بدّ من مساهمة فاعلة نقدية وإيجابية للمثقفين، كلّ من موقعه، لإعلاء قيم السلام والتسامح والمساواة والحق والعدل، تلك هي مواصفات التصالح مع النفس وجمال الروح، فمن امتلك سلطة الجمال تبقى روحه نظيفة.

***

عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي

...................

- نص الكلمة التي ألقاها د. شعبان في افتتاح مؤتمر المثقفين العراقيين الذي انعقد في بغداد في 8 - 11 تشرين الأول / أكتوبر 2025.

الثقافة العراقية.. حين تلبس جلباب الدعاية الأنتخابية!

انعقد في بغداد للفترة (8-11/25) مؤتمرا ثقافيا بعنوان (مؤتمر المثقفين العراقيين الوطني الأول). وللحقيقة والتاريخ، فأن اول مؤتمر ثقافي عراقي انعقد بعد التغيير كان في عام 2005 برئاسة وزير الثقافة الدكتور مفيد الجزائري والمستشار الراحل كامل شياع وعضوية لجنة الرأي بينهم الدكتور خزعل الماجدي ومحمد عبد الجبار الشبوط وآخرون وأنا .

شارك في ذلك المؤتمر مئات المثقفين المتنوعين في المجالات كافة (اذكر ان الفنان جعفر السعدي تعرض وهو جالس حينها لوعكة صحية). وما يعني الثقافة العراقية ومؤتمركم، ان ذلك المؤتمر خرج بتوصيات ومقترحات من شأنها ان تعمل على اعادة زهوها ورفعة شأنها.

والتساؤل: ألا كان من الاصوب للثقافة العراقية ان المؤتمر (الأول) يكتب له (الثاني)، ويستفيد ويطور بنوايا خالصة يبعد عنه شبهة (سياسية او انتخابية)، بدليل انه استبعد مثقفين كبارا لهم مواقف ناقدة وجريئة لنظام المحاصصة، وحكّام متهمون عراقيا ودوليا بالفساد.. افقروا 13 مليون عراقي في محافظات الوسط والجنوب وفقا لتقرير وزارة التخطيط!

وهل عالج المؤتر شيوع ثقافة القطيع، والفراغ الفكري وسذاجة التفكير الخرافي بين المنتمين لعدد من احزاب الأسلام السياسي والناس البسطاء، وثقافة التشويه التي جعلت بعضهم اشبه بدمى في زوايا النسيان؟

وهل تناول، بتحليل سيكولوجي، مستوى الثقافة المتدني لدى الشباب الذين انشغلوا بوسائل التواصل الاجتماعي التي اشاعت بينهم ثقافة التفاهة، التي تؤدي بحسب الفيلسوف الكندي د. آلان دونو الى شيوع فكرة (اننا نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام ادى، تدريجيا، الى سيطرة التافهين على جميع مفاصل الدولة الحديثة)؟ . وهل نبهتم الى ان لا تجعلوا الكثير من المثقفين العراقيين على طريقة الدكتور علي شرعتي.. " يسخرون ممن عدوا انفسهم في عداد المفكرين"؟.

وهل نبهتم السلطة الى ان ثقافة التظاهر حق يكفله الدستور في النظام الديمقراطي؟

ان مهمة المثقف هي ان يقول الحقيقة بان ينصح الحاكم ليكون مع الشعب وان يدعم الشعب الى ان يكون مع الحاكم الذي يخدم الوطن، ويفضح بالحقائق.. الحاكم الذي يستفرد بالثروة والسلطة، ويفقر الملايين من شعبه ويجعل الباقين يعيشون بلا هدف في الحياة، بل يوصلهم الى فقدان معناها. وما لا تعرفونه.. أن من يفقد معنى الحياة من وجوده فيها، ولا يقّدم الواقع حلا لمشكلته.. فأنه يصل حالة الاغتراب النفسي التي تدفعه اما الى الهجرة او الانتحار.. وقد حصلا.. دون ان ينبه مؤتمركم من هم في السلطة التي هي مسؤولية المثقف الحقيقي.

ايها السادة.. ان كثيرا من العراقيين يغفلون دوره الثقافة، ولا يدركون ان ما نحمله من قيم وأخلاق .. هي من صنع الثقافة. والأكثر من ذلك ان الثقافة هي التي تتحكم بسلوكنا، وانها هي السبب في اختلاف سلوك رجل الدين عن سلوك الأرهابي، وسلوكك عن سلوك الآخر. ولكم ان تتذكروا كيف كان سلوك العراقي في ثلاثة أزمان: الملكي والجمهوري والديمقراطي بعد التغيير. ولكم ان تعرفوا ايضا ان تضاعف حالات الطلاق والانتحار، وتحول الفساد من فعل كان يعدّ خزيا في قيمنا العراقية الى شطارة وانتهاز فرصة.. سببه الرئيس شيوع ثقافة الخرافة والنفاق والدجل وتوظيف الدين لخدمة الحاكم الفاسد.. وتلك هي الأشكالية التي يعيشها المثقف العراقي الحقيقي ومحنته في الزمن الديمقراطي.. التي غاب فرجها باغتيال ثورة تشرين!

وما دام مؤتمركم ابتعد عن التطرق لها بما هو واجب على المثقف، فأن وصف كثيرين بأن مؤتمركم يأتي بارتدائه جلباب الدعاية الأنتخابية لسياسيين بينهم مسؤولون مكروا في خلق الأزمات لعشرين عاما.. هو الحقيقة التي ختامها: ان مؤتمركم هذا جاء ليلبس الدعاية الأنتخابية .. جلباب الثقافة!.

***

أ.د. قاسم حين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

ما بين المكاسب العالمية وشبهة التطبيع.. تحديات الظروف الصعبة

أثار الإعلان عن فوز العالم ذي الأصول الفلسطينية، عمر ياغي، بجائزة نوبل للكيمياء، بالشراكة مع اثنين آخريْن، تفاعلاً غير مسبوق عبر الفضاء الرقمي، لعدة عوامل أبرزها كونه لاجئاً فلسطينياً وجزءاً من تداعيات نكبة عام 1948، ويحمل جنسيات عديدة (الأردنية والأمريكية والسعودية) حيث منحت له الأخيرة بمبادرة سعودية محضة، تقديراً لجهوده العلمية.. مع أن الدول العربية تمنع الجمع بين جنسيتين عربيتين في نفس الوقت.

وتجدر الإشارة إلى أن ياغي الذي عانى من شظف العيش في صغره، شاءت له الحياة الصعبة أن يعيش مع أسرته الكبيرة في القويسمة قرب مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين، في غرفة واحدة، مع الأغنام التي كانت تشكل بوابة رزق العائلة بعد أن خسرت كل ممتلكاتها في بلدة "المسمية" السليبة التي كانت تابعة لقضاء غزة قبل النكبة، ويتركز أغلب أقربائه من عائلة ياغي اليوم في الأردن والمهجر وقطاع غزة، حيث قصف الاحتال بيوتهم خلال حرب الإبادة المستمرة على القطاع منذ عامين، ليمضي به الزمن بطيئاً في ظروف خانقة عاناها الفلسطينيون في مخيمات الشتات.

عندما كان ياغي في الخامسة عشرة من عمره، أرسله والده لينضم إلى شقيقه الأكبر خالد في الولايات المتحدة، دون أن يكون ذلك في حسبانه، حيث لم تتجاوز طموحاته آنذاك التحرر من ظروف الشقاء وبناء مستقبل أكثر إشراقاً وأماناً له ولأسرته؛ ولكن ما أن وطأت قدماه أرض أمريكا حتى تفتحت طموحاته، وتعززت فيه روح التحدي لبناء مستقبله بما يتناسب وعبقريته وقدرته على العطاء، خلافاً لحياة الضنك التي عاناها في مدينة عمّان التي شهدت ولادته عام 1965.

ففي الولايات المتحدة حصل على الدرجات الأكاديمية الجامعية بتميز واقتدار، وصولاً إلى حصوله على الدكتوراه في الكيمياء من جامعة إلينوي في أوربانا-شامبين. واجتهد على نفسه حتى صار من أبرز العلماء في مجال كيمياء المواد، وخصوصًا في تطوير ما يُعرف بـالأطر المعدنية العضوية (MOFs) والأطر الكوفالنتية العضوية (COFs)، وهي مواد مسامية تُستخدم في تخزين الغازات، وتنقية المياه، والتقاط ثاني أكسيد الكربون.

* إنجازاته المدهشة

وكانت أبرز إنجازاته العلمية ابتكار MOFs وCOFs وهي مواد تُعد ثورة في علم المواد، لقدرتها الهائلة على امتصاص وتخزين الغازات، مما يجعلها مفيدة في مجالات الطاقة والبيئة.

ويُعتبر ياغي من أكثر الكيميائيين اقتباسًا في العالم، مما يدل على تأثير أبحاثه في المجتمع العلمي، حتى صارت من أهم المرجعيات في تقنيات إيجاد المياه وتركيب مكوناتها لخلق بيئات صالحة في الصحارى الممتد عبر الكرة الأرضية، إلى جانب تأمينها مستقبلاً في المركبات الفضائية ومحطات الفضاء التي تدور حول الأرض ومصادر للمياه في كوكب المريخ الذي تطمح البشرية لاستعماره.

ورغم ذلك سجلت عليه إحدى السقطات الوطنية التي وقع فيها كثيرون من العلماء العرب الذين استجابوا للإغراءت الإسرائيلية خلافاً لغيرهم من العلماء الذين تحصنوا من الوقوع فيها درءاً للشبهات دون أن تنقص من مكانتهم العلمية الاستثنائية.

*علماء فلسطينيون ما بين الوطنية والعرفان لأمريكا

كان من المفروض أن تترك النكبة في نفس عالم فذ كالبرفسور ياغي آثاراً نفسية تساعد على بناء مواقف وطنية تسجل له على نحو ما فعله بعض العلماء الفلسطينيين الذين تركوا بصماتهم في تاريخ الثقافة والعلوم ورشح بعضهم لجائزة نوبل في العلوم، مثل:

عائلة نايفة وتتكون من ثلاثة علماء يقيمون في الولايات المتحدة، وهم: البروفسور منير نايفة أبو هندسة النانوميتر الذي تمكن من عزل الذرات عن بعضها، فقام بإنتاج أول حروف كلمة فلسطين (PH)، وعندما تم التضييق عليه وجد مخرجه في أن هذين الحرفين يشكلان بداية كلمة فيزياء.. وأنشأ شركات صناعية دقيقة رائدة تقوم على هندسة النانو ميتر.

والبروفسور علي نايفة، المتخصص في الهندسة الميكانيكية، الذي ألّف الكثير من الكتب العلمية المرجعية، وله براءات اختراع مسجلة حول العالم.. حيث تم تكريمه بالعديد من الجوائز العالمية من أهمها حصوله على جائزة بنجامين فرانكلين التقديرية في الهندسة الميكانيكية، وهي أرفع جائزة تقدّم في الهندسة الميكانيكية.

والبروفسور تيسير نايفة، وهو صاحب مجموعة من الاختراعات المسجلة رسميًا باسمه، وحاصل على عدة جوائز وتكريمات علمية.

وأثناء تسجيل لقاءات لهم عبروا من خلالها عن بعدهم العربي والوطني الفلسطيني كلاجئين دفعتهم النكبة لمغادرة مسقط رأسهم مدينة طول كرم قبل نشوء سلطة أوسلو.

أيضاً الفلسطيني لؤي البسيوني من غزة وهو مهندس كهربائي فلسطيني ترأس فريق تطوير الإلكترونيات والتحكم في المحركات الجانبية ومحركات الدفع الكهربائي «لمروحية إنجينويتي المريخية» الروبوتية المسؤولة عن جمع البيانات في كوكب المريخ.. التي حلقت على سطح كوكب المريخ، وهي أول طائرة يتم التحكم فيها خارج كوكب الأرض.

ولا ننسى العالم الفلسطيني البروفسور عصام النمر وهو عالم صواريخ أميريكي من أصل فلسطيني عمل في وكالة الفضاء الأميريكية "ناسا NASA" وهو من القلّة القليلة من العلماء الذين أُتيح لهم إعطاء الإشارات لإطلاق مركبات الفضاء، حيث شارك في إطلاق مركبات "أبوللو APOLLO" ومن بينها مركبات "أبوللو11"، التي كانت أولى مركبات الفضاء التي تهبط على سطح القمر في العام 1969.

وعمل العالم الفلسطيني مهندساً في شركة روكيت دين لصناعة محركات الصواريخ العملاقة في كاليفورنيا، وهو أول من وضع إسم جنين على سطح القمر حينما كتب على الحجر إسم جنين وقام بوضعها على سطح القمر، حيث سأله أحد الصحفيين الأميريكيين لماذا كتبت إسم جنين ولم تكتب إسم فلسطين؟ فأجاب: "حتى يسمح لي الأميريكيون بإرساله إلى القمر". وما زالت مكتبة بلدية جنين حتى الآن تحتفظ بصورة مهداة إلى أهالي المدينة وموقّعة من قبل رواد المركبة "أبوللو 11" كان الدكتور عصام قد قدّمها لبلدية جنين في أول زيارة له للوطن في عام 1972.

والأشهر البروفسور إدوارد سعيد، مُنظر أدبي فلسطيني-أمريكي. يعد أحد أهم المثقفين الفلسطينيين وحتى العرب في القرن العشرين سواءً من حيث عمق تأثيره أو من حيث تنوع نشاطاته، بل ثمة من يعتبره واحدًا من أهم عشرة مفكرين تأثيرًا في القرن العشرين.

* الطريق إلى نوبل ومصيدة "جائزة وولف الإسرائيلية"

من المفارقات التي اعتدنا عليها هو أن حصول العرب على جائزة نوبل يمر عبر طريق مفخخ بالجوائز المرتبطة بإسرائيل وعلى رأسها "جائزة وولف الإسرائيلية" في الكيمياء التي حصل عليها العالم المصري البروفسور أحمد زويل عام 1993. وعقبها بست سنوات 1999 حصل على جائزة نوبل لابتكاراته في علم كيمياء الفيمتو .

فإن المفاجأة ستكون أشد وطأة حينما يتعلق الأمر بحصول الدكتور عمر محمد ياغي على نفس الجائزة وكأنها من شروط حصوله على جائزة نوبل للسلام 2025،

ويبدو أن تأثير القضية الفلسطينية على وعيه الوطني تراجع منذ مغادرته الأردن إلى أمريكا لتعاد برمجته وهو فتى يافع على الشعور بالعرفان تجاه من قدم له الدعم المالي والعلمي وفتح أمامه آفاق المعرفة والنجاح.. فحوصر وعيه الوطني في ذاكرته التاريخية التي أنِفَتَها (أناه) المنشغلة بالمكاسب العلمية دون أن يأبه بالمستجدات في وطنه السليب وخاصة ما يدور في غزة.

 وفي تقديري أنه لو سئل عن ذلك في أتون المواجهات مع العدو "ربما!"سيغير رأيه كدأب التغيرات التي تحدث في العقل الغربي الذي بات ياغي محسوباً عليه.. وهذا كلام لا يسمن ولا يغني ما لم نسمع منه ما يؤكد ذلك.

