أقلام حرة

أقلام حرة

منطق الاتهام، والحسد المؤسسي

تواجه المؤسسات التي يسودها الروتين والكسل البنيوي إشكالية عميقة تتمثل في عجزها عن استيعاب الإنسان المنتج، بل تحول إنتاجيته إلى مصدر تهديد بدلاً من كونها رافعة تطوير.

وفي هذا السياق، لا يُواجَه الفرد المنتج بالتقدير، وإنما بسلسلة من الاتهامات الجاهزة التي تتكرر في مختلف البيئات غير الصحية، من