أقلام حرة

أقلام حرة

ما أقسى أن تحاصرك المرايا من كل جانب! مرآة تريك عظمة شاخصة تحدق في الزمن.. وأخرى تحولك إلى ظل يتلمس وجوده بين طيات البردي.. وبينهما تقف مصر الحائرة بين يقين الحجر، ووساوس الطين!

لقد صار "العبيد والفضائيون" صنعة فكرية رائجة في سوق التشكيك الحضاري. تغلف بالسينما، وتقدم في بودكاستات، كأنما التاريخ سيناريو يعاد كتابته بممحاة المنتصر.

تسألني: لماذا كل هذا الهوس بنفي العظمة المصرية؟ فأجيبك: لأن الأهرامات شاهد قتل على زيف أسطورة التفوق العرقي! بينما كان "بناة الأهرام" يوقعون أسماءهم على الجرانيت كـ "عمال أحرار" يأخذون الأجر والراحة.. كان العالم القديم يلهث وراءهم. ففي قرية "عمال الجيزة" وجدت عظام تثبت أنهم تلقوا علاجًا متقدمًا للكسور، بينما كان "مفكرو العبودية" اللاحقون يصلبون البشر على تلال آشور!

 لكن اللعبة الخفية.. هي تحويل المجد المصري إلى ساحة صراع هويات: مثل "الأفروسينتريك" الذين يريدون سرقة الضوء . وآخرون يبحثون عن فضائيين لأن عقولهم الصغيرة لا تحتمل حقيقة أن "الفلاح المصري" صانع المعجزات! وسط هذا الزحام المفتعل.. ننسى جوهر أن الحضارة وطن لا يورث بالدم، بل بالإرادة!

أما قصة زاهي حواس.. فهي فصل واحد من تراجيديا أكبر، فهو رجل واحد يدافع عن حجر شهد على حرية أجداده.. فيحاكم لأنه لم يقل: "بناة الأهرام عبيد!" وكأنما كلمة "حرية" في تاريخنا أصبح جريمة! والأمر الأعجب أن بعض بني جلدته انبروا يشهرون "سكاكين التشفي" كأن الهوية المصرية غنيمة يقتسمها المتحاربون!

في العمق.. نحن أمام محنتين: الأولى: أن أعداء الخارج يريدون هدم الأهرام معنوياً ليهزموا مصر الحاضرة. والثانية أن بعض أبناء الداخل صاروا "مقاولي هدم" مجاناً!

وليس غريباً أن تثير عظمة الأهرامات خيال البشر، لكن الغريب حقاً هو ذلك الإصرار على نزع الصفة الإنسانية عنها. فهل يعقل أن نصدق أن كائنات قادرة على عبور المجرات، جاءت إلى الأرض لتبني بالطرق البدائية نفسها التي كان يستخدمها المصريون؟

لنتأمل معاً تلك المطارق الحجرية التي عثر عليها في محاجر طرة، والتي لا تختلف كثيراً عن أدوات العصر الحجري. مقابر العمال في الجيزة، بما تحويه من بقايا بشرية تحمل علامات الإجهاد البدني، شاهدة على جهد بشري خالص. بردية مرمر التي تسجل بالتفصيل عملية نقل الحجارة، بتواضع السجلات الإدارية لا بزهو التقنيات الخارقة. أليست هذه الشواهد كافية لندرك أننا أمام إنجاز بشري بحت؟

الحضارة المصرية.. جسر بين القارات

أما أولئك الذين يحاولون اختطاف الحضارة المصرية ليجعلوها حكراً على إقليم أو عرق معين، فهم يغفلون حقيقة أساسية: لقد كانت مصر -وستبقى- ملتقى الحضارات. فالنقوش والتماثيل التي تركها المصريون لأنفسهم تظهرهم بملامح واضحة، لا هي أفريقية سوداء خالصة ولا آسيوية صرفة. كما أن الدراسات الحديثة تؤكد أن المصريين القدماء كانوا أقرب إلى شعوب الشرق الأدنى، مع ذلك التمازج الطبيعي الذي فرضه الموقع الجغرافي الفريد.

 شهادات من الماضي

لنستمع إلى ما يقوله لنا التاريخ بعيداً عن الضجيج: فهذه بردية تورين التي تسجل أسماء مائتي ملك قبل عصر الأسرات، تثبت أن المصريين كانوا يسجلون تاريخهم بدقة. وتلك هي مراكب الشمس المجمعة ببراعة من الأخشاب، تظهر مهارة صناعها في التعامل مع المواد المتاحة لهم. بينما المنحدرات الطينية في مدينة المنيا، التي تكشف عن هندسة عملية لا تحتاج إلى تفسيرات خارقة.

 دعوة للتأمل

ليس الهدف من هذا الحديث إنكار الإبداع الأفريقي أو التقليل من شأنه، ولا رفض حق الإنسان في التخيل العلمي. لكن الحضارة المصرية أكبر من أن تكون مجرد حلقة في صراع عرقي، أو مادة لقصص الخيال العلمي.

إنها إرث إنساني بكل ما تحمله الكلمة من معنى، صنعته أيادي بشرية عاشت على ضفاف هذا النيل العظيم، ورسمت بحبر الواقع لا بخرافة الأساطير. فبدلاً من محاولة اختطاف هذا المجد أو تفسيره تفسيرات واهية، أليس من الأجدى أن نقف أمامه باحترام، نتعلم من دروسه، ونستلهم قيمته الإنسانية الخالدة؟

لكن.. ما الجديد؟

ها هو عالم المصريات الأشهر ( زاهي حواس نفسه!) يجرؤ على قول كلمة الحق: "الأهرامات مصرية.. بناها أحرار".. فيحاصر بفخ "يوتيوبر" مدجج بجهل لامع.. وكأنه محاكمة لـ "جريرة" دفاعه عن هوية بلده!

وهنا المفارقة العجيبة: حتى خصومه المصريين.. انقضوا عليه كأنما انتظروا هذه الفرصة بفارغ الصبر! وكأن الهوية المصرية "كعكة" يقتسم لحمها عند أول سقطة!

يا أبناء مصر: إذا كنتم ستشهرون سكاكينكم في ظهر رجل – مهما اختلفتم معه – لأنه تجرأ وقال: إن الحضارة حضارتنا نحن .. فاعلموا أنكم تبيعون أرواحكم بثمن بخس في سوق "التفتيش عن العبيد"!

***

د. عبد السلام فاروق

 

الفكرة غريبة بل مجنونة، مفادها أن البشر الأرضي سيصنع بشرا يمكنه العيش في المريخ، وهذا الأمر ليس ببعيد، فأنابيب الإختبار تحولت إلى أرحام، والهندسة الجينية بلغت ذروتها، فالتصنيع البايولوجي يوازي التصنيع المادي التكنولوجي.

فالمخلوق يتبارى في ميادين الخلق والتصنيع المذهل الغريب!!

التصنيع البايولوجي في تقدم مضطرد، ويقدم لنا منتوجات ما كنا نتوقعها، أو تخطر على بال، فهل سمعتم بالرز المصنع واللحوم المصنعة بايولوجيا وغيرها؟

العالم يتغير بتسارع مضطرد، والتطور قفزات ووثبات شاسعة إلى الأمام، والنظر للوراء إستنزاف للوقت والطاقات.

صنعوا المواشي واستنسخوا البشر، وأظنهم سيتلاعبون بالحوامض الأمينية للإتيان بمخلوقات قادرة على إستعمار المريخ والكواكب الأخرى، بعد دراسة أحوالها البيئية وما فيها من عناصر تتفاعل معها مخلوقات مؤهلة بايولوجيا للتكيف مع ظروفها.

إنه عصر الحقائق أغرب من أي خيال!!

فهل كنتم تتصورون في القرن الماضي ما نحن عليه في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين؟!!

الدنيا في بعض الأماكن ناعور، وفي غيرها نهر متدفق الجريان، تياره عارم الأمواج.

أيامنا كالأمواج التي تطاردها أمواج، اليوم لا يشبه البارحة، ويأتينا بغدٍ جديد.

فهل ستتحول أجرام مجموعتنا الشمسية إلى مستعمرات أرضية؟!!

إن القرن الحادي والعشرين يختلف عن سالف القرون، وفيه ولادات لا سابق لها ولا مثيل.

وهل أن أفكار الفضاء تتجسد في دنيا البشر؟!!

صواريخٌ من الأفكار طارتْ

إلى حجب بآفاق توارتْ

مدارتٌ بها الأحلام تحيا

مجسدةً بأحياءٍ تبارتْ

أفِقْ ذهبت رؤانا نحو خلق

ومن نبعٍ إلى سُبلٍ تهادتْ

***

د. صادق السامرائي

لا شيء يضاهي سحر البدايات في ظن من يظنون أن الوصول إليها نهاية تطوى فيها الأسئلة، وتحل فيها الألغاز. فالحياة المعرفية أشبه ما تكون برحلة عبر محطات لا تنتهي، كل محطة فيها تشبه جواز سفر مفتوحا على عوالم جديدة، تطلب من صاحبه تأشيرات دخول خاصة، وامتحانات وجودية لا تشبه امتحانات الأمس. وهكذا، فإن الحلم بالدكتوراه ليس سوى البوابة الأولى التي تعلن انتهاء مرحلة الطفولة الفكرية، وبدء مرحلة أخرى من الأسئلة الأكثر عمقا، والأجوبة الأكثر تعقيدا. 

التدريس ليس مهنة تختزل في نقل المعلومات من كتاب إلى أذهان، بل هو فن تحويل الجمل إلى نبضات حية، والمعادلات إلى قصص تلامس الوعي. إنه جواز سفر مؤقت، يجدد صلاحيته كلما أثبت صاحبه أنه قادر على خلق حوار بين الموروث والمعاصر، بين الثابت والمتحول. فليس كل من حمل شهادة الدكتوراه قادرا على أن يكون جسرا بين العقل والقلب، أو أن يحول قاعة المحاضرات إلى فضاء للتساؤل لا التلقين. هنا، يصير التجديد شرطا للاستمرار: فكل جيل جديد من الطلبة هو تأشيرة جديدة، تفرض على الأستاذ أن يعيد اكتشاف لغته، وأن ينقيها من غبار التكرار. 

ممالك الإبداع 

أما التأليف، فهو جواز سفر بلون مختلف. لا يمنح إلا لمن تجاوز مرحلة النقل إلى مرحلة الخلق، حين يصير العقل مختبرا لتوليد الأفكار، لا مجرد مستودع لتكديسها. هنا، لا مكان للخوف من النقد أو الخوف من السؤال. فالكلمات التي نخطها ليست حروفا على ورق، بل هي أشبه ببصمات روح تواجه العالم بجرأة. إنها رحلة إلى مملكة "المعرفة الحمراء"، حيث لا يدخلها إلا من امتلك الشجاعة ليكون مالكا لخطابه، لا تابعا لخطابات الآخرين. لكن هذا الجواز الأحمر لا يعفيك من تذكرة العودة: فكل كتاب جديد هو مغامرة وجودية تعيدك إلى نقطة الصفر، كأنك تولد من جديد. 

ثم تأتي الدولة الأكبر: إدارة شئون الفكر والعمل. هنا، لا تكفي الشهادات ولا الكتب، بل يبدأ امتحان القدرة على تحويل النظرية إلى ممارسة، والفكرة إلى مشروع. هذه دولة "الرؤية" التي لا يحكمها إلا من جمع بين حكمة العالم ودهاء القائد. إنها فن المزاوجة بين العلم والواقع، حيث تصاغ الأفكار بلغة التنفيذ، ويمسي البحث النظري وقودا لحركة المجتمع. لكن هذا الجواز هو الأصعب تجديدا، ففيه تختبر قدرتك على أن تكون جسرا بين برج العاج وواقع التراب. 

رحلة لا تنتهي 

لكن، ليس الهدف من الرحلة المعرفية أن تصل إلى قمة ما، بل أن تكتشف أن كل قمة تجاورها أودية لم تطأها قدم بعد. فالدكتوراه ليست نهاية المطاف، بل إعلان عن استعدادك لخوض غمار الأسئلة الأكبر. قد تتوقف عند محطة ما، فتنطفئ شعلتك، أو قد تواصل السير، فإدراك أن جوازات السفر لا قيمة لها إلا إذا حولتها إلى سفن تبحر بك نحو عوالم لم تخلق بعد. فهل أنت مستعد لأن تكون مسافرا لا حدود لرحلته؟ 

لا تكتمل الرحلة المعرفية إلا حين تتحول الأسئلة إلى بوابات جديدة، والتحديات إلى وقود يعيد تشكيل الخريطة الداخلية للمسافر. فما يظنه البعض نهاية ليس سوى استراحة قصيرة تسبق مراجعة جوازات السفر، وفحص تأشيرات الدخول إلى عوالم أكثر التباسا. فالعقل الذي يتوقف عند شهادة الدكتوراه كغاية قصوى، يشبه من يقرأ رواية ثم يغلقها قبل الفصل الأخير، متوهما أنه أدرك كل الأسرار. لكن الحقيقة أن المعرفة لا تعطيك مفاتيحها إلا إذا وافقت على أن تكون ضيفا دائما في بلادها، لا مالكا لأراضيها. 

لا يكفي أن تحمل جواز الدكتوراه لتدخل مملكة التخصص، فالتعمق في مجال ما هو إعلان عن رغبتك في حفر بئر حتى تصل إلى المياه الجوفية. لكن المفارقة هنا أنه كلما تعمقت أكثر، اكتشفت أن التخصص ليس سورا يمنعك من رؤية الحقول المجاورة، بل نافذة تطل على بحور أخرى تنتظر من يسبح فيها. هنا، تتحول التأشيرة من "تخصص ضيق" إلى "تخصص مرن"، حيث تبدأ في نسج خيوط بين اختصاصك واختصاصات تبدو بعيدة، فتدرك أن العوالم المعرفية تشبه الجزر المترابطة تحت سطح البحر، حتى لو بدت منفصلة لأول الناظرين. 

أوثان فكرية 

أقسى التأشيرات تلك التي تفرضها الأوثان التي صنعناها بأنفسنا: مصطلحات مقدسة، نظريات مغلقة، أسماء كبرى يتحول إنجازها إلى سجن لخيال من يتبعها. النقد هنا ليس ترفا فكريا، بل شرط أساسي لاستمرار صلاحية جواز السفر. لكن نقد الآخرين سهل مقارنة بنقد الذات، فالأخير يشبه عملية تفكيك ساعة وأنت ترتديها. قد تكتشف أن بعض ما تعتقده يقينا ليس سوى صدى لأصوات من سبقوك، أو أن إجاباتك الجاهزة صارت أسئلة معلقة في ظل تحولات العصر. 

ما لا يتحدث عنه أحد بوضوح هو أن جوازات السفر المعرفية لا تمنح إلا لمن دفع ثمن تأشيرة الفشل. فالفشل في البحث، أو في إقناع المجتمع العلمي بأفكارك، أو حتى في إدارة مشروع أكاديمي، ليس عيبا يخفي صاحبه، بل شهادة تثبت أنك تجرأت على السير في طرق غير مطروقة. الفشل هنا ليس نقيض النجاح، بل هو الوجه الآخر له، كالليل والنهار في قطبي الأرض. والسؤال الأهم: هل تمتلك الشجاعة لتضع تأشيرة الفشل في جواز سفرك، وتعتبرها دليلا على أنك ما زلت حيا في رحلة البحث؟ 

تأشيرة عودة 

أعقد المراحل ليست تلك التي تغادر فيها ميناء المعرفة الأول، بل التي تعود إليها بعد سنوات من الإبحار، حاملا معك أسئلة لم تكن في حقيبتك حين بدأت. العودة إلى النصوص التأسيسية، أو إلى نظريات الماضي، ليست نكوصا، بل محاولة لقراءتها بلغة الحاضر، وكأنك تعيد اكتشاف طفولتك بعيون الرجولة. هنا، تكتشف أن ما تعلمته لم يكن خطأ، لكن الطريقة التي فهمته بها تحتاج إلى مراجعة. كأن المعرفة تشبه النهر الذي يعبر المدينة ذاتها كل عام، لكن ماءه ليس هو الماء نفسه. 

في النهاية، المؤسسات الأكاديمية ليست هي الجهة الوحيدة التي تجدد صلاحية جواز سفرك المعرفي، بل أنت المسئول الأول عن تحديد وجهتك القادمة. قد تمنحك الجامعة لقب "أستاذ متمرس"، أو ترفع كتبك اسمك عاليا، لكن البقاء في الرحلة يتطلب شيئا من عصيان التوقعات، وشيئا من الولاء للأسئلة التي لا تريد أن تجيب. فهل نستحق أن نسمى "حملة جوازات السفر" إذا كنا نسير على خطى من سبقونا، دون أن نترك أثرا يضيء للقادمين؟ أم أن الجواز الحقيقي هو الذي نكتبه بأخطائنا، قبل صوابنا، كي لا ننسى أننا لسنا أوصياء على المعرفة، بل مجرد مسافرين في قطارها اللامتناهي؟

***

د. عبد السلام فاروق

يشاركون في صناعة المصيبة ويطبلون لها، وعندما يتبين الخيط الأبيض من الأسود يسارعون بالندم ولوم أنفسهم، وكأنهم يعبرون عن سلوكيات شهيد الغضب، التي يستخدمها الطغاة فالسيف دوما يسبق العذل.

والندم شعور نفسي يظهر عندما يدرك الإنسان أنه إتخذ قرارا خاطئا أو تصرف بطريقة لا ترضيه لاحقا، ويرتبط بالحزن والخيبة، وجلد الذات والقلق والإكتئاب.

وما أكثر الذين إرتكبوا الخطايا في مجتمعاتنا وتسربلوا بالندم فيما بعد، وخصوصا المدعوّن بالساسة، والمتمسكون بكراسي السلطة، فأكثرهم يفترسهم الندم، منذ تأسيس دول الأمة وحتى اليوم.

والعلة الأساسية في إرتكاب السلوكيات المؤدية للندم، هو نزق الفردية، فلا توجد قرارات منطلقة من تفاعل عقول وطنية، بل هي الأنانية ونكران الوطن والمواطنين، والتحدث بلغة أنا أدري والجميع يجهلون، ومَن في الكرسي أعرف من الذين حوله وبعيدين عنه.

الدول تديرها مؤسسات ومراكز بحوث وعقول متفاعلة، فالسابق يتواصل مع اللاحق، ويبدي رأيه ويسكب ما في أوعية خبرته، فالغاية واحدة خلاصتها عز الوطن والمواطنين، فالمناصب تتبدل والمتمترسون في الكراسي يرحلون، ويبقى الوطن، ويتواكب المواطنون.

قادة الدول المتقدمة متفائلون وفرحون وسعداء بما أنجزوه في فترة تسنمهم للمنصب، وعندنا يندمون ويحزنون ويتباكون على عدم فعلهم كذا وكذا، أو لفعلهم كذا وكذا، فالفرد مهما توهم القوة والمعرفة فهو قاصر وعاجز عن إتخاذ القرار الصائب المفيد.

الدول تقودها جمهرة عقول، والجالسون على الكراسي لسان حالها وحسب.

فإلى متى سيبقى سُراتنا يتوشحون عباءات الندم وينفثون الحسرات؟!!

نادمون، حائرون، عاجزون، في ظلامٍ وضلال يعمهون، كلما حان قرار ساد فردٌ لا يهون، وعلى الآفاق دمع ودماء وظنون، أوقدوا الشر بشرٍ وجنون، إنهم قادوا وبادوا وتواروا في سجون، سحلوهم، علقوهم، قتلوهم، فالخطايا يقظاتٌ وتراهم يجحدون!!

***

د. صادق السامرائي

بكل سخرية مريرة وابتسامة حزينة على وجوهنا المحمّلة بالبيانات، نفتح هذا المقال بسؤال قديم جديد: ما هي المشاعر؟ لا، لسنا في عيادة فرويد، ولا في رواية دوستويفسكي نغوص في أعماق النفس البشرية، بل نحن في حضرة وزارة داخلية المشاعر، تلك الحكومة الظليلة التي لا تنتخب، ولا تُسقط، والتي تحكمنا بأزرار الهواتف الذكية وخوارزميات الإعلانات الموجهة.

أهلاً بكم في جمهورية "الاستلاب العاطفي"، حيث يتم تسليع الحزن، وتعبئة القلق في قناني إعلانية بحجم شاشة هاتف. لا حاجة لدكتاتور، فالمراقبة صارت طوعية. نحن نمنح بياناتنا كما كان الفلاح في العصور الإقطاعية يمنح المحصول لعمدة القرية. الفارق الوحيد أن العمدة هذه المرة يدعى: "ذكاء اصطناعي مدعوم بالإعلانات".

نحن في زمن "رأسمالية المراقبة"، حيث يُراقب كل نبض عاطفي فينا، لا ليُعالج، بل ليُسوّق. فالخوف من الوحدة؟ يساوي إعلان لتطبيق مواعدة. الشعور بالفراغ؟ إعلان لمنتجع يوغا في بالي. الحزن؟ إعلان لشوكولاتة داكنة 90% تقاوم الاكتئاب – أو هكذا يقول "الإنفلونسر".

يقول ألبير كامو: "أسوأ أنواع العبودية هي تلك التي تُمارس باسم الحرية". وهنا نحن نمارس "حرية الاختيار" في بحر من اللاخيارات، نعتقد أننا نختار، فيما في الحقيقة نُرغَم. الحُلم أصبح حُزمة اشتراك شهري، والرغبة وسمًا قابلًا للشراء.

أصبحنا كائنات مشوشة، مشدودة بين نداءات "اخرج من منطقة الراحة" وإعلانات "ابقَ على الأريكة مع البث التلقائي". إنهم يخبروننا أن "الراحة فخ"، بينما يبيعون لنا أسرّة ذكية ومقاعد تدليك ذكية وثلاجات ذكية لأننا، على ما يبدو، لم نعد نملك ذكاءً كافيًا.

إنها لعبة قاسية، لعبة تُرينا الحزن كعيب قابل للإصلاح بتحديث نظام التشغيل. لكن ما لا يقولونه هو أن هذه التحديثات تأتي دائمًا محمّلة بالمزيد من التبعية، المزيد من الاستسلام، المزيد من "الصمت الطوعي"، كما سماه هربرت ماركوز.

في زمن السرعة، حيث كل شيء يجب أن يكون فورياً، حتى الإشباع العاطفي، أصبحت الرغبة مزحة كئيبة. كما يقول جيمس ويليامز: "الانحرافات قصيرة المدى لا تمنعنا فقط من فعل ما نريد، بل تمنعنا من الرغبة في ما نريد أن نرغب فيه".

كل نقرة على الشاشة تُعمق أزمة الرغبة لدينا. كل إشعار هو تذكير بأننا لم نعد نملك حرية الانتباه. لقد تحولنا من كائنات راغبة إلى كائنات "مُستهدَفة"، ومن ذوات واعية إلى "شخصيات مستخدم" في سجل بيانات كبير يديره مهندس لم يرَ وجهك يوماً، لكنه يعرف متى ستبكي على الأرجح.