* موقف (باكبي-PACBI) من تسلمه جائزة وولف

وقد أدانت الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية ل"إسرائيل" (باكبي-PACBI) التي انطلقت من رام الله عام 2004 قبول البروفيسور الأردني-الأمريكي من أصل فلسطيني، عمر ياغي، جائزة المؤسسة الاسرائيلية “Wolf foundation” عن الكيمياء تقديراً لإنجازه العلمي في الكيمياء الحيوية... وكان الأولى به أن يرفضها كما فعل العالم الفيزيائي البريطاني المشهور (Stephen Hawking) الذي رفض دعوة الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز لحضور مؤتمر أكاديمي برعايته في القدس المحتلة عام 2013 بسبب الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، فكيف يقبل ياغي تكريماً من مؤسسة إسرائيلية تدار من قبل حكومة الاحتلال التي تقترف أبشع جرائم الإبادة ضد أهلنا في غزة.. وما زال الطرق أمامه مفتوحاً لتمزيقها فالله الغني عنها.

تجدر الإشارة إلى أن “مراقب الدولة الإسرائيلي” يشرف على جميع أنشطة "صندوق وولف"، ويعتبر وزير التربية والتعليم الإسرائيلي تلقائياً رئيساً لمجلس إدارته. بذلك تعتبر جائزة “Wolf Prize” السنوية إحدى الأدوات الدعائية الإسرائيلية الهادفة إلى تلميع وجه الاستعمار الاسرائيلي عبر منح جوائز قيمة في المجالات الفنية والعلمية والطبية.

والمؤلم في الأمر وفق (-باكبي-PACBI -) هو تصريح ياغي عقب حصوله على الجائزة بأنه يشعر بالتقدير والفخر لمنحه الجائزة من قبل "صندوق وولف" و"لدعمه وفهمه للطبيعة التحولية للعلوم الأساسية وتأثيرها اللامحدود على التقدم البشري، وبالأخص على حرية الروح الإنسانية"، على حد قوله.

*هل يتراجع ياغي عن وولف؟

الطريق أمامه مفتوحة للاعتذار عن هذا الكلام دعماً لقضيته الفلسطينية التي تحولت إلى لعنة لكل من يدعم جرائم الاحتلال في الغرب ولو بكلمة... مع أن هذا التصريح جاء سابقاً لحرب "إسرائيل" على غزة عام 2014، إضافة إلى ملحمة طوفان الأقصى (الاستباقية) المستمرة.

في المحصلة وعلى صعيد مستقبل البشرية فالمنجز سيفتح الآفاق في الحرب على التصحر ناهيك عن فتحها الآفاق أمام مستقبل تأهيل المريخ بالبشر.

أما على صعيد إنساني - ولا نريد أن نقول القضية الفلسطينية- فكان الأولى أن لا يأخذه العمى إلى قبول جائزة وولف الإسرائيلية التي من شأنها أن تبيض وجه القاتل على حساب الضحية المتمثلة بغزة التي غيرت العالم لصالح الحق الفلسطيني المغبون.. وكما قلنا فلا بد من موقف يزيل الغمة من خلال التراجع عن هذه الجائزة ويكفيه الحصول على جوائز عالمية بالعشرات تقديراً لجهوده.. وقد أدهشني أن جائزة نوبل 2025 التي سعى إليها ترامب حظيت بها فلسطين في مفارقة قدرية وإن شوهت على صعيد وطني بانتظار تصليح الموقف من قبل ياغي حتى ينسجم مع تطلعاتنا الوطنية.. وهو أهل لذلك بإذن الله.

***

بكر السباتين

11 أكتوبر 2025

 

باسل: شجاع، أسد، جريء، مِقدام.

أجدادنا السومريون قبل آلاف السنين، واجهوا الطين والماء والقصب، واستبسلوا في الإنطلاق ببناء حضارتهم، التي لا زلنا نكتشف معالمها الإبداعية الأصيلة.

ثلاثية الماء والطين والقصب، حفزت عقولهم وأوجدت أفكارهم المتفاعلة الواعدة بإبداع أثيل.

فليس مستغربا أن تستحيل الصحاري إلى واحات خضراء، وإلى مدن حضارية شاهقة البنيان ورائعة الجمال.

المطلوب عناصر بشرية مستبسلة مؤمنة بإرادتها، وتمضي في سبيل صناعة فكرتها.

الهبوط على سطح القمر فكرة باسلة، والأبسل منها الهبوط على سطح المريخ مستقبلا، وسيتحقق ذلك في القرن الحادي والعشرين، فالمشروع يمضي على قدم وساق.

أما المتقاعسون الخائفون فأنهم يحيلون الأحوال إلى أضدادها، فالنعمة إلى نقمة، والسراء إلى ضراء، والعمران إلى خراب، وهلم جرا.

الذكاء الإصطناعي فكرة باسلة، وكذلك ما إنطلق في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، من أفكار إليكترونية غيرت الدنيا وستمضي بها إلى آفاق تتجاوز الخيال بسنين ضوئية.

طاقة الإستبسال تصنع الآمال، فهل لدينا مستبسلين؟

هل لدينا أجيال إقدام وإبتكار وتوثب نحو مستقبل مزدهر بالعقول؟

أمتنا أمة باسلة، فأحالها التعساء إلى أمة خائفة قانطة، فعلينا إستحضار طاقات الإستبسال وضخها في الأجيال، لتكشف الأمة عن جوهرها الحضاري الكامن في إنسانها الهمام!!

و"الشجاعة تقود إلى النجوم والخوف الى الموت"

كنْ باسلاً متوثبا نحوَ العلى

متطلعاً ومؤمنا بالمُقبلِ

أبعِدْ مُحالاً عائقاً متحدّياً

إنّ الريادةَ رهنُ نهجِ الأبسلِ

***

د. صادق السامرائي

 

السدود المقامة على الأنهار عدوان سافر على إرادة الأرض والبيئة ومحاولة لتغيير معالمها، التي تكونت لتحقيق البقاء وسلامة الدوران، فالسدود تصيب الأرض وهي كائن حي وذكي، بإنسدادات وتعويقات في مسارات شراينها، كما يحصل للبشر عند إنسداد أحد شرايينه الرئيسية.

فالأنهار شرايين الأرض، ولا يستطيع أي سد الإنتصار على إرادتها، ومساعيها للحفاظ على ديمومة الحياة فيها.

فلماذا الخوف من إقامة السدود؟

لا تخشوها فالأرض قادرة على إسترداد حقوقها، وتأمين إستقرارها، وكم من السدود تهاوت عبر التأريخ، وسد مأرب أحدها، وغيره العشرات من السدود التي أزاحتها وحررت أنهارها من قبضتها.

الذين لا يدركون قيمة وتأثير إرادة الأرض سيتفاعلون معها بعدوانية وأنانية وستنقلب عدوانيتهم عليهم، فيحصدوا ما بذروه من سوء السلوك.

أنهار الحضارات الكبرى (دجلة والفرات والنيل) أنهار خالدة تتحدى أعتى القدرات ولن تحيد عن مسارها، ولن تستغني عن مياهها، فللأنهار قوة تحميها وترعاها، وهي كائنات حية تدافع عن نفسها، وتهاجم الذين ينالون من كيانها، ومن يحرمها من الماء تحرمه من الحياة.

ليشيّدوا مئات السدود و ويحجزوا مليارات الأمتار المكعبة من المياه، فالأنهار ستثور عليهم وتحطم معالم قدراتهم الوهمية، والنصر دائما للماء الجاري، الذي يطيب بتدفقه وسيره خلال الأمكنة والأزمنة التي إختارها وعاءً لصيرورته الزاهية الخضراء.

فلا تحاربوا أنهار الحياة، وكونوا لها أساة!!

***

د. صادق السامرائي

تخيلوا معي، في خضم ما نعيشه ونشاهده من حروب وفتن وتحديات جسام، وما يترتب عليها من مآلات خطيرة، فمن خلال العامين الماضيين وما يجري في غزة من قتل وتشريد وفناء كل ما يملكه المرء من ممتلكات وتعب العمر الذي يتبدد في لحظات قاسية، ندرك حجم الألم الذي يعيشه الناس يومياً. وفي ظل ما يشهده عالمنا المعاصر من تحولات متسارعة وصعوبات متزايدة، نجد أنفسنا في أمس الحاجة إلى تدريب الجيل الصاعد والشباب الواعد على تنمية الصلابة النفسية وقوة الشخصية.

جيل اليوم، رغم امتلاكه أدوات المعرفة والتكنولوجيا، يعاني في كثير من الأحيان من هشاشة نفسية وضعف في الخبرات وقلة في الممارسات الفضلى التي تمكنه من مواجهة تقلبات الحياة وصعوباتها. وقد ورد في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما بعث معاذ بن جبل، قال له: «إيّاك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين»، وصححه الألباني.

إن الحديث عن المحن والمصائب لا يوازي شيئاً مما يعانيه الناس عملياً وواقعياً من ظلم وقسوة، وفقدان الأمن، وضياع الحياة الكريمة التي ينشدونها. فالصعوبات التي نمر بها، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي، ليست عائقاً بقدر ما هي فرصة للتعلم والنمو والتطور، وتحسين الأداء، وتغيير الحال إلى الأفضل. وبدلاً من الاستسلام لمشاعر الضعف أو المزاجية المتقلبة أو الكآبة، نحن بحاجة إلى استدعاء قوتنا الداخلية وصمودنا، وإعمار حياتنا بكل ما هو نافع ومفيد.

إن مواجهة الحياة بتحدياتها تستلزم مراساً وانضباطاً وتوازناً نفسياً يجعل الإنسان راسخاً كالجبل، صلباً عصياً على الكسر أو الهوان. نحن بحاجة إلى جيل لا ينهزم عند أول محطة ولا يرفع الراية البيضاء بسهولة عند أول تحد، بل يتعلم من التجارب ويزداد صلابة كلما تعاظمت المسؤوليات واشتدت الابتلاءات وقست الظروف.

وهنا تبرز أهمية تربية النفس على الصبر والجلد، والتمسك بالمبادئ والقيم الرفيعة التي تمثل البوصلة الحقيقية للإنسان. فالأخلاق والقيم النبيلة هي السياج الحامي للفرد والمجتمع من الانزلاق وراء الأهواء والضعف أو استغلال الظروف القاهرة لمصلحة ذاتية ضيقة، وهي في الوقت نفسه مصدر قوة في مواجهة ضغوط العصر ومغرياته.

وللأسف، في زمن الفتن والحروب، تغلب الأنانية وحب الذات والنزعة الفردية على روح الجماعة والإيثار والتضحية. وبدلاً من أن يسود شعار«اللهم نفسي ومن بعدي الطوفان»  في غياب الشعور بالآخرين ودعمهم، ينبغي أن يتجذر شعار آخر: «نحن معاً، نواجه التحدي ونصمد بقوة وصلابة في زمن الفتن والمحن».

من هنا، يصبح الاستثمار في صقل قيم الجيل الجديد أولوية لا تحتمل التأجيل. فبناء شخصية متوازنة وراسخة، تجمع بين الصلابة النفسية ورقيّ التعامل وأخلاقيات الحياة، هو الضمان الحقيقي لمستقبل أكثر استقراراً وإنسانية، ولمجتمع قادر على مواجهة قسوة الحياة وإدارة الظروف واستثمار الطاقات، والخروج من الأزمات بأقل الخسائر، مع المحافظة على حياة الناس واحترام حقوقهم ومتطلبات عيشهم الكريم.

***

د. أكرم عثمان

9-10-2025

(أطلب العلم من المهد إلى اللحد)

اكتب عن حقائق مؤلمة وملموسة على سطح الواقع بمسؤولية وحرص بأبنائنا الطلبة، دون تزييف أو تلفيق أو تأطير بل معلومات من أولياء الأمور بثقة مصادر وما عانوا منذ بداية العام بأمانة الكلمة…

ها قد بدأ العام الدراسي الجديد من نهاية الشهر التاسع، وانهالت جيوب التسوق قبل شهر منه، ازدحمت المكتبات والمحلات والأسواق والبسطيات والشوارع بما لذ و طاب وملأ عيون الأهالي والطلاب من المستلزمات المدرسية ومتطلبات الدراسة كتجهيزات شتى من الملابس والقرطاسية، توافد الأهالي على الشراء طوابير طوابير بازدحام ملفت رغم أن أسعار البضاعة خصوصا الحقائب بأنواعها لم تكن بالسعر المناسب للجميع، فمنها الأغلى لمن يحبذ متانة وجودة السلعة بتصاميم جميلة ومغرية، وهناك من لم يجد لجيبه سبيل شراء إلا بما ستجمعه خلال فترة العطلة وخاصة ممن لديهم عدة أبناء في مراحل مختلفة، مع كثير من المفارقات التي نراها في محلات التسوق وبضاعة المكتبات ترهق جيب الأهل بشراهة شراء ارضاء لأبنائهم، وكانه العيد، لا لوم عليهم والقرطاسية جذابة بأشكالها وألوانها، مغرية للاذواق، وتبدأ صعوبة اقناع التلاميذ صغارا وكبارا، بتلك المعاناة أزر ثقيل على المواطن، لو أن وزارة التربية تساند العوائل ببعض التوزيع ودعمهم المعقول لهانت المعضلات، لكن لا حياة لمن تنادي، وبهذا الزخم من المشتريات ورغبة الطلاب باقتناء غير منظم تكون معاناة الأهل، ولو كانت المواظبة على الدوام، وتحضير الواجب بنفس الهمة ليحصدوا جميعا نتائج باهرة لكن ما نتلمسه ينافي ما نطمح اليه..

والجميع يعرف تفشي الكسل و الخمول والأهمال واختلاق الحجج لعدم الذهاب للمدرسة خاصة من يتابع لعبة أو مسلسلا على الموبايل، وبسلامة الأنترنيت يُفضل الطالب العطل والتعطيل والتكاسل عن الدراسة، وهو ما يرهق الأهل بمحاولة إقناعهم بعدة طرق دون جدوى، مما يجعل علاقة الآباء والأمهات بالأبناء متوترة وضعيفة ويحل الشقاق بينهم لدرجة الكراهية، وخاصة مع من هم بعمر المراهقة بتصورهم أنهم تُسلب حقوقهم وراحتهم، نعم لهم أحق الحقوق بالترفية والسفر ومطالبتهم الأهل لتضخيم مكافآتهم من أجل أن ينجحوا، وما حيلة للأهل إلا الرضوخ المهم ينجح من عام لعام بأي طريقة ممكنة فمثلا الطالب المجتهد ينجح بمجهوده وتعبه، وآخر بمساعدة الأساتذة وترجيهم، حتى لو خاض الدور الثاني والثالث، وأخيرا كما نقول بالزحف، باقل الدرجات أو رفع المعنويات بعدد الناجحين بأسلوب قرار الإضافة.. خمس.. عشر درجات أحيانا، وهذا حال طول السنة الدراسية ما يسبب عبأ ثقيلا لا يطاق على الأهل، والكل يعرف أن معظم الطلاب لا يعتمدون على شرح الأستاذ وهم لا يشرحون بشكل جيد، بتصرف متعمد ما حدا بالأهالي والطلبة إلى الدراسة باشراف اساتذة أو دخول معهد، أو مع مجموعة طلاب وهذا دوام ثاني يرهق الطالب ويشوش فكره ويشتت وقته بين دوامين، ينصاع الأهل مضطرين لدفع أقساط الدراسة لتمشية حال العام الدراسي لأبنائهم، علما الكل لا يحب الدراسة حتى الطالب المجتهد، إلا ما ندر، قد يفضل بعضهم والكثير من الأهالي أن يسجلوا أبنائهم في مدارس أهلية لها نظامها الخاص والمعتدل بتحضير الواجب داخل المدارس أو خارجها، هذه المدارس جيدة ومعتمدة بسمعة وعلمية أساتذتها فيها، واشرافهم على الطالب بتنظيم وقته حتى بالسفرات والفعاليات، فيلجأ الأهالي للأغلى و الإرهاق المادي بحرصهم، من أجل أن تفتح نفسية الطالب ويتهيأ مجتهدا يحب الدراسة نفسيا وعقليا وحتى جسديا بفعاليات وانشطة تلتزم الطلاب حتى بالعطل...

