أقلام حرة

أقلام حرة

skit under naglarna”

كما يقال إذا تكرر حوادث التاريخ يوم ما فإنها تتكرر مهزلة ساخرة كوميدية. قبل حوالي أربعون عاما وجدت زوجتي نفسها مع طفلين صغيرين في مطار بوخارست المسماة (اوتوپين) في رحلة لجوء إلى السويد لتلتحق بي بعد ان كنت قد عانيت الانتظار سنتين من الانتظار في معسكرات اللاجئين.

كانت رومانيا آنذاك تحت حكمً النظام الشيوعي وتحت سلطة الدكتاتور (نيكولاي شاوشيسكو) والذي كان قد امر رجال امنه والضباط في المطار تفتيش المغادرين من المطار ومصادرة كل مقتنياتهم من نقود وجواهر وكل ذو قيمة من مقتنيات الشخصية ناهيك عن الإهانات التي كانت توجه للقلة ممن تمكنوا من الحصول على جواز سفر لمغادرة البلاد بطريقة رسمية وكان الزواج من الأجنبي احدىً تلك الطرق. وشاءت الصدف ان تكون ابنتي الصغيرة ذو الثلاث سنوات ان تكون هناك أقراط ذهبية معلقة في أذنيها أهدتها والدتي لها حين ولدت وأرسلتها من بغداد (صوغه) فما كان من رجال الشرطة في المطار إلا أن ينزعوا عنها أقراطها ويصادروها وهي تبكي وكانوا قد صادروا شقتنا في العاصمة وجميع مقتنيات العائلة التي كنت قد جمعتها خلال سنوات دراستي العالية في رومانيا وتركوا فقط الملابس وبعض الكتب معهم. طبعا حين وصلوا إلى السويد كان أول شيء اشتريت لها أقراط الذهب ووضعها في شحمةً آذنيها كي أعيد لها الفرحة.1448 school

رغم ان المصطلح السويدي (skit under naglarna”) الذي بدأت به حديثي يستعمل صوريا ولا تعني كل كلمة بمعناها منفردة، بل في سياق الجملة وفي علم النفس والتغير يستعمل المصطلح لمعالجة الخصام وعدم التفاهم بين الأطراف والغوص في جذور الأساسية لأسباب الخصام ومعالجتها من الجذور. بصورة عامة نحن قد نستعمل المصطلح لأشياء وأمور ليس لها قيمة وتافهة كذلك وربما جاءت من تقيم الناس العاملين والفلاحين لوجود بعض السواد تحت أظافر أيديهم. المهم ان الموضوع لا يستأهل وتافه، ولكن في السياسة مهمة إذا وصلت حالة الدول أن تبدّا بمراقبة مواطنيها وتفتش حتى تحت أظافرهم.

كلنا نتذكر حين كنا صغارا في المدرسة قبل اكثر من نصف قرن كان هناك اصطفاف صباحي وفيها نمد أيادينا إلى الأمام (الصورة) كي يقوم المعلم المار من أمام صفوف التلاميذ من روية الأظافر وان كل واحد منا له منشفة صغيرة نظيفة يمسكها بيده.

هكذا اصبح حال الدنيا اليوم يفتشون حتى في المطارات عن كل شيء وحتى "الأوساخ تحت الأظافر".

***

السويد

 2025

تقول الحكاية أن حسن تقدم للزواج من فاطمة. ولمّا كان الزفاف أوصتها خالاتها ألا ترد عليه بأية كلمة إلا إذا قال لها: " أمك الشمس وأبوك القمر وخالاتك الكواكب".

 في ليلة العرس حاول حسن أن يكلمها ويلاطفها وهي لا ترد، فظن أن السبب هو خجلها. ومرت الأيام وفاطمة لا تكلمه بشيء حتى ملّ منها. وفي يوم قرّر أن يُغضبها عسى أن تتكلم فأخبرها أنه دعا إلى منزله عشرين ضيفا، وأن عليها أن تُعد الغذاء لهم وإلا فهي طالق.. ثم خرج.

كانت خالات فاطمة قد جهّزنها بصحون وأطباق سحرية، فطلبت منها أن تخرج من الرفوف، وتملأ المائدة بأشهى الطعام. وفي وقت الغذاء جاء حسن وضيوفه، ففوجئ بالمائدة الفاخرة، وانتابه شك في الأمر.

بعد مضي أسابيع طلب منها إعداد وليمة أخرى واختبأ في ركن بالبيت، فشاهدها وهي تأمر الأطباق بإعداد المائدة، ثم وقع طبق على الأرض فقال: وحياة أمك الشمس وأبيك القمر سامحيني، فردّت عليه: سامحتك.

عندئذ عرف حسن سر كلام زوجته، فقال لها: وحياة أمك الشمس وأبيك القمر ردي عليّ وكلّميني، فكلّمته، وعاشا معا في سرور وسعادة.

كل امرأة هي فاطمة؛ لها أسرارها ومفاتيحها، ولها سلطتها الناعمة على آدم ليظل طفلا بين يديها. إن عاملها بقسوة ضربت بينها وبينه بسور من الصمت والغموض، وإن عاملها باللطف والرقة فتحت له أبواب جنتها ليسكن إليها ويسكن معها.

لكن يبقى السؤال المحير الذي تتوقف عليه السعادة وطمأنينة العيش: هل نفهم المرأة حقا؟ هل نعرفها حق المعرفة؟ من هي المرأة، وما هي خصائصها؟ هل هي مخلوق ناقص لأنها لم تُخلق من تراب مثل آدم؟ أم خُلقت من الضلع لتكون مصدر حنان للرجل، كما تحنو الأضلاع على الصدر وتحمي القلب؟

في أمريكا تحمل الأعاصير والزوابع والقنابل أسماء نساء.. كارولينا.. كاترينا.. ويلما.. كاميلا وغيرها. فهل المرأة خطيرة إلى هذا الحد، أم أن العلماء وخبراء الأرصاد يُعبرون عن تعاستهم الزوجية بتأنيث وسائل الخراب والدمار؟

أكيد أن المرأة ليست مصدرا لهذا الشر كله، فكل حياة جديدة تنشأ في رحمها، ويكبر الوليد في حضنها ليرضع من صدر الأمومة حليب العطف والحنان. وعندما يصير رجلا تبدأ رحلة البحث عن الزوجة؛ وهنا تصير المرأة لغزا وقضية، وتتدخل العادات وتقاليد الأسر لتجعل من الزواج إما راحة وسكينة، وإما رحلة من المشاكل والمتاعب التي تنتهي بالطلاق.

نعود إلى السؤال الأول: من هي المرأة؟ لأن الإجابة عنه تحدد شكل العلاقة معها، خاصة داخل مؤسسة الزواج. فكلما فهمنا المرأة وخصائصها استطعنا أن نتقبل قائمة الاختلافات التي تُميزها عن الرجل، وأدركنا أن سر السعادة الزوجية أن تُقدر عطاءها، وتحترم تميزها، وتمنحها دفء المشاعر حتى لو رددنا ما قاله حسن: أمك الشمس.. وأبوك القمر.. وخالاتك الكواكب!

كي نجيب عن سؤال: من هي المرأة؟ لا بأس أن نلقي نظرة على حضورها في تاريخ حضاراتنا القديمة؛ في مصر والعراق والشام، ونرى كيف كان الرجل يعامل المرأة وما هي مكانتها في المجتمع.

أول شيء يثير انتباهنا أن المرأة كانت مقدسة، والسبب أن الرجل وجد نفسه أمام مخلوق يشبهه، لكن يمتاز عنه بخواص الحمل والولادة والرضاعة والأمومة. هذه القدرة العجيبة للأنثى دفعته لأن يعبدها لأنها مصدر الخصب والعطاء، فظهرت تماثيل عشتار، والعُزى، وإيزيس، وفينوس في المعابد. بل كان الإنسان يعتقد بأن الكواكب بنات الأرض، أنجبتهن من زواجها بالقمر، فكانت كل عناصر الطبيعة تعكس إيمانه بأن المرأة هي المسؤولة عن الخلق وصناعة الحياة من عدم.

واستمر هذا التقدير بشكل آخر حين تولت بعض النساء مهام الحُكم، فظهرت ملكات وحاكمات كبلقيس وزنوبيا وكيلوبترا. وفي الجزيرة العربية كانوا يعتقدون أن المرأة هي التي تُحدد صفات الطفل ومكانته بين قومه، فكان الرجل إذا أراد أن يفتخر يقول: أنا ابن الحُرة!

إن ما يحتاجه الرجل اليوم ليس أن يعبدها بل أن يفهم عالمها حتى يكسب ثقتها؛ لهذا عندما بحث بيير داكو في سيكولوجية أعماق المرأة وجد أن أقصى ما تطمح إليه هو الاستقرار العاطفي، وأن تكون علاقتها مع الآخر، خاصة الزوج، مبنية على الرعاية والاحترام، والتعامل مع مصاعب الحياة بهدوء وصبر. وهي تُعبر عن حاجتها لهذا الاستقرار في اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية، ومشاركة كل شيء مع الزوج. للأسف لا يُقدر آدم هذا السلوك ويعتبره ثرثرة وتدخل في شؤونه، ولا يفهم أن الدافع هو حرصها على الاستقرار، فهي تكره الغموض والأسرار.

في كوريا يُرددون وصفا جميلا لعلاقة آدم بضلعه، فالرجل يولد من المرأة كما يولد الملح من الماء. لذا عندما يقترب منها بالزواج تمتصه ثانية كما يحدث للملح في الماء، وهذا تفسير للخوف الذي ينتاب بعض الشباب في بداية العلاقة الزوجية؛ فآدم يحس أن للمرأة قوة غامضة تدفعه للابتعاد أو الحذر، لكن الحقيقة أنها تريد أن تقترب منه، أن تتحدث إليه وتعبر عن شعورها واهتمامها. هذا هو أسلوبها في الشعور بالذات وتفريغ شحنات الأحداث اليومية، وليس مجرد ثرثرة كما يشكو أغلب الرجال.

إن العالم في تصورها هو اتصال دائم، واستمرار في خلق جو من المحبة والوئام. ووسيلتها المفضلة في ذلك هي الكلمات. وبلغة الأرقام فإن الدراسات العلمية توصلت إلى أن عدد الكلمات التي تنطق بها المرأة في اليوم الواحد تبلغ 20 ألف كلمة مقابل 7 آلاف كلمة للرجل؛ موهبة نحتاج لتقديرها كما ينصح بذلك أخصائيو علم النفس والاستشارات الاجتماعية. إنها تحس بالضيق، أو يزعجها شعورها المستمر بالمسؤولية.. تبحث عن التعاطف والمساندة. وفي الحياة الزوجية يكون دور الشريك أن يتفهم حالتها، ويساعدها بالتقرب الوجداني والمودة وليس بتقديم الحلول. إنها تحتاج فقط إنسانا ينصت إليها لتشعر بالراحة.

وأما أسلوب تفكير المرأة فهو مختلف قطعا عن الرجل؛ كل منهما يستعمل نظارة مغايرة ليرى العالم. فالرجل يتميز تفكيره عادة بالتركيز وربط الأمور ببعضها، بينما تنظر المرأة للعالم من زاوية التوسع. عندما تفكر في موضوع ما فهي ترسم أولا صورة واضحة عنه، ثم تبدأ باكتشاف الأجزاء المتعلقة به وربطها ببعض.

إن من مفاتيح المرأة طبيعتها التوسعية، وهو أسلوب وحاجة نفسية يجب أن يفهمها آدم ويتقبلها لأنها تكون أحيانا سبب لبعض المشاكل التي تطرأ على الحياة الزوجية. فمثلا لو أثرنا مسألة التسوق فإن الرجل يميل إلى التركيز وإنجاز المهام بسرعة، لذا لو دخل إلى السوق سيلتقط الحاجة ويخرج بسرعة. أما التسوق عند المرأة فهو متعة واكتشاف لكل المعروضات، وإن هي اتبعت أسلوب الرجل ستشعر بالتعب وتتأذى حالتها النفسية. ولهذا فهم يضعون المقاعد في محلات التسوق الكبرى خصيصا للرجال، لأن الأبحاث السيكولوجية أكدت أنهم لا يتمكنون من مسايرة أسلوبها التوسعي أكثر من نصف ساعة ثم يبدأون بالتضايق.

ويقودنا الفكر التوسعي لضلع آدم إلى الحديث عن اهتماماتها ونظرتها للحياة. فالمرأة عادة تهتم بتطوير العلاقات الاجتماعية وإشباع رغبتها في الحوار، وعالمها هو عالم الحب والعواطف الجياشة، لأن كيانها يتحقق من خلال المشاركة في الحياة. وهي تملك حاسة توقع احتياج الآخرين للمساعدة فتقدم المشورة والاقتراحات كدليل على الاهتمام والرعاية. وللأسف بعض الأزواج يعتبرون هذا الأمر تدخلا أو فضولا أو إهانة لهم. في حين أنه جزء من طبيعة المرأة واهتمامها. فبينما يميل الرجل إلى الكفاح وتحقيق النتائج، تميل هي إلى تنمية المشاعر الإيجابية.

إن حاجة المرأة للمشاركة الوجدانية والمساندة هو أحد مفاتيح شخصيتها، وفيه يتجلى ضعفها وسرعة تقبلها للتحليلات الخاطئة. فهي تشعر بالسعادة حين تسارع لتلبية حاجة الآخرين، لكنها بعد فترة من العطاء تتوقع منهم نفس الشيء. وحين لا ينتبه أحد لذلك تقرر إغلاق الأبواب، وتتوقف عن الطلب، وربما تفكر في إنهاء العلاقة.

يقول المثل العربي: لو كان الرجل نهرا لكانت المرأة جسره..

وفي ألمانيا يرددون أن البيت لا يُؤَسس على الأرض بل على المرأة..

وتستمر المرأة في عطائها واختلافها.. وحاجتها لأن يفهم آدم ضلعه حتى تكتمل صورته ووجوده.. ويقطعا معا تذكرة إياب إلى جنة الخُلد. 

***

حميد بن خيبش

"كن ابن من شئت واكتسب أدبًا، يُغنيك محموده عن النسب."

في زمن ما بعد الحداثة والعولمة، نعاني من ضمور حاد في المنظومة الأخلاقية، وانحسار كبير في الذوق والوعي الإنساني. هذا التراجع المفرط خلّف فئةً مغتربة عن المجتمع، تعيش في عوالمها الخاصة، تعاني من صعوبة التجانس مع السطحية المقيتة التي باتت سائدة.

تجاهد هذه الفئة في صناعة الأثر وإضفاء قيمة على الوجود، لكنها قابعة في عزلتها، كفراشة في شرنقتها، تودّ التحرر والانطلاق نحو النور، ولو كان الثمن حياتها. غير أن التسافل والانحدار المحيط يقف حاجزًا بينها وبين النور، فتخشى أن تُستهلك قبل أن تبلغه.

الناس على السطح كالسُكارى:

منهم من يبدو ثملًا حزينًا، ومنهم من ينتشي بنشوة زائفة، غافلًا عن خطورتها على مسار وجوده ودوره ومسؤوليته. باطنه يئن من الاغتراب والخواء، لكنه يستمر في الدوران، كما لو كان آلة بلا وعي.

لم يعد الكثير من الناس "أنسًا" حقيقيًا، فلا روح تُلامس، ولا قلب ينبض بحضورهم. أحاديثهم مستهلكة، سطحية، مجرد ضجيج يلبّي حاجة بيولوجية للكلام.

يُفرطون في الاستهلاك حتى في اللغة، ويشحّ فيهم الإنتاج والأثر الحقيقي. يتزاحمون في ميادين النجاح الوهمي، ويُفتنون بنتائج بلا جذور، بلا مرجعية، بلا هدف يسمو أو ضابط يوجّه.

كثيرون يتضخم فيهم الأنا، لمجرد سلطة امتلكوها أو مال جمعوه أو علم ظنّوا أنهم اشتروه، فيرفعون أنفسهم فوق خلق الله، وقد غاب عنهم أن التمايز عند الله لا يكون إلا بـ"قلبٍ سليم".

كثيرون أُمّيون في معرفة أنفسهم، غافلون عن سطوة رغباتهم التي تحركهم كيف شاءت. لم يميّزوا بين حاجات البقاء التي لا تنتهي، ورغبات النفس التي لا تُعد، وبين الرقي والسمو بالنفس.

لم يدركوا أن مصادر القوة والثقة الحقيقية، إنما تنبع من تزكية النفس، من الارتقاء بها، من معرفتها والعودة إلى حقيقتها.

لم يعوا أن الرحلة مؤقتة، وأن الموت والرحيل مصيرٌ محتوم، وأن كل نفس نأخذه هو خطوة نقطعها نحو هذا المصير.

فمن يعيد للأدب والأخلاق والذوق اعتبارهم؟

وهل يكون الإنسان إنسانًا حقًا بلا أخلاق أو أدب أو ذوق؟

وهل يُعدّ المثقف مثقفًا بلا وعي وتواضع فطري، وقلب مفتوح بالمحبة، وعينٍ تُبصر الجمال من الداخل لا من الخارج؟

ليتذكر الجميع أن الثقافة لا تنفصل عن التواضع، وأن الإنسان لا يُقاس بعلمه ولا بماله ولا بجاهه، بل بذوقه، وعمق إنسانيته، وصفاء قلبه.

***

د. حميدة القحطاني

 

حين كنا صغارا في أولى مراحلنا التعليمية ننظر للمعلم وكأنه آلهة لا يصيبها ضرر ولا تخطأ، وكبرنا وعرفنا أنه بشر يتألم ويقلق من الاختبارات مثلنا، وسمعنا التربوي وهو يشرح أساليب التعامل السليمة فنردد بدواخلنا هنيئا لأبنائه، ونحن لا نعلم بأنهم قد يتعرضون مثل ما نتعرض له، واتسعت أفاقنا، فإذا بنا نبهر بالحقوقي وهو يدافع عن المرأة بكل ما أوتي من فصاحة لسان وبيان قلم، ولا نعلم ماتخبئه المنازل خلف الأبواب، وتضطرنا انتكاسة صحية فنكون بين يدي جراح عظيم وطبيب ماهر ونخاله بعيد كل البعد عما يصيبنا .

كل منا يشعر تحت وطاة الضغط والخوف والقلق أنه الوحيد فيما يشعر، وأن لا أحد قادر على استشعار الوجع الذي يحمله بين جوانحه، تأخذنا الروايات والقصص، حيث نرانا إحدى أبطالها، فيخف الشعور بالغربة وإن كان في مخيلة أحدهم .

وإذا كنا نتوقع من المرض الجسدي أن يصيب طبيب بنفس تخصصه، فقد لانعي أن الطبيب النفسي يحتاج لطبيب، وياخذ أدوية الاكتئاب، والمعالج النفسي أو السلوكي بحاجة لأخصائي يستمع له ويساعده .

طيلة الفلم الوثائقي ستاتز الذي شد كل جوارحي لعدة أيام، كنت أردد (فوق كل ذي علم عليم) مهما عرفنا واكتسبنا من معارف وأدوات، نبقى في بحر المعرفة نتلاطم نحتاج إلى من يساعدنا في الوصول لشاطئ الأمان، ولا عيب في ذلك .

الفلم رائع ياخذك بحوار عميق وممتع بين الممثل جونا هيل وطبيبه النفسي ستاتز، يستعرض فيه أدواته العلاجية الغير تقليدية والتي استخدمها الطبيب معه ومع غيره ليضع الفائدة بأيدي آلاف البشر والذين قد يكونون بأمس الحاجة لاستشارة طبيب نفسي ولكن مازال الطب النفسي في نظر الكثير منا مخجل، ومن الصعب أن يعترف المرء أنه بحاجة لمساعدة نفسية رغم زيادة الوعي التي نجدها في الأجيال الشابة .

لنقر في أعماقنا أننا كلنا وفي هذه اللحظة معرضون لنفس المخاطر والمشاكل والهموم لا أحد مستثنى مادمنا بشر، الممثل وهو المريض الذي جاء طالبا المساعدة من الطبيب من حالة كان الطبيب نفسه يعاني منها .

المعلم هو معلم وتلميذ في نفس الوقت، والطبيب يعالج ويحتاج لطبيب يعالجه في نفس الوقت، حتى المعلم الروحي هو مرشد لتلميذ، وتلميذ لشيخ آخر فوق كل علم عليم .

الجميل بالفلم الرابطة القوية والامتنان بين الممثل والذي نجح وتجاوز أزماته بفضل مساعدة الطبيب، ويتمنى أن ينشر للجميع أدوات طبيبه لتعم الفائدة، والطبيب الذي مارس الفلم وبطله الممثل دور المعالج له فساعده على تجاوز بعض مشاكله التي كان عالق بها.

تذكرت المثل القائل (باب النجار مخلوع)، فبعض الأمثلة دروس عميقة.

***

منى الصالح

لندن ٢٠٢٥

 

مجتمعات الكلام عظامية المنطلقات ومعبّأة بالأساطير والأوهام، بينما مجتمعات القوة والإقتدار كلامها يُخبر عن عمل مُنجز وفعلٍ دائبٍ أبرز.

العظاميون يخوضون في الغابرات ويستحضرون ما ضمته الأجداث، ويتفاخرون بالماضيات، وهم عن حاضرهم ساهون، وبالكلمات يتلهون، وفي ضعفهم وتبعيتهم يتمرغون.

القوي فيهم مَن إعتمد على غاصبٍ أثيم، وتربّع على عرشٍ سقيم، يدّعي ما يدّعيه ويوهم ما حوله بما ليس فيه.

والأمم التي لا تجيد غير إنتاج الكلام، أضاعت قيمة الكلمة ودورها في الحياة، فالجميع يجيدون الكلام والتفاعل مع الأيام بما يسمونه إبداع.

