أقلام حرة

أقلام حرة

عالمنا المعاصر المتدفق المعلومات والتواصلات، أخذت فيه الصورة دورها وتأثيرها، وما عاد للكلمة كبير قيمة ومعنى، وتجدنا أمام حشد من الصور المتنوعة الحية والجامدة.

ويبدو أن الصورة قد طغت وحجبت الكلمة وجردتها من فعاليتها وتحاورها مع الألباب.

الصورة أخذت ترسم معالم السلوك وتضع اللبنات الأساسية لمنطلقات الحياة الجديدة.

عالم ما قبل الصورة لا يقارن بعصر ما بعدها، فالذهنية البشرية أصيبت بطفرات تواصلية أدت إلى نشوء دوائر عُصيبية غير مسبوقة في الأدمغة المتفاعلة مع مطرقة الصورة الدائمة التكرار، والتي تحفر مساراتها في أروقة الرؤوس.

فأدمغة الأجيال الحاضرة تختلف عن أدمغة ما سبقها، وسلطة الإستجابات السريعة هيمنت على الواقع المعرفي، وأزالت الحواجز وأسقطت الجدران فما عاد للعزلة مكان فوق التراب.

في عصر الصورة خمدت أنفاس الكلمات، وتعفنت في مهدها العبارات، وفقدت تأثيراتها الأشعار والخطابات، فالصورة مبعث الطاقات، وداينمو التفاعلات، وحادية التجمعات والثورات، فما فات مات، والقادمات تكمم أفواه الويلات.

عندما إنتشر المذياع في القرن العشرين إنحسر الإهتمام بالكتاب قليلا، وبحضور التلفاز تزايد الإنحسار، وفي الربع الأول من القرن الحدي والعشرين، أصيب الكتاب الورقي بالضربة القاضية، وتحول إلى عصف مأكول، وتنامت الكراهية للكتاب.

قراء الكتب قليلون، ومن النادر أن يشتروا كتابا، فما عادت القراءة في كتاب تجلب المتعة، إذ أدمن الناس على الشاشة، وتملكتهم الصورة والفيديوهات القصيرة والمثيرة التي تحضر أمامهم بسرعة البرق.

في أي مكان تكون فيه، تجد الحاضرين يحدقون في الشاشات الصغيرة، ومن النادر أن تشاهد مَن يقرأ في كتاب، وإن رأيت متصفحا لكتاب فهو من أبناء منتصف القرن العشرين، وربما قبل ذلك.

الأجيال الجديدة ستتناسى الكتاب، وما يشدها ويسحرها الذي يتوارد إلى شاشات الهواتف وأخواتها.

كتابٌ في متاهاتِ البعيدِ

تمزّقهُ مراداتُ الجديدِ

تناءتْ نفسنا ومضت لضوءٍ

يُداعبها بإحضارِ الفريدِ

معارفنا مكدّسة بجيبٍ

وتغمرنا بأفياضِ المزيدِ!!

***

د. صادق السامرائي

الكتابة وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار والمعارف بإستخدام رموز وحروف، تُسبك في كلمات وجمل لتكوين نصوص مفهومة، وهي من أهم أدوات التفاعل الإنساني عبر العصور، ولولاها لما عرفنا عن الأمم السابقة.

ووظيفتها التعبير والتوثيق والتواصل، وقد تكون أدبية، علمية، إبداعية، ووظيفية.

الكتابة عمل فكري شاق، يستوجب إستحضار طاقات الوعي والمعرفة ومشاعل الإدراك والمنطق،  والقوة على جمع الأفكار في بودقة العبارة، وجوهر المفردات، لتصنع صورة واضحة عن الموضوع المطروح أمام أضواء العقل الواسع الإمعان.

الكتابة ليست نقرا على مفاتيح الكي بورد، وكأن الأصابع تكتب مبتورتا عن الرأس.

الكتابة جهد وجهاد، فهي عمل نضالي ربما يستحضر الأخطار، ويمرغ القلم في الأوحال، ويصيب صاحبه بأعاصير أهوال.

الكتابة مواجهة وتحدي وإصرار على تشريح واقع مأزوم ووضع حلول ذات عيون وعلوم.

الهدف السامي للكتابة، إضاءة شمعة في ديجور الأيام، ومخاطبة البرايا النيام، وبث اليقظة في ربوع وجودهم لكي يخطو نحو الأمام.

مَن لا يحمل رسالة ويدافع عن قضية عليه أن لا يكتب، فالكيبورديون بأصابعهم يكتبون، ولا يدركون ما يسطرون.

أقلامنا سلاحنا في زمنٍ ينهرنا، وأمة تنكرنا، فصورة تشدها، وشاشة تأسرها، وأسطرٌ تمقتها، وكتابات على الأوراق لا تقرؤها، فعالمنا بجديده يملكها، وكل ما في القرطاس ضاع، والناس تحب الإستماع، فصراط المعارف شاع، وفي لحظة نستحضر ما لم يكن بالمستطاع.

فهل خلا لك الجو يا عصافير السطور، وغمركِ الحبور، فدمتي في سرور؟

وهل فقدت الكتابة قيمتها في مجتمعاتنا؟!!

"ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا... ويأتيك بالأخبار مَن لم تزودِ"

***

د. صادق السامرائي

لطالما شغلني مسألة التغير في موازين القوى العالمية، وكيف أن الأمم تسير في دورات تاريخية لا تختلف كثيرًا عن دورة الحياة الطبيعية، تولد ثم تنمو فتكتمل ثم تبدأ في الأفول. هذه الفكرة ليست جديدة، بل أكدها العديد من المفكرين من أمثال شبنجلر في كتابه "تدهور الحضارة الغربية"، حيث رأى أن الحضارات تمر بمراحل الربيع والصيف والخريف والشتاء، تمامًا كما يمر الكائن الحي. واليوم، يبدو أن الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة يدخلان مرحلة الشتاء هذه، بينما تشهد القوى الشرقية صعودًا جديدًا.

لم تكن قمة شنغهاي الأخيرة مجرد تجمع دبلوماسي عابر، بل كانت إعلانًا صريحًا عن ولادة عالم جديد يتشكل بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية التي سيطرت على القرن العشرين. فقد جمعت القمة قادة الصين وروسيا والهند وكوريا الشمالية، وما رافقها من استعراض عسكري صيني مبهر، كشف عن حقيقة لم يعد بالإمكان إنكارها: ميزان القوى الدولي آخذ في التحول جذريًا.

لقد أصبحت الصين، بقوتها الاقتصادية التي تجاوزت في بعض المؤشرات نظيرتها الأمريكية، وبترسانة عسكرية متطورة، تقدم نفسها كقطب قادر على منافسة واشنطن بل وتجاوزها. وهذا ما أكده البيان الختامي للقمة، الذي دعا إلى نظام عالمي أكثر عدالة وتعددية، وانتقد السياسات الأحادية للغرب.

منذ الحرب العالمية الثانية، كان الاقتصاد الأمريكي المحرك الأساسي للقوة الناعمة والصلبة في آن واحد. الدولار صار العملة العالمية، وول ستريت باتت بوصلة الأسواق، وصناعات التكنولوجيا والفضاء غذت أسطورة "الحلم الأمريكي". لكن هذه الصورة الذهبية لم تعد تعكس الواقع.

فالصين صعدت كقوة صناعية وتكنولوجية هائلة، وأصبحت شريكًا تجاريًا رئيسيًا لأكثر من 120 دولة حول العالم، بينما تحولت الولايات المتحدة إلى اقتصاد استهلاكي يعتمد على الاستيراد أكثر من الإنتاج. تقارير دولية تشير إلى أن الدين القومي الأمريكي تجاوز 34 تريليون دولار في 2025، وهو رقم يهدد استقرار اقتصاد أمريكا الآن وغدًا.

إلى جانب ذلك، تتآكل الطبقة الوسطى التي شكلت تاريخيًا العمود الفقري للنظام الأمريكي. ملايين الوظائف في قطاع التصنيع هاجرت إلى آسيا وأمريكا اللاتينية حيث العمالة الأرخص. أما الداخل الأمريكي، فيرزح تحت تضخم أسعار السكن والرعاية الصحية والتعليم. هذا الوضع يخلق إحباطًا جماعيًا، ويجعل من "الحلم الأمريكي" وعدًا كاذبًا أكثر منه حقيقة ملموسة.

من الهيمنة إلى التصدع

قوة أمريكا لم تكن يومًا في اقتصادها فقط، بل في شبكة تحالفاتها التي صاغت النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. حلف الناتو، العلاقات الخاصة مع أوروبا، القيادة في المؤسسات الدولية، كلها كانت أدوات واشنطن للحفاظ على هيمنتها. لكن هذه الشبكة بدأت تتصدع.

فالحلف الأطلسي يشهد اليوم أزمات ثقة متتالية. بعض دول أوروبا الشرقية تشكك في جدية التزام واشنطن بالدفاع عنها إذا تعرضت لتهديد مباشر، فيما تسعى فرنسا وألمانيا لتعزيز استقلاليتهما الدفاعية عبر مشاريع أوروبية خالصة. في آسيا، باتت اليابان وكوريا الجنوبية تتجه أكثر نحو الحوار مع الصين وروسيا لتأمين مصالحها، بدلاً من الاتكال الأعمى على واشنطن.

حتى الشرق الأوسط، الذي كان تقليديًا ساحة نفوذ أمريكية، يشهد تحولات جذرية؛ فالسعودية وإيران جلستا سابقًا إلى طاولة واحدة برعاية صينية، والإمارات بدأت تتوسع في شراكات مع روسيا والهند، فيما لم تعد واشنطن اللاعب الوحيد الذي يملي قواعد اللعبة. إن تراجع الثقة بالحليف الأمريكي ليس أمرًا طارئًا مرتبطًا بترامب، بل تغير عميق ناتج عن إدراك دولي أن الولايات المتحدة لم تعد تملك القدرة للقيام بدور الشرطي العالمي كما كان في السابق.

مجتمع منقسم على نفسه

ربما يكون ما يحدث في الداخل الأمريكي أخطر من كل التحديات الخارجية. فالمجتمع الذي طالما افتخر بكونه بوتقة تنصهر فيها الأعراق والثقافات، يعيش اليوم حالة استقطاب غير مسبوقة. الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين لم يعد مجرد خلاف حزبي، بل صار شرخًا أيديولوجيًا يمس هوية الدولة نفسها.

اليمين الشعبوي، ممثلًا في تيارات ترامب، يرى أن "أمريكا الحقيقية" يتم انتزاعها لصالح نخب ليبرالية وعالمية. في المقابل، يرى اليسار التقدمي أن خصومه يسعون لإعادة البلاد إلى ماض عنصري وقمعي. هذا الانقسام يظهر في كل تفاصيل الحياة: من النقاش حول التعليم والجندر، إلى قضية الهجرة والسلاح.

الأمر لا يقف عند حدود السياسة، بل يتغلغل في المجتمع والإعلام. الأمريكيون اليوم يعيشون في فقاعات إعلامية متناقضة: قناة فوكس نيوز تصنع واقعًا مغايرًا تمامًا لما تبثه CNN أو نيويورك تايمز. هكذا لم يعد هناك "رأي عام" واحد، بل مجتمعات متجاورة لا تتحدث اللغة نفسها.

فالولايات المتحدة لم تعد قادرة على تقديم نفسها كنموذج جذاب للعالم، خاصة في ظل تناقضاتها الداخلية وانهيار أسطورة "الحلم الأمريكي". كما أن صعود التيارات الشعبوية والعنصرية في الداخل الأمريكي أضر بصورة الولايات المتحدة كدولة تدعي الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن للولايات المتحدة أن تعكس هذا التراجع؟ الإجابة ليست بسيطة، فكما يذكرنا التاريخ، فإن دورات صعود وهبوط الإمبراطوريات تخضع لعوامل كثيرة، بعضها داخلي وبعضها خارجي. لكن ما يمكن قوله هو أن الولايات المتحدة تواجه اليوم تحديات وجودية قد تعجل بأفولها كقوة عظمى وحيدة.

فمن الناحية الداخلية، فإن الانقسام السياسي والاجتماعي العميق، بالإضافة إلي الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، يجعلان من الصعب على الولايات المتحدة أن تتبنى سياسات طويلة المدى قادرة على إعادة بناء هيمنتها. ومن الناحية الخارجية، فإن صعود القوى الجديدة مثل الصين وروسيا، وتشكيل تحالفات جديدة خارج الإطار الغربي، يعني أن العالم أصبح متعدد الأقطاب بدرجة لا تسمح بعودة الهيمنة الأمريكية الأحادية.

***

د. عبد السلام فاروق

 

شك في الأمر: إرتاب فيه، تردد ولم يصل فيه إلى يقين، إلتبس عليه، والشك حالة نفسية يتردد معها الذهن بين الإثبات والنفي ويتوقف عن الحكم، وهو نقيض اليقين.

ظن: شك، علم بغير يقين " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"

ديدننا الشك ببعضنا وتصديق الطامع فينا، فعلاقاتنا المسماة سياسية مبنية على الشك، وحتى أعضاء الكتلة الواحدة حزبية أو فئوية يشكون ببعضهم، ويتوجسون خيفة من أي إقتراب من مواقعهم، فالشك سلطان يبيدنا ويمزق كينونتنا المتلاحمة.

وهناك العديد من ينابيع تغذية الشك وتفعيل طاقاته التدميرية لتأمين المصالح وتحقيق المطامع.

الشك من أهم أسباب أكل الثورات لرجالها، وعامل مدمر للأحزاب والحركات والتجمعات وإنشقاقها وتفرقها، فلا يوجد حزب بلا إنشقاقات بسببه، ومعظم العقائد تشظت بفعله، ففي كل تجمع بشري هناك مشاعل شك ملتهبة، تتبادل اللعنات والنكبات، والكل خاسر، لأن الشك نار تحرق أخضرها ويابسها.

الشك أو الظن بالسوء من المعضلات السلوكية المدمرة للوجود البشري، والمذكية للحروب والصراعات والتفاعلات السلبية بين أبناء كل شيئ واحد.

الشك عدو الإطمئنان، والأمان، ومبعث القلق والإمتهان.

الشك المقصود هنا ليس المنهجي والإيجابي وإنما المرضي والسلبي.

فالشك الإيجابي ينمي التفكير النقدي والوصول إلى الحقائق، ويحفز الحذر والوعي والإبداع ، والشك السلبي يؤدي إلى القلق والتوتر، وضعف العلاقات والتردد وإضطراب الحالة النفسية.

والسائد في المجتمعات المتأخرة الجانب السلبي من الشك، ويتعذر قبول الوجه الإيجابي منه، الذي يساهم في إطلاق القدرات الإبداعية، والتفاعلات الخلاقة التي صنعت التطورات والمبتكرات المتجددة، بما أوجدته من أفكار ذات أجنحة تعينها على التحليق عاليا في فضاءات الوعي المعرفي الجمعي.

فمعظم الأشعار والخطابات والرؤى والتصورات في المجتمعات المتأخرة تنبع من إعتبار الشك سلوكا عدوانيا وإرتيابا مرضيا، يدفع إلى إجراءات تدميرية ونكبات مأساوية.

و"إن بعض الظن إثم"

و"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"

ويقول أحمد شوقي:

"ساءت ظنون الناس حتى أحدثوا

للشك في النور المبين مجالا"

شكوكٌ أولعتْ فينا ارْتيابا

ومِن حذرٍ نُطاردها سرابا

تُمزقنا وتُهلكنا لأنّا

إذا انْطلقتْ رأيناها ضَبابا

تفاعلنا بلا أملٍ بخيرٍ

فسوءُ الظنّ أوْردنا انْتكابا

***

د. صادق السامرائي

لستُ محللاً سياسياً ولا أتعامل مع المعطيات السياسية كعلم من العلوم الحديثة؛ إنما أتلقي السياسة كمواطنٍ تؤثر فيه وتؤثر على حياته اليومية من جميع الجوانب. قرأت خبراً —ليس جديداً بالمرة— عن النية في إنشاء جيش أو قوة عربية لمواجهة «التهديدات الوجودية» للأمة العربية. أود أن أعبر عن رأي شخصي في هذه الفكرة القديمة الجديدة.

الفكرة النظرية الافتراضية جيدة ومفيدة، ولكن:

من أي دولة ستستوردون السلاح؟ الدول التي ستصدر لكم السلاح هي في الغالب أعداؤكم؛ ومن ليس عدواً صريحاً فهو متواطئٌ أو مستفيدٌ من تحت الطاولة. من أين ستستوردون هواتفكم المحمولة وأجهزة الاتصالات؟ عدوكم هو من يصنِّعها، وإن لم يصنعها فهو قادر على التجسُّس عليها. من هم حلفاؤكم المضمونون؟ فالحروب تتحقق بتحالفات وتنسيق ومصالح. كيف تأمنون من خيانات بعضكم لبعض، وهناك الكثير من عملاء عدوكم بين ظهرانينا الآن؟ كيف تأمنون شعوبكم وأنتم لم تَأتُوا إلى كراسيكم بانتخابات نزيهة—بل تَفترضونهم بالقوة—ولو سنحت للشعوب الفرصة لطردتكم؟

هل شعوبكم موحَّدة ومتحضِّرة، أم أن الحرب قائمة بينهم: سنة وشيعة ودروز وخوارج وبهائية وعلويون...؟ هل ستقولون في النهاية إنكم انتصرتم لأن عدوكم أراد إسقاط حكمكم فتصدَّيتم له، وبالتالي حافظتم على دولكم وكراسيكم ونظام حكمكم؟ كيف سيصدر إعلامكم البائس وجهة نظركم إلى العالم؟ هل سيكتب أن الفُرس مجوس، أو أن الباكستانيين إرهابيون، وأن تركيا جماعةٌ إسلامية؟ هل سيقول الإعلام إن غير المسلمين كفرة يجب قتالهم؟

كيف سيقتنع العالم بأنكم متحضّرون بينما قسماً منكم يريد استعادة الخلافة وتطبيق شريعة تجرُّ النساء للعبودية والبيع؟ كيف سيقتنع العالم بعدالة قضيتكم بينما بعضكم أقام نصباً لصدام—أعتى دكتاتور وطاغية في العصر الحديث؟ تقاتلون عدوكم بجيش نصفه من الأميين والطائفيين—كيف سيتعاملون مع الذكاء الاصطناعي مثلاً؟

ألستم قد مررتُم بتجاربٍ فاشلة كثيرة فلماذا لا تتعظون؟ أليست هناك جامعة عربية؟ ومجلس دفاع عربي مشترك؟ ومجلس تعاون (سوريا والعراق والأردن ومصر واليمن) الذي انتهى باحتلال بلد عربي لآخر؟ أليس هناك مجلس تعاون خليجي؟ هل نجحتم في أيٍّ منها مثلاً؟

هل لا زلتم تعتقدون أن الله ناصركم وخاذل عدوكم، بينما يقول تعالى: «وأعدوا لهم...» أي أن الغلبة لمن يُعِدّ؛ فماذا أعددتم؟ لماذا لا تتصالحون أولاً بينكم؟ فالجزائر عدوة المغرب؟ وليبيا لها حكومتان متحاربتان؟ والسودان حكومتان متحاربتان؟ واليمن دولتان متحاربتان؟ ومصر تكره سوريا، والسعودية تكره قطر، والكويت تكره الأردن، ولبنان جريح، ومصر تكافح من أجل الخبز والغاز، وسلاح دول الخليج لا يستعمل ضد عدوها الحقيقي...

فبأيِّ آلاء ربكما تكذِّبان؟

نصيحتي لكم: تأجيل جميع مشاريعكم التحررية الآن لمدة عشرين عاماً تعملون خلالها على دخول فضاءات الحضارة والتنوير والحداثة—ثم لكل حادثٍ حديث.