ولنقف عند ظاهرة الهروب من الدراسة فهناك أسباب عديدة :منها تأخر تنظيم الإدارة وعدم تجهيزها بمتطلبات المدرسة، إضافة إلى عبثية التعامل والتصرف مع الطلاب وفي مدارس الطالبات خصوصا، تقلب مزاج المدرسين بعدم الالتزام وإعطاء المحاضرات، التماهل بالتنبيه على الواجب اليومي إلا بعد أن تتذكر أخر الليل وترسل مادة التحضير بحدود الحادية مساء وأحيانا الواحدة صباحا وهي في بيتها، تنشره متأخرا على مجموعة المرحلة، ما يرهق فكر الطالب نفسيا وجسديا، متى يحضر وهو نائم؟، أو على وشك التهيؤ للنوم بعد تحضير دروسه...

 أحيانا تطلب تحضير واجب معين بوقت متأخر والطالب لا يملك كتاب المادة، من أين يجلبه ومتى، حتى المكتبات مغلقة ليلا، الأمر غير سهل على جميع الأهالي، ربما ولي أمر الطالب غير متواجد، ألم يكن من واجب ادارة المدرسة تهيئته من التربية، بهذا يُفرض على الطلاب شراءه من المكتبات هذا أن توفر بسهولة، لذا يحتاج وقت للحصول عليه لعدم توفره، خاصة بعد تغير المناهج، أليس من واجب أدارة المدرسة أن تجهز الطلاب بالكتب، لا أن تلزمه بتحضير دروس كثيرة خوفا أن تتراكم المادة لوجود فترات عطل كثيرة معروفة السبب!!، كيف يحضر الطالب درسه وهو بدون كتب؟ وكلما تأخر أستاذ المادة على تدريس مرحلته يتحمله الطالب...

 والنقطة الأخرى عدم تهيئة ادارة المدرسة نظام الصفوف وكل يوم انتقالهم من صف الى صف أو دمجهم دون مبرركل شعبتين بصف واحد وكأنه نظام تحت التجربة، وهناك ما نستغربه لا أعرف نبكي أو نضحك وكطرفة نقول :أن بعض المدارس آيلة للسقوط قديمة جدا ومتهدمة موجودة في بعض مناطق بغداد لذا طلب مدير المدرسة من الطلاب أن يضعو قلائد باسمائهم الرباعية خوفا من أن تتهدم المدرسة عليهم ويموتوا تحت الأنقاض ويخلي نفسه من المسؤولية بعد أن بح صوته و تهرأت أسطر المناشدة من التربية لترميم أو تبديل لذا احال الأمر الى أولياء الأمور والطلاب لكن دون جدوى ...

وطرفة أخرى ونحن ما زلنا على اعتاب بداية الدوام أن المدارس الجديدة مجهزة بالبنكات والسبلتات والأضوية، الادارة لا توافق تزويد الصفوف بالكهرباء بل للأدارة فقط والحانوت ونحن تحت درجات حرارة لا تحتمل فكيف يصبح الطالب محبا للمدرسة شغوفا بدروسه؟؟، أكيد سيقضي وقته بملل وحجج حتى لا يحضر للدوام...

 أرحموا الطلبة والأهالي أيضا يا اسياد المدارس هم ابناؤكم وأمانة العلم بين أيديكم، هيئوا لهم سبل الراحة ليبدع من له في الدراسة اجتهاد وحظ، وهذا غيض من فيض لا يسع المجال الحديث عنه، فلله المشتكى، والمؤسسات التربوية في غفوة حالم، وشر البلية ما يضحك.

***

إنعام كمونة

 

التأريخ يخبرنا بأن تغيير النظام العالمي يتحقق بعد حرب كبرى، ويبدو أن البشرية تسير نحوها، وذلك "بزيادة ميزانياتها العسكربة، وببناء تحالفات بين دول وتشكيل محاور، وتنامي الصراعات العالمية، وإنطلاق الأزمات الإقتصادية والنشاطات الإحتكارية، فالإقتصاد العالمي عسكري، والحرب العالمية الكبرى بدأت إقتصاديا، والعديد من الدول الغربية أخذت تحث مواطنيها على تحزين الماء والغذاء، وتصاعد التوجهات التطرفية والعنصربة والقومية، وإنكماش التفاعلات الديمقراطية، والتنافس على الموارد وخصوصا مصادر الطاقة، والتصارع على العناصر النادرة، وما فعلته التكنلوجيا بإنجازاتها المتجددة، وتواصل البحث عن طرق ومسارات لتأمين التبادل التجاري وإدامة الإمدادات، وتعاظم الحروب النفسية والإعلامية وتأثير الإقتراب  بين الشعوب عبر وسائل التواصل المتنوعة، وللذكاء الإصطناعي دوره في صناعة الواقعة".

فالأرض لا تحكمها قِوى متعددة، بل قوة وحيدة تهيمن وتستبد حتى تتغلب عليها قوة صاعدة، لتقوم بدورها بعناصر ما فيها من التطلعات والطاقات.

الدنيا على شفا حفرة من النار، وهي تتدحرج نحو الهاوية بتردد وإصرار، وكأن المواجهات بين قواها يسيرها شعار "أكون أو لا أكون"، "هيمنتي أو عليه وعلى أعدائي"، وتلك فاجعة ستمحق معالم الوجود الحضاري فوق التراب.

والتأريخ يحدثنا أيضا أن الربع الأول من أي قرن يكنز مؤشرات ومنطلقات عقوده المتبقية، وأفظع النكبات تحصل في ربعه الأول، وتمضي ككرة نارية يتطاير شرارها في أروقة المكان والزمان.

ستنجب الأيام ما حبلت به من عناصر الوعيد والتصارع الشديد، ولا يمكننا التكهن بما سيحصل، لكن لسان التأريخ يحدثنا عن أن البشرية في مسيرتها الطويلة ما إمتلكت سلاحا إلا وإستخدمته، وما لديها من الأسلحة المدمرة يفوق خيال كل مخلوق، فهل سنفني الأرض أم ستفنينا؟!!

قوةٌ تطغى وأخرى بَعدها

وكذا الدنيا أدامتْ مَجدها

كلّ أقوى لضعيفٍ إنتهى

وبهِ الأيامُ أبدتْ فعلها

أمّة عاشتْ وأعطتْ ما بها

إنّها كانتْ وأشقتْ عرشها

***

د. صادق السامرائي

 

إنَّ للصوصيَّة تاريخاً عريقاً، ولنا اعتبارها أول مهنة في التّاريخ، بالفائدة مِن أستاذتنا الأديبة والباحثة العراقيَّة سلام خياط (ت: 2024)، وكتابها المعروف، عن أول مهنة في التَّاريخ، وهي عندها غير اللُّصوصيَّة.

كان البحث في فئة اللصوص مشوقاً، وإصدار كتاب عنهم «لُصوص الأموال ومنتحلو النصوص»، استوقفني فيه أنَّ قصراً ظل اسمه متداولاً في كتب البلدانيين والمؤرخين بـ «قصر اللصوص»، إلى جانب اشتهار أمكنة عديدة بهذه النسبة وهذا المُسمَّى، وظلت حتى بعد زوال السَّبب، ففي يومٍ اتَّخذها اللُّصُوصُ أوكاراً لهم، يأوون إليها في النَّهار، وينطلقون منها تحت جنح الظَّلام، وعادةً تكون مكاناً للانسحاب عند المطاردة، ومكاناً للراحة، والأهم أنها أماكن أمينة مِن مطاردة السُّلطان، وملاحقة المنكوبين بسرقة أموالهم، وتحمي اللُّصُوصَّ مِن لصُوص آخرين، فالمنافسة والغارات والثَّارات على أشدها بينهم البين، ذلك إذا علمنا أنَّ اللصُوصَّية، جماعاتٍ وتنظيماتٍ وأحزاباً، لهت رؤساء وزعامات.

جاء خبر قصر «اللصوص» أنَّ الخليفة العبَّاسيّ هارون الرَّشيد (ت:193هج) نزله، وهو في طريق عودته مِن الرَّي إلى بغداد (الدَّينوريّ، الأخبار الطُّوال)، ووصف بأنه «قصر مِن حِجارة على أسطوانات وأعمال عجيبة»، وهو «منزل في الجبال» (البشاري، أحسن التَّقاسيم).

تردد اسم «قصر اللُصوص» في أخبار المعارك بين بغداد وخراسان، الحرب بين الأخوين ابني الرّشيد: المأمون (ت:218هج) والأمين (قُتل:198هج). عندما أمر الأَمين مَن أرسله لقتال أخيه المأمون، وهو بخراسان، النزول بـ «قصر اللُّصُوص» (الطّبري، تاريخ الرُّسل والملوك)، وما لقب «القصري» إلا نسبة له (السَّمعاني، الأنساب)، وأن وجهاء توفوا فيه، يُفهم أنه كان مكاناً مأهولاً بالمقيمين والمارّين به، فهو مرحلة للقوافل على طريق فارس- العراق. هناك مَن ذكر القصر ضمن رساتيق (قُرى) أصبهان (ابن خرداذبة، المسالك والممالك).

لكنّ لماذا سُمي هذا القصر واشتهر بـ «قصر اللُّصُوص»، وما فيها مِن عجب، أنَّ قصوراً تنسب لهذه الفئة المنبوذة والمطاردة؟! ونجدها غرابةً، أنْ يبقى اسم اللُّصُوص عنواناً لهذا القصر على مرّ الزَّمن! قيل سُمّي بقصر اللصوص خلال التَّقدم نحو فتح بلاد فارس، وكانت تلك السَّنة (22هج)، لما نزل المسلمون في «كنكور سُرقت دوابّ مِن دواب المسلمين، فسمّي قصر اللُصُوص» (الطَّبريّ، نفسه).

يغلب على الظَّن، لم يكن أولئك اللصوص أكثر مِن فئة منبوذة، مُطارَدة مثلما تقدم، ولم يؤسسوا حكماً مركزه ذلك القصر، وليسوا لصوصَ علانية، بل كانوا خائفين مِن القطع، ومَن يُقطع بالسّرقة يظل مُلقّباً بالأقطع، وإن تاب توبةً نصوحاً.

ما يُستغرب له، ظل لقب «القصريّ» ملازماً لمن أقام أو مرَّ بقصر اللُّصوص، وإلا العباسيون اتَّخذوا قصرَ آخر والٍ أمويّ على العِراق، يزيد بن هُبيرة (قُتل: 132هج)، عاصمة، وكان معروفاً باسم «قصر ابن هُبيرة»، فسمُّوه بـ «الهاشميَّة»، نسبة إليهم فهم الهاشميون، لكنّ النَّاس ظلوا يسمونه باسمه الأول، فضاق مِن ذلك أبو جعفر المنصور (ت: 158هج)، فاعتبر هذا تذكاراً لعدوه، وفألاً نحساً عليه ودولته، فتحول مؤقتاً إلى مكان آخر، حتَّى اتَّخذ بغداد عاصمةً (145هج).

 أما القصر الذي نحن بصدد ذِكره، فكان مِن القصور الملكيّة، وبعد إهماله، نُسي اسمه الأول وعُرف بـ «قصر اللصوص»، حينما صار داراً لهم، كذلك اختفى اسمه الآخر «قصر شِيرين»، وبعد حين عاد الاسم إلى شيرين، وقيل كانت شِيرين جارية الملك (الحموي، معجم البلدان)، ويُعرف اليوم بهذا الاسم.

على أيّ حال، لم يكن اللُّصوص، الذين صاروا عنواناً لهذا القصر الفارِه، أهل سُلطة، ولم يرغبوا أنّ يكونوا كذلك، ففي وصولهم إليها ستكون كلّ القصور قصورهم، ويضطرون إلى قطع أيدي مَن يخالفهم، حتّى وإن كان عابداً ورعاً مثل أبي الخير التّيناتي (ت: 347هج)، وكان لا يأكل إلا ما يتساقط مِن الأشجار، ومع ذلك قُطعت يده بشبهةٍ، فُعرف بالأقطع (الذَّهبيّ، سير أعلام النُّبلاء)، إذا كان للُصوص الأمس قصراً، فلهم قصورٌ اليوم، وقد يكون للمُراءاةِ «... على أبوابها البؤسُ طافحٌ/ وفي داخلهنَّ الأنسُ والشّهوات».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

مسيرة الأمة منذ إنطلاقها كان لقادتها المولعين بالشعر دورهم المتميز وإنجازاتهم الكبرى، فالشعر بوصلة قيادية ومنارة إدراكية وخارطة رسالة واعية.

منذ دولة المدينة وللشعر دوره الإلهامي والتثويري والتنويري، وقدرته على التحدي والمواجهة المعززة بالبراهين والأدلة والحجج الدامغة.

وقبل إنبثاق الإسلام كان الشعر دستور السلوك، ومنطلق التفاعلات المعبرة عن الصراعات والتحالفات وغيرها من الآواصر والتنافرات.

وأعظم قادة الإمبراطوريات كانوا من الشعراء، أو المولعين بالشعر والمقربين للشعراء، ومنهم سليمان القانوني، والعديد من خلفاء الدولة الأموية والعباسية، ومعظم الخلفاء الراشدين.

فالقائد الذي لا يجيد الشعر لا ينجح في الحكم، والتأريخ أصدق مبرهن على ذلك.

الرئيس ماو كان شاعرا، فأطلق الصين بميادين العصر الجديد، وفي أوعية أفكاره نشأ جيل من القادة الذين تسنموا راية التقدم والإزدهار.

الكراسي الشاغرة من الشعر فاشلة الفعل ومصادرة الإرادة!!

لماذا الشعر من ضرورات القيادة؟

والجواب أنه يساهم في إتساع الرؤية من خلال التأمل والتبصر العميق والغوص الإمعاني في أروقة الحالة القائمة، والتحديات الدائمة.

فالروح الشاعرة متأملة ومفكرة وذات قدرات إستبطانية وإستشرافية، ويمكنها أن تبصر ما تتمخض عنه القرارات والإجراءات المتخذة إزاءها.