في هذا المسرح الرقمي الكبير، قُتلت العلوم الإنسانية تحت لافتة "التعليم الوظيفي"، وتم استبدال سؤال "لماذا؟" بسؤال "كم؟" و"بأي سرعة؟". هكذا، نُربّى لا لنفكر، بل لنستهلك. المعرفة تحوّلت إلى مجرد وسيلة لزيادة الدخل، لا لتحرير الذات.

العلوم الإنسانية تنقلنا من أن نكون عبيدًا إلى مشرّعين لحريتنا. ولكن في مدارس اليوم، يبدو أن الفلسفة تُدرس بنفس حماسة تدريس قواعد المرور، وكأن الهدف الوحيد من العقل هو أن لا نُدهس فكريًا.

تمت سرقة الهشاشة وتحويلها إلى أداة تطبيع، فبدلاً من أن تُصبح علامة على الإنسانية، أصبحت شماعة للانهزام: "هذا هو العالم"، "هكذا تسير الأمور". لم نعد نطالب، بل نتنفس الصعداء لأن المأساة على الأقل رقمية ويمكن إغلاقها بزر.

إذًا، هل هناك مخرج؟ نعم، ولكنه لا يُباع في متجر التطبيقات. إنه يبدأ بالسؤال: "هل أنا حقاً أريد ما أريده؟ أم أنني مجرد صدى لرغبات صُمّمت في وادي السيليكون؟" يبدأ بالخروج من حلقة "الرغبة اللحظية"، وإعادة تعريف معنى السعادة، لا على شكل نقاط في تطبيق، بل كعلاقة بين الذات والعالم.

تقول حنة أرندت: "التفكير هو الحديث مع الذات". فلنعد للحديث. لنعد للقراءة، للتساؤل، للكتابة، للجلوس في صمت دون إشعار، للنظر في وجه الآخر دون خوف من فقدان شبكة الإنترنت. فلنعد للبطء. نعم، البطء، هذا الفعل الثوري في زمن الهوس الإنتاجي.

ربما لا نملك رفاهية الخيار بعد. فبينما تبيعنا حكومة المشاعر "الرفاهية العاطفية" على أقساط، وتبيعنا الحزن المغلف بموسيقى رومانسية وألوان الباستيل، لا نملك سوى أن نسخر. لأن السخرية، كما يقول ميلان كونديرا، هي درع الإنسان الأخير ضد الابتذال.

وهكذا، نكتب هذه الكلمات لا لنقنع أحداً، بل لنمارس طقس المقاومة الأخير: أن نفكر، أن نضحك، أن نحزن بكرامة. لا لأننا نريد أن نكون سعداء، بل لأننا نريد أن نكون... أحياء.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

تابعت مانشره الشاعر الأستاذ ناهض الخياط حول نقده لما ورد بكتاب السيد ناجح المعموري المعنون (قبعة موفق محمد) وفي صفحة مركز النور وما همني هو ما يخص قصيدة (جسر الحلة) للشاعر المبدع الحلي موفق محمد والتي تأثرت بما حاء فيها من مفردات رمزية وصور مرسومة بالكلمات أدخل فيها العامية بشكل محبب وجميل ومن دون أن يضعف أو يشوه الوزن أوالبحور التي يحتاجها الشعر الحر أضافة للموسيقى اللفضية التي يتمتع بها الشاعر موفق والذي كان موفقا كل التوفيق من أستخدامه الرمزية وتحويل المكون الجامد (الجسر) الى كائن مثلوجي يحس ويشعر بما حوله من الكائنات

لم التق بالشاعر ولم يسعفني الحظ والوقت لأبدي له وجهة نظري حول أسلوبه المتميز باستخدام الرمز لغرض تحريك الساكن من الأشياء والتسميات الى رؤى تأخذ مكانها في الفراغ والخيال الممتع وأن ما شدني اليه هوحين مشاهدتي له على شاشة التلفاز وهو يلقي قصيدته جسر الحلة بصوته (السوبر سونك) والقائه (السبرانو)

وما تمكنت عليه في وقتها أن أنظم قصيدة محاكاة لقصيدته جسر الحلة وبعنوان الجسر عبرناه سوية نشرت في جريدة 14 تموز ومن ثم قام مركز النور مشكورا بنشرها.

أن ما يهمني هو ما ذكره الأستاذ الشاعر ناهض الخياط من نقد بخصوص ما جاء بكتاب الأستاذ ناجح المعموري المشار اليه وما يتعلق بشعر موفق محمد مبينا رأيه بأن ما أورده الناقد المعموري حول شعر موفق محمد لايخضع للمنهج الأسطوري  بشكل مطلق مفسرا بما أوحى له منهجه الأسطوري والفرويدي معا حيث أخضع النهر الى مجال الأسطورة الأزلية المتوارثة مع عقائدها وطقوسها ليس غير كما لم يسلم من رؤيته النقدية جسر الحلة بقوله لم يكن  الجسر في النصيين شكلا معماريا وسيطا لعبور المشاة بل هو وسيط رمزي ينطوي على معنى اجتماعي حضاري ويرد السيد ناهض على الناقد بنقده للنقد بقوله أن الجسر بناء معماري تقتضيه حركة الناس اليومية والحياتية في أي زمان ويتمم قوله على أية حال فأن اختلافنا مع الناقد لايقلل من أطاريحه كونها أجتراحا جريئا بين ما اعتدنا عليه من مدارس النقد في اتجاهها واحتفاؤها بمنجز شاعر بارز له أهميته في مسيرة الشعر الحديث .

أن ما يهم من ذكره بما يتعلق بموضوعتي هو أن أوضح بعض الأمور التي دفعتني للكتابه في هذا المجال واود أن ابين للقاريء الكريم بأنني لست ضليعا في مجال النقد ولادخل لموضوعي بهذا الشأن وباعتقادي بأن من يخوض بأمر  ليس من أختصاصه كمن يريد اصطياد السمك في المياه العكرة ولايسعني ألا أن أقدم أعتذاري للناقد الأستاذ ناجح المعموري لأنني لم أطلع على كتابه قبعة موفق محمد وبالمثل للشاعر ناهض الخياط وأيفاء لسؤاله حول قصيدتي الجسر عبرناه سوية وهل هي خاضعة للأسلوب الفرويدي الرمزي أقول وحسب معرفتي المتواضعة ما يلي

1 – يرتبط الرمز عند سيجموند فرويد بالطبيعة الأنساتية فهو في مفهومه عبارة عن أشارات سابقة لوجوده وهي أفعال أو أيماءات قابلة للأدراك والفهم والتأويل في استدلال عما يشير اليه الرمز وان الكثير من أفعال الأنسان بتصوره لايمكن تفسيرها ذلك لأن الحلم هو تعبير رمزي عن رغبات لاشعورية يصعب تحقيقها في الواقع وتكمن نظرته الفكرية بالكشف عن الدلالة أي دلالة الظواهر النفسية ومحاولته فك اللغة الرمزية بين الدال والمدلول وبذلك أستطاع اكتشاف لغة جديدة هي لغة اللاوعي. والحلم عنده واقعة نفسيه ينبغي تجديدها وكيفية أرتباطها بالفرد حيث تتحول الواقعة المادية عنده الى واقعة نفسية.

وبرأي أن تفسير هذه الحالة يخضع لحالة الكائن والمكون، الكائن الحي الذي يتنفس والمكون المنتج المادي. والرمز يركز على المنتوج الدلالي لاعلى جوهر الظاهرة وما يميزرمز الدلالة في المنتوج ليس مادتها وخصائصها في الوجود بل المنبثقة عنها من رمز ودلالات والرمز يمكن أن يتسرب الينا في غفلة منا ويتحول الى كلمات وأشياء وطقوس وحركات وإيماءات تمنح المتلقي صور تخرجها من وضيفتها المادية واستعمالاتها الى رموز لحالات انسانية ويمكننا أن نتعرف على المفاهيم المتناقضة للدلالة على الأشياء بما تصوره اللغة أي لغة ومفرداتها المتعارف عليها والتي كثيرا ما تكون عاجزة عن التعبير عن المشاعر الكامنة في اللاشعور وقد تتخلف وتختفي تلك المشاعر خلف اللغة عندما لاتجد لها طريقا في المفردة اللغوية فلا توجد علاقة كاملة بين اللسان وما ينتجه من أصوات وبين المدلولات والتعبير عما يختزنه العقل من مكنونات مثلا كلمة كلب في اللغة العربية لها مدلول بحروفها المركبة وهي تعني حيوان وباستخدام هذه المفردة كرمز تتغير الدلالة وتعني أمرا آخر كما ورد ببيت الشعر الذي جاء على لسان علي بن الجهم وهو يمتدح الخليفة العباسي المتوكل بسليقته البدوية قائلا له

أنت كلكلب في حفاظك للود    

 وكالتيس في قراع الخطوب

*

وكالدلو لاعد منك دلوا   

من كبار الدلال كثير الذنوب

وقول الآخر وهو يصف نفسه بالحمار

بل رأتني أخت جرينانا     إذ أنا في الدار كالحمار

ومنه يظهر الفرق بين دالة المشبه والمشبه به وأوجه الشبه والأختلاف بينهما

ففي البيت الآول يرمز أبن الجهل باستخدامه لمفردة الكلب الى الوفاء وفي البيت الثاني شبه القائل نفسه بالحمار وهو يرمز للقوة والصبر

وفيما يلي بعض ألأستخدامات الرمزية للمفردة والتي تعبر عن مفهوم يختلف عن التصور المتداول:

المتنبي –واحتمال الآذى ورؤية جانيه         غذاء تضوى به الآجسام

أستخدم كلمة الغذاء بعكس وضيفتها المادية وليرمز بها السم الذي تضوى به الأجسام

وابو العلاء المعري- ليلتي عروس من الزنج    في جيدها قلائد من جمان

وتظهر صورة اللاوعي لديه جلية وهو الأعمى الذي لايرىالأشياء بل يتصورها فأصبح الليل عنده انسانة حية هي العروس وأنا له أن يدرك لون الجمان وهو أعمى؟

عبد الوهاب البياتي –يرمز الى حالة الجنود في الخنادق في قصيدة الملجأ العشرون

أماه ما زلنا بخير والقمل والموتى يخصون الأقارب بالسلام فاستخدم القمل والموتى كعناصر ترمز لحالة التردي في خنادق القتال

شاكر بدر السياب – في أنشودة المطر واسمع النخيل يشرب المطر كيف تسنى للسياب أن يسمع النخيل وهي تشرب المطر بغير الرمزيه والآيماءة الشاعرية

سعدي يوسف – توهمت أن نخلة السماوة نخل السماوات بتوهمه يلجأ في رمزية مرهفة فيعمل من أجل أظهار اللا شعور من جلباب اللغة فهل هناك ما هو أروع من ذلك في أستخدام المتصور الرمز؟

الشاعر التركي ناظم حكمت- في سجنه المطل على الدردنيل يريد أن يهدي لشعبه هدية فيستخدم القلب كرمز للهدية فيقول:

قلبي مياه البحر تحمله تفاحة حمرا كتذكار

أما الشاعر الفرنسي المناضل الشيوعي أركون فيلجأ لوسع السماء رمزا لوسع عيون حبيبته ايلزا فيقول: أن السماء تتسع للنجوم لكنها لاتتسع لعيون ايلزا.

أن الرمزية لم تقتصر على الشعر فقط بل شملت القصة كقصص الف ليلة وليله والسندباد البحري والبري وبساط الريح وكليلة ودمنه على لسان الثعلبتين لفيلسوف الهند بيدبا وترجمة ابن المقفع والأدب الا معقول لبكت مثلا ورواية ياطالع الشجرة لتوفيق الحكيم وماتظمنته من اهزوجة شعبية (يا طالع الشجرة هات لي بقرة تحلب وتنطيني بالملعقة الصيني) كما شمل الرمز الأمثال والحكم كالمثل المعروف(تمخض الجبل فولد فأرا)وبالأهازيج الشعبية(مطرت الدنيه عصيدة  راح للكرمه يصيده) وياحوته يامنحوته  هدي كمرنه العالي) وفي مجال الفن التشكيلي المدرسة الرمزية والسريالية والتجريدية  وحتى بعض من المدرسة الكلاسيكية والرومانسية وكذلك ما وأجدته السينما من مادة تصلح لتحريك الخيال وبعيدة عن الواقع المعتاش كأفلام الخيال العلمي وأفلام الكارتون توم اند جيري وآخرها الأسفنجة المتحركة التي الهبت حماس الآطفال في العالم أجمع وهناك مجالات أخرى استخدم فيها الرمز كقصص الأطفال في الكتب المدرسية وحكايات الجدات القديمة عن السعلوة  والطنطل وتجاوزها الى أساليب الدجالين والمنجمين وفتاحين الفال وقراءة الفنجان وغيرها من امور الحياة الآنسانية والتي التجأ لها الأنسان منذ الخليقة ليؤسس عليها عالما خاصا بعيدا عن الواقع يخضع لعوامل عديدة منها نفسية وأبداعية ذات مدلولات ومعاني راقية وان ما قام به الأنسان من مثل هذا السلوك ومنذ القدم قد سبق التفسيرات والنظريات الفلسفية والتي ظهرت في القرون المتقدمة وارست دعائم للسلوك البشري وطريقة تفكيره ونظرته الذاتية للحياة والآشياء المحيطة به

2- الرمزية في قصيدة جسر الحلة لموفق محمد ومحاكاتها الجسر عبرناه سوية

عند قراءتي لمقالة الشاعر ناهض الخياط المتظمنة مناقشة ماجاء بكتاب الناقد الأستاذ ناجح المعموري (قبعة موفق محمد) وتعرضه لقصيدة جسر الحلة لموفق محمد ومن ضمن ما أورده من رأي حول الشاعر وأسلوب شعره وبما أنني قد أستمعت للشاعر وهو يقرأ قصيدته جسر الحلة أعجبني ما ورد فيها من رمزية  واستعارات لفضية احتوت على مثلوجيا شعبية تتداولها الأمهات لتنويمة الأطفال كقول أمه وهي تحاول أن تنيم النهر(دللول يا النهر يبني دللول) وجسر الحلة يحلق لحيته رفقا بالصبية المتعلقين فيها وأسمع أنينه وهو يرى الجنود العابرين الى الحروب والجسر طالت لحيته وابيضت فتعلق فيها الصبايا وغيرها من الصور التي تمكن فيها الشاعر موفق ان ينفخ الروح بالجسر ويجعل منه كائن حي يشعر ويتنفس ولم تقتصر صوره على الرمزية فقد تعدتها لتشمل كل ما يتعلق (بالملوديا الشعبية والميلو دراما والجيو بولتيكيا السياسية والمكانية) انها محاكاة شاعرية مرهفة.

لقد بينت للأستاذ ناهض الخياط بأنني كتبت قصيدة مقاربة لقصيدة الشاعر موفق محمد وطلبت أن يبدي رأيه فيها وكان جوابه هل أن قصيدتك تخضع للمنهج الرمزي أيضا؟ ولبيان ما دفعني لكتابة القصيدة والكتابه عن المنهجين اورد بعض المقتطفات من قصيدة الجسر عبرناه سوية مع شرح موجز لمقاطعها واتمنى من النقاد أن يبدو رأيهم في القصيدة الكاملة والمنشورة بمركز النوروبالملف الخاص باسمي وسأكون شاكرا وممتنا لكل اسهام يدفع نحو الأحسن والأرقى درجات في سلم الثقافة والمعرفة.

مقتطفات من الجسر عبرناه سوية:

يفتل شاربه الفولاذي   يتلمس لحيته السوداء

يختلس النظر الى ماتحت نفانيف الصبايا

يغمض عينا ويفتح عينا أخرى يتمتم في المساء

هذا أحمر وذاك أخضر والآخر نوماي أصفر

الجسر هنا تحول الى مراهق يمكن ان نعتبر تصرفه يخضع لتفسير فرويد لغرائز الأنسان الجنسية في بعض التصرفات ومنها ما اتسمت به تصرفات الجسر الرمز

أيها الذي استلقى على قفاه أرهقه انتظار

وفي (توالي العمر) يشده الحنين ويستعيد

أهزوجة الآطفال (كوكوختي كوكوختي وين أختي بل الحله)

هنا تدخل الميلوديا الشعبية لتحرك مشاعر الجسر ومنه المتلقي

شاخ الجسر فما عاد صبيا يتدلع

لايهتم بهندامه ولايتلمع طالت لحيته وابيضت

الجسر الذي تحول الى كائن حي فهو هنا مثله كمثل كل الأحياء يكبر ويهرم

(عيني عليك باردة) لم تغب عنك شاردة أو واردة

تستذكر بيقضتك الدائمة

الذاهبين الى المحارق والحروب

والعائدين بلا رؤوس

الصامدين (بقطار الموت)

السجناء بسجن الحلة   ينشدون لمظفر النواب

كي يحث الخطى في الهروب

وهنا تتحرك الميلو دراما للأحداث التي مرت على الجسر فينقلها بدوره الى القاريء والمتلقي

أمك يا موفق تريد للجسر أن تنيمه

(دللول يا الجسر يابني دللول)

والجسر يقضان لاينام   أنا له أن ينام

فكلما مرت على هيكله الهمر

تضج كل لوحة بجسمه   يسمع أنينه النهر

هذه محاكاة لما عرضه موفق في قصيدته حيث جعل أمه تهدهد النهر كي ينام ولما كان الأمر يتعلق بالجسر فرأيت من المناسب أن أجعل أمه تهدهد للجسرأيضا الذي لم ينم منذ أمد بعيد ولكن الجسر يأبى أن ينام وينطلق صائحا

ياناس يا سامعين: يا ولاد الحرام أريد أن أنام.

وختاما لقد توفق موفق بشاعريته المرهفة ورمزيته المحببة أن يجعل من جسر الحلة كائن حي وهل تمكنت من أيصال فكرتي بشكل مقبول والأمر متروك للقاريء الكريم.

وختاما هذه مرثية بحق شاعرنا الراحل موفق محمد عسى وأن أقدم جزء ولو يسيرا بحقه:

يا أيها الربان ويا حادينا: من سيأخذ في الركب أيدينا؟ لم أخذت معك كل أحزان العالم؟ أحزان الثكالى والفقراء والمحرومين، لم تبق لنا حزنا يليق في رحيلك الطويل، ولازال صوتك الجهوري يسبح في نهر الحله، يحلق فوق الجسر والمدينة، بكيناك في خشوع من غير دموع! لقد جفت مآقينا منذ حين، فنم في رقادك الأبدي وستبقى ذكراك منارا للطيبين.

***

لطفي شفيق سعيد

.....................

(تنويه: المقالة تم نشرها في حينها في مواقع أخرى وأعيد نشرها بمناسبة رحيل الشاعر موفق محمد).

أمتنا تعود لتسنم دورها الحضاري والإنساني، وهي في مسيرتها الساعية لبلوغ ذلك المرام، فما فيها يؤكد قدراتها وحاجة الدنيا للتعبير عن جزهر كينونتها وما عندها من أنوار روحية وقيمة وأخلاقية تحافظ على توازن الوجود الحي فوق التراب.

وما تمر به الأمة مخاض عسير لولادات أصيلة ذات قيمة تعبيرية متميزة عن المكنونات الفياضة الفاعلة فيها والتي تتوق إليها البشرية، فالصورة الأرضية الواعية السامية لن تتحقق بغياب أمتنا، وإبتعادها عن تيار المسيرة المعاصرة.

ولهذا فهي تتقدم نحو مجرى الحياة بإمكانيات متجددة ومتنامية، وقد بدأت العديد من دولها تتفاعل مع نداء ضرورة وجودها وتفاعلها مع الواقع الأرضي، فلا يجوز لأمة بهذه الموااصفات أن تكون قاعدة محسورة، وتتوطن التل.

وما أصابها من التداعيات والإنكسارات لن يفت بعضدها، لأنها ذات مطاوعة عالية وطاقات متنامية، وكينونات متجذرة في ذاتها ومؤسسة لموضوعها الحضاري المتكامل المتجدد عبر العصور.

فالأمة ناهضة وتتحرك بقامة مستقيمة وخطوات ثابتة متوثبة، وتتخمر في بودقات معاناتها أجيال مستنيرة مثقفة واعية أدركت قيمتها ودورها وما عليها أن تقوم به وتؤكده في تفاعلاتها اللازمة للتعبير عن جوهر أمة سامقة الإبداع وا لعطاء.

قد يرى البعض أن ما تقدم نوع من التفاؤل المفرط، لكن الوعي السليم لحقيقة الأمة وما فيها وما قدمته للإنسانية يؤكد أننا أمضينا أكثر من قرن نناهضها ونعتدي عليها، وعلينا أن نرعوي ونستعيد رشدنا، وننتمي إليها ونكون بها وفيها.

فهل لنا أن نسترجع ذاتنا المفقودة؟!!

جوهرٌ يبقى وأمٌّ إنْ تراختْ

سوفَ تحيا مثلما كانتْ وجادتْ

إنّها أمٌ بديعٌ منطواها

بعلومٍ ورسالٍ إستنارتْ

أمّةٌ تكبو ويخبو مرتقاها

وبها سرٌّ عجيبٌ فاستفاقتْ

***

د. صادق السامرائي

 

في نوع من الرصد التربوي الساخر لهموم الأطفال داخل الأسر والمدارس، كتب الأديب التركي عزيز نيسن روايته "أطفال آخر زمن"، معتمدا في قالب السرد لوقائعها على رسائل متبادلة بين طفلين: أحمد تارباري وزينب يالكر.

يعرض نيسن في عمله عددا من العيوب والنقائص التي تؤثر حتما على الحياة الأسرية، وتسيء لعالم الأطفال. جُلها مرتبط بغياب فضيلة الإنصات، وتحميل الطفولة الهشة وزر هموم الكبار وآمالهم وإخفاقاتهم. ورغم الجو الكوميدي الذي يطبع فصول الرواية إلا أنه ضحك كالبكاء، وتشريحٌ قاس لواقع الأبناء داخل أسر تراجعت فيها المودة والحميمية أمام مظاهر التسلط والعبث بمستقبلهم، بذريعة أن الكبار أشد حرصا وفهما، ودراية بالحال والمآل.

لكن يظل الهوس بالإنجاز من أشد السلوكيات التي يحتج عليها نيسن بلسان الصغار، ويُنبه الآباء والمدرسين إلى خطورة الضغط والإلحاح المتزايد على الطفل ليكون ناضجا، وخارقا، وكتلة متجددة من الإنجاز والأداء العالي الذي يحقق المستحيل. يقول على لسان إحدى شخصيات الرواية:" قضى مدة وهو يقرأ سير حياة نوابغ وعظماء الرجال، وعرف الطريقة التي يتربى عليها النابغة، والآن يربي ابنه تربية النوابغ. وهو نفسه، حين عرف أن العظماء لا يتزوجون مبكرين، فقد أخر زواجه وظل عازبا حتى بلغ الخمسين كي يُورث ابنَه النبوغ! وحيث أن النوابغ يكونون في العادة ذوي قوام نحيف، فقد كان يتحكم في تغذية ابنه، ويمنعه من تناول الغذاء الكامل، كي يكتسب قوام النوابغ وسيماهم."