***

د. عبد الله الجنابي

الكتابات السائدة تجيد لعن الظلام، فما أكثر لعنة الظلام، بالمقالة والشعر وفنون الأدب الأخرى، وحتى في الأغنية ومشارب الفن المتنوعة، ولن تجد بينها من يفكر بإيقاد شمعة، والعمل بجد وإجتهاد للوصول إلى الطريق الواضح المنير.

المفكرون، الكتاب، الفلاسفة، الشعراء، الأدباء وغيرهم، فطاحل في لعن الظلام والتشكي منه والتظلم من ويلاته، وما نهض واحد منهم وحمل شمعة موقدة، وأنار درب الأجيال.

ولا مَن فكر بمصباح ديجون، ليس لكشف الحقيقة، ولكن لطرد ظلام الضلال والبهتان، والتطوح في ميادين التداعي والخسران.

يبدو ان لعن الظلام أسهل من إيقاد شمعة، لأنه لا يحتاج إلى جهد، بينما إضاءة العقول والدروب بحاجة إلى جد وإجتهاد، وتفاعل عقول وقدرات وتكاتف وإنصهار في أوعية المصالح المشتركة، والوطنية الجامعة المانعة من الجور والعدواان.

أكثرنا يجيد مهارات لعن الظلام، ويمعن في إبداعه الإلعاني، ويتوهم بأنه بقدم شيئا نافعا للأجيال، وهو كالتي تولول على القبور، فالإبداع الإلعاني كنعيق الغراب، أو نحيب البوم، لا جدوى منه إلا إثارة الأحزان، وتنمية الأشجان.

الشعوب المقتدرة، نخبها تحمل مشاعل الإشراق والوضوح المستقيلي المفعل لقدرات الأجيال المعاصرة، وتضخهم بالأمل والإصرار على تنمية القوة والعزة والكرامة، والشعور بالمسؤولية والإستعداد للقيادة وتعبيد طرق المستقبل نحو آفاق جديدة، ذات إبداعات أصيلة.

لا توجد في كتاباتها لطميات وذرف دموع، بل تحدي ومنازلة لا تعرف الهوادة.

"قف دون رأيك في الحياة مجاهدا...إن الحياة عقيدة وجهاد"

نخبنا مطالبة بصياغة الكلمة الطيبة، وضخ عناصر ومفردات الأمل والتفاؤل مهما تراكمت الخيبات، وعسعس ليل وجودنا في زمن الغاب البراق الألوان، والمزين بالشعارات المضللة، والتفاعلات المخادعة، والتحديات المتنامية.

الحق رائدنا والصدق مذهبنا، واليراع سلاحنا، وعزمنا شراعنا، وفكرنا ينيرنا، ووعينا يرشدنا، فاكتب بمداد الحق، وجرأة تفعيل العقل، فأن الباطل زاهق ومرتعه وخيم، فما ينفع الناس يمكث في الأرض، وأما الزبد فيذهب جفاءً، وتلك معادلة كونية للديمومة والبقاء.

***

د. صادق السامرائي

يلقى العراقيون الراغبون بالسفر إلى الجمهورية الجزائرية الشقيقة عنتا وتعقيدا وعسفا لا يتناسب مع موقف العراق من الجزائر منذ خمسينات القرن الماضي، فالعراق ومثلما هو معروف للجميع كان داعماً مهما للثورة الجزائرية، ولاسيما بعد الإطاحة بالنظام الملكي في العراق عام 1958، حيث بدأت الحكومة العراقية بدعم قوي للقضية الجزائرية، وقد شمل الدعم تبرعات مادية (مالية وطبية وغذائية)، كما قدّمت الحكومة العراقية مبالغ طائلة لدعم الجزائر، منها 250 مليون فرنك سنويا لعدة سنوات، ودفعت الحكومة العراقية 250 ألف جنيه إسترليني لجامعة الدول العربية لدعم الثورة الجزائرية. وسمح العراق للطلبة الجزائريين بالالتحاق بالكليات العسكرية العراقية، فالتحق حوالي أربعين ضابطا، فضلا عن طيارين من كلية الطيران. وتأكيدا لهذا الدعم المفتوح قامت الحكومة العراقية أيضا بمقاطعة النشاط الاقتصادي الفرنسي داخل العراق بعد 1958، وهذا مثل دعما عمليا واقتصاديا للثورة الجزائرية. ثم امتد الدعم إلى الجانب الثقافي، فالدور الثقافي العراقي الداعم للجزائر كان بارزا، وقد كتب شعراء عراقيون أكثر من 250 قصيدة مدحا ودعما للثورة الجزائرية. وللوقوف بوجه الفرنكوفونية هب المثقفون العراقيون لمد يد العون للشعب العربي الجزائري البطل، فتطوع آلاف من المعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات وأسهموا في إعادة تعريب الجزائر.

وردا لجميل لهذا الدعم، قام السيد فرحات عباس في 21 أبريل/ بيسان من عام 1959 مع وفد من الحكومة المؤقتة الجزائرية بزيارة للعراق، وقد استقبل الوفد استقبالا رسميا وشعبيا حافلا، عكس دعما شعبيا ورسميا قويا للقضية الجزائرية.

وفي عام 1962 زارت المناضلة البطلة جميلة بوحيرد بغداد، ورافقتها في الزيارة مناضلة جزائرية أخرى اسمها زهرة بوظريف. وقد استُقبلتا استقبالا حارا من الشعب العراقي وقابلتهما قيادة البلاد آنذاك بالترحاب بما في ذلك استقبال رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم (رحمه الله) لهما، وهناك عدة تقارير ومقالات عراقية وعربية تشير إلى أن الزيارة حدثت بعد توقف القتال مباشرة، وأن جميلة وزميلتها قامتا بجولة في بغداد حيث حملهما العراقيون على الأكتاف وكرّموهنّ بما يليق بهن وبالجزائر العزيزة.

وقد أدلت المجاهدة الجزائرية جميلة بوحيرد بتصريح لوكالة الأنباء العراقية في المطار أعربت فيه عن سرورها الشديد بزيارة الجمهورية العراقية وقالت إنني بهذه المناسبة أحيي الشعب العراقي الكريم. أما المجاهدة السيدة زهرة ظريف عقيلة نائب رئيس وزراء الجزائر فقد صرحت لوكالة الأنباء العراقية قائلة: إنني مسرورة كثيراً لهذه الزيارة وإنني باسم الجزائر الثائرة وباسم شعبها أحيي شعب الجمهورية العراقية وسيادة رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم.

ثم ألقت إحدى عضوات جمعية حقوق الإنسان العراقية كلمة حيت فيها المجاهدتين الثائرتين باسم الهيئات الشعبية العراقية وأشادت بكفاح شعب الجزائر البطل، كما ألقى سكرتير الاتحاد العام لنقابات العمال في الجمهورية العراقية كلمة رحب فيها بالضيفتين الجزائريتين.

وهناك عدة تأكيدات محلية ومواد تراثية تثبت أن تسمية حيّ "جميلة" بجانب الرصافة من بغداد رُبطت بتلك الزيارة المباركة وحفاوة الاستقبال.

واليوم لا زال شعب العراق يكن للجزائر وأهلها حبا عميقا راسخا، بل هو اليوم أعظم مما كان عليه من قبل، نظرا لمواقف الجزائر المبدئية من القضايا العربية، ويحز في قلوبنا كثيرا، ويؤلمنا أكثر ألا نجد تجاوبا شعبيا ورسميا جزائريا مع هذا التعاطف الصادق الكبير، في وقت هناك العديد من البلدان التي لم يقدم لها العراق شيئا يذكر قياسا بما قدمه للجزائر، أجازت للعراقيين دخول أراضيها دون تأشيرات دخول مثل: تونس وسلطنة عمان ومصر، وقد أدهش سلوك العراقيين المنضبط الحضاري أبناء تلك الشعوب وحكوماتها فبدأوا يقدمون تسهيلات لتشجيع العراقيين على السفر إليها.

إن العراقيين يا سادتي شعب نبيل طيب محب مسامح منفتح، وفيه من يسعى بجد ليعقد صداقات حقيقية على أرض الواقع مع الجزائريين، والتبرك بتراب جزائر النضال والعروبة، ولا أجد عذرا ولا مبررا لمن يضع العراقيل بوجه هذه العاطفة العربية الجياشة، لذا آمل أن أسمع قريبا أن الحكومة الجزائرية سوف تفتح الباب أمام العراقيين لزيارة أهلهم، وربما تعفيهم من الحصول على تأشيرة، ويحز في نفسي أن يبقى هذا الحلم مجرد حلم عصي على أن يتحقق.

***

الدكتور صالح الطائي

دليل الوزارة للمعجزات

عجيب امر الافكار الغيبية التي تتحول فجاة الى حقائق لا تقبل النقاش! حسب تصريحات وزير التعليم العالي الاخيرة، كليتا التميز والذكاء الاصطناعي في جامعة بغداد، اللتان استحدثتا حديثا، ستتحول بطريقة عجيبة وسحرية - ودون تخطيط او موارد تذكر - الى جامعة كاملة.

هل حقا نحن في زمن تحول فيه الكليات الى جامعات عبر لمسة زر؟ واذا كنا على هذا القدر من السحر، لماذا تفصل هاتان الكليتان عن الجامعة الام بمشروع مستقبلي ولم تبتدا فيها الدراسة بعد؟ يا لها من عبقرية ادارية تدرس في كتب التاريخ… او على الاقل في قصص الدراما المأساوية!

هذه ليست الا امثلة صارخة على التخبط الذي يعصف بالوزارة، حيث تختصر كل الانجازات في حفلات اعلامية رخيصة واحاديث ميكروفونية لا تكلّف الوزارة شيئا سوى بعض الكلمات الفضفاضة التي لا تترتب عليها اي مسؤولية او حساب.

لماذا لا ننتقل من هذا التمويه الاعلامي الى الحديث الجاد عن انشاء جامعة حقيقة؟ جامعة ببناياتها ومختبراتها واجهزتها واساتذتها، وليس مجرد تلاعب بالاسماء واللافتات. لان الحقيقة المؤلمة هي ان هذه الكليات ولدت من رحم الفراغ، من دون اي تخطيط حقيقي او دراسة سوق عمل او بنايات جديدة. القرار؟ مجرد مزاج عابر ورغبة ضبابية تريد ان تخلق جامعة عبر اقتلاعها من جامعة بغداد، وكان الامر لا يتعدى لعبة تجميع قطع في حديقة اطفال!

والاسئلة تتوالى: اين البنايات الجديدة التي تليق بهذا "التوسع الرائع"؟ اين المختبرات المتطورة؟ ما هي اختصاصات هذه الكلية؟ ام ان كل هذه "الانجازات" جاءت على حساب ما هو موجود، باقتطاع اجزاء من مبان قديمة وترحيل اثاث مهترئ في مسرحية ترقيع لا تجد لها نظيرا الا في قصص الفشل الاداري؟

اين المبررات الاكاديمية والعلمية التي تبرر لهذا الصرح المصطنع اسمه "التميز" ان يتفوق على بقية الكليات؟ ام ان الامر كله مجرد استعراض لأسماء واسلاك تربط اساتذة من اقسام اخرى، ثم تغليف الفكرة بشعار براق على لافتة توحي بالعظمة، في حين ان الواقع ما هو الا فراغ تعليمي معاد تدويره؟

هل يعقل ان تتحول كلية مصطنعة الى جامعة من الهواء؟ جامعة لا سند لها سوى اسم "التميز" الغريب الذي يراد به ان يبعث رسالة ضمنية لكل طلبة الطب والهندسة وغيرهم: انكم ببساطة اقل تميزا، وربما اغبياء لاختياركم التخصصات "العادية"، بينما هنا في "التميز" تخلق العبقرية! يا للمهزلة الكبرى.

***

محمد الربيعي

كانت قصة «حقِّك أبو حقّي» معروفة بين البغداديين، وملخصُها أنَّ مجنوناً يقطع شارع الرَّشيد (ثلاثة كيلومترات) ذهاباً وإياباً، بين باب المعظم شمالاً والباب الشّرقيّ جنوباً، صباحَ مساءَ، منادياً: «حقّي حقّي»، لذا عُرف بـ«أبي حقِّي»، والسَّامع يردُّ: «حقُّك أبو حقِّي». كان يشتم الزَّعامات، بدءاً بنوري باشا (قُتل 1958)، دون ذكر اسم الملك فيصل (قُتل 1958).

وبعد كلِّ انقلاب يحفظ الاسمَ الأول ويبدأ بشتمه، وقد تناول عبد الكريم قاسم (قُتل 1963)، ثم عبد السّلام عارف (قُتل 1966)، فعبد الرَّحمن عارف (ت 2007)، ولم يُمنع أبو حقّي مِن هوايته، بل إنّ مسؤولين تداولوا خبرَه نكتةً. بعد أسبوع مِن استلام «البعث» السُّلطةَ (17/7/1968)، غاب أبو حقّي غيابَه الأخير، فشعر أهل «الرَّشيد» بأهميته، وقد فرغ شريان بغداد منه، وكان يتخذ مِن رصيفه مأوىً، ألِفه لعقدين مِن الزَّمن، ينام ويأكل ويشرب مما يُجادُ به عليه. غاب ولا يُعلم هل زُج به في مستشفى المجانين، المعروف في بغداد باسم «الشّماعيَّة»، أم قُتل ورُمي في مكان ما؟ ويومها بدأت الأجواء تدلهم، والسُّؤال عن أبي حقِّي فيه مخاطرة، فالجدُ قد جدَّ، لا يُفرق بين مجنون وعاقل. بعد إعلان اسم الرَّئيس الجديد (1968)، وما أنْ حفظه أبو حقّي ونطق بشتمه، كي يمارس هوايته، حتى اختفى، ولم يعد لخياله وجود، إلا في ذاكرة تُجار «الرّشيد»، الذين سمعنا مِن بعضهم سيرتَه. لم يُطالب أبو حقِّي بشيءِ، ولم يعرف له فعل سياسيّ، وما كان يحتجّ لمظلوميّة وقعت عليه، بل كان فقط يشتم الرُّؤساءَ، مع لازمته «حقّي حقّي».

دونت قصص مجانين كثيرين، ففي كلّ زمانٍ ومكانٍ يكون للمجانين حضورهم في مدنهم وقراهم، لكن لم نصادف مَن تذكَّر «أبا حقِّي»، أما ما عُرض مِن كوميديا بعنوان «أبو حقّي» في بعض الفضائيات، فليس مقصودنا. لا أعرف إذا كان «أبو حقّي» شكلَ خطراً قوميَّاً، فما جرى في 14 يوليو 1958 ليس بسبب شتيمة أبي حقّي للباشا، كذلك ما حصل في 8 فبراير 1963، لم يكن له دورٌ ولا فعلٌ فيه. وعلى الرّغم مِن قسوة شتائمه، لم يلتفت المسؤولون لظاهرة أبي حقّي، وكذا الحال مع عهد الأخوين العارفيّ، لم يهتما بشتائمه، حتَّى جاء العهد الذي لا يمزح، مع العقلاء والمجانين على حدٍّ سواء، وهذا بحدِّ ذاته كان برهاناً على أنّ أبا حقّي مشخصٌ مجنوناً، فلو كان عاقلاً لهجر «الرّشيد»، حال سماعه البيان الأول.

تغييب أبي حقِّي لا علاقة له بفرض هيبة السُّلطة، مثلما فكر به البعثيون في عهدهم الثَّاني، ففي عالم السّياسة، وما أدركه الباشا، وكان يمرّ ويسمع شتائم أبي حقّي، تكون الحاجة لهذه الظّاهرة، منها للرفاهية والتَّخفيف عن كواهل المارة، وفيها أيضاً دعاية بوجود حريات، وخصوصاً ببلدٍ مثل العِراق، ما إنْ يقوم انقلاب، إلا وخُطط لانقلاب «أنكس» منه. لو عاش أبو حقّي في زمن عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ)، أو في زمن أبي الفرج عبد الرّحمن بن الجوزي (ت 597 ه) لضمَّنا حكايتَه صفحات ما كتبا عن الجنون والتَّماجن. أقول: لو كُتب لأبي حقِّي الحياة إلى يومنا هذا، ما استطاع حفظ اسم مسؤول واحد، حتَّى لو كان يشاركه التسكع على حافات «الرَّشيد» حينها، وكم يحفظ؟ وأي خرابٍ يشتم؟ والكلُّ صاروا مشتومين، إلا الخطوط الحُمر مِن المقدسين، فشاتمهم عليه حساب الخطف، والاغتيال، والقنص.

كان الشّيخ عليّ الشّرقيّ (ت 1964) يعني ما قاله: «أيَّها البلبلُ في السِّجنِ/ سلامٌ كم يوسفٍ في السُّجونِ/ إنني قد غدوتُ أنعمُ في الشَّكِ/ لأنّي منغصٌ باليقينِ/ لم أجد في العراقِ ليلى ولكْن/ كل آنٍ أمرُّ في مجنونِ» (الدِّيوان، دار الرّشيد 1986). يا أبا حقِّي، غبت، وظهر مَن يُهدد بتغييب الشّارع كاملاً، لأنَّ اسمه «الرّشيد»، فاطمئن، فقد كنتَ عاقلاً، قياساً بما أتى بعدك مِن مجانين.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

الهرولة وراء عطاء الآخرين الذين لا قيمة ولا ذكر ولا دور لهم في مجتمعاتهم، يشير إلى مأساة حضارية معاصرة مروعة في واقعنا الثقافي.

فنأتي بالنكرات وذوي الأصوات الخافتة من الذين أصدروا كتابا هنا أو هناك، وما أسهل إصدار الكتب، لأنها تجارة وما يهمها الربحية وحسب، والعديد من دور النشر تعلن وتتوسل بمن لديه نية تأليف كتاب، ومستعدة لطبعه ونشره، شريطة أن يدفع الثمن مقدما ويؤمِّن ربحيتها.

كتب وكتابات يتم نقلها للعربية، وتقديم مؤلفيها على أنهم من المبدعين الكبار والمفكرين الأفذاذ، وهذا ليس واقعيا ولا يمتلك مصداقية، وإنما يتماشى مع أوهام ورغبات وتصورات الناقل لهم.

وبموجب ما يشعر به الناقل، وما يتراكم في دنياه من المشاعر السلبية تجاه ذاته وموضوعه، فأنه يتجه نحو الآخر، ويحسبه يأتي بما يشافيه من علله النفسية وإضطراباته السلوكية، التي يريد عكسها على المجتمع.

فإختيار نص أو كتاب، وبذل الجهد لنقله إلى العربية، ينم عن دوافع ونوازع كامنة في أعماق الناقل، وإلا لماذا إختار ذلك دون غيره.

ومن الواضح أن المشاعر الإنكسارية فائقة، وتجعلنا نحسب ما نقدم عليه من دراسات وبحوث، مهما كانت ضعيفة، لا تكتسب المصداقية إن لم تستند على مصادر أجنبية، أما إذا إستندت على مصادر عربية بحتة، فأن قيمتها ستكون قليلة في أعين الباحثين والقراء.

وعلى هذا المنوال يتواصى البعض بما هو أجنبي ويضعه في مقامات عالية، وهو لا يساوي شيئا في مجتمعاته، ويُنظر إليه على أنه من هوامش الإبداع، أو الهراءات اللازمة للبوح الذاتي لصاحبه، لكن من بيننا تبرز حالات محكومة بعللها فتتلقف ما هو عليل وتنقله إلينا، على أنه حالة فريدة تستحق أن نذوب فيها ونعبر عن منطوياتها المتآلفة مع مجتمعاتها أو متعاطفة معها.

وما عليك إلا أن ترفع رايات الحداثة وتأتي بما هو غثيث!!