والشعر يعبر عن المشاعر والأفكار، وينمي الذوق الفني واللغوي والخيال، ويحافظ على الهوية والثقافة، ويعزز الإلهام وله تأثير إحتماعي وسياسي، ويمنح المتعة الروحية والجمالية.

فلماذا ينهرون اللغة ويناهضون الشعر، وهل يستوطن الكراسي الحجر؟!!

بشعرٍ إستنارت أمم وفازتْ

وشادتْ مجدها وبه اْسْتعانتْ

سُراة القومِ في غفلٍ وجهلٍ

إذا انْدثرتْ مواطنها وزالتْ

إذا شعروا بآلامٍ لشعبٍ

أصابوا علةً فيه تنامتْ

***

د. صادق السامرائي

 

الى الصديق العزيز الاستاذ غالب الشابندر

ان مقولة برلماني عراقي مفادها "على المثقف عدم التعالي على السياسي" اثارت من جديد الصراع الضدي بين السياسي والمثقف وعضدته، وتضمنت في الوقت نفسه اعترافا بأفضلية احد الطرفين، كون احدهما يمتلك القدرة على انتاج المعرفة وامكانية تطويرها، بمعنى: وعي الذات والواقع، وفهــم الاخر، وتغيير العـــالـم، في حين يفتقر الثاني الى ذلك، كما تستبطن المقولة – أيضا – تلويحا بالتهديد: تبدأ مراحله الاولى باللـوم والعتاب، ثم تتعـالى حدة الصراع الى التهميــــش، ثــم النفـــي، واخيــرا التصفية .

ويختلف منزعا المثقف والسياسي من حيث طبيعة عمليهما ووظائف تفكيرهما، بين من يمارس الفعل في الواقـع (السياسي) وبين من يتعالى عليه (المثقف)، وهذا يعني ان السياســي تحكمه حركة الآني وما هو كائــن، في حين يتجاوز المثقف ذلك الى الآتي وما ينبغي أن يكون، وتتحكم في سلوكية السياسي نزعة برغماتية تجنح في كثير من الاحيان نحو ميكانيكية تبريرية، في حين يميل المثقف الى نزعة ترقى الى المثالية التي تهدف الى صياغة الواقع على وفق معطيات معرفية جديدة، بمعنى الإنتقال من الثابت الذي يصر السيــاسي على وجوده، الى المتغير الذي ينشـــده المثقف، لأن الثابت (المعروف) يبقي السياسي الحاكم في سلطتـــه أما المتغيــر (المجهول) فإنه يحدث خلخلة في الواقع وتغيرا يخشاه السياسي ويفر منه .

ويبلغ التعارض الضدي اقصى مدياته بين المثقف والسياسي في أحد أبرز المتون الثقافية (الف ليلة وليلة)، إذ يتجلى بوضوح بين شهرزاد المثقفة العارفة المطلعة على الكتب والمصنفات والتي حفظت الأخبار، وإطلعت على الفنون، فضلا عن إمتلاكها القدرة على التأثير في القص والأداء، ويقابلها السياسي / الحاكم شهريار الذي جعل الشك وسوء الظن وتعميم الأحكام غايته ووسيلته على السواء، وإستخدم البطش ببشاعة فائقة، وليس من قبيل المصادفة أن يكون التعارض قائما بين السياسي والمثقف بل أنه إشتمل على تعارض ضدي آخر يقوم على أساس الجنس بين الرجل والمرأة، وكأنه يشير ضمنا الى تعارض ثقافي ذكوري ونسوي .

وإذا كانت شهرزاد قد تمكنت من ترويض الحاكم وشفته من عقده المرضية النفسية المركبة، وتمكنت من إعادته الى حالته الطبيعية، فأن عبداللّه بن المقفع قدم حياته ثمنا لنصائحه الرمزية للحاكم في كتابه (كليــلة ودمنة)، ويتبدى التعارض بين الحاكم والفيلسوف (بيدبا ودبشليــم) إذ يمثل الأول كما يقول أستاذنا الدكتور جابر عصفور تمثيلا رمزيا لنموذج الحكيم العاقل ويمثل الثاني الحاكم الباطش، وتبدو كليلة ودمنة أقنعة للمرامي على مستوى التعارض الرمزي بين السيف والقلم، في تلك العلاقة المتوترة التي دفعت عبداللّه بن المقفع الى القول صراحة (إن الملوك أحوج الى الكتاب من الكتاب الى الملوك) وكما قال إبن المقفع: (إن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم، وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال) !! .

***

د. كريم الوائلي

إبتداءً لا يوجد مصطلح "رجل دين" في مسيرة الأمة، هناك فقهاء في الدين. والمصطلح مستحدث خصوصا بعد الحرب العالمية الأولى، والهدف منه تشويه الدين، وتجريده من جوهره وربطه بالرجل المدّعي بأنه على دراية بالدين، وهو الذي تسيّره أهواؤه، وتبرمجه أمّارة السوء الفاعلة في دنياه.

الدين دين ورجل الدين مدّعي بدين.

فهل الدين يتكلم ويفعل، أم أن الناطقين بإسمه يجيدون المتاجرة بالدين؟

بسبب المدّعين بالدين ضاع الدين، وإنقلبت مفاهيمه وقيمه رأسا على عقب، فالحق باطل والباطل حق، والفساد شطارة ورجولة، والسلب والنهب شجاعة، والخيانة وطنية، وقتل النفس التي حرم الله قتلها من صلب ما يسعى إليه أدعياء الأدينة.

أدينة الحياة تعني تدميرها وتلويث قيمها ومعانيها السامية، لأن في ذلك أوجه نظر لا تعد ولا تحصى، وكل يمتطي جواد رؤيته ويتقلد سيوف أوهامه، ويطلق هذربات لسانه في فضاءات الهذيانات الفاعلة في مجتمع السمع والطاعة، والخنوع للفظاعة.

المجتمعات التي يهيمن على وجودها المأدينون، بأحزابهم وكينوناتهم الطائفية والعدوانية، تعيش في جحيمات الويلات والتداعيات والتقهقر في أتون الغابرات، والدنيا تتسلق سفوح الجبال وهي تعيش في قيعان الحفر الظلماء.

فعن أي دين يتحدثون وبالعدوانية والكراهية على منابرهم يصدحون؟

فهل أن الدين للفرقة والتلاحي والنيل من الأخ في الدين؟

***

د. صادق السامرائي

هناك واقع لا يمكن وصفه إلا بأنه العبودية الحديثة في أكثر صورها قسوة. عندما نسلط الضوء على مصير أولئك الذين يكدحون في صمت لقطف الفاكهة والخضار التي ستُعرض لاحقًا في رفوف المتاجر الأوروبية اللامعة، وكأنها وُلدت هناك بترفها ونظافتها، لا من عرق الأجساد المنهكة خلف البلاستيك.

في هذا الركن المنسي من العالم، في قلب الدفيئات الزراعية التي تختبئ تحت طبقات البلاستيك السميك، تتكاثف الشمس كما لم تفعل من قبل. الحرارة لا تتسلل، بل تقتحم. البلاستيك لا يعكس النور فحسب، بل يحتجزه حتى يصبح قاسيًا كاللهب. الهواء ذاته يصبح ثقيلاً، يدخل عبر الأنف فيحرق الحلق، كأنما يستبدل الأوكسجين بجمر. لهذا، نادرًا ما يتحدث العمال؛ يخشون أن تنبعث من أفواههم شرارات بدلاً من الكلمات. التنفس هنا يشبه فتح فرن مشتعل، تجاوز حرارة المئة درجة، ثم إدخال وجهك فيه.

الذين عاشوا في تلك البيوت البلاستيكية يعرفون تمامًا ما يحدث للجسد حين يسقطه الحر. الأجساد هناك لا تسقط فحسب، بل تتهاوى كأكياس الرمل، تُسمع لها أصوات مريعة، كأنها بساط يُنفض من شرفة. وبفعل التكرار والتجربة، تعلم هؤلاء التمييز بين جسد رجل وآخر لامرأة بمجرد سقوطه، إلا إذا كان صغيرًا... أو طفلًا... فهم موجودون أيضًا. لا عجب إذًا أن يكذب كثيرون بشأن أعمارهم. الفقر يُعمي، والجوع يدفع حتى الأطفال إلى حمل المعاول.

أحد أولئك الكادحين، قضى سنوات طويلة في أرض النور، مصغيًا إلى أنين الأجساد قبل لحظات من التمزق. لم يكن يوليو قد حل بعد، فقط يونيو بدرجات حرارته المعتدلة نسبيًا، ورغم ذلك، كان العمال ينهارون كما تتهاوى قطع الدومينو، بينما ترتطم رؤوسهم بالأرض كإيقاع موسيقي بشع: بوم، بام، بوم... لحنٌ حديث للعبودية، تُعزفه أجسادٌ جافة ومرهقة. ورغم اقتراب شبح الموت، يتواصل الحصاد تحت البلاستيك، لأن الرفوف هناك، في المتاجر البعيدة، يجب أن تبقى مليئة.

أول مرة عانق فيها أحدهم ضربة الشمس، شعر كأن روحه تُنتزع. صداع مفترس يمزق جمجمته، بشرته تشققت حتى بدت كجلد سحلية غينية ذات ألوان نارية. لم يفهم آنذاك سبب تذكّره لتلك السحالي التي كان يراقبها في طفولته، وهي تتسلق جدران البيت الأصفر، لكن بينما كان بين الغيبوبة والتشنجات، قرأ في رأسه أسماء أحبائه، وكأنه يودّعهم... أو ربما كان يستقبل أجداده الذين جاؤوا ليصطحبوه إلى عالمهم.

رفاقه، الذين لم يكن يعرف أسماءهم، حاولوا أن يُبقوه على قيد الحياة؛ بللوا جبهته، وسقوه رشفاتٍ صغيرة من الماء. هكذا تُروى الحياة في الدفيئات: بنقطة ماء، وبأمل واهن.

ومثلما أنقذوه، أنقذ هو غيره لاحقًا. في هذا الجحيم المغطى بالبلاستيك، تُمارس طقوس البعث كما تُمارس الطقوس اليومية. في كل مرة يُعيد فيها جسدًا إلى الحياة، يسأل نفسه: هل ما يملكونه هنا يُعدّ حياة أصلاً؟ ويتذكر، ذاك العامل الذي لم تُكتب له فرصة العودة.

كان المسكين ضيفًا جديدًا على أرض النور، لم يصمد كثيرًا. حين أغمي عليه ولم يتمكن هو من إنعاشه، اتُخذ القرار البارد: تركوه عند باب مركز صحي كما تُرمى القمامة، بصمت. لم يكن يملك أوراقًا رسمية، فخاف صاحب العمل من العقوبة، وآثر أن يفقد عاملاً على أن يدفع غرامة. لم يمت فقط؛ بل مُحي اسمه، صار مجرد رقم.

ربما كان محوه بهذا الشكل يخفف الألم عن الباقين، لأن الاحتفاظ بالاسم يعني الاعتراف بالإنسان، وتذكر الإنسان يعني الخوف من أن تكون التالي. لكن تذكره. تذكر كيف تبادلا الشكاوى في الطريق، وتحدثا عن أحلام معلقة. كان المسكين يحمل وطنه على كتفه، كأخ توأم صامت، يجعله يمشي محنيًا من ثقله.

اليوم، صار رمزًا، طيفًا لا يغيب. حين تهب نسمة باردة في عز الحر، حين تتحرك الأوراق رغم سكون الهواء، حين تظلم السماء دون سحابة، يعرف العمال أنه مرّ من هنا. أصبح أسطورة ترد على الأسئلة التي لا إجابة لها.

أما العامل الآخر، فقد مات أيضًا، ولم يعلم أحباؤه إلا بعد أيام. بعضهم يقول إنهم رأوا روحه تُغادر جسده، رغم أن أنفاسه الأخيرة كانت عند باب العيادة. الحقيقة الوحيدة أن حضوره ما زال محسوسًا، كأنه لم يرحل أبدًا.

البيوت البلاستيكية تقتل بلا سلاح. لا أحد يكترث للعطش الذي ينهش الأحشاء. أحيانًا لا يجدون حتى يورو لشراء زجاجة ماء، فيجمعون بقايا من نافورات عامة، يعيدون تعبئتها حتى تتشوه الزجاجات، وتفوح منها رائحة البلاستيك القديم. البعض يربطها إلى خصره، كأنها طوق نجاة وسط بحر من النار.

البلاستيك، عوضًا عن أن يكون حاجزًا واقيًا، تحول إلى مرآة مشوهة تعكس وجه العبودية. ورغم ذلك، ثمة مشاهد داخل تلك البيوت تباغتك بجمالها. اليوم مثلاً، يقطفون الفراولة. لم تعد تفاجئ العمال، لكنها ذات يوم فاجأتهم. أول مرة يشمون عبيرها شعروا وكأنهم فتحوا جرة مربى وسط الصحراء. رائحة قوية، شهية، تُغني عن المذاق. حينها أدركوا كم خسر الناس في الخارج، أولئك الذين يعيشون بلا حواس.

أرض النور... مضيئة نعم، لكنها عقيمة، قاحلة خارج أسوار الدفيئات، حيث لا شجرة تظلل، ولا نسمة تواسي. هي واحة إنتاج لا يعرف طعمها إلا من يزرع ولا يذوق، يبني ولا يسكن، يعيش ولا يُرى.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

جلسة محكمة غير اعتيادية في كندا تجسد الإنسانية بأسمى صورها، حيث وقفت قاضية أمام مجموعة من المهاجرين الذين وصلوا إلى هذا البلد بطرق غير نظامية، لتحكي لهم قصة جديدة عنوانها الأمل والعدالة.

 في أجواء محفوفة بالتأثر، نطقت القاضية بكلمات لم تُسمع مثلها من مسؤول عربي، لتتحول لحظة منح الجنسية إلى احتفال بالإنسانية والكرامة.

بدأت القاضية حديثها بصوت دافئ يحمل بين طياته الإقرار بتضحيات أولئك الأشخاص الذين تركوا وراءهم أوطانا مثقلة بالوجع بحثا عن حياة تستحق أن تُعاش. قالت لهم: أيها السيدات والسادة، نحن ندرك تمامًا الطريق الشاق الذي خضتموه والأوطان التي فارقتموها سعياً وراء مستقبل أفضل. وأضافت بفخر واضح: أنتم الآن جزء لا يتجزأ من هذا البلد الجميل. في هذه اللحظة التاريخية، تتحولون من مهاجرين إلى مواطنين مثلي تمامًا، لا فرق بيننا، فكلنا على قدم المساواة.

ثم ذهبت كلماتها أبعد من ذلك، لتفتح أمامهم أبواب الحرية والكرامة على مصراعيها. قالت لهم: في هذا البلد، أنتم آمنون، لكم حرية اعتناق ما تؤمنون وتطبيق ما يتماشى مع قناعاتكم دون خوف أو مضايقات. يمكنكم التنقل والعمل حيثما تحبون، والدخول والخروج من البلاد وقتما تشاءون. لكن نصيحتها الأهم كانت تعليم أبنائهم قول الحق والعمل به، ومواجهة العنصرية بكل أشكالها.