وتراهم لا يتفاخرون بالعلم والفكر والإنجازات المادية المعاصرة، بل بالشعر والشعراء، ويحسبون أنهم أقوياء بالشعر وحسب، فما قيمة آلاف الشعراء أمام مخترع مبدع في الفيزياء والكيمياء والتكنولوجيا المعاصرة؟

إن بعض المجتمعات إنحرفت في سلوكها وأجادت الإنقطاع عن عصرها، وتوهمت القوة في الشعر، والتصديح الفارغ الصارخ فوق المنابر.

كما أن الرموز المنبرية هي الأخرى تتوهم بأن خطبها التعسفية التعبوية إنجازها الأعظم، وقدرتها على تحويل المستمعين إلى تابعين مستعبدين بإسم خرافات وأضاليل يسمونها كما يشاؤون.

فكيف يمكن لمجتمعات الكلام أن لا تُضام في عصرنا التكنولوجي الدفاق، الذي تتسابق فيه العقول للإتيان بجديد متميز مؤثر في مسيرة الحياة؟

عليها أن تستفيق من غفلتها، وترى النور ببصيرة الألباب، وتفتح الأبواب، وترنو إلى حاضرها ومستقبلها بعيون العزم والإقدام، فقد "بلغ السيل الزبى"، وتناهبتها الوحوش المفترسة، وهي المسطولة بخمور البهتان المعتقة، القاضية بالنيل من قيمة البشر، ومصادرة حريته وكرامته، وتحويله إلى محكوم بالسمع والطاعة، والتبعية والخنوع المطلق للمتسلطين على مصيره المجهول.

فهل من فعل يتكلم وإنجاز به الإنسان فخور؟!!

و"ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون" النحل: 32

بعلمٍ جاد أبناء الزمان

وطافوا فوق شاسعة المكان

عقولٌ في تطلعها لمجدٍ

بدائعها منوِّرة الأماني

كلامٌ في رباها صوت فعلٍ

وإنجازٌ لسامقة التفاني

***

د. صادق السامرائي

 

إن الجديدَ في دنيا الأفكارِ غالبًا ما يكونُ كالغريبِ في ديارٍ ألفت الهدوء، فحين يطرحُ مفكرٌ أو مصلحٌ فكرته تُقابله المجتمعات أول ما تُقابلُه بريبة وخوفٍ ومقاومة حتى وإن حملت فكرته بين طياتها الخير والحلّ والفلاح ذلك لأن النفسَ بطبعِها تستريحُ لما عرفت، وتخافُ مما تجهل. وتلك ظاهرةٌ مُتشعبةُ الأبعادِ عميقةُ الجذورِ، ترجعُ إلى طبيعة الإنسان نفسًا واجتماعًا ووجودًا، بل وحتى من منطلقِ تطوره التاريخي.

أما الجذورُ النفسية، فهي ضاربةٌ في أعماق النفسِ البشرية تُحركها نوازع شتى منها نفورٌ أصيلٌ من الخسارة، حيثُ يخشى الإنسانُ فقدانَ ما اعتاده من وقتٍ وجهدٍ ومالٍ ومكانةٍ، والخوفُ من الخسارة غالبًا أشد وقعًا في النفس من لذة الربح. وتُضافُ إلى ذلك تحيزاتٌ معرفيةٌ عديدة، منها تفضيلُ الوضعِ الراهنِ، والإحجامُ عن التجديدِ، حتى لو بدا أن الجديد أوفر خيرًا وأجزل نفعًا. كذلك يسعى الإنسان دائمًا لتأكيد معتقداته القائمة فيبحث عما يثبتها ويُغفل كلَّ ما يهددها، ويستريحُ إلى المألوفِ لأنه يمنحه شعورًا بالأمان والراحة. ويزيد من هذا النفور حاجة الإنسان إلى اليقينِ والسيطرةِ على عالمه، والجديد بطبيعته غامضٌ، مُبهمُ النتائج، ما يُثيرُ قلقًا داخليًا عميقًا ويولد خوفًا فطريًا من المجهول.

وعلى الجانبِ الاجتماعيّ، فإن مقاومةَ الجديدِ تزدادُ حدةً وتأثيرا بفعل الضغوط الاجتماعية ورغبة الإنسانِ في الامتثال لمحيطه، خشية أن يلقى النبذ أو النقد أو التهميش. فالإنسانُ بطبيعته يقلد ويقتدي بمن يثقُ بهم ويعتبرهم قدوةً أو مرجعيةً، ويقاومُ الجديدَ خشيةَ أن يتعارض مع هويته الجماعية وتقاليده الراسخة، ما يُهددُ إحساسه بالانتماء والأمان الجماعي.

وإذا ذهبنا أعمقَ قليلًا، وجدنا أن جذورًا وجودية تُحركُ النفوسَ في اتجاه الرفض والمقاومة، فالإنسانُ يخشى التغييرَ لأنه يُذّكرُه بهشاشتهِ أمام العالم، ويثير فيه قلقًا وجوديًا مرتبطًا بانتهاءِ المألوفِ وبدايةِ ما لا يُمكن التنبؤ به. والجديدُ بهذا المعنى، هو تهديدٌ ضمنيٌّ لبقاءِ الذات وإشارةٌ إلى ضرورة تعلمِ مهارات جديدة، قد تبرز نقاط الضعفِ في شخصية الفرد أو المجتمع.

ومن منظورٍ تطوري، يبدو الحذرُ من الجديد استراتيجيةَ بقاءٍ ناجعةً قديمة فقد علّم التاريخ البشر أن المجهولَ قد يكونُ خطرًا وأن التريث والحذر في التعامل مع كل جديد يُمثل آلية دفاعٍ غُرست عميقًا في جينات البشر منذ قديم الزمان.

ومن شواهد التاريخِ ما يؤكد ذلك، فقد قاوم الإنسانُ اختراعاتٍ عظيمةً مثل الطباعة، والسيارات، والتلفزيون؛ ورُفضت نظريات علمية كبرى مثل نظريات كوبرنيكوس وغاليليو، وأُعيقت حركاتُ التغييرِ الكبرى كالحقوق المدنيةِ بسبب مخاوفَ من زعزعةِ البنى الاجتماعية القائمة. وهذا المشهدُ يتكررُ اليوم مع مقاومةِ كثيرٍ من الناس للتقنيات الرقمية الحديثة والأفكار الاجتماعية والسياسية الطموحة.

وليس الدين بمعزلٍ عن هذا؛ فقد رفض أهل مكة في بادئ الأمر دعوة النبي محمد (ص)، تمسكًا بما ألِفوا عليه آباءهم، وخوفًا من فقدان مصالحهم، كما أوضحت آيات القرآن الكريم هذه الحقيقة النفسية والاجتماعية البالغة العمق.

وخلاصةُ القولِ، إن مقاومةَ الجديدِ ظاهرةٌ إنسانيةٌ طبيعيةٌ متجذرةٌ في النفس والاجتماع والوجود والتاريخ التطوري، وفهمُ هذه الجذورِ هو مفتاحُ التعامل الواعي مع التغيير وهو طريقُ التشجيعِ الحكيمِ على قبولِ الجديدِ وعلى تطويعِ المقاومةِ لتكونَ دافعًا للنمو والتطورِ بدلًا من أن تكون حاجزًا وعائقًا.

***

حميد علي القحطاني - أستراليا

 

آدم وما أنجبه مع حواء كما ترسخ في الوعي الجمعي، مخلوقات كغيرها مجبولة من ماء وتراب، ولا فرق في جوهر سلوكها، لأنه مرهون بالنفس المشبعة بطبائع التراب، والمهيمنة على إستجاباته كأي حيوان أخر مهما صغر أو كبر، فالمخلوقات ذات جهاز حيوي متشابه ويتباين في درجات تعقيده وتأثيره.

لكل مخلوق لغته وأبجدياته الصوتية والحركية، وكذلك البشر تفوق على غيره من المخلوقات بأبجديات الكلام، وحرية اليدين وتفاعلهما مع دماغ فيه مهارات التعبير العقلي، وإستحضار الأفكار المحلقة في فضاءات وجوده.

والإنسان صفة لا تنطبق على كل البشر، ومن الصعب أن يبلغها ويتمثلها ويعيش فيها، لأنها تعني الإنتصار على النفس الأمارة بالسوء، وهذه مكابدة قاسية ومجالدة لا يطيقها إلا ذوي العزم العنيد.

فالإنسان كائن عاقل من نوع البشر، متميز بالقدرة على الكلام والتفكير والإبداع، وإجتماعي الطباع، يعيش في مجتمعات يحقق فيها الطمأنينة والأمان، والرحمة وإحترام حقوق الغير من المخلوقات من أبناء نوعه والأنواع الأخرى، فلكل مخلوق حق الحياة.

الرسالات بأنواعها جاهدت لنقل البشر إلى مرتبة الإنسان، وباءت بفشلها الواضح، فتأسد البشر وأطلق ما فيه من شرور، فإستعرت الحروب وعم الفقر والإملاق، وسوء الحال والمصير، فسفك الدماء إدمان البشر المنفلت الرغبات والنزعات والمكبل بالعدوانية والبغضاء، والتصارع مع غيره  المعبأ بالوجيع والساعي للإنتقام والوعيد.

فالأرض يسعى فوقها بشرٌ مثل باقي المخلوقات المتصارعة بلا هوادة، وتتحكم به النفس الأمارة بالسوء، وتغتال إنسانيته، وتحولها إلى عنوان للضعف والهوان، ولا يمكن لقوة سواء كانت أخلاقية، قانونية، عسكرية أن تردعها أو تهذيها، لأنها ذات طاقات مدوية.

إن الجهاد الأعظم يتلخص في القدرة على الإنتقال من قيعان البشرية إلى فضاءات الإنسانية، التي هي غاية وجودنا، وعلى كاهلها رسالات الأديان والدنيا.

فالمسافة بين البشرية والإنسانية شاسعة، والتفاعلات السائدة بشرية صرفة، والقليل فيه شيئ من نفحات الإنسانية، وإن الأرض مسرح بشري ربما يرفع بعض ممثليه رايات الإنسانية للخداع والتضليل.

فهل أنضجت الأديان إنسانيتنا، أم تحولت إلى مطية لبشريتنا؟!!

بشرٌ فيها تلاحى وافترى

وبنفسٍ إستقادت إنبرى

كل إنسانٍ طريدٍ خائبٍ

هكذا الدنيا عليها ما جرى

أين إنسان مسارٍ واضحٍ

ورغوبٍ في دجاها لا يرى

***

د. صادق السامرائي

من المحبط أن يهدر الإنسان طاقته في ركن ضئيل من الأرض، معتقدًا أنه وجد المتعة المطلقة، ليجد نفسه أسيرًا لفخ مميت، يحاصره في جزيرة خالية من الحياة وسط محيط هائج —هناك، حيث الصمت يلتهم الأصوات، يشعر أن صراخه لا يجد من يسمعه، سوى نبضات قلبه المرتعشة، ولكن وسط العتمة، يدرك أن الصمت ليس موتًا، بل بداية لصوت داخلي كان مخفيًا تحت ضجيج العالم.

يواجه المرء لحظات من الوحدة تقذف به في مستنقع الصمت، لكنه يبدأ في ملاحظة تفاصيل لم يكن يراها من قبل —خيوط النور التي تتخلل عبر النافذة، همسات الرياح التي تحمل معها رسائل غير منطوقة، والزهرة الصغيرة التي تنبت بشجاعة في شق صخري. ربما ليست العزلة سجنًا دائمًا، بل فرصة للإنصات لما كانت الحياة تخفيه عنه. 

إن خداع النفس بأحلام مظلمة لا يقود سوى إلى طريق مسدود، لكن حتى في ذلك الطريق، يمكن أن يولد إدراك جديد -أن الألم ليس نهاية بل نقطة انطلاق، وأن في أشد لحظات الانكسار قد يزهر شيء لم يكن بالحسبان. وإن كسا الحزن السماء رماديًا، فإن قدرتها على المطر تظل كامنة، تنتظر لحظة انطلاقها، وربما تكون تلك الدموع بذورًا لربيع جديد. 

حين يتسلل الخوف من الوحدة، يشعر المرء أن كل شيء يضيق عليه، لكن مع الزمن، يبدأ في فك قيود العزلة شيئًا فشيئًا. يدرك أن هناك حرية كامنة في أن يكون وحيدًا دون أن يكون ضائعًا، وأن الصمت ليس عدوًا بل مساحة يتشكل فيها صوته الحقيقي. هذه العزلة التي بدت قاتمة في البداية قد تتحول إلى مختبر للأفكار، إلى مكان يولد فيه الإبداع كما يفعل الفنانون والكتاب.

إن الهروب من الواقع ليس نهاية، بل بحث عن معنى، عن تفاصيل لم تكن واضحة في حياة مزدحمة. وربما يكون المعنى في البساطة، في فنجان قهوة في صباح هادئ، في التأمل الذي يُخرج الأفكار من قلب السكون. إن الحقيقة ليست في الأشياء وحدها، بل في نظرة الإنسان إليها، في قدرته على إعادة تفسير عالمه حتى وسط العزلة.

المجتمعات الشرقية، رغم تقاليدها الصارمة، تحمل في جوفها قصصًا عن الأمل المخفي في كلمات الأجداد. بين جدران العزلة، هناك دائمًا نافذة يمكن أن تفتح، وحديث يمكن أن يُقال، حتى لو كان همسًا في قلب الليل.

غالبًا ما تدفع الوحدة والعزلة الإنسان إلى استعادة الذكريات البدائية ولحظات الاحتياج، إذ تختلف الطبيعة البشرية في فهم جوهر الحياة. فالإنسانية لا تحتاج إلى زخرفة أو تزيين، ولا ينبغي لها أن تُختزل في الاستسلام والإذلال طلبًا للعون. فحينما يكون الاحتياج حقيقيًا، تمتد الأيادي بفطرة العاطفة الإنسانية التي تتفاعل في بوتقة التضامن، حيث تتجلى القوة في التراحم وليس في الانكسار.

الحياة مسرحية كبرى، يتحرك فيها الجميع وفق أدوارٍ مرسومة بعناية، يختارها مخرج خفيّ لتناسب نفوسهم وصورتهم الظاهرة، فتبدو المشاهد أمام الجمهور حقيقةً لا يُشكَّك فيها. لكن حين يخرج أحدهم عن النص، يجد نفسه غريبًا في فضاء مجهول، يبحث عن زاوية يحتمي بها، ربما ليعيد كتابة دوره بعيدًا عن أعين المتفرجين.

الوحدة ليست دائمًا لعنة، والعزلة ليست دائمًا نهاية. ففي قلبها، قد يكون هناك نور ينتظر أن يكتشفه من يبحث عنه.

***

كفاح الزهاوي

لم أكن أعرف عنه غير أنه كان وزيرًا للإرشاد عام 1960 في حكومة عبد الكريم قاسم، وأنه من البصرة...

في عام 1961، رأيت "رسول" الذي يعاون أخاه في محلّه المجاور لدكان أبي، والذي كان متقدمًا عليَّ في العمر والمرحلة الدّراسية، فقد كان في مرحلة الثانوية في حين كنت في الابتدائية، يفتح مظروفًا كبيرًا ويسحب منه عددًا من المجلات والكرّاسات بطباعة ملونة وأنيقة أتاح لي تقليبها، ولمّا سألته منبهرًا: كيف حصلت عليها...؟ أخرج قلمًا وورقة وكتب عليها، ومن ثم قلب الورقة، فكتب على ظهرها أيضًا، وسلّمني الورقة قائلًا: أحضر ورقة وانقل عليها هذه الرسالة، ثم اكتب اسمك وعنوانك، ومن ثم ضعها في مظروف واكتب عليه هذا العنوان الذي بظهر هذه الورقة، واذهب للبريد، والْصق عليه طابعًا، وضع الظرف في الصندوق الموجود في دائرة البريد...

فعلت كما قال حرفيًا، ولأنَّ موزع البريد يمرّ على دكان والدي ليسلمني رسائل واردة لأشخاص من معارفنا أو زبائن لأبي اتّخذوا من دكان أبي عنوانًا بريديًا لهم، فقد كنت هذه المرة أنتظر قدوم موزع البريد بشغف لعلّ وعسى، وبعد حوالي عشرة أيام أقبل "أبو علاء" على عجل كعادته، لكنه هذه المرة بدلًا من أنْ يسلمني مما يحمله في يده من رسائل مدّ يده في خرجه ليسلمني مظروفًا أسمرًا كبيرًا في غاية الأناقة، مكتوب عليه اسمي.!، وحرصًا مني على سلامة المظروف لم أفضه تمزيقًا بل عمدت إلى قلم رصاص وأدخلته في زاوية فتحة المظروف، وحركته بصورة لولبية وفتحته لأستل محتوياته على عجل: أعداد من مجلة العراق الجديد، وفيها صور الزعيم ملونة، كراس عن إنجازات ثورة 14 تموز الخالدة، بريشة رسام الكاريكاتير غازي، حيث تطالعك إحدى رسوماته التي يظهر فيها الزعيم وهو يمسك السيف بكلتا يديه، يقطع أخطبوطًا يمثل كتلة الإسترليني، وأخرى وهو يقطع أخطبوطًا مشابهًا يمثل حلف بغداد، وثالثة وهو ممسك بمشعل ويوقد شعلة نصب الجندي المجهول، في حين كان الكراس الآخر يتضمن رسومات الرسام غازي المتنوعة، والتي كان يتخذ من الأغاني والأمثال الشعبية مواضيع لها، ومن بين تلك الرسومات ما زالت إحدى رسوماته عالقة في ذاكرتي، حيث رسم ثورًا كبيرًا برأس رجل دين يعتمر عمامة، وكتب تحتها: (هذا ما يقوله الشيوعيون عن المراجع العظام ...!)، وهي سقطة يراد منها التحريض ضد الشيوعيين العراقيين في حينه.

عندما رآني والدي وأنا أقلب المطبوعات متباهيًا، والمظروف الأسمر الكبير معها، سألني مستغربًا: شنو هاي ومنين أجت..؟ قلت بغرور: من الحكومة...! قال باستغراب مصحوبًا بالزهو: من الحكومة...؟ قلت بتبجح: إي ودولياها الحكومة ...فتمتم قائلًا:

"البين طكَها وطكَ رجلها ..سكاربيل يطكَ حجلها"، وضعت المظروف الكبير أمام عينيه وقلت بحدة: وهذا اسمي مكتوب.. تفحص الكتابة على الظرف متتبعًا سبابتي، وقال: نعم هذا اسمي، فهو يعرف رسمة حروف اسمه رغم أنه لا يقرأ ويكتب، فازداد إعجابه بما بلغته من مقام وربّت على كتفي، وهو يقول: انسى موضوع الـ سكاربيل، قلت له: أتذكرها.. وسرحت مستحضرًا شريطًا من الذكريات مازال طازجًا، فقد كان -رحمه الله- رغم هجرته من القرية إلى أطرف المدينة، فإنه لم يقطع صلته بحياته السابقة، وكان يحتفظ في سنواته الأولى بعد هجرته من مرابع صباه بفرسه وبندقيته ويتلقط أخبار المناسبات التي تحصل في القرية؛ كالأعراس والختان، فيعلق البندقية في كتفه ويعتلي ظهر فرسه متوجهًا إليها لإدامة الصلة، وفي الوقت ذاته ليعرض منجزه متباهيًا بانتقاله إلى المدينة، وأنه بات حضريًا مختلفًا عنهم، أما عني، فقد كنت أتعلق به ليصحبني معه وهو لا يمانع، ولكن سرج الفرس لا يسع أكثر من الفارس، فكان يردفني خلفه وخارج السرج، وكانت تحتي "عليجة" الشعير الفارغة المصنوعة من شعر الماعز الخشن التي يملأها المضيفون شعيرًا، ويعلقونها برأس الفرس بعد وصول الضيف باعتبار أنّ ذلك من مكملات الضيافة..

وللفرس سرعات أربع مثل كَير السيارة تسمى عندهم:

كداده: تقابل المسار في الفصحى، وهي المشي على أربع، فتسمع حوافرها بإيقاع 1، 2، 3، 4.

أما السرعة الثانية: فهي التهنجل وتقابل الخبب في الفصحى، وهي المشي بضربتين ارتفاعًا وانخفاضًا، بحيث تسمع حوافر الفرس 1، 2.

أما السرعة الثالثة: فهي "الهذابة"، وتقابلها مفردة العدو في الفصحى.

في حين أنَّ السرعة القصوى "تغربل أو غربال"، وهي تقابل العدو السريع في الفصحى.

كانت محنتي التي لا يعلم بها أحد غيري سوى الله وأمي هي مع السرعة الثانية "التهنجل" أو الخبب أو نمرة 2، والتي لا بُدَّ من المرور بها عند تخفيض السرعة من نمرة 3 إلى نمرة 1، والفارس لا يشعر بها؛ لأنه يجلس على السرج الجلدي الناعم ويضع أرجله في الركاب، فيكون ثقله على الركاب وليس السرج، ومنه جاء قولهم: فلان حاط رجليه بالركاب، يقصدون مسيطر على الأمر، في حين أنا أفترش عليجة شعر الماعز الخشنة، ولا ركاب أضع فيه أقدامي فارتفع بجسمي عن خشونتها، ومما يزيد الطين بله أنّ دشداشتي ترتفع عن أفخاذي أثناء خبب الفرس أو هنجلتها أو قل حركتها صعودًا ونزولًا بشكل لولبي، فتكون المواجهة بين جلد فخذيَّ الذي ما زالت طراوة الطفولة فيه وبين نسيج العلجية الخشن ... أعضُّ على النواجذ من شدة الألم، ولكني لا أصرح بذلك لأبي خشية حرماني من متعة السفر معه. ولكن في الليل عندما أعود لحضن أمي وبعد متعة السفر أدفع الثمن غاليًا عندما تتهيج "الصلوخ"- نحن في العراق نتصرف بمخارج الحروف تماشياً مع شدة الحالة فنقول الحر يصلخ صلخ في حين أن اهل الشام يقولون يسلخ سلخ ..ونقول عن الحر أيضاً أنه: يصمط صمط في حين أنهم يقولون: يسمد سمد ... - ، وهي آثار احتكاك جلدي بنسيج العليجة الخشن متسببًا بما يشبه التقرحات فأشعر وكأنّ أشواكًا أو قل إبرًا تنهش جلدي... فتعمد أمي إلى العجين لتستخدمه كمراهم لامتصاص الألم لكني لا أفصح عن السبب، لا عن هنجلة الفرس ولا عن خشونة العليجة التي كانت ليفة الحمامات التركية أنعم منها بكثير، وعندما تسألني أمي عن حالي أقول بثقة: زين ... حرصًا على استمرار صحبتي لأبي في سفراته.