صداهم كيفما قالوا نطقنا

تركنا أصلنا وبهمْ عَجِبنا

ولا ندري لماذا لا نَراها

موائلنا وما شَحَتْ علينا

إذا الأقوامُ من غُدُرٍ تساقتْ

ستنكرُ رافداً يجري الهوينا

***

د. صادق السامرائي

 

من عجائب مفكرينا وفلاسفتنا أن لكل منهم مشروعه الخاص، والذي يرى أنه منقذ الأمة مما هي فيه، فيفني وقته في البحث والتدوين، وتأليف ما يستطيعه من الكتب، التي تنام على الرفوف، وتدوسها سنايك النسيان والإهمال!!

ومعظمهم يتداولون أفكارا يمنطقونها ويقدمونها على أنها مقنعة وتصمد أمام الحجة والتحليل والتقييم، لكنها لا تتصل بالواقع اليومي للناس الساعية فوق التراب، وأكثرها مستنزلة من فضاءات الخيال البعيد، ومقحمة لنظريات الآخرين في واقع ينكرها.

وتزداد عجبا من كثرة المفكرين والفلاسفة، وإمعان الأمة في تدحرجها إلى خنادق الوراء، وتمسكها بالغابرات التي إكتسبت أهوال التقديس والتبجيل.

وعندما تسألهم، تنهال عليك التبريرات والتعليلات والتفسيرات التي لا تطعم من جوع ولا تحمي من برد، فما كل منطقي بصحيح، ولا كل تبرير سليم، وما يقنع لا يعني أنه يشبع.

وياتي في مقدمة التبريرات الدين، الذي تنتهي إليه مقاماتهم ودراساتهم وأبحاثهم، وخلاصتها، إنها أمة مقتولة بدينها!!

فكيف تحي القتيل؟!

لا توجد أمة لم تقتل بدينها، لكنها تعافت من طاعون الدين، وأوجدت العلاجات واللقاحات اللازمة لحمايتها من الأوبئة الدينية الفتاكة.

وأقسى مَن عانى من أوبئة الدين هي المجتمعات الأوربية ولعدة قرون، وبعد أن إستيقظت ونفضت دثار الدين وإكتشفت طريق العلم، وضرورة تفعيل العقول، إنبثق ماء جوهرها الإبداعي الإنساني، ومضت تخفق بأجنحتها في فضاءات الأنوار العلمية الوهاجة.

وتبدو نتاجات مفكرينا وفلاسفتنا وكأنها صومعية، أي مقطوعة عن مياه الحياة وبعيدة عن الواقع الذي تريد مواجهته، فهي لا تنطلق منه بل تهبط عليه!!

ولهذا بقيت الأجيال تراوح في ذات البقعة الزمنية، لفقدان الرؤية والدليل والبوصلة الفكرية الآخذة بها إلى موانئ الصيرورات الإنسانية المعاصرة.

فالأجيال تنكفئ إلى فترات زمنية متخيلة ومدبجة بالتصورات الهذيانية المقدسة، مما يساهم في تعطيل عقولها، وتجميد جهودها وتحويلها إلى روبوتات مذعنة للآوامر والإملاءات الفاعلة في واقعها المسكون بالخيبات.

فهل من تفاعل منير مع واقع غاطس في مستنقعات الأنين؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

المهتدي بالله الخليفة العباسي الرابع عشر، تولى الخلافة لأقل من سنة (255 - 256) هجرية، وهو إبن الواثق تاسع الخلفاء العباسيين، وولد في زمن المعتصم ومن الأرجح بعد سنة (218) هجرية، في منطقة القاطول بسامراء.

وجيئ به من بغداد التي نفاه إليها إبن عمه المعتز بالله، وكان المعتز بالله تحت أشد أنواع التعذيب المتوحش من قبل القادة الأتراك، وجلس المهتدي أمامه وهو في أسوأ حال، وتنازل له عن الخلافة بعد إعترافه بعدم أهليته لها، وأول ما نطق به للجلادين العتاة : "لا يجتمع سيفان في غمد واحد"، وهو أمر غير مباشر لقتل إبن عمه المعتز بالله، وكان بوسعه أن ينقذه من طائلة الموت الشنيع، والتعذيب المرير ويحمي أمه وولده من قسوة المتسلطين عليهم.

قتلوا المعتز بالله، وأصبح خليفة، وصاروا يصفونه بالزاهد والخليفة الصالح الذي يريد أن يحي سيرة عمر بن عبد العزيز، وما كان يقوم به يخصه، أما تفاعلاته مع ما حوله وحاشيته، فكانت تنم عن جهل في السياسة، وتعبير عن سلوكيات إنتقامية وأحقاد دفينة، وكأنه كان يرى بأنه أحق بالخلافة من عمه المتوكل، لأن أباه الواثق لم يعين ولي عهد، وتم إختيار المتوكل من قبل القوى المتنفذة آنذاك.

من زاوية نفسية سلوكية، لم يكن مستوعبا لدوره وفاقدا لقدرات القيادة الرشيدة، ومتوهما بأن الصيام والزهد يعبران عن حسن السيرة، ورجاحة القرار وتدبير الأمور، والخلافة بحاجة إلى قوة وحزم وحلم، وعقل مستوعب لآليات التفاعل مع الأحداث والتطورات.

وعندما جاء موسى بن بغا لقتل صالح بن وصيف ثأرا لقتله المعتز بالله ومصادرة ممتلكات والدته، يبدو أن المهتدي كان متعاطفا مع صالح بن وصيف، وأراد الإنتقام من موسى بن بغا لأنه تمكن من قطع رأس صالح بن وصيف، الذي كان يشك بأن الخليفة يدرى بمكان إختبائه.

"ثم رحل موسى بن بغا ومعه بكيال إلى السن في طلب مساور، فكتب المهتدي إلى بكيال أن أقتل موسى....."

وبرهن الخليفة على تعاطفه مع صالح بن وصيف بهذه الرسالة ، التي يريد بها قتل موسى بن بغا وكان معه بكيال فاأطلعه عليها فعاد إليه وقرر خلعه ومن ثم قتله.

وفي هذا السلوك برهان على سذاجة سياسية، وأمية قيادية، فكانت نهايته بشعة وحكم لأقل من سنة، إذ عصرت خصيتاه حتى مات.

و"تلك الموازين والرحمان أنزلها...رب البرية بين الناس مقياسا"

***

د. صادق السامرائي

ليس واضحا طبيعة علاقة القبيلتين قبل إجراء المسابقة بين الفرسين أو الحصانين، وتم التركيز وبتكرارية متواصلة على أن سبب الحرب التي إستمرت لأربعة عقود، هو ما جرى أثناء المراهنة التسابقية بين رمزين لحالتين مبهمتين.

لا يمكن مهما توهمنا أن تكون الحادثة المذكورة السبب الرئيسي للحرب الطويلة، وإنما على الأكثر كانت القشة التي قصمت ظهر البعير.

لقد إنغرست الفكرة في أذهان الأجيال بإقترابات إستصغاريه وأحيانا إستهزائيه، وإيهاميه بأن العرب هكذا طبيعتهم، ونشرت العديد من الدراسات والمقالات المؤكدة لما أريد له أن يترسخ في وعينا الجمعي، وهو منافٍ للطبيعة السلوكية البشرية وعناصر تأججها ومركباتها التفاعلية.

من منظار نفسي بحت يصعب تصديق الرواية، ولا بد من النظر إليها بعيون أخرى وتبصر أعمق، فليس كل مدون يعبّر عن الحقيقة.

نعم الحرب إستمرت أربعة عقود، وحرب كهذه لا يبررها سباق خيول، بل أنها ناجمة عن تراكمات متعادية بلغت ذروتها فكانت تحتاج لقدحة ما، وكانت القدحة بهذه الحادثة المعروفة.

زهير بن أبي سلمى وصفها بمعلقته، لكنه لم يتوسع بأسبابها الحقيقية، ولا توجد مدونات ذات إحاطة شاملة ببواعثها ومعززات تواصلها لعقود.

من أهم أسباب معاناتنا ونوائبنا، إننا نصدق بسهولة ونميل للتبعية، فهيمنت علينا الخرافات والأضاليل والأساطير، وأضحت العديد من الأكاذيب مسلمات مقدسة، لا يجوز التفاعل معها بغير ما يؤكدها ويمنحها صفة الثبات والنزاهة.

فهل أن ما عرفناه عن هذه الحرب الطويلة بصادق؟

وهل سببها من فبركة مستشرق مغرض؟!!

"تداركتما عبسا وذبيان بعدما...تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم"

"فلا تكتمن الله ما في نفوسكم...ليخفى ومهما يكتم الله يعلم"

"رأيت المنايا خطب عشواء مَن تصب...تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم"

أكاذيبٌ بها الأسماع تشقى

مكررةٌ مواصلة الخداع

فأزهقنا بها الأرواح ظلما

وأمسينا بدائرة الضياع

بداحسةٍ وغبراءٍ عُرفنا

فأُسْقِطنا بدائرةِ التداعي

***

د. صادق السامرائي

 

إنها ليست أكثر من معادلات رياضية باردة، بلا قلب ولا ضمير، ومع ذلك تسلّلت إلى كل دقيقة في حياتنا حتى صارت أشبه بحماتنا الرقمية: تعرف متى نصحو، وماذا نأكل، ومتى نمرض، وأحياناً – للأسف – كيف نفكر. الخوارزميات، تلك الكائنات الصماء التي نمنحها من وقتنا أكثر مما نمنحه لأمهاتنا، يمكنها أن تُنقذ حياتنا أو تدمّرها بنفس خفة نقر إصبع على الشاشة.

7:30 صباحاً. جرس المنبّه يصرخ. نصف نائم، يمدّ المرء يده إلى الهاتف. أوّل ما يراه: توقعات الطقس. بعدها، حساب البنك، ثم رحلة البحث عن الحافلة التعيسة عبر تطبيق يَعِدُ بالوقت الدقيق، وكأنه "عرّاف" في هيئة برنامج. ثم يبدأ الطواف المقدّس بين تويتر وواتساب، مروراً بفنجان قهوة مُرٍّ يتكفل به أيضاً تطبيق يذكرك أنك تستهلك الكافيين فوق الحد الطبيعي.

ثم دوّامة يومية متكررة: تطبيق لقياس ضربات القلب وكأننا جهاز تجارب، تقويم يخبرك بالمناسبات بدقة سويسرية، خريطة توجهك كأعمى وسط الزحام، وتطبيق نوم يحلل شخيرك وكأنه لجنة تحكيم. هذا الروتين ليس لشخص واحد فقط؛ إنه روتين الجميع، بغض النظر عن جنسيتهم أو راتبهم أو لون حذائهم. القاسم المشترك؟ الخوارزمية.

والأرقام تتكلم: في هذه اللحظة، هناك أكثر من خمسة آلاف مليون مستخدم يجلدون جوجل بستة آلاف مليون عملية بحث، ويرسلون 180 ألف مليون بريد إلكتروني، ويغردون حتى تصاب العصافير بالغيرة. كل هذا تحت عين ساهرة: خوارزمية.

تشرح الخبيرة التقنية لوسيا فيلاسكو بلا مواربة: "أي تطبيق تتفاعل معه هو في جوهره خوارزمية". إنها مثل العدّاد الخفي الذي يسجل كل لحظة ضعفك: كم ساعة أهدرت في إنستغرام؟ في أي وقت من السنة تبكي أكثر؟ شركات التكنولوجيا تعرف وتستخدم، ونحن نصفّق.

الخوارزميات قديمة، وُلدت قبل ألف عام تقريباً على يد عالم فارسي اسمه الخوارزمي، وكان قصده أن يحل مسائل الرياضيات لا أن يحلّ محلّ ضمائرنا. في معناها البسيط، وصفة طبخ هي خوارزمية. قرار الانفصال عن الحبيب هو خوارزمية. لكن عندما تزاوجت مع التكنولوجيا أنجبت لنا "الذكاء الاصطناعي"؛ طفل عبقري، لكنه متوحش أحياناً.

اليوم، حتى الشركات الناشئة في بلدان نامية تلجأ إلى الذكاء الاصطناعي في التسويق وخدمة العملاء. يبدو أن العالم يركض خلفه كما يركض وراء آخر موضة في الأحذية. الاستثمار فيه يتضاعف، والوعود لا تنتهي. لكن، كما تقول فيلاسكو، "عندما يتعلق الأمر بالناس، علينا أن نفكر مرتين". فخوارزمية التوظيف قد ترفضك لأن اسمك "غريب"، وخوارزمية التعرف على الوجه قد تخلط بينك وبين مجرم هارب، أما خوارزمية الأخبار فهي كاذبة محترفة.

تاريخها مليء بالفضائح: الجنيه الإسترليني انهار في ثوانٍ عام 2016 بفضل خوارزميات تداول العملات. "تاي"، روبوت تويتر من مايكروسوفت، تحول إلى عنصري فجّ بعد 24 ساعة فقط. وفيسبوك اضطر لإلغاء خوارزمية كانت عاجزة عن التمييز بين الحقيقة والهراء. أداة بلا ضمير تساوي كارثة بلا حدود.

لكن، للإنصاف، هي أيضاً بطلة خفية: تشغّل مكابح سيارتك قبل أن تموت، تحمي حسابك البنكي من الاحتيال، تساعد الأطباء في تشخيص الأمراض مبكراً، بل وتدير توربينات الطائرات. كما يقول الخبير إنريكي دانز: "الخوارزمية بلا إرادة، هي تتغذى بالبيانات فقط". تماماً كطفل مدلل.

المصيبة تبدأ عندما تُغرقها بالبيانات حتى تصبح كائناً غامضاً لا يفهمه حتى من صنعه. أوروبا حاولت ضبطها عبر "قانون الذكاء الاصطناعي" سنة 2021، فقسمت التطبيقات إلى آمنة وخطيرة ومحرّمة. لكن، كالعادة، شركات التكنولوجيا صرخت: "ستموت الاستثمارات!" وكأن أرباحها أهم من حقوق الإنسان.

مارك براكل يردّ: "بل العكس. إذا كان منتجك آمناً، فسيربح السوق". لكنه يضيف تحذيراً لاذعاً: "لا أحد يريد أن يعيش في سجن رقمي مُحكم فقط بحجة الأمن".

المفارقة أننا نشتم الخوارزميات طوال الوقت بينما هي في الحقيقة انعكاس دقيق لأدمغتنا. كما تقول لورينا جاومي-بالاسي: "النظام لا يفرض شيئاً، نحن من برمجناه هكذا". إن أردنا خوارزمية عنصرية أو متحيزة، سنحصل عليها. وإن أردنا واحدة تنقذ الغابات من الحرائق كما فعل السكان الأصليون في أستراليا حين دمجوا طقوسهم القديمة مع الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيرة، فسنحصل أيضاً على معجزة بيئية تقلل الكوارث بنسبة 75%. المسألة ليست "ماذا تستطيع الخوارزمية أن تفعل"، بل "ماذا نريد نحن أن تفعل".

الخلاصة؟ لسنا ضحايا أبرياء. نحن شركاء في الجريمة. الخوارزميات مجرد مرآة، قاسية أحياناً، تعكس طريقة تفكيرنا نفسها. مشكلتنا أننا نحبّ أن نلومها، لأنها لا تحتج ولا ترد.

23:00. ينام صاحب الهاتف مطمئناً. لا داعي لضبط المنبه، فخوارزميته تعرف تماماً متى يفتح عينيه، ومتى يصمت، ومتى يحلم. حتى نومه أصبح مسجلاً بدقة بيروقراطية.

الخبر الجميل؟ لا داعي للقلق. الخوارزمية رتبت كل شيء.

الخبر السيء؟ الخوارزمية رتبت كل شيء.

***

محمد إبراهيم الزموري

أجدني في هذه الأيام، وأنا أتأمل حال نقاد الأدب، يتسرب إلى نفسي ذلك الشعور الغريب الذي يختلط فيه العجب بالحيرة والأسى. الناقد الذي كان يوماً ما أشبه بالكائنات النادرة، يحمل بين جنبيه سراً من أسرار الوجود، وميزاناً دقيقاً يميز بين الغث والسمين، يتحول أمامنا إلى كائنات أخرى متعددة، لا ندري أيها نحيي، ولا أيها نعيب.

الناقد الذي كان ينقب في النصوص، ويكشف عن مواطن الجمال والقبح فيها، أصبح اليوم "مفكراً" يطرح الرؤى، و "فيلسوفاً" يجيب عن أسرار الوجود، و"كاتب رأي" يصول ويجول في الصحف كالفارس الذي لا يشق له غبار. والأعجب من ذلك، أنه أصبح "مقرظاً ومداحاً" لا يمل من ترديد أسماء المبدعين، وكأنه يوزع صكوك الغفران الأدبية، و "طبالاً وزماراً" يضرب على الدفوف وينفخ في المزامير كلما مر موكب من مواكب الأدب، و "راقصاً على إيقاع الشعر" حتى ليخيل إليك أن القصيدة لم تعد تقرأ بل ترقص.

ولا تتوقف المواهب النادرة عند هذا الحد، فالرجل - أو المرأة- بات أيضاً "مقدماً لبرامج ثقافية" يلمع على الشاشات بابتساماته المصقولة، وكلماته الموزونة، وكأن الثقافة أصبحت ضرباً من أضواء المسرح وأصوات الميكروفونات. وها هو يعرض للإعلانات التجارية، فينتقل من الحديث عن فلسفة نيتشه إلى الحديث عن مزايا نوع جديد من الصابون، في سلاسة عجيبة، وبراعة لا تنكر.

فيا لها من مواهب رائعة حقاً! مواهب لو جمعت في إنسان واحد لعد من العباقرة النادرين الذين لا يظهرون إلا كل قرن. ولكن، ترى أين ذهب ذلك الناقد الذي كنا نعرفه؟ ذلك الذي كان يمتلك شجاعة القول لا موهبة الإطراء، والذي كان همه الأول والأخير النص لا العلاقات، والفكرة لا الصفقة، والجمال الحقيقي لا الجمال المصنوع للمسارح والإعلانات.

أخشى ما أخشاه، بعد كل هذه المواهب المتشعبة، أن يصبح الناقد "موديلاً وعارضا للأزياء". فما الذي يمنع؟ إذا كان قد أتقن كل تلك الفنون، فما الذي يعوقه عن إتقان فن العروض والأزياء، والوقوف على منصات العرض بابتسامة عريضة، وجسد معصوب بقطع القماش التي قد تكون آخر ما تبقى من حياء في هذا المشهد الساخر؟

يذكرني هذا المشهد بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي: "وقديمًا كان في الناس الحياء".. فكنا نستحي من أن نخلط بين الأدوار، ونحسب لكل مبدع ما يستحق. كان هناك حياء يمنع الناقد من أن يكون تاجراً، وحياء يمنع الفيلسوف من أن يكون مهرجاً، وحياء يمنع المثقف من أن يكون دلالاً للسلع والأفكار. كان الحياء هو ذلك البوصلة الخفية التي ترشدنا إلى الطريق، وتذكرنا بأن لكل منا رسالة، ووظيفة، وكرامة.

أما اليوم، فقد انقلبت الموازين. أصبحنا في زمن "الانسيابية" العجيبة، حيث تذوب الحدود بين المهن، بين القيم. وأصبح الناقد - في سعيه للحضور الدائم- يتحول إلى سائل يسيل في كل وعاء، لا يحتفظ بشكله ولا بكينونته. وهو في هذا، ربما، هذه حالة مجتمع بأكمله، يبحث عن شرعيته في كل مكان إلا مكانه الطبيعي.

فهل نلوم الناقد وحده؟ أم أننا يجب أن نلوم عالماً أصبح يكافئ الظهور على العمق، والضجيج على الصمت، والصورة على المضمون؟ عالمًا أصبحت فيه "القيمة" تقاس بعدد المرات التي تظهر فيها على الشاشة، لا بعدد الأفكار التي تثريها في العقول.