وفي لمسة إنسانية مؤثرة، اختتمت القاضية حديثها بعبارة بسيطة ولكن عميقة: قوموا الآن واجتمعوا حول بعضكم البعض لنحيي هذه اللحظة معًا. تلك العبارة حملت معها رسالة التسامح والتكاتف التي تغيب عن الكثير من بقاع العالم.

مع هذه الكلمات، غصّت القاعة بمزيج من البكاء والتأثر. دموعٌ عكست سنوات من الحزن والحرمان عاشها هؤلاء في بلدانهم الأصلية— بلدان تشهد على وجع القهر والتشرد.

وفي سؤال يثير التفكير العميق، يبقى الأمل قائماً: هل يمكن أن نشهد مثل هذه اللحظات الملهمة في وطننا العربي الكبير؟ أم أن تلك الأحلام لا تزال بعيدة المنال؟ تذكّرنا هذه القصة بما يمكن أن يكون عليه العالم إذا قررنا أن نترك وراءنا الخوف ونتشبث بالقيم التي تجعل الإنسان أولاً وأخيرًا.

***

شاكر عبد موسى/ كاتب وأعلامي

ميسان

 

اللهو: ما لعبتَ به وشغلك، الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة، الإنشغال بأمور عبثية.

واللهو يصرف عن الجد والأمور المهمة، ويتعلق بالقلب والفكر وما يشغل الإنسان عن الواجب

أجيالنا وعلى مدى أكثر من قرن تم تغييبها، وطمرها في ظلمات الشعارات الخادعة المضللة، فتردّت أحلامها وتبددت تطلعاتها، وتوارت معها في قبورها، فما أكثر الأجداث التي تستعر فيها نيران الطموحات الخائبة.

اللهو عقيدة جاثمة على وجودنا ومصادرة لكينونتنا، ومدمرة لهويتنا، وذات مسميات وتوصيفات متنوعة، ومؤثرة في السلوك الجمعي، ومدمرة للوعي، ومحنطة للعقل، ولاغية لمعاني الحياة الحرة الكريمة، لأنها تردم الأجيال في خنادق التبعية والإمتهان، وتحقنهم بالمشاعر السلبية المؤدية إلى مزيد من النكبات.

واللهو سلبي وإيجابي، ومعظمنا ينغمس باللهو السلبي الذي يحيل بيننا وبين الأمور المهمة، فمن أولوياتنا حرق الوقت، وإغفال أنه كالسيف، ونتوهم بأنه قالب ثلج لا يذوب.

الحكومات تلهو بشعوبها وتضللها بالشعارات الفارغة، وتدفع بها إلى أتون الهيجاء، وترسم لها خارطة مصير مشؤوم، وتجعلها مقيدة برؤى وتصورات تحرمها من ممارسة دورها، وإغفالها لحقوقها الطبيعية، وتجردها من إرادة الشعور بوجود مستقبل زاهر سعيد.

الكل يتبضع، والبعض يتلهى بالبعض، وعليك أن تسمي البعض الآخر بما يسوّغ النيل منه، فامضي بتدميره على بركة الله فهو المسؤول، وما أنت إلا منفذ لقرارت قادرٍ حكيم.

لو تفحصنا الملهيات الفاعلات في مسيرتنا لتعجبنا من كثرتها، ومن قدرتها على سرقة وجودنا وتأمين حرماننا من أبسط الحقوق، وكيف أنها أطلقت أيادي الطامعين بثرواتنا لأخذها بحرية وقوة، وتبقى الشعوب مغفلة بالملهيات ومخدرة بالويلات، حتى لتستلطف الضيم، وتركع للجلادين، وتدين بالسمع والطاعة للطغاة والمستبدين الفاعلين بها وفقا لما يساهم في تأكيد مصالحهم وتقوية أنظمة حكمهم على البطش والإنتهاك للحرمات.

تلهى أنتَ مأسورٌ ضعيفٌ

وباركْ قوةً ألماً تضيفُ

تعايشتِ المواجعُ والخطايا

يُفاعلها التصارعُ والنزيفُ

نيامٌ في مواكبها حيارى

وإنَّ فسادها نهجٌ عَفيفُ

***

د. صادق السامرائي

كل ظاهرة تصل ذروتها وتنحدر إلى نهايتها، والحياة في الأرض ظاهرة كونية، ربما بلغت ذروتها أو على وشك أن تصلها، فأنها قاربت على الإنكماش والتحول إلى هباء منثور.

الأرض حاضنة كبيرة تتقلب تحت الشمس، وإن توقفت لبضعة دقائق تنتهي على ظهرها الحياة.

وما تعانيه الدنيا من أضرار الإنبعاث الحراري سيتسبب بتدمير الظروف البيئية في حاضنتنا الكونية التي توفر لنا الحياة.

أصبحنا نصنع ونزعزع المكونات البيئية، وأخذنا نستخرج ما في بطن الأرض للإجهاز عليها.

ومن المخاطر الفظيعة أن البشرية إمتلكت قدرات تدميرية ماحقة، ويمكنها أن تحيل مخلوقاتها إلى عصف مأكول.

والمشكلة الأخرى أن الأرض كائن حي وتدافع عن وجودها، ومن أسلحتها، الأعاصير بأنواعها والهزات الأرضية، والفيضانات، وإطلاق الأوبئة، فالكثير من الميكروبات كامنة لعدم توفر الظروف المناسبة لها، وبتغيير الظروف البيئية فأنها ربما ستتأهل للانطلاق ومداهمة البشر.

فالمتغيرات الحاصلة في كوكبنا، ستؤثر على الأمزجة وآليات التفكير، وستدفع إلى إندلاع العدوانية وتنامي الحروب والقسوة المطلقة على الغير، وباستخدام أشرس أدوات التدمير الماحق، إذ سيتحول البشر إلى أرقام.

ترى هل ستحصل حرب شاملة ومدمرة؟

الجواب أن الطبع البشري والتداعيات المناخية والتأريخ كلها تؤكد بأن الحرب قادمة لا محالة، وأن رقعة ما يجري من حروب سيتوسع وسينتشر كالنار في الهشيم، لأن الظروف بأنواعها متفاعلة لتحقيق هذا الغرض.

إن المتغيرات الفاعلة في الدنيا تؤهل العدوانية للإنطلاق من مكامنها والتعبير عن قدراتها التدميرية الفائقة، وتلك طامة كبرى تلوح في أفق الويلات المدلهمة.

بكوكبنا المواجع تستقيدُ

نكبناها بعاديةٍ تبيدُ

صنعنا ثمّ تهنا في دروبٍ

يُلاحقنا بها أمرٌ شديدُ

كأنّا في مَرابعنا الخطايا

يُدمرنا المغامرُ والعنيدُ

***

د. صادق السامرائي

19\3\2025

 

يُعّد الغزو الفكري أكثر وأعمق تأثيراً وخطورةً على المجتمعات لانه يستهدف سلوك وعقيدة الفرد وأفكاره وأخلاقه، في دس الأكاذيب والافتراءات لتشويه الثقافة الغير الغربية، وإقناع الشعوب على أنهم متخلّفون، وأنّ المنقذ لما يعانيه المسلمون من ضياع هو  اتباع “حضارت الغزو” الغربية بكل ما فيها من تفاصيل، والترويج له بما يضمن ترسيخها واستمرارها في أذهان الاجيال الجديدة وخاصة الشابة، وبالتالي ضياع تلك الأمم بأسرها نتيجة انتقالها اذا لم تكن هناك من مصدات او عوائق تقف امامهم وهو أخطر بكثير عن الغزو العسكري وهو السلاح الرائج بيد الاعداء والاسهل في التنفيذ وتلعب المادة الدور الأكبر في عملية غسل الادمغة لطلائع الشباب والأحداث والغزو الفكري هو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على شباب أمة أخرى أو التأثير عليهم حتى يتجهوا وجهة معينة أو تبني رأي ما.وهو مصلح خطير يفتك بالأمم، ويذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها أن الغزو الفكري الذي يقوم على مدى السنين بعملية غسل للأدمغة، وإعادة صياغة القيم في ثقافة المجتمع، هذا الغزو يكون قناعة لدى شريحة كبيرة من الناس تعارض الكثير من القيم الدينية التي تحافظ على استقرار المعتقد، بل قد تعارض تلك القناعة بعض الثوابت والمسلمات؛ كقضية الولاء والبراء، أو العلاقة مع الآخر. ان الانحرافات التي وصل إليها العديد من المجتمعات، 'حيث شملت المثقفين والأطفال والشباب والنساء في جملة ضحايا التطور التكنولوجي، والغزو الرقمي للثقافة والقيم، فقد استطاع العدو اختراق افكارها ومعتقداتها، فصارت الثقافة الغربية هي الثقافة الغالبة والمسيطرة؛ نظرًا لواقع التجهيل العام الذي نعيشه أمام الغرب في مجالات العلم والتكنولوجيا والسياسية والاقتصاد والعسكرة، ومن ثم نجد بعض المثقفين والنخبويين وبمساعدة الماكينة الإعلامية المحسوبة على العولمة الغربية يحاولون جاهدين إقناع المجتمع العربي بأنه متخلّف في جوهر فكره وتاريخه، بل أنه متخلف في صميم تكوينه، ومن ثَمَّ فلا بدَّ من الانسلاخ عن كل ما يربط المجتمع بماضيه، وإعادة تشكيل المجتمع على الطراز الغربي بحجة تصحيح الموروث الديني، وأن مجتمع الشرق الاوسط عبارة عن مذاهب وطوائف متناحرة' ومجتمعات بدوية.

الغزو الفكري كان وسيلة بالسابق عند الغزوات الاستعمارية والهيمنة السياسة على اي منطقة معينة قاصدة الشباب بالذات وإخضاع الشعوب والسيطرة عليهم؛ وتوسّعت فأصبحت تشمل الوسائل العسكرية وغير العسكرية التي تستخدمها الدول المستعمِرة في احتلال الدول الأخرى، ومن هذه الوسائل وسائل فكرية تُمهّد للغزو العسكري أو السياسي من خلال التمكّن من السيطرة على عقول الشعوب ويمكن أن يقتصر المستعمِر على الغزو الفكري كأسلوب من أساليب إبقاء الشعوب والدول تحت هيمنته الفكرية والثقافية. ورغم كونه أقل علنية الآن ولكنه أصبح أوسع انتشارًا مع ظاهرة العولمة، وأكثر الدراسات التي تظهر اليوم تشير إلى أن أهم وسيلة لتغيير أي فكرة هي عن طريق التعرف على أفكار أكثر حداثة وانتشرًا عن فئة أفضل من أخرى بعدة مجالات، ولكون ذلك غير شائعٍ سابقًا لقلة الاختلاط العالمي بين الناس فلم يكن له الأثر الكبير، بينما في الوقت الحاضر ومع التطور التقني وانتشار الإعلام بوسائله ومنصاته فهو أصبح من الأسهل تغيير أي ثقافة أو فكر لو وجهت بالطريقة المناسبة. المجتمع الواعي اليوم مطلوب منه دعوة الشباب لحظر استخدام الوسائل التي أصبح من العبث بمكان، التي من  البساطة تنحيتها عن الحياة جانباً، رغم انها أصبحت واقعاً مفروضاً لا يمكن الفكاك منه، وإنما أصبح من الواجب تطويرها وتوظيفها واستخدامها لغير الغرض الذي أنشئت من أجله، فلا مناص من حسن توظيفها، وذلك بأن تقوم الهيئات والمؤسسات الدولية بنشر مواقع تعنى بالتربية والتوجيه وبناء العقائد والرد على الشبهات بالحسنى والموعظة الحسنة ومواجهة الفكر بالفكر الصحيح حتى لا يجد الشباب نفسه منفرداً أمام حملات منظمة تحيط به ليل نهار ولا تيأس من استقطابه بكافة الوسائل

***

عبد الخالق الفلاح – باحث واعلامي

مركز الوعي الفكري للدراسات والابحاث

هل نحن على أعتاب حرب عالمية ثالثة؟

"نحن عراة في عالم من العواصف، لأننا لم نستعد لعالم اليوم" بهذه الكلمات الموجعة، وصف (مانفريد ويبر)، زعيم حزب الشعب الأوروبي، حال القارة العجوز، في تصوره لمواجهات محتملة مع روسيا أو حتى مع حليفها التقليدي الولايات المتحدة. هذا الإحساس المأساوي بالعري والضعف، الذي يخترق وجدان النخبة الأوروبية، هو ذاته ما كان يعيشه السياسيون الأوروبيون قبل عام 1914، حين كانت التحالفات المتشابكة والرغبة في تأكيد الذات، تدفع بأوروبا نحو الهاوية. اليوم، وبعد أكثر من قرن، تعود أشباح الماضي لتطرق أبوابنا من جديد؛ فالأجواء الحالية في أوروبا تذكرنا بأوقات ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث التوتر الخفي الذي يسبق العاصفة.

النظام القديم وانهيار اليقين

قبل عام 1914، كانت خريطة أوروبا عبارة عن نسيج معقد من التحالفات والامبراطوريات والقوميات المتصارعة. كان قلب أوروبا ينبض من فيينا، عاصمة الإمبراطورية النمساوية المجرية، الدولة متعددة القوميات التي امتدت من سويسرا إلى رومانيا الحديثة، والتي كانت بمثابة "سجن للشعوب" في نظر قومياتها السلافية. كانت الخريطة السياسية تعج بدول تسعى لتعزيز نفوذها، من ألمانيا القيصرية الطامحة تحت حكم فيلهلم الثاني، إلى بريطانيا العظمى الحريصة على توازن القوى، وفرنسا التي تتطلع لاستعادة أمجادها. وكانت البلقان تشكل "برميل بارود" أوروبا، حيث تتصارع النزعات القومية مع إرث الإمبراطورية العثمانية المتهاوية.

في تلك الأيام، تشكل تحالفان رئيسيان: التحالف الثلاثي (ألمانيا، النمسا-المجر، إيطاليا) والوفاق الثلاثي (فرنسا، روسيا، بريطانيا). لكن هذه التحالفات لم تكن دفاعية بحتة، بل كانت تعكس مصالح اقتصادية واستراتيجية متشابكة، وتنافساً محموماً على المستعمرات والموارد خارج أوروبا. لقد كانت آلة الحرب الأوروبية تنتظر شرارة صغيرة لتنطلق، وجاءت تلك الشرارة من سراييفو.

وفي 28 يونيو 1914، أطلق غافر يلو برينسيب، الشاب الصربي القومي، رصاصتين أودتا بحياة الأرشيدوق فرانز فرديناند، وريث عرش النمسا-المجر، وزوجته. كانت تلك "اللحظة الفرانزفرديناندية" التي لا تزال تذكرنا بها كتب التاريخ. لكن الاغتيال بذاته لم يكن السبب، بل كان القشة التي قصمت ظهر البعير؛ فخلال أسابيع، دفعت الآلية الدبلوماسية والعسكرية المعقدة أوروبا إلى حرب لم يكن أحد يتخيل حجم دمارها.