في إحدى سفراتي مع أبي كانت المناسبة المقصودة احتفالًا بزواج أحد الأقارب، وكان أبوه ثريًا يملك بضع مئات من رؤوس الغنم... فكان أنْ اشترى من ضمن جهاز العروس حذاءً نسائيًا ذا كعب، وكان وقتها الحذاء غير مألوف للمرأة في الريف، فكيف إذا كان بكعب ...! وكانوا يسمونه وقتئذ: سكاربيل...

وصل موكب الزفة إلى الديار، والعروس المسكينة تمسكها اثنتان من صويحباتها من كتفيها، وثالثة تمسك ظهرها، فالأرض إنْ كانت رخوة غاص كعب الحذاء فيها، وإنْ كانت صلبة التوى كاحلها، وفي الحالين تتعثر وتسقط بين الفينة والفينة ...وعندما استقبلتها نساء القرية من أهل العريس بالزغاريد والملبس، هالهن ما شاهدن واشتعلت الغيرة في صدورهن، فهي تلبس سكاربيل وفوقه حجل الفضة الذي تزن الفردة منه كغم ونصف على أقل تقدير "المرأة العراقية اختصها الله بجمال الساقين حتى قيل فيها: "حجازية العينين مكية الحشا عراقية الأطراف رومية الكفل تهامية الأبدان عبسية اللمى خزاعية الأسنان درية القبل ولي ولها في الناس قولاً وسمعة..." وتبعاً لذلك اهتمت العراقية بساقيها حتى انها اتخذت في الريف حجل فضه ناقص الاستدارة ينتهي بثومتين على شكل بقلاوه لكنه ثقيل جداً ، وفي اطراف المدن اتخذت من الخلخال كامل الاستدارة الذي يفتح مثل جسر لندن وبقفل حلزوني عليه عران يشبه ذاك الذي يضعونه الكابوي في امريكا في مؤخرة احذيتهم أيام زمان فيصدر أثناء مشيهن رنه ، أما عندما تدخل المدن فتتحول الفضة الى ذهب ولكن بوزن أقل ورشاقة أكبر " ، نعود لحجل العروس ابو ثومه الذي دفع مناسيب الغيرة عند مستقبلات العروس إلى أقصى مدياتها وتحولت الغيرة حنقًا وحسدًا عبّرن عنه بأهزوجتهن المرتجزة وهن يتحلقن حولها:

البين طكَها وطكَ رجلها، سكاربيل يطكَ حجلها...!!

ولأني أعرف مغزى تمتمة أبي المشوبة بالإعجاب عندما قال تلك الأهزوجة، قدّرت أنه لم يقدر مقامي حق قدره عندما أخبرته أنّ الحكومة أرسلت لي المظروف الأسمر الكبير، وفيه تلك المطبوعات، ولكي أنبئه الخبر اليقين، فقد أحضرت ورقة بيضاء، وكتبت رسالة إلى الحكومة بالتفضل لتزويدي بمطبوعاتهم، ولكن هذه المرة لم أذيل الرسالة باسمي بل انتحلت اسم ماجد الحصونه " لا يوجد شخص أعرفه بهذا الاسم"، ولم أتخذ من دكان أبي عنوانًا بريديًا بل كتبت تحت كلمة العنوان: السماوة – دكان فليح هداد، مجاور سوكَ الكَصاصيب، ومنه ليد ماجد الحصونه...وضعت الرسالة في ظرف وكتبت عليه عنوان الحكومة، وعلى الظهر عنوان المرسل، واتجهت إلى دكان جارنا في الجانب المقابل، وقلت لصاحبه: عمي أبو شاكر أكو رجال يمي كتبت له رسالة لابنه، وما يريد أبوي يشوف جواب ابنه لأن بيها فلوس، كَال سوي عنوانها على عمك أبو شاكر.. إذا اجتك رسالة باسم ماجد الحصونه كَلي... قال أبو شاكر: صار... ومنه انطلقت للبريد، واشتريت طابع أبو عشر فلوس ولزكَته بلساني على الظرف، وأسقطت الظرف في صندوق البريد ...ورا أسبوعين ناداني عمي أبو شاكر وسلمني المظروف الأسمر الكبير لإيصاله إلى ماجد الحصونه الذي هو أنا...!

لم يطل الأمر على تلك المنجزات إلا أشهر، فقد حصل انقلاب 8 شباط 1963 على الزعيم فانقطعت الرسائل التي تصلني من الحكومة، وجف ضرع وزارة الإرشاد التي كان يديرها فيصل السامر صاحب ثورة الزنج عني، وبات مَن يجدون عنده العراق الجديد أو كراسات غازي الرسام يخشى على نفسه، وبدلًا من ذلك باتت الحكومة تنشر كراسات بائسة تندد بالزعيم من بينها صورة لمغسلة عليها صابونة ومنشفة مكتوب تحتها: يا جماهير شعبنا المناضل ..انظروا العطور الباريسية على مغسلة عدو الكريم وقاسم العراق الذي يدعي بأنه لا يملك غير قميصه...! لكن الصورة لا تظهر غير صابونة وخاولي...

ولم يمر الشهر التاسع على حكم قطعان الحرس القومي حتى فاجأتنا إذاعة بغداد صبيحة 18 تشرين الثاني 1963 بنشيد: الله الله الله أكبر.. الله فوق كيد المعتدي... وهو يعلن سقوط الحرس القومي وحكم البعث... وعلى أثر ذلك انتشر في الأسواق كتاب "المنحرفون" الذي يوثق جرائم الحرس القومي وحزب البعث في العراق الذي سارعت لاقتنائه حال نزوله الأسواق، ونقدت بائع الصحف درهمًا ثمنًا له...

وضعت المنحرفون أمامي أقلبه، وكأني أثأر من 8 شباط والحرس القومي وقتلة الزعيم، قرأته بتفحص وهو يكاد أنْ يكون سجلًا تفصيليًا لجرائم الحرس القومي في استباحتهم لكرامة وحياة العراقيين، ومن بين الأسماء التي بقيت محفورة في ذاكرتي أحمد أبو الجبن الذي ورد اسمه كثيرًا في كتاب المنحرفون، حتى أني استغربت كيف لشخص يبيع الجبن أنْ تكون له مثل تلك السطوة ظنًا مني أنّ بائع الجبن مهنة وليس لقبًا..!

وكان للرسام غازي نصيبه أيضًا من السجون والتعذيب والتهميش أثر انقلاب 8 شباط 1963، فاختفى الرجل واختفت رسوماته حتى توفي في عام 1999 رحمه الله.

طيلة تلك الأعوام بقي اسم الدكتور فيصل السامر صاحب وزارة الإرشاد في حكومة عبد الكريم قاسم طيفًا يمر في مخيلتي، فقد كانت وزارته تلبي طلباتي، وإن كان بعضها تحت أسماء منتحلة، وتصلني مطبوعاتهم المجانية بظروف سمراء كبيرة وأنيقة تحفل بالموضوعات الراقية وبطباعة جميلة.

وعندما بدأ الحصار يضيّق الخناق على رقاب العراقيين ويجبرهم على بيع كتبهم لشراء أرغفة الخبز بثمنها، كنت مارًّا يومًا على مكتبات شارع المتنبي تجول عيني بين رفوفها المقفرة إلا من كتب ميشيل عفلق وإلياس فرح ومهاويل الحزب، وبينما أنا على تلك الحال وجدت أحدهم يفترش بضعة كتب مستعملة وقديمة تعافها الأنفس، جلست القرفصاء أنبش فيها فوجدت من بينها كتاب: ثورة الزنج للدكتور فيصل السامر، وقد تم تمزيق الزاوية العليا من الصفحة الأولى التي تلي الغلاف وهو المكان الذي اعتاد الناس أنْ يكتبوا فيه عبارة: من كتب فلان الفلاني...سارعت بخطف الكتاب وكأنّ شخصًا آخر يحاول أنْ يسبقني إليه وتأبطته بعد دفع ثمنه، وعندما بلغت بيتي كنت محتفيًا بصاحب الكتاب قبل الكتاب لسابق فضله، وقرأته بعمق فوجدت الرجل كان محايدًا وعلميًا ومنصفًا، فقبل ذلك كنت أسمع في الريف أنهم إذا أرادوا شتم شخص أو مجموعة أو وصمه بسوء الخلق قالوا عنه: زط... وفلان زط ابن زط

يتبع ج2

***

د. موسى فرج

.......................

ملاحظه: على أثر نشري للجزء الأول من هذه المقالة في التواصل الاجتماعي تواصلت معي الأستاذة ياسمين فيصل السامر وهي كريمة أستاذنا دكتور فيصل السامر معربة عن شكرها للكتابة عن والدها، فكتبت لها:

عزيزتي الأستاذة ياسمين: راح انشر الجزء الثاني بس اريد منك خدمه آنا اعرف الأمور العامه عن الدكتور والدك .. لكن ردت أعرف من حضرتچ أحواله يوم كان بعمري من چنت أروح ويا أبوي على الفرس، طبعا متعرفيها لأن بوكتها أنت ما جايه للدنيا بس حتما بطفولتچ رحتي لعمامچ شلون شفتيهم ...؟ عدهم خيل لو مطايا ...؟ حتى أعرف همين تنصلخ أفخاذه مثلي يوم كان بعمري وقت ذاك...؟ وقريتهم وين بالبصره ، حتى اعرف النسوان عدهم يلبسن حجل ابو الثومه مثل البقلاوه لو أبو الطبكَه كامل الاستداره اللي ينقفل بـ عران..؟ حتى نسوي المقاله ثلاثيه مو جزئين...احترامي ومحبتي الدائمه

 

العين البشرية عندما تراقب الأشياء على اختلافها فإنها تغير في خصائصها وتقلل من تأثيرها، ولا يختلف في ذلك كونها فوتونات أو إلكترونات أو ذرات، أو حتى كتلة من مادة، وما سبق يؤكد كلام الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام من أن العين حق تأخذ حقها من الحجر، وبالتالي فالقول إن الشخص معيون أو محسود لا يدخل في دائرة الأساطير أو الهلاوس مثلما يعتقد بعض المشككين، والصحيح أنه ينطوي على حقائق متماسكة من الناحية العلمية، وثبت بالتجربة أن مراقبة الشخص لأي شيء تحرفه عن مساره، وهو المبدأ الذي تسير عليه (ميكانيكا الكم)، ومعه نظريات حديثة، تعتقد بقدرة الناس على تغيير مسار النجوم بمجرد مراقبتها لا أكثر

العين والحسد موجودان في كل الثقافات والمعتقدات، ورفضها وقبولها يتفاوت بين الناس، وأحياناً في الثقافة الواحدة، وبخلاف المعروف عنهما في الإسلام، فإنهما يعتبران من الخطايا السبع المميتة في الديانة المسيحية، والشاعر والفيلسوف الإيطالي (دانتي اليغيري) قام في القرن الرابع عشر الميلادي بكتابة ثلاثية شعرية عن الخطايا التي تؤدي بالشخص إلى الجحيم، ومن بينها الحسد، وذكر أن العقوبة التي تقع على الحسدة تتمثل في خياطة أعينهم بخيوط حديدية، وأنهم يرتدون ملابس ممزقة، ويسيرون بخطوات متثاقلة نحو الفردوس أو الجنة

كتب الفقيه الإسلامي أبو الليث السمرقندي في مؤلفه (تنبيه الغافلين) أن الحاسد تصله عقوبات قبل وصول حسده إلى المحسود، وأنها تظهر في شكل غم لا ينقطع، ومصيبة لا يؤجر عليها، ومذمة لا يحمد عليها، وفي سخط الله عليه، وإغلاق باب التوفيق أمامه، كما أن التحصين ضد العين عند المسلمين تصرف شائع؛ فبدلًا من التعبير بالإعجاب المباشر بطفل جميل مثلاً، من المعتاد قول " ماشاءالله" وهذا يعني "هذه إرادة الله" أو ذكر اسم الله على الشيء أو الشخص الذي تعبر عن إعجابك به. وقد كان هناك إيمان كبير بالعين الحسودة في الديانات القديمة منذ الأزل، وقد كان يتم استخدام التعاويذ والطلاسم كوسيلة للحماية من العين آنذاك. و بالرغم من غياب مفهوم اللعنة الحاصلة من خلال التحديق غائبة إلى حد كبير في شرق آسيا ومجتمعات جنوب شرق آسيا، فإن لعنة يوزوق تَستثنى في الفلبين. وحيث أن ذوي العيون الفاتحة في إقليم إيجة والمناطق الأخرى نادروا الوجود نسبيآ،

وعلماء النفس والفلاسفة ينظرون إلى المسألة بذات الطريقة، ولكنهم يستخدمون مصطلحاتهم الخاصة كالإحباط والقلق والاكتئاب والشعور بالدونية وفقدان الثقة، ومعها الإحساس بالتوتر المستمر عالم النفس (ريتشارد سميث) طور مقياسًا للحسد أسماه (مقياس سميث للحسد)، ووضع فيه ثمانية أبعاد تضمنت: الشعور بالدونية، والعداء، والاستياء، والرغبة في الإضرار، والمقارنة الاجتماعية، والشعور بالعدالة، والاستياء من الذات، والرغبة في تحسينها ,, سيغموند فرويد، تعامل مع الحسد بوصفه جزءا من علم النفس البشري، ولكنه أحاله إلى الأمور الجنسية، كعادته في تفسير السلوكيات الإنسانية، وخرج بما أسماه (حسد المنطقة الخاصة بالرجل)، فهو يرى أن الحسد مسألة عضوية تولد مع المرأة، في صورة اعتراض على عدم اكتمالها، وامتلاكها لعضو تناسلي خارجي يماثل ما عند الرجل، ورأيه وجد معارضة واسعة، وفي رأي أرسطو الحسد غير ملموس في العالم المادي، ولكنه يوصل إلى الأفعال السيئة الملموسة، كالعنصرية وجرائم الكراهية والتآمر على الناجحين

العجيب أن بعض المختصين يرى أن الأشياء الجافة وغير الرطبة معرضة للحسد، وأنه من المهم جعل كل ما يهم الشخص في حالة رطبة، وهذا الكلام موجود في الرقية الشرعية الإسلامية، وفي دولة أرمينيا، حيث يقوم الناس بالبصق على كل من يشعرون بالحب أو الحسد نحوهم، وفي المقابل، قدم العالم (روبرت شيلدرك) وجهة نظر مختلفة حول العين والحسد، وفي رأيه، الكائنات الحية إجمالاً محاطة بطاقة كهرومغناطيسية تحميها من الحساد وسهام العين، ولكنها لا تنجح إلا في الحالات البسيطة، كالإعجاب والتعلق الخفيف، أما إذا زادت الحالة عن هذا الحد فإنها تحدث عند الشخص تكيفا نفسيا وعقليا، يجعله قادراً على التركيز العالي في الشيء محل الإعجاب، وبصورة تعطيه طاقة نفس حركية، يمكنها اختراق الطاقة الكهرومغناطيسية، ما يؤثر سلباً في الشخص المستهدف، وقد يأتي التأثير في صورة تعب أو مرض وربما تسبب في الوفاة

تشهد كمية الأدلة الأثرية والأدبية على أن الاعتقاد بالعين الحسودة في منطقة البحر الأبيض المتوسط الشرقي انتشر من آلاف السنين بدءا من هسيود، كاليماخوس، أفلاطون، ديودوروس سيكولوس، ثيوكريتوس، بلوتارخ، هيليودورس، بليني الأكبر وألوس قاليوس. وفي كتاب «الإغريق والحسد» (1978) أشار المؤلف بيتر والكوت إلى أكثر من مائة من أعمال هؤلاء المؤلفين والتي تتحدث عن العين الحسودة. كما أن دراسة هذه المصادر الموثقة من أجل الكتابة عن هذه العين لا يؤدي إلا إلى رؤية جزئية للموضوع، سواء كانت تمثل الفلولكلورية، اللاهوتية، الطراز التقليدي أو الأنثروبولوجية المتبعة لفهم عين الشيطان. في حين إتجه هذه المناهج المختلفة إلى التزود بمراجع شبيهة، تقدم كل منها استخدامات مختلفة لعين الحسد ويستند الخوف من هذه العين على الاعتقاد بأن بعض الأشخاص تتميز نظرة أعينهم بالقدرة على إصابة الآخرين أو حتى قتلهم بقصد أو بغير قصد.

يستند الإيمان بالعين الحسودة خلال العصور القديمة على الأدلة من المصادر الأثرية مثل: أرستوفان وأثينايس وبلاترش وهيلودرس. وقد ذكر تفسير بلاترش العلمي أن العين كانت المصدر الرئيسي إن لم تكن الوحيدة للأشعة المميتة التي تنطلق كالأسهم المسمومة من عين الحاسد. فقد كان هذا التفسير العلمي للعين الحسودة شائعًا في الفترة اليونانية-الرومانية. وقد تعامل مع ظاهرة العين الحسودة كمصدر للتعجب وسبب في التشكيك لا يمكن تفسيره. وقد تعدد الإيمان بالعين الحسودة خلال العصور القديمة في مختلف المناطق والفترات. فلم يكن حجم الخوف من العين متساويًا في كل زوايا الإمبراطورية الرومانية. كانت هناك مناطق حيث يشعر الناس فيها بخوف أكثر تجاه خطورة العين. وفي الأيام الرومانية لم يكن الأفراد وحدهم هم من يستطيعون الإصابة بالعين، وإنما القبائل ككل، ولا سيما قبائل بونتوس وسيثيا. وقد كان سحر فالس الذي يطلق عليه مسمى فاسينوم باللاتينية، والذي يعني «إلقاء السحر»، يستخدم ضد عين الحسود. يُعتقد أن انتشار الإيمان بالعين نحو الشرق كان بسبب إمبراطورية الاسكندر الأكبر، الذي نشر هذا الاعتقاد بالإضافة إلى أفكار يونانية أخرى عبر إمبراطوريته

يعتبر الإيمان بالعين الحسودة شائعاً بشكل قوي في الشرق الأوسط خاصة منطقة اسيا الوسطى وجنوب اسيا وشرقها حيث يعتقد أن أصحاب العيون الخضراء والزرقاء لديهم القدرة على التسبب للآخرين بالعين بقصد أو بدونه. ومن المحتمل ظهور هذا الإيمان لدى مختلف الثقافات الغير معتادة على العين الحسودة كما في أوروبا الشمالية، حيث تفرض ضريبة محلية ضد تجاوز المدح أو التحديق في الأطفال. لذلك تستخدم التمائم ضد عين الحسود في اليونان وتركيا على شكل عين زرقاء. ويعتبر مصطلح «الحسد» عند أولئك الذين لا يؤمنون بالعين حرفيًا، وذلك يرجع إما بسبب الثقافة التي نشأوا فيها أو لعدم إيمانهم بمثل هذه الأشياء ببساطة، يعني أن تحدق في الشخص بنظرة غضب واشمئزاز.

***

نهاد الحديثي

القوى المتمكنة تتسابق على العناصر النادرة، والبحث عنها من أحد أسباب تنافسها على إحتلال القمر، والكواكب الأخرى، لأن فيها عناصر نادرة في الأرض، وضرورية للصناعات الإليكترونية وما يتصل بها من أجهزة وأشباه موصلات ذات قدرات على لوي أعناق الأقوياء.

ففي الجدول الدوري لمندليف (1834 - 1907) هناك عناصر متوفرة وأخرى نادرة، وبتقدم الإبتكارات وما جاء به القرن الحادي والعشرون من معطيات إختراعية، صار للعناصر النادرة دورها الأكبر والضروري للإنتاج والتميز.

الرقائق الموصلة وغيرها هي قلب التكنلوجيا الإليكترونية، وبدونها تتعطل المصانع العملاقة الفاعلة في حياتنا، والتي تعتمد على العناصر النادرة، ولهذا تتنافس عليها الدول المعنية بالقوة والإقتدار.

ويبدو أن العناصر النادرة تكتسب أهميتها وقيمتها، كلما تطورت الصناعات التكنولوجية والإبتكارات المتنامية من قبل العقول الفاعلة في تغيير الحياة.

وكم غنية بها أراضي دول الأمة، وهي لا تعرفها ولا تدري كيف تستثمرها، فلا بد للآخرين أن يدلونا على ما عندنا، كما حصل لآثارنا ونفطنا وغيره من المعادن الكامنة في ترابنا.

هكذا تفكر الدول القوية، ونحن منشغلون بالغابرات، فأمواتنا أحياء، وأحياؤنا أموات، ونتغنى بما فات وما مات، ونتوهم بأن أجدادنا ملائكة وليسوا بشرا قد مات.

تقدم أيها الجيل الجديدُ

وساهم أنت مغوارٌ فريدُ

بعلمٍ سابقت أمٌّ عصورا

وفاقت عندما شاء المُريدُ

رؤاها في حجاها إستقرّت

فأوقدها عليمٌ أو رشيدُ

***

د. صادق السامرائي

إنهم يرون أن حدوث المادة بإرادة خالق، وبوجوده المطلق في الكون ومنفصل عنه ومدبر له، فكل ما يحصل يكون بسببه، وما يجري بأمره، ويمكن أن يكون العالم بغير الصورة المصور بها الآن بقدرة الخالق.