إنها معضلة العصر الذي نعيش فيه. عصر لم يعد فيه الحياء فضيلة، بل أصبحت "الوقاحة" – للأسف- هي مفتاح النجاح. وعسى أن يعود يوماً ذلك الحياء، ليس إلى النقاد وحدهم، بل إلى جميعنا، فنعرف لكل شيء قدره، ولكل إنسان حده.

وإذا تأملنا هذا التحول العجيب في وظيفة الناقد، لا نجد أنفسنا أمام ظاهرة ثقافية واجتماعية معقدة، تكشف عن تحولات أعمق في مفهوم "القيمة" ذاتها. فلم تعد قيمة العمل الأدبي تستمد من جودته الجوهرية أو عمقه الإنساني، لكن من "قيمة التداول" التي يخلقها حوله. وبالتالي يصبح الناقد هنا جزءًا من "آلة التسويق" الضخمة الذي يزيد من قيمتها السوقية، بغض النظر عن قيمتها الفعلية. أي أنه أصبح وسيطًا، أو "سمسار ثقافة"، يرفع السعر في سوق الأفكار الرخيصة .

هذا يدفعنا إلى التساؤل: من المسئول عن هذا التحول؟ أهو إغراء الشهرة السريعة والإمكانيات المادية التي تقدمها البرامج والإعلانات؟ أم هو الخوف من الغياب والنسيان في عصر يتسارع فيه إنتاج الثقافة ويتضخم الضجيج؟ أم أن النظام الثقافي برمته لم يعد قادرًا على استيعاب الناقد الحقيقي، ذلك الكائن المتأمل بطبيعته، البطيء في إصدار أحكامه، فاضطر الناقد إلى اختراع أدوار جديدة ليبقى موجودًا في الخريطة؟

الحقيقة أن اللوم لا يقع على عاتق الناقد وحده، فهو أيضًا ضحية لـ "عصر السوق". لقد تم اختطاف الحقل الثقافي برمته من قبل منطق السوق، حيث تحولت الثقافة إلى "صناعة" و"منتج" يحتاج إلى "ترويج" و"تسويق". والناقد، في هذه الحالة، هو من يوفر "شهادة الجودة" المزيفة، أو على الأقل، الضوضاء الإعلامية الكافية التي تجعل المنتج الثقافي مرئيًا وسط الزحام. لقد أصبحت مهمته هي "خلق الطلب" على سلعة قد لا تكون تستحق ذلك الطلب أساسًا.

المأساة الحقيقية هي أن النقد أصبح أداة في خدمة آلة أكبر تهدف للربح والاستهلاك. الناقد الذي كان يفترض أن يكون حارسًا للذوق العام، يصوب وينقح ويرتقي به، أصبح ملهِماً للذوق العام، يروج لأي شيء طالما أنه "مطلوب" و"مربح".

وفي خضم هذا، يفقد عنصر أساسي كان يشكل جوهر العملية النقدية: الثقة. ثقة القارئ في أن الناقد صادق معه، غير مخادع، لا يمدح إلا ما يستحق المدح حقًا، ولا يذم إلا ما يستحق الذم. عندما يتحول الناقد إلى "عارض إعلانات"، فإن هذه الثقة تنهار، ويصبح كل ما يقوله موضع شك وريبة. عندها، لا الخير يصل إلى مبدع حقيقي، ولا الشرور تكشف عن نصوص رديئة، ويدخل الجميع في دوامة من الضبابية والادعاء.

فأين المخرج؟

ربما يكمن في إحياء ذلك "الحياء" الذي أشار إليه أمير الشعراء، ولكن بوصفه قيمة مهنية وأخلاقية. حياء المرء الذي يمنعه من أن يخون مهنته، وحياء المثقف الذي يترفع أن يبيع قلمه، وحياء الإنسان الذي يعرف حدوده ويقدر رسالته. يحتاج الناقد إلى أن يعيد اكتشاف "تميزه" و"استقلاليته"، أن يدرك أن قوته تكمن في صوته المنفرد الناقد، وليس في صوته الجماعي المردد.

ربما علينا أن نعيد النظر في نظامنا الثقافي برمته، نظام الجوائز والإعلام والتمويل، الذي يكافئ الأداء المسرحي على حساب الجوهر، والكم على حساب الكيف. فالناقد، في النهاية، هو ابن بيئته، وإذا كانت البيئة فاسدة، فكيف نطلب منه أن يكون نقيًا؟

***

د. عبد السلام فاروق

نبدو وكأننا كالقاطنين في كهف ونحسب الحياة ما ينعكس على جدرانه، فتفاعلاتنا لا تمت بصلة لواقعنا، ولا تحمل أجوبة صائبة على التحديات التي تواجهنا.

كل واحد منا يغني على ليلاه القابعة في دياجير وعيه المتمترس في منطلقات وتصورات فانية.

الأجيال مرهونة بأوهامها، وهي أضاليل وتصورات منبعثة من ينابيع النفوس الأمارة بالسوء والبغضاء، فتأخذ الناس إلى مواطن سقر.

الوهم يستعبد الناس ويسوّغ لهم ما يتوارد لأذهانهم من عجائب التفاعلات السيئة، خصوصا عندما يرتبط بقوة كونية كبرى، فيصبح المتوهم أداة طيعة لتنفيذ إرادة الوهم الفاعل فيه.

وهم العقائد والأديان متجذر في الناس منذ أقدم الأزمان، ولا يمكن محاورة صاحب عقيدة أو دين لأن الوهم يتملكه ويمع عنه التفكير والنظر، فهو عبد مطيع لوهمه الطاغي على رؤاه وتصوراته، ومن المستحيل زحزحة الوهم وتحرير صاحبه منه , أو مساعدته على وضعه على طاولة النظر والتفاعل المتعقل معه.

الوهم سلطان مستبد عنيد، ولا حل أمامنا إلا القبول بالأوهام والتعايش معها، فلكل فرد ومجتمع أوهامه المهيمنة على وعيه والمسيرة لأيامه والرافعة لأركان حياته.

أوهامك مقدسة وأوهامي مقدسة، فدع المقدسات الوهمية في مكامنها ولا تضعها على طاولة التفاعلات اليومية، لأنها ستتقاتل وتسفك الدماء، فالأوهام تجرد عبيدها من المسؤولية.

بعضهم يريد لأوهامه أن تطغى على أوهام الآخرين، ولن يكون ذلك إلا بالإبادات المروعة والتطهير العرقي، مما يضع المجتمعات في أوعية الخسران والصراعات البينية الفتاكة.

توهّمْ كيفما تهوى، ولكنْ

على أوهامِ غيركَ لا تراهنْ

هي الأوهامُ قائدنا لحتفٍ

فصن وطناً وعشْ أبداً مواطنْ

بنا الدنيا بأوهامٍ تواصتْ

وفي وهمٍ على زمنٍ نداهنْ

***

د. صادق السامرائي

 

إرتبط الشعور بالعداء ضد السامية على طول العصور الوسطى في أماكن متعددة فيها أحداث وسلسلة من الاضطهاد للجاليات اليهودية، وكان في هذا العصر إصطلاح يهودي وهو مرادف لمرابي، عدو المسيح وعدو دينه.

توجد جذور لهذا الشعور المعادي للسامية ولإسباب متعددة منها إقتصادية ودينية ويتهم اليهود بالتعامل بالربا ومن جانب آخر بأنه شعب قاتل يعني قاتل الله يشخص المسيح. فضلا عن الاتهامات السابقة، كانت هناك أخطر منها: واحدة منها إرتكاب جرائم حسب طقوسهم الدينية فقد قيل أن اليهود إختطفوا طفلا مسيحيا يوم عيد الجمعة المقدسة ليذبحوه صلبا بعد إستخراج قلبه بهدف إحياء ذكرى عذاب المسيح، هذا هو إتهام توصلت إليه محاكم التفتيش الاسبانية قبل طرد اليهود، فضلا عن إتهامهم دائما الحرمات المقدسة مع إستخدام الرشوة وإكراه المسيحيين.

إزداد الكره تجاه اليهود في كل أراضي شبه جزيرة ايبيريا خلال القرن الرابع عشر ليصيح تيارا عاما تقوده الكنيسة وبشكل خاص الدومنيك والفرانسيسكوس تبعهم النبلاء وكل الشعب كذلك إستمر في القرن الخامس عشر وبشكل خاص النصف الثاني منه لأنه كان حقبة أزمة إقتصادية وإجتماعية كانت ملامحه أكثر وضوحا للحروب التي أتلفت المحاصيل والطاعون الاسود الذي أدى إلى زيادة الاسعار.

وعقد في سنة 1311 المجمع الكنسي في المدينة الفرنسية فيينا (التي كانت جزءا من الامبراطورية الفرنسية وهي اليوم عاصمة النمسا) وقد أتخذوا وسائل ضد اليهود أعتمدت بعد سنتين من قبل مجمع الاساقفة الاسبان في سرقسطة، وأمر المجمع الكنسي الفرنسي بعدم تعيين اليهود في المناصب العامة والسياسية ومنعوا من إستخدام الربا. كذلك طلب منهم بإن يحملوا إشارة متميزة فوق ملابسهم والسكن في بيوت منعزلة، إحترام احتفالات المسيحيين ودفع العشر من مواردهم الى الكنيسة.

كانت اولى الفتن والاضطهادات ضد اليهود هي التي حدثت في النصف الاول من القرن الرابع عشر في كل أراضي شبه جزيرة إيبيريا كذلك في كل أوروبا كانت هناك ثورات ضد الجالية اليهودية .في أشبيلية هاجموا الحي اليهودي لاول مرة قريبا من هذه التواريخ متهمين سكانه بإنتهاكهم المقدسات المسيحية، بعد عدة سنوات وفي سنة 1355 هاجم المسيحيون والمسلمون في طليطلة وقونكة الاحياء اليهودية من جديد خلال الحرب الاهلية بين بطرس الاول القاسي وأنريكه الثاني في قشتاله.

كانت تعامل محاكم التفتيش دائما في أراغون وكتالونيا ضد اليهود على الرغم من الحماية التي قدمت إليهم من ملوك هذه الاقاليم. وفي القرن الخامس عشر تم طرد كثير من اليهود إلى فرنسا وفيها إستقروا ونشروا في هذه الاراضي بيئة من العداء المرعب مع مضايقة البلد الجار. كانت أخطر الاضطرابات والمضايقات في سنة 1368 بخيرونة وفي سنة 1370 بمايوركا وبرشلونة. ولكن الاكثر مأساوية وبدون شك كان في كل القرن الرابع عشر لإضطهاد اليهود وبالذات في سنة 1391 كذلك في سنة 1378 عندما بدأ رئيس الشماسين فيرارد مارتينث بالوعظ ضد اليهود بإشبيلية الذي قام بغلق حيهم ومنع المسيحيين من التعامل معهم، وبعد سنتين أصبح رئيس الشماسين رئيس الاساقفة في إشبيلية إستمر بالوعظ ضد اليهود خصوصا في خطبة أيام الاحد والتي أضرمت نار الكره الشعبي حيث لم يبق بيت في الحي اليهودي إلا وتم هدمه بشكل كلي. ومن إشبيلية إنتشرت الاضطرابات إلى إقليم الاندلس وشرق إسبانيا حتى وصلت في النهاية إلى قشتالة.

نشر بين هذين التاريخين (1412-1415) في بلد الوليد وبناء على رغبة الرهب بيثنته فرير قانون بإقصاء اليهود بالقوة سمي بقانون بلد الوليد والذي أضر بشكل كبير بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية لليهود، لم يكن محتوى القانون جديدا بل أستخدم كثيرا من الوسائل السابقة إلا إن إسلوبه في تحقيق هدفه لم يتمكن من إبعاد اليهود من أراضي شبه جزيرة إيبريا.

***

رنا فخري جاسم

كلية اللغات/ جامعة بغداد

 

أولا علينا أن نبين معنى كلمة الذنب فقد وردت في عدة معاني منها (الإثم والمعصية والجُرم) التي يرتكبها الإنسان في حق الله تعالى تاركا واجبات التي كُلف بها من قبل الله تعالى أما في القرآن الكريم فقد دلت على الفعل الذي يخالف أوامر الله تعالى ويستحق عليه العقاب فقد وردت ب(11) مرة بصيغة المفرد الفعل والجمع حوالي (26)مرة (ومن يغفر الذنوب إلا الله) آل عمران 135 ومن معانيها (الجُرم) كما قال تعالى (فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين) الروم 47 وجاءت كذلك (الخطيئة) المقصودة المتعمدة أما التعريف القانوني في الحياة المدنية فهي الجريمة حيث ربط الله تعالى مغفرته للإنسان مخصوصة له بحسب علاقة العبد بربه وهو الوحيد الذي له الحق في معاقبته أو العفو عنه كما قال تعالى (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله أن الله يغفر الذنوب جميعا أنه هو الغفور الرحيم) الزمر 53 وكذلك (ربنا أغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار)آل عمران 193 أن الذنوب محصورة بالشعائر التعبدية للواحد الأحد التي فرضها الله تعالى على الإنسان في حياته والتي تربطه بالله سبحانه منها الصوم والصلاة والزكاة والحج وجميع المحرمات التي حرمها تعالى على الإنسان .

أما السيئة فهي التقصير بحق العباد ومعاملة الناس بعضهم لبعض من خلال الجور والظلم والسرقة والقتل وتفضيل المال الحرام والتعدي على حرمات المجتمع والأعمال الخبيثة وفعل المنكر والغيبة التي يحذر الله تعالى الناس منها دوما لأنها تؤثر على العلاقات الإنسانية بين الناس وتلقي بظلالها على تفريق وزرع الكراهية وتشيع الفاحشة في المجتمع وتهدم بنائه وأن كل هذه الأعمال المنافية للإنسانية والأخلاق تقع في دائرة العمل السيئ والخطايا والمعاصي التي نهى الله تعالى عن ممارستها والعمل بسلوكياتها الاجتماعية التي تربط الإنسان مع بني جنسه ومجتمعه فأن كل الآثام وأعمال المنكر والمنافية لفطرة الإنسان وعقله السليم التي تسبب الابتعاد عن السعادة في الدنيا والوقوع في المحظورات والفواحش والفسوق والأجرام تؤثر بدورها في أبعاد الإنسان عن طاعة الله ,

أن الذين يتوبون عنها يستوجب عليهم الكفارة والمصالحة وإبراء الذمة من ظالميهم قبل فوات الأوان والرجوع إلى عمل الصالح والحسن في المجتمعات لتنظيم ضوابط  روابط المجتمع وتشذيب سلوكيات أفراده (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل أن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) هود 114 وكذلك (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) الأنعام 160 وكذلك(ما أصابك من سيئة فمن نفسك)النساء 79 فالكفارة هي تزكية النفوس البشرية المسيئة وطهارتها من عملها وفعلها المضر بالمجتمع في الدنيا و(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) .ومن هنا وجب على الإنسان المتدبر والمتفكر الذي يسعى الوصول إلى التكامل الأخلاقي في حياته ضمن مجتمعه الاعتذار من الله تعالى ويطلب منه الصفح والمغفرة من كل الخطايا والمعاصي والتقصير بحق الإنسانية والمجتمع والشعائر التعبدية والاعتراف بوحدانية الله تعالى لنيل رحمته التي وسعت كل شيء وعفوه سبق غضبه لعباده المخلصين التائبين (ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون) الجاثية 15 لتفعيل الرابط المتين بين العبد وربه الله تعالى.

***

ضياء محسن الاسدي

في اوائل السبعينات من القرن الماضي كنت اعمل محررا اول في جريدة الحزب الشيوعي العراقي "طريق الشعب"، كاحد مؤسسيها، واراس القسم الاكبر في الجريدة "حياة الشعب" من دون ان اكون عضوا في الحزب الشيوعي، ومن بين ماوجدته وقتها حريا بالبحث والتدقيق موضوع المياه في بلد  النهرين، واحتماليات تحوله الى "عراق مابعد النهرين"،  وكان وزير الري وقتها الاستاذ "مكرم الطالباني"  عضو اللجنه المركزية في الحزب الشيوعي، وكان مقر الوزارة في اول شارع الرشيد من جهه الباب الشرقي،  وقد قررت الذهاب اليه كي استطلعه  عن الموضوع المائي .

وكعادته فلقد استقبلني الرجل بكل ترحاب ومودة واستعداد للتعاون، وكان الموضوع  قضية المياة ومستقبل دجله والفرات،  واذا كانت ثمة، او يمكن ان توجد حلول لهذه الكارثة الوشيكه، وقد علمت منه ان الامر قابل للحل، وان المخزون الطبيعي من المياه الجوفيه العراقية المتوفرة  في المنطقة الشمالية شرق الموصل من شانها سد النقص في حال حصوله، وان هذا ليس كلاما مجردا، بل عمل حصل بالفعل وحضرت شركات عالمية قامت بالمسوحات اللازمه واكدت ماذكره،  وهو مالم يكن  قيد التنفيذ في حينه لعدم الحاجه الراهنه، فامر صدام حسين بايقاف العمل بالمشروع،  واعتباره مدخرا تم التاكد من انه يمثل جريان دجله والفرات لمدة تزيد على القرن، وان الموضع الذي جرت من خلاله عمليات الفحص والتحري اقفلت في موضع معين يمكن العثور عليه.

 وقد اطلعني الوزير على كتب صادرة عن الوزارة، ومراسلات مع الشركات المعنية، واوامر  وتقارير وغيرها، كانت موضوعه في دفتر من الحجم الكبير، باعتقادي انه مازال موجودا في ارشيف الوزارة، وهو ماقد عدت وكتبت عنه مقالا نشر في حينه في جريدة "طريق الشعب"، وليس لدي بالطبع  وبعد كل هذه السنين والغربة رقم العدد المشار اليه ولاتاريخه.

 في السياق اعتقد انه من المناسب ذكر واقعة حضر فيها الموضوع اعلاه بعد عام 2003 وضرب العراق، حين التقيت في اليابان رئيس الوزراء الياباني " كويزمي" بتدخل من مركز البحث التابع لرئاسة الوزراء الياباني، عندما كانت اليابان بصدد ارسال قوات عسكرية للعراق مدفوعة من الولايات  المتحده الامريكية بما يشبه الامر،  ما حدا بالقيادة اليابانيه للبحث عن افضل السبل الملائمه لللمصلحة اليابانية  وللمباديء المعتمده، قبل الاقدام على الخطوة المذكورة، ووقتها وانا في اليابان، وبعد اللقاء برئيس الوزراء  خطر لي ان اقترح تحاشيا لايه احتمالات تصادامية  كانت اليابان تخشاها خشية شديدة، ان تبادر اليابان بما لها من امكانات ومعروف عنها من تقدم تقني، الى القيام بعملة تحرير للعراق من وطاة الحاجة الى الاخرين مائيا، الامر الذي لن يكلف كثيرا، واستندت هنا الى المعلومه التي اخذتها في حينه من السيد الطالباني، فاقترحت  ان تبادر اليابان مع التغطية الاعلامية اللازمه، الى تفعيل المشروع المتوقف عنوة، مع مايتطلبه ويقتضيه من موجبات على الارض، وان تهيء اسباب  التدير المائي للمياه قبل دخولها شط العرب، اي اعادة احياء الاهوار  التي عمل صدام حسين على قتلها، مع مايمكن من عمل سياحي،  المنطقة هناك مهيأة له.

 وبهذا ومع اعادة تدوير المياه عن طريق انابيب تعيد الماء من جديد الى الشمال،  يكون العراق قد استقل استقلالا كليا عن تركيا وايران مائيا، لابل صار في حال وفرة تجعل من مجيء اليابان وقتها الى العراق، ليس هدفا للمقاومة  الجاري التحسب لها، بل تغدو اليابان اعز صديق  للعراق على مستوى المعمورة.