إن تحويل الإنجاز إلى ثقافة مجتمعية شرط أساسي لبلوغ التغيير الحضاري ضمن مستوييه الفردي والجماعي؛ إلا أن هناك بالتأكيد فروقا جلية بين الإنجاز كما تعرضه بحوث الشخصية والدراسات المتعلقة بعلم النفس الاجتماعي، وبين التمثلات السائدة اليوم داخل الأسر، والتي يغذي بعضها ميول الفرد للتحرر من القيم الدينية والأخلاقية، ومقومات الشعور الوطني باعتبارها عوائق تحد من الانفتاح والعالمية.

 إنها فروق يتوجب على الأسرة المسلمة أن تضعها في الحسبان وهي تدفع بصغارها إلى مضمار التميز وتحرير المواهب والطاقات في مختلف مجالات الحياة اليومية.

يندرج الإنجاز ضمن منظومة الدوافع الإنسانية التي تستحث الفرد للتفوق وتأكيد الذات، والطموح إلى بلوغ مصادف النماذج المجتمعية التي توصف بأنها مرتفعة الأداء، كالعلماء والمخترعين وغيرهم. وينشأ عادة من توتر داخلي يثير سلوك الفرد ويدفعه لتحقيق أهداف معينة، لكنه بحاجة كذلك إلى معايير يكتسبها من بيئته الاجتماعية، خاصة الثقافة الأسرية المحفزة على التفوق والتميز.

وينبني الإنجاز على خمس مكونات أساسية تتمثل في: الشعور بالمسؤولية، والسعي نحو التفوق، والمثابرة، والشعور بأهمية الزمن، ثم التخطيط الجيد للمستقبل (1). ولو عرضنا ما يتم تداوله اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي، لتبين أن أغلب ما تحتفل به الأسر المسلمة باعتباره إنجازا من لدن الصغار، قلما يراعي تلك المكونات أو يحفل بها، فوَضْعُ الصغار في دائرة الضوء، وتسليط الكاميرا عليهم أهم بكثير من القيمة المضافة لجهودهم، كما أن تحقيق قدر من التعاطف والقبول الاجتماعي بات هو المؤشر على الإنجاز والتفوق.

في سياق تحكمه المنافسة المحتدمة، والسلطة المتزايدة لمنصات التواصل الاجتماعي على إعادة تشكيل القناعات، لم يعد مطلوبا من الصغار تحقيق نتائج فقط وإنما يُشترط أن تكون مميزة، وأن تؤشر على نبوغ أو أداء إبداعي يفتح أبواب النجومية. لكن بلوغ هذا المسعى يستلزم أولا تنمية حس المسؤولية لدى الطفل منذ سن مبكرة، أو بمعنى أصح تشجيعه على تحمل المسؤولية متى أبدى استعداده لذلك، وحفزه للقيام بنصيبه من العمل داخل المنزل. فما تعتبره بعض الأمهات مضايقة وإزعاجا وفوضى ليس سوى تعبير عن "إنجاز" مبكر، واستعداد للتعاون وتنمية القدرات الابتكارية.

الخطوة الثانية هي تعميق الإحساس بأهمية الزمن في حياة الأفراد والمجتمعات، وتعويد الطفل على أن يتعامل مع الأربع وعشرين ساعة يوميا باحترافية، تماما كما يتعامل مع ثروة يملكها الجميع لكن يختلفون في سبل إنفاقها. ومن المؤسف حقا أن يرث صغارنا تقاليدنا الخاصة في إضاعة الوقت، وتبذير ساعات العمر في غير فائدة. وأن يكون حرصنا على أن يكبروا بسرعة أشد من سعينا لأن ينعموا بطفولتهم كما يجب!

والخطوة الثالثة في رحلة الإنجاز تتمحور حول بذل الجهد الصادق، وتعويد الطفل على المثابرة والإصرار باعتبارهما السند الحقيقي للموهبة. إن جهود الآلاف من المبدعين عبر التاريخ لم تكن لتُكلل بالنجاح لولا المثابرة، والإصرار على المضي قدما رغم العوائق التي تنتصب أمامهم في مختلف مراحل الإنجاز.

أما الخطوة الرابعة فترهن الإنجاز بالقدرة على التخطيط الجيد للمستقبل، ودراسة الواقع بشكل يسمح للطفل بصياغة توقعات منسجمة مع محيطه، كي لا يفقد حماسه أو يتعرض للإحباط. ومن جملة العوامل التي تؤثر على التوجه الإنجازي عموما: توقعات الفرد إزاء احتمال حدوث النجاح والفشل، وعدم انسجام الدافع للإنجاز مع الثقافة السائدة داخل المجتمع.

في حين ترتكز الخطوة الأخيرة على السعي نحو التفوق ضمن المعايير التي يكتسبها الطفل من ثقافته. بمعنى ألا تفضي الرغبة في الإنجاز والتفوق إلى خرق المواضعات السائدة داخل المجتمع، من قيم وأعراف وقوانين، وألا يُنمي الطفل نزوعا أنانيا يضفي على الإنجاز سمات الشراسة والتحايل، والضرب تحت الحزام.

ما من أسرة إلا وتطمح لأن يحظى ابنها أو ابنتها بمكانة مميزة في المجتمع؛ لكن ثقافة الإنجاز التي نرجو لها الانتشار والرسوخ في مجتمعاتنا، تحرض على طرح سؤال الجدارة، بمعنى هل ابني جدير بتلك المكانة؟ لأن الجدارة كما يقول الدكتور مصطفى حجازي لا تمنح، بل هي تصنع من خلال الإنجاز المتميز، فالتميز في الأداء هو صانع القيمة، ومُحدد المكانة، وهو سر التحول الثقافي الذي أنجزته المجتمعات المتقدمة، وجعل نهضتها وريادتها ممكنة!

***

حميد بن خيبش

....................

1- د. عبد اللطيف خليفة. الدافعية للإنجاز. دار غريب للنشر. القاهرة 2000

إذا كانت الكلمة هي أولى لبنات التواصل بين البشر، وهي الجسر الثقافي المدعوم بمقتنيات الذهن ومخزون اللاوعي وكذلك عوالم أخرى في آليات التفكير؛ فإنها - طبقاً لما تحمله من أهمية قصوى - أصبحت ضرورة فنية، لابد أن تتمتع بذلك النسق الوهاج الذي ينقلها من مساحة الرفاهية إلى مساحات كبيرة من فن الخطاب الفكري، سواء كان نقدياً أو أدبياً أو سياسياً واجتماعياً وما إلى ذلك، وخاصة مع اتساع تلك المساحات في الفراغ الثقافي على منصات التواصل الاجتماعي، والتي لا ينم بعضها إلا عن مستوى متدنٍ من الوقاحة إن جاز التعبير،،، الكتابة هي كلمة، والكلمة هي جميع ما ينطق به الإنسان سواء كانت مفردة أو مركبة، لكن ما يهمنا هنا هو ذلك الإناء المدرار الذي لابد أن ينتح بالفكر والفلسفة وجميع مدارج الحكمة والتوقد الذهني. وفي هذا القرن الجديد بمدخلاته ومخرجاته من كَلِم يدق في ناقوس الآذان طيلة الليل والنهار، جعلنا بالضرورة نتساءل: هل الكلمة هي رفاهية أم ضرورة فنية؟ البعض ينطق بكلمة فارغة التي لا تحمل سوى خواء فكري تحت رداء التنمق والأناقة وما أكثر المتنمقين في يومنا هذا بزي المظهر وزي الكَلِم؛ لكن الكلمة سرعان ما تكشف ذلك السر الدفين في محتوى كل متحدث حاول اعتلاء المنصة مدعياً أنه سيد المعرفة

يقول أحد الفلاسفة: "لو كانت الكلمة يتحكم فيها الحادث النفسي يحدده العامل البيولوجي تحديداً، والبيولوجي تحدده الوضعية النفسية.. وهنا يكون السؤال: كيف يمكن للعقل إذا كان أسيراً تتحكم فيه الأشياء الخارجية وتسيطر عليه سلسلة من الأسباب العمياء أن يظل عاقلاً؟ وهنا نرجع إلى العقل ووظائف الدماغ المختلفة لضبط الكلمة لأن شرف الراجل كلمته،، يميز شخصية العربي في الادب والتراث، وهنا نذكر قصيدة الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي حين قال فيها: (ما شرف الرجل سوى الكلمة، وقبلها صاح بها الامام احمد بن حنبل بمئات السنين، ولذا نحن نتساءل: أين يتمثل شرف الكلمة التي هي سمة شرف العربي بشقيه رجالاً ونساء وخاصة المحسوبين على الثقافة العربية في كلماتهم، وفي تحاورهم، وفي منشوراتهم، وفي علاقاتهم التي كان تتميز بالفروسية عند أسلافهم،؟ وللاسف تحولت الكلمة اليوم وسيلة أو سلاحاً لجذب الانتباه، أو خطف الأضواء، أو التنمر، أو الحصول على مكاسب غيرشرعية، وهو ماعبر عنه لأجيال متلاحقة في كيفية التناول والحوار والمعنى والمدلول وغير ذلك. وفي هذا الشأن يقول الدكتور حسن حنفي في مقال له على منصة (جامعة الأمة العربية) بعنوان الخطاب الثقافي العربي: "كل خطاب يستبعد الآخر، كل خطاب يعبر عن المصلحة وبالتالي يتحول الصراع إلى مصالح

سادتي الاكارم -- الكلمة لم تعد رفاهية، بل يتوجب أن تكون ضرورة فنية. ومدروسة بحرفية ل خدمة الصالح العالم قبل الخاص، في ظل تنوع الكَلِم وتنوع الخطابات بحسب تنوع المصالح حيث إن "العلاقة بين الحوارات هي أشبه بـ"حوار الطرشان"؛ فلا أحد يسمع الآخر، لا سلباً ولا إيجاباً، لا رفضاً ولا قبولاً.. الأعلى صوتاً هو الأقرب إلى الحقيقة، والأكثر كلاماً هو الأعظم برهاناً، والأعظم غنى في البلاغة هو الأقرب إلى قلوب الناس وتصديقهم، والأشد تأثيراً في الناس هو الأكثر حضوراً.. ونادراً ما يحدث تقاطع أو تكامل أو حوار. لا يوجد إثراء متبادل فيما بينهم لتوليد الطاقة اللازمة للفكر. الكلمة هنا كم بلا كيف، صوت بلا صدى، فرقعة بلا إصابة، طلقات فارغة لا تهدف إلى شيء". وهنا تصبح الكتابة رفاهية بدون أي ضرورة فنية

متى ينتهي هذا الصراع، وهذا الاستعلاء، والتنمر، ليعبر بنا نحو الصالح العام وليس بالنظر في مصالحنا الشخصية هذا بالنسبة للنخبة؟ أما بالنسبة للقاعدة العامة من مدعي الفهم والكلمة، فإلى متى ينتهي الخوض في أعراض الناس على منصات التواصل الاجتماعي بكل أنواعها، ليس لشيء سوى جني الأموال من المؤسسات القائمة على هذه المنصات التي ابتلينا بها.

***

نهاد الحديثي

أوّل عهدي بالقراءة كانت لكتب سلامة موسى، لم أكن اقرأ صفحات مؤلفاته، كنت أطاردها من عنوان إلى آخر. ومن حديث شيق عن تشارلز داروين، إلى صورة قلمية عن نيتشة. ومن نظرية التطور الى الاشتراكية. لم يكن سلامة موسى بالنسبة لي كاتبا يقدم افكارا متنوعة، وإنما كان أقرب الى المرحومة "شهرزاد" وهي تواصل سرد حكاياتها العجيبة والغريبة، الآن استبدلنا قراءة سلامة موسى باخبار عالية نصيف، و"فهامة مثنى السامرائي" وتقلبات محمد الصيهود الذي أخبرنا قبل سنوات ان لا بديل عن المالكي إلا المالكي، ليخرج علينا اليوم ليقول ان العراق لم يجن من المرحلة السابقة إلا الويلات. في بلاد الرافدين برلمان معطل وعاجز، وصراع سياسي من اجل الحصول على قدر آكبر من الكعكة العراقية، وفضائيات تنقل ولاءها من سياسي الى آخر.. ربما سيقول البعض يارجل صدعت رؤوسنا بالحديث عن ما يجري في العراق دون ان يتغير شيء، الم يخبرنا المالكي ذات يوم ان الذين يهاجمون النظام السياسي مجرد "فقاعات"؟. وعلى ذكر الفقاعة فقد اكتشف البعض انني مجرد فقاعة، مثلي مثل علي الوردي، وفرحت كثيراً، فهذا شرف لا استحقه، ان يوضع اسمي الى جانب اهم مفكر عراقي، تحالف الانتهازيون وبائعو الخطب المزيفة ورجال الدين على عداوته .

لنترك الفقاعات جانبا واسمحوا لي ان اتذكر معكم شخصية عظيمة رحلت قبل أيام، واعني به رئيس الأوروغواي السابق خوسيه موخيكا، صحيح إننا لن نحظى في يوم من الأيام بمثل هؤلاء الرؤساء، لاننا لا نتخيل ان نعيش مع مسؤول كبير "الحجم والوزن" لا يمتلك أسطول سيارات وإنما سيارة عتيقة، ويعيش في منزل صغير في الريف ويتبرع بمعظم راتبه للأعمال الخيرية، يعلق على لقب أفقر رئيس قائلاً: "لست أفقر الرؤساء، الأفقر هو من يحتاج إلى الكثير ليبقى على قيد الحياة"، كان باستطاعة موخيكا أن يعيش في القصر الرئاسي، لكنه آثر الإقامة في بيته القديم. ويقول: "نحن نرى في ذلك طريقة للقتال في سبيل حريتنا الشخصية. فمجرد أنك أصبحت رئيساً لا يلغي كونك إنساناً عادياً".

خلال فترة حكمه التي استمرت أربع سنوات فقط سيطر موخيكا على المشهد السياسي والاجتماعي، ليس في قارة اميركا اللاتينية فحسب، وإنما في معظم بلدان العالم باسلوب حياته الذي وصفه بانه: "نتاج جراحي، أنا ابن تاريخي.. مرّت عليّ سنوات كنت لأسعد خلالها لوكان لدي فرشة أنام عليها".. سيرة هذا العجوز الطيب تعيدنا إلى سنوات كان فيها اليسار الثوري بمثابة الملهم بالنسبة للشباب في كل بقاع الارض.

يعلمنا موخيكا ان المسؤول في الدولة: "لا هو إله ولا هو ساحر القبيلة.. انه موظف حكومي واعتقد أن أفضل طريقة للعيش هي أن يعيش المرء مثل أكثرية أبناء الشعب الذين نحاول أن نخدمهم ونمثلهم".

***

علي حسين

الآخر: من أسماء الله الحسنى وتعني الباقي بعد فناء خلقه، وعند إستعمالها تقصد بها نهاية أو خاتمة الشيئ المعني، كأن نقول: آخر الشعراء، آخر المؤرخين، آخر النحات.

كلمة "آخر" لن تجدها في كتابات العديد من المجتمعات لكنها متكررة في كتاباتنا، فهذا آخر العباقرة، وآخر العظماء، وكأن الأمة عقيمة وغير قادرة على الإنجاب.

وتجدنا نتمسك بالأجداث لأنها في حسباننا من آخر ما أعطته الأمة ولن تجود بأحسن منه أو بمثله.

سلوك غريب ويتسبب بإنحطاط وإنكسار، وتعزيز اليأس والقنوط، والإحباط وعدم القدرة على المواكبة، فالحياة لا يوجد فيها أول ولا آخر، إنها دائرة مفرغة دائبة الجريان، وعديمة التوقف عند محطة فلان وفلان، فالجريان ديدنها السرمد.

كلمة "آخر" تدل على التوقف، والإنكماش، وفقدان الأمل بالمستقبل، وكأن الأجيال، ألقت عصاها واستقر بها النوى، وما عادت تمتلك قدرة مواصلة السفر.

أعلامنا أواخر، ومسك الختام، ولا نستطيع أن نأتي بأمثالهم، أو بأحسن منهم، وهذا مرض وخيم مستوطن في وعي الأجيال، يعوقها ويمنعها من التواصل مع عصرها، وتهرب بإنهزامية عالية بإتجاه الغابرات، وتقديس الأموات، ونبش الأجداث.

ألله سبحانه هو الأول والآخر، ولا يمكن لبشر أن يتصف بأي منهما، البشر أمواج في تيار الحياة، تعلو وتهبط، ويتواصل الجريان، فلماذا نبني السدود ونضع المعوقات أمام الحركة الإنسانية المتدفقة رغم المصدات.

كأننا نعشق التوقف والتصنم أمام مفردات نجعلها من المقدسات، ونتوّجها بعرش الخلود، فنستكين وننحني، ونرفع ألوية الإذعان.

علينا أن نتحرر من هذه العاهة المتفاقمة، ونهتم بالإبداع والإبتكار، ونسلط الأضواء على قيمة الإنتاج المعرفي بأنواعه، ونبتعد عن الشخصانية والتبعية والتوهم بالفقر الإبداعي والإملاق الإبتكاري.

نهرها يجري وبعضٌ جامدٌ

وشبابٌ مبدعٌ لا خامدُ

وعقولٌ إستباحت خوفها

وسراةٌ لا يراها الرائدُ

لا أخيرٌ بل رحيلٌ دائبٌ

وبهِ مَوجٌ نهوضٌ قائدُ

***

د. صادق السامرائي

 

في مُجتَمَعاتٍ مُمَزَّقَةٍ بطُولِ التَّاريخِ وعَرضِ الجُغرافيا، يَتَردَّدُ صدىً مُزَلزِلٌ لِحقيقةٍ مُرَّةٍ: أنَّ التَّدَيُّنَ الذي كان يُفتَرَضُ أن يُحرِّرَ الرّوحَ، قد صارَ في أحيانٍ كثيرةٍ قَيدًا جديدًا، وصَنمًا مَذهَبِيًّا يُعبَدُ من دونِ اللهِ، وأنَّ الدِّينَ الذي نَزَلَ ليُوقِظَ الضَّميرَ الإنسانيَّ صارَ مَسرَحًا لِصِراعِ الشِّعاراتِ، ومَعركةِ الأسماءِ، ومَوطِنًا لِلتَّعصُّبِ لا لِلتَّسامحِ، ولِلفُرقةِ لا لِلوَحدةِ، حتى غدا الإيمانُ -في أكثرِ تَمَظْهُراتِهِ الواقعيَّةِ- صورةً مُشوَّهَةً لِما أُريدَ له أن يكونَ.

ما أعظمَ المأساةَ حين تُستَبدَلُ غايةُ العبادةِ بِوسيلةِ الطائفةِ، ويُقدَّمُ الوَلاءُ لِرُموزِ الأئمَّةِ والمشايخِ على التَّوجُّهِ الخالصِ إلى ربِّ الأئمَّةِ والمشايخِ، ويُصبِحُ الوَلاءُ العقائديُّ أداةً لِلفَرزِ الطائفيِّ أكثرَ من كونهِ تَجسيدًا لِحقيقةِ الإيمانِ. يُحارِبُ النّاسُ بعضُهم بعضًا باسمِ اللهِ، ويُكفِّرُ أحدُهم الآخرَ باسمِ الدِّفاعِ عن الدِّينِ، بينما الدِّينُ الحقُّ يَتهدَّمُ تحتَ أقدامِهم وهم سادِرونَ في غَيِّهم.

إنَّ جَوهَرَ المأساةِ يَكمُنُ في تَحوُّلِ المَذهبِ -الذي كانَ في الأصلِ اجتِهادًا بَشريًّا لِفَهمِ النَّصِّ الإلهيِّ– إلى حقيقةٍ مُقدَّسَةٍ تَعلو فوقَ النَّصِّ نَفسِهِ، وتُقاسُ بها النِّيّاتُ، وتُحاكَمُ بها العُقولُ، بل ويُكفَّرُ من خالَفَها، وإن شهِدَ أن لا إلهَ إلّا اللهُ.

وهكذا أصبَحَ بعضُ المسلمينَ سُنَّةً وشيعةً وأتباعًا لِمَذاهِبَ شَتّى، لا لِيَتَفاهَموا ويَستَفيدوا من غِنى التَّنَوُّعِ، بل لِيَتَناحَروا ويَهدِمَ بعضُهم بعضًا، ويُنَصِّبَ كُلٌّ منهم نَفسَهُ بوّابةَ الجَنَّةِ وسيفَ اللهِ على الأرضِ.

فالسُّنِّيُّ الذي يَرفعُ رايةَ السَّلَفِ، رُبَّما تَجِدُهُ يَتَعصَّبُ لِلإمامِ، ويُقَدِّسُ كُتُبَ الأحاديثِ حتى تَغدو أقربَ إلى الوحيِ من القرآنِ، ويُخرِجَ من الدّائرةِ كُلَّ مَن ناقَشَ مَسألةً في الصَّحابةِ أو طالَبَ بِمُراجعةٍ عَقلانيَّةٍ لِلتُّراثِ، في حينَ يَنسى أنَّ الدِّينَ بُنيَ على التَّوحيدِ والإخلاصِ، لا على تِكرارِ الأقوالِ وتَقديسِ الرِّجالِ.

أمّا الشِّيعيُّ، فيَغرقُ في عِشقِ آلِ البيتِ حتى يَغدو حُبُّهم بَديلًا عن طاعةِ اللهِ، ويَنسُجَ حولَهم هالةً من العصمةِ والمكانةِ ما أنزَلَ اللهُ بها من سُلطانٍ، حتى تُمارَسَ طُقوسٌ تُقارِبُ التَّأليهَ وهم يَظنّونَ أنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا.

والمأساةُ أنَّ كِليهما يَظنُّ أنَّهُ وحدَهُ على الحَقِّ، ويَستَدِلُّ بنُصوصٍ تُعيدُ إنتاجَ الصِّراعِ بدلًا من أن تُنهِيَهُ، وتُحيلَ الدِّينَ إلى خَندَقٍ، لا إلى جِسرٍ يُوصِلُ بينَ الإنسانِ وربِّه. بل إنَّ كِلا المَعهَدَيْنِ، يَنسى –عن عَمدٍ أو عن غَفلَةٍ– أنَّ اللهَ لم يَسألْ يومَ القيامةِ: «ما مَذهبُكَ؟»، بل سألَ: ماذا أجبتمُ المرسَلينَ؟.

الإيمانُ: كما أراهُ وأعتَنِقُهُ

أمّا أنا، فلا أَرى في المَذاهِبِ طريقًا إلى اللهِ، بل أَراها حَواجِزَ شُيِّدَت بأسماءِ الرِّجالِ، فوقَ النَّصِّ، وتَحتَهُ، وعلى هامِشِه. طريقتي في الإيمانِ بسيطةٌ وعَميقةٌ، تَجمعُ بينَ الإخلاصِ للهِ، والنَّظرِ بالعَقلِ، والانطِلاقِ من الواقِعِ.