كل شيئ من عند الخالق، وبأمره فهو المطلق التصرف بكل شيئ.

هذا جوهر منطلقاتهم، ومنطقهم الذي يقتربون به من الحياة وما يتصل بالإنسان، ومعناه على العقل أن ينتفي، فلا يحق له أن يسأل أو يفكر، فهو لا يحتاج إلى ذلك، فالأجوبة جاهزة ومكررة وقائمة منذ الأزل.

لماذا السؤال والجواب واحد على جميع الأسئلة مهما تنوعت أو تعقدت.

نعم الجواب واحد فالخالق واحد ومطلق التصرف وكل ما يجري بأمره وقدرته، ولكن كيف يجري، ألا يحق للمخلوق النسبي الوجود أن يكتشف قوانين الله التي يسيّر بها هذا الكون العظيم؟

فالبشرية تدرك وجود قوة مطلقة تدبر الكون، ورغم نسبيتها تبحث في قوانين المطلق، وقد أنجزت إكتشافات متقدمة في مختلف العلوم، أوصلتها إلى بناء حضارة غير مسبوقة.

هذا الموقف يتناقض مع ما في الكتاب من آيات تحث على التدبر والتفكر وإعمال العقل وإستعماله في التفاعل مع البيئة بمداراتها المتنوعة.

يتفكرون، يتعقلون، يتدبرون، يتبصرون، وأمثالها من الكلمات الكثيرة في الكتاب التي تتعارض مع تعطيل العقل، فكيف توصلوا إلى هذا الإقتراب؟

يبدو أن الدوافع ذات بعد سياسي ونفعي، فهم وعلى مر العصور لهم علاقة وثيقة بكراسي التسلط على الناس، ويمكنهم التحكم بهم بتعطيل عقولهم وتجهيلهم وتبهيمهم، ويبدو أنهم قد قاموا يهذا الدور على أحسن وجه، مما تسبب بمتوالية من الأجيال الراكعة تحت أقدام السلاطين والحكام.

والمؤرخون يزيدون الطين بلة، عندما يقولون بأن التخلف والأمية سببه كذا وكذا من أسباب الإسقاط على الغير والتبرير لقدوات التجهيل والإستعباد للبشر.

ففي سلوكهم تتجلى النفعية ويبدون كالمجاميع التي أحاطت الكراسي وتنعمت بعطاءاتها، وأذعنت لمظالمها ومساراتها، فلا يوجد سلوك قام به حاكم أو سلطان إلا ووراءه فتاوى وعاظ الكراسي والمتاجرين بدين.

فالدين تجارة رابحة منذ الأزل، وعبر الحضارات كل حاكم يحكم بقوة دين، ووفقا لما تقدم، فأن معطيات العصر لا تتفق وهذه الرؤية الإنجمادية التحنيطية التي تقر بالشلل والخمود.

ويبدو أن ما أصاب الأمة من رقود سببه العمل الجاد على عزل العقل عن الحياة وزيادة مساحة التجهيل والأمية، والتمحور حول ما يطلقه الحافون من حول الكراسي كالجراد الذي لا يرحم.

رؤوسٌ ذاتُ عقلٍ مستباحٍ

وإمعانٍ بتابعة الرواح

ترى أدري لواحدها تجلت

وتحسب غيرها إبن الجُناح

فصن عقلا وفكّر أنت حرٌّ

فعقل المرء منطلق النجاح

***

د. صادق السامرائي

 

صحيح إن السيف أقدم أسلحة الحروب بين البشر، والذي تطور اليوم إلى أسلحة أوتوماتيكية، وصولاً للأسلحة الذرية، وهناك أخرى سرية لا يعلم بها إلا الله والقائمين عليها، ولكن لم تتمكن، ولم تصل إلى مديات سلاح القلم، فهي محدودة الميدان من حيث المساحة، فالحروب التقليدية، كما في الحرب العالمية الأولى والثانية، والحرب العراقية الإيرانية، وغيرها، حدثت بأماكن محددة، وسلاحها يُصيب الأبدان، والمنشأت المادية، ولكن سلاح القلم لاحدود جغرافية له، فهو يستطيع الوصول إلى كل جهات الأرض الأربعة، وأنه يُصيب العقول دون الأبدان، وهنا تكمن خطورة هذا السلاح، فالأول يحتل بقعة من الأرض ويستولي على ثروات محدودة، وسلاح القلم يحتل عقول، ويكتسح حضارات، ويسلب أرادات . أستراتيجية سلاح القلم أخطر من كل الأسلحة، وأمضاها، وأقل جعجعة، وأرخص تكلفة، وأوقع ضرراً بالخصم، وهذا هو السر في بناء الأمبراطوريات الأعلامية في عالم اليوم من قِبل الدول الأمبريالية، بالتحالف غير المقدس مع إسرائيل وأساطين المال من اليهود، الذين يسعون من خلاله إلى تحقيق ماعجز السلاح التقليدي من تحقيقه، الذي يتمثل بالهدف الأستراتيجي لهم، وهو السيطرة على العالم، وقد أثبتت الأيام والتجارب، وما سُوق من أفكار، وما عُرض من مؤلفات، وما قُدم من مقابلات، وأفلام ومسلسلات، وما يُروج له على صفحات التواصل الأجتماعي، ما يجعلني شخصياً لا أستبعد إن هناك مراكز فكرية عالمية سرية، تنتج أفكار، تسعى من خلالها للتشكيك بالرموز العظيمة، وأظهارها بمظهر القبح تارة، والتهتك تارة أخرى، وذلك لما لهذه الرموز من تأثير على الفكر والسلوك العام، فمثلاً جوز الغربيون على أنبياء اليهود والنصارى شرب الخمر، والأتيان بالفاحشة، والكثير من السلوكيات المشينة، وأسفارهم مليئة بذلك، فنرى بالكتب والدراسات التي قُدمت بعصر التنوير، وحتى بالسنوات القريبة الماضية، التي تعرضت لحياة الأنبياء، وعملت على الحط من منزلتهم، والأستهزاء بهم، وخاصة عن طريق الأفلام، وكيف أنبياء بني إسرائيل يعاشرون الجميلات من النساء، ويحتسون الخمرة، كما صوروهم بأنهم كانوا يتجرؤون على الذات إلهية، وهذا الأسلوب هو من سوغ للألحاد في أوربا، كأداة من أدواة تسويقه للمجتمع، لتحاشي صدمة وردود فعل هذه المجتمعات المتدينة، وأقناعها بأن أنبياءهم هم أول من تعاملوا مع الرب بطريقة خشنة، وبعيدة عن الآداب العالية والتقديس والتبجيل، فما المانع أن نحذوا حذوهم، وهذا بطبيعة الحال سوف يجعل المجتمع يتقبل أسلوبهم الخشن في معاملتهم للرموز الدينية، وبالتالي لا غضاضة من التعامل مع هذه المقدسات بنفس أسلوب من سبقهم من أنبياء، بأعتبارهم أسوة لأتباعهم، وهذا ما أغرى الكثير من الأفراد من التهاون في فعل الذنوب، و هَون عليهم اقتحام الموبقات والجرائم، وهذا ماحصل للمجتمع الغربي، وكيف تشبع بالفساد الأخلاقي، متعذرين بأن أنبياءهم قد سبقوهم بشرب الخمر وممارسة الرذيلة الجنسية، ونستطيع ان نذكر بعضها، فقد ورد في الكتاب المقدس طبعة دار المشرق (وأبتدأ نوح يحرث الأرض وغرس كرماً وشرب الخمر فسكر وتكشف داخل خبائه) أما ما نقلوه عن إبراهيم أنه سلم زوجته ساره إلى فرعون، وقال له أنها أخته، وقد أعطى فرعون لإبراهيم قدراً من البهائم والأنعام مقابلها) أي أنهم أظهروا نبيهم بمقام القواد، أما تصويرهم للوط، فهو الأدهى والأمر، فقالوا أن بناته الأثنان قد أشربوه الخمرة ومارس الجنس معهما فولدتا منه وهؤلاء الأبناء غير الشرعيين، هم أصل الموئابيين والعموريين، وهكذا مع بقية أنبيائهم، فهل يُعقل إن من أرسلهم الله لنشر الفضيلة، أن يسلكوا هذا السلوك المشين، هذا التصدير الذي صدروه للمجتمع الأوربي كان أهم أسباب أفساده، والآن تُصدر لنا هذه الأفكار عبر تصوير النبي محمد ص بانه كان يشرب الخمرة، وهناك من يصوره زير نساء، وهناك من يصوره أرهابي، وكانت أحدى هذه المحاولات، ماقام به الكاتب الهندي الأصل والبريطاني الجنسية سلمان رشدي في تأليف كتابه آيات شيطانية والذي يظهر النبي محمد ص بصور تحاول الحط من شخصيته كنبي ورسول، وأنه شخصية غير معصومة، ونرجسية، وشبقه، كل ذلك من أجل تحطيم هذا الرمز الأخلاقي العظيم، لكي يهون على الشعوب المسلمة أقتراف الموبقات بدعوى أن الرسول فعلها وهو نبي، فكيف وأنتم الناس العاديين لا تعملوها، يتوخون من ذلك أفساد المجتمع، وتحطيم القيم، وعلى نظرية، إذا فِسدَ العالِم فسد العالَم، لذلك نرى الكثير من وسائل الأعلام المختلفة وعلى لسان أبناء المسلمين من مقدمي البرامج والمفكرين منهم، والكتاب، هم من يقومون بهذا الدور لدفع الشبه عن المراكز الغربية التي تدفع بهذا الأتجاه، وبرنامج مختلف عليه الذي تقدمه قناة الحرة واحد من هذه البرامج التي تعمل بهذا المسار، والذي يقدمه إبراهيم عيسى المصري. إنها حرب الأعلام، كوسيلة من وسائل الحرب الناعمة، كمقدمة لأحتلال بلادنا، والسيطرة على شعوبنا، عن طريق قتل كل القيم التي تعارض التطبيع، والأحتلال والخنوع، والقبول بهوية غير الإسلام، كتمهيد لسيطرة اليهود على العالم، وكنتيجة لهذه الهجمة الشرسة، والأعلام الممنهج والمكثف، ساهم في ظهور ظاهرة الألحاد، وموجة التشكيك، وتعرض المنظومة الأخلاقية للأهتزاز في العالم العربي والأسلامي، والأخطر هناك توجه يسير بالتوازي مع هذا التوجه في ضرب ثوابت الأمة، هو الدفع بالأجيال الجديدة من الشباب للقبول بالأمر الواقع الذي تفرضه الأمبريالية الأمريكية، ومن وراءها إسرائيل، وذلك بقبول فكرة التطبيع مع إسرائيل، وأن مجتمع الأستهلاك الذي فرضوه على شعوبنا، هو النظام الأمثل، وبوابة نظام الرفاهية لهذه الشعوب، ليجعلوا منها شعوب خاوية كسولة، لاتقوى على مقاومة ظلم، ولا رد عدوان، والذي بعد فوات الأوان تصحوا هذه الشعوب على واقع هزيل يسيطر عليه رأس المال الذي تديره الدول الرأسمالية وأساطين المال من اليهود، وتفقد هذه الشعوب استقلال بلادها، وتُسلب ثرواتها، وينتهي أبناءها عبيد بيد أرباب المال اليهود، وحلفاءهم الغربيين، وتسود حضارة الكابوي الأمريكي، مقابل أضمحلال حضارات الشرق، ومنها حضارة الإسلام .

***

أياد الزهيري

 

عادة ما يحلم الشاب قبل الزواج بحياة زوجية خالية من الضغوط والتوتر. يتخيل أنه في نهاية كل يوم سيعود من العمل لتستقبله زوجته على الباب بحرارة، ويدخل البيت فيجده مرتبا ونظيفا، وتدعوه الزوجة للاسترخاء لحين تحضير وجبة العشاء.

وعلى العشاء يدور حوار ممتع وبدون خلافات، ثم تتمشى الأسرة قليلا في الحديقة المجاورة قبل أن يخلد الجميع لنوم عميق. قد يبدو هذا الوصف مضحكا اليوم لدى بعض الأزواج، لكن إن لم يكن هذا ما يحدث حقا في بيوتكم، فإن زواجكم يواجه مشاكل خطيرة. هذا ما يؤكده ويلارد. إف.هارلي عالم النفس وخبير العلاقات الزوجية.

في وقت مضى كانت المرأة تتولى مسؤوليات البيت ورعاية الأطفال، بينما يهتم الرجل بضمان دخل مادي للأسرة. أما اليوم فيزداد عدد النساء العاملات خارج البيت. أمام هذا الوضع صار من الواجب على الزوجين أن يتشاركا في أعمال المنزل. إلا أن هذه المسؤولية تبدأ برغبة متبادلة بينهما، ثم تنتهي بأن تتحمل الزوجة كل أعباء البيت، خاصة بعد أن تضع طفلها الأول. وهنا تبدأ الخلافات والمشاكل التي تدفع بالزوج لأن يقضي أطول فترة خارج البيت.

ما هي إذن أهم الأسباب التي يُرشحها الأزواج كمبرر لقضاء وقت أطول خارج البيت؟

يشكل الطفل حديث الولادة عبئا بالنسبة لبعض الآباء؛ فرغم أنهم لا يُخفون سعادتهم بقدوم أول مولود، إلا أنهم لا يتحملون صراخه المستمر وإزعاجه خاصة بالليل. وفي دراسة نشرها موقع ديلي ميل يخسر الآباء حوالي 2.9 ساعة من النوم كل ليلة، أي ما يعادل 44 يوما من ساعات نومهم المعتادة خلال العام الأول للطفل. وينضاف إلى ذلك حالة البرود في العلاقة العاطفية التي تحدث بعد الولادة، حيث تحتاج المرأة إلى "هدنة" تجعلها أقل إقبالا على العلاقة العاطفية مع الزوج، فيفسر الأمر على أنه نوع من الرفض يدفعه للانسحاب.

السبب الثاني هو الوضع المالي المريح؛ فالأزواج الذي يكسبون أقل هم الأكثر استعدادا للبقاء بالبيت ومساعدة الزوجات في الأعمال المنزلية، مقارنة بالأزواج الأعلى دخلا أو الأثرياء. ويرجع ذلك بحسب دراسة أجراها باحثون بجامعة أوريك البريطانية إلى أن موقف الأزواج من المساواة يعتمد على مقدار ما يكسبون. فرغم أن زوجاتهم بحاجة إلى مساعدة إلا أنهم يكتفون بتوفير المال اللازم لمصروفات البيت.

أما السبب الثالث فهو صمت الأزواج، وعدم الاهتمام بتطوير مواضيع مشتركة عاطفية أو ثقافية أو اجتماعية بين الطرفين، إما بسبب فارق السن أو اختلاف العادات؛ وأحيانا نتيجة الزواج التقليدي. وهذا النوع من الصمت تعتبره مجلة (بونته) الألمانية آفة العصر، لأنه يقف خلف 79% من حالات الانفصال، حيث بينت دراسة منشورة بالمجلة أن الأزواج يتبادلون الحديث مع زوجاتهم لمدة 28 دقيقة في الأسبوع، حتى ولو لم يكن هناك خلاف. وأجريت الدراسة من خلال تثبيت ميكروفونات صغيرة في لباس مئة زوج لتسجيل الحوار الذي يدور بين الزوجين خلال أسبوع، مع حذف الأصوات غير المفهومة والكلام الذي لا صلة له بالحوار. وخلصت إلى أن الأزواج الصامتين هم في العادة ثرثارون خارج البيت، بل إن بعض الزوجات فوجئن بمهارة أزواجهن في إدارة النقاش، وسعة ثقافتهم المعرفية في الأماكن العامة، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي!

حين تتزايد عوامل التشتيت والشكوى من المهام غير المكتملة داخل البيت فإن أغلب الأزواج يبحثون عن قسط من الراحة خارجه. وتفعل الزوجات نفس الشيء حين يقضين وقتا أطول في فضاءات عامة، تسمح بخلق صداقات مع نساء أخريات، كمراكز التسوق وصالات التجميل وغيرها. وهنا يقتحم الجليد عش الزوجية، وتبدأ جدرانه بالتصدع، وسقفه بالانهيار.

كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الرجال. وكان يتعبد لله تعالى بمشاركة زوجاته أعمال البيت. ولما سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: (كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج).

 من قيمنا الإسلامية الجميلة أن يكون للزوج لمسة داخل بيته، فمساعدة الزوجة في رفع الأثاث أو غسل الصحون أو إخراج القمامة من البيت هي لغة حب ثانية؛ لكن يحتاج الأمر إلى تفاهم وأسلوب ذكي. يقترح ويلارد هارلي أربع خطوات لتصبح أعباء المنزل متعة مشتركة بين الزوجين وتساهم في البقاء بالبيت:

الخطوة الأولى أن الزوجين يضعان قائمة بكل مسؤوليات البيت، وبعد كل مدة تتم إضافة مهام جديدة إذا لزم الأمر.

والخطوة الثانية أن يختار كل واحد منهما المهام التي يفضل أداءها، أو تلك التي يستمتع بها.

والخطوة الثالثة إذا بقيت مهام من القائمة لم يخترها أحد الزوجين، فالواجب هنا تغليب مصلحة الأسرة وأداء مهام إضافية لأنها مهمة حتى وإن لم تكن ممتعة.

أما الخطوة الأخيرة فهي أنك ترتقي بأداء المهمة إلى مستوى بنك الحب. تقوم بها لأنك تحب الطرف الآخر وتهتم بمشاعره، فيصير القيام بأعباء البيت كأنك تودع رصيد في بنك الحب.

أما قدوم طفل فهو ثمرة سعادة زوجية، وطموح لاستقرار وبناء أسرة. وهذه مسؤولية الزوجين معا. الصغير بحاجة إلى جو من المشاعر الإيجابية، والدردشة المفعمة بالدفء بين الأبوين. أما حين يتحول البيت إلى فندق صامت فهذا يعرقل النمو النفسي للطفل ويحد من نشاطه الإبداعي. تقول دراسة أجراها باحثون بجامعة الشمال الغربي الأمريكية أن نسبة إصابة الأطفال بالاكتئاب تصل إلى 30 بالمئة نتيجة وجودهم في بيئة صامتة، لا يوجد بها ضجيج ولا ثرثرة.

وحتى يستعيد البيت دوره القديم في الارتباط الوثيق، والاجتماع حول سفرة الطعام، والدردشة والمناقشات، فعلى الزوجة أن تصبح صديقة لزوجها. أن تمنحه حرية واستقلالية وتتوقف عن توجيه التعليمات والنصائح. حين يشعر الزوج أنه تحت دائرة مراقبة وليس على حريته يلجأ إلى عالم الأصدقاء، لأنه بحاجة إلى مساحة يفكر فيها دون قيود أو تدخل. تنصح ميغان ويكس، خبيرة العلاقات الإنسانية الزوجة: " دعيه يخطئ وأعطيه مساحته، فكثرة توجيه التعليمات تجعله يشعر بعدم الأهمية، وتكرار اللوم يجعله يبتعد".

 ومن طبيعة الرجل أنه بحاجة إلى الاستقلال، والانسحاب مؤقتا ثم العودة. وهي دورة عاطفية لابد أن تفهمها المرأة حتى لا تتسبب في مشاكل تُعمق هذا الابتعاد، ويتحول إلى هروب من البيت. يقول جون غراي في كتابه (آدم من المريخ وحواء من الزهرة):" يُشَبه الرجل بشريط من المطاط: عندما تسحبه بعيدا فإن يبتعد إلى أقصى ما يمكنه، ثم يرتد مرة أخرى باندفاع. وهذا الأمر ليس اختيارا بل هو شعور غريزي، ولا يعرف الرجل كيف يفسره. لذا تخلق المرأة أحيانا مشكلة مما يُعزز رغبته بالهروب.

إن إبعاد الملل عن عش الزوجية مسؤولية مشتركة بين الزوجين. ويحتاج الأمر لأفكار جميلة تشجع على متعة البقاء بالبيت، كتحضير سهرة لطيفة، والاهتمام بالمظهر، وتجهيز عشاء رومانسي تحت إضاءة خفيفة، يتذكر به الزوجان لحظات السعادة الأولى.

 تصرفات بسيطة لكنها تجدد الحياة الزوجية، وتعزز الشعور بالمكان. وبمناسبة المكان فإن البعض يعتقد أنه كلما كانت مساحة المنزل كبيرة سيكون أفضل للأسرة، لكن الدراسات التي أجراها بعض خبراء التصميم الداخلي للمنازل تؤكد أن إحساس الفرد بالمكان هو الأهم. حين يربطك بالبيت شعور بالسعادة والقرب والانسجام فإن العلاقات داخله تصبح أهم من توسيع المكان.

بسبب التنشئة الخاطئة يعتقد الرجل أن بقاءه بالبيت فترة طويلة لا يليق برجولته. وفي الشام يطلقون اسم "البيتوتي" على الزوج الذي يفضل مكوثه بالمنزل مع زوجته. لكن أمثال هؤلاء في مملكة الحيوان هم آباء رائعون بالفعل، فرغم الظروف القاسية التي يواجهها طائر البطريق إلا أنه يتقاسم مع أنثاه رعاية البيض: تضع الأنثى بيضة واحدة ثم تُسلمها للذكر الذي يعتني بها لفترة قد تبلغ أربعة أشهر؛ يُبقيها على قدميه أو ينام فوقها ليحميها من برودة الثلج، ويصوم حتى عودة الأم لتغذية البيض الفاقس. وفي مناطق تبلغ فيها البرودة مستويات قياسية، يتمتع البطريق بعمر طويل، ورابطة زوجية هي الأكثر دهشة في عالم الحيوان.

وتبقى المحبة مفتاح البيوت السعيدة، وستارا شفافا يحجب عن ساكنيها الهموم. يقول جبران خليل جبران: إذا أشارت إليكم المحبة فاتبعوها، وإذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها، وإذا خاطبتكم فصدقوها. المحبة لا تعطي إلا من ذاتها، ولا تأخذ إلا من ذاتها!