 قدمت المشروع المذكور مكتوبا، وانا واثق من انه مايزال في ارشيفات رئاسه الوزارة اليابانيه ومركز دراساتها، الامر الواجب الانتباه له  ولفت نظر الحثالة الريعية المتحكمة بشؤون العراق ورئيس وزرائها له، والاهم  لفت انتباه من يسعون اليوم الى التحرك على الصعيد الجماهيري  والاعلامي،  لان يركز هؤلاء جهدهم على تشكل "لجنه وطنيه عليا" مهمتها التاكد من المعلومات التي اوردتها، ومن ثم ضمان العمل على اقامة  مشروع  الاستقلال المائي العراقي مع اليابان، على سبيل المثال ومجددا لماتتمنتع به من قدرات وجديه، علما بان العراق يملك المقابل النفطي  القائم اليوم فقط تحت سطوة وسلطة الحثالة الريعيه المتحكمه بالبلاد واهلها، الغائبة عن اي شان يخص مصلحتها ومصلحه العراقيين العاجزين.

 وليس من الصعب ايجاد الخيوط التي تعيد فتح الموضوع في اليابان، فسفرتي لم تكن وقتها عابرة، او مرت بلا ضجه وتناول من قبل محطات التلفزيون اليابانيه، عدا الصحافه ومنها صحف اليمين الامريكي الذي  عمل على منع الموضوع بالتدخل الامريكي المباشر، وسيكون الان ايضا معنيا

 بمنعه بكل السبل، لقد قابلت وقتها قائد الجيش، ووزيرة البيئة التي تتكلم العربية، وهي اليوم  امينه العاصمة طوكيو، ووزير الدفاع في حينه، وكلهم كانوا مؤيدين لما اقترحت وليس من الصعب ايجاد من مازال منهم حاضرا وقادرا على اعادة احياء المشروع وانقاذ العراق.

العراق يمكن ان يستقل مائيا، والجماهير يجب ان تتحرك لتفرض ارادتها في اعز ماتملك، وماهي من دونه فانيه.

***

عبد الامير الركابي

........................

* اجلنا الحلقة الرابعه من " حرب الانهار والابار.." للضرورة.

 

كلما تساءلت لماذا " إقرأ" هي أول كلمة هبطت من السماء على نبي الرحمة، أقول: هل نقرأ؟

قد تكون هناك أسباب كثيرة يمكن للمفكر والباحث أن يأتي بها لتبرير أول خطاب ما بين السماء والأرض وبلسان عربي هو " إقرأ ...إقرأ...إقرأ"

فأمة العرب لم تكن أمة قراءة وكتابة بقدر ما كانت أمة رواية وقول، وكثر فيها الرواة والحفظة ولم يكثر فيها الكتّاب والقراء أو تزدهر صناعة وتجارة الكتاب.

وجاء القرآن يصدع بآياته ويهز كيان الوجود العربي بأفكاره ورؤاه، وكانت كلمة إقرأ مدوية وعنيفة الصدى في أرجاء الأمة، لأنها مفتاح الوجود وبوابة الولوج في عوالم المعرفة والإدراك والغوص في أعماق النفس والعقل والروح، ومن غير إقرأ لا يكون هناك عقل حكيم وفعل مؤثر في الصميم.

فالقراءة توسع المدارك وتستجلب الأفكار وتنقل الوعي البشري إلى حالة متقدمة عما قبل القراءة.

إقرأ... بمعنى أنك تكون وتتجدد وتعاصر وتتحقق في الحياة، وتبقى قويا مبدعا ومتمكنا من الدنيا برغم تغير أحوالها وسلوكها، وهي القوة التي ما بعدها قوة، والوجود الذي يتفوق على كل الوجود، والأسلوب الذي يصنع الحياة ويبني أسس الإرتقاء للأجيال عبر الزمان.

إقرأ...منهل الفكر والعلم ومنبع الثقافة والدراية والتحصيل المعرفي والخبرة، التي تساهم في صناعة ما لم يسبق صنعه فوق التراب من إبداعات متنوعة ذات قيمة حضارية وإنسانية.

إقرأ...صرخة السماء التي إهتزت لها الأركان وإرتعش البدن النبوي على أثرها لأيام، وقد إنطلق الإنسان الأكبر من أعماق الإنسان المتأمل الحيران في كنه الوجود ومنطلق الأيام والأحوال.

إرتعش رسول الرحمة لنداء إقرأ وأدرك الأسرار السفلية والعلوية يمكن ولوجها من خلال إقرأ، وتعلم كيف يقرأ تلك القراءة التي لا يجيدها إلا الأنبياء وأصحاب المقامات العلوية في عالم الخلق والأكوان.

لقد أوجد النبي الكريم (ص) أمةً تقرأ القرآن وتتدبر آياته وتتفكر في خلق السماوات والأرض، وتتعلم ما جاء فيه من الحِكم والأفكار الثمينة، فانطلقت طاقات العقول وأسست معالم حضارية سبّاقة في أسسها ومنطلقاتها ومنابع صيرورتها وإستمرارها.

وحقق ثورة عقلية وروحية ونفسية تمخضت عنها تفاعلات فكرية وإبداعات مرتبطة بالقراءة، فازدهرت الكتابة وصارت الجوامع مدارس حية للقراءة والكتابة وحفظ القرآن.

ومن ثورة القراءة وقوتها وصرختها إنطلقت العلوم وتطورت وأصبح للفكر مقامات وصولات، فأنجبت الأمة أعلاما رسخوا في قلب الزمن وغيّروا مسيرة الأجيال، وإنتقلوا بالإنسانية إلى عوالم فكرية وآفاق حضارية لم تعهدها من قبل.

ومنذ ذلك الوقت والأمة تهتم بالقراءة والكتابة وتتأكد في مسيرتها، من خلال تدوين وتوثيق نشاطاتها الإنسانية بلغتها وخصوصا الشعر الذي صار ديوانها.

وبرز فيها المؤرخون والنابغون في صنوف العلوم والمعارف والدراسات والأبحاث والنشاطات العلمية والفكرية المتنوعة، فتركت للأجيال تراثا عظيما متفوقا على تراث أمم الأرض.

هكذا فعلت كلمة اقرأ في أمةٍ ما كانت تقرأ، وبعد أن قرأت الأمة ما قرأت وألفت ما ألفت وصنفت ما صنفت، تراها اليوم تخاصم القراءة وتجهل فنونها وأصولها والكتاب فيها خاسر ولا قيمة أو دور له في حياتها، وتأتيك الإحصاءات والبيانات لتشير إلى أن أمة إقرأ لا تقرأ !!

بينما عندما ننظر إلى أمم الأرض نجد أنها أمم قارئة، وطباعة الكتاب فيها مزدهرة ومتطورة ومطابعها لا يمكنها أن تتوقف عن الإنتاج لوقت قصير.

ففي البلدان المتقدمة لا تخلو حقيبة الأشخاص من كتاب أو كتب للقراءة عندما يتوفر الوقت.

فترى الناس تقرأ في أماكن الانتظار وفي السيارة والقطار والباخرة والطيارة وعلى السواحل وفي أي مكان يخلو الإنسان فيه مع نفسه. ولا توجد دائرة أو مكان تنتظر فيه إلا ووفر لك فرصة لكي تقرا شيئا وتتعلم جديدا.

وأصبحت معظم وسائل الاتصال والتفاعل البشري مبنية على "اقرأ". والشخص في العالم المتقدم يقرأ العديد من الكتب سنويا، وفي العالم المتأخر لا يقرأ كتابا طول العمر. فما أن يغادر  المدرسة حتى يتحول إلى عدو لدود للكتاب، فيعلن الخصام عليه ولا يقترب منه في أي وقت من الأوقات وكأن القراءة في عرفه عيب أو نقيصة.

وهكذا فأن القراءة ومنهجها قد غاب عن حياتنا. وليتأمل أي منا كم من الجالسين في مقهى أو نادي يقرؤون، فأنه لن يجد أحدا، بينما لا يكون كذلك في الدول المتقدمة، فالناس تقرأ في كل مكان، لأن القراءة عادة فردية واجتماعية وقيمة حضارية عالية، والكتاب مبذول في الأسواق، فعندما يذهب الشخص لشراء طعامه وحاجاته الأخرى تراه قد اشترى مجلة أو كتابا لكي يقرأه، فهو يطعم بدنه وعقله في آن واحد، ويدرك أن المعرفة قوة وهي تتحقق بالقراءة. أما نحن فلا نطعم أبداننا ولا عقولنا بصورة صحيحة.

إن عادة عدم القراءة هي التي تسببت في الكثير من الويلات والتفاعلات السلبية في مجتمعنا، ولأننا لا نقرأ ولا نتفحص ونبحث ونتابع تجدنا نصغي لهذا وذاك. وهكذا فأننا لا نملك رأيا ولا نعرف كيف نتحاور، ولا نتقن مهارات اختلاف الآراء والتصورات.

ولكي نكون لا بد من العودة إلى نداء السماء والإذعان لإرادة الوحي وصرخته في غار حراء لكي نحقق وجودنا اللائق بأمة اقرأ.

فهل أن مصيبة الدنيا أن المتسلطين على مصيرها لا يقرأون؟!!

***

د. صادق السامرائي

بغض النظر عن الأطروحات الفلسفية وما يدور في فلكها من تفسيرات للقوانين المركزية في الكون والمعجزات.. والتي تظل مجرد وجهات نظر أصحابها صحت وأصابت، ام اخطأت التحليل..فانه لابد من القول بإن القوانين المركزية هي إرادة الله تعالى المحضة، التي اودعها في خلقه، على قاعدة (وَالشَّمسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) للتحكم في ظواهر الكون والطبيعة كما شاءت إرادته، لتكون معايير تضبط حركة تلك الظواهر، ولتكون من ثم، موضع تفكر ودراسة واهتمام واستطلاع من قبل الإنسان، لتحديد كيفية. الإنتفاع والإستفادة منها، في اطار قانون التسخير المركزي على قاعدة (الله الذي خلق السماوات والارض والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار* وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين وسخر لكم الليل والنهار* وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)..

في حين أن المعجزة هي خرق الهي مقصود لقوانين الكون المركزية، لتعزيز اليقين الإنساني، بما فيهم الأنبياء والأولياء، بقدرة الخالق المطلقة على تجاوز القوانين في اللحظة متى شاء، على قاعدة (فعال لما يريد)..

وبالتالي فلا إرادة، ولاقدرة، لبشر في صنع المعجزة بتاتا..حيث ينحصر دوره في حصولها على مجرد الدعاء إلى الله تعالى بوقوعها وحسب، طلبا للنصرة، مثل طلب موسى إغراق فرعون بكل جبروته بالبحر (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ • فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُون • وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ )..أو التذكير بها لتعميق الإيمان (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)..

وهكذا يظل الكون والظواهر الكونية، كحركة الشمس والقمر والرياح، وغيرها خاضعة لإرادة الله تعالى، ومسخرة بقدرته، لخدمة الإنسان، للإنتفاع مما سخره الله تعالى له منها من خيرات وموارد، واعمار الأرض، وعدم الفساد فيها، وإفساد بيئتها بالتلوث، على قاعدة (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)..

***

نايف عبوش

المذياع والتلفاز والصحف والمجلات ربما فقدت الكثير من قيمتها ودورها في الحياة المعاصرة، فالوسائل الحديثة المحمولة في الجيب والفاعلة على شاشة صغيرة، تستنزف الوقت وتستحوذ على الإنتباه والتركيز في كل مكان.

فاجأني شاب بمعرفته الفياضة عما يجري في الدنيا من أحداث وهو على أتم الوعي بالأخبار، وعندما سألته عن كيفية معرفته هذه، أشار إلى هاتفه النقال: إنه يحيطني بكل شيء!!

فهل نحن أمام عصر شديد؟

من أخطر ما تواجهه الشعوب هو الوعي المتواصل، ولهذا تعمد أنظمة الحكم على التجهيل وحجب المعلومات وإشاعة التشويش والتضليل، لتحكم قبضتها على مصير الملايين، وهذا سلوك عهدته البشرية منذ الأزل.

فالثورة المعلوماتية ألغت الأمية المعرفية، فصار الناس على إحاطة بمجريات الأمور في العالم، وربما أكثر خبرة من أي خبير.

فالمجتمعات أصبحت تعرف، فكيف تجري السفن والمراكب الإبداعية في أنهار وبحار ومحيطات المعارف الفياضة؟

غيوم الأمية انقشعت من فضاءات الأنام، وانهزمت الأوهام، وتنورت الأفهام، والأجيال تتطلع للأمام، وما عادت تتقهقر وتتأمل الحطام، ولا في فراش الغابرات تنام، إنه عصر التفاعل المقدام، والسعي نحو إسقاط الجبابرة الحكام.

فإلى أين ستأخذنا الأيام؟

قال قائلهم: إنه عصر التلاحي والإنتقام، فهل ستعرف الدنيا السلام؟

فكل عارفٍ إمام!!

***

د. صادق السامرائي

هل يختار الإنسان عقيدته فعلًا؟.. أم أنّه يولد في صندوقٍ مغلق، مكتوب على غلافه ما سيكونه قبل أن يفتح عينيه؟ الطفل الذي يخرج من رحم أمّه في قرية مسلمة، هل كان يمكن أن يكون يهوديًا أو بوذيًا لو وُلد في مكان آخر؟ وإن كان الأمر كذلك، فأين موقع الإرادة والاختيار؟

إنّ العقيدة في أصلها وراثة؛ لا يملك الإنسان منها سوى التلقي في سنواته الأولى، فيشبّ على دين قومه كما يشبّ على لغتهم. لكن هنا تبدأ المفارقة: ما كان يومًا مجرّد صدفة مكان وزمان، يتحوّل مع مرور الزمن إلى يقين مطلق، إلى "حقيقة أبدية" يراها الفرد جزءًا من ذاته. والسؤال الجوهري: أهي حقيقة في ذاتها، أم عادة تحوّلت إلى قداسة؟

العقل حين يتعطّل لا يتوقف عن العمل كليًا، بل يتحوّل إلى أداة تبرير. إنّه لا يسأل: "هل هذا الموروث صحيح؟" بل يسأل: "كيف أثبت أنّه صحيح؟"؛ أي أنّه يبدأ من النتيجة التي تسلّمها بالوراثة، ثم يبحث عن مقدمات يسندها إليها. وهكذا يُستعمل العقل كخادمٍ للأهواء الجمعية، لا كحاكمٍ على الأفكار.

أليس غريبًا أن يولد كل فرد في مجتمع ما وهو يعتقد أنّه وحده يملك الحقيقة المطلقة؟ ولو جمعنا أهل الأرض جميعًا، لكان عند كلّ أمة هذا الاعتقاد نفسه! أليس في هذا التعدد نفسه برهانٌ على أنّ ما نظنه يقينًا قد يكون مجرد موروث عابر؟

إشكالية الهوية

وراثة العقيدة تختلط بالهوية اختلاطًا شديدًا، حتى يصعب على المرء أن يميّز بين ما يؤمن به عقليًا، وما يلتزمه اجتماعيًا. كثيرون لا يدافعون عن الدين من حيث هو دين، بل من حيث هو راية القبيلة، أو شعار الجماعة. لو أنّ المرء غيّر دينه، لاعتُبر خائنًا قبل أن يُعتبر باحثًا عن الحقيقة. أليس هذا دليلاً على أنّ الدفاع عن العقيدة في كثير من الأحيان ليس دفاعًا عن فكرة، بل دفاعًا عن انتماء؟

قد يُقال: وما المانع أن يرث الإنسان عقيدته ثم يبقى عليها ما دام مقتنعًا بها؟ الجواب: لا مانع في ذلك، إذا كان الاقتناع وليد بحثٍ ومساءلة. لكن الخطر أن يظلّ العقل عاطلًا، راضيًا بما وجد عليه آباءه، لا يجرؤ على طرح السؤال الأول: "لماذا أؤمن بهذا؟"

إنّ الفرق بين الإيمان الحق والإيمان الموروث هو الفرق بين من يسير في طريق لأنه اختاره، ومن يسير فيه لأنه لم يعرف غيره. الأول قادر على الدفاع عن عقيدته بالحجة، والثاني لا يملك سوى الصراخ والاتهام.

لو قُدّر لكل إنسان أن يولد في دين مختلف، لكان مقتنعًا به بالقدر نفسه الذي يقتنع الآن بعقيدته. فهل هذا يعني أنّ جميع العقائد صحيحة؟ أم أنّ الخطأ يتوزع بينها كما يتوزع الصواب؟ وهل الإيمان إذن نتاج الحقيقة أم نتاج البيئة؟ هذه أسئلة لا يريد "العقل العاطل" أن يواجهها، لأنها تهدد استقراره وراحته. لكنّ العقل الفاعل لا يخافها، بل يبدأ منها ليصل إلى يقينٍ أرسخ.

وراثة العقيدة قدر، لكنّ بقاء العقل عاطلاً اختيار. نحن لا نملك أن نختار أين وُلدنا ولا ماذا ورثنا، لكننا نملك أن نختار كيف نواجه ما ورثناه: هل نحمله كما هو كصندوق مغلق، أم نفتحه ونفحص محتوياته؟

الحقيقة لا تُهان بالبحث، إنما يُهان الإنسان حين يعطل عقله باسم الحقيقة.

***

بقلم: د. علي الطائي

القرن الحادي والعشرون قرن تشتت الإنتباه، وفقدان قدرات التركيز لأكثر من بضعة لحظات، والتفاعل الآني مع المستجدات وتدفق المعلومات عبر شبكات التواصل، التي إمتلكت البشر بأجهزتها المتسارعة التطورات والإبتكارات، فما عادت العلاقات كما كانت في القرن العشرين، وفقدت المشاعر الإنسانية حرارتها وطعمها.

إذا تكلمت لا يصغون وربما يلتقطون نسبة ضئيلة مما ذكرت، ويتمثلونه في طاحونة اللحظة الإدراكية، ويتوصلون إلى ما لا تعنيه، بل ما أيقظته فيهم من تصورات وتفاعلات.

أما إذا كتبت فأنهم لا يقرأون، فلا قدرة لديهم على متابعة السطور، والتفكر والتمعن والتأمل، إنها إرادة اللحظة الفاعلة في أرجاء وجودنا المندحر في شاشات صغيرة، والذي يعزلنا عن محيطنا ويدخلنا في عوالم إفتراضية، وسرابات متهادية في فضاءات خيالنا المشرئب نحو المجهول اللذيذ التوقعات.

الشاشة التلفازية إنحسر دورها وتأثيرها، ووسائل الإعلام تعرّت توجهاتها وما تسعى إليه من آليات صناعة الآراء، وما تبثه من أكاذيب وأضاليل، فوسائل التواصل المعاصرة أفرغت الوقائع من محتواها، ووضعتها أمام أنظار الصورة والحدث الموثق، والشواهد والبراهين الدامغة، التي حاصرت الأكاذيب والإدعاءات، وما عادت وسائل الإعلام تمتلك القدرات الخداعية اللازمة لتأكيد إرادتها وتحقيق أهدافها المرسومة، القاضية بتحويل البشر إلى قوة مضادة لوجوده وتقرر مصيره كما تريد.

ووفقا للمعطيات المعاصرة فأن أساليب التفاعل عبر الخطابة والكتابة عليها أن تتماشى مع مفردات الواقع المعاش، وأن تمتلك القدرة على الإختصار والتأثير، ولا بد من إستحداث مفردات متوافقة مع قدرات الأجيال المتوافدة إلى سوح التواصلات المتسارعة.