أُؤمِنُ باللهِ، لا كما وصَفَتهُ الفِرَقُ، بل كما أنزَلَهُ في كُتُبِهِ، وكما أشرقَ في ضَمائرِ الخَلقِ.

أُؤمِنُ بالعَقلِ، لا لأنَّهُ بَديلٌ عن الوَحيِ، بل لأنَّهُ نِعمةُ الوَحيِ الأولى.

وأُؤمِنُ بالواقِعِ، لا كَحُكمٍ مُطلَقٍ، بل كَمِرآةٍ لِلحقيقةِ المَهدورةِ.

لا أتَمَذهَبُ بأيِّ شَكلٍ، لأنَّني لا أرى الحَقَّ مَحصورًا في طائفةٍ أو إمامٍ، ولا أُؤمِنُ بعِصمةِ مَن وُلِدوا وماتوا. وأتَّخِذُ من القرآنِ دُستورًا، هو الأصلُ والمَنبَعُ، لا كتابًا يُؤوَّلُ وفقَ أهواءِ السِّياسةِ والتّاريخِ. فالإيمانُ الحقيقيُّ عندي لا يُقاسُ بِمدى الالتِزامِ بما قالَهُ فُلانٌ أو فُلانٌ، بل بِمدى الصِّدقِ معَ اللهِ، والخَشيةِ منهُ، والسَّعيِ الدّائمِ إلى الحَقِّ مهما كَلَّفَ.

حينَ تَتَحوَّلُ العبادةُ إلى طَقسٍ جَماعيٍّ لا يُثمِرُ خُشوعًا فَرديًّا، وحينَ يُقاسُ التَّديُّنُ بِعددِ مَرّاتِ السُّجودِ لا بِصِدقِ الخَشيةِ، تُصبِحُ المساجِدُ مُمتلئةً والقُلوبُ خاوِيةً. إنَّ الصَّلاةَ بلا روحٍ، والصَّومَ بلا تَقوى، والحَجَّ بلا خُضوعٍ، تُمثِّلُ مَأساةَ المُتديِّنِ المُعاصِرِ، الذي ظَنَّ أنَّهُ يُرضي ربَّهُ، وهو إنّما يُرضي مَذهبَهُ وجَماعتهُ.

إنَّ الإيمانَ حينَ يُصبِحُ عُنوانًا لِلخِصامِ، فهو ليسَ من اللهِ في شَيءٍ، وإنَّ التَّدَيُّنَ الذي يُنتِجُ قُلوبًا مُتَحَجِّرَةً هو جَفاءٌ لا صَفاءَ، وعبادةٌ لِلأنا تحتَ سِتارِ التَّقوى.

كُلُّ الطُّرُقِ التي لا تُؤدِّي إلى اللهِ ضَياعٌ، وكُلُّ المَذاهِبِ التي تُقصي عِبادَ اللهِ وتُقَدِّسُ غَيرَهُ، إنَّما هي شِركٌ مُستَتِرٌ، وتِيهٌ مُقَنَّعٌ، وظِلالٌ تُحاكُ باسمِ النُّورِ. إنَّ الإيمانَ حين يُبنى على العَقلِ والصِّدقِ والبَحثِ، لا على الوِراثةِ والتَّقليدِ، يَغدو سِراجًا يَهدِي صاحِبَهُ في ظُلماتِ الطَّريقِ.

فَلنُعِدْ بَناءَ إيمانِنا على سؤالٍ واحِدٍ: «هَلِ اللهُ راضٍ عنّي؟»، فإن كانَ الجَوابُ مُبهَمًا، فَكُلُّ عبادةٍ سِواهُ لَغوٌ، وكُلُّ مَذهبٍ سِواهُ وَهمٌ، وكُلُّ صِراعٍ باسمِهِ باطِلٌ، وإن علا التَّكبيرُ في المآذِنِ، وإنِ امتلأَتِ الصُّفوفُ، وإنِ ارتفَعَتِ الرّاياتُ.

ذلكَ هو الإيمانُ الذي لا مَذهبَ لهُ إلّا اللهُ.

***

د. علي الطائي

 

كثيرا ما يثور السؤال (كيف وجدت الحياة على الأرض)؟.. خاصة وانها كانت جزءاً من المنظومة الشمسية..  وبدرجة حرارة ملتهبة لا تسمح بوجود أي نوع من الحياة عليها؟

وبعيدا عن الإرباك والضياع في متاهات التفسيرات المختلفة في الإجابة على هذا التساؤل، وفي اليقين المؤمن بالله تعالى.. يكون الجواب (يخلق ما يشاء وهو القوي العزيز) ..

لكن لغز الخلق مع ذلك.. يظل بكيفيته عصيا على تصور الإنسان ذي العقل المحدود التصور.. لذلك يظل الأفق واسعاً أمامه للبحث والاستكشاف والتيقن عن علم. فوسائل إنسان اليوم  غير وسائله بالأمس. وقد يقترب يوماً ما من إدراك الكيفية التي حيرته.

ومع ذلك فالكائن الحي لا يمكن تخليقه من دون خالق يهبه سر الحياة على قاعدة (فنفخنا فيه من روحنا). فلو عرفنا مثلا أن جسم الكائن الحي، مثل الذباب، يتكون من الكربون والهيدروجين والاوكسجين.. الخ، فأننا لو جمعنا هذه العناصر في المختبر بنفس النسب التي في جسم الذباب، ووفرنا لها نفس الظروف اللازمة للتخليق، لما تمكنا من خلق الذباب، ومنحناه الحياة .

 ويبقى الإنسان مطالباً بالبحث والتحري والكشف، على قاعدة (يا معشر الجن والانس ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا.. لا تنفذون إلا بسلطان).. وقد يكون  السلطان هو الوسائل التي تتاح للإنسان لكي يمتطيها ويستخدمها في النفوذ..بحثا عن مبتغاه، لما يعتقده اليوم في معارفه المتاحة لغزا (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) ..

 لكن الانسان العاقل العالم..  يبقى عارفا ان قدرات العقل محدودة.. فليس كل مالا يحسه العقل غير موجود.. فما وراء  غير المنظور من المدركات.. عوالم غيبية شاسعة.. فيها من الحقائق والموجودات ما يدهش الألباب ويبهر العقول.

وهكذا تبقى قدرات الإنسان في الحس والإدراك محدودة، ومحكومة بحدود ما وهبه الله تعالى من قدرات، على قاعدة (سبحانك لا علم لنا إلا ماعلمتنا إنك أنت علام الغروب).

***

نايف عبوش

 

في السابق من الزمان، كان المثقف هو المنظر الحقيقي للفعل السياسي ولرؤية الأحزاب السياسية والمجتمع، بينما اليوم أصبح السياسي هو من يصنع الحدث الثقافي ولما لا المثقف (الخنوع). مقاربة مُربكة في حد ذاتها، ولا تستوجب منَّا الوقوف عندها على عدة اعتبارات ذاتية تهم المثقفين والمبدعين (الشتات الثقافي / الانهاك المعرفي)، وموضوعية تهم الشأن السياسي (الاستقطاب / تسويق العلامة السياسية).

فإذا كان الفعل الثقافي على وجه العموم يعيش مرحلة من "الانتكاسة الفكرية" وفق تعطيل أدوار المثقفين والمبدعين، وغياب الأدوار الوازنة للمثقف الجذري والعضوي في المجتمع، وظهور "الترهل الفكري نحو التفاهة والبلاهة/ المثقف الشبيح/ المثقف الشارعي"، فإن السياسيين (في مراكز القرار) باتوا يستفيدون من الامكانات التي تحت أيديهم بطائل القانون المنظم لمالية الجهات والجماعات الترابية، وشرعوا في عمليات تلميع الصورة والأداء، وعمليات الاستقطاب وتزيين الصورة (الانتخابية)، ولما لا حتى القيام بالحملات السياسية (وفق مبدأ التقية)، وبوجه من الثقافة وعمليات "الإحياء"و"الإحماء" السياسي.

إعادة الاعتبار للثقافة النظيفة بمكناس، وإحياء التراث الوطني، و كذا صناعة الوجه الحداثي للثقافة العالمة، بات من العمليات السياسية التي تَنْفخ للإحماء من خلال كير الحداد على رماد الثقافة ( البارد) وذلك لمعاودة الاشتعال والتطوير، وسد فوهات الدخان الخانقة للفعل الثقافي المُزمن بالحمية المرضية. لا علينا، ما يخدم الثقافة الرزينة نحن مع قلبا وقالبا، ومهما كان فهو عمل ذا توجيه وطني عام، وتأصيل جزئي من المهام الكلية لأدوار السياسي في كراسي التسيير الاداري، والمجتمع المدني (الجمعيات).

قضية تطغى علينا بالخوف كأولوية، وذات مرجعية فُضلى في عمليات إعادة الاعتبار للثقافة، واحياء التراثي المادي واللامادي، هي قضية خوفنا التام كما قيل من: " تسليع الثقافة" بالألوان السياسية !!! قد نتفق ونختلف في الرؤى والموجهات والاستعراضات، ولكنا قد نتوافق في نزع شعرة معاوية من الثقافة المكهربة، والتي يجب ألا تكون تحت أية سلطة سياسية مهما كانت.

قد لا نتحدث عن الثقافات المتنوعة بمرجعات الهويات المنفردة الوطنية، وكذا استحضار الذاكرة اللامادية المشتركة، بل نتحدث عن الثقافة الرسمية، والتي يتم تمويل مهرجاناتها ومواسمها من المال العام (الدعم)، والكلفة المالية تكون كبيرة !!!من تم، فالموقف الثقافي اللازم بالضرورة الملحة، يجب أن يكون عبر مؤسسات ثقافية ( إنشاء وكالة (مؤسسة) مستقلة للتدبير الثقافي / بالجهة والعمالات والأقاليم) تضم الخبرة والموازنة التمثيلية المتنوعة، والرؤية الإستراتيجية في تحقيق صناعة ثقافية (مستقلة)، تحتفي بالتراث العريق والتجديد الحضاري، وتصنع التلاقح الثقافي ضمن وحدة الذاكرة الوطنية المشتركة، والكونية المنفتحة.

قد نستقصي النموذج لكلامنا هذا، من خلال الانتظار الذي نتوجس خيرا في إخراج مهرجان (عيساوة/ الدورة الخامسة/ مقامات وإيقاعات عالمية) في نسخة فريدة ومتميزةما بين (23 إلى 26 يوليوز 2025). فضمن رؤية الموجه الجهوي والمحلي وممثل مكون المجتمع المدني (جمعية مكناس الثقافات)، نعترف بوجود قيادة سياسية وتشاركية واعية أولا بأدوارها الثقافية والفنية والجمالية، وثانيا واعية بالحمولة الثقافية والحضارية للتراث المادي واللامادي بمكناس، والحفاظ على الذاكرة (العيساوية) المشتركة من التلف والتشويه بالمحسنات الدخيلة !!! وثالثا واعية كل الوعي بتحييد الانتماء السياسي الرمزي من الفعل الثقافي عموما !!!

من البداية، عودة المهرجان لمدينة مكناس، الموطن الأصلي للصوفية العيساوية، استحسنه الجميع، وبلا توابع لغو كلامية. استحسنه المتتبع على عدة اعتبارات متعددة، والمتمثلة في الكفاف الترفيهي والفني بمدينة مكناس في موسم العطلة الصيفية (شهر 8). ومن بين التوابع الأخرى التي لا بد من الانتباه إليها، فنجاح مهرجان (عيساوة) لن يكون تدبيره عن بعد ومن مركز الجهة (القطب الأول) والإشراف (الاجتماعات والهندسة). لن يكون ناجحا، إلا عبر تعاون تشاركي منفتح بين المؤسسة (السياسية المحتضنة) والمثقفين والفنانين بالتنوع لتحقيق الأهداف الكبرى والعودة الميمونة لمهرجان (عيساوة). لن يكون عبر البحث عن دعم وتوكيلات لبعض الوجوه الفنية خارج الدائرة العيساوية، ومعاودة إقصاء المدينة من الاشراف والتنظيم والتوجيه وإبداء الرأي، نموذج: (مهرجان وليلي الدولي لموسيقى العالم التقليدية). لن يكون نجاح المهرجان، الا عبر دائرة تتحد بالجمع على خلق "حراك" لامادي للظاهرة العيساوية بالمدينة والوطن والعالم، وتجسير مفهوم مهرجان عيساوة الوطن، العابر للحدود، على اعتبار قيمة المهرجان المعرفية والاقتصادية والفنية، والتراثية وكذا الروحية (الصوفية)، لا لحظة من التمرير الفولكلوري للمشاهد والطوائف.

***

محسن الأكرمين

الحريةُ لا تُمنَحُ صدقةً، ولا تُلقَى في طريق العابرين؛ إنما تُنتزعُ انتزاعًا بالعقل، وبثورةِ الوعي، وبكسرِ كلِّ قيدٍ لبسه العقلُ وهو يحسبه تاجًا

 حين تمشي العبودية متبخترةً

ثمة عبوديةٌ لم تُخلَق في سوق النخّاسين، ولم تُصنَع من حديد، ولم تُقيَّد بها الأرجل أو الأيدي، بل صيغت في غفلةٍ من الفكر، وارتسمت ملامحها في أروقة العادة، ولبست قناع الفضيلة، وسُمّيت طاعة، وحياء، وخشية من الخروج عن السرب.

العبد اليوم لا ينظر إلى قيده فيستبشعُه، بل يُقبّله ويزخرفه، ويخاف من فقدانه كما يخافك الجاهل من النور.

وقد قال نيتشه – وما أصدقه: العبودية ليست في الأغلال، بل في الطاعة العمياء

وأقول: ما أكثر من لبس قميص العبودية وظنّهُ رداء الحكمة

في الطاعة القاتلة... تموت الأرواح.

الناسُ – إلا من رحم الله – يهابون الحرية، لأنها مقلقة، متطلّبة، تُجبرك أن تكون نزيهًا مع نفسك، أن تُراجع معتقداتك، أن ترفض ما لا تقتنع به، ولو اجتمع عليه أهل الأرض.

ولهذا قال علي شريعتي:  الناس لا يهربون من السجون، بل من الحرية، لأنها مسؤولية. أليس من المؤسف أن ترى من يُحرِّم على نفسه التفكير؟ ومن يُجرِّم السؤال؟ ومن يخشى أن يشكّ؟

أليس ذلك هو قيدٌ أشدُّ من الحديد؟

إنَّ الخنوع للفكرة السائدة، والمسايرة لأهواء القطيع، هما اللذان يصنعان من الإنسان تمثالًا صامتًا، يمشي مع الناس ولا يعلم إلى أين.

وقد قلتُ: العبد لا يُعرفُ من سلاسله، بل من خوفه من السؤال، ومن لسانه الذي لا ينطق لا بلادٌ تُنتج العبيد وتُبجّلهم

ما أكثر الأوطان التي تحترفُ إنتاج العبودية، فتربّي أطفالها على الطاعة لا الفهم، وعلى الحفظ لا التحليل، وعلى الصمت لا الجدل، وعلى القبول لا الرفض.

كل شيءٍ فيها مرسومٌ، وكل انحرافٍ عن المألوف خطيئة.

يُعلَّم الطفل كيف يُحسن التكرار، لا كيف يُحسن التفكير.

يُعلَّم الشاب كيف يُنصت للسلطة، لا كيف يُقيمها.

قال العالم العراقي عبد الجبار عبد الله:

ما يؤلمني أن العقل العراقي اختار الجهل لأنه أسهل، وهرب من السؤال لأنه مرعب

وأنا أضيف:

 أخطر أنواع الجهل، ذاك الذي يُزيَّن لصاحبه ويُلبس ثوب التديّن أو العقلانية، فيظلُّ غارقًا فيه وهو يظنُّ نفسه حكيمًا

عقولٌ تُسلَّم مفاتيحها

ثمة شعوبٌ لا تحارب من يسجنها، بل تحارب من يُحاول تحريرها

لأن الخروج من القيد يتطلبُ صدمة، والصدمة تُزعزع وهم الطمأنينة، والناس – بطبعهم – لا يحبّون من يوقظهم من سباتهم.

هم لا يكرهون الجلّاد بقدر ما يكرهون الذي يعرّفهم بأنهم عبيد.

قال إتيان دو لا بويسي:

 ليس الغريب أن يُستعبد الناس بالقوة، بل أن يختاروا العبودية وهم قادرون على التحرر وهذا ما أراه اليوم ماثلًا أمامي في مجتمعي عبوديةٌ باسم الدين، وأخرى باسم العُرف، وثالثة باسم الوطنية، ورابعة باسم ما يقولون الناس، حتى صار الواحد يُقيّم نفسه بمزاج الآخرين، لا بقيمته هو.

من هو الحر حقًّا؟

أن تكون حرًا لا يعني أن تصرخ، ولا أن ترفض فحسب، بل أن تفهم لماذا ترفض، وأن تتحمل تبعة رفضك، وأن تبقى ثابتًا ولو كنت وحدك. الحر هو من لا يخاف من أفكاره، ولا يستحي من منطقه، ولا يُساوم على عقله.

وقد قال الفيلسوف العراقي هادي العلوي: أمةٌ تُقدّس الماضي، لا تصنع المستقبل، بل تُعيدُ إنتاج التخلف

وأقول بدوري: الحرّ لا يولد من رحم الكثرة، بل من رحم العزلة، حيث لا ضجيج، ولا تملّق، بل صوت العقل وحده

الخاتمة: ثورة الوعي أول المعركة

في عالمٍ تتنكر فيه العبودية بألف وجه، ليس أمامك إلا أن تبدأ بالمعركة داخلك، أن تشك، وتفكك، وتعيد البناء.

الحرية لا تبدأ من الخارج، بل من الداخل.

ومن لم يُحرر عقله، سيظلُّ عبدًا وإن ظنَّ أنه سيّد.

العبد الحديث لا تُقيّده الأغلال، بل يُقيّده خوفه من الاختلاف، وإدمانه للقبول، وخشيته من أن يُقال عنه خرج عن المألوف

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

........................

الهوامش:

1. نيتشه، فريدريش. هكذا تكلم زرادشت. ترجمة فليكس فارس. دار التنوير.

2. شريعتي، علي. النباهة والاستحمار. مركز دراسات الحضارة الإسلامية.

3. عبد الله، عبد الجبار. رسائل غير منشورة. بغداد: دار الوراق، 2012.

4. بو لا بويسي، إتيان. مقالة في العبودية المختارة. ترجمة مصطفى صفوان.

5. العلوي، هادي. من تاريخ التعذيب في الإسلام. دار المدى، دمشق.

قرأتُ اليوم في موقع المثقف قراءة تحليلية لرواية (منازل العطراني) كاتبها الأستاذ جمال حسن علي العتّابي. كان صاحب القراءة التحليلية دقيقاً فيما كتبَ فاهماً لما جاء في الرواية من أمور الصغير منها والكبير لكنَّ ما استخلصه وألحَّ عليه [وهذا شأنه] شأنٌ يستلفت النظر حقاً، نعم بل ويستدعي التوقف طويلاً والتساؤل كثيراً لِمَ هذا التشبث حدَّ الإلحاح بمسألة وردت في هذه الرواية ولا أحسبها ذات أهمية بالغة بالنسبة لمضمون ومجمل سياقات هذه الرواية { منازل العطراني }. أقصد الإنتماء إلى (جماعة) معينة سياسية هي الحزب الشيوعي العراقي بالذات وما نال [محمد الخلف / حسن علي العتّابي] من أذى وسجن وطرد من الوظيفة نتيجةً لإنتمائه لهذه [الجماعة]. هل ندم محمد الخلف على إنتمائه ذاك ؟ هذا ما دار حوله الأستاذ محلل الرواية وحاول بشتى السبل والطرق إثباته وتأكيده كأنْ لم يُسجنْ أحدٌ قبل ولا بعد محمد الخلف ولم يُحرم من وظيفته أحدٌ تاركاً وراءه عائلة كثيرة العدد بلا مُعيل. وكأنه النادم الوحيد على ذلك الإنتماء وكأننا لم نعاصرْ ولم نُصادقْ الكثيرين ممن واجه ذات المصير وانتهى إلى قرار نهائي يقضي بالتخلي عمّا التزم من مبدأ وحزب وأعلن ندمه بل وتبرأ البعض عَلَناً بنشر صيغة البراءة الشهيرة في العهد الملكي بل وأدهى من هذا: كتابة إعترافات خطيّة موقّعة تكشف اسماء وعناوين رفاق هؤلاء المعترفين وفي ذاكرة العراقيين مثالان حيّان شخاصان لقادة في الحزب هما مالك سيف وعزيز الحاج. إذاً لا يستحق هذا الأمر كل هذا الجهد والتركيز على هذه الموضوعة بالذات.

بقدر فهمي لما كتب الأستاذ محلل هذه الرواية فإنَّ كاتبها الأستاذ جمال حسن العتاّبي لم يولِ هذا الأمر هذا القدر الكبير من الأهمية إنما مرَّ عليه خفيفاً كلّما اقتضت سياقات الرواية وهو نفسه ليس نادماً على التزامه وانتمائه للحزب الشيوعي ويكفي أنْ نعرف أنه درس في الإتحاد السوفييتي السابق مُبتعثاً بزمالة دراسية حزبية ونعرف مَنْ هو اليوم وأية وظيفة يشغل وفي أية وزارة؟

الآن ماذا عن (محمد الخلف)؟ إنه المربي الفاضل والصديق العزيز الأستاذ أبو جمال حسن علي العتّابي عرفته وعملنا معاً أربعة أعوام نُحرر مع زملاء آخرين صفحة التعليم والمعلم الأسبوعية في جريدة طريق الشعب. نجتمع مرة في الأسبوع ومعنا الفقيد الراحل ضحية البعث المربي عبد الستار زُبير أبو إيمان وزملاء آخرون غير ثابتين وآخرون ثابتون لكنهم غير دائمي الحضور .. نجتمع نتدارس البريد الوارد من شتى التدريسيين ومن كافة المستويات من شتى مدارس ومعاهد وجامعات العراق ثم نختار الأكثر إلحاحاً أو أهمية والأنضج تحريراً نُصححه وندققه ونُعدّه للنشر في الأعداد القادمة لصحيفة طريق الشعب. إذاً كنت وأخي المرحوم [محمد الخلف] محررين صحافيين هواةً متطوعين مُضحين بكل شئ من أجل صحيفة طريق الشعب لسان لجنة الحزب المركزية. أمضينا أربع سنوات [1974 ـــ 1978] معاً لم أسمعْ منه شكوى أو علامة تذمر أو ندم وأكثر ... كان يُساهم بنشاط في كافة الفعاليات الحزبية الإحتفالية بهذه المناسبة أو تلك. وأكثر ... كان ولده سامي يعمل كادراً فنيّاً في خطوط وطباعة وإخراج جريدة طريق الشعب ومن ثمَّ قتل البعثيون هذا الشاب نجل أبيه وأحد رموز أخوته إثر انفراط الجبهة الوطنية تاركاً أرملةً شابة ما زالت على قيد الحياة في بغداد هي الإعلامية والأديبة السيدة مُنى سعيد الطاهر. فأين ندم [محمد الخلف] ؟ قلتُ إنَّ الأستاذ جمال حسن علي عالج ظاهرة عراقية سياسية معروفة وقلّبها على وجوه عِدّة شأنَ الباحث والمدقق والحكيم النفساني لا غير. لا على راوٍ حَرَج فيما يروي وكيف يروي و(ناقل الكفر ليس بكافر) ....

يوجد لحُسن ظن العراق والأدب العراقي رجلٌ شاهد عيان عرف (محمد الخلف) لأربع سنوات وخالطه في السرّاء والضرّاء وجاء الوقت المناسب ليقول فيه كلمة حق يستحقها هذا الرجل الأب والمربّي والصحافي الهاوي الملتزم بخط وجريدة الحزب الشيوعي العراقي.

***

د. عدنان الظاهر

22 مايس 2025

بعد ثلاثين عاما على رحيله في بلاد الغربة، قررت دار الشؤون الثقافية ان تعيد البسمة الى وجه شاعر الغربة بلند الحيدري، لتقدم لنا مجموعته الشعرية الكاملة، وفيها يحول الشاعر الكبير حروف كلماته وعذاب غربته إلى قصائد حب.

بلند كان مغرماً بما يكتب، يعتقد أن الفكر والشعر سيصنعان بلداً يكون ملكاً للجميع، ومجتمعاً آمناً لا تقيّد حركته خطب وشعارات ثورية، ولا يعبث باستقراره ساسة يتربصون به كلّ ليلة.. ديمقراطية، تنحاز للمواطن لا للطائفة، وتنحاز للبلاد لا للحزب والعشيرة. عاش أسير أحلامه، متنقلاً في الشعر والحب.

في السنوات الاخيرة وبجهود الشاعر عارف الساعدي تحاول الثقافة اعادة التوهج الى ذاكرة العراقيين، الاعمال الكاملة للجواهري مع مذكراته الثمينة.. اعمال نازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وعبد الوهاب البياتي وحسب الشيخ جعفر وفوزي كريم، واحمد الصافي النجفي، وياسين طه حافظ، وجميل صدقي الزهاوي، الى جانب مؤلفات مدني صالح واعمال العلامة مهدي المخزومي وجعفر الخليلي وعشرات ممن حاولت الحكومات السابقة ان تطوي صفحاتهم في غبار النسيان.

على مدى سنوات ماضية عشنا مع سلطة ظلت تنظر اإلى الثقافة، باعتبارها كماليات زائدة لا يحتاجها المواطن العراقي في زمن القادة "العظام". أنت مواطن مثقف ما دمت تذهب إلى صناديق الاقتراع تنتخب جماعتك، وتمنحهم صوتك، وأنت مغمض العينين. ينظر الى المثقف باعتباره كائناً غريباً، لا يحق له أن يطالب بتوفير كتاب رخيص الثمن، ومشاهدة مسرحية راقية، ومتابعة ما تجود به الفرقة السيمفونية. فمهمة الدولة كانت تعبيد طرق الآخرة أمام الناس، ألم يصرخ أحد النواب في زمن "المفكر" إبراهيم الجعفري "ياجماعة حرام تخصصون أموال لوزارة تدعم الراقصات".. كانت هذه هي المسخرة التي عشنا فيها منذ أن قررت الدولة منح وزارة الثقافة لضابط شرطة، ومن بعده لقاتل، ثم تسلمها لسعدون الدليمي الذي حول اموال الثقافة إلى وزارة الدفاع تحت شعار "كل شيء في سبيل المعركة" وكانت معركته الحقيقية هي وضع حجر الأساس لدار أوبرا وهمية، وصرف مئات الملايين على نشاطات لا تمت للثقافة بصلة، واختصار فعاليات بغداد عاصمة الثقافة بحفل لمطربة درجة عاشرة اسمها "مادلين مطر"، في الوقت الذي عرفضت فيه عن إعمار مسرح الرشيد الذي وقف على خشبته نجوم المسرح العراقي.

ننظر الى الحراك الثقافي هذه الايام والذي يلعب به عارف الساعدي دورا رئيسا برغم ما يتعرض له من هجمات من "الذباب الثقافي" الذي يكره المستقبل ويصر على العيش في احضان الماضي.. اليوم صناعة الكتاب في العراق تزدهر، وسعيد افندي يحاور نجوم مهرجان كان السينمائي، والعلامة احمد سوسه يتنظر زواره في بيته الكبير، وفائق حسن يلون مجسره.. وبعد ان كانت مخصصات الثقافة تذهب لجيوب المسؤولين، تحولت اليوم الى مسرحيات ومسلسلات وافلام شبابية وكتب تزين المعارض العربية. عافية ثقافية يقف وراءها شاعر مبتسم دائماً.

***

علي حسين

الاقتصاد العمود الفقري للحياة في كافة العصور، ومبعث الصراعات والتفاعلات بأنواعها بين الدول والشعوب.

الإقتصاد قائد، وما دونه بائد، فالعقائد والتحزبات والدعوات الوهمية بأنواعها آليات إلهائية وتدميرية، ومحاولات لمنع البشر من التفكير الإقتصادي ودفعه إلى ميادين التلاحي والإصطراع، لكي تستثمر في ويلاته رموز النفوس الأمارة بالسوء والبغضاء.

ولهذا تجد في بعض المجتمعات سيادة التقاليد القبلية القاضية بتحويل الناس إلى مجاميع قطيعية تخضع لمتنمر يتسلط على مصائرها.

مجتمعات التفكير الإقتصادي معدوم عندها، وتتبارى في ميادين غابرة تساهم في إتلافها وتحطيم وجودها وقيمتها الإنسانية.

ويبدو أن المجتمعات التي تطورت تفكر بالمردودات الإقتصادية لأية خطوة تخطوها، وما عادت تهتم لموضوعات الدين وغيره، فلتؤمن بما تؤمن هذا شأنك ومعتقدك، وعلينا أن نفكر جميعا بالتطور الإقتصادي لمجتمعنا، وكيف نبني قوتنا ونستثمر في طاقاتنا.

الفرق بين المجتمعات التالفة والمتلهفة لغدٍ أفضل، أن سراة الأولى يتكلمون بلغة بائسة عدوانية المفردات ولا ينطقون بكلمة عن الإقتصاد والبناء وتطوير أحوال المواطنين، بينما سراة الدول المتلهفة معظم خطاباتهم وخطواتهم إقتصادية وتهدف لتعزيز الرفاهية والنماء الوطني.

الإقتصاد البائس يعزز بؤس المجتمعات، والإقتصاد المتنامي يساهم في تقدمها وسعادتها الوطنية.

فلماذا تفكير الأقوياء إقتصادي وتفكير الضعفاء عدواني تناحري طائفي التطلعات؟!!

فهل سنتعلم كيف نحيا برخاء، ونترك العنتريات الوهمية التي أفنت وجودنا العزيز؟!!

يا كراسينا العقيمة، ومآسينا الوخيمة، إقتصادٌ لا وليمة، في ليالينا السقيمة، فابعثوا فينا حياةً، واطلقوا صدق العزيمة.

أمةٌ تشقى وعاشت كيتيمة!!

***

د. صادق السامرائي

إن أخطر ما يهدد الفكر، ليس الجهل الصريح، بل المعرفة الزائفة التي ترتدي عباءة العقل، وتندس في مراكز البحث كداءٍ مزمنٍ لا يُكشف بسهولة. نحن اليوم أمام ظاهرة مرعبة: باحثون يملكون كل أدوات التزييف، ولا يملكون أداةً واحدةً للفهم.

إنني لا أكتب هذه الكلمات من باب النقد، بل من باب التشريح. فالسكين التي تُشرّح الجثة، لا تشتمها، لكنها تُظهر ما في داخلها من عفن. وهؤلاء الباحثون – أو قل المتقمصون للبحث – هم جثث فكرية تتحرك على أقدام الورق، ولا تحمل في عقولها سوى ضوضاء صمّاء.

لقد قلتُ ذات مرة: إنّ الفكر ليس تراكماً، بل اشتعال؛ والبحث ليس تلخيصاً، بل اختراق.

لكن الباحث الزائف لا يخترق شيئاً، بل يدور في حلقة مفرغة من النصوص، كأعمى يتحدث عن الألوان. يرصّ المفاهيم رصاً، كما تُرصّ الحجارة في سورٍ بلا باب، ثم يزعم أنه بنى علماً

هو لا يُنتج فكرة، ولا يهدم يقيناً، ولا يسائل مسلّمة. إنه يعيش في استقرار الجهل، حيث لا أسئلة تُزعجه، ولا تناقضات تُؤرقه، ولا هوّة تُرعبه. إنه في سلامٍ تافه مع نفسه، لذلك لا يخطو خطوةً واحدة نحو الحقيقة، لأن الحقيقة لا تُمنح إلا لمن تمزّقه أسئلته

قال نيتشه: أشد الناس خطراً على الفكر، هم أولئك الذين يملكون نصف فكرة ويظنون أنهم فلاسفة

وهؤلاء الباحثون الغافلون لا يملكون حتى ربع فكرة، لكنهم يغرقون القاعات بندواتهم، والورق ببحوثهم، والمؤسسات بخداعهم. هم أعداء الوعي المقنّعون، جنود الرداءة الذين يرفعون لواء الأكاديمية بينما هم لا يتقنون حتى التفكير المنهجي

وأقولها الآن بقلمي الذي لا يعرف التراجع: ليس كل مَن كتب بحثاً صار باحثاً، كما أن ليس كل من ارتدى تاجاً صار ملكاً؛ فالقيمة لا تُمنح، بل تُنتزع بشجاعة العقل وعرق السؤال

فليعد كل من يظن نفسه باحثاً إلى مرآة وعيه، وليتأمل: هل سؤاله أصيل؟ هل وجعه حقيقي؟ هل بحثه يضيف للمعرفة أم يسرق من وقت القارئ؟ فإن لم يجد جواباً، فليعلم أنه لم يكن يوماً باحثاً، بل كان ظلّاً لجملة منقولة، ووهمًا يرتدي معطف التقدير.

***

سجاد مصطفى حمود

لقد آن الأوان أن ننزع عنا الرداء الذي أُلبسناه منذ الطفولة، ذاك الرداء الثقيل الذي لا يعكس حقيقتنا، بل يعكس ما أراده الآخرون لنا أن نكون. إنه رداء تشكّل من تراكمات الماضي، من تجارب الأهل والمجتمع، من أفكارٍ قُدِّمت لنا على أنها حقائق مطلقة لا تقبل الشك، ومن عاداتٍ رُسّخت في أذهاننا على أنها واجبات لا يجوز مناقشتها أو تجاوزها. كبرنا ونحن نحمل على كاهلنا ميراثًا ضخمًا من المفاهيم التي لم نخترها، لكنها اختارت لنا طريقًا وحدّت من رؤيتنا.

وقد استلهمت هذه الرؤية من كتابات وفكر الأخ العزيز الدكتور عيد الجبار الرفاعي، الذي لطالما دعا إلى مساءلة الموروث بعين العقل، وإلى إعادة النظر في المسلمات التي قيدت وعينا، باسم الدين أو العرف أو “الثوابت” التي لا تتغير. فالتجديد لا يعني القطيعة مع الماضي، بل التصالح معه عبر الفهم، وتمييز ما يمكن البناء عليه مما يجب تجاوزه.

إننا اليوم بأمسّ الحاجة إلى هذا الوعي التحرري، وعي لا يرفض الماضي جملةً، بل يتجاوزه بتبصّر. لقد آن الأوان أن نعيد النظر في كل ما تعلمناه، أن نطرح الأسئلة الصعبة بشجاعة، أن نحرر عقولنا من القيود غير المرئية التي كبّلتها، وأن نمنح أرواحنا الحق في أن تُزهِر خارج الإطار المرسوم سلفًا.

إن الشجاعة الحقيقية، كما علّمنا الدكتور الرفاعي، لا تكمن في تحدي الآخرين فقط، بل في مواجهة الذات، في مساءلة ما نؤمن به، والسير نحو ذاتٍ أكثر صدقًا واتساقًا مع الإنسان الذي نحن عليه اليوم، لا ذاك الذي أرادوه لنا بالأمس.

العالم من حولنا يتغير، والعصر الذي نعيشه لا يشبه الماضي في شيء. فلا يمكن أن نحيا اليوم بعقول الأمس، ولا أن نطالب بمستقبلٍ كريم ونحن نحمل على أكتافنا إرثًا يُثقل خطانا ويشلّ وعينا. إن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان لم تعد شعارات يُتغنّى بها في المناسبات، بل مطالب حقيقية يجب أن تترجم إلى واقع ملموس يعيشه كل إنسان، دون تمييز أو استثناء.

لذلك، فإن إعادة التفكير ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية. علينا أن نمتلك الجرأة لنفكر بحرية، وأن نحلم بمجتمع يليق بكرامة الإنسان، مجتمع يُبنى على المساواة والعدل، ويمنح كل فرد فرصة ليكون ما يريد، لا ما أُريد له أن يكون.

لقد آن الأوان… فإما أن نغيّر أو نُمحى.

***

سعد عبد المجيد ابراهيم

 

في خضم التطلعات نحو تطوير التعليم العالي في العراق ومواكبة التطورات العلمية العالمية، برزت دعوة من وزير التعليم العالي والبحث العلمي لتاسيس جامعة عراقية صينية متخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية المتقدمة. هذه الدعوة تثير لديّ جملة من التساؤلات والاستغرابات التي تستدعي التفكير والتامل.

اول ما يثير الاستغراب هو التركيز على انشاء جامعة جديدة تماما وكأن الساحة الاكاديمية العراقية تعاني من نقص في المؤسسات التعليمية. الواقع يشير الى ان التحدي الاكبر الذي يواجه التعليم العالي يكمن في تطوير جودة المناهج الدراسية، وتحديث البنى التحتية القائمة وتعزيز قدرات الكوادر التدريسية بدلا من اضافة صرح اكاديمي جديد قد يواجه نفس التحديات التي تعاني منها الجامعات الحالية.

الامر الاخر الذي يدعو للتساؤل هو التوجه نحو انشاء جامعة متخصصة في مجال ضيق ومحدد كالذكاء الاصطناعي. في حين ان التخصص الدقيق له اهميته في البحث العلمي المتقدم، الا ان فكرة انشاء جامعة بأكملها تركز على موضوع واحد تبدو غير معهودة وقد لا تكون مستدامة على المدى الطويل. فهل يعقل ان يكون لدينا جامعة للفيزياء واخرى للكيمياء وثالثة للاقتصاد؟ الجامعات عادة ما تزدهر بتنوع تخصصاتها وتكاملها، مما يخلق بيئة اكاديمية ثرية تحفز على التفكير النقدي والابتكار الشامل.

بدلا من ذلك، ارى ان الاولوية يجب ان تنصب على الاستفادة القصوى من التجربة الصينية الرائدة في مجال التعليم وربطها بالنهضة الاقتصادية. الصين، التي حققت قفزات هائلة في مختلف المجالات، اولت اهتماما بالغا بتطوير نظامها التعليمي وجعلته اساسا لتقدمها. الاجدر بنا هو السعي الى:

1.  مساعدة الجانب الصيني في تحسين وتحديث المناهج الدراسية في مختلف التخصصات في جامعاتنا القائمة، بما يواكب احدث التطورات العالمية.

2.  التعلم من الاسلوب الاستراتيجي الصيني في جعل التعليم ركيزة اساسية للنهضة الاقتصادية، وكيفية استقدام كفاءاتها في الدول الغربية لتساهم في ادارة الجامعات، وكيفية مواءمة مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل.

3.  استقدام الخبرات والكفاءات الصينية والعالمية للمساهمة في تطوير قدراتنا الاكاديمية والبحثية من خلال برامج تبادل الاساتذة والباحثين وورش العمل المتخصصة.

ان انشاء اقسام ومراكز بحثية متخصصة في الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية المتقدمة داخل الجامعات العراقية القائمة قد يكون خيارا اكثر فعالية واستدامة. هذا النهج يستفيد من البنية التحتية المتوفرة ويساهم في نشر المعرفة وتطوير الكفاءات في هذا المجال على نطاق اوسع.

اخيرا، لا يمكن انكار اهمية الذكاء الاصطناعي ودوره المتزايد في مستقبل العالم. الا ان الطريقة المثلى لتعزيز قدراتنا في هذا المجال تتطلب تفكيرا استراتيجيا ياخذ في الاعتبار الاولويات الحقيقية للتعليم العالي في العراق. بدلا من الانشغال بانشاء هياكل جديدة قد تستنزف الموارد والجهود، يجب ان نركز على تطوير الجودة والاستفادة من التجارب الناجحة للدول الاخرى، ومنها الصين، في بناء نظام تعليمي قوي ومستدام يخدم طموحات العراق في التنمية والتقدم.

***

محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار دولي

لكي نمتلك القوة الإقتصادية الحقيقية وليس التوهم بأن النفط والتفاعلات الريعية الخالية من الإنتاجية المستدامة تمثل الإقتصاد القوي.

يجب أن يكون في البلاد من النخيل ضعف أعداد المواطنين أو أكثر، ومن المواشي كذلك، وأي خلل في هذا التناسب الإقتصادي الحيوي، يعني ضعفا وجوعا وفقرا.

القوة الحقيقية إقتصادية ومنها تولد القوى الأخرى، فالضعف الإقتصادي يعني الضعف في كل شيئ، ومن يهمل بلده ومواطنيه، يُنظر إليه بإستصغار من قبل الآخرين.

الذين يعادون النخيل ويكرهون اللون الأخضر، وينتقمون من الحيوانات بأنواعها، هم أعداء أوطانهم ومعتقداتهم التي تدعو إلى الرحمة والألفة الإنسانية.

الدول الأوربية وغيرها من الدول المتمكنة إقتصاديا، من أولوياتها الثروات الزراعية والحيوانية، ولا تسمح بالنيل منهما أو إلحاق أي ضرر بهما، فهي تعلم أن الكرامة والعزة تتحقان بتحرر الرؤوس من قبضة البطون، ولا بد من الطعام الوفير قبل التفكير بأي شيئ، فالطعام أولا وما بعده تهون الأمور، أما إذا تعذر الطعام فتبعاته موت عميم.

الخطط الإقتصادية من ضرورات السيادة والقوة والتقدم والأمن والسلامة المجتمعية والإستقرار الوطني، والرفاهية والسعادة الإجتماعية.

فهل لدينا خطط إقتصادية نافعة؟

إذا جاعت بطون الخلق فيها

فلا أملٌ ولا عملٌ يقيها

توحشت الرؤوس بلا طعامٍ

وأولعت السلوك بما يليها

شرور من مجاعاتٍ أفاضت

تفاقم فعلها نقما يفيها

***

د. صادق السامرائي

تكسير الأجنحة من المعيقات الحياتية التي تستبد بسجن الحرية الانفرادي. فحين تتكاثف على الذات مساحات من مطارح المشاكل المتفحمة والضغوطات المتوالية، الكل يبدأ في البحث عن المكنسة السحرية للتخفيف من حواجز الرؤية الثانية ولو بزاوية منغلقة. الجميع مرَّ بتجارب قد تكون مفرحة، وقد يتخللها القهر النفسي والمعنوي، فيما الذاكرة فقد تخزن الألم والمآسي أكثر من لحظات البهجة والنشوة العابرة.

كيف لنا التحرر من رواسب الذكريات الحارقة، وإنعاش الذاكرة الفرحة؟ سؤال ليس بالسهل الإجابة عنه، لعدة اعتبارات تتحد وتوزع بين القدرة على التحمل، وبين الوصول إلى المحطة الأخيرة (أنا عَيِيتْ). من ذاكرة الفصل الدراسي كنا نتعلم من الخطأ، ومن التكرار الذي لا ينتهي، كنا نضع (منشفة) على أوراقنا المحررة بريشة المداد المائي، كي لا تتلطخ تلك الورقة البيضاء، وننال قسطا من تزكية عذاب العقاب.

من ذاكرة الفصل الدراسي، كنا نستعمل (الممسحة) على ألواحنا الحجرية، والماء على والصلصال على ألواح العود بالمساجد. من ذاكرة عمرنا الصغير في الفصل الدراسي ما بعد الاستقلال، لم يكن قلم (بلانكو)، بل كانت الممحاة لا تفارق مقلماتنا، مادامت هي المنقذ في التصحيح وحتى (التزوير) والنقل بالغش. ممحاة ذكية تتحدى قلم الرصاص، حتى أن صناعه، ركبوا علية عمامة من الممحاة، لأن رأينا في تلك المرحلة كان يعايش زمن (الجمر والرصاص ومسح الذاكرة العصية بممسحة التحكم !!!).

فوارق الزمن ووضعياته تتغير، فلم تعد تلك الممسحة ولا الممحاة ولا حتى المكنسة من تنقية المكان، ومن إنعاش ذاكرتنا الخيرة بالانتشاء، والتخلص من رواسب الزمن واللواحق العالقة. كنا في الزمن (الحديدي) بالصدأ (لا الذهبي) بعيدين كل البعد عن الدعم النفسي والتربوي وحتى الاجتماعي منه، فالدولة كانت متغولة، ولا تنشأ على قواعد الدولة الاجتماعية. عايشنا الألم والقهر والضغط وسلطة (العصا لمن يعصى !!!) وحتى اليوم لم ندرك من ذاك الذي كان يخاف من عصياننا وثورتنا الفاتنة !!!

من زمن الممحاة والممسحة والمكنسة السحرية نستعطف الدعم والمؤازرة. دعم نريد منه التخلص من الآهات الحزينة بالمسح والتطهر منها كليا. ممسحة تكنس كل العلاقات النفعية الانتفاعية، وتخلصنا من عدة وجوه وأصنام مرت بحياتنا بغثة لكنها تركت أثرا مملا وحزينا. مكنسة نريد التخلص من خلالها على ممرات غير سوية، ومتاريس أفزعت وضعياتنا، وفرملة مساراتنا الحياتية بدون أكياس أمان من الجروح الذاتية والمتخلفة بالاندمال عبر الزمن الذي يحتك ويولد حرارة الألم.

هي الحقيقة التي قد تخرجك وتخرجني من علبة الصندوق، ومن التفكير الدائري بالهوس. حقيقة فسح المجال للممحاة من تقليم الألم والفواجع، من نفض غبار التقادم على وجوه عالقة بحياتنا،  وبلا مناولة تبادلية، من كسب خيار المزامنة والمكانية، والعودة  لما تبقى من أيام الحياة المعدودات حسابيا بالراحة، وبلا استرجاع من صور قاتمة تحكم مستقبلنا وتصنع حاضرنا بالإكراه.

***

محسن الأكرمين

عام 2020 خاضت الاوساط الثقافية والاكاديمية في فرنسا معركة حول قبر الشاعر آرثر رامبو حيث وجه عدد كبير من المثقفين الفرنسيين عريضة تدعو الرئيس الفرنسى ماكرون ان ينقل جثمان الشاعر آرثر رامبو الى مقبرة العظماء "البانثيون " الى جوار عظماء فرنسا امثال روسو وفولتير وزولا وهوغو.. وقد كان الامر سيصبح مرحبا به من عشاق الشاعر رامبو لولا ان اصحاب العريضة طالبوا بنقل رفات الشاعر فيرلين ايضا ليدفن مع رامبو في مقبرة العظماء.. وهو الامر الذي اثار حفيظة عشاق شاعر فرنسا المتمرد الذين اعتبروا ان هذا الطلب هو مخالف لتجربة وحياة الشاعر رامبو الذي كان متمردا ضد المؤسسات الرسمية، لكن الاعتراض الاكبر جاء من عائلة رامبو حيث قالت إحدى حفيداته المتحدرة من شقيقه فريديرك، "إذا أدخل رفات رامبو وفيرلين إلى البانتيون معاً فالعالم سيفكر فوراً بمثليتهما". واعبترت أن هذه العلاقة الملتبسة لم تدم إلا بضع سنوات في مطلع فتوة رامبو.

 فيما طرح بيان الجماعات المناصرة لرامبو قضية العلاقة بين الشاعرين، فرامبو لم يكن مثيلياً طوال حياته حسب رايهم، وعلاقته بفيرلين يصفها فيرلين نفسه بـ"الحلم السىء" ، ومعروف أن فيرلين كان متزوجاً وكانت له مغامرات عشقية مع نساء كتب عنهنّ قصائد. أما رامبو فعاش مغامرة مع امرأتين فى عدن إحداهما حبشية وكاد أن يتزوجها. وقال البيان: "أيها الرئيس المنتبه للرموز، لا ترتكب هذه الزلة، لا تقتلع رامبو من أرضه الأم. دع رامبو الذى نادى بـ"الحرية الحرة" يرقد بهدوء بين أهله. وأورد البيان أن شاعراً واحداً كبيراً يرقد حتى الآن في " البانتيون " هو فيكتور هيغو من أصل 78 شخصية تستحق الدخول إليه، وإذا أرادت الدولة أن تصحح هذا النسيان فعليها أن تدفن هناك رفات شخصيات كبيرة مثل بودلير وجان راسين وموليير ولا فونتين وسان جون بيرس وسواهم. أما إدخال شاعرين معاً وليس شاعراً واحداً أي "ثنائياً مثلياً" ضمناً، فهذا ما لا يبدو بريئاً. فهل يدخلان لإبداعهما الشعري أم لعلاقتهما؟ ورأى البيان أن الجمع بين الاسمين هنا هو تبسيط ثقافي وخطأ كبير فيه إساءة لرمز ثقافي قاد حركة التمرد في الثقافة الفرنسية.

وبسبب هذه الضجة اصدرت صحيفة اللوموند عدد خاص عن شاعر الحرية كما اسمته وقد لخص لنا الاستاذ هاشم صالح في مقال له نشر في احد كتبه محتويات العدد الذي شارك فيه كبار نقاد فرنسا، ويعلق المفكر السوري هاشم صالح على هذا التكريم قائلا: ينبغي أن يقرأ رامبو أولئك الذين جرحتهم الحياة أو أولئك الذين لا يستطيعون التأقلم مع الحياة. هناك مسافة، هوة سحيقة، تفصل بينهم وبين الحياة. لهؤلاء، ولهم وحدهم، كتب رامبو. " ويضيف صالح: ". رامبو دعا، كما نعلم، إلى خلخلة جميع الحواس، وإلى الانخراط في كل التجارب الحياتية البوهيمية والهيجانية الجنونية ".

يرثي هاشم صالح لحال الثقافة العربية التي يراد لها ان تخوض حروب الطوائف بدلا من حروب التنوير، ويشير صالح إلى ان ثقافة الغرب غير معنية بسلوك الأديب وانما بانتاجه الثقافي ويضرب مثلا عن فكتور هيجو الذي عاش 83 سنة، وكان في سنواته الاخيرة يطارد الفتيات الصغيرات. وينغمس في سهرات ماجنةً دون كلل أو ملل حتى ان زوجة ابنه شارل المدعوة «أليس» كانت تنهره وتوبخه بسبب هذا التهافت المخجل على الجنس، وكانت تصرخ في وجهه: اخجل على حالك !، ومع ذلك عندما مات توقف قلب فرنسا عن الخفقان ونزل الملايين إلى الشوارع وتعطلت البلاد كلياً. ومشى رئيس الجمهورية في جنازته وكبار الشخصيات.

***

علي حسين

 

ما أسهل الكتابة في عصر النشر السريع وغياب المصحح اللغوي والنحوي، مما يستوجب الردع الأخلاقي والقيمي واللغوي الذاتي، فالكاتب رقيب قلمه، وعليه أن يشعر بمسؤولية الكلمة ودورها في الحياة، فالإنسان كلمة.

المسهبون لا يعني أنهم يكتبون، وإنما يعبثون بالكلمات ويؤذون الكتابة ويجهضون رسالتها ويبعدون القارئ، ويقللون من قيمة ودور القلم في الحياة.

فأجيال القرن الحادي والعشرين ما عندهم الصبر الكافي لقراءة ثلاث صفحات أو أكثر، فهم ترعرعوا في ضيافة الصورة والصوت والدفق المتسارع للمعلومات، فواحدهم أعرف من مئات الأشخاص الذين عاشوا قبل قرون.

فالصور بأنواعها أطاحت بالمكتوب، والمسموع تغلب على المقروء، والهاتف النقال إمتلك الإنتباه، وإستحوذ على عقول الناس، وصارت العيون مرهونة بالنظر إلى شاشته الصغيرة، التي منحتهم فرص التفاعل مع الدنيا بسرعة خاطفة.

في هذا المحتدم المعلوماتي المتأجج، كيف على الكتابة أن تكون؟

هل بالركض على السطور وإطلاق العنان للكلمات المتوافدة دون منهج أو ضابط، يساهم في توضيح وتقديم الفكرة بأسلوب ممتع ومفيد.

هناك مدرستان إحداهما غثيثة وقد سارت على خطاها الأجيال، وأخرى محببة ذات آليات مبسطة ومركزة وتستعمل المفردات الواضحة وتميل إلى المباشرة وتبسيط المكتوب ليكون يسيرا على الفهم والتمثل والإنهضام.

إن الخروج من آبار القرن العشرين، والتحرك على ضفاف القرن الحادي والعشرين يتطلب جهدا ووعيا، وقدرات إدراكية ومعرفية ذات قيمة وتأثير في الوسط الذي تتفاعل معه.

فنحن لم ندرس كيف نكتب، كما هو الحال في الدول المتقدمة، فلا توجد حصص دراسية بهذا العنوان، وكل منا يكتب على شاكلته.

المطلوب دراسة فن الكتابة في المراحل الإبتدائية، وبآليات معاصرة ومبدعة، وعندها سيكون للكلمة معناها ودورها وللكتابة قيمتها وتأثيرها.

فهل نحن أمة تكتب ولا تقرأ، وتتكلم ولا تعمل؟!!

كلمات قد أضاعتْ رشدها

وتواصتْ بغثيث حفها

وبإسهابٍ ثقيلٍ أبحرتْ

نهَرتْ كلَّ حَصيفٍ ودّها

كلماتٌ غامضاتٌ أومأتْ

برموزٍ لاتجاري ضنّها

***

د. صادق السامرائي

22\4\2025

في التسعينيات وبعد تحويل وزارة التخطيط الى هيئة التخطيط، دعانا رئيس الهيئة حينها الى اجتماع. وكان موضوع الاجتماع هو اطلاعنا على خبر عظيم، انه النية بترشيح رئيس الجمهورية لنيل جائزة نوبل في الاقتصاد !!

نعم هكذا وبكل بساطة..

السبب هو انجازه العظيم عندما اقترح ان يدفع كل مواطن يراجع اي دائرة مبلغ مئة دينار قبل السماح له بالدخول لانجاز معاملته..

قال السيد رئيس الهيئة ان ذلك الاجراء غيّر وضع موازنة الدولة من العجز الى الفائض وهو انجاز غير مسبوق يستحق جائزة نوبل في الاقتصاد...

مع ان الراتب في تلك الفترة كانت ثلاثة آلاف دينار او أقل..

حيث كان راتبي ثلاثة آلاف دينار مع خدمتي وشهادتي ووظيفتي..

اي ان أجري اليومي كان مئة دينار فقط...

ان الانسان ليصاب بالحيرة من الجهل والسذاجة التي تحكم عقول بعض الناس.  

كيف يدفع الشخص مئة دينار مع ان أجره مئة دينار؟؟؟

ثم ان منح نوبل او الترشيح لها لايتم بهذه الطريقة، اي ان تُرسل دولة ما رسالة الى لجنة نوبل لترشيح رئيسها...

لجنة نوبل غير حكومية وهي تدرس التاريخ العلمي للمرشحين

والذين قد ترشحهم جامعات كبرى او مراكز ابحاث مهمة.

بعضهم بدأ نشاطه العلمي في عمر الثلاثينيات وحصل على نوبل في عمر السبعينيات ...

يبدو ان الجهل مركب اضافة الى تملق الرئيس والنفاق السياسي..

الجهل العلمي الذي لم يستطع ادراك ان مقترح الضريبة آنف الذكر هو أمر مخزي ويدعو الى الشعور بالخجل لانه ضريبة على شعب معوز وجائع ومحاصر وانه نوع من الأتاوات القسرية التي تنم عن انفصال الحاكم عن الواقع..

اضافة الى الوجه الآخر للجهل وهو جهل قواعد الترشيح لجائزة نوبل...

ثم ان هذه الضريبة تعرضت الى سوء تطبيق اضاف لها بعداً سيئاً آخر، حيث أخذوا يطالبون حتى الشخص الذي يحضر اجتماعاً في احدى الدوائر بان يدفعها مع انه ليس مراجعاً.

(وقد حصل الأمر معي عندما ذهبت الى وزارة الصناعة لحضور اجتماع لجنة في مكتب الوكيل ولكن احد موظفي الاستعلامات وكان يرتدي اللون الزيتوني، طالبني بدفع الضريبة وعندما اخبرته بأني عضو لجنة لدراسة مشروع يخص وزارتكم، كرر مطالبته بالدفع واتهمني بمعارضة قرارات الرئاسة..

عندها قررت عدم حضور الاجتماع وعدم الدفع.. اتصل بي احد المدراء العامين معتذراً من سلوك ذلك الرجل ذو الزي الزيتوني سيء الصيت وقال انه رجل ريفي من حواشي بغداد ويريد أن يثبت انه مخلص للدولة اكثر من اهل تكريت).

في البلدان العاقلة لايتم فرض اي ضريبة او رسوم الا بعد دراسة اثارها على الافراد والمجتمع والاقتصاد والنمو وكذلك أثرها على الاستقرار السياسي والأمني..

لذلك كله نرى ان معظم الدول الكبرى تواجه عجزاً في الموازنة ولكنها تلجأ الى الاقتراض بدل فرض الضرائب لانها تعلم عواقب ذلك على الاوضاع الاقتصادية.. فرض ضريبة بائسة على الناس ليس عملاً اعجازياً او علمياً عظيماً..

***

د. صلاح حزام

في طريقٍ ممتد بين ملبورن وسيدني، وفي لحظةٍ من صمت السفر المليء بالتأمل، استوقفتنا تلة ترفل بالخضرة، متناثرة الأشجار، كأنها لوحة زاهية سكبتها يد فنان لا مرئي. تطلع إليها صديقي بدهشة قائلاً:” لا بد أن مزارعًا ماهرًا هندس هذا الجمال بعناية. “ لكنّ ما أحاط بها من عشوائية أنيقة، وهمسات الطبيعة الخفية، كان يوحي بأن ما نراه ليس إلا نسيجًا من الصدفة، نسجته الرياح والمطر والزمن، بعيدًا عن يد بشرية موجهة.

من تلك اللحظة، انبثق سؤال ظل يلازمني: هل نشكّل نحن مسارات حياتنا بإرادة حرة، أم أننا محض انعكاس لما يُحيط بنا من ظروف، وما يتخللنا من رواسب بيئية وتاريخية؟

انفتح النقاش بيني وبين صاحبي، فجادلت بأن معظم قراراتنا ليست قراراتنا في الحقيقة، بل هي تفاعلات تلقائية مع السياق، خُدع نسير في دهاليزها، نعتقد أنها اختيارات، وهي ليست إلا استجابات. وفي النهاية، حين نعود بذاكرتنا إلى ما ظننّاه خيارًا، نجد أنه شبيه بمنتج خرج من مصنع... له شكلٌ محكم، لكن ملامح التصميم جاءت من خارجه، لا من ذاته.

تذكرت في تلك اللحظة مسار حياة شقيقي أحمد، في العراق خلال ثمانينات القرن الماضي. لقد كان سليل مرحلة مضطربة، سكنت فيها السياسة في تفاصيل المعيشة، وتسللت إلى الذاكرة والعاطفة. عواصف تلك المرحلة حملته صغيرًا إلى حيث لم يخطط. مضى كما يمضي زورق في نهر مضطرب، يحاول بين الفينة والأخرى أن يُعدّل اتجاهه، لكن التيار كان دائمًا أقوى من المجداف.

البيئة تُنقش فينا قبل أن نملك قلماً نخطّ به مصيرنا

قبل أن يبلغ العاشرة، كانت روح أحمد تتشكل مثل الطين بين أيدي من حوله. في بيت الأسرة، غُرست فيه القيم الأولى. وفي المدرسة، تلقى بذور المعرفة. لكن التأثير الأعمق تسلل من مكان آخر... من عمه الذي خاض غمار السياسة في وجه نظام البعث، ومن صحبته إلى النجف وكربلاء وبغداد وسامراء، ومن حديث المناهضين للاستبداد والطغيان الحاكم انذاك وهم يهمسون عن الحرية والمساواة والعدالة.

في تلك الرحلات، التقى أحمد مثله الأعلى. لم يختره، بل اختير له. لم يكن يملك نضجًا يدرك به أبعاد ما يسمع، لكن الكلمات كانت كالنقش في حجر طري، تترك أثرًا لا يُمحى. تشكلت رؤيته للعالم، للخير والشر، للعدو والصديق، ولم يكن قد أكمل عقده الأول.

وهكذا، دون إرادة واعية، تسرّب القدر إلى داخله.

بدء في الثالثة عشرة، حُكم على أحمد بالسجن أكثر من أحد عشر عامًا، لا لأنه اختار مصيره، بل لأن المثل الأعلى الذي تشرّبه صبيًا ساقه إلى حيث لا رجعة. كانت قراراته انعكاسًا لقرارات اتُّخذت حوله، لا فيه. وهل يُطالب طفل لم يبلغ الرشد أن يتحمّل وزر اختيارات لم يخترها؟

في ذلك الزمن، لم تكن الأسرة مجرّد أم وأب، بل امتدت لتصبح قبيلة من القيم والرؤى، تصنع الطفل كما يُنحت تمثال من كتلة صخر. الكلمات التي سمعها، الوجوه التي رآها، الأحاديث التي دارت من حوله، كلها شاركت في تشكيل ملامحه النفسية والفكرية، دون أن يسأل: هل هذا أنا؟ أم هذا ما يريدونه لي أن أكون؟

وما بين الاختيار والتسيير، نُساق نحن بأحلامٍ ليست من صنعنا.

من هنا ينبثق السؤال المحوري: إلى أي مدى نملك حرية الإرادة، حقًا؟ حين ننظر في أعماقنا، نجد أن كثيرًا مما نظنه نحن هو في الواقع طبقات من مؤثرات سابقة: أسرة، ثقافة، تجربة، تعليم، ألم، وفرح... تتراكم فينا قبل أن نعي أنفسنا. وحين تبدأ إرادتنا بالتشكل، تكون تلك المؤثرات قد وضعت معالم الطريق.

لكن لا شك أن الوعي، حين ينضج، يمنحنا فرصة لإعادة النظر، لتفكيك ما غُرس فينا، وربما، لصنع مسارات مختلفة. ومع ذلك، تبقى البذرة الأولى، تظل حاضرة كظل طويل، لا نراه دائمًا، لكنه يسير معنا حيث نمضي.

إن قصة أحمد ليست استثناء، بل مرآة لأسئلة أكبر.هي تذكير بأن الإنسان كائن هشّ في مراحله الأولى، تكتبه البيئة كما تكتب الطبيعة خطوط التلال. وفي فهم هذا التداخل العميق بين الإرادة والظرف، تكمن بدايات الحكمة. فربما، حين نفهم هذه الجدلية، نستطيع أن نهيئ بيئات أكثر رحمة، أكثر مساواة وحرية، أكثر إنصافًا... لمن سيأتون بعدنا.

***

حميد علي القحطاني

ينقسم العراق الجديد إلى قسمين: واحد يعشق الأحزاب ويهيم غراماً بزعمائها الذين انتفخت جيبوبهم وأرصدتهم بعد عام 2003، وآخر يعشق العراق ويرفض أن يُدجّن، ويحتقر الطائفية المهيمنة على مقدّرات البلاد. وهناك بين هذا وذاك مَن يسمّى بالأغلبية الصامتة التي تذهب للانتخابات ليس حبّاً بفلان أو كرهاً لعلّان، لكنها تخاف على رزق أطفالها الذي يتحكم به ساسة العراق الجديد، الذين يتناسلون يوماً بعد آخر، في ألوان جديدة وطبعات أخيرة، ليس آخرها بالطبع بعض النواب الذين يتقافزون في الفضائيات، يشتمون هذه الدولة، ويسخرون من تلك الدولة، ويهددون ترامب بالاعتقال إذا ما فكر يوما ان يخطوا بقدمه الى ارض وادي الرافدين، يصولون ويجولون بين الفضائيات، من دون أن يسألهم أحد ماذا تريدون ؟ او يحاسبهم القانون على ما يرتكبونه من اساءات بحق العراق. سيتّهمني البعض بـ"العبط"، فهل يجرؤ أحد مهما علا شأنه أن يسأل هؤلاء السياسيين ومعهم جوقة النواب: ماذا تفعلون؟ سيُتّهم بالخيانة حتماً، وسيوضع اسمه على قائمة "أبناء السفارات" ويلصق به لقب "جوكر"، أليست أحزابنا العتيدة، كانت قد قررت قبل سنوات وفي لحظة تاريخية مهمة أن رفع اعلام الاحزاب بديلاً عن العلم العراقي يمكن أن يؤسس لعراق تعددي؟ وأن العناية بـ"بوتكس" عالية نصيف هي التي ستحمل السرور والحبور إلى هذه البلاد؟!..

للاسف تكررت في الأيام الأخيرة ظاهرة لا وجود لها إلا في هذه البلاد المغرقة في الخطابات والشعارات، تتلخص بمحاولة البعض أن يطمس العلم العراقي، ويفضل عليه اعلام لمؤسسات امنية او لاحزاب تعتاش على ثروات هذا البلد.

من المؤكد أنّ كثيراً من العراقيين يشعرون بالحسرة وهم يشاهدون كل يوم أمماً وشعوباً كثيرة تتحرك لتعديل أوضاعها، إنّ ما يفرقنا عن هذه الأمم التي تسعى دوماً إلى تصحيح أوضاعها المتردية أنهم يملكون قوى سياسية حيّة وفاعلة للتغيير.

الذين يقلبون في صفحات الطائفية ويصرون على اثارة الفتن واشعال الحرائق، لا يريدون أن يلتفتوا لقضية مهمة جداً، لكي تحترمك الامم الاخرى، عليك ان تحترم راية بلدك، وان لا تجعل بلادك تعيش تحت ظلال رايات متعددة وولاءات منحازة.

كان من الممكن التغاضي عن مهازل من عيّنة "خواشيك" وائل عبد اللطيف، وتظاهرات نواب الصدفة، وتظاهرات رفض القمة، لولا أن هناك من تعامل مع الموضوع بكثيرٍ من الاستخفاف بعقول الناس، وتصوير الأمر وكأنّ الدول التي ستحضر القمة تريد ان تسرق العراق. من حق الجميع ان يناقش في اهمية القمة او عدم اهميتها، لكن ليس من حق احد الاستخفاف بمكانة العراق، والسخرية منه لانه قرر استضافة القمة العربية ولهذا حين تخرج علينا جهة سياسية لها نواب ومناصب وامتيازات وهي تصر على الاساءة للعراق، فمن حقنا أن نسألها: ما الغاية من هذه الالعاب البهلوانية؟.

***

علي حسين

 

خذلتني النخبة التي ظننتها ذات يوم عماد التغيير، فإذا بهم عشّاق "اللقطة"، أسرى "ثقافة الفرجة"، يبيعون الكلمات في أسواق الشهرة، ويتقدّمون الصفوف لا لأنهم أهلها، بل لأن الكاميرا كانت هناك. خذلتني التجربة، وأخجلني أن أعرض ما تبقّى من وجعي في مجتمعٍ أصمّ، لا يسمع سوى صدى صوته، يصفّق لمن يصرخ أكثر لا لمن يصدق أكثر.

كنت أظن أننا نحمل معًا القضية ذاتها، فإذا بنا نبيعها عند أوّل صعودٍ، أو نُسكتها إذا تعارضت مع المصلحة أو الأنا. كلّما نظرت حولي، وجدت البطولة مجرّد استعراض، والشعارات تُغنّى ولا تُمارس. كم من مرّةٍ حاولتُ أن أصرخ، أن أُشير إلى الخراب، فوجدتني كمن يتحدّث إلى الطرشان في ميدان صاخب، يضحكون، يلتقطون صورة، ثمّ يمضون.

خذلتني "النخبة" كما خذل الزمن رجالاً صدقوا، وسقطوا دون أن يصفّق لهم أحد. لكنّني تذكّرت "صفعة الأم"، لا تلك التي توجع، بل التي توقظ. تذكّرت كيف يمكن ليدٍ واحدةٍ أن تُعيد إنسانًا من حافة الانهيار، وتمنعه من السقوط في العدم. هناك، في الزنزانة أو الحفرة أو قاع النفس، لا تنفع الكتب ولا الخطب، بل يدٌ تقول لك: انهض، لست وحدك، ولا يليق بك الانكسار.

أنا كاتب في قرية، أعيش على هامش المدن وأسواق العواصم، لا أملك سوى الكلمات سلاحًا، والدفاتر وطنًا، ومع ذلك صرخت... لا من أجل مجدي، بل لأجل من غرقوا في الصمت. لكن لم أجد من يُنصت، لم أجد سوى صدى صوتي يرتدّ إليّ في بلاد الطرشان. كتبت عن الخبز، والظلم، وعن أرملة تنتظر معاشًا، وعن طفلٍ لا يجد دواء، وعن وطنٍ يُباع بالتقسيط، لكن الردّ كان التجاهل أو التشكيك أو الابتسامة الباردة.

تعلمت من السجناء الحقيقيين، لا أولئك الذين يدّعون الاعتقال على "تويتر"، كيف يُبنى العقل ليصمد أمام التعذيب، وكيف تُقاوم الهزيمة بالشعر والصمت، لا بالشعارات الفارغة. رأيت كيف يمكن لإنسانٍ أن يكون رئيسًا بلا قصر، وبطلًا بلا موكب، وناجيًا بلا حقد.

الصفعة ليست إهانة، بل امتحان. والنخبة ليست من يصرخ في المنصّات، بل من يهمس في الخفاء ليصنع شيئًا. والحرية، ليست أن تقول ما تشاء، بل أن تبقى وفيًا لما كنت تؤمن به حين كنت وحيدًا.

اليوم، حين يسألني أحدهم: لماذا لا تنتقم..؟ أقول: لأنّني أرفض أن أبقى سجينًا للخذلان. وحين يسألون: لماذا لم تتسلّق مثلهم..؟ أقول: لأنّني ما زلت أؤمن أنّ الطين أطهر من الذهب إذا التصق به ضمير.

سأمضي، وقد لا أملك شيئًا سوى ظلّ هذه الصفعة، وصفاء هذا الحزن، وذاك الصوت الخافت في داخلي: "لن يأخذوا مني ما لا أمنحه".،،!!

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث

ان الدين موضوع مهم جدا في حياة الإنسان فقد أخذ حيزا واسعا  من الدلالات للوصول إلى مفهوم الدين واشتقاقاته ومنها التدين وعندما نقرأ في القرآن الكريم (ان الدين عند الله الإسلام) ونحن نعرف أن كلمة الإسلام هي مفهوم شامل لكل فرد في هذا العالم حيث أن كل الرسل والنبيين يؤكدون على الإسلام أي الخضوع والتوجه والعبادة للإله الواحد هو الله تعالى لا شريك له وليس له كفوا أحد وأن الله قد أختار من بين خلقه في هذا الكون الواسع المعروف والغير معروف (الإنسان) ليكون خليفة في الأرض وجعل من ذريته خلفا بعد خلف حتى قيام الساعة ولم يتركهم هملا بدون رعاية أو توجيه في هذه الحياة الدنيا وهي الاختبار الحقيقي والفتنة الكبرى لغرض أعداده إلى الحياة الأبدية فقد بعث فيهم الأنبياء والرسل بتعاليم وشرائع ومنهاج وأسس وثوابت لغرض العيش وتنظيم حياتهم وسلوكيات وممارسات متعددة للوصول إلى مراد الله تعالى لهذا الإنسان المختار بدقة وعناية ألاهية لمنحه حياة حرة كريمة منظمة ومن هذه المقدمة البسيطة نستطيع منها الانطلاق إلى محاولة معرفة معنى (الدين) وبما أننا مسلمون من أتباع النبي الخاتم محمد صلوات الله عليه علينا أن نأخذ مفهوم ديننا من الكتاب المرسل إلينا من الله تعالى القرآن الكريم لهذا نستعرض من خلاله معنى كلمة الدين وكيف استعملها وطرحها بدقة حسب ما وردت فيه فأن كلمة الدين تعتبر كلمة واسعة المعنى ومفهوم مطاط بمعانيها الكثيرة في حياتنا اليومية منها .

1-  الاعتقاد والسلوك والالتزام بمبادئ وأفكار معينة بعينها كمنهج اعتقادي طوعي وفكري حر كما قال الله تعالى (أن الدين عند الله الإسلام) عمران 19 و(لكم دينكم ولي دين) الكافرون 6 .

2-  الخضوع والطاعة كما قال تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك الدين القيم) البينة 5 .

3-  وقد جاءت كلمة الدين بمفهوم السلطة والمُلك والسلطان كما ذُكرت (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) يوسف 76 .

4-  وقد جاءت بمعنى القانون والشريعة والسنن التي تنظم الحياة الأسرية والمجتمع والفرد على مختلف أنواعه وجنسه كسلوك يومي من قبل المشرع الأول الخالق لهذه البشرية في كل زمان ومكان (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك) الشورى 13 .

5-  وكذلك الجزاء والعقاب المطلق لله تعالى خالق الخلق المتفرد بالوحدانية بهذه العقوبات في الآخرة حصرا من دون غيره من العباد على أفعاله ومعتقداته .

6-  ومنها الطاعة والإدارة والهيمنة والقدرة المطلقة على الخلائق والسموات والأرض والكون جميعا كما قال تعالى (وله ما في السموات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون) النحل 52 .

أذن أن الدين بمفهوم القرآن يعني (الملك-السلطان-الجزاء-السلوك والمبادئ-الحُكم-القانون-الخضوع-الطاعة –العمل الصالح –الإيمان بالله وحده) أن هذه المفاهيم تعبر عن التعاليم المقدسة الصادرة من مصدر واحد هو الله تعالى للعمل بها من قبل الإنسان وهي مفاهيم وقيم اجتماعية تصب في بودقة واحدة تسمى (الدين) وهي ممارسات فردية وجماعية في حياته اليومية للوصول إلى درجة الكمال الأخلاقي المراد له أن هذه السلوكيات الفكرية والعملية للفرد هي السبيل الوحيد للوصول إلى عبادة الله تعالى بالإضافة إلى الشعائر التعبدية الأخرى بعيدا عن الرهبانية والتعصب والاعتكاف عن البشر والمجتمع والابتعاد عن خدمة المجتمع وإصلاحه وتحضره وهي (الصلاة – الصوم – الزكاة – الحج) كلها تؤدي إلى العدالة والمساواة وحفظ الإنسان من إتباع الشهوات والزلات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعلون) النحل 97 وكذلك (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) النساء 124 فأن العمل الصالح والإيمان بالله والعلاقات المثمرة بالقيم والأخلاق والمبادئ التي تبني المجتمع عبر عنها القرآن وأوجزها بالآيتين (أن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئة من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 62

***

ضياء محسن الاسدي

لكل إبداع قاعدة معرفية ينطلق منها، والقول بأن الإبداع نشاط مجرد ومتفرد هذيان وثريد حول صحون الخيبات.

فما هي القاعدة المعرفية لإبداعنا؟

هل نصنع ونزرع ونبني ونتطور؟

هل للمواطن قيمة ودور؟

ما هي ملاحمنا الحضارية التي تولّد الإبداع الأصيل؟

إبداعهم إنطلاقات حية واعدة بالجديد المتفاعل مع زمانه ومكانه، وإبداعاتنا فراغية وهمية خلبية الملامح والخصائل والمميزات.

فلماذا ندّعي الإبداع ونخادع أنفسنا؟

الإبداع الحقيقي أن تتحول الأفكار إلى كينونات فاعلة في الحياة.

لازلنا نتحدث عن النظرية والتطبيق والتراث والمعاصرة وأزمات عقلنا، ونتمنطق بأننا نبدع، وننشر كلاما غامضا إنكساري الملامح والتصورات.

الإبداع توثب له أركانه وأبجدياته العملية المؤثرة في مسيرة الأجيال، والآخذة بهم إلى فضاءت المعالي والإبتكار المبين.

عطاءاتهم متجددة، وأكثرنا مندس في حفر الأجداث، وينبش مدافن الغابرات، ويقتدي بالأموات، ويخادع نفسه بأنه يمارس الحياة.

الإبداع بذور أفكار تنبت في ثرى الأحياء، وتكون أشجارا وغابات ومروج رقاء، فهل تفتحت أفكارنا، وتأصلت معطياتنا العصماء؟

أجيالنا وكأنها تطارد خيوط دخان، وتتعلل بما وردها من حكايات وتخيلات عن حالات لا وجود لها في زمانها ومكانها، فحلقت في فضاءات أبعد مما تتصوره الألباب.

حرروا الأفهام من قيد البطونِ

وابصروها إنها قرب العيونِ

كجياعٍ ما صنعنا ما أردنا

وانتهينا في متاهات الظنونِ

قولنا الإبداع فينا لا يُضاهى

هل عشقنا بعض أنواع الجنونِ؟

***

د. صادق السامرائي

الخيال من وجهة نظرنا هو القدرة علي التجريد، او التصور وإعادة تشكيل الأشياء ذهنياً اولاً ثم محاولة تطبيقها علي ارض الواقع بصورة جديدة.

هل الخيال كائن حي؟ نعم

قال الفيلسوف وعالم الفيزياء ألبرت أينشتاين بأن المنطق يُنقلنا من الألف إلي الياء، بينما الخيال يُنقلنا إلي اي مكان، فذلك يدل علي حيوية وأهمية الخيال، فقوة الخيال تجعله قادراً علي تغيير الواقع، فقد وُهب الإنسان الخيال، لكي يقوم بتطوير حياته، فلا أجد حرجاً عندما نقول بان كل نتاج الإنسان من الفكر والعلم والتكنولوچيا، كله مردود إلي خيال الإنسان، فهو ينبوع الإبداع الذي لا يجف أبداً.

الخيال كائن حي يعيش مع الإنسان، هو عالم الممكنات، أليس السفر عبر الفضاء، كان مادة خام لأفلام الخيال العلمي، وقصص الخيال، والآن أصبح واقعاً ملموساً، أليست فكرة الطيران أيضاً كانت في حيز الخيال، رغم المحاولات الفاشلة الأولي في تحقيقها، فقد مات “فرانز ريتشليت”محاولاً الطيران من أعلي برج إيفل عن طريق بذلة طيران من صنعه، وعباس بن فرناس أول من حاول الطيران بالتاريخ رغم إصابته ببعض الجروح في محاولته الطيران بالقرب من قصر الرصافة بقرطبة الاندلس، فكانت موضع إلهام للمخترعين فيما بعد، وقد تم التحقيق بالفعل، وأصبح الإنسان يطير ويجول العالم.

الخيال لصيق بالإنسان، ومن وجهة نظرنا المادة الخام للخيال هو واقع الإنسان، عندما تبدأ الحاجة يبدأ الإختراع، ولن يتم الإختراع إلا بهذا الوسيط الجمالي وهو الخيال.

كل إبداع جديد يولد من رحم الخيال، فهو الأرض الخصبة للإنسان، يزرع أحلاماً يريد تحقيقها، وبالإصرار والمحاولة الدائمة يحصد آمالاً ويحقق كل شيء كان يعتقد انها مستحيلاً، وحتي كلمة مستحيل بالأنجليزية Impossibile منقسمة إلي شقين I,m possible يعني انا ممكن، كما قال دكتور /إبراهيم الفقي.

كذلك الخيال فهو عالم الممكن، كل ما يتصوره العقل البشري، فهو قيد التحقيق ولكن في حدود مهاراته وإمكانياته، لانه لايزال هناك أفكار محصورة داخل بوتقة الخيال كالسفر عبر الزمن مثلاً.

ولكن هذا لا يمنعنا من القول بأن الخيال كائن حي يعيش معنا في أدق تفاصيل حياتنا، فهذا المنزل كان رسمة في مخيلة المهندس تم تحقيقها بالتعاون مع العمال والبنائين، وتلك السيارة قبل تكوينها كان صورة في عقل المصمم إلي ان تم صنعها بوسائل التصنيع الحديثة التي هي الأخري من وحي خيال الفنيين والتقنيين.

سيظل الخيال كائن حي قريناً بالإنسان يسد إحتياجته بطريقة تليق به، يغير به حياته إلي الأفضل.

***

محمد ابو العباس الدسوقي

أمة فيها رموز معرفية ساطعة، لها دورها الثقافي وقدرتها الإبداعية المتميزة، وتصف الأمة بالإنحطاط وهي فيها.

لا يُعرف كيف تتجرأ على هذا القول، وهي رموز منوّرة تتباهى بها الأمة وتتفاخر وتتألق.

فكيف يُفسَر هذا السلوك أو الشعور السلبي تجاهها، وكأنها حالة خيالية متصورة، وليست مجموع أفرادها ومجتمعاتها المتفاعلة.

هذه الحالة تقدم صورة جلية عن مدى تأثير الحرب النفسية الغاشمة القاسية الضارية على وجودها، فلكثرة القول بالسلب عن أحوالها، صار من العسير على نخبها رؤية الصورة بوضوح، وتسيَّد الوهم بأنها خامدة مقعدة، لا قيمة ولا دور لها، ولو إختفت لن تتأثر الدنيا، وكأنها دعوات للإعداد لمحقها بضربة نووية هائلة.

فالثقافة المعادية لوجودها تنتشر، ويساهم فيها أبناؤها من جميع دولها.

الأمة فيها جامعات ومراكز علمية وبحثية وقدرات معرفية وحضارية هائلة، ولا نعرف سوى الكتابة بمداد السوء عنها، ونعزز ذلك بفعاليات مأساوية متوجة بدين.

فالأمم يتحقق قتلها بالإجهاز على نخبها وتحويلهم إلى أدوات للتعبير عن إرادات الطامعين فيها.

إذا قلنا أن الأمة بخير لا يعني إغفال ما تعانيه، بل تسليط الأضواء على الإيجابي فيها لكي يتنامى ويتطور ويمحق ما هو مضاد لخطوها إلى الأمام.

إنها ليست نظرة خيالية، أو تصورات طوباوية، بل جد وإجتهاد للإنتقال إلى مدارات الصيرورة المتوافقة مع جوهرها الحضاري الإبداعي الأصيل.

فالقول بذلك ليس من باب النظر بعين واحدة، وتجاهل الواقع والقفز فوقه، وإنما ناجم من رؤية شاملة وعميقة وإطلاع واسع على مسيرتها وتراثها، وما فيها من طاقات وقدرات كغيرها من الأمم الأخرى.

وبما أن عددها السكاني في تزايد، فأن إحتمالات إنجابها للأفذاذ النوابغ سيتزايد، وهذا يعني أن أجيالها واعدة وليست قاعدة.

وعلة الأمة أنها ما تولاها صفوتها وأكفاؤها، وأذعنت للمُسخرين لتنفيذ أجندات الآخرين.

ولهذا فأن القول بأن الأمة "منحطة" إعتداء سافر على وجودها وقيمها ومعاني كينونتها الكبرى، ورسالتها الحضارية الإنسانية الساطعة.

فهل لنا أن نكتب بمداد جوهر أمتنا؟!!

أمةٌ تبقى وتحيا حرةً

باقتدارٍ تتسامى عِزةً

كونها كونٌ فسيحٌ مطلقٌ

برسالٍ سوف تمضي قدوةً

أمةٌ شادت صروحا أشرقت

بعصورٍ وأقادت ثورةً

***

د. صادق السامرائي

لو كنت أجيد صنعة الشعر لنعيت موخيكا بـ: موخيكا مات ...مثلما فعل أحمد فؤاد نجم، فموخيكا وجيفارا كلاهما كان استثناءً وكلاهما ينتمي الى أمريكا اللاتينية وكلاهما بات أيقونة ليس لليسار فقط بل لكل النفوس المتعطشة للحرية والعدالة الاجتماعية...

لكني لست شاعراً واحمد فؤاد نجم مات وعريان مات وإلا لأنابا عنا وسارعا الى نعي موخيكا... لقد مات الشعراء وأجدبت دنيا الشعر...

موخيكا...أفقر رئيس في العالم، حكم بلاده الأرغواي وكانت فاتحة أعماله إنه حول القصر الرئاسي الى ميتم للأطفال وسكن في بيته المتواضع في مزرعة خارج العاصمة، وفعل مثلما فعل علي فلم يقرب قصر "الخبال"، وعاش بـ 10% من راتبه في حين خصص الـ 90% للجمعيات الخيرية، وركب الفوكس واكن موديل 1987 ولم يسمح لنفسه بالمواكب الجرارة وهو بذلك تماها مع سلوك علي الذي توهم به أحد متسوقة الكوفة من الأعراب فظنه حمالاً وطلب منه حمل متاعه في حين أنه كان يحمل رتبة أمير المؤمنين ...

لكن موخيكا أبطل مفعول قاعدة تنسب لعلي أشك في صحة نسبتها إليه تقول": لا تطلب الخير من بطونٍ جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باقٍ، بل اطلب الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق."

 فتلك القاعدة إن لم يكن منشأها وعاظ السلاطين ويقصد منها احتكار أمر الأمة بالأغنياء وأبناء الذوات دون غيرهم واقصاء الفقراء عن الأمر، فإنها إن كانت قاعدة فالقاعدة تحتمل الاستثناء، وقد أثبت موخيكا أنها لا تصح على الجميع، وكأني به يخاطب علياً من مسافة بعيدة قائلا: لا يا صديقي فأنت من عائلة يشار اليها بالبنان وكان بإمكانك أن تجني من وراء ذلك ماجناه رفاقك من ثروة لكنك لم تفعل، والآن أنظر: أنا نشأت من عائلة متواضعة فأبي كان مربي ماشية وأمي عاملة بستنه ومات أبي وعمري ست سنوات فقط ومن يومها عملت بصفة عامل زراعة وبيع الزهور لأساعد في إعالة عائلتي، لكني عندما صرت رئيساً ركلت مثلك قصر الخبال وعافت نفسي مثل نفسك ركوب المواكب والأرتال...أنت يا صديقي تتكلم عن القاعدة وليس عن الاستثناء وانت وأنا استثناء...

والدليل. دونك أتباعك... فقد ولدوا وفي أفواههم ملاعق من فضة جنوها من استغلال أبناء جلدتهم، أو مما فائت الحقوق الشرعية به عليهم من حرام فكبرت كروشهم واحمرّت خدودهم. مع ذلك فإنهم عندما بلغوا السلطة رتعوا رتع الجمال في أكداس العاقول والحلفاء، وساحوا فيها كما يفعل الجاموس في هور الغموكَه...وأطبقوا عليها كما تطبق الضواري ومجموعات الضباع الجائعة على جيف النطيحة والفطيسه...

لو علق معشار عبقك في رئاتهم عندما يمسحون شفاههم يلثمون ضريحك لكان الأمر في ربوعك غير ما نرى ونسمع لكنهم يا صديقي احتضنوا الذهب وأشاحوا عما في داخله فبئس التجارة تجارتهم، وبئس المصير... 

 "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنَّما نحن مصلحون ألا إِنَّهُم هم المفسدون"، أصحاب الكروش المتهدلة والمؤخرات السائحه ...مناعيل الوالدين.

***

د. موسى فرج

قد لا نجد فَرقا نيرا بالتمايز بين البلاهة والتفاهة، غير أن البلاهة تُفكر في المتاهات الدائرية المغلقة، بينما التفاهة تعتبر كبنية من إنتاج تشويشات (اللافكر)، والمنحدر من (مُوضة) الخروج عن الثقافة المألوفة. أشباح جدد من جيل (كهنة المعابد)، يفقهون فقه البلاهة في قياس أحكام القيمة، ويوزعون صكوك الغفران، وحتى التخويف من نار الفتنة !!! ويجعلون من (الفوضى المعرفية) مسوغا آليا لترويض الكذب كي يظهر بأنه يوازي الحق والحقيقة !!! إنه وجه شبح الافتراء، كي يصبح أمام أعين (سدنة المعبد السياسي) حقيقة من ألسن أكلت (الشوك)، وعند عوام القوم (تمساح البحيرة)، وعند مستهلكي أخبار الشارع (الفايسبوك) من (عفاريت) الإغواء، ونشر عدوى (الحقد الاجتماعي / التباغض السياسي وحتى الهوياتي منه...).

مأساة جديدة تُضاف بقوة في عصر الذكاء والحكامة، تجعل من البلاهة تفكر بفكر الوصولية والانتهازية وتماثل:(الإنسان الذي يحمل نسخة استنباط عند العالم (إيفان بافلوف/Ivan Pavlov/ المثير والاستجابة) عند بطون كلاب وقطط البلاهة الخنوعة، و(المذلولة) في تبعيتها الانتهازية).

هنا رأي لا بد من الإشارة إليه، أن من بين (صعاليك) البلاهة الجدد بالتخصيص لا التعويم، من يقدم نفسه على أنه من صنف الخبراء الأشداء على العلم والفكر، أو من أصناف السياسيين والحقوقيين والإعلاميين... والمدونين... والمؤثرين... يسوقون بأنهم يمتلكون رصيدا متحركا من الاستهبال و(تبنيج) الآخر، في حين تتخلف عنهم الأجزاء الرزينة من فكر الثقة والمصداقية.

نوعية جديدة من طينة البلاهة (الاستهبال)، يستهدفون أجزاء من المجتمع، كي لا يميز بين رواد التفاهة الأوائل (الصعاليك)، وجيل من البلاهة الجدد (الوصوليون والانتهازيون المنبطحون بالهرولة) نحو المنافع الذاتية!!! ومن سوء التنبيهات اللازمة، أنهم يتصنعون المفهومية العقيمة، وينقبون عن الدرهم الذي قتل (الحلاج) تأففا، للاسترزاق وقضاء مآربهم الأخرى.

 ومن سوء حسهم بعظمتهم في فقه التفاهة والبلاهة، أنهم باتوا يُصدقون (بعضهم البعض)، وحتى البعض من التعاليق التي تدون بألسن التماسيح الماكرة (وَلاَحِسِي الأحذية). يعيشون في أنفة من نرجسياتهم، وينصبون أنفسهم أوصياء (العفة) على المجتمع ، وحتى على السياسيين (المارقين) في الرأي والرفض، وعدم ركوب أمواج الصمت.

إن مسألة التفاهة عامة، تُوازي في التصنيف العالمي البُلهاء بالقصد والدلالة. وقد تزيد البلاهة عندهم من نسبة تدفق(الأدرينالين) والخوف الأبدي، وكأنهم (أَعْجَازُ نَخْل خَاوِيَة/ قرآن كريم/ سورة الحاقة) تسقط من عروشها المصداقية والجدية. إن الحكمة عند عُصبة التفاهة (الجدد) تتمثل في نشر الفُرقة (الخَواضْ)، وإحداث شرخ داخل المكون الواحد ورمي نبال الرمح (المسحور) بالنقد المبتذل على كل من يسفه أقوالهم !!!

التجربة في باب البلاهة وما جاورها من التفاهة والبهتان، تأتينا من تتبع تلك السجالات العقيمة، والمتدنية بالركاكة والتسفيه والدونية. من تم نستوثق أن البعض يعشق النهل من التفاهة إلى درجة أنه بات متخصصا في إنتاج علاماته الحصرية في (البلاهة)، وغياب الفطنة والحكامة والنضج العلمي والأكاديمي. التجربة تعلمنا، أن البلاهة متضمنة لعناصر متنوعة من الاستهبال (الفنتازيا) غير المألوفة، وتتأسس على زوبعة من الفوضى الأشد مكرا، وانتهاكا لدولة الحق والقانون.

***

محسن الأكرمين

يوم أمس نشرت مواقع إخبارية وبعض مواقع التواصل الاجتماعي خبرا يثير البهجة والفخر بالإنسان العراقي.. الخبر يقول ان الطبيب العراقي انور نوري حافظ أجرى خلال عشرة أشهر ما يقارب 500 عملية جراحية معقدة في الدماغ دون مقابل. وكنت قبل أيام شاهدت على موقع اليوتيوب حوارا قصيرا مع هذا الإنسان فوجدته عملة نادرة في زمن "صبيان السياسة" ومهرجي الفضائيات.. الطبيب الذي أحيل على التقاعد يرفض أن يتقاضى أجرا على عمليات معقدة، وهو يبرر ذلك، ويقول مبتسما ان العراق أعطاني الكثير، وعليَّ أن أرد جزءاً من الدين إليه.

فيما مقابل هذه الصورة المشرقة شاهدنا، وسمعنا المحلل السياسي وصاحب مركز للبحوث باسم "ألوان"، يرفض أن يطلق اسم الخليج العربي، ويتهم الذين يتحدثون عن العرب بأنهم يرفعون شعارات بعثية.. تخيل جنابك، يقبض راتب أستاذ جامعي، ويعمل مستشارا في مجلس النواب، والدولة العراقية منحته سيارة حديثة وحمايات تسهر على راحته، لكنه يرفض الانتماء إلى هذا البلد.

سيقول البعض هل يستوي هنا من يقدم صورة مؤثرة وزاهية عن العراق، بآخر يستخدم مهارات زائفة في خداع الناس وتضليلهم؟، هنا نحن أمام نموذج يشحذ همم الناس، وآخر يسخر منهم. الأول مثل انور حافظ وأستاذه العبقري سعد الوتري اللذان كان بإمكانهما أن يعيشا، ويتمتعا بأرقى دول العالم، وهما الجراحان الماهران، لكنهما فضلا صالة العمليات في مستشفى بغدادي، بينما الثاني مثل محللنا صاحب مركز ألوان، نجده كل يوم يلبس ثوبا بلون جديد، الهدف منه الحصول على الامتيازات والعطايا.

ونحن نقرأ سيرة الطبيب انور حافظ، نتحسر على زمن يحكمه أمراء الطوائف ومراهقو السياسة، زمن أصبح فيه كل شيء سهلا، المال العام أصبح خاصاً، والمنصب لا يسعى إليه من خلال الاجتهاد والعمل والخبرة، بل الوسيلة إليه هي التزوير والانتهازية والمحسوبية.

ربما سيسخر البعض مني ويقول: يا رجل لماذا لا تتوقف عن متابعة يوميّات "كثيري الفتن" ألا تشعر بالملل؟ سؤال أراه وجيهاً مئة بالمئة، ومطلوب من "جنابي" أن يكون جوابه أكثر وجاهة، فأنا ياسادتي الأعزّاء، مجرّد مواطن عراقي مغلوب على أمره، لا أجيد غير مهنة الكتابة، أبحث عن دولة قابلة للتطور في وطن قابل للحياة. عدالة اجتماعية وتوازن في الخير والمحبة، لا في الشعارات الطائفية، وتقلبات نواب الصدفة. فالحقيقة المؤكدة أن العراق أكبر من كل الذين يريدون تقزيمه وإهانة تاريخه، حين يربطون مستقبله بمصالح بلدان الجوار.

أعتقد أننا اليوم بأمس الحاجة اليوم إلى نموذج الدكتور انور حافظ، ربما يستطيع إخراج العديد من ساستنا ومسؤولينا من أزمة قصر النظر، ويشير لهم الى ان المواطنة لا تعني الحصول على " المالات " فقط مثلما آخبرنا العلامة محمود المشهداني .

***

علي حسين

هل أصبح فنانو مصر دمى متحركة في سوق "الموضة" العالمية، يغيرون جلودهم مع كل نسمة غربية عابرة؟ أم أننا أمام تمرد مفتعل على هويتنا، يلبس ثوب "الحرية الشخصية" بينما جذوره اغتراب عن تراب الوطن؟! 

لم تعد المسألة مجرد "حلق أذن" أو "ملابس صارخة"، بل هي زلزال يهز أركان مفهوم الفن الرجولي الذي صنعه عمالقة مثل يحيى شاهين وفريد شوقي، الذين جسدوا الرجولة بكرامة الوقفة، لا بتهافت المظهر. أولئك الذين ارتضوا أن يكونوا مرايا لوجدان الشعب، لا نوافذ مكسورة تطل على قيم مستوردة!

يدعي البعض أن ارتداء الرجل للحلق أو الملابس الأنثوية هو "حق شخصي"، وكأننا نعيش في جزيرة منعزلة! أينشتاين قال: "الحرية ولدت مقيدة"، فكيف بفنان يمتلك أعين الملايين؟! إن اختيار النجم أن يكون دمية في كرنفال الموضة الغربية ليس حرية، بل استلاب يبيع الهوية بثمن صورة سيلفي. 

أما آن الأوان أن نسأل: لماذا يتحول الفنانون فجأة إلى سفراء لـ"ثقافة الاستهلاك" الغربية، بينما مهمتهم صناعة فن يعبر عن روح شعب له ألف عام من التاريخ؟! هل رأيتم فريد الأطرش أو عمر الشريف يلهثون وراء "موضة" تتعارض مع وقارهم؟ 

فنانون.. أم مهرجو السيرك؟ 

الخطير في الأمر ليس تغيير المظهر، بل تحويل الفن إلى ساحة لـ"العبث بالذات"، وكأننا في سباق لتقليد كل ما يصلنا من وراء البحر! حين يرتدي الفنان حلق الأنف أو الأذن، فإنه لا يموضع نفسه فحسب، بل يدفع آلاف الشباب إلى حافة الانهيار الثقافي، ظنا منهم أن "التمرد" يقاس بغرابة الزي! 

أليست مصر التي أنجبت طه حسين وأم كلثوم أولى بأن تحمي فنها من أن يصير مسخًا؟ أم أننا صرنا نستورد حتى مفاهيم الرجولة من على منصات "إنستجرام"؟! 

العبث بالذات.. أم العبث بالوطن؟

لا يخطئ من يرى في هذه الظاهرة رائحة استعمار جديد، يغزونا بـ"ثقافة الفرجة" بدلًا من المدافع. الغرب يبيع لنا سمه في علب ملونة باسم الحرية، ونحن نهتف: "اشربني"! 

أما آن للفنان أن يتذكر أنه ابن النيل، لا ابن "نيويورك"؟ أن يدرك أن الرجولة ليست قماشًا يخاط على المقاس، بل شرف يحمله في قلبه قبل مظهره. 

هل ننتظر حلق السرة؟! 

إذا كان هذا هو "الفن الجديد"، فليعلم أصحابه أن الشعب المصري، الذي حفظ ترانيم الثورة والمقاومة، لن يقبل أن يستبدل فن الكرامة بفن "الكاريوكي الثقافي". 

فليحذر الفنان أن يتحول من نجم في سماء الوطن، إلى شهاب ينطفئ في سماء الغرب. ولتذكر الأجيال أن مصر العظيمة تبنى برجال يرفعون رؤوسهم مع الشمس، لا بمن ينحنون لريح الموضة العابرة! 

كفى استهانة بذوق الشعب! فالفن الحقيقي لا يقاس بغرابة الإكسسوارات، بل بعمق الرسالة، وصدق الهوية.

الانحدار إلى الحضيض...!" 

إذا كان سقوط الأمم يقاس بقدر ما تسمح به من انتهاك لكرامتها، فمصيرنا—يا سادة—أن ندرس في كتب التاريخ تحت باب: "شعوب أحرقت تروسخها بأيديها"! فما كان من محمد رمضان إلا حلقة في سلسلة العار التي صرنا نتبارى في صنعها، وكأن الوطن صار مهرجاناً مفتوحاً للانبطاح! 

أتعرفون ما الفرق بين "الخول" قديماً و"الخول" حديثاً؟ الأوائل كن ضحايا نظام ذكوري قاس، فنفين إلى الصحراء كي لا يشوهن صورة "الدولة الحديثة"، أما اليوم، فـ"الخول" الجدد يصعدون على أكتاف الإعلام، ويرقصون على أنقاض هيبة الوطن، بدعم من نخبة تعتبر الهوية المصرية "برانداً" يعبأ في زجاجات العهر! 

لن أذكركم بأن الجنيه المصري—الذي داس عليه رمضان—يحمل صورة كليوباترا، ملكة لم تسكن قصورها الذهبية، بل خرجت تموت بلسعة أفعى كي لا تركع لروما! لكن رموزنا اليوم صارت أضحوكة: كليوباترا ترقص على الدولار، والعلم يهان في حفلات من يبيعون أوطانهم بقطع نقود! 

أَما آن لكم أن تفهموا؟! حين يلقى القبض على شاب لأنه "حرق علم إسرائيل" على فيسبوك، بينما يكافأ من يدوس على علم مصر في الواقع، فاعلموا أن البلاد صارت تحاكي بها المثل الشعبي: "اللي إيده في المية مش زي اللي إيده في النار"! الفرق أن أيدينا—يا ناس—مغموسة في الوحل! 

التاريخ يضحك علينا ساخراً: محمد علي باشا الذي طرد الراقصات خشية على "الأخلاق"، لو عاد اليوم لرأى أن "الأخلاق" صارت تدار بميزانية وزارة الثقافة، وأن "الفن" صار سجالاً بين رقابة خائرة وفنانين محتالين! حتى أحمد شوقي—أمير الشعراء—الذي كتب: "مصر أم الدنيا وسفر الخلود"، لو سمع أغنية لرمضان لكتب: "مصر أم المهرجانات ومزبلة الوجود"! 

السؤال المفزع: من يربح من تحويل الوطن إلى ساحة سيرك؟! هل هم أصحاب رؤوس الأموال الذين يستثمرون في " ترويج الانحطاط "؟ أم الساسة الذين يحتاجون شعباً مستلهماً بالتفاهة كي ينسى حقوقه؟ أم أننا نحن—الشعب—الذي صرنا نقايض كرامتَنا بتذكرة دخول حفلة هابطة؟! 

في النهاية لا تعتقدوا أن العار يموت بصمت! التاريخ يكتب الآن فصلاً جديداً عن أمة كانت عظيمة، فإذا بها تسقط نفسها بسكينة من يغرسون السكين في ظهرها. فإما أن نستفيق ونرجم كل من يتاجر بدماء الأجداد، أو ننتظر حتى تتحول رموزنا إلى "ميمات" ساخرة تباع في سوق النت...

***

د. عبد السلام فاروق

مدينة (الديوانية) نهرٌ دافق بالحب والعطاء، فهي الرَحمْ الخصب الذي انجب أسماءً صارت رموزاً تملأ فضاء العراق ألقاً وابداعاً، فمن بيوتاتها الفقيرة خرجت أغنياء الفكر والأدب والسياسة والفن، ومن أزقة احيائها الشعبية الوعرة والمظلمة تدفقت حزم النور لتخط على جدرانها المتهالكة شعارات الفقراء المطالبة بالخبز والحرية، ومن احدى بيوتاتها الفقيرة في محلة (الجديدة) الشعبية يخرج صبي لا يتذكر بعد عقود من الكدح والمثابرة والمعاناة، وبعد طواف قاسٍ في الدنيا لا يتذكر انه تناول في طفولته وجبة فطور الصباح قبل ذهابه الى المدرسة غير قطعة خبز منقوعة بالقليل من الشاي، هذا الصبي وهو في مرحلة الابتدائية آمن بالمستقبل وأيقن ان العمل شرف، فكان يتأبط الكتب صباحا وعند عودته من المدرسة يعمل في نقل الطابوق لعمال البناء، لم ينكفأ ولم ييأس من هكذا بداية وطفولة قاسية، انما اتخذ من الكتاب انيسا، فمدّ جسور المحبة مع الكتب وشرع ببناء شخصيته الثقافية وقد ساعده على ذلك عمله في مكتبة السيد هاشم المكصوصي، تمضي الأيام واذا به يصبح عسكرياً متطوعا في تجنيد البصرة ومفصول لاحقا بتهمة الانتماء للفكر اليساري والحكم عليه بسنة سجن عام 1968، وخلال فترة الفصل يعود الى عامل بناء في جسر الديوانية الجديد ثم عامل في سينما الجمهورية، وبسبب مضايقات أجهزة الأمن ولتربيته الوطنية وافكاره اليسارية المناهضة للدكتاتورية وأعداء الحرية يضطر الى الهرب خارج العراق ليرتبط بمنظمات العمل الفدائي الفلسطيني حيث يقضي في صفوفها خمس سنوات قاسية تحدث عن صعوباتها في كتابه (الارض والسلاح والانسان) . يعود بعدها الى العراق ليعمل كاتبا في محكمة تحقيق الديوانية ومواصلا دراسته المسائية في كلية القانون ـ الجامعة المستنصرية ـ ليتخرج منها ويتعين محققا عدليا . ثم الاستقالة والعمل محاميا بعدها الاختبار في المعهد القضائي وقاضيا ورئيسا لمحكمة الأحداث .

أية ارادة استثنائية هذه التي اسمها (زهير كاظم عبود)، وأي اصرار نبيل وجهاد واثق من المستقبل تمتلك هذه الروح التي صارت فيما بعد علما وقلما منتجا في ميدان السياسة والقانون وشؤون الأقليات، وحين نستعرض سيرة هذا الانسان فأننا نشعر بالفخر فهو قامة وقيمة ابداعية قدمت للثقافة العراقية انجازا مهما وطيبا تمثل بعدد من المؤلفات التي قاربت الثلاثين كتابا في حقول انسانية متعددة، ومناضلا افنى شبابه وسخر قلمه لنصرة المظلومين والكادحين وهو ما تؤكده سيرته ومؤلفاته التي كان فيهما مناصرا صادقا للأقليات المضطهدة في العراق، كما يستحق الاحتفاء بسيرته كونه مثالا للإرادة الصلبة التي قاومت بصبر وعزيمة ظروف الفقر والحرمان والملاحقات واستطاعت في النهاية ان تخرج من هذه المواجهة منتصرة مرفوعة الرأس من خلال نجاحها المعروف في ميادين القضاء والكتابة والعلاقات العامة، و " زهير كاظم عبود " ظل مخلصا لمبادئه الوطنية وافكاره اليسارية التي تربى عليها، فلم يتنكر لمن تعلم منهم القيم، فكتب عن الكادح عبدالله حلواص والمناضل كيطان ساجت والمربي مهدي الزيادي مثلما كتب عن رموز المدينة الثقافية، كزار حنتوش، علي الشباني، عزيز السماوي واخرين، وحتى ظرفاء المدينة فقد خصهم بمحبته فتناول سيرتهم باحترام وتقدير في العديد من كتاباته وأحاديثه، أما عن نصرته لقضايا الاقليات فقد أصدر عنها ثمانية كتب  تناولت الشبك والايزيدية كشف فيها عن صداقته مع شيوخ وابناء هذه الأقليات والتي مهدت له التعرف عن قرب على الكثير من خفايا هاتين الديانتين حيث زار مناطقهم ومعابدهم وعاش جانبا من طقوسهم الدينية مما صحح في كتاباته الكثير من المعلومات التي جاءت مغلوطة عن هاتين الديانتين، كما لا نغفل جهوده في شرح وتوضيح مواد الدستور التي لم تأت منسجمة مع طبيعة المجتمع العراقي ولم تكن ملبية لطموحاته والتي تسببت في خلق الكثير من الأزمات السياسية والمجتمعية، سيرة الكاتب والقاضي " زهير كاظم عبود " تمثل كفاح انسان تحمل الكثير من الدروس التي تستحق التعلم منها والاقتداء بها.

***

ثامر الحاج امين

برؤية نقدية واستقرائية يشير الكاتب "محمد عابد الجابري" الى ثلاثة محددات حكمت العقل السياسي العربي هي (القبيلة والغنيمة والعقيدة) وان الصراع على السلطة الذي يشهده المجتمع العربي من خلال هذه الآليات، والصراع الذي يدور في الساحة السياسية العراقية حول السلطة لا يبتعد في طبيعته عن الاليات التي أشار اليها الجابري، فالسياسي العراقي يحسب السلطة غنيمة لا يجوز التفريط بها وبامتيازاتها المغرية، لذا هو لا يتورع عن سلوك أي طريق شائن يوصله اليها بما فيه خداع الجماهير بالشعارات والتلفع برداء الدين والعدالة وكذلك الاستهانة بعقول الشعب حتى ان احد الكتاب يصف العقل السياسي العراقي (انه عقل مراوغ ؛ يتذرع باﻷهداف العامة كي يصل الى اهدافه الخاصة) وهذا ما تمارسه معظم الطبقة السياسية خلال مهمتها التشريعية والتنفيذية، فوزير عراقي سابق يتظاهر بالفضيلة وعمق الايمان ولا يرى في شخصية " اينشتاين " أهلا لتسلم اية وظيفة عراقية كون الأخير لا يؤدي فريضة الصلاة، ومسؤول أخر يرى ان معيار رفاهية العراقيين هو ما متوفر في بيوتهم من اجهزة التلفاز والموبايل وليس في مستوى الخدمات التي يفترض ان يجدها المواطن في مؤسسات الدولة الصحية والتعليمية وكذلك في نسبة انخفاض الأمية والبطالة والفقر والجريمة، ورجل دين سياسي وفي بلد نفطي يطلب من الشعب التوقف عن تناول النستلة لاتها ليست من الضرورات ويمكن للمواطن عند الصيام عن النستلة وغيرها ان يدخّر قسما كبيرا من دخله الشهري، والمصيبة الاخرى في رجل دين أخر يتقاضى راتبا من الدولة ـ وربما أكثر من راتب ــ ودخله الشهري يصل الى عشرات الملايين من الدنانير ويعمل على تسكين الموطن الفقير ويدعوه الى الصبر فـ (الناس فقراء في الدنيا لا يهم)، مسؤول رفيع يوصف بالزعيم يعترف بالفشل في ادارة الدولة ولكنه يخوض اشرس المعارك ضد خصومه من أجل البقاء في السلطة، وزعيم اخر يعترف بضغوطاته على القضاء وهذا يعد حنث في اليمين كما يخالف مبدأ استقلالية القضاء ولكنه مازال زعيما يتحكم في شكل الحكومة وتوجهاتها، والمهزلة التي ليس لها نظير في كل انظمة العالم ان مسؤولاً يعترف وفي وسائل الاعلام ان مهمته هي (تفليش العراق) ومع ذلك مازال يدير أرفع مؤسسة في الدولة، كما ان وزير كهرباء سابق يوعد العراقيين بانه سوف يبدد ظلام العراق بنعمة الكهرباء والفائض منها سوف يصدره الى الخارج وقد مضى اكثر من عقد من الزمن على وعده والعراقي مازال يعاني من شحة الكهرباء، أي مهازل تعيشها الدولة العراقية في ظل ساسة استغلت الدين والسلاح والعشائرية والدعم الاجنبي للبقاء جاثمة على صدور العراقيين، واي مستقبل مخيف ينتظر العراق في ظل هكذا عقول قاصرة ومتخلفة واي استخفاف بعقول العراقيين تمارسها هذه الطبقة السياسية، ويبدو وللأسف ان تجربة اكثر من عقدين من الزمن غير كافية للعراقيين لكشف ما يدور من خداع وتلاعب بعقولهم، يقولون ان الرفاهية تهذّب اخلاق الانسان وكنا ننتظر من المسؤول ان يكون أرقى المهذبين  باعتباره اكثر من ينعم بالرفاهية لكن الأمر عندنا مختلف فالثروة والجاه الزائف يدفع بصاحبه الى المزيد من الاستهتار بمقدرات الشعب والاستخفاف بعقوله .. يقول الكاتب المصري الساخر جلال عامر  (أصبحت مهمة المواطن صعبة، فعليه أن يحافظ على حياته من " البلطجية " وأن يحافظ على عقله من  "السياسيين") .

***

ثامر الحاج امين

كان ينبغي أن يكون موضوع المقال لهذا اليوم عن القمة العربية التي يرفض بعض النواب والمسؤولين أن تعقد في بغداد، وحجتهم أن المبالغ التي تُصرف على القمة، كان على الحكومة أن توجهها لخدمة الشعب . وسأصدق هذا القول، وأصفق له لو أن المنادين بهم يسهموا في نهب أموال هذا الشعب، وفي الإصرار على جعل العراق " محلك سر " . تعقد القمم واللقاءات في معظم بلدان العالم، وقد نشاهد تظاهرات تندد بالحروب أو احتجاجات من أجل المناخ، لكننا أول مرة نشاهد نواباً ومسؤولين يحتجون على عقد قمة في بغداد. وكنّا جميعاً أنتم وجنابي قد عشنا مع قمة عام 2012، وشاهدنا كيف أن الجميع كان يصفق لها، ويتحدث عن الإنجازات الكبيرة التي حققها رئيس الوزراء آنذاك السيد نوري المالكي.

إياك عزيزي القارئ أن تظنّ أنّ "جنابي" يهدف إلى السخرية من قادة البلاد الأشاوس، فالديمقراطية العراقية تقضي بأن يبقى المواطن العراقي أسيراً لأمزجة الزعماء الكبار، فيما كل الساسة شركاء، يضمن كلّ منهم مصالح الآخر، حامياً لفساده، مترفّقاً بزميله الذي يتقاسم معه الكعكة العراقية في السرّاء والضرّاء. ولهذا كان لا بد من أن يخرج علينا السيد نوري المالكي ليشيد بالتظاهرات، ويحذر من الطائفية، ويطالبنا بأن نستمر في إنجاز المشروع الوطني الذي بدأه سيادته عام 2006، الذي لم تسمح له الإمبريالية أن يواصل إكماله.

هذه هي النتيجة، لا حدود للسخرية من المواطن العراقي، ولهذا عندما يقول السيد المالكي إن المندسين أرادوا الشر بهذا البلد، دون أن يشير بإصبعه إلى قتلة الشباب في بغداد والبصرة والناصرية والنجف وكربلاء، فلا ينبغي أن نصاب بالدهشة، وعينا أن نتوقع خبرا يقول أصحابه إن السيد المالكي يقول إن الإطار تورط باختيار محمد شياع السوداني لأنهم اكتشف أنه طامع بكرسي رئاسة الوزراء .ستتذكر حتما المعلقة التي ألقاها علينا نوري المالكي نفسه قبل سنوات قليلة عندما اُخْتِير محمد شياع السوداني نفسه للجلوس على كرسي رئاسة الوزراء على المتظاهر أن يتلقى الرصاص وقذائف الغاز باعتبارهما هدايا من الحكومة! .

ليس أمامك عزيزي القارئ، سوى أن تصدّق رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، خصوصاً عندما يصرف وقته الثمين هذه الأيام على إطلاق التوجيهات والخطابات، يوماً ليسخر من الحكومة، ويوماً من أجل الإسراع بإنجاز " تبليط " هو الانتخابات على أن يكون ضمن الموصفات التي يرغب فيها المالكي حصراً.

للأسف يعاني كثير من العاملين في شؤون السياسة في بلاد الرافديين من حالة المراهقة السياسية، فالذين صفقوا لقمة بغداد عام 2012، تجدهم الآن يطالبون بإلغاء قمة 2025 ، والسبب معروف جدا، لأن الزعيم منزعج جداً.. جداً.

***

علي حسين

في المثقف اليوم