***

حميد بن خيبش

لا يمكن لاي جهة ان تكسر أنف الدينار العراقي

بعد نهاية الحرب العراقية الايرانية وفي عام ١٩٨٩ تحديداً، كنت مدعواً لالقاء محاضرة في جمعية الاقتصاديين العراقيين. كان الموضوع حول السياسات الاقتصادية المطلوبة لمرحلة ما بعد الحرب..

اتذكر بأني اقترحت اعادة النظر بسعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار لانه مُبالغ فيه ويشجع على استهلاك السلع المستوردة ويعيق تصدير المنتجات العراقية الى الدول الاخرى.

وبعد انتهاء المحاضرة ونزولي من المنصة جاء رجل محترم وشكرني على المحاضرة.. قدم نفسه باعتباره مسؤولاً في احدى المؤسسات اضافة لكونه عضو قيادة شعبة في الحزب.

لكنه قال لي: اسمح لي اختلف معك دكتور وارجو ان ماتزعل.

قلت له تفضل:

قال الرجل بانفعال واضح: لن نسمح لاي جهة واي شخص واي قوة ان تكسر أنف الدينار العراقي عن طريق تخفيض قيمته كما اقترحت حضرتك!!

الدينار خشمه عالي ويبقى عالي ...

ايقنت انه لا جدوى من محاولة شرح الموضوع لهذا الشخص.

فقلت له نعم يجب ان يبقى خشمه عالي..

انه لم يكن موقف شخصي من ذلك الرجل بل انه موقف يرد باشكال مختلفة على لسان المسؤولين الذين رفضوا العديد من الاقتراحات من وزارة التخطيط لتعديل سعر الصرف ..

تذكرت حينها قولاً ورد على لسان احد الخبراء المصريين وهو الدكتور محمود الأمام، حيث قال:

ان الخطة في دولنا هي عبارة عن مهرجان سياسي احتفالي ينتهي العمل بها بعد اطلاقها مباشرة. وان صياغة اهداف عملية التنمية هي عبارة عن فروسية جاهلية ومكابرة بدوية ...

***

د. صلاح حزام

لقد وردت في القرآن الكريم كلمتان هما (البشر – الإنسان) أو كلاهما في كثير من الآيات وبأسلوب بلاغي رائع ومتعدد الأغراض كل حسب موقعه يعطي معنا لوروده فقد ذُكرت كلمة البشر حوالي (23) مرة والملفت للنظر أن هذا العدد يساوي عدد الكروموسومات الجينية للنطفة التي تحمل كل الصفات  الوراثية للبشر أما الإنسان ذُكر حوالي (43) مرة أما كلاهما بلغ حوالي (14) مرة حيث جاءت كلمة البشر من الجذر اللغوي (بَشَرَ) أي الجسد المادي الحسي أو الملمس الخارجي (الجلد) الخالي من الشعر الطويل أو الوبر أو الصوف أو الفرو ومن هنا على المؤمن المتدبر في عظمة الخالق الله تعالى وآياته أن يحاول دراسة وفهم هاتين الكلمتين تفصيلا وبداية علينا التعرف على البشر أولا على أنه مخلوق مع باقي خلق الله عاش على الأرض يختلف عن الحيوانات وباقي الكائنات ذو مظهر وشكل معين أفضل وحُسُن هيئة من تراب وماء كما قال تعالى (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم أذا أنتم بشر تنتشرون) الروم 20 وكذلك (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) وهذا دليل على أن البشر خُلق من ماء وتراب وهما عنصران مهمان للطبيعة (وهو الذي أنبتكم من الأرض نباتا) نوح 17 وهو أول كائن يسكن الأرض خلقه من الماء كسائر المخلوقات ثم بدأ يمشي على رجلين شبه منتصب واستعان باليدين في بعض الأحيان وعند الحاجة إليها وحسب طبيعة معيشته وبيئته ونظامه الغذائي لمدة قاربت (1,7) مليار سنة (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا) فاطر 11 ومن البشر هذا أراد الله تعالى أن يكون له خليفة في الأرض من سلالة البشر أكثر تطورا ومدنية وعقلانية وتفكيرا ليكون ملائما للعيش في زمن التطورات الجديدة على الأرض ليستلم مهمة مسئولية يُكلف بها في المستقبل وأكثر تطورا في الشكل والفهم والمواصفات البدنية لإخراجه من الحياة البهيمية الفوضوية لبناء الأرض وأعمارها والاستفادة من خيراتها ويكون أكثر ألفة وأُنسا مع الطبيعة وأقرانه من جنسه ومخلوقات الأرض والكون ولهذا سمي بـ(الإنسان) وأودع فيه العقل السليم والفطرة السليمة النقية وعلمه ما لم يعلم وقابل على التطور والتكييف قابل على حمل الرسالات الإلهية والشرائع والسنن التي تُنظم حياته وسير الكون وأخذ الله تعالى منه العهد والميثاق ومن ذريته لعبادة الله وحده لا يُشرك به أحدا وأعمار الأرض على أساس الأخلاق والمبادئ والقيم الإنسانية لكن هذا الإنسان لم يكن جدير بهذه المسئولية فكان الخطاب الإلهي له أكثر قسوة وذما وتوعده بأقسى العقوبات بعدما سار في طريق العصيان والتمرد والظلم بإرادته وأكثر الفساد حيث وصفه الله بصفات منها (الفجور –القنوط- اليأس – أكثر جدلا – ختار – كفور – ناكرا للجميل – جزوع – قتورا – جهولا – محب للشهوات) وقد وصف في الآيات التالية :

- (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث متاع الحياة الدنيا والله عنده حُسن المآب) آل عمران 14

- أخذ الله تعالى من الإنسان العهد والمواثيق لعبادته وحده لا شريك له ومن ذريته (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلا شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف 172

- (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) النحل 4

- (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون) الحجر 26

وخلاصة القول من بعد ما تقدم أود طرح رأي الشخصي والله أعلم عنده علم الغيب عندما خلق الله تعالى الكون من العدم بكلمة (كن فيكون) دفعة واحدة بما يسمى بالانفجار الكوني العظيم كما قال تعالى (أولم يرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) الأنبياء 30 فقد أوجد الله الكون دفعة واحدة مرتبا كاملا كما هو عليه الآن حتى قيام الساعة بدقة متناهية وكل شيء خلقه بقدر وموزون لا تبديل لخلق الله لكن الإنسان بمواصفاته الحالية وبرمجته بهذا النظام والشكل قد يكون مشتقا من نسخته الأصلية البشر بمراحل جديدة وبفواصل زمنية عبر عنها القرآن الكريم ب (ثم) وبخارطة جينية متطورة عن البشر بكثير من الصفات الجديدة لذا نرى الآن الطفرات الجديدة للإنسان لتركيبته المتجددة في الإدراك والتغيرات الجسدية والشكل التي تظهر على الساحة العالمية لبعض الدول المتقدمة في العلم والتكنولوجيا في إيجاد بدائل ونسخ مشابهة للإنسان بدقة عالية لها القدرة أكثر منه وقابل للمزيد من التطور وهذا يوصلنا لرأي مفاده أن الإنسان المختلف عن البشر ما هو إلا صناعة خارجية أكثر تطورا وتقدما من الكائن البشري أستغل منه العقل والخارطة الجينية للنطفة وبعلم وقدرة الله على صناعته كما أخبرنا الله في القرآن عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه أن يخلق من الطين كهيئة الطير بأذن الله والنبي نوح عليه أفضل الصلوات صناعة للسفينة بأمر وأشراف مباشر منه إذ قال (وأصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا أنهم مغرقون) هود 37 والدليل الآخر على ذلك عالم الروبورتات التي تمتاز بالدقة المتناهية في الوصول لشكل وعمل الإنسان والتفكير وقد نجد في المستقبل البعيد عن مخلوقات إنسانية وخلق ونشأت جيل جديد من شبه إنسان قادرا عن التكيف مع المجتمع والكائنات المعروفة والغير معروف لنا ويبقى الله تعالى هو أحسن الخالقين ولا منكرا لذات الله تعالى).

***

ضياء محسن الاسدي

 

"إن السلاح جميع الناس تحمله...وليس كل ذوات المخلب السبع"

الإتحاد الأوربي يسعى لتخصيص أكثر من (800) مليار يورو للتسليح، ومعظم ميزانيات الدول فيها نسبة كبيرة للتسليح، ومصانع الأسلحة لا تتوقف، وأسواقها تتنامى، فالحروب قائمة، والدول صاحبة الثروات الطبيعية تستنزف أموالها بشراء الأسلحة المنتهية الصلاحية بالنسبة للمنتحين لها، والعالم يمتلك ما يفني المخلوقات فوق التراب وتحته وما في المياه.

الأسلحة المعاصرة باهظة التكاليف وذات تدمير عنيف، وهدفها قتل الأبرياء والخراب الشديد، فكم قتلت وستقتل من البشر المصفد بالحرمان من أبسط حقوق الإنسان.

الأقوياء ينتجون السلاح والضعفاء يشترونه لقتل بعضهم، والأقوياء يصولون ويجولون في سوح المرهونين بسلاح الآخرين.

ترى لماذا البشر لا يشعر بالأمان ويريد المزيد من الأسلحة؟

إنها العدوانية الفاعلة في دنياه، والشرور الساطية على وعيه ونفسه الأمّارة بالمساوئ، التي ترغمه على إتخاذ الحيطة والحذر والتمتع بالدمار والخراب وسفك الدماء وتناثر أشلاء الأبرياء، فالقتل شحنة إحساس بالحياة لا مثيل لها.

البشر مخلوق ظالم عجزت النداءات الإصلاحية بأنواعها عن تهذيب سلوكه، وتحويله إلى إنسان، وفي أكثر الأحيان المخلوقات الأخرى أعلى مقاما في سلوكها منه.

"والظلم من شيم النفوس فإن تجد... ذاعفةٍ فلعلةٍ لا يظلم"

تسلّحت البرايا ضد بعضٍ

وأطلقت الشرور على مناها

سلاحٌ نحو حادية الرزايا

يكلفها كما شاءت خطاها

فما ربحت تجارتها وخابت

فألغت حلمها ورعت أذاها

***

د. صادق السامرائي

تأملات في عشق الاستبداد ومهابة الحرية

ليس غريباً، بل قد يكون متوقَّعاً في مجتمعات طبعها الخوف وسادها القهر، أن ترى شعوباً وأفراداً يرضخون للظلم، ويُذعنون للاستبداد، ويُسلّمون أعناقهم للطغيان، تفضيلاً لذلك على خوض غمار الكفاح من أجل حقوقهم المشروعة وحرياتهم الإنسانية. فالكفاح، في نظر هؤلاء، مكلفٌ لا بالجهد فحسب، بل بالنفس والطمأنينة والأمن، لذلك لم تكن الجموع يوماً هي من تصنع التغيير، بل دائماً قلّة، قلّة ترفض أن تكتفي بالأنين، وتختار بدلاً منه أن تصرخ، أن تقاوم، أن تُشعل الشموع في وجه ظلمات القهر، سواء أتى هذا القهر من احتلال غاشم، أو من سلطان جائر، أو من تقاليد وأعراف تشبه السجون بأقفالها الحديدية.

وقد رأينا بأم أعيننا مثالاً جليّاً في العراق بعد سقوط الطاغية في 2003، إذ تمنّى كثير من الناس- ويا للمفارقة- عودة القبضة الحديدية، وتشوّقوا إلى سطوة الجلاد أكثر من شغفهم بتذوّق طعم الحرية! أهو الخوف من الحرية؟ أهو الفزع من المسؤولية الملازمة لها؟ أهو تربية القهر التي تجعل التمرّد على الطغيان يبدو كفرًا، والحرية نفسها تبدو جريمة؟

شاهدت اليوم مقطعاً مصوّراً لمراهق عراقي يحاول الانتحار من على أحد جسور الديوانية. سبب بسيط ظاهرياً: أزمة حب. لكن ما شدّني لم يكن الفعل، بل ردود الأفعال. قرأت التعليقات، فوجدت أكثر من ثمانمائة تعليق، جلّها يدعو إلى ضرب المراهق، إلى تأديبه بعنف، إلى تربيته من جديد بالسوط والعقاب، كما لو أن القسوة علاج للضياع، أو أن الإهانة تبني إنساناً.

قلّة نادرة هي من كتبت بتفهم، بمحاولة تأمل، بتساؤل عن السبب وراء الانتحار، لا في الموقف العاطفي العابر، بل في التربية، في البيئة، في ثقافة لا تسمح للهشاشة أن تظهر، ولا للضعف أن يُفهم، ولا للألم أن يُسمع. ثقافة ترى في الانهيار ضعفًا أخلاقيًا لا إنسانيًا، وتظن أن الصرامة تبني النفس، بينما تهدمها من الداخل دون أن تدري.

”يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنكُمْ، وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا“... فهل نؤمن بضعفنا كبشر؟ أم نخاف أن نُبصر في المرآة وجهاً هشاً فنغطيه بغلاف من قسوة تربّينا عليها وورثناها دون مساءلة؟

السؤال الأعمق هو: هل يخشى الناس أن يُعيدوا النظر في طريقة عيشهم؟ أن يتأملوا ثقافتهم وعاداتهم؟ أن يتوسّعوا في مساحة الحرية داخل ذواتهم ومجتمعاتهم؟ حتى وإن قادتهم هذه الحرية إلى حياة أسهل، ألين، أكثر انسجاماً مع الرفق والعقل؟

نيوتن رأى التفاحة تسقط مراراً، ككلّ الناس. لكنه، في لحظة تأمل واحدة، صرخ: وجدتها! لا لأنه رأى ما لم يره غيره، بل لأنه فكّر كما لم يفكر غيره. التأمل-لا المشاهدة - هو مفتاح الإدراك.

وإن لم يتربَّ النشء على قواعد إنسانية تجعل من التفكير فريضة، ومن الحرية قيمة، ومن المسؤولية شرفاً، فإنهم سيظلون يحنّون إلى قسوة المستبد، ويهابون نور العقل، ويركعون لصنم الطغيان.

وعلى المربّين، والأهل، والمهتمين بالشأن التربوي أن يعوا أن أدوات تشكيل الوعي اليوم لم تعد كما كانت. فلم تعد الخطبة والموعظة والصف المدرسي تكفي، بل العالم كلّه صار يربّي أبناءنا: الإنترنت، الإعلام، التفاعل اللحظي على المنصات.

إن المغبون حقاً هو من لا يُراجع نمط عيشه كل يوم، ولا ينقّح عاداته، ولا يحرّر نفسه من تقاليد لا تصلح إلا للقيود. فالعيش المتأمل هو العيش الرفيع، والمجتمع الذي يُدمن النقد الذاتي هو المجتمع الذي يرتقي.

***

حميد علي القحطاني

 

حين تجد الفلسفة طريقها إلى النفس، فإنها تنفذ إليها من أسمى مفردات الوجود: الروح. يتبعها بعد ذلك العقل، ثم القلب، ليجد الإنسان نفسه أمام مسؤولية كبرى تفرض عليه أن يفي بحقيقة وجوده الكوني.

وهذه الحقيقة هي الخلود ذاته؛ إذ إن حاجات الجسد تتلاشى، ليبقى هرم العقل ناصعًا شامخًا على مر السنين.

لهذا، لا تقف الفلسفة عند حدود السلطة الوجودية المرتبطة بعالم المادة، بل تتجاوزها إلى ما وراءها، لتلج عالم المثال، حيث يتحول الإنسان إلى نموذج يُحتذى بعد موته، فيرتقي إلى عالم الخلود، الذي ابتدأ منه، وإليه يعود.

***

عقيل العبود

أمريكا الأولى (902) في عدد الأفراد البليونيرية والثانية الصين (205)، وعدد اليليونرية في العالم (3028) في القرن الحادي والعشرين، ويقبضون على (16.1) ترليون، وعدد الفقراء ربما سيتزايد طرديا مع زيادة عدد البليونرية.

ثراء فاحش وفقر مدقع، وتلك معادلة القرن التي ستتواصل في العقود القادمات.

فمَن يحكم الدنيا؟

إنها الأموال المحتكرة في قبضة أشحاص.

لا تحدثونا عن الديمقراطية والإشتراكية والثورية وغيرها من إدعاءات الحكم، إنه المال الحاكم المستبد والطاغية الذي يقرر مصير البشر، فالنفس وقودها المال وديدنها النار وسفك الدماء.

كل ما جرى ويجري فوق التراب منذ الأزل، دوافعه إقتصادية وإن تبرقع بشعارات ومنطلقات منافقة، محصلتها الإغتنام والإستحواذ على أموال وممتلكات الآخرين.

إنها ذات المعادلة التي أولعت الصراعات بين القبائل والفئات في أرجاء المعمورة، وعندما تشكلت الدول نشبت الحروب بينها وهدفها إقتصادي بحت، حتى أن بعض الدول الكبرى أو معظمها، ترى أنها تزداد ثراءً بإشعال الحروب.

الدنيا غالب ومغلوب، خروف وذئب مذؤوب، القوي يأكل الضعيف، لا أخلاق، لا قيم، لا عفة ولا عفيف، المطامع تفور، والصاحب غدور، وغاب الغيور، وتباغضت الصدور، والكثرة نذور، وقد فار التنور.

لا تحسبن النفط ثراء، فهو النقمة والداء، والفساد في مواطنه دواء، وشعوبه في عناء، تتوسل الأعداء، وبطونها خواء، تستجدي طعامها من الغرباء، وتعادي الزرع وتستهين بالماء، يحكمها الجهلاء، وعز فيها البناء، فالخراب هدف ورجاء، لا حقها لسابقها محّاء، والناس تستلطف البلاء، وبالصبر والخنوع والتبعية يتمنطق الخطباء.

يا أمة النفط، يا مواطن الشقاء!!

حروبٌ في مواطننا استقادت

ومن جيلٍ إلى جيلٍ توالت

مطامعها تسيرها لنفطٍ

وأتباعٌ بمغنمها تطامت

أجبج النار بنّاء اقتصادٍ

به الأقوام عن حقٍّ تعامت

***

د. صادق السامرائي

......................

البليون: ألف مليون

الترليون: ألف بليون

التكنولوجيا هي إستخدام المعرفة العلمية في تصميم الأدوات والأنظمة لحل المشكلات أو لتسهيل حياة الإنسان، وهي داخلة بجميع مجالات حياتنا في القرن العشرين، كما في الإتصالات والصحة والتعليم والنقل، وغيرها الكثير من الإستخدامات التي تفوقت على سابق العصور.

الصين أوهمت القوى الكبرى بأنها منشغلة بصناعة لعب الأطفال طيلة العقود الأخيرة من القرن العشرين، وهي تتحرك بهدوء وصمت وكتمان في مجالات الثورات التكنولوجية، حتى فاجأت الدنيا بريادتها وتميزها وتفوقها الذي لا يُضاهى.

فالصين أدركت بأن القوة الحقيقية تكنولوجية، فاهتمت بالزراعة وأشبعت مواطنيها، وحررت عقولهم من قبضة بطونهم، وأطلقتها في ماروثونات التصنيع والإبداع التكنولوجي.

وهناك العديد من المجتمعات التي رهنت عقولها ببطونها، فهي غير قادرة على إطعام نفسها، وتتشبث بأوهامها، ونهر الحياة يجري بتدفق عارم، وهي آسنة في بركها الراكدة المتعفنة.

فلا يمكن لشعب أن يصنع إذا كان الجوع والعوز ينخرانه، ويقيدان أيامه ويستهلكان وقته.

فالبشر إنطلق في مسيرته الحضارية بعد أن إكتشف الزراعة، فتوفر لديه الطعام بجهد أقل، وإستقر أكثر، فصار لديه وقت للتفكير والإبداع.

فالمجتمعات الضعيفة تكنولوجيا، لا تستطيع المجابهة والتحدي، وستكون سيادتها مسلوبة ومجبورة على التبعية والخنوع للإقتدار التكنولوجي السائد.

ومجتمعات الأمة أضاعت المشيتين، فلا هي زراعية ومكتفية بإطعام نفسها، ولا ذات تفاعلات تكنولوجية معاصرة، فصارت ترنو للآخرين بنظرات متكسرة، ومشاعر متدنية، وترقب الدنيا في تقدم وإزدهار وهي تراوح في مرابض الإندحار، وتحسب النفط هو الإنتصار، والتأريخ المتصور عنوان الإقتدار.

بتصنيعٍ وإبداعٍ أصيلِ

وإشباعٍ لجمهرة القبيلِ

شعوبٌ من مواجعها تنامت

ودامت في مقامات المعيلِ

وأخرى عن روائعها تعامت

فعانت من صراعات الرحيلِ

***

د. صادق السامرائي

 

اقدم محامي معروف في تاريخ البشرية هو المحامي السومري (شو) وقد ورد اسمه مسجلاً في إحدى الوثائق السومرية التي تعود إلى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد.

فعند السومريون القدماء (2850 ـــ2400 ق . م)، كما يؤكد صموئيل كريمر في كتابه (هنا بدأ التاريخ)، وردت أول سابقة قضائية في تاريخ البشر مسجلة في إحدى الوثائق السومرية تعود إلى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد مدون فيها وقائع محاكمة كاملة لثلاثة أشخاص قتلوا موظفاً من موظفي المعابد حوالي سنة 1850 قبل الميلاد. 

وتعود بداية اكتشاف الواقعة التاريخية إلى عام (1950ميلادية)، حين عثرت بعثة مشتركة من المؤسسة الشرقية في جامعة شيكاغو والمتحف التابع لجامعة بنسلفانيا، على لوحَيْن من الطين في مدينة نفر السومرية جنوب العراق سُجل فيهما محضر لمحاكمة خاصة بجريمة قتل.

والحادث كما روته ألواح الطين يقول إن ثلاثة رجال هم حلاق وبستاني، وشخص ثالث لم تُذكر صنعته، قتلوا لسبب ما، أحد موظفي المعابد واسمه (لو أنانا). ولأسباب غير معروفة أخبر هؤلاء زوجة القتيل المسماة (نن دادا) بمقتل زوجها، لكن المرأة سكتت واحتفظت بسر القتلة ولم تبلغ السلطات الرسمية بالأمر.

إلا أن خبر الجريمة وصل إلى أسماع الحاكم (أور نينورتا) في العاصمة، فأحال القضية للنظر فيها إلى مجلس المواطنين في المدينة الذي كان أشبه بهيئة محلفين.

وعندئذ نهض تسعة رجال من هذا المجلس لمقاضاة المتهمين كممثلين للحق العام أمام المحكمة، وقدموا للمحكمة شرحاً للقضية في مجمل تفاصيلها، وتوصلوا إلى أن الجريمة لا تقتصر على القتلة الثلاثة المباشرين للجريمة، بل يلزم مقاضاة الزوجة بسبب بقائها ساكتة، كاتمة الأمر بعد علمها، الأمر الذي يجعلها شريكة في الجريمة.

وعندئذ تطوع محاميان للدفاع عن الزوجة وكان احدهم يدعى (شو) وهو أحد موظفي معبد الإله (نتورا)، معلناً لهيئة المحكمة أن المرأة لم تشترك في قتل زوجها، لذلك ينبغي تبرئتها، مبرراً ذلك بان المرأة كان لها من الأسباب ما حملها على السكوت لأن زوجها لم يكن قائماً بإعالتها.

وعندئذ نهض ممثل هيئة المحلفين من جديد معلناً أن الذين قتلوا الرجل لا يستحقون الحياة، وإن أولئك الرجال الثلاثة وتلك المرأة يستحقون القصاص.

ولكن محامي المرأة نهض من جديد وأكد مرة أخرى، قائلاً مع الاعتراف بأن الزوج قد قتل وقد علمت المرأة بذلك وسكتت، فما هو ذنبها حتى تستحق القصاص؟

وهنا تدخل القاضي معلناً أن زوجة لم يقم زوجها بإعالتها، مع الافتراض بأنها كانت تعرف أعداء زوجها، وأنها بعد مقتل زوجها علمت بالأمر، ولم تشترك في الجريمة، فلماذا نعاقبها على سكوتها، ينبغي قصر العقوبة على أولئك الذين ارتكبوا القتل فعلاً.

وبعد مرافعات مشوّقة بين الجانبين قضت المحكمة بإدانة القتلة الثلاثة وبرأت الزوجة، وسببت المحكمة حكمها بأن الاشتراك غير متوفر في حقّها لأنها لم تقترف الجريمة معهم ومجرد علمها وسكوتها عن التبليغ لا يُعدُّ اشتراكاً.

***

فارس حامد عبد الكريم - استاذ جامعي

 

كان سقراط قد أوصى قائلاً: "اعرف نفسك"، ولو بعث اليوم ورأى أحوالنا، لهرع إلى أول مقهى إنترنت ولأبتلع السم بنفسه دون محاكمة. حياتنا لم تعد حياةً، بل صارت حزمة من الإشعاعات المتصلة بالشبكة العنكبوتية، يرفرف فوقها شعار: "أنت موجود طالما أنك متصل".

ها أنا أجلس، أكتب على حاسوبي الذي يرمقني بنظرة ازدراء خفية، بينما يرن هاتفي الذكي كل خمس ثوانٍ كطفل مدلل يريد أن يُسمع صراخه للعالم. الطابعة بجانبي تعاني أزمة هوية — لا تعرف إن كانت طابعة أم متحفًا أثريًا — بينما ثلاجتي، كأم حنون متطفلة، تهمس لي أن علب الحليب على وشك الانتحار من شدة انتهاء الصلاحية. على معصمي، ساعتي الذكية تهدهدني برسائل طمأنة سخيفة: "كل شيء على ما يرام. نبضك منتظم. اشرب ماء." أحقًا؟ شكراً لك أيتها الساعة، لم أكن أعلم أنني بحاجة إلى مربية إلكترونية.

لقد أصبحنا، كما وصفنا لوتشيانو فلوريدي، سكان "المجال المعلوماتي" لا أكثر. ذات مرة كنا أسيادًا للقرارات، اليوم نحن رهائن لإشعارات التطبيقات. وكما قال نيتشه، "الأدوات الصغيرة تخلق آلهة صغيرة"، ونحن الآن نعبد آلهة مصنوعة من البلاستيك والسليكون.

يحدثنا فلوريدي في "الثورة الرابعة" عن الانقلاب الهادئ على وجودنا: من مركز الكون إلى هامشه، من سادة الطبيعة إلى أبناء عمومة الشمبانزي، من حكام قراراتنا إلى عرائس ماريونيت يحركها اللاوعي. والانقلاب الأخير؟ لقد سلبتنا الآلات قدرتنا على التفكير الحسابي ذاته. وكأن ديكارت، حين قال "أنا أفكر إذن أنا موجود"، لم يتخيل أن الحواسيب ستسرق منه هذا الامتياز لاحقًا.

نحن الآن أشجار مانغروف تائهة، كما يحب فلوريدي أن يتخيلنا: لا نعيش في بحر ولا في نهر، بل نغرق في مستنقع التكنولوجيا. في هذا الفضاء الرمادي، لم نعد نميز الحقيقة من الزيف، واليقين من الوهم. وهكذا أصبحنا، كما قال بودلير، "مسافرين عائدين من اللاشيء".

لكن، هل نستسلم؟ لا! فكما قال سقراط: "حياة غير مدروسة لا تستحق أن تُعاش." الفلسفة تظل حبلنا السري إلى الإنسانية. هي البوصلة التي تنقذنا من الضياع في صحراء المعلومات. وحدها تستطيع أن تفصل الغث عن السمين، أن تذكرنا بأن ما يلمع ليس دائماً ذهباً، وما هو شائع ليس دائماً حقيقياً.

ومع ذلك، كما يحذرنا بيونغ تشول هان في "الأشياء اللاشيئية"، فإن وفرة المعلومات لا تزيدنا إلا جهلاً. العالم يُصبح ضبابياً، ونحن نغوص أكثر فأكثر في بحرٍ بلا قرار. لقد تحوّلت وسائل الاتصال إلى وسائل قطيعة، وكأننا جميعًا نصيح في غرفة مغلقة، ولا يسمعنا أحد، بما في ذلك أنفسنا.

ما العمل؟ ربما الحل، كما كان يوصي هايدغر، أن نعود إلى العالم، أن نلمسه، نشمه، نخطئ في طرقه، نضيع فيه. لم نعد نعرف كيف نضيع: بفضل خرائط غوغل نعرف أين نحن دومًا، لكننا فقدنا أين نحن حقًا.

يقول هيجل إن وعينا لا يُولد إلا عبر اصطدامه بوعي الآخر. ولكننا اليوم نصطدم بالشاشات، لا بالآخرين. فقدنا الجروح التي تجعلنا بشراً. بلا جراح، نحن مجرد معلومات جافة عائمة بلا جذور.

فلنتعلم من جديد أن نغلق هواتفنا، أن نخطئ الطريق، أن نتسكع بلا هدف. لعلنا — كما قال ريلكه — "نعود إلى الحنين العميق للأرض"، ونكتشف أن أجمل ما في الحياة ليس أن تجد الطريق، بل أن تضيعه.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

قارئ عزيز كتب لي معترضا على هجماتي التي سماها يميناً وشمالاً، وخشيتي من الاقتراب من قاعة المحكمة الاتحادية التي وضعت البلاد في "حيص بيص" حسب تعبيره. وأضاف: ماذا كان يضير المحكمة الاتحادية لو أنها لم تدس أنفها في السياسة؟

يعرف القارئ العزيز جيدا ان المحكمة الاتحادية تلعب معنا لعبتها التناقضات منذ عام 2010 عندما وضعت تفسيراً للكتلة الأكبر، كان الغرض منه سد الأبواب أمام أياد علاوي في تشكيل الحكومة، في ذلك الوقت حصل علاوي على 91 مقعداً بينما حصل المالكي على 89 مقعداً، فوجدنا المحكمة تصدر قراراً غريباً، ساهم في ازمات للبلاد.. وفتح الباب أمام القضاء ليتحول من مؤسسة مهمتها الحفاظ على القانون وتطبيقه إلى مؤسسة سياسية.

على مدى سنوات استهلك العراقيون طاقتهم ومعها ثرواتهم في جدال عقيم حول الكتلة الأكبر، هل هي التي تتشكل في البرلمان أم التي تفوز في الانتخابات، لتخرج علينا المحكمة الاتحادية وبعد 15 عاماً على قرارها الأول بقرار جديد يقول إن الكتلة الأكبر هي التي فازت بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات النيابية. وكأن مصائر البلاد والعباد مجرد لعبة تشبه لعبة "الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة".

ما حدث في قضية محمد الحلبوسي عندما اصدرت المحكمة قرارا بفصله من مجلس النواب واتهمته بالتزوير وانه يخطط لمشروع امبريالي، لتعود المحكمة وتخبرنا امس بان محمد الحلبوسي بريء وان الادلة التي قدمت ضده لم تكن دقيقة، ويحق له ان يعود الى مكانه في مجلس النواب.

أدرك جيداً أن التجاوز على سلطة القضاء مرفوض ومدان ونقف جميعاً ضده، لكن للأسف القضاء ومنذ سنوات أحب لعبة الاشتباك مع السياسة، ولهذا فالناس كانت وما زالت تريد من المحكمة الاتحادية أن تساهم في مساعدة البلاد على دخول المستقبل، وبناء دولة تقوم على أساس حق المواطنة لا حق الساسة، وعلى العدالة والمساواة لا على توزيع الغنائم بين الأصحاب والأحباب، ومع التسليم الكامل بأن وجود مجلس نواب ضرورة سياسية، فإن المنطق يقول إننا بحاجة إلى مجلس نواب حقيقي خال من نواب الصفقات، مجلس نواب مهمته خدمة الناس لا خدمة الكتل السياسية، مجلس نواب غير مصاب بفايروس الانتهازية.

والآن ليسمح لي القارئ العزيز لأقول له نحن في زمن كثر فيه "الحيص بيص"، مثلما تناسلت به مجالس المحافظات، وليس امامنا سوى ان نرفع ايدينا الى السماء للدعاء بان تتخلص هذه البلاد من "حيص بيص" البرلمان والمحكمة الاتحادية، والمدعي العام الذي لم يستيقظ من نومته منذ 20 عاما، ومن الاحزاب السياسية التي تجاوز عددها الاربعمائة جميعها طامحة بقطعة من كعكة العراق.

***

علي حسين

 

النوبليون هم الحاصلون على جائزة نوبل، وذات يوم إلتقيت مع أحدهم وكنت أحاوره، وعندما طرحت عليه سؤالا عن طبائع الأفكار، حدق بوجهي متعجبا وقال: هل تتصورني أعرف كل شيئ؟

أدهشني جوابه، ووجدت من الغفلة والسذاجة أن نعتقد بأن أي شخص بمفرده يحيط بالعلوم كافة، أو يمكن تسميته بالعلاّمة.

تذكرت ذلك وظاهرة أنا أعرف، أنا أعلم، من السلوكيات الفاعلة في مجتمعاتنا، والتي منعت تفاعلاتنا الإيجابية وأصابتنا بإنهيارات متنوعة .

فكل منا يحسب نفسه مدينة علم ومعرفة، وهو فحل توت في بستان وجيعنا.

وعندما تتساءل أين "والله أعلم" في خطب المتأدينين، يأتيك الجواب بأنها تحت التراب، فالرحمة على الذين كلما إزدادوا علما عرفوا كم أنهم يجهلون، فالبحر مداد أعرف العارفين، ومنبع الكون المتسع الرحيب.

العاهة المروعة الفاعلة في دنيانا والمعوقة لمسيرتنا وتطلعاتنا، أننا نعلم، ولا نتعلم، والدنيا في مارثونات معرفية وتعليمية تسابق اللحظات، فالمجتمعات التي تعلمت تطورت وتألقت، والصين مثال ساطع أمامنا إذ إنطلقت من قيعان الفقر والأمية إلى ذرى العلوم التكنولوجية المعاصرة، ففعّلت عقول المواطنين، وأطلقت الطاقات الإبداعية ووفرت لها الرعاية والحماية والتحفيز.

فلن نتفدم إذا لم نتعلم، فالعلم مفتاح الفرج!!

بعلومٍ نرتقي نحو الأعالي

فتعلّم لا تعش فيها حزينا

أ ببهتٍ قد سجنا وانتهينا

تبّعا نسعى، عليهم إعتمدنا

كلما جئنا لخيرٍ إندحرنا

ولشرٍ من هوانٍ إرتضينا

***

د. صادق السامرائي

 

يحاول البعض أن يوهم الناس البسطاء، بأن معركتهم الحقيقية ليست مع سراق المال العام، ومروجي الخطب الطائفية، وأن الأزمة العراقية ليست السعي إلى تقسيم البلاد لدويلات طائفية.. وإنما أزمتنا الحقيقية هي مع فعاليات غنائية او رياضية، تجرأ فيها البعض وقرر اقامتها في واحدة من المدن العراقية، فالمطلوب أن تقيم مهرجاناً لخطب سياسيينا التي يريد لها، البعض، أن تصبح جزءاً من طقوسنا اليومية..

في جزء من خطبته، يوم الجمعة، وصف السيد صدر الدين القبانجي ماراثون رياضي دولي اقيم في محافظة البصرة بانه: "مخطط لإفساد ومسخ هوية الشعب ضمن حرب ثقافية ناعمة الهدف منها تغيير هوية البصرة الدينية". وقدم القبانجي الشكر لشيوخ العشائر الذين رفضوا هذا المهرجان الرياضي، تخيل جنابك حدث رياضي تشارك به 44 دولة وأكثر من 140 عداء دولي يتحول حسب رأي السيد القبانجي الى مؤامرة ضد مدينة البصرة "المقدسة"، ولا اعرف ما حكاية المدن العراقية التي تحولت جميعها الى مدن مقدسة لا يجوز فيها الغناء ولا الفعاليات الرياضية. السيد القبانجي وهو ينفعل ضد فعالية رياضية، متوهماً أن العراق يعيش في عصور الجاهلية!!، لم اشاهده يوما ينفعل ضد سرقة اموال الشعب، ولا غضب ضد سوء الخدمات وانتشار المخدرات وارتفاع معدلات البطالة، ولم يحتج عندما اطلق الرصاص على المتظاهرين الشباب، لم اسمع له يوما خطابا يدعو الى الوحدة الوطنية والتفاني في حب العراق، ربما سمعت له اكثر من مرة اشادة بالجمهورية الاسلامية في ايران.. لكن الحديث عن تطور العراق ومكانته حرام شرعاً في، نظر السيد القبانجي .

في كل مرة يخرج علينا السيد القبانجي ليذكرنا بأننا دولة إسلامية، وأتذكر في تظاهرات تشرين وبعد مقتل 700 متظاهر، ثار القبانجي وأرعد وأزبد، ليس دفاعاً عن دماء الذين قتلوا، وإنما مطالباً الشعب العراقي بأن لا يشارك في هذه الاحتجاجات، لأنها ترفع شعارات "نريد وطن"، فمثل هذه الشعارات حسب رأيه ليست مطالب خدمية أو إصلاحية، وإنما شعارات تريد العودة بنا إلى الحكم "اللاديني".

إن حديث السيد القبانجي عن استهداف الدين يعني بشكل واضح أن الذين شاركوا في هذا الماراثون الرياضي يعادون الدين، وهو حديث للأسف يفضح كل ما كان مخفياً من شعارات عن الديمقراطية وحق المواطن العراقي بالحرية الشخصية.

والغريب أن خطيب جمعة النجف، يريد أن يختطف القضية بعيداً عن جوهرها الحقيقي، ويعيد تسويقها للناس على أنها معركة إسلام ضد علمانية، أو، وفقاً لحالة الغضب التى ظهر عليها، أنها معركة بين مؤمنين وكفار، كما أن الرجل لم يتمالك نفسه فاعتبر أن العراق أصبح بلده لوحده، وعلى الآخرين أن يبحثوا عن تأشيرة هجرة إلى بلاد الكفار، إذا لم تعجبهم فرمانات القبانجي.

***

علي حسين

التطورات التكنولوجية والتواصلية، وثورات الذكاء الإصطناعي وإنطلاق مسيرة الروبوتات الآلية، هيمنت على المصانع والمعامل والشركات، وكافة ميادين العمل، وهذا يعني أن الحاجة للأيادي العاملة تناقصت بنسب كبيرة، أي أن البشر أصبح فائضا عن الحاجة.

على سبيل المثال المزارع التي كان يعمل فيها آلاف العمال إكتفت اليوم ببضعة مكائن وآلات، وكذلك مصانع السيارات التي معظمها تعمل بالروبوتات، وما عادت تستوعب الأعداد الغفيرة من العمال.

ويترتب على ذلك وجود المصانع في أي مكان لا يمثل فارقا مهما، لأن الآلة تتحكم بخطوط الإنتاج.

والتأريخ يحدثنا عن أعمار القوى والإمبراطوريات المتوافقة مع مسيرة حياة أي مخلوق يفترسه الزمن.

فلا تدوم قوة ولا ضعف، وإنما تتأرجح مسيرات الأحياء بينهما.

عندما يصل البشر إلى مرتبة تفاعلية تساهم في تأمين راحته وتنمية كسله، فمن الصعب عليه مغادرتها والإنتقال إلى حالة أخرى تتطلب جهدا ومثابرة.

وما تقدم يعني أن البطالة ستتنامى مع تنامي أعداد البشر، وإنكماش فرص العمل، مما سيؤدي إلى نشوب الحروب الماحقة للملايين، والمدمرة للعمران، فالخراب ربما سيوفر فرصا لإستيعاب العمالة الحائرة المجردة من أبسط متطلبات البقاء.

وفي ذات الوقت يزداد عدد المليونرية والبليونرية الذين يجمعون أموال البشرية ويقبضون عليها، فميزانيات بعض الأفراد تفوق ميزانيات العديد من الدول، وهذا خلل مروع سيتسبب بتداعيات إنهيارية خطيرة في العالم.

وهكذا فالحرب الواسعة لا مفر منها، وستنشب في أي وقت، ولن تجد البشرية مخرجا منها، مهما حاولت، فأنها ربما ستؤجلها، لكن وقوعها حتمي ومن ضرورات البقاء فوق التراب.

دارت بنا وتأهبتْ...وبها عروشٌ قد خوتْ، بصاعدٍ ونازلٍ...أيامها تبدلت، بعسرها ويسرها...أحوالها تجدّدتْ!!

***

د. صادق السامرائي

 

الطوائف: جمع طائفة: فرقة أو جماعة من الناس

الطائفية: التعصب لطائفة معينة

المجتمعات البشرية مؤلفة من طوائف أي مجاميع من الناس تشترك في مفردات ما، إبتداءً من العائلة، فالعشيرة فالقبيلة والمدينة وغيرها من الإنتماءات الجامعة، وكذلك في الأديان هناك طوائف كما في المسيحية توجد الكاثوليكية والبروتستانية والأرثودوكسية، وفي اليهودية والإسلام وباقي الديانات المنتشرة بين الناس.

والفرق بين التأخر والتقدم هو الطائفية، أي أن تتأجج نيران التعصب لطائفة دون غيرها، ففي الدول المتقدمة المعاصرة، هناك إعتراف بالطوائف وكل يحترم الطائفة الأخرى، وفي المجتمعات المتأخرة، يتواجد نكران للطوائف وتدمير للوجود الذاتي والموضوعي وفقا لمعطيات الطائفية النكراء.

فلا يوجد في مسيرة البشرية مجتمع من طائفة واحدة، فالمجتمعات نشأت من التآلف بين الطوائف، وإندثرت بالتناحر فيما بينها، ونرى المجتمعات المتقدمة تسعى لإحتواء ما تستطيعه من الطوائف، لأنها تمثل قوة إقتصادية وإبداعية ذات قدرات تنافسية وتألقية.

فهل وجدتم إبداعا منحصرا في طائفة واحدة؟

إن التقدم الحاصل في مجتمعات الدنيا ناجم عن التفاعل بين الطوائف المتنوعة، ولهذا تجدها تستوعب المهاجرين إليها من أنحاء الأرض.

عندما تسير في شوارع أي دولة غربية، ستجد نماذج بشرية من كافة الأجناس بكل ما فيها وعليها، ولن تجد ما هو خالص لطائفة معينة.

زمن الطائفة الواحدة المتسيدة إنتهى، فالبشرية تذوب في بودقة التواصل والتفاعل المحتدم فوق التراب، وما عادت العوائق القديمة ذات قيمة.

طوائفٌ ببعضها تمازجت، وانصهرت سبيكةً تماسكت، فألهمت أجيالها مناهجا، بهديها جموعها تفاعلت،

لا تدّعي بأنها لا غيرها، قد أدركت أحلامها تعانقت!!

***

د. صادق السامرائي

القدوة: الشخص الذي يُحتذى به، ويُتّبع في السلوك والأخلاق.

الماضي المتصوَّر برموزه وشواهده قدوتنا منذ بداية القرن العشرين، فنحسب الأموات ملائكة منزهين، ونخرجهم من بشريتهم، فنعجز أن نترجم سلوك الملائكة فوق التراب، أي أن قدوتنا في حقيقتها أوهام وسرابات باهتة.

"لا تقتدي إلا بمن قد مات ...."

فهل يصح الإقتداء بالأموات ونكران الأحياء؟!!

هل للمستشرقين دور في ذلك؟

هل للتأريخ المستورد والمعاد تصنيعه برؤى الغير دوره؟

المجتمعات تعتبر من ماضيها ولا تتبعه أو تقدسه، ولا تحسبه ذروة إقتدارها، بينما العديد من المجتمعات، تتهاوى في مستنقعات الغابرات وتتحدث بلسانها، وتتجاهل حاضرها ولا تدرك مستقبلها، فهي بلا رؤية إستشرافية بل تعيش في إندحارية قاسية.