فالخطابات المسهبة لا تنفع، والكتابات الطويلة لا تؤثر بل تنفر، والمواقع المركزة على الصورة الشخصية ما عادت مرغوبة، فالمتلقي يريد الخلاصة أو الزبدة، ويهمه الوضوح والمباشرة، ولا يعنيه التفكر وقراءة ما بين السطور، فذلك زمن تولى، وأصبحنا في عصر الأنوار الساطعة، والأخبار القاصعة.

رحم الله القرن العشرين بقضه ونفيضه، وأهلا بمواكب القرن الحادي والعشرين، وعربات مسيرته المحملة بالمستجدات المتسابقة الظهور!!

فهل لنا أن نستوعب مقتضيات عصرنا؟

قرونٌ من أعاليها تداعتْ

مفتتةٌ لآخرها أصاخَتْ

مكدّسة خلاصتها بقرنٍ

إذا حقّت تسامى فاستكانتْ

عطاءُ كثيرها أثرى وجوداً

عقول الناس من فِكَرٍ أجادتْ

***

د. صادق السامرائي

منذ فجر التاريخ والانسان في سعي دائم للاستكشاف والغوص في أعماق الطبيعة لفهم قوانينها وخباياها ومعرفة اسرار ما يدور حوله من ظواهر كونية، حيث تشير الآثار العائدة لعصور ما قبل التاريخ ان الانسان ظل يبتكر ويخترع الادوات والوسائل التي تمكنه من الوصول الى غاياته وتحقيق رغباته، وقد تمكن بعد جهود مضنية وتجارب متعددة من اكتشاف العديد من الوسائل والأدوات التي ساهمت في رفاهية البشرية بدءا من اكتشاف الكهرباء والنفط ومصادر الطاقة وصولا الى شبكة الانترنيت، ومن بين الحاجات الاجتماعية التي شغلت الانسان وكانت مصدر فضوله واهتمامه هي معرفة نوع الجنين، حيث شكلت هوية المولود المرتقب هاجسا مقلقا للزوجين ولعموم الأسرة، فمنذ الاف السنين وقبل ظهور السونار ووجود المختبرات والتقنيات المتطورة كان الوسط الشعبي في العديد من المجتمعات ومن اجل الوصول الى هوية الجنين يستخدم طرق بدائية لا تعتمد على اسلوب علمي بحت او سند على صحتها ومن بينها حال المرأة اثناء فترة حملها فاذا كانت تشعر بثقل الحمل فالجنين ذكر وبعكسه فهو انثى، وايضا الاعتماد على شهية المرأة الحامل للطعام وتم التوصل أنه في حالة اشتهاء الحامل للحلويات والشكولاتة والفواكه يكون الجنين أنثى، أما اشتهاؤها للموالح والطعام اللاذع فيكون جنس الجنين ذكر. وكذلك الاستدلال من شكل البطن فيرون الانتفاخ الى الاعلى ذكر وتهدل البطن الى الاسفل انثى أو من خلال وزنها وحركتها فحسب اعتقادهم ان الحمل بالأنثى يزيد من وزن المرأة ويجعل حركتها ثقيلة، كما استخدم القدماء طرق بدائية عديدة للتوصل الى هوية الجنين حيث تشير  الرسومات الفرعونية الكثيرة التي تملأ المقابر والمعابد المصرية القديمة، ان الفراعنة القدماء استخدموا البندول لمعرفة جنس الجنين والتي كانت تتم عن طريق تمرير البندول فوق بطن الحامل، فإن دار مع عقارب الساعة كان الجنين ذكراً، وإن دار بعكس عقارب الساعة كانت أنثى، كما أن المرأة في مصر القديمة كانت تبلل حبات الشعير والقمح، بقليل من البول الخاص بها، فإذا نما الشعير يكون هذا دليل على أنها حامل في ولد، وإذا نما القمح يكون دليل على أنها حامل في بنت، وإن لم ينبت إحداهما يكون هذا دليل على أن هذا الحمل كاذب، او ان تضع المرأة الحامل عدة نقاط من حليبها على خيط من الحرير ثم ترميه على باب بيت نمل، فاذا جر النمل الخيط الى داخل البيت يكون الجنين ذكرا، واذا لم يقترب منه النمل فالجنين انثى، وكذلك بواسطة الملح عن طريق إضافة مقدار من الملح على البول الخاص بالمرأة الحامل بالتدريج، ويترك لمدة 5 دقائق، إذا تم ملاحظة وجود تعكر في البول فإن الجنين فتاة، أما إذا كان هناك ترسب للملح في البول فإن الجنين صبي. او عن طريق الخاتم وهى عبارة عن ربط خاتم بخيط ووضعه فوق البطن فإذا تحرك بشكل دائري يكون جنس الجنين هو أنثى، أما إذا تحرك بشكل مستقيم يمنا ويسارا يكون المولود ذكرً. وكل ما ورد من هذه الطرق يأتي من باب التكهنات التي ــ كما نوهنا ــ لا تستند الى اساس علمي موثوق به انما هي جزء من شغف الانسان بالتجريب في محاولة للوصول الى الحقيقة القطعية.

***

ثامر الحاج امين

قلة من الشعراء ألفوا كتبا في مناحي المعرفة، ومنهم أبو تمام، والرصافي وغيرهم، أما معظم الشعراء فأنهم يركزون على كتابة الشعر وإصدار الدواوين، وبعضهم كتب مذكراته أو سيرة حياته، وآخرون كتبوا مقالات جمعت في كتب.

أما تأليف كتاب عن الشعر ومفرداته وألفاظه وعباراته وأساليبه، فقلة من الشعراء حاولوا ذلك.

فتراثنا المعرفي فيه كتب عن مفردات الكتابة والخطابة، أما عن مفردات الشعر، فأنها نادرة أو لا وجود لها.

وهذه ظاهرة يصعب تفسيرها مهما أتينا من تبريرات وتسويغات، وهي من أسباب ميوعة صفة الشاعر.

فالكثير من الكلام يبدو كأنه شعر، لكنه في جوهره لا يعرف الشعر، والعديد من الشعراء، هم ليسوا كذلك، فالكلام الموزون لا يعني أنه شعر.

الشعر بحاجة إلى ألفاظ  قادرة على إستحضار المعنى وتجسيد الفكرة، وتأدية الغرض، والإنطلاق بأسلوب جذاب خلاب، يخطف القلوب والعقول والنفوس والأرواح.

وهناك العديد من المفردات التي لا يمكنها أن تكون في نص يسمى شعريا، لكن إقحامها لأسباب عروضية أو نحوية لا يعني أنها قد أدت وظيفة شعرية.

ومن أصعب الفنون أن نوضع الفكرة في كلمات  ذات معنى واضح وغرض ساطع، وقدرة على التأثير وإثارة العقل، وإلهام القارئ بما يعينه على بناء رؤية جديدة.

وتجدنا أمام كم هائل من النصوص المنشورة على أنها شعر، سواء كانت كلاسيكية أو حداثية، أو غيرها من الأشكال المستنسخة من بلاد الآخرين وماهي بشعر.

وفي الكثير منها يبدو إضطراب الأفكار جليا، وعدم قدرة كاتبها على الوصول إلى ما يريد قوله والإفصاح عنه، وكأنه لا يدري عمّاذا يكتب ولمن يكتب.

إنها حالة تخبطية أملتها إيقاعات القرن الحادي والعشرين، التي جعلت الكلمات تتطاير كالهباء المنثور.

وعندما نتحدث عن الطيف الشعري، تجدنا أمام ألف موشور وموشور، حتى لتحتار بما ترى من الألوان!!

***

د. صادق السامرائي

3\9\2021

في العراق لا توجد مكاتب نسوية للمراجع، ولا توجد جهة واضحة (بالنسبة لي على الأقل) تستقبل طلبات النساء ومشاكلهن التي هي من مختصات الحاكم الشرعي .

مكتب تديره وكيلة شرعية عن المرجع الأعلى أو أي مرجع آخر . الفقه الإمامي يقول إن المرجع له ولاية عامة في الأمور الحسبية، ومنها "ولاية من لا ولي له" (من النساء أو الأطفال).

لكن من الناحية الإدارية، لم يُنشأ جهاز نسوي موازٍ لمكاتب الرجال لمتابعة هذه القضايا، بل بقيت محصورة بالمكاتب الرجالية، وهو ما يخلق فجوة فعلًا بين النظرية والتطبيق.

أجد أن مشاكل النساء للآن لاتحمل على محمل الجد، ولايتم الأعتراف بها على نحو معلن، مع كل هذا الهدر اليومي والسنوي لحياة مئات النساء.

لا أعرف هل وصلت أحصائيات القتل اليومية لمكاتب الرجال لإيصالها الى المرجع أم لا ؟

هناك غموض في موقف المرجعية تجاه المعالجات التي يمكن أن تقدمها للنساء المظلومات ظلما لا يخفى على أحد .

أن الموجود هو وكيـلات نساء بشكل محدود، أو مدارس دينية نسائية تابعة للمرجعيات، لكنها ليست مؤسسات رسمية كالمكاتب العامة.

عمليًا، النساء يلجأن للمكاتب الرجالية أو عبر وسطاء، مع أن الفقه يقر للمرجع ولاية عليهن في بعض الحالات. وثبت هذا في المدونة الجعفرية التي أقرت أخيرا للأحوال الشخصية .

أعتقد أن للنساء الحق في أن يتم عمل مكاتب خاصة بهن لحل مشاكلهن التي أنيطت بالحاكم الشرعي دون غيره.

أين تجد النساء المرجع وكيف تصل اليه ؟

تجد الفتيات والنساء حيرة عظيمة في واقعهن دون أن يستطعن البوح بما مررن به من مآسٍ تمس كرامتهن وسلامهن الجسدي والنفسي .

لايمكن الأعتماد من قبل النساء على رجالهن في إيصال صوتهن للمكتب الرجالي، لأن الشكوى أصلا قد تكون ضد الرجل نفسه !.

أوضاع النساء تحتاج الى مكاتب أضعاف مكاتب الرجال. أرجو أن يفهم المتصدون الشرعيون فهم هذا الأمر الحساس والتعامل مع النساء، اللواتي هن نصف عدد المكلفين، لكنهن النصف الذي لايمنح الصلاحية لفعل شيء يمس حياته الشخصية بل أنها انيطت برجال ليس بالضرورة يحسنون صنعا في حياتهن، دون القدرة لهن على صدهم دون تدخل الحكام الشرعيين ليحرروهن من ظلم تسعى الواحدة منهن طويلا لأثباته للمكتب، فأنا أن تنجح بالوصول أو تخفق في سياق مجتمعي قامع كلية للمرأة !.

***

د بتول فاروق / النجف

٢/ ٩/ ٢٠٢٥

وفق التعريف فان المنافسة هي ظاهرة تنبع من جوهر النظام الاقتصادي السائد، الذي يدار من قبل النخبة الحاكمة، لتحقيق أقصى ربح لأفراد الطبقة الحاكمة في توزيع أموالهم بوسائل الإنتاج في السوق، ومن ثم التجار إلى العامل الكادح المُستغل والعاطلين عن العمل.

تقسم المنافسة إلى عدة أقسام نختصرها في قسمين هما: (التجارة والمجتمع).

 ⁃ المنافسة في التجارة:

تنشأ المنافسة بسبب تناقضات النظام الرأسمالي نفسه الذي تديره الطبقة الحاكمة، حيث يسعى كل رأسمالي إلى تعظيم أرباحه على حساب الآخرين، وتعد ضرورة مفروضة عليهم؛ فمن لا يندمج في السباق يفقد مكانته في التجارة ويستبعد.

تؤدي المنافسة بين الرأسماليين إلى الاحتكار وزيادة استغلال العمال (الموظف، طالب الجامعة، العاطل عن العمل، عمال القطاع الخاص)، حيث يتم خفض الأجور وزيادة ساعات العمل لخفض التكاليف وزيادة الربح. وبالتالي؛ إنشاء جيش احتياطي من العاطلين عن العمل، مما يضعف قدرة العمال على المطالبة بأجور أفضل وظروف عمل ملائمة.

 ⁃ المنافسة في المجتمع:

إن المنافسة الاجتماعية ليست مجرد سمة طبيعية أو نفسية للإنسان، بل هي بنية اجتماعية مخلوقة تُفرض من خلال النظام الاقتصادي السائد للنظام السياسي الحاكم، حيث يخلق هذا النظام الحاجة الدائمة للبشر (نقص في الوظائف الجيدة، السكن الجيد، التعليم الممتاز، الخ)، هذا يدفع الأفراد في المجتمع للتنافس على موارد محدودة بدلاً من التضامن ضد النظام الذي يخلق هذه الأزمة.

هنا يستغل النظام الحاكم هذا الصراع بتحويل الطبقات المتوسطة والمسحوقة ضد بعضهم البعض (المهاجر ضد المواطن، الموظف ضد موظف آخر على ترقية، الخ)، يتم إضعاف التضامن الطبقي وإبعادهم عن الإدارة الاقتصادية للنظام السياسي الحاكم، كما نراهُ واقعًا.

لذا تتحول العلاقات الاجتماعية بين البشر إلى علاقات بين الأشياء، ويصبح قيمة الفرد تُقاس بقيمته في السوق (راتبه، منصبه، ملكيته) وليس بإنسانيته أو تعاونه.

لذلك نرى إعلام السلطة الحاكمة يروج إلى الابتكار والى أن الناجح يستحق نجاحه بسبب كفاءته الفردية، والفاشل يستحق فشله. حيث يصبح الفرد في سباق شرس دائم مع جيرانه وزملائه لامتلاك أحدث السلع، كدليل على قيمته الاجتماعية. مع إلقاء اللوم على فشل الفرد نفسه وليس على النظام غير المتكافئ، مما يبرر استمرار هيمنة النخب الرأسمالية المرتبطة بالسلطة السياسية.

وتنعكس مباشرة على التعليم، حيث تتحول المدارس والجامعات إلى مصانع لإنتاج قوة عاملة، ويُدفع الطلاب للتنافس على الدرجات والفرص بدلاً من التعلم التعاوني من أجل المعرفة والتقدم المجتمعي. وفي العمل، حيث تخلق بيئات العمل الهرمية والتنافسية حالة من الخوف وعدم الاستقرار، حيث يتنافس الموظفون على البقاء والترقية، مما يمنعهم من المطالبة بحقوقهم والتعاون وانعدام حتى الصداقة بينهم، لذلك نرى الأحقاد والخيانة ونصب المكائد.

 إن الطريق إلى الإنسانية هو بالتضامن وليس المنافسة سواء (التجارة أو المجتمع)، وتوجه الأفراد نحو التعاون والإبداع الجماعي، لتحسين المجتمع بأكمله، حيث تصبح مصلحة الفرد حقيقية فقط عندما تتحقق مصلحة الجميع. لأن المنافسة ليست فضيلة بل مرض مدمر ينهي متعة الإنسان في الحياة، لذا الحل الجذري يبدأ من وعي الإنسان نفسه لربح حياته ومن ثم بتغيير النظام الاقتصادي للدولة الذي يولد هذه المنافسة.

***

حسام عبد الحسين

ليس كل ما لا يدركه العقل.. او مالا تحسه وتحيط به الحواس يجب ان ينكر.. فكثير من الموجودات غير منظورة، ولكنها موجودة فعلا .. لذلك يبقى حال الملحد.. كحال راعي إبل في صحراء الربع الخالي.. ينكر حقيقة وجود جبال الهملايا ويجحدها، لأنه لا يراها ماثلة أمامه عيانا، رغم أنها موجودة  حقيقة.. بل واكثر من ذلك نجد إن الهواء الذي نتنفسه في كل لحظة، ونحسه به جميعاً، هو الآخر شيء موجود على الحقيقة، ولكننا لا نراه..

وإذا ما انعدمت امامنا كل الحقائق من الذرة إلى المجرة... فلا شك ان حقيقة الموت اليقينية التي نواجهها يومياً في معيتنا.. والتي سنواجهها حق اليقين في ذواتنا يوماً ما مهما كابرنا.. هي أكبر برهان على تهافت الإلحاد أمام حقيقة الذات الإلهية التي خلقت الموت والحياة.. وجعلت الفناء قانونا حتميا مركزيا يطال الجميع على قاعدة (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) ..

على أنه تجدر الإشارة إلى أنه حتى الآن لم يتقاطع العلم في أدق تفاصيله ومكتشفاته مع حقائق الدين.. بل ان تناغم العلم في مكتشفاته مع القرآن الكريم اذهل العلماء والفلاسفة.. حتى بدأ الكثير منهم يعلن إسلامه عن قناعة علمية تامة دون أن يطلب منه أحد ذلك..

ومن هنا فإن الدعوات إلى الإلحاد والكتابات الهدامة.. وازدراء الأديان.. ما هي إلا تعبير عن حالة ضياع فكري..  وجفاف روحي.. واستلاب معنوي .. تغذيها عوامل كثيرة.. لعل في مقدمتها توجهات ثقافة الكسب المادي.. وضجيج مغريات العصرنة الصاخب.. وغياب التربية الدينية الصحيحة.. وغيرها..

وهكذا يظل العقل الإنساني مهما كان موهوبا، ومهما تحصل عليه من العلم، قاصرا وعاجزا عن الإحاطة بالغيب وماوراء من حقائق، على قاعدة (وما اوتيتم من العلم إلا قليلا).

***

نايف عبوش

العالم المسجور

بالتبر البراق والنفط الدفاق والنار والدمار والربح والسلاح، وبالكذب والضلال والجور والنفاق والخديعة والرياء.

وبالرغبات الفتاكة والشرور المدوية في أركان الحياة المرتعشة من رعود التداعيات الكبيرة المتواصلة في ميادين الضياع المعاصرة.

العالم المسجور

بالكراهية والبغضاء وفعاليات الثبور، وبالجوع والفقر والإمتهان والإستعباد والإذلال والحرمان والعويل والصراخ الطويل.

وبالجهل والأمية والعماء المعرفي المتنامي، الذي يردي البشر كالجراد في وديان الهلاك الإنفعالي والتفاعل العاطفي السلبي المرير.

العالم المسجور

بالأمراض التي عجزت البشرية عن الإنتصار عليها، عالم يتسيد فيه التدرن الرئوي ونقص المناعة وتقتل بعوضة الملاريا الصغيرة الملايين من البشر كل عام، وتفتك الأمراض السارية والمعدية والأوبئة بالناس فتحصد الأرواح حصدا.

العالم المسجور

بالحروب والعنف وكل إبداعات الخراب والفتك بالآخر، ويحسب المآسي المتفاقمة نعمة وإنتصار.

العالم المسجور بالرصاص وشراهة شركات بيع الأسلحة وتصنيعها، والتي تحقق أعظم الأرباح على حساب قتل الملايين من أبناء حواء حيث أسواق بضاعتها الحروب.

العالم المسجور

بالحماقات والتعصب والإنفلات الأخلاقي الذي يدمر ذات الوجود، ويطحن قلب الأرض بخنجر الويلات العنيد.

وبالظلم والطغيان والتكبر والتعنت والتجبر والإنقضاض على الآخر الضعيف، وسلب كل ما يرتبط به من حال وأحوال ومصادرة إرادته ووجوده ومستقبله.

العالم المسجور

بالأكاذيب البراقة والأضاليل الساطعة والمهيمنة على أرجاء الوعي البشري، والمتمكنة من تحويل الحشود إلى دمية تتحرك عن بعد وفقا لإرادة مالكها.

وبالخداع ووسائل غسل الأدمغة وتطهيرها من المعاني والقيم والأعراف، وضخها بما يوفر أسباب تحقيق أهداف الراغبين بالوصول إلى نواياهم الذاتية الأنانية، التي لا يعنيها سوى أن تمتلك وتتلذذ وتمعن في إشباع حاجات الذات الشرهة الأمارة بالأسوأ من السوء.