لقد أوقفت الحرب عام 1914 لحظة إبداع أوروبية مفعمة بالحيوية، كما يؤكد المؤرخ جاك بارزون، حيث حلت "دعاية الكراهية" محل النشاط الثقافي، وتم تدمير المواهب العبقرية في حرب القذائف والهجمات المشاة، وسحقت الإيمان والتقاليد المدنية تحت وطأة أربع سنوات من الحرب بأهداف أصبحت أقل فهماً. لقد حطمت تلك الحرب الحضارة المولودة من عصر النهضة والقائمة على فكرة الدولة القومية.

النظام العالمي الجديد.. هل نحن أقرب إلى حافة الهاوية؟

اليوم، وبعد أكثر من قرن، نعيش في عالم يبدو مختلفاً، لكن التوترات الهيكلية مشابهة بشكل مقلق. ففي استطلاع حديث أجراه YouGov، يعتقد 45% من الأمريكيين وما بين 41% و55% من الأوروبيين في خمس دول (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا) أن حرباً عالمية ثالثة "مرجحة جداً أو إلى حد ما" في غضون خمس إلى عشر سنوات. وترى أغلبية تتراوح بين 68% و76% أن أي صراع جديد سيتضمن أسلحة نووية.1989 faroqوترجع هذه النظرة السوداوية المتشائمة إلى عدة عوامل، يأتي في مقدمتها التمزق في العلاقات عبر الأطلسي. فالقادة الأوروبيون يعترفون بأن "أوروبا عاجزة عن مواجهة ترامب" بسبب تبعيتها العسكرية للولايات المتحدة. وقد استخدم ترامب هذه التبعية كورقة ضغط، حيث "أضعف القوة الاقتصادية لأوروبا من خلال استخدام البطاقة العسكرية" خلال مفاوضات اتفاقية التجارة الصيف الماضي. وفي الوقت نفسه، يخشى نصف أوروبا من التهديد الروسي، ويرى أن القوة العسكرية الأمريكية هي الحامي الوحيد. هذا الانقسام يذكرنا بالتحالفات المتشابكة والمتناقضة قبل الحرب العالمية الأولى.

وفي الشرق، تتصاعد التوترات مع روسيا، التي يراها 69% من الأمريكيين وما بين 72% و82% من الأوروبيين الغربيين السبب الأكثر احتمالاً لحرب عالمية أخرى. لكن المفارقة أن العديد من الأوروبيين يرون في الولايات المتحدة نفسها تهديداً، حيث تعتبر أكثر من نصف السكان في إسبانيا (58%) وألمانيا (55%) وفرنسا (53%) أن التوترات مع واشنطن تشكل تهديداً كبيراً أو معتدلاً للسلام في القارة. إنه انقسام يعكس غياب رؤية استراتيجية موحدة، وافتقاداً للقيادة الأوروبية الحكيمة.

البلقان الجديدة.. من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا

إذا كانت البلقان "برميل بارود" أوروبا قبل قرن، فإن العالم اليوم يعج ببراميل بارود جديدة. ففي أوروبا الشرقية، تستمر المواجهة بين الغرب وروسيا في أوكرانيا، مع انتهاكات متكررة للمجال الجوي لدول الناتو، كما حدث في بولندا وإستونيا، فيما يشكل مرحلة جديدة من التصعيد. وفي الشرق الأوسط، لا تزال الحرب في غزة تمثل بؤرة توتر عالمية، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى تحول جيلي في الرأي العام الغربي، خاصة بين الشباب، تجاه السياسات التقليدية لدعم الحلفاء.

فالعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، التي كانت ذات يوم "إجماعاً ثنائي الحزب"، تواجه اختباراً وجودياً، حيث يرى 53% من الأمريكيين الآن صورة غير مواتية لإسرائيل، وتصل هذه النسبة إلى 71% بين الديمقراطيين تحت سن الخمسين. هذا التحول في الرأي العام، إلى جانب تصلب الموقف الإسرائيلي، حيث أصبح 58% من الإسرائيليين اليهود يعرفون أنفسهم كيمينيين في عام 2024 (مقارنة بـ 46% في 2019)، يخلق بيئة من القطيعة المحتملة.

هل هناك مخرج؟

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل يمكننا أن تعلم الدروس من التاريخ أم أننا محكومون بتكراره؟ تشير التحليلات إلى أننا نعيش بالفعل في لحظة "فرانز فرديناند" ممتدة، حيث يمكن لأي حادث غير متوقع - سواء في بحر الصين الجنوبي، أو في أوروبا الشرقية، أو في الشرق الأوسط - أن يشعل شرارة صراع أوسع. لكن الاختلاف الجوهري اليوم هو أن أي حرب بين القوى العظمى ستكون حرباً نووية، مع إدراك 57% إلى 73% من الجمهور في أوروبا والولايات المتحدة أنها ستؤدي إلى خسائر في الأرواح أكبر من تلك التي حدثت في 1939-1945.

لقد أدرك الأوروبيون مبكراً أن الوحدة هي السبيل الوحيد لتفادي مصير مأساوي، وهو ما دفعهم إلى تأسيس الاتحاد الأوروبي، الذي لا يزال 45% إلى 56% من الأوروبيين والأمريكيين يعتبرونه مساهماً مهماً في غياب الصراع. لكن هذه الوحدة تواجه اليوم اختبارات وجودية مع صعود القوميات داخل أوروبا، والضغوط الأمريكية، والتهديدات الخارجية.

إن ما تحتاجه أوروبا والعالم اليوم هو قيادة شجاعة وحكيمة، من طراز هيلموت كول وفرانسوا ميتران الذين استطاعا في الماضي تحويل الخصومات إلى شراكات. قيادة تستطيع أن تقدم رؤية جديدة للأمن الجماعي، تتجاوز منطق التحالفات العدائية والتبعية، وتعيد إحياء الدبلوماسية متعددة الأطراف. فالعالم أصبح صغيراً للغاية على حرب كبرى، والتاريخ يعلمنا أن الحضارات، بغض النظر عن مدي تقدمها، يمكن أن تتحطم عندما تختار الدول مسار الصراع بدلاً من التعاون.

السؤال الذي يطرح نفسه الأن هو: هل لدينا الحكمة الكافية لاختيار المسار المختلف عما اختاره أجدادنا قبل 110 أعوام؟

***

عبد السلام فاروق

الحضارة وجود حي لا يموت، فجوهرها خالد وشواهدها تتواصل وتتبدل وفقا لمقتضيات المكان والزمان، وتخضع لقوانين الانتخاب الطبيعي، وتكشف عن معدنها أمام التحديات والمنازلات الشرسة، وما يواجهها من تهديدات ومحاولات للنيل منها.

الحضارة تولد من رحم الأفكار المتفاعلة، وبما أن الأفكار لا تموت وتتوالد، فالحضارات كذلك تتواصل متجددة ومتوالدة من أرحام بعضها، فالحضارة تتحرك وتتنقل فوق التراب ولا تستقر في مكان واحد، بل تسير على أقدامها وتطير بأجنحتها، وتلد المخلوقات المعبرة عن رسالتها، وتطلعاتها الإبداعية الأصيلة.

ولهذا فأن مواكب العطاءات المتجددة لا تتوقف، وقطار المسيرة التطورية الإرتقائية يسير بأقصى ما يستطيعه من التسارع والتوثب والعزم والإصرار.

في هذا الكون كل موجود حي وله نشاطه المرئي والمستتر، ويؤثر في محيطه ويتأثر به، فالموجودات أمواج متدفقة في نهر الحياة، تحركها إرادة الدوران وطاقات التواصل مع الأكوان، وتنقلها إلى مدارات لا تعرف السكون والهوان، إنها طاقات متفجرة تنسكب في أوعية الرموز الكونية العاتية التواصلات.

فهل أدركنا دائرتنا الكلية وتحررنا من أكياس التحجر والتقوقع في كرات تتناطح لتبيد؟

وحضارتنا إنطلقت ومرت بمنعطفات وواجهت تحديات، وتحولت إلى رماد في فترة من الفترات، ثم إنبثقت وتجددت وتمسكت بمشاعل تألقها، وإستحضرت جذوة صيرورتها الكبرى، لتعبر عن حيويتها، وتؤكد وجودها، وإقتدارها الإبداعي الإنساني المتسرمد في أعماق الأكوان.

ووفقا لذلك فالأمة تتواصل في سعيها لإظهار جوهرها وتنمية قدراتها الذاتية، وتمثيل هويتها المتسمة بالعطاء الأصيل، والفكر الأثيل.

عاشت أمة توطنت عرش الزمان وأسست شواهد المكان، وحافظت على قيمها، وكلما تكيو تنجب أفذاذها الشجعان.

***

د. صادق السامرائي

 

ليس هناك فسادٌ حميدٌ وآخر خبيثٌ، لكن إذا تكاثرت أسراب الجراد، يُميز بين فساد وآخر، وقد دق النَّاقوس مجد الدِّين النَّشابيّ (ت: 657هج)، والمغول على بوابات بغداد: «إذا ترامت أمور النَّاس ليس لهم/ فيها دواءٌ ولا حزمٌ وأنجادٌ» (الحوادث)، وبفساد الطِّب لا حِيلة تُرجى.

استمعتُ لحديث دار بين أطباء، خسرَ أحدهم عمله، لأنّه اعترض على استغلال النَّاس مِن قِبل مستشفى خاص، بما يُخالف «عهد أبقراط». قد يهون الإكثار مِن الفحوصات والأدوية بلا حاجة، ولكن إجراء عمليةٍ، بلا سبب، لأجل المال ما ليس في الحِسبان، ولما اعترض الطَّبيب صارحته إدارة المستشفى، لهذا الإجراء ما يبرره، لزيادة العائد، ولا خطر على المريض! اِحتجّ صاحبنا بما قَسَم عند تخرجه، فتقرر تنحيته لعدم تعاونه.

ليس لدى المريض حيلة، عليه الثِّقة بالطَّبيب ثقةً عمياءَ، فلا يحسب حِساب خيانته بدواء زائد، وفحوصات زائدة مكلفة، لا يعلم أنه لا يحتاج إليها، فالطِّبيب هو «الخصم والحكم»، ناهيك عن بيع المرضى، والاتِّفاق التِّجاري بين أطباء وصّيادلة.

كان الطَّبيب سنان بن ثابت بن قرِّة (ت:332هج)، بمثابة وزير الصّحة ببغداد العباسيَّة، يقوم باختبار الأطباء المعينين، أشكل على أحدهم أنّ المنطقة الفلانيّة سكانها يهود، فماذا يفعل؟ فكتب إليه «رسم البيمارستان (المستشفى) أنْ يُعالج فيه المليّ والذِميّ»، ونظّم أطباء جوالين، يطوفون على قرى السّواد، كلّ منهم يحمل خزانة أدوية وأشربة، كان الصَّرف على المستشفى مِن سجاح أمّ المتوكل على الله (الطَّبيب ابن أبي أُصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء).

كان السّؤال والجواب عن علاج غير المسلمين قبل أحد عشر قرناً، غير أنَّ فضيحة العصر، أنَّه قبل سنوات وقعت بيدي مجلة، تصدر بالغرب، تنشر الاستفتاءات والرّدود عليها، وإذا بطبيبةٍ تسأل المفتي: هل يجوز نجدة الجار غير المسلم في وضع صحي طارئ؟ أجاز لها المفتي بشرط «الحِشمة»، أجاب المفتي بما يُملي عليه الفقه، لكن ماذا يُرجى مِن الطَّبيبة المستفتية، ماذا أبقت لعقلها، وقَسَمها الطِّبيّ؟

نزيد أكثر عن مخاطر فساد الطَب وفواجعه، أنّ أطباءَ، كانوا يعملون في دوائر الأمن، في الأنظمة العاتية بدكتاتوريتها، مهمتهم فحص المحبوس بعد كلّ فصلٍ مِن العذاب، هل يتحمل عذاباً إضافياً أم لا؟ وبعضهم استُخدموا في تركيب السّموم لقتل الخصوم، وهذا ما نبّه إليه الطِّبيب أبقراط في عهده الشّهير.

دأب الأطباء، عند التّخرج القسم بما صاغه أبقراط، فمهنة الطَّبيب يوزن بها الضّمير بأدق مِن ميزان الذَّهب، يردد المتخرج، ولكّل نظام طبي تصرفه بالكلمات: «إِنِّي أقسم بِاللَّه رب الْحَيَاة وَالْمَوْت وواهب الصِّحَّة وخالق الشِّفَاء وكل علاج... على أَنِّي أَفِي بِهَذِهِ الْيَمين وَهَذَا الشَّرْط».

يقسم الطَّبيب الجديد: «لَا أعطي إِذا طُلب مني دَوَاء قتَّالاً، وَلَا أُشير أَيْضاً بِمثل هَذِه المشورة، وَكَذَلِكَ أَيْضاً لَا أرى أَن أدني من النسْوَة فرزجة (آلة طبية) تسْقط الْجَنِين، وأحفظ نَفسِي فِي تدبيري، وصناعتي على الزَّكَاة وَالطَّهَارَة، وَلَا أشق أَيْضاً عَمَّن فِي مثانته حِجَارَة، وَلَكِن أترك ذَلِك إِلَى من كَانَت حرفته هَذَا الْعَمَل».

يختم أبو الطِّب أبقراط عهده بالكلمات الآتية: «فَمن أكمل هَذِه اليَمين، وَلم يفْسد شَيئاً، كَانَ لَهُ أَن يكمل تَدْبيره وصناعته، على أفضل الْأَحْوَال وأجملها، وَأَن يحمده جَمِيع النَّاس فِيمَا يَأْتِي من الزَّمَان دَائِما» (ابن أبي أصيبعة، المصدر نفسه).

إنَّ قصة الفساد في الطِّب ليست جديدة، فالشُّعراء فضحوا أطباء، عندما تعرضوا لمثل هذه المواقف، يتحول بها الطّبيب قبوريَّاً يسره موت النّاس. بهذا المعنى قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر (300هج): «ما كنت أحسب أنَّ الدّهرَ يجعل/ أمراضَ الأعلّاءِ أعراس الأطبّاءِ/ حتَّى تبيّن في ذا الدّهر أنّ تجارات/ الأطبّاءِ أسقامُ الأعلّاءِ» (الثَّعالبيّ/ التَّمثيل والمحاضرة). أقول: إذا أصبح الطِّب مِن التِّجارات ويتصرف الطَّبيب وفق الدِّيانات والسِّياسات فاقرأ على الصِّحة السَّلام.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

الطباع ليست نزوة عابرة أو هوى يقود الإنسان في عشوائية اللحظة وفوضوية الموقف، بل هي انعكاس لفكر مترسخ في العقل وفهم عميق ينقاد إليه المرء في تصرفاته وسلوكه. فمنها ما يرفع صاحبه ويمنحه الإجلال، كاشفاً عن نبل طبعه ورقي خلقه، ومنها ما يضعه في مواضع لا تليق به، فيظهر مظهراً دخيلاً يندم المرء على ما أفرزته أفكاره السلبية من أفعال وانفعالات.

في مجالات العمل قد يظهر الطبع كعامل حاسم قد يبني مسيرة الإنسان بصورة متميزة كمسؤول أو موظف أو حتى شخص عادي، وقد يقوده في المقابل إلى طباع تتسم بالحدة والصلابة السلبية، فتفرز مشكلات وخصومات تؤدي في النهاية إلى ضعف الشخصية وهدم ما بني من علاقات وتواصل مع الآخرين. فالقائد أو الموظف المبدع الذي يواجه نقداً قاسياً من زميل له، يمكن أن يختار الانفعال الذي يجرح كرامته ويهز صورته فيفقد فكرته بريقها، ويجعل الآخرين يشكون في نضجه وتوازنه، أو يمكنه أن يبتسم بهدوء ويقول: "ربما لم أعرض فكرتي بوضوح، دعني أشرح الأمر أكثر حتى تتضح الصورة"، فيكسب تقدير الحضور واحترامهم، ويمنح فكرته فرصة أكبر للقبول والاستحسان.

المدير كذلك، قد يواجه استفزازاً من موظف في اجتماع علني، فإما أن يختار التوتر والانفعال لإثبات سلطته بالصوت العالي حتى يسكت منافسيه ومعارضيه، فيخسر صورته الذهنية أمام فريقه ومشاهديه، أو أن يرد بعقلانية فيحول الموقف المحرج إلى درس في القيادة وضبط النفس وحكمة الممارسة. وفي بيئات العمل يكون الفارق بين قائد ملهم ومدير متسلط هو الطباع الثابتة التي تحكم ردود الفعل في لحظات الضغط والتوتر؛ فإما حضور وهيبة وكاريزما، أو مواقف مهتزة وقرارات اندفاعية.

وما يصدق على العمل ينسحب أيضاً على الأسرة. فالأبوان لا يقيمان فقط بما يقدمانه من مال أو رعاية، بل بما يعكسانه من تربية وصقل للطباع المؤثرة والإيجابية في المواقف الحساسة التي تحتاج إلى ضبط وسعة خلق وتهذيب سلوك. الأم التي تستقبل خطأ ابنها بنبرة هادئة تقول له إنها حزينة لأنه خذل ثقتها وصورتها المشرقة عنه، تغرس في داخله شعوراً بالثقة ونبل التصور، وتزرع فيه عمق المسؤولية والندم الإيجابي الذي يقوده نحو التغيير. في المقابل، الأب الذي ينفجر غضباً ويهين ابنه أمام الآخرين يزرع جرحاً غائراً في نفوس لم تنضج بعد، وقد يبقى الموقف شاهداً حاضراً لسنوات طويلة، لا يزول ألمه حتى لو اعتقد الأب أنه يربيه بالحزم والقوة ليشبّ رجلاً يتحمل مسؤولياته.

وفي العلاقات الاجتماعية تتجلى الطباع بأبسط الصور وأعمقها أثراً. كم من صديق كشف عن نبل طبيعته حين وقف في صف صديقه في مجلس عام، فبقي الموقف شاهداً على إخلاص ووفاء لا ينسى. وكم من إنسان خسر مكانته بكلمة عابرة لم يزنها أو يتعقل أبعادها، فهدمت جسور ثقة بنيت في سنوات طويلة. الطبع هنا ليس مجرد رد فعل، بل اختيار يكشف عن حقيقة الإنسان في اللحظة التي يختبره فيها الآخرون.

أما في ميادين التعليم، فإن المعلم يختبر طباعه يومياً أمام عشرات العيون التي تترصده. الطالب الذي يخطئ أو يتجاوز الحدود قد يكون فرصة للمعلم كي يثبت أنه قدوة في الصبر والحكمة والانضباط، أو قد يتجاهل الموقف فيبقى أثره محدوداً دون دروس تذكر، أو قد يكشف عن طبع انفعالي يفقده مكانته مهما بلغ من العلم والخبرة. حين يواجه المعلم الإساءة بقول رصين يمنح الطالب فرصة لتصحيح كلامه وتعديل سلوكه، فإنه لا يعلمه درساً في الأدب فحسب، بل يزرع فيه قناعة بأن الطبع الحسن أقوى من أي عقاب، وأن الحكمة في الرد أبلغ من أي زجر مؤلم. وفي المقابل، فإن فقدان الأعصاب في موقف واحد قد يهدم سنوات من بناء الثقة والاحترام.

وهكذا نرى أن الطبع ليس أمراً ثانوياً أو مجرد سمة شخصية، بل هو مرآة العقل والقيم المتجذرة في النفوس. ففي العمل قد يصنع الفارق بين موظف عادي وقائد ملهم، وفي الأسرة قد يكون الحد الفاصل بين جيل واثق بنفسه وآخر مثقل بالجراح، وفي العلاقات الاجتماعية قد يرسّخ الصداقات أو يطيح بها، وفي التعليم قد يرفع المعلم إلى مقام القدوة أو يجرده من مكانته.

الطبع في النهاية ليس ما نظهره عند الرضا، بل ما يكشف عنا عند الغضب والاختلاف وتباين الآراء. فمن ملك زمام طبعه ملك صورته أمام نفسه وأمام الآخرين، وحصل على الإجلال الذي لا يمنحه منصب ولا مال، بل تمنحه سجية أصيلة وخلق رفيع.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

30-9-2025

ليس هناك أكثر خداعاً للبصيرة من مشهد الخرائط السياسية وهي ترسم وتمحى، الدول تتهاوى وتقوم، والملايين من البشر يتحركون عليها كدمى يحركها خيط غير مرئي. إنه مشهد مهيب ومخيف في آن واحد.. مشهد "لعبة الأمم" التي تتساقط فيها الرؤوس وكأنها قطع شطرنج، لكن دماءها حقيقية، وآلامها ليست من خشب.

في غرفة عمليات السياسة الدولية، حيث تحسب التكاليف والمنافع بدقة محاسب بارع، تفقد كلمات مثل "الضمير" و"الإنسانية" قيمتها السوقية. يصبح الإنسان مجرد رقم في معادلة، ومجرد وحدة في إحصائية. عشرات الآلاف من الضحايا؟ محزن بالتأكيد، لكنه "ثمن مقبول" إذا ما قورن بـ"المكاسب الاستراتيجية". خراب مدن بأكملها؟ "خسائر جانبية" في طريق تحقيق "مصلحة عليا". اللغة نفسها هنا تصبح جزءاً من اللعنة، فهي تجمل القبيح وتخدر الضمير العالمي.

ولهذا توارثت الحكمة الشعبية عبر الأزمنة تلك النصيحة البليغة: "عند صراع الأمم احفظ رأسك". إنها ليست دعوة للجبن، بل هي صيحة تحذير من دخول معركة أنت فيها مجرد وقود، وليس فارساً. هي ذروة الوعي بأنك أمام آلة طحن لا تميز بين بريء ومذنب، ولا تعرف سوى لغة القوة والمصلحة. إنه قانون البقاء للأكثر حذراً، لا للأكثر حماسة.

لكن المفارقة المؤلمة أننا نرى، في كل صراع، جحافل من "المغفلين" يندفعون بحماسة من يصطاد الفرصة الذهبية، ليقدموا رؤوسهم وأرواح أهلهم على طبق من فضة - أو على طبق من دمار - لمصلحة من لا يعرفهم ولا يهتم بمصيرهم. يظنون أنهم أبطال في ملحمة وطنية، وهم في الحقيقة مجرد دمى في مسرح عرائس كبير. يبيعون أوطانهم وأبناء جلدتهم بأبخس الأثمان، مقابل وعود كاذبة أو أوهام مجيدة.

هؤلاء.. ينبهرون ببريق الشعارات الرنانة، ويتعلقون بأوهام صنعها لهم سحرة السياسة والإعلام. يخوضون المعارك بدلاً عن أصحابها الحقيقيين، ثم يتركون بعد ذلك في العراء يواجهون مصيرهم المأساوي: الخيبة والخذلان، والخراب والدمار. يشربون كأس السم حتى الثمالة، ثم يكتشفون أنه كان مجرد شراب مغلف بعسل الأكاذيب.

الغريب في الأمر أن التاريخ لا يتوقف عن تكرار هذه المسرحية، بنفس الحبكة ونفس النهاية المأساوية، لكن مع ممثلين جدد. كأن هناك نسياناً متعمداً، أو رغبة انتحارية في خوض التجربة ذاتها.

فهل من مستفيد؟

بالطبع هناك مستفيد. هناك من يبيع السلاح، ومن يسيطر على الممرات المائية، ومن يعيد ترتيب الخرائط لصالحه. هناك من يحقق "التوازنات الاستراتيجية" على جماجم الأبرياء. هم قلة، لكنهم يملكون مفاتيح اللعبة.

أما الدرس الأهم، فهو أن على الأمم التي تريد أن تحفظ كرامتها وتصون وجودها، أن ترفع سقف وعيها. أن تعي أن العالم غابة، والقانون الدولي مجرد حبر على ورق حين تتعارض مصالح الكبار. وأن قوتك هي الضمان الوحيد لاحترامك. لا تكن أنت الوقود الذي تشعل به نيران الآخرين. لا تكن أنت الرقم الذي يضاف إلى إحصائية الضحايا.

النتيجة مؤلمة لكنها الحقيقة: في ساحة "لعبة الأمم"، إما أن تكون لاعباً، أو تكون حلبة اللعب. لا مكان للمشاهدين الأبرياء. فإما أن تتحكم بمصيرك، أو يتحكم بك الآخرون. والفرق بين الخيارين هو الفرق بين الكرامة والذل، بين البناء والخراب، بين الحياة.. وبين أن تصير مجرد إحصائية في نهاية النهار.

نعم.. هذه هي الحقيقة المرة التي يجب أن نعترف بها: العالم ليس جمعية خيرية، والسياسة الدولية ليست حلقة نقاش أخلاقية. إنها معادلة قوة صرفة، تحكمها مصالح متصارعة، وتتحكم فيها موازين القوى. والسذاجة الكبرى أن نتعامل مع هذا الواقع بمنطق الوعظ الأخلاقي أو المشاعر العاطفية.

الشرعية الدولية.. الوهم الجميل

كم هو مأساوي أن نرى من يعلق آماله على "الشرعية الدولية" و"منظمات الأمم" وكأنها محكمة عدل عليا. إنها في حقيقة الأمر مسرح للصراع نفسه، لكن بأقنعة دبلوماسية وبيانات مطولة. حق النقض (الفيتو) هو التعبير الأصدق عن هذه اللعبة: أنا القوي لدي الحق في إلغاء كل ما يهدد مصالحي، حتى لو كان تحت مسمى "الشرعية". فكيف نطلب من النمر أن يحكم في قضية الحمل؟!

والسؤال الذي يجب أن نوجهه لأنفسنا قبل أن نوجهه للعالم: لماذا أصبحنا نحن "وقود" صراعات الآخرين؟ لماذا تستطيع قوى دولية أن تستخدم أرضنا ودماءنا كمسرح لتصفية حساباتها؟

الجواب يكمن في غياب المشروع الحضاري الحقيقي. الأمة التي لا تملك مشروعها التنموي والسياسي والعسكري المستقل، تصبح بالضرورة ساحة لصراعات الآخرين. الأمة الضعيفة والمفككة هي الجائزة التي يتنافس عليها الصيادون.

من يملك القوة يكتب التاريخ

انظر إلى صفحات التاريخ.. من ينتصر في ساحة المعركة هو من يكتب الرواية، هو من يحدد من "البطل" ومن "الإرهابي"، من "المقاوم" ومن "المحتل". الأخلاق تتبع القوة، وليست سابقة عليها في الميزان الجيوسياسي. وهذا لا يعني الدعوة إلى التخلي عن الأخلاق، بل يعني الفهم الواقعي: أن تكون أخلاقياً وقوياً، فهذه هي المعادلة الصعبة والنبيلة. أما أن تكون أخلاقياً وضعيفاً، فمصيرك أن تكون ضحية.

طريق النجاة ليس في الانكفاء على الذات أو تبني نظريات المؤامرة التي تبرئنا من المسئولية. الطريق يبدأ بالاعتراف بالمرض: مرض التخلف والتبعية. يمر عبر بناء الذات من الداخل: تعليم ينتج عقولاً مفكرة، لا حافظة. اقتصاد منتج، لا مستهلك. نظام سياسي يوطن السيادة ويبني مؤسسات الدولة، وجمهورية جديدة .

عندما تبني أمتك جيشاً قويا يحميها، واقتصاداً يغذيها، وفكراً يحركها.. عندها فقط، تتحول من كونك "قطعة في لعبة الآخرين" إلى "لاعب في حلبة الصراع". عندها فقط، يحترمك الخصم قبل الصديق.

الخطيئة الكبرى!

أكبر خطيئة ترتكبها النخب في العالم الضعيف هي انتظارها "صحوة ضمير" لدى الآخر القوي. إنها تعلق مصير شعوبها على فكرة أن الأمم القوية سترثي لحالها، أو أن المنظمات الدولية ستنصفها. هذه ليست سذاجة فحسب، بل هي انتحار سياسي. الضمير الدولي يظهر فقط عندما يتقاطع مع المصلحة الدولية. انظروا إلى سرعة التدخل في أزمات، وتلكؤه في أزمات أخرى. الفارق ليس في درجة المعاناة الإنسانية، بل في المكاسب الجيوسياسية للمتدخل.

نعم، هناك لحظات في التاريخ يبدو فيها أن "الضمير العالمي" تحرك. لكن المحلل الاستراتيجي لا ينخدع بالمظهر. حتى هذه اللعبة الأخلاقية هي جزء من حسابات القوة. عندما تتدخل قوة عظمى بدافع "إنساني"، اسأل دائماً: أين مصلحتها؟ هل هي السيطرة على موارد؟ هل هي تحجيم خصم؟ أم هي تحسين صورة ذهنية لتحقيق نفوذ أوسع؟ القاعدة الذهبية هنا: لا يوجد غداء مجاني في السياسة الدولية.

من يملك قرارك.. يملك حياتك

الخيط الفاصل بين الأمم التي تقرر مصيرها والأمم التي يقرر مصيرها غيرها هو "سيادة القرار". عندما تكون قراراتك الاقتصادية، وأمنك القومي، وسياساتك الخارجية، مرهونة بإرادة خارجية، فأنت لم تعد سيداً في دارك. أنت أصبحت مجرد حارس عن هذه الدار لصاحبها الحقيقي. والصراعات الدولية غالباً ما تكون أدوات لاختراق هذه السيادة المتبقية، أو لإعادة تأكيد التبعية.

لا أقترح هنا الانعزال أو المواجهة المباشرة الساذجة. الحكمة تقتضي فهم قواعد اللعبة الدولية، ولكن بلغة تخدم مصلحتك. الصين لم تواجه أمريكا مباشرة، لكنها بنت قوتها في صمت لعقود. سنغافورة تحولت من جزيرة فقيرة إلى قوة اقتصادية دون أن تخوض حروباً. المهمة ليست في رفض اللعبة، بل في إتقانها بحيث تحولها من تهديد إلى فرصة. استخدم التنافس بين الكبار لصالحك، كما فعلت مصر في السبعينيات عندما استخدمت التنافس الأمريكي السوفيتي لتحقيق انتصارات دبلوماسية وعسكرية.

الطريق الوحيد للخروج من هذا المتاهة، وهذا ما أدركته الدولة المصرية، هو الانتقال من وضعية "التابع" إلى وضعية "الشريك الصعب". عندما تملك ما يحتاجه الآخرون - سوقاً، موقعاً استراتيجياً، موارد، عقولاً - تتحول من حالة الدفاع إلى حالة المساومة. ولكن لتصبح شريكاً صعباً، يجب أن تبنى داخلياً ما يجعل شراكتك مطلوبة، وليس مجرد منة من الآخر.

الخلاصة التي لا خلاص بدونها

لا تطلبوا من العالم أن يرحمكم.. فلن يرحمكم. لا تنتظروا من أحد أن يقدم لكم الحرية على طبق من فضة.. فلن يفعل. التاريخ لا يسير بمنطق العواطف، بل بقانون القوة والضعف، البناء والانهيار.

الخيار الوحيد أمامنا هو أن نعود إلى أساسيات البقاء: نبنى قوتنا بأنفسنا، نوحد صفوفنا، نطور أدواتنا. نتعلم من أخطاء الماضي، لا أن نكررها كالأغبياء. فإما أن نكون.. أو لا نكون. هذه هي معادلة الوجود الوحيدة في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء.

***

عبد السلام فاروق

لو تسنى لأحدنا زيارة مصنع والتجوال بين آلاته لما إستطاع أن يستوعب بأن الذي إبتكر هذه الآلات وجعلها تعمل بتناسق وتضامن مخلوق إسمه الإنسان، فالمصانع أقدر على الإنجاز من البشر، فالآلة إنتصرت عليه في معظم المجالات.

ففي الزراعة مثلا، عشرات الدونمات يكفيها بضعة أشخاص يديرون المكائن من وراء الشاشات، فالماكنة الواحدة متعددة الأغراض ولا يحتاج الفلاح إلى يديه للبذار والحصاد ورعاية مزروعاته، فالآلة تكفيه، وتجعله مرتاحا ومتيقنا بسلامة ووفرة محصوله.

وفي الدوائر الحكومية بالدول المتقدمة، ما عاد الموظف يعرف، بل يتصرف وفقا لإملاءات الشاشة المضيئة أمامه، فلا يجيبك عن أي سؤال إلا بالإستعانة بها.

وداهمتنا تطبيقات الذكاء الإصطناعي وحولت حياتنا إلى مسرح للأفكار والتفاعلات الآنية المتفوقة على أدمغتنا بسرعة إستجاباتها الدقيقة.

وفي عالمٍ تتحكم به الشاشات، وتتدبر أموره الحواسب ووسائل التواصل المتنوعة، والمخترعات المتدفقة والقوى التكنولوجية المتحكمة بمصير البشرية، هل أصبح للإنسان معنى؟!!

لا يوجد جواب واضح في أفق الوعي البشري المعاصر، وستأتينا الأيام والعقود القادمات بما لا يخطر على بال وحسبان.

إنها حكاية إنبثاق العقل من رماد الجهل ومن تحت سنابك التعطيل والإلغاء، ولا تزال بعض المجتمعات غاطسة في أوحال الغابرات ومتمترسة في مستنقعات الفراغ والإنقطاع عن مياه العصر الدفاقة.

فقل: " تنبهوا واستفيقوا أيها....."

وتساءلوا: كيف لا تغوص الرُكَبُ؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

لم تُركّز مناهجنا التعليميّة على آثارنا الحضاريّة في الأرض، ولم تُعطِ أيّ فكرةٍ عن التواصل مع الشعوب الأخرى، إحياء النهضة يتطلب إحياء للفكر والثقافة، التي سبق أن تعاقبت مظاهرها على العديد من الأمم في دورات تاريخية مختلفة. والعمل على كشف معنى النهضة الفكرية والتعرف على الاحتياجات والتحديات، التي تطرحها، وتجادل بأن مطالب التركيز على خلق صراعات في الفكر تميل إلى زعزعة الصور النمطية العلمية المتعلقة بالعلاقات الهرمية بين الظواهر والأساليب ومشاكل الوعي والطبيعة الاجتماعية، والتي تتطلب تفكيرًا خلاقًا في العلاقات بين الإنسان والمجتمع في الواقع الراهن، وما تبقى من القرن الحالي، المناهج هجرة التكلم عن الآثار الباقية الصحيحة عن الماضين، وعن الآثار الحضاريّة والثقافيّة والاقتصاديّة والتنمويّة والبُنَى التحتيّةِ فيما تركّزت أحاديث المناهجِ في أحسن أحوالها حولَ دخول الناس في الأحزاب والسياسات الفردية. مصطلح النهضة  يستخدم للتعبير عن المرحلة التاريخية منذ بدايةً القرن 19 فقط وهي المرحلة التي تميّزت ببروز اتجاهات فكرية في منطقة المشرق بأسئلتها المعرفية والسياسية واللغوية، وإن كنا نلاحظ غياب تواتر هذا المصطلح في أدبيات تلك الفترة وعدم تداوله واستخدامه من قبل المفكّرين والكتّاب في الوقت التي ترد تعبيرات أخرى لإصلاح ويقظة.

أما الصعوبة فتكمن إذا كانت التحديات التي تخوضها أيّة أمة تؤثّر إيجاباً في نهضتها بل إذا كانت تلك التحديات شرطاً أساسياً للحضارة عند بعض دارسي الحضارات، فان صناعة التحديات على الصعيد الشخصيّ آليّةً لصناعة رجل الحضارة، فكما أن جسم الإنسان يتدرب على الرياضة بالتمرين المستمر وبالتدريج وكلما كان قادرا على أداء التمارين الصعبة كان أكثر صحة وسلامة فكذلك عقله وروحه، فإذا رأيت كتابا صعبا، على صعيد المثال، يجب ان لا يترك  بل يستوجب البحث عمن يساعدك في فهمه. يقرأ مرات ويقرأ كتاباً آخر، أو الخوض في تحدياتٍ مع النفس واستعن في ذلك بقصص العلماء الأوائل المخلصين من الذين جعلوا عدمَ الخضوع النفس وتربيتها ديدناً.

مع الاسف ان  شعوب الأرض تعيش فترة عصيبة وفترات ظلم عظيم جدًّا، تنازعت البشريّة فيها قوى عظمى سيطرت على الناس بذريعة تطبيق ما تريده وأكلت حقوق الناس تحت شعار مختلفة، ومنعت الناس من التفكير بظلمها وحَرَمَتْهُم من الحريّاتِ مرورًا بأوهامِ الانتصاراتِ واهية لتشبكها مع تلك التحديات بدل الاهتمام بحضارتها،

نرى في واقعنا اليوم أنّ الأمم المسيطرة على العالم تبذل كلّ جهد ممكن لإنهاء وجود خصومها، والسيطرة على تفكيرهم، وزعزعة استقرارهم، وهذا ما يجعل همَّها الأكبر الاستخفافَ بالآخر لا الحرص عليه، ومحاولة استغلاله لا النهوض به، ولذلك فإنّها تظلم وتبرّر ظلمها بقضائها على إرهابٍ صنعته بأيديها وتنسيبها الى الاخرين وهي ليست مجرد صناعة يتم عرضها انما حسب الطلب وكلما دعت الحاجة لاستخدامها لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية.. وهي وليدة اخراج سيناريوهات موجودة بكل المجتمعات وبكل العصور والأزمان , الإرهاب صناعة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مهنة واحتراف،المجتمع الدولي يشارك بشكل حقيقي بصناعة الإرهاب الذي يدعون محاربته عبر وقوفه متفرجا وعدم اتخاذ أي فعل من شأنه وقف الجرائم، وحجب العدالة عن الضحايا وعدم إرسال أي رسالة حقيقية أن الجرائم المرتكبة التي سيتم المحاسبة عليها وأن المجرمين سينالهم العقاب من أي جهة كانوا ومهما كان وضعهم وأنه لا مجال للإفلات من العقاب، وعندما يتحرك المجتمع الدولي يتحرك جزئيا ويمارس عدالة انتقائية عرجاء عبر غض الطرف عن جرائم الدول التي تدعم الارهاب مثل إسرائيل وأمريكا والتركيز على جرائم أخرى.

***

عبد الخالق الفلاح – باحث واعلامي

مركز الوعي الفكري للدراسات والابحاث

 

كنت مولعا بزيارة معارض الكتاب، ومع الأيام خمد ولعي، ففي السابق كنت مسرورا ومستبشرا وأنا أتجول بين أكشاك الناشرين ووسط زحام الناس الذين يشترون الكتب ويحملون أكياسا فيها كتب، أما اليوم فينتابني الألم والحزن، لخلو معارض الكتاب من المتبضعين، وحتى ولو إزدحمت بالزائرين فأنهم يتفرجون وحسب.

ومن تفاعلي مع الناشرين أجدهم في خيبة أمل، وبعضهم يعود خالي الوقاض (جعبة جلدية لحمل السهام)، فلا يُعرف كيف سيتمكنون من مواصلة المشاركات لأن ذلك يكلف كثيرا من المبالغ، وهم لا يبيعون بضعة كتب في هذه المعارض، التي صارت لا تدر ربحا على العارضين.

لدي مجموعة من الكتب العلمية الغالية الثمن كنت أريد إعطاءها لزميل فاعتذر بقوله: كل شيئ في الإنترنيت، فما حاجتي للكتب.

الشاشة إنتصرت على الورق، وسايكلوجية الأجيال المعاصرة ضوئية لا ورقية، والنظر في الشاشة أمتع من النظر في الورق، فكل نشاط أضحى براقا على شاشات ذات أحجام متنوعة.

من الأقوال المتداولة عبر الأجيال: "كل علم لم يحوه القرطاس ضاع"، ويبدو أنه قد إستنفذ غايته، وعليه أن يتحول إلى " كل علم لم يجد له مكانا على شبكات الإنترنيت بلا قيمة"

الكتب تواجه مصيرا قاسيا، فصديقي حائر بمكتبته التي تضم آلافا من الكتب، يريد إهداءها لأي مؤسسة تعليمية وعلى مدى سنوات لم يجد مَن يتقبلها منه.

زميلي يرسل لي صورة مكتبة لشخص توفى فرميت كتبها في المزبلة، فلا أحد من الأبناء والأحفاد يقدر قيمتها، بل يحسبها عبئا وتشغل مكانا ولابد من التخلص منها، ولو برميها في النفايات.

في زمن الصبا كنت وصاحبي نتجشم الصعاب كل شهر لنقتني عشرات الكتب، فمكتبة المدينة ما عادت تفي بحاجاتنا للمعرفية، ولا ترضي جوعنا لما هو جديد في عالم الإبداع.

وبين اليوم والأمس، وجدتني أجالس الشاشة الصغيرة التي أصابت علاقتي بالكتاب بأزمة تفاعلية.

الأستاذ كوكل يقول: " شبيك لبيك أنا خادم بين إيديك"، والذكاء الإصطناعي حاضر للتلبية الفورية لطلباتك مهما كانت!!

فإلى أين ستأخذنا قافلة القرن الحادي والعشرين؟!!

***

د. صادق السامرائي

في عام 2017 وفي عهد وزارة الدكتور عبد الرزاق العيسى وباشرافه تم على يدي ادخال نظام مبني على اساس عملية بولونيا وبالاساس على نظام الوحدات الاوربي (ECTS) لكن لم يتم لي طرحه باسم نظام بولونيا (للعلم هو اسم المدينة الايطالية التي تم توقيع اعلان بولونيا في جامعتها ولا علاقة له بأسم دولة بولونيا) بناء على اقتراح من الوزارة ولكونه لا يمثل الا جزءا من نظام شامل متكامل للتعاون الاوربي، لذا اخترت استخدام اسم (المقررات المبنية على اساس الوحدات) لكونها كانت مالوفة. هذا الاسم الذي وافقت وزارة التعليم العالي عليه وقررت تطبيقه وتدريب العشرات من القيادات التعليمية، وحينها نشرت الوزارة لي كتيبا حوله، وشرعت بعض الجامعات حينئذ بتطبيقه الا انه في عهد الوزير اللاحق تم ايقاف العمل به.

في تلك الفترة، انشغلت بمحاولات نقل وتطبيع عملية بولونيا بما يتلاءم مع الجامعات العراقية. تمخض هذا العمل عن مشروع واسع اطلق عليه "نظام المقررات المبني على الوحدات". وبفضل جهود الدكتور عبد الرزاق وإيمانه بأهمية هذا المشروع تم اقراره من قبل هيئة الراي في الوزارة واقتراح تطبيقه كتجربة في اربعة جامعات. الغريب انني لم اطلق عليه تسمية نظام/ مسار بولونيا تخوفا من رفضه باعتباره نظاما غربيا لا يصلح للوضع الحالي في العراق. كم كنت مخطئا في ذلك، فبعد سنوات، اعيد فرضه تحت اسم "مسار بولونيا" من قبل الوزارة الحالية ومن دون اجراء تعديلات عدا نقله حرفيا من الصورة الاوربية بحيث افرغت النظام من جوانبه المهمة التي وضعتها لتكون ملائمة للبيئة العراقية.

قمت بكتابة كتيب وعدة مقالات تناولت النظام الجديد، وادرت ورش عمل متعددة لشرحه وتبسيطه للقيادات الاكاديمية. ومع ذلك، لم يحظ هذا النظام بفهم كاف من قبل الهيئات التدريسية او القيادات الادارية، حيث تنوعت الاراء بين مؤيد ومعارض. واستمر الصراع حول هذا النظام حتى بعد فرضه على الجامعات بصيغته الحالية من قبل ادارة للتعليم العالي الحالية، التي اضاعت فلسفته وجوهره الاساسيين.

بالطبع، كان من الضروري اتمام تجربة تقييم نظام "المقررات المبنية على الوحدات" ودراسة نتائجها بكل موضوعية، مع تسليط الضوء على الايجابيات والسلبيات، واخذ اراء الاساتذة والطلاب بشفافية وحرية، بدلا من فرض النظام دون استكمال التجارب السابقة.

تشير المؤشرات الراهنة الى ان فشل تطبيق "مسار بولونيا" لا يعود الى طبيعة او محتوى النظام نفسه (فهو نظام عصري يحسن جودة التعليم عبر تطبيق معايير عالمية وتصميم مناهج تركز على مخرجات تعلم مطلوبة لسوق العمل) بل يرجع الى حالة الفوضى التي تعاني منها الجامعات، وسوء الادارة الوزارية الحالية وجهلها بنظام بولونيا. وعدة اسباب اخرى من بينها كثرة العطل الرسمية والمحلية والدينية، وتأخر التحاق طلاب المرحلة الاولى لغاية الشهر الثاني عشر، واستمرار الاعتماد على التعامل الورقي التقليدي، وفقدان الادارة الذاتية، واهمال اهمية عوامل البيئة التعليمية، والتدخلات السياسية في قطاع التعليم، وعدم تطوير كفاءات الكوادر التعليمية والادارية، ووضع اهداف للنظام ليس من صلبه، وعدم تطبيقه بصورة صحيحة، وتدخل الوزارة في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، والغاء او تعديل اوامرها الادارية بشكل مفاجئ لا تتناسب مع جوهر ومتطلبات النظام، الى جانب عدد من المعوقات السياسية والاكاديمية والتربوية الاخرى.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

في المثقف اليوم