فليس من العملية والواقعية أن نتمسك بالأموات ونتجاهل الأحياء، ونرفض إسهاماتهم ونحارب تطلعاتهم وننسف أفكارهم.

ويبدو أن تأريخ الأمة قد تم تزييفه وتحويله إلى مادة لقتل وجودها، وإذكاء مؤججات التلاحي والصراعات البينية في مجتمعاتها، فتحول النور في ربوعها إلى نار، وتحزبت قيمها وأخلاقها، وتناسفت وأبادت ذاتها وموضوعها.

يمكن دراسة الموضوع بإقتراب أشمل وأعمق، فالواقع المرير يتطلب إعادة النظر، وترتيب آليات التفكير والتفاعل بين أبناء كل شيئ واحد.

فلماذا التعدد والتشظي والتنافر والإقتتال؟

أمواتنا قدواتنا وإننا

نمشي على رؤوسنا كأننا

دارت بنا أيامنا وتعثرت

بفكرنا ونهجنا وجهلنا

هل نرتقي وظلمة تحوطنا

ونورنا نارٌ أتت صراطنا

***

د. صادق السامرائي

تشير المدونات التاريخية والسياسية والأدبية الى ان الخيانة التي أخذت تتفاقم وتظهر الى العلن في بعض المجتمعات ويستمرئ البعض النوم في أحضانها بكل وقاحة وصلف هي ليست حالة حديثة العهد ووليدة متغيرات جديدة في الميادين السياسية والاجتماعية، بل هي ظاهرة موغلة في القدم وبعضها خيانات عظيمة غيرت مجرى التاريخ، فالتاريخ العربي مثلا حفل بالعديد من الأبطال الى جانب عدد من الخونة الذين كانت خيانتهم السبب في سقوط وانهيار دول عديدة، ولنا مثال في خيانة  "أبو رغال" الذي ساعد أبرهة الحبشي في محاولته الفاشلة لهدم الكعبة، وتشير مسيرة التاريخ الى ان الخيانة وان نجحت مؤقتا في تحقيق المنافع لصاحبها ولم يجرؤ أحد على تسميتها بذلك في ايام نجاحها لكن حقيقتها ستظهر وحينها ستكون ضريبتها كبيرة متمثلة بالذل والهوان والعار الذي سيظل يلاحق الخائن وعائلته طوال تاريخه ذلك انها لا تقل بشاعة عن البراءة التي وصفها الشاعر مظفر النواب (تظل مدى الأيام عفنه) كما ان الخيانة سلوك لا ينبذه مجتمع معين بذاته انما هو مذموم ومرفوض في كل المجتمعات وبمختلف ثقافاتها واديانها، فالضابط النرويجي (كويز لنج) الذي خان بلاده وباعها للألمان فجعلوه رئيسا لها لم ينعم ببركات الرئاسة طويلا اذ بعد هزيمة المانيا حاكمه شعبه واعدمه سنة 1945 .  وقد حفل أدبنا العربي قديما وحديثا بالعديد من القصص والاشعار والاساطير والملاحم التي تحدثت عن الخيانة والدوافع المحفزة لها، فالخيانة كظاهرة نفسية هي أحدى الموضوعات التي عالجها الأدب العراقي القديم ولعل اسطورة (ايتانا والنسر) هي واحدة  من  اقدم نصوص العصر البابلي القديم (2000 ــ 1600 ق . م) التي اشارت الى الخيانة والتي وصفها المؤرخ البريطاني (ار . ماكروبرت) بانها رسالة سياسية .

 وموضوعٌ الخيانة متأصلٌ في الكثير من الأعمال الأدبية، فقد خطّ الشعراء العديد من القصائد التي أدانت الخيانة والخائنين، فالشاعر أبو العلاء المعري يقارن بين فعل الخائن والسارق فيقول عنهما:

ما رَكِبَ الخَائِنُ في فِعلِهِ .. أَقبَحَ مِمّا رَكِبَ السارِقُ

شَتّانَ مَأمونٌ وَذو خُلسَةٍ ..  كَأَنَّهُ مِن عَجَلٍ بّارِقُ 

كما ان الشاعر المتنبي ينصح بتوخي الدقة في اختيار الصاحب وعدم الانخداع بالمظاهر في قوله:

لا تبك من خان المحبة والوفا .. اهل الخيانة مالهم مصداق

لا يخدعنك في المعادن حسنها .. كم في المعادن زائف براق 

ويأتي بعدهما  الشاعر بدر شاكر السياب غير مصدق  فعل الخائن ودوافع خيانته ليعلن:

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسان بلاده؟

إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟

وحتى نكران الجميل يندرج ضمن افعال الخيانة، فحينما ينكر الفرد لمن أحسن إليه جميله وفضله عليه هي خيانة جسدها قول الشاعر معن بن اوس المزني في قوله الشهير:

أعلِّمهُ الرِّماَيَةَ كُلَّ يوَمٍ .. فَلَمَّا اشْتَدَّ ساَعِدُهُ رَمَاني

للأسف كل هذه الأدبيات والشواهد التي تتحدث عن الخيانة وبشاعتها الا انها مازالت تجارة رابحة عند البعض وان الخونة والمنافقين والعملاء لا يتعظون ولا يتعلمون ولا يتوقفون، رغم النهايات المأساوية التي يصلون اليها والاضرار المعنوية التي تصيب اجيالهم بعد حين فالخيانة نجاسة لا تطهر بالتقادم.

***

ثامر الحاج امين

تربّت الأجيال على سلوك المطالبة من الحكومة وإلقاء مسؤولية كل شيء عليها، مما تسبب بتعطيل وفقدان المبادرة والجد والإجتهاد والمثابرة والشعور بالمسؤولية، فالمهم أن تطالب وقد تكبلت يداك وتعطل عقلك، وجلست على تلٍ بعيد، فأنت قلت وناديت بصوت عالٍ والحكومة لا تستجيب.

هذا سلوك الخيبة والضعف والهوان، فالمدن بأهلها، ولا توجد مدينة عامرة في الدنيا دون مبادرات من مواطنيها، وإسهاماتهم المتنوعة في إنجاز المشاريع اللازمة لجمالها وعزتها وكرامتها، وتألقها في حواضر الدنيا.

فلا تطالب وبادر وإنطلق بتجسيد الفكرة الصالحة لمدينتك.

أبناء المدينة الفلانية يطالبون بكذا وكذا ويتظلمون، وعندما تسألهم عن مبادراتهم وهل أسهموا بخطوات عملية لتحقيقها، يلوذون بصمت وغضب، فهذه مسؤولية الحكومة، وعليهم أن يطالبوا وحسب.

المبادرة فعل يقوم به شخص أو مجموعة أشخاض لتحقيق هدف معين  يدل على المبادءة والريادة، والمقصود هنا المبادرة المجتمعية.

الحياة أساسها المبادرات، وما تصنعه أكبر مما تأتي به المطالبات، فلا بد لأبناء المكان أن يفتخروا بما أسهموا به وعبَروا عنه في مكانهم الذي ترعرعوا فيه، وليس من الفخر أن تكون المطالبات على رأس قائمة التفاعلات بين الحكومة والشعب.

وردني "يعود الفضل لفلان الفلاني لأنه طالب الحكومة ببناء منشأة ما في مدينته، فتحقق ما أراده"، قد تبدو مطالبة برداء مبادرة، أسهمت بإقناع الجهات المسؤولة بضرورة تلك المنشأة، لكن أي مكان يعكس شخصية آهليه، وعليهم أن يتركوا بصمات وجودهم عليه، وهذا يتأتى بالمبادرات المتواصلة والعمل الجماعي والجد والإجتهاد، والتفاعل المتكاتف بينهم.

هل المطالبة عندما تتحقق تتحول إلى قدوة للآخرين فتزداد مطالباتهم وتعز مبادراتهم؟

المطالبة فيها حث على الإتكالية والتحرر من المسؤولية، بينما المبادرة توثب وإبتكار وإعمال للعقل وإستثمار للطاقات وتأكيد للقوة والإقتدار.

آماكن الدنيا المتنوعة ولدت من رحم المبادرات، ولم تأتِ بها المطالبات.

فعلينا أن نبادر لنعاصر!!

مبادرة تُسامق مرتقانا

بلاسمها تفاعل منطوانا

وتمنحنا شعورا مستحبا

يباركنا ويستدعي رؤانا

فبادر ثم طالب أنت حرٌّ

ومسؤولٌ إذا برزت خطانا

***

د. صادق السامرائي

 

قراءة في موقف الفقهاء من النص المؤسس

القرآن هو النص المؤسس للإسلام، والمرجع الأعلى في العقيدة والتشريع والسلوك، إلا أن تاريخ المسلمين يكشف لنا عن مفارقة مؤلمة؛ فقد تحول القرآن في واقع كثير من المذاهب إلى شعارٍ أكثر من كونه مصدراً حياً للفكر والحياة، وصار يُقرأ للتبرك والتعبد أكثر مما يُقرأ للفهم والتدبر والتوجيه. وهذه الإشكالية ليست عرضاً طارئاً، بل لها جذور فكرية ومذهبية، تمتد عميقاً في بنية الفقه التقليدي، وخاصة في بعض التيارات الشيعية التي أغلقت باب فهم القرآن إلا على الأئمة (المعصومين)، مدعية أن تفسيره لا يبلغه إلا من خُصوا بعلم إلهي مخصوص.

القرآن في منظور الفقهاء: مركزية مغيّبة

في بداية التنزيل، كان الصحابة يرجعون مباشرة إلى القرآن، يتأملونه آيةً آية، ويأخذون منه العقيدة والعبادة والمعاملة، تماماً كما أراد منهم الله والنبي. غير أن هذا النهج تبدد مع الزمن، وحلّ محلهُ اعتمادٌ مطلق على الروايات والآراء الفقهية، وكأن القرآن صار كتاباً غامضاً لا يُفهم إلا عبر وسيط ناطق أو عقل وصيّ.

في الفكر الشيعي الإمامي، تُطرح عقيدة "العصمة" للأئمة الاثني عشر كشرط ضروري لفهم النص القرآني. وبموجب هذه العقيدة، فإن تفسير القرآن لا يجوز إلا لمن كان معصوماً، لأن الآيات (حسب زعمهم) تحوي باطناً لا يبلغه الناس، وظاهراً قد يُضل من ظنه كلَّ الحقيقة. وقد أدى هذا المنهج إلى تجميد النص القرآني عن التداول الفقهي والفكري، فقلّ أن تجد آية تُستنبط منها الأحكام إلا وتُمرر عبر رواية أو تفسير مأثور عن أحد الأئمة، وكأن القرآن عاجز عن البيان بذاته.

بل إن بعض الروايات نسبت إلى الأئمة أنفسهم قولهم: "إن القرآن لا يُفسّر إلا بنا، ومن فسّره برأيه فقد كفر"، وهذا القول (إن صحّ) يحمل خطورة معرفية وأخلاقية كبيرة، لأنه يُقصي الأمة عن مصدر هدايتها، ويجعل فهم القرآن نخبويًا مخصوصًا بأشخاص غير موجودين اليوم.

هل يحتاج القرآن إلى تفسير؟

هنا نصل إلى جوهر السؤال: هل فهم القرآن مستحيل إلا عبر معصوم؟ وهل المقصود من القرآن أن يكون كتاب ألغاز لا يُفهم إلا بإذن خاص؟ أم أنه كتاب هدى، أنزله الله للناس كافة، بلغة واضحة، وبيّن فيه أنه "هدى للناس"، و"تبيانًا لكل شيء"، و"بلسانٍ عربي مبين"؟. الحق أن الأصل في القرآن أنه بيّن، وأن آياته محكمة يسيرة على من أراد الهداية. نعم، توجد آيات متشابهة، لكن الله تعالى قال: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة..."، وهذا يدل أن العبرة ليست بغموض النص، بل بمرض القلب. والقرآن نفسه دعا إلى التدبر: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"، وهذه الآية لا تترك عذراً لمذهب يحتج بأن التدبر لا يجوز إلا للمعصوم.

العودة إلى القرآن ضرورة لا ترف

الأمة اليوم بأمس الحاجة إلى عودة صادقة إلى القرآن، لا للتبرك ولا للتجويد وحده، بل للفهم والعمل والبناء. إن الاقتصار على التفسير التراثي، أو إغلاق باب التفسير إلا على من ماتوا، هو من أشد أنواع الصد عن سبيل الله. ولو أن المسلمين قرأوا القرآن بروح حرة، وعقل صادق، وسؤال حيّ، لانفتحت أمامهم آفاق التجديد الديني والفكري.

القرآن ليس ملكاً لفئة، ولا حكراً على مذهب، وليس صندوق أسرار لا يُفتح إلا بمفتاح العصمة. هو كتاب الحياة، ومنهج الهداية، ورسالة إلى كل إنسان. وأي موقف فكري أو مذهبي يضع بين الناس وبينه حجاباً، فهو موقف مضاد للقرآن نفسه، وإن تزيّا بأثواب الورع والعلم.

فليعد المسلمون إلى القرآن، لا وسيلةً، بل غاية. لا مرجعية شكلية، بل مرجعية حقيقية في التفكير، وفي التشريع، وفي الوجدان. عندها فقط، تنهض هذه الأمة من سباتها، وتعود إلى دورها كأمة وسط.

***

د. علي الطائي

 

إحدى مُتع الأدب وعطاياه الحسية هي تهذيب النفس، وتدريبها على تشرب الجمال وتغذية حواسها الفنية. لذا قوبلت جل روائعه وكلاسيكياته بإجلال وتقدير، لأنها أسهمت بشكل أو بآخر في تحول النفسية القلقة والمضطربة للإنسان، وانتزاع الوحش الذي بداخله كي يستطيب العيش داخل جماعته، أو على الأقل يجد مخارج لائقة لتذمره واحتجاجه، وسعيه للأفضل.

منحتنا الأجناس الأدبية وأشكال التعبير المختلفة حضورا مفعما بالجمال الحسي والمعنوي. وجرى تقييدنا لفترة طويلة بخيوط التعبير المتجاوب مع المكان والزمان. لفضاء المدرسة لغته وقاموسه الذي يؤشر على انفتاح الطفل على عالم الراشد، وللمقهى تعبيراته المؤنسة والمتعالية عما يدور في خلوات الصعاليك ومدمني المخدرات. أما المسجد فكان الإمام والخطيب مقيدان بشرف العلم وآدابه حتى في مجالس الترويح عن القلوب.

تلك كانت عطية الأدب وهو يبدع كلماته، مراعيا التأرجح الأخاذ بين تمتيعك بالجمال وحراسة القيم؛ واضحا دون تشويش أو تلفيق في الجمع بين طبيعته الفنية والهم الاجتماعي المباشر. حين يسجل اللقطة البشرية التي اختارها لتعبيره الفني، فإنه يُثني على فترات البطولة والسمو، ويسمي لحظات الهبوط ضعفا وخطيئة. لكن سرعان ما هبت رياح الحداثة الغربية لتقتلع حضوره الآسر، وتلقي بالكاتب والقارئ معا في دوامة من التجريب والتغريب، وتعزيز مرارة العيش بدل التخفف من أحماله بجرعة أمل!

انحرف الأدب عن مضمونه، وعن جماليته بدون شك، منذ عقد السبعينات في بلادنا تحديدا، وذلك بسبب ما يعتبره الأديب المغربي أحمد المديني قوة ضاغطة من لدن إيديولوجيا الطبقة الوسطى على وجدان الأدباء. صار الانتماء إلى الأدب رهينا بمفهوم معين من الواقعية، يُملي على أشكال التعبير الفني مُسبقاته الإيديولوجية، ويُحتم على الكتابة أن تخرج من رحم الطبقة الاجتماعية، لكن على نحو رث وسوقي يتبرأ منه منظّروها غربا وشرقا. سمّها واقعية أو قبحا يتجمل باسم الأدب؛ لأن شغف القارئ بالجمال وهزة الروح في حضرة الكلمات لم يعد ممكنا!

تواترت أعمال فنية يُحمّلك كُتابها شيئا من وزر عذاباتهم ومراراتهم وانسحاقهم، وتشردهم في شوارع البيضاء أو طنجة. أعمال تثور على كل شيء، وتهدم كل شيء في الممر المؤدي إلى عالمها الأفضل. تتردد فيها القيم والأفعال النبيلة على استحياء، كأنها في معرض اتهام يوجب عليها التبرؤ، والانحياز لما يشد الإنسان إلى قاع المجتمع وحضيضه.

لكن ما ذنب قارئ ينشُد الجمال والخير والحب، ويبحث عن مبررات لائقة لوجوده وحركته واختياراته؟

في الحديث عن أزمة القراءة ببلادنا، والذي يتردد في الندوات والموائد المستديرة على هامش المعارض، قلما يُكشف النقاب عن الوجه الآخر للأزمة؛ أعني خلل العوامل الذاتية المرتبطة باستعلاء الكاتب، ومنطق اشتغاله الذي يستبعد التواصل مع محيطه القارئ، واكتفائه بترويج قناعاته واتجاهاته، في غياب إنصات مرهف لحاجيات القارئ وتطلعاته.

وضع كهذا من البديهي أن يُلحق الركود بالمشهد الإبداعي، زيادة على حيثيات النشر والتسويق ومشاكلهما، وأن يثير هوامش تنظيمية ومؤسساتية ليعلو غبارها فوق جمالية الأدب والإبداع عموما، لعل آخرها ضجة سحب جائزة المغرب للكتاب من الفائزين، بسبب الشطط في تأويل مادة قانونية.

توهم النظرة السطحية برواج كبير في سوق الأدب، حيث تدفع دور النشر سنويا بآلاف العناوين إلى الأسواق، ويرتحل الناشرون من معرض دولي إلى آخر لتعزيز الحضور والإشعاع، وتزدان قوائم المسابقات بأسماء جديدة، تُنافس في سماء الإبداع وتحصد الجوائز. بالمقابل يرتفع منسوب التذمر والشكوى من عزوف القارئ عن الطلب الذي يتناسب مع العرض.

كيف نقنع قارئ الأدب عموما، والمغربي على وجه التحديد، بأن اللغط الذي يثار كل سنة حول دعم الكتاب من لدن الجهات الوصية، غايته وصل ما انقطع بين الأدب والجمال، وبين مكابدة العيش ومتعة التحليق في عوالم الخيال الفني؟

هل يصدّق أن ديوان الشعر أو المجموعة القصصية التي بين يديه هي منتج لا مادي وجمالي، ينحاز إلى مقولة هدسون:" الأدب تعبير عن الحياة وسيلته اللغة"، أم سيجاري الوقائع التي يكشفها الإعلام عن هاجس اقتصادي يحكم العملية برمتها؟

يقول الروائي السوري حنا مينة: " لا أكتب لأسلّي الناس أو أجعلهم يقتلون الوقت، إنما لأجعلهم يحصلون على التجربة بسهولة، على المعرفة، وأيضا على المتعة كي يخرجوا من كل رواية وفي أذهانهم أسئلة، وأفكار، ومشاعر."

لذا نؤمن بأن أجمل ما فينا لم يكتب بعد، وبأن الأدب لن يتنازل عن إنسانيته رغم كل الإغراءات والإكراهات. صحيح أن قابلية الأديب للانضغاط واردة في شتى الأحوال، لكن لمسة الجمال لن تفارق أشكال التعبير الإنساني.

ونؤمن بأن المدرسة ستبادر، إن عاجلا أو آجلا إلى استعادة وضعها الطبيعي، باعتبارها رافدا من روافد التنشئة على الجمال والفن، وتحرير الإنسان من نوازع الوحش الذي بداخله.

ونؤمن بأن الأدب الجميل مهما انكمش تحت وطأة صناعة عالمية للتسلية والترفيه، لابد أن يستعيد منبره في المشهد الإعلامي، ويمنح الشعر الرائق، والقصة المؤثرة، واللوحة الكاشفة المعبرة صدارة الترتيب.

ونؤمن بأن البذاءة والإيحاءات الجنسية، والعنف الرمزي الذي يكتنف حدائقنا وشوارعنا، وفضاءات تجوالنا اليومي، وحتى مقراتنا الحزبية والنقابية التي كانت أشبه بسوق عكاظ في الزمن القريب، سيخف تحت وطأة جمال يخطه قلم أديب، أو ترسمه ريشة فنان.

نؤمن لأننا ضقنا ذرعا بحاضر مفعم بقلة الأدب!  

***

حميد بن خيبش

إن الله تعالى خلق الإنسان لغاية محددة في علمه وهي أعمار الأرض والتمتع بخيارتها وبناء علاقات ورابطة بين بني البشر بروابط متينة لبناء مجتمع إنساني راقي في كل مفاصل الحياة (وخلقنا الإنسان من علق) وهداه السبيل المعرفي لهذا المجتمع المتكامل في الصلاح والإصلاح كما قال تعالى (أنا هديناه السبيل أما شاكرا أو كفورا) وقد أكد تعالى في شرائعه وتعاليمه عن طريق رسالاته معرفة النوافذ التي توصل الإنسان إلى مقامات الإنسانية الراقية المنشودة لخدمة البشر بعضهم لبعض لتوفير بنية وقاعدة قوية لبناء مجتمعات حضارية تكاملية وحضارات خلاقة لصنع إنسان راقي في أخلاقه وتعاملاته وعقيدته وأسلوب حياة مثمرة فقد حدد الله تعالى حياة الإنسان بطريقتين أحدهما شخصي بحت وهو التعامل مع الله تعالى لينال الجزاء الأوفى وتزكية النفس الأمارة بالسوء وتنقيتها من درن ومفاتن ومغانم الحياة الدنيا وهي العبادات والإيمان بالله الواحد الأحد وحده لا شريك له والصلاة والصوم والزكاة والحج فهذه العلاقة والطاعة خاصة بين العبد وربه تعالى أما الثاني وهو العمل المهم جدا يكاد يكون متفرد عن باقي العبادات وهو العمل الصالح الرابط العملي بين الإنسان ومجتمعه وبني جنسه الذي أكدت عليه التعاليم والشرائع السابقة والأنبياء والنبيين والرسل والقرآن الكريم حيث الكل تأكد على العمل الصالح كونه المعيار الرئيس لشخصية الإنسان وبشريته ومكانته في مجتمعه وعند الله تعالى الذي يصل بالإنسان السليم خلقا ودينا إلى عالم الخلود في الجنة التي أعدها الله لعباده المتقين العاملين في خدمة البشرية وأعمار الأرض من خلال زرع الأخلاق والمبادئ والقيم والمُثل الرفيعة والحميدة وإشاعة المحبة والسلام والتسامح والتكامل والتكافل بين شرائح المجتمع الواحد والمساهمة في تطور أنظمته المعيشية وهذا ما أكدت عيه الأديان جميعا عبر العصور لكن الآن قد زادت الحاجة إلى إعادة النظر في كيفية إعادة الإنسان إلى إنسانيته التي فقدها في ظل المتغيرات الجديدة للنظام العالمي المتسارع نحو الهاوية وفقدان ما بدأت به الرسالات والشرائع وإعادته إلى المربع الأول في الدعوة للإصلاح والتوعية الأخلاقية وانتشاله من مركب الرجوع إلى عصر الهمجية والفوضوية والتخلف الفكري والمعرفي والحضاري والأخلاقي بعدما استكان ورضخ صاغرا بنفسيته إلى منغصات ومفاتن الحياة الدنيا وأبتعد عن مراد الله تعالى إلى الفساد والإفساد في الأرض وفساد في العقيدة والدين والفوضى لهذا استدعت الحاجة لإعادة التقييم النفسي والأخلاقي لأنفسنا ومجتمعنا وبناء علاقات جديدة مع بعضنا البعض والرجوع إلى نبع النفس الصافي والعقل السليم والمعرفة الفكرية الجادة والتفكير الحر الصحيح المثمر لمعرفة ما يجري من حولنا في هذا العالم الفوضوي في الأحداث الجديدة.

***

ضياء محسن الاسدي

 

(الطغاة يجلبون الغزاة)

عرف الفيلسوفان أرسطو وأفلاطون الطاغية بأنه: (شخصٌ يحكم دون اللجوء إلى القانون، مستخدمًا أساليب متطرفة ومتوحشة ضد كلٍ من شعبه والآخرين). بينما يقول مؤسس علم الاحتماع ابن خلدون: ان (الطغاة لا يجلبون الخراب والاستبداد والفقر والتخلف فقط، بل يجلبون الغزاة أيضا، وربما يكون الغزاة أرحم منهم، وربما لفرط طغيانهم تضطر شعوبهم لطلب النجدة من الغزاة ليخلصوهم من طغاتهم).

ومنها قوله

حُكْمُ الطُّغَاةِ إلى الأعداء مَجْلَبَةٌ ** والظٌّلْمُ مِنْ قِدَمٍ للظُّلْمِ جَلَّابُ.

كيف يتحول الحاكم الى طاغية؟

افضل من وصف تحول الثوريين الى طغاة هو غابريل غارسيا ماركيز في رواياته المتعددة، مستعرضاً حياتهم وأفكارهم وكيف تغيروا تدريجياً تحت تأثير السلطة، وفي النهاية أصبحوا مثل أعدائهم القدامى، طغاة بزي ثوري.

في الواقع هذه هي تراجيديا السلطة. ويبدو ان هذا الامر يتكرر عبر التاريخ في كل مكان وزمان. قبل إعدام دانتون* بأمر من روبسبيير، صاح قائلا : «ها أنت يا روبسبيير تحولت إلى ديكتاتور!».

اكثر ما يزعج الطغاة هو وصفهم بالطغاة!!اذ انهم يعلنون انفسهم كمصلحين قال تعالى "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ" (البقرة: 11)

الطاغية والحرب

الطاغية لا يعيش بدون عدو محتمل يبرر وجوده ولذلك فإن كل الطغاة في كل العصور اشعلوا الحروب المتعاقبة

كان وجود هذا العدو الغازي، الفعلي أو المحتمل المُختلق، ذريعة مناسبة لاستمرار الطغيان، على النحو الذي تنبه إليه شاعر الإسكندرية في العهد الإغريقي.

** قسطنطين كانافيس حين قال في إحدى قصائده: “لأن الليل قد أقبل ولم يحضر

البرابرة / ووصل البعض من الحدود / وقالوا إنه ما عاد للبرابرة وجود /ماذا

سنفعل الآن بلا برابرة؟/ لقد كان هؤلاء الناس حلاً من الحلول”.

***

فارس حامد عبد الكريم

...........................

* جورج دانتون: (1759 - 1794 ميلادية)، زعيم ثوري فرنسي ومحامي وخطيب بارع من زعماء الثورة الفرنسية وكان من ألمع محامي باريس. من أقواله: "الشيء الوحيد الذي أندم عليه أنني سوف أعدم بالمقصلة قبل الحيوان الذي يُدعى روبسبييرو".

** استوحى الشاعر النص من حكاية فحواها أنه قد شاعت في المدينة أخبار أن البرابرة قادمون لغزو المدينة، ومنذ الصباح الباكر لبس الحاكم أفضل ثيابه ووضع نياشينه وانطلق على رأس وجهاء المدينة نحو الحدود بانتظار قدوم البرابرة لمقابلتهم وصدهم، لكن حل المساء من دون أن يأتي البرابرة، حينها قال الحاكم بأسى: “واأسفاه . . لم يأتِ البرابرة، فلقد كان في مجيئهم نوع من الحل” .

الواقع السائد في ديارنا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى لا يمثل حقيقتنا وجوهر ما فينا، وإنما هو مُشكّل وفقا لمصالح الدول التي غنمتنا بعد هزيمة الدولة العثمانية، في حرب لا نافة لها فيها ولا جمل، وكأنها سلوك إنتحاري مقصود للقضاء عليها، مما يثير شكوكا حول الشباب العسكريين الذين أخذوها إلى حتفها.

ويبدو أن مجتمعاتنا لم تستطع إستعادة ذاتها وقدرتها على التواصل الحضاري، وظهرت فيها نظريات عقائدية وحزبية تريد ذلك، لكنها لا تمتلك مهارات تحويل الفكرة إلى حالة عملية قابلة للتطبيق المؤثر، والمتفاعل مع الواقع لتطويره وحث المواطنين للمساهمة في تثمير الفكرة .

المسافة شاسعة بين نحن المستوردة، أو المصنعة في بلاد الطامعين بنا، ونحن الحقيقية، مما تسبب بتداعيات متراكمة، لأن نحن المستوردة ذات قدرات إعلامية وسياسية وعسكرية، بينما نحن الحقيقية تلوذ في ضعفها وعدم قدرتها على التعبير عن نفسها.

ووفقا لذلك فالأمة تحت ضغوط سلخها من ذاتها وهويتها، ودفعها لإرتداء أسمال الذل والهوان والتبعية والخنوع والإبتذال، وعندها تتحرر من جوهرها، وتبتعد عن مسيرتها وتذبل إرادتها، وتتحول إلى عصف مأكول.

والموجع في الأمر، أن العديد من أبنائها يتهافتون على مسخها والتغني بالمستوردات، والتفاعل معها على أنها تمت بصلة لجوهرها وحقيقتها، فتجد ميادين الإبداع تحفل بما ينال من الأمة ويفتت وجودها، ويتباهى بالتواصل مع المستحضرات المسوقة لتشويهها وسحق ذاتها وموضوعها.

وبرغم أن طريق البحث الجاد عن ذات الأمة موحش وعسير، فلا بد لأجيالها أن تستردها وتسعى في رحاب قدراتها الحضارية، ورسالاتها الإنسانية القائدة الرائدة.

فواقعنا لا يمثلنا بل يمتهننا، ويشوّه حقيقتنا، وعلينا أن نتمسك بجذورنا، ونعلي دوحة وجودنا الوارفة الظلال.

إنها نحن أغاضت إننا

حشروها كوجيعٍ بيننا

جلبوها من ديارٍ بعدت

وطنوها لتعادي كلنا

ذاتنا أصلٌ وصدقٌ نهجنا

وعلى الآفاق دامت أمنا

***

د. صادق السامرائي

 

غاب البابا فرنسيس حاملاً معه أعلى مراتب الانسانية. ورث عن بلاده الارجنتين حب كرة القدم، والسعي لاشاعة السلام والمحبة بين الناس.. كلمة "الأمل" كانت آخر ما كتب البابا ونشرها قبل وفاته وقد وضعها عنوانا لمذكراته .

خورخي ماريو بيرغوليو الذي اطلق على نفسه اسم فرنسيس، المولود في العاصمة الأرجنتينية قبل 89 عاما، كان شغوفاً برقص التانغو، ومشجعاً متحمسا لكرة القدم. ما ان تولى كرسي البابوية حتى رسم درباً أخلاقياً قائلاً: " كم أودّ أن تكون الكنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء".

يرحل البابا فرنسيس، الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه وعاش معه العالم كل يوم صورة من صور المحبة. الرجل الذي اقترب من التسعين، كان يحمل سنينهُ المتعبة ويحط الرحال في مخيم للمهاجرين في جزيرة ليسبوس اليونانية من أجل الدعوة إلى دمج أفضل للاجئين في أوروبا.. شاهدنا البابا وهو يتألم على معاناة الهاربين من بلدانهم. قال إن على العالم أن يعامل اللاجئين بإنسانية أكبر. ربما سيخرج علينا البعض، ممن يضربون كفاً بكف وهم يقرأون أن الرجل العجوز قطع مئات الكيلومترات لأنه يريد أن يواسي المساكين، في الوقت الذي يريد ساستنا أن يثبتوا للعالم أنهم أقوى من مشاهد العطف وأن لا مكان للضعف في هذه البلاد، فالبقاء للأقوى والذي يملك النفوذ والسلاح ومعه الأموال التي نهبت في وضح النهار.

رفع البابا صوته وصلواته للفقراء، وقال انهم "لا يبحثون عن الرفاه، بل عن الحياة". وكان يطالب الحكومات ان تتعامل مع شعوبها لا بلغة الارقام، وانما بلغة المحبة والانسانية، لم يكن البابا الراحل فرنسيس يوماً زائراً غريباً عن المنطقة، وعن الشرق الأوسط، بل كان يحمل في قلبه الحب لجميع شعوب العالم، ويحمل بلسانه لغة الحوار والعدالة التي يفهمها الجميع بمعزل عن اختلاف لغاتهم.

في بلاد الرافدين التي اصر قادتها الميامين على مصادرة بيوت المسيحيين ومطاردتهم وتسليم شؤونهم وامورهم الى "المناضل" ريان الكلداني، في هذه البلاد اخذ البعض يسخر من البابا ويتهمه بتشجيع الفسق والفجور، صفحات تنتمي لاحزاب دينية فشلت في ادارة العراق وساهمت في سرقة اخلام مواطنيه وقبلها ثرواتهم، وجدت في رحيل البابا ضالتها فطالبت بان لا نترحم عليه، كما طالبنا السيد ريان الكلداني ان لا نفرح بالكاردينال ساكو وان لا نعيش معه في الاوهام، بل قرر السيد ريان ان الحديث عن الكاردينال ساكو امر مرفوض "مرفوض يا ولدي"!!.

كان السيد ريان الكلداني، قد قرر من قبل أن يخرج بتظاهرات تسخر من الكاردينال وتشتمه وتطالب بطرده، مثلما قرر رئيس جمهوريتنا ذات يوم ان يعتبر الكاردينال ساكو موظفا في قصرة، فأمره بتهجيره من بغداد .

***

علي حسين

الذي أصاب مجتمعاتنا من الويلات والنكبات تغلبت عليها وفقا لمفهوم الأمة، وطاقتها المتجددة المتماسكة المعتصمة بذاتها وموضوعها.

وما حصل بعد الحرب العالمية الأولى، إستدارة مرعبة، تقطعت بموجبها أوصالها، فتفتت كينونتها، وتسربت في بدنها المفاهيم التمزيقية، وهي ترفع رايات متنوعة لا تعرف سوى النزق الوهمي المتوج بالدعوات التحزبية والقومية، وغيرها من التوجهات التفريقية الداعية للتصارع البيني.

وكان للنفور من التأريخ دوره، بإيهام الأجيال أنه بشع ومشين ودموي يعصف به العنف والظلم القبيح.

فتأهلت مجتمعاتنا لإستيرادات متنوعة، وأعطتها إسم الحداثة والمعاصرة، فصرنا ننكر تراثنا ونعاديه ونمسخه، وأصبحنا نتحرك بلا جذور كالشجرة التي تسعى للجفاف والخواء، وتأكدت التبعية والشعور بالدونية، وأذعنا للإستلاب الغاشم من قبل الطامعين بنا، مما تسبب بظهور حالات زادت في تعزيز السلوك السلبي، ومنح المعادي مبررات النيل منا.

وانشغلت النخب بالتراث والمعاصرة والنظرية والتطبيق، والقومية والوطنية، وتشطى وجود الأمة، وداهمتها إندفاعات الشباب المتوهم، المشحون بالتصورات الطوباوية الإقتحامية ذات المجازفات المرعبة.

وما مرت به مجتمعاتنا منذ بداية القرن العشرين، يؤكد أن علة الأمة بقادتها، فالدولة العثمانية أسقطها شباب حركة تركيا الفتاة  وعلى رأسهم أنور باشا (1881 - 1922)، ولا تزال مجتمعاتنا تعاني من قادتها  الذين يجردونها من جوهرها الحضاري، ولا يحفزون القدرات ولا يلمّون شمل الوجود المتماسك العزيز لأبنائها، لأنهم ينكرون الأمة ويتواصلون في مسيرة الحفاط على مصالح الطامعين بها.

وبفقدان مفهوم الأمة ضاع الإنسان في مجتمعاتنا، وخوت مسيرتنا على عروشها، وأصبحت حالتنا كالعصف المأكول، تذروه رياح التدخلات الخارجية الساعية للإستحواذ على البلاد والعباد في بقاع دولنا كافة.

فأين الأمة؟

 و " كنتم خير أمة ...."

أمةٌ غابت وشعبٌ حائرُ

ووجيعٌ بحماها دائرُ

وسراةٌ في رباها قامرتْ

وشبابٌ من هوانٍ ثائرُ

وكذا الأيام عنها إنزوتْ

وتولاها طموعٌ جائرُ

***

د. صادق السامرائي

ألف قارون وقارون في زمننا المعاصر، فكيف يفكرون، وماذا يفعلون بأموال لا تملكها دول؟

الفرد يملك أكثر من ميزانيات عدة دول!!

ماذا يجري في الدنيا؟

هل من العدل والإنصاف أن يستحوذ فرد على البلايين، والملايين من الناس تتدثر بالحرمان من حقوق الإنسان، وفي كل ساعة يموت المئات من الأطفال جوعا ومن الأمراص السارية والمعدية، والبلايين في قبضة بضعة أفراد.

"...فما جاع فقير إلا بما تمتع به غني"

فهل أن الأغنياء سرقوا أموال الفقراء؟

كيف يجوز ذلك؟

هل لعلة عند الفقراء، وميزة عند الأغنياء؟

ظاهرة البليونرية برزت في القرن الحادي والعشرين، ولم تكن واضحة في القرن العشرين، فالمتعارف عليه الحديث عن المليونرية، وليس البليونرية، وبعضهم يحلم أن يحطم الرقم القياسي ويصبح ترليونيرا.

ويبدو أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الترليونات الفردية، وميزانيات العديد من الدول بضعة بليونات.

فمَن سيحكم العالم؟

و"الفاقة هي أم الجرائم"

كـأن البشرية تؤهل نفسها للقلاقل، وتريد إستحضار القارعة!!

"ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض...."

و"السلطة والمال يكشفان طبع البشر"!!

***

د. صادق السامرائي

 

لا أحب مجالسة الأشخاص الذين يضعونني في حالة دفاع دائم. أولئك الذين يجعلونني مضطرًا إلى تبرير أفكاري ومقاصدي، والوقوف حارسًا على أبواب نفسي، كأنني في محكمة دائمة. أهرب منهم كلما تحولت الأحاديث إلى محاكمة للذوق أو النوايا أو حتى الأحلام.

لكنني، كلما مرت بي لحظة راهنة، تذكرت الماضي بكل تفاصيله. تذكرت قرية تلبانة حين كانت الحكايات تُروى في العصاري، لا على وسائل التواصل. كانت طفولتنا تتفتح في حضرة الكبار، في تلك الجلسات العتيقة التي سبقت صعود "النواطير" المتصدرين للمشهد في أيامنا هذه. جلسات كانت تُدار في جرن العمدة، الحاج أحمد عبد المنعم خفاجي، الذي كان يُشعل سيجارته ويضبط الإيقاع بابتسامة عريضة، وكأننا في مشهد من روايات نجيب محفوظ، ننتقل بين القاع والحرافيش و"صرصرة على النيل"، لكن على طُرُح الكنب وقش الأرز وسلالم البيت، حيث يتجاور وجهاء القرية وأبناؤها من مختلف الأطياف.

كان مجلس العمدة بمثابة برلمان شعبي، تُعرض فيه الخلافات وتُحل النزاعات، تُوزّع فيه الصحف، وتُناقش فيه مقالات الرأي كما لو كنا في ندوة فكرية. كنت حينها طالبًا في الجامعة، أتناول جريدة "الأهرام" وأتبادلها مع المرحوم  الحاج /محمد السعيد علي، أحد الرعيل الأول لجماعة الإخوان، وأحد الذين صدرت ضدهم أحكام في قضايا عام 1965. يطلب مني بصوت خافت قراءة مقال فهمي هويدي، فيبتسم العمدة ويوصي بقراءة أحمد عبد المعطي حجازي، وسيد أحمد، وأمين العالم... دون أي دراسة أكاديمية، عرفوا طريق الفكر بالفطرة، بالموهبة، وبالقراءة.

تلك كانت جلسات العصر، أما بعد صلاة العشاء، فكان المكان ينتقل إلى منزل الشيخ صالح قورة، صاحب الكاريزما والوجاهة، الفلاح الفصيح. هناك، في المندرة والبرندة، كانت تُصاغ التحولات الكبرى في القرية؛ من بناء مجمع المعاهد الأزهرية، إلى الإعداد لاستحقاقات المجالس المحلية والشعب والشورى.

كان ذلك زمنًا يشبه زمن الرُشد، حيث يحضر العزم مع وضوح الرؤية، لا عبث المرشحين العشوائيين في أيامنا. ولعل أكثر الجلسات التي سكنت الذاكرة، تلك التي جمعت المرحومين: الأستاذ محمد عقل، أحد رموز التيار الناصري وعضو مجلس الشعب السابق، واللواء حسن خالد حماد، صاحب التاريخ العسكري والصداقة المتينة مع عقل، رغم اختلاف المواقع والانتماءات.

في تلك الجلسة، التي تزامنت مع انتخابات الثمانينيات بنظام القائمة النسبية، والمرشح في قائمة تحالف حزب العمل مع جماعة الأخوان/المهندس المرحوم خالد حماد ...  دار النقاش حول موقع المهندس خالد حماد في القائمة. اعترض البعض على أن رقمه في القائمة (الرابع) ضعيف، بينما وقف الأستاذ/ محمد عقل ليشرح المعادلة ببساطة العالم: بأن النظام يتطلب تمثيل 50% عمال وفلاحين، وأن الرقمين الثاني والرابع في القائمة أكثر حظًا من الأول والثالث، نظرًا للتركيبة الداخلية لقائمة الحزب الوطني، حيث تُمنح الأفضلية أحيانًا للعناصر المحسوبة على الفئات على حساب تمثيل العمال والفلاحين.

خرجنا من تلك الليلة – نحن الصغار والكبار – نُعجب بذلك الحضور العقلي والسياسي، وبمشهد يحتشد فيه الناس في شارع الشيخ صالح من أنصار الجبهتين، دون أن يتحول الخلاف إلى عداوة.

بل إن المحبة بقيت حتى آخر الأيام، حين زار اللواء حسن خالد صديقه محمد عقل في مرضه الأخير، برفقة المرحوم عادل فتوح. كانت زيارة مليئة بالعِتاب النبيل، لأنه لم يكن يعلم أن عقل قد عاد إلى البلد، بعد أن ظل يتصل على هاتف الشقة في القاهرة. كان عتابًا يحمل نُبل الأيام الماضية، وتأكيدًا على أن الخلافات لم تكن يومًا خصومات.

تلك الوقائع نحتاجها اليوم، في زمن اختلطت فيه السياسة بالهزل، وتحوّل كل شارع إلى مسرح للمرشحين، إلا شارعنا، الذي ينتظر الهبوط الاضطراري لمرشح قادم بـ"باراشوت" فوق سطح مسجد الخفاجية وحارة الطبالة، لتصدح الفرقة الموسيقية بنشيد "يا أهلاً بالمعارك".

أي زمن هذا الذي نعيشه...؟

وأي زمن ذاك الذي كان...؟

فرقٌ شاسع بين جلسة تصنع الوعي، وجلسة تصطنع الوجاهة؛ بين رجال كانت لهم مواقف، وآخرين لا يملكون سوى اللهاث وراء موقع، دون فهم للموضع. وهذه هي خلاصة النظرية التي وضعها أستاذي الشهيد/ جمال حمدان في موسوعته العبقرية عن "الشخصية المصرية"، حين ميّز بين من يعرف "موضعه" في التاريخ والجغرافيا، ومن يسعى فقط إلى "موقع" في الصورة....!!

***

محمد سعد عبد اللطيف – كاتب وباحث مصري

 

في المثقف اليوم