العالم المسجور

في تنور الأوجاع الحضارية والمطبوخ فوق نيران الحروب المعاصرة ذات الشعارات الإنسانية الراقية، التي تريد تحرير البشر من نفسه ورميه في فم التراب الفاغر ليزدريه.

وبالوحشة والخوف والظنون السيئة والأماني المتوحشة والحيطة والحذر، وإعتبار البشر قنبلة قد تنفجر في أية لحظة بوجه البشر.

العالم المسجور

بالإذعان لسطوة الغباء والمعادي لنداء الذكاء، يزحف على بطنه ولا يرى بعيونه إلا ما يدور في أعماقه من أوهام وبهتان وضلالات امتهان وترويع.

وفي لهيب الذات المسعورة ودخانه يتصاعد إلى عنان السماء حتى تحول إلى سهم من الأوجاع، التي إخترقت ثياب الأرض ومزقت قشرتها الجميلة وإستدعت إليها آفات الفناء.

العالم المسجور

بآبار النفط والمقيد بالنفط والمدمن على النفط، وقد ظهرت أعرضه الإنسحابية الشديدة، وهاهو في نوبة صرع متواصلة لن تهدأ حتى تنقطع أنفاسه ويموت.

هذا العالم عليه أ يستيقظ ويخرج من نفق البهتان ومستنقعات الضلالة والثبور ليرى النور ويعرف الله.

وينظر بعين أخرى إلى أخيه الإنسان الذي أصابه بالآلام والقهر والأحزان.

وعليه أن يبحث عن علاج لويلاته النفسية وآفاته العقلية لكي تنجو الأرض من شره وبطشه، ولكي لا تنتقم السماء من جوره الذي أرعب التراب.

العالم المسجور

عليه أن يحي ضميره ويوقظه من غفوته وسباته وتجاهله وأنانيته، فيدرك هذا الضمير الذي إستيقظ أن الحياة عليها أن تكون غير ما هي عليه.

وأن تتحرر من عبودية أفكار الشر وشعارات الوهم والخداع والتضليل، التي تهتك الأعراض وتخطف الأرواح وتسفك الدماء، وهي تدعي بأن الذي تحقق من أجل الخير والمحبة والسلام والتقدم.

وقد كذبوا وخدعوا وما خدعوا إلا أنفسهم وما الله بغافل عما يعملون!!

***

د. صادق السامرائي

 

تبدأ رحلة الإنسان على هذه الأرض لا كخطٍّ مستقيمٍ مرسومٍ بصرامة العقل، بل كأمواجٍ متلاطمة بين مدٍّ وجزر، بين قمةٍ يتلألأ فيها الإنجاز، ووهدةٍ يتهشّم فيها القلب قبل الجسد. فالسقوط ليس دومًا مادّةً تُرى بالعين، بل قد يكون اصطدامًا عنيفًا للروح بذاتها، حين تواجه النفس حقيقتها عارية بلا أقنعة. هناك، حيث الألم لا ينزف جرحًا بل يقطر وعيًا، يتجلى الانكسار كبداية لا كخاتمة، ويتحوّل الوجع إلى بشارة تغيير، ونبوءة يقظة، وجرس دعوة إلى تأملٍ عميقٍ وتحولٍ داخلي.

في تلك اللحظة الفاصلة، يقف الإنسان أمام مرآةٍ خفية، يسائل ذاته لا عن زلاتها الظاهرة فقط، بل عن جذور دوافعها وظلالها الغامضة. يتأمل صراعه الداخلي كما لو كان ينظر في صميم روحه، حيث تتجلى التناقضات وتنكشف المكبوتات. ومن بين هذا الركام، تولد الإرادة من جديد: إرادة لا للنهوض بالجسد وحده، بل للقيام بالوعي ذاته، وعيٍ فلسفيٍّ يبحث عن المعنى خلف ستائر الوجود. وكما قال يونغ: "لا وعي بلا ألم"؛ فالألم هو المخاض الذي يولّد بصيرة، وهو البوابة التي نعبر منها إلى ذواتنا الأعمق، لنجد في ظلمة السؤال نور الفهم، وفي قسوة التجربة بذور الحكمة.

ويمضي الإنسان في دروبه، مترنحًا بين العواصف وضجيج العالم، لا بخطوات الواثق من الطريق، بل بعزيمة المستند إلى إيمانه بأن وراء كل محنة حكمة. تغيم الرؤية أحيانًا بغبار الحياة، وتثقلها أوهام المعرفة السطحية، وضغوط المجتمع، ومخاوف الوعي الجمعي. لكنّه رغم كل شيء، يحدّق في الضباب، يعثر ثم ينهض، يتأممل ثم يعيد التأمل، مدركًا أن الحقيقة ليست عطية تُسلَّم دفعة واحدة، بل هي جوهرة تستخلص ببطء، حبةً حبةً، من بين غشاوة الإدراك المحدود. إنها عملية بناء مستمر للمعنى، وليست اكتشافًا لسرٍّ مكتمل.

وحين يشيخ الجسد وتغدو النظرة مثقلة بسنينٍ عاصفة، يحدث التحوّل العظيم: ليس فقط في العين التي وهنت، بل في البصيرة التي أنضجتها التجارب. يرى الإنسان حينها الأشياء لا كما كانت تُرى في ربيع العمر، بل كما صاغتها السسنون وحرقتها التجارب. لم تعد الخبرات صورًا عابرة، بل صارت خرائط وجودية ترشده في إدراك العالم. يغدو مهندسًا لا لبيته المادي فحسب، بل لحلمه الوجودي، لمصيره، ولمعنى وجوده. وكما أشار أرسطو: الحكمة العملية فضيلة عقلية، تمكّن المرء من اتخاذ القرارات الصائبة. إنها حكمة تتجاوز حدود الفكر لتصبح فعلًا وجوديًا وأخلاقيًا.

تلك الحكمة لا تولد من قراءة الكتب وحدها، بل من احتراق الروح في أتون التجربة. هي عصارة جراحٍ صقلت العقل، وأفراحٍ وسّعت القلب، فالتأمت شظايا الوجود في لوحة واحدة، مليئة بالبصيرة. يمضي بها الإنسان واثق الخطى، لا مضطربًا يلهث خلف السراب؛ بطمأنينة من رأى ما وراء الأفق، وذائقة من قطف قبسًا من نور الحكمة يهتدي به ويهدي به الآخرين. عندها يبلغ ذروة الرحلة: حيث تتحد المعرفة بالحياة، ويصير الوعي حكمة مجسَّدة.

هذه هي حكاية الإنسان: حكاية سقوطٍ لا يُميت، بل يُعلِّم، وحكاية بحثٍ لا ينططفئ بل يسمو بالروح. إنها قصة كل عقلٍ عطش للمعنى، وكل روحٍ تطلب النور، حتى وإن لم تجده إلا ساعة تفلت اليد من حبال الدنيا. وكما قال فيكتور فرانكل: "لكل إنسان سعيٌ فريد نحو المعنى"؛ وهذا السعي هو ما يمنح الحياة قيمتها، ويرفعها من مجرد بقاءٍ بيولوجي إلى تجربة إنسانية سامية، مليئة بوهج الوعي ونور الحكمة.

***

حميد علي القحطاني

 

لاشك أن الثورة الصناعية أحدثت منعطفا هائلا في تاريخ الإنسانية، من حيث زيادة الإنتاج، وتوسيع دائرة الرخاء المادي، والتخفيف من الجهد العضلي الذي كان في السابق يستنزف حياة الإنسان وسعادته. إلا أنها في المقابل هدمت الكيان الأخلاقي، وهزت كثيرا من القيم المعنوية والمثل العليا، بعد أن صارت الأرباح الطائلة عنوانَ المرحلة، وجنيُ المال أولويةً يهون في سبيلها كل شيء.

اتجهت المثل والقيم بكليتها إلى تحسين المستوى المادي، وإشباع الرغبات الحية، حتى قال سليفيد جيزيل في كتابه(النظام الاقتصادي الطبيعي): " إذا تعارضت أعمال الرجل مع آرائه الدينية، فيجب أن يعاد النظر في هذه الأفكار." بمعنى أن يخضع الدين والأخلاق لمتطلبات الحياة الاقتصادية، أو فليبتعدا معا عن ساحة النضال المادي! لكن أمام تزايد مظاهر الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي، ارتفعت الأصوات مطالبة بالمزيد من تخليق عالم المال والأعمال، وتحرير النشاط الاقتصادي مما يسميه جون غالبريث "الاحتيال البريء".

 للتخفيف من سلبية النظام التنافسي داخل الشركات ومواقع العمل، أصدر تشارلز دايغرت كتابه (النجاح جهد جماعي) للتأكيد بأن التخلص من الأداء الرتيب والخالي من التعاون والإبداع في فضاء العمل، يقتضي استبدال جيل "أنا" بجيل "نحن"، وتبديد مناخ السلطة المطلقة الذي يخنق الإنجاز الفاعل. ويقترح فلسفة ضمنية ينبغي أن تحكم- برأيه- الأداء المهني والسعي للنجاح، وتتمثل في التحرر من التنافسية القائمة على بذل الجهد الشخصي، في مقابل التعاون الخلاق القائم على احترام الذات، ومساندة الفريق لكل خطوة إبداعية تتطلب قدرا من المخاطرة.

 إن الأمر أشبه بالدرس الذي يقدمه مجتمع النحل حين يداهمه شتاء قارس، حيث تتكتل النحلات لتؤلف ما يشبه الكرة، مع حرص على تبادل المواقع بين مجموعة الوسط ومجموعة الحافة الخارجية. وبتوحيد الجهود تتمكن هذه الحشرة الفريدة من التغلب على المخاطر.

لا يُخفي المؤلف ضجره الواضح من التنافس التناحري، ونظام الأوامر الصارمة الذي ينتهي بالأطر العاملة إلى جهد يفتقر للحركة والمبادرة، لذا يختتم دليله متطلعا إلى أثر طيب على قارئه بالقول: اِعقد العزم على أن تصبح أحد أفراد فريق عمل جماعي، وسيدهشك حقا سرعة تحول العالم بين يديك!

في خضم السعي لتحقيق النجاح يندفع المرء أحيانا خلف طموحه وأهدافه إلى الحد الذي يؤثر سلبا على روابطه الاجتماعية. وتَدعم ظروف العيش في عالم متقلب أسباب تفكك الروابط، وتعزيز أنانية الفرد والاحتفاء بجهده الشخصي. لكن ريتشارد دين، رجل الأعمال والمحاضر الشهير في مجال التحفيز، يرى أن واحدة من مآسي العالم الحديث هي تحطم وحدة الأسرة، وأن النجاح الحقيقي يستمده المرء من كونه جزءا من عائلة، يحظى فيها بالأمان والدفء والعاطفة.

يظهر عنوان الكتاب للوهلة الأولى مثيرا للامتعاض، فعبارة "اِنجح من أجل نفسك" تبدو جافة وخالية من أي دفء إنساني، شأنها في ذلك شأن العديد من الإصدارات المتعلقة بالتحفيز الذاتي والثقافة المالية وتحقيق الثراء؛ حيث الحياة أشبه بحلبة مصارعة، وعلى المرء أن يرقص فوق الحطام ليثبت مقدرته!

على امتداد ستة عشر فصلا، يُبدي المؤلف انشغاله بتحرير قدراتك الكامنة لبلوغ النجاح، والعيش في حالة من السعادة. ويحدد الهدف من الكتاب بأنه سعي للوصول إلى فهم مبدأ الإنجاز الإنساني، من خلال القراءة والاستماع لأشخاص أكثر حكمة، حققوا قدرا كبيرا من الثراء. لكنه يستوقفك في الفصل السابع عشر ليتحدث عن الكلفة الاجتماعية للنجاح الفردي، وكيف أن السعي لتحقيقه حال دون التمتع بمزايا العائلة الكبيرة. يقول المؤلف: « بفعل حكمة الكبار كانت العديد من المشاكل يتم حلها، وكان يتم توجيه الأطفال وتهذيبهم، وحتى مع وجود عجز في الأموال كان المجتمع يتآزر ليتخطى المحنة. وكانت البنات بعد الزواج تقابلن أمهاتهن بانتظام، فكانت المخاوف والضغوط تتشارك وتقلّ، بالإضافة إلى الحصول على استشارة أو نصيحة حكيمة، وكان نادرا ما أن يشعر شخص بالوحدة».

إن التركيز الشديد على الأهداف المادية يمكن أن يخلف دمارا على المستوى الأسري، لذا فتحقيق السعادة والنجاح يستلزم بالضرورة تقدير الآخرين وكسب احترامهم. وفي هذا الصدد يسطر المؤلف جملة من التوجيهات التي يمكن اعتبارها "قانون النجاح"، من بينها:

- تناول الطعام معا بشكل منتظم !

- مشاركة الآراء.

- ضاعف فرص السعادة !

- كن حيثما يحتاج إليك الآخرون !

- أظهر مشاعرك !

- جامل أسرتك !

إلى غيرها من النصائح التي يؤمن ريتشارد دين بأنها كفيلة بتقوية الأسرة، وهو ما سيتحول برأيه إلى منصة إطلاق للنجاح المرتقب.

ولأن عالم الشركات لا يخلو من احتدام وتنافس يصل حد الضرب تحت الحزام، فإن تحقيق النجاح السريع وزيادة الأرباح يبدو خاضعا لمعايير غير أخلاقية، وفلسفة أعمال متحررة مما يحفل به عالم المُثل من قيم ومبادئ. غير أن تشارلز جي كوك في دليله (علم النجاح) يعرض لتجربة رائدة خاضتها شركة صناعات كوك، لتصبح واحدة من أهم الشركات الخاصة حول العالم. فمنذ عام 1961 تمكنت الشركة من مضاعفة قيمتها الدفترية ألفي مرة، باعتماد "الإدارة القائمة على السوق"، وهي فلسفة تعتمد خمسة مبادئ أساسية: الرؤية، والفضيلة، والموهبة، والعمليات المعرفية، ثم حقوق اتخاذ القرارات والحوافز.

يؤمن المؤلف بأن أي مؤسسة ناجحة لا يمكنها أن تصمد مع مرور الزمن وتتفوق على غيرها، إلا من خلال اهتمامها بالفضيلة إلى جانب الموهبة. وتقوم ثقافة الفضيلة داخل مؤسسة كوك على تبني قيم أساسية مدمجة في المبادئ التوجيهية للإدارة القائمة على السوق، وفي مدونة قواعد السلوك الخاصة بها. وأهم تلك القواعد تتمثل في الأمانة، واحترام الآخرين وممتلكاتهم، وتحمل المسؤولية، والأخذ بزمام المبادرة، والتصرف بنزاهة وفي إطار القانون.

وبما أن ثقافة الشركة تتحدد بسلوك أعضائها وليس بما يفرضه قادتها من قواعد فحسب، فإن مؤسسة كوك تحرص على أن توجه ثقافة الفضيلة سلوك موظفيها، وأن يشكل القادة نماذج إيجابية يُحتذى بها؛ فتبني الترقيات والرواتب على مدى كفاءة العاملين في تطبيق تلك المبادئ، كما تتخذ الإجراءات التأديبية حين لا يتصرف العامل بمقتضاها، ولو تمتع بالموهبة والكفاءة. فالفضيلة، يقول كوك، دون الموهبة المطلوبة لا تحقق قيمة. بيد أن الموهبة دون فضيلة خطيرةٌ، ويمكنها أن تُعرض الشركة والموظفين الآخرين للخطر؛ فالموظفون الذين لا يتمتعون بالفضيلة بالدرجة الكافية، ألحقوا أضرارا بالشركات أكثر بكثير من أولئك الذين لا يتمتعون بالموهبة الكافية.

إن أضمن طريقة لاحترام القانون هي أن تسن قانونا محترما، يقول الكاتب الفرنسي فردريك باستيا. ومكمن ريادة مؤسسة كوك يتجلى في تحقيق انسجام دائم بين تعظيم ربحية طويلة المدى للشركة مع الحفاظ على قواعد السلوك القويم.

تبدو أغلب الإصدارات المتعلقة بالنجاح والتحفيز الذاتي مفعمة بالرومانسية، وساذجة في بعض الأحيان حين تعد قوائم للمشاهير ورجال الأعمال الذين نجحوا، بغض النظر عن المقصود بالنجاح: هل هو كسب احترام وتقدير المجتمع، أم تحقيق الثراء ولو بمقاييس غير أخلاقية، يستوي فيها لاعب البيسبول مع مدير مصنع للأسلحة! وبالنظر إلى الضغوط النفسية التي يُولدها السعي للإنجاز وتحقيق الطموحات في عالم شديد التعقيد، فإن صناعة النجاح بحاجة إلى بوصلة أخلاقية تضبط حركة الفرد، وتستلهم من ثوابت دينه ومقومات مجتمعه ما يُشكل لبنات حاضره ومستقبله.     

 ***

حميد بن خيبش

تميز الكاتب المبدع، والأديب اللامع الاستاذ عبد الستار  الجوعاني بأسلوب كتابة ادبي رفيع، ذي طابع قصصي ممتع، في سرد مقالاته وخواطره الأدبية .

ولا ريب أن الكتابة هي موهبة فطربة ابتداءً، كما هو معروف، تصقلها التجربة والخبرة المتراكمة مع الزمن مهنيا وابداعيا.. مع أنها تظل حالة فطرية، وليست بالضرورة حالة اختصاصية محضة، يمكن اختزالها بالتحيصل الأكاديمي فقط، اذ إن صقلها وتعميقها بالممارسة المهنية، يرتقي بأداء الكاتب، وبوهجها، إلى آفاق ارحب من الرصانة المتكاملة، فنيا وادبيا، وهو ما دأب عليه الكاتب عبدالستار الجوعاني، وجسده في كتاباته السردية لنصوصه باسلوبه ذي الطابع القصي، حيث نجح في توظيف موهبته الإبداعية، في تحرير نصوص منشوراته ببلاغة، وتكثيف صورها بأسلوب سردي مرهف، يأسر المتلقي، ويشده للتفاعل معها بشغف.

ولا شك أن كاتبا بهذه المواصفات اللامعة، يشكل ظاهرة إبداعية، وطاقة واعدة جديرة بالتلميح، والإعجاب، بما تعكسه كتاباته من اقتدار لافت، وموهبة ذاتية، تمنحه فرصة الحضور الإبداعي الرصين في الساحة الأدبية والثقافية بجدارة.

 ولعل تفاعله مع الحاضنة الثقافية في ديرة النشأة، بما هي بيئة حركية، تتسم بثراء زاخر، من الطاقات الشبابية الإبداعية في الكتابة والنظم والقصيد في مدح الرسول، بجانب ما تزخر به من اختصاصات مهنية وعلمية وغيرها، إضافة إلى معايشته معطيات الحداثة، واحتكاكه باعلام الفكر والثقافة، ووسائل الإعلام فيها، ناهيك عن سعيه المتواصل في تحصيله العلمي والشخصي للمعرفة، كانت كلها بتفاعلاتها المتنوعة، عوامل تغذية، وتفجير لطاقته الكامنة، وموهبته المتوقدة..

وهكذا يظل الكاتب المبدع عبدالستار، موهبة إبداعية متوهحة حقا، وطاقة واعدة، ومتوقدة، تجلب الإنتباه، وتستحق الإشادة والثناء، والاطراء..

***

نايف عبوش

عجز الموازنة الحكومية يحصل عندما تكون ايرادات الموازنة اقل من المصروفات المقررة في تلك الموازنة وعندما يكون من الصعب إجراء اي تخفيضات في المصاريف.

والنقطة المهمة هي كيفية تمويل ذلك العجز. اذ قد يتم تمويله بمصادر حقيقية او قد يتم تمويله بمصادر غير حقيقية.

المصادر الحقيقية هي اما اصدار سندات تمويل الموازنة بآماد معينة وبفوائد معينة يمكن بيعها في الداخل او الخارج.

ومن يشتري تلك السندات في داخل البلد فأنه يتخلى عن ادخاراته ويحولها الى الحكومة لكي تقوم بانفاقها كانفاق عام على حساب الانفاق الفردي اذا كان من اشترى السندات ينوي انفاق مبالغ شراء السندات وقرر تأجيل انفاقه لقاء الحصول على الفائدة. واذا كان ينوي ايداع مدخراته في البنك

وقرر تغيير قراره والتحول لشراء سندات الدين الحكومي، فأنه يقلص الودائع المتوفرة لدى البنوك لغرض اقراضها للمستثمرين من القطاع الخاص.

لذلك فأن تمويل العجز بهذه الموارد الحقيقية يؤدي الى خفض الانفاق الاستهلاكي الخاص ولكنه يرفع الاستهلاك العام           (الحكومي) بنفس المقدار. كما انه يخفض من امكانيات تقديم البنوك للقروض للمستثمرين الافراد.

أما اذا قامت الدول الاجنبية بشراء تلك السندات (كما تستثمر الكثير من الدول فوائضها في سندات الخزانة الامريكية)، فأن ذلك يعني زيادة الانفاق الاستهلاكي الحكومي بدون تخفيض الانفاق الخاص، مما يؤدي الى ارتفاع الطلب الكلي بدون وجود زيادة فورية في الناتج المحلي الاجمالي.. وعند عدم وجود مرونة كافية في الجهاز الانتاجي تستجيب بسرعة لهذه الزيادة،فأنها تتحول الى ضغوط تضخمية. ان ذلك بمثابة استحواذ طوعي على فوائض الدول الاخرى لغرض استهلاكها في الولايات المتحدة مقابل دفع الفائدة.

وقد تقوم الحكومة ببيع بعض الاصول الحكومية لتمويل العجز. وهي مصدر تمويل حكومي حقيقي. وقد تقترض من دول او مؤسسات اجنبية لتمويل العجز.. ولكن التمويل غير الحقيقي يحصل عند طباعة العملة او الاصدار النقدي..

وحسب مافهمته من مقالة نشرتها سيدة مختصة في الاقتصاد قبل ايام، فأن وزارة المالية تخصم كمبيالات لدى البنك المركزي وهي طريقة تعني مايقابل طبع العملة او الاصدار النقدي..

الاقتصاد العراقي ليست لديه مرونة انتاجية وبالتالي لايستطيع التكيف لمواجهة الطلب الزائد .. كما ان الاستحواذ التام على الودائع لدى الجهاز المصرفي كاقتراض حكومي، سوف لن يترك للبنوك التجارية اية امكانية لتمويل المشاريع الاستثمارية.

هذا ضار للتنمية بالطبع..

***

د. صلاح حزام

منذ ايام وانا اشاهد احتراق واحتراقات صديقي المبدع شوقي كريم وكلما تعمقت بقراءة ماينتج من احتراقاته يحاصرني الخوف ويغلبني الوجع..

كيف لا وشوقي اخترق المسكوت عنه ورمى بقدسية الصمت عرض الجدار وبكى بغزير الدمع عند كل طلل من اطلال حياتنا الماضية وابكانا معه ووقف ووقفنا على اطلال طفولتنا المعذبة وقرب اطلال مشاكساتنا البريئة التي غالبا ماتنتهي (بسطره وشتيمه وامشي مناه) ووقف على الغراف كطلل.

وبين اروقة المدرسة الابتدائية كمثله وعمل مثل هذا مع الشاكرية والشط والكنيسة واطلال الكتب والمسرح والدراما وبكى اكثر وهو يستذكر فطيم وحنانها وحمايتها له وكذلك حسن كريم رغم قساوته معه وشعر بالوجع يشل خاصرته وهو يقف امام اطلال الزنازين وقرارات مصادرة الحرية وخالط الدم الدمع وهو يستذكر الراحلين بلا اياب

لكن لماذا كل هذا البكاء يا ابن فطيم؟

هل هو التخفف من ماتزاحم بين جنبيك؟

او انك شعرت بالخواء فاجتررت ماضي فيه الكثير من المرار والشحيح من الحلو؟

اول انك تريد اخبارنا ان من كان شقيا في طفولته لن يتعرض له الزهايمر في كهولته؟

لماذ تعيد الحسابات بدقة يأبن كريم؟

هل رايت بشعور خفي دنو الرحيل فاستعرت من الهنود طريقة حرق موتاهم ونثر رمادهم فوق الانهار والأشجار والفيافي فاحرقت ماجاش بصدرك من الام وامال ونثرته فوق رؤوس الجميع؟

شوقي..

مايخيفي هو السر الذي يقف خلف هذا الاحتراق

ومايؤلمني هو اقتراب الرحيل مع اني لا اخاف الموت لكني اكره الفقد

اعترف..

اني تتنازعني مشاعر شتى جراء ماكشفت لكني عاجز عن ترجمة تلك المشاعر.

***

راضي المترفي

 

الطائفية، والعنصرية والمذهبية والحزبية وما يتصل بها جميعا من تفرعات، هي تعبيرات جماعية مخادعة ومضللة عن العدوانية الكامنة في دنيا البشر.

والعدوانية سلوك يتسم بالعنف والعداء بأنواعهما، وتلعب العوامل البيئية والإعلامية والإعتقادية في مجتمعاتنا الدور الأكبر بإطلاقها من معاقلها.

الطوائف (مجاميع من الناس)، قد تسمى قبيلة، أو عشيرة، وأمثالها، تكيسات مندملة تتجمع فيها أقياح توحشيه تسعى للتعبير عن شراستها وتشوقها لسفك الدماء.

وتلك سكة المسيرة الآدمية فوق التراب، الذي يدعوها لسقيه بالدماء.

الصراع داينمو الحياة، ولابد من تأهيل عناصره وتفعيلها بعوامل مساعدة تؤجج التصادمات العنيفة، التي تسمى حروبا وصراعات بين المجاميع المتباينة الرؤى والتصورات والمعتقدات.

فهل وجدتم أحزابا أو طوائف ومعتقدات تتآلف؟

ويمكن للمجتمعات النجاة من عدوانبتها الكامنة فيها، بتصريف طاقتها بأساليب إيجابية وتجنب المؤججات، وهذان أهم عاملين في تهذيب السلوك العدواني وجعله لصالح البلاد والعباد.

فتصريف طاقة العدوان تكون بإطلاق المشاريع النافعة للناس، واستثمار وقتهم بالبناء والعمل الجاد الذي يحقق الحياة الطيبة لهم، ولابد من الابتعاد عما يغذي السلوك العدواني من خطابات وكلمات، وآليات في وسائل الإعلام الموجهة للاستفادة من التفاعلات السلبية بين الناس.

و"ألد أعداء الإنسان نفسه"!!

طوائفها لعدوانٍ خطاها...كتعبيرٍ عن الفحوى تراها

فما عرفت سلاما واتفاقا... ولا نظرت لعاقبةٍ نهاها

تلاحت من جهالتها لدنيا...وتاهت في مزاعمها خطاها

***

د. صادق السامرائي

 

في الأيام الماضية ظهرت مرشحة سياسية في ولاية تكساس، تُدعى فالنتينا غوميز، في فيديو وهي تحرق القرآن الكريم باستخدام قاذف لهب وتقول: "سأنهي الإسلام في تكساس فليساعدني الله."

هذه المرشحة ترشحت لمجلس النواب، وتظن أن الطريق للفوز وكسب الأصوات هو بإهانة دين أكثر من مليار ونصف إنسان، والتحريض ضد ملايين المسلمين الذين يعيشون في أمريكا بسلام ويشاركون في بنائها.

لكن أي فوز هذا الذي يقوم على إشعال نار الكراهية؟

إنها تستخف بالدستور الأمريكي الذي ينص بوضوح على حرية الدين ومنع التمييز على أساس العقيدة. أمريكا بلد التعددية، جاءها المهاجرون من كل الأديان والأعراق. نحن كمسلمين وعرب، سواء من العراق أو غيره، جئنا ضيوفاً نحترم القوانين ونساهم في المجتمع، فهل يكون جزاؤنا التحريض ضدنا وحرق كتابنا المقدس؟

الإنجيل الذي تستشهد به هذه المرشحة يرفض أفعالها:

"أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم." (متى 5:44)

"من لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة." (يوحنا الأولى 4:8)

فأين هي من هذه الوصايا؟ هل بهذه الطريقة يُنشر الإيمان؟

والقرآن نفسه يكرّم السيد المسيح (عيسى عليه السلام) ويذكره بالاسم مراراً، ويصفه بأنه كلمة الله وروح منه، ويبشّر بعودته في آخر الزمان لنشر السلام والعدل، لا الكراهية والقتل.

كيف يمكن لعاقل أن يدعو للقضاء على الإسلام بينما الإسلام يجلّ نبيّه؟

إن هذه الأفعال لا تهدد المسلمين وحدهم، بل تهدد المجتمع الأمريكي كله. كما قال المسيح:

"كل مملكة منقسمة على ذاتها تُخرب، وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت." (متى 12:25)

خطاب الكراهية ليس حرية تعبير، بل تحريض على العنف. والمفترض أن يُحاسَب كل من يحاول بناء حملته الانتخابية على تمزيق المجتمع وإشعال نيران الحقد بين أبنائه.

أمريكا التي نحبها هي أرض الحرية والعدل، وليست أرض التحريض والتمييز

فلنقف جميعاً ضد أي صوت سياسي يريد أن يفوز على حساب حقوق الآخرين وحرياتهم. الله محبة، والمسيح والإسلام معاً يبشران بالسلام، وهذا هو طريقنا جميعاً.

***

رائدة جرجيس

 

ما أرخص البشر، وأسهل قتله بالجملة وبالمفرد، وحرمانه من أبسط حقوق الحياة وأسباب العيش الرحيم.

فالملاحظ أن القتل أصبح أمرا عاديا واعتادت عليه المسامع في المجتمعات الحرة التي ترفع رايات حقوق الإنسان.

فما أوفر السلاح الشخصي والجماعي بمدافعه وقنابله وصواريخه ومسيراته ووسائله الإبادية المرعبة.

ويتوارد في وسائل الإعلام المتنوعة ذكر الأعداد، وكأن البشر أرقام وحسب، فيذكرون مات ألف أو عشرة آلاف، وطمرتهم بيوتهم ومحقت عوائل بكاملها في مساكنها، واعتادت المسامع على هذه الجرائم البشعة، وبالتكرار الممل صار الناس يسمعونها وكأنهم يسمعون خبرا لا قيمة له.

ومما نغفله، أن ما يحصل هو إعداد نفسي وتأهيل للرأي العام لتقبل المآسي التي ستأتي، فعندما ينتشر خبر مقتل مئات الآلاف بضربة هنا أو هناك، يتقبلها البشر الأحياء، ويتناسون بأنهم على طريق الإفناء.

وهذا يعني أن البشرية تسير نحو الهاوية، والحرب العالمية المروعة تقرع أجراسها.

الأرض تميز غضبا، فالمخلوقات أثقلت كاهلها، وتخشى أن يتعثر دورانها، وتستباح عناصر الحياة على ظهرها، وكأن الذي جاء منها يسعى للإنتقام من وجودها، ويرغب بتحويلها إلى هباء منثور، تتنعم به الأجرام الأخرى وتستعيد مسيرتها الحامية.

التنور الدوار يتم تحضيره للإنسجار، ولات ذات مندم إذا فار التنور، وتكاثف دخان الويلات، فتختنق الصدور، ويموت البشر المدحور.

الكثرة ستغيب والقلة ستصيب، فالحياة أعلنت الممات، والدنيا يمتلكها العتاة، ويقرر مصير خلقها الطغاة، والمجانين القساة، وما أسعد النوائب بالغفاة.

الحلم فات وانخذل، وسبق السيف العذل، فانتصر هُبل!!

تؤهّلنا النوائبُ للوجيعِ

وتعلمنا بمأثمةِ الفظيعِ

جموعُ الخلق من حقدٍ أبيدتْ

مغيبةً بأوعيةِ الفجيعِ

برايا من عناصرها تنامتْ

فعانتْ من عطاءاتِ البديعِ

***

د. صادق السامرائي

 

الدنيا المعاصرة تسير على سكة البحث العلمي، ووصلت إلى مستويات تفوق الخيال في معطياتها الإبداعية المتنوعة، ودول الأمة لا تعير إهتماما كبيرا للبحث العلمي، فهي لا تعرف آليات الإستثمار في البحث العلمي وما ينتجه من حالات ذات قيمة حضارية سبّاقة.

فميزانيات البحث العلمي تكاد تكون غائبة أو بنسب ضئيلة، ولا توجد مواد واضحة في دساتير دولنا تركز على البحث العلمي وميزانيته المتنامية مع الحاجات الوطنية.

البحث العلمي يدخل في النشاطات المعاصرة بأنواعها، فلا قرار دون توصيات بحثية، ومعظم دولنا نسبة ما تخصصه للبحث العلمي أقل من 1% من الإنتاج المحلي بعكس الدول الأخرى، ولهذا تأخرنا وتخبطنا في مشاكلنا، فلا نفهم أهمية البحث العلمي ولا نقدره وندرك معطياته الإستثمارية وقدرته على تأمين المصالح الوطنية.

التطور يصنعه البحث العلمي، وبدونه تستنقع الحياة وتتمحن في أوحال العجز والإنهزام.

في دولنا لا يوجد مناخ للبحث العلمي ولا باحثين متنورين ومعاصرين بأفكارهم، ولديهم عزيمة متوثبة للعطاء الأصيل.

البحث العلمي عملية منهجية تهدف إلى إكتشاف المعرفة الجديدة، أو تطوير المعرفة الحالية بإستخدام أساليب علمية دقيقة ومنظمة، لفهم الظواهر أو حل المشكلات وتطوير العلوم ، أو الوصول إلى حقائق وقوانين علمية جديدة يمكن إستخدامها.

ويتميز بالموضوعية والدقة والمنهجية والقابلية للتحقق والإبداع.

فهل لدينا وعي بأهمية العلم والبحوث العلمية في صناعة الحياة المعاصرة؟!!

بحوثُ علومها أعطت جديداً

بفعلِ عقولها سبقتْ عديداً

هي الدنيا ايتكارٌ لا يُضاهى

أصالتها بها وهبتْ فريداً

تنبّهْ أيها المخمورُ وهماً

إذا جنحتْ فكنْ فيها رشيداً

***

د. صادق السامرائي

هل سمع به المسؤولون العراقيون؟

فرنسا تسن قانونا يسهل إعادة الممتلكات الثقافية ومنها الآثار المنهوبة من دول العالم منذ القرن التاسع عشر فهل سمعت الجهات المعنية العراقية بهذا الخبر وتحركت كما تحركت مصر وغيرها لاستعادة أثمن وأندر الآثار العراقية ومنها مسلة قوانين حامورابي الأصلية من المتاحف الفرنسية؟

جاء في تقرير إخباري نشر اليوم في وسائل الإعلام الفرنسية والعربية "أن الحكومة الفرنسية أعلنت عن مشروع قانون جديد يهدف إلى تسريع استعادة الممتلكات الثقافية التي نُهبت خلال الحقبة الاستعمارية، وذلك من خلال تبسيط الإجراءات القانونية وإشراك خبراء من فرنسا ومن الدول المعنية. ويأتي هذا المشروع في إطار توجه رسمي لمعالجة ملف الموروث الثقافي المنهوب، إذ ينص القانون على تسهيل إعادة الأعمال الفنية والمقتنيات التاريخية إلى "الدول التي حُرمت منها نتيجة الاستيلاء غير المشروع" بين عامي 1815 و1972، كإطار زمني للمراجعة، حيث يمثل العام الأول بداية حركة أوروبية لإعادة الأعمال المنهوبة خلال الحروب النابليونية، في حين يشير العام الأخير إلى بدء تطبيق اتفاقية اليونسكو الدولية لحماية الممتلكات الثقافية من الاتجار غير المشروع". وورد في الأخبار أيضا أن عدد من الدول المهتمة باستعادة آثارها الوطنية وفي مقدمتها مصر شكلت لجانا خاصة لاسترجاع تلك الآثار التي سلبت أو استولت عليها السلطات الفرنسية بطرق غير مشروعة منذ الفترة النابليونية. ولدى استفساري من أكثر من صديق متخصص في هيئة الآثار العراقية وفي المتحف العراقي -الذي رفعت عنه صفة "الوطني" لسبب في نفس يعقوب "الأميركي"!- عن الموضوع وعن الاستعدادات والتحضيرات العراقية للقيام بالواجب المقتضى حيال تراثنا الثقافي القديم اتفق جميع من سألتهم على إنهم لم يسمعوا بهذا الخبر ولم يسجلوا أي حركة في هذا الاتجاه من قبل مؤسساتهم!

من الطبيعي أن أصدق ما قاله الأصدقاء فالمنظومة الحاكمة الفاسدة التي تبيع كل شيء في العراق حتى آثاره ومنافذه البحرية كخور عبد الله وتهمل كل شيء حتى مياه الرافدين العظيمين اللذين تحولا إلى قنوات ترابية جافة لن تهتم بموضوع استرجاع آثار العراق ولو تسنى لحكام بغداد لتنازلوا عن تلك الآثار لفرنسا مقابل عدة ملايين من الدولارات وتقاسموا المبلغ حسب المحاصصة الطائفية!

أما من يقول ويتمنى أن تبقى آثارنا في متاحف الدول الغربية بحجة أن ذلك آمن وأضمن لسلامتها بحجة ما فعله مجرمو داعش بأثارنا في محافظة نينوى وغيرها، فأقول: إن كارثة التمرد التكفيري لحظة في تأريخ العراق الطويل ولا ينبغي أن يحوله البعض إلى عقد سوداء هي كل تأريخنا وتراثنا وليس معنى حدوث هذا التمرد وتدمير التكفيريين لبعض آثارنا في محافظة نينوى وغيرها أن نسلم كل بلادنا للأجنبي ليحفظها لنا في متاحفه وقلاعه وقواعده العسكرية. هذا أولا، وثانيا فإن آثارنا وآثار الدول الأخرى المنهوبة لم تكن في أمان تام وقد تعرضت للحرائق والقصف الجوي خلال الحرب العالمية الثانية كما حدث لأكبر متاحف ألمانيا في مدينة دريسدن ومتحف برلين سنة 1945، ومتاحف أخرى مركزية وتم تدمير آلاف القطع الأثرية العالمية واختفت من الوجود كما تم إهمال آلاف الآثار في مخازن أحد المتاحف البريطانية قبل عقدين من السنوات ودمرت بالكامل. وآخر حريق حدث في متحف ألماني كان في 23 شباط 2023، أما في حريق متحف لندن في 27 آذار سنة 2013، فقد نشرت أنباء عن تدمير مئات الآثار المصرية وغيرها في مخازن هذا المتحف، إضافة إلى آلاف جرائم السرقات للآثار والأعمال الفنية في أوروبا والولايات المتحدة واتساع سوق بيع الآثار على الانترنيت وفي مزادات افتراضية في عصرنا يسفه فكرة التخلي عن آثارنا وتركها لدى الدول الغربية الاستعمارية.

ورغم الخشية القوية من فساد المسؤولين العراقيين في حكم المحاصصة العراقية ومن أن يقوم بعضهم بسرقة هذه الآثار المستعادة وبيعها مجددا فإن القانون الفرنسي الجديد مهم ومفيد ويمكن بواسطته استعادة آثارنا الثمينة من المتاحف والخزائن الفرنسية وغيرها ولكن تحت الإشراف الشفاف للرأي العام العراقي وممثلين عن القضاء وبشرط إعلان كل التفاصيل الدقيقة الصغيرة والكبيرة المتعلقة بهذا الموضوع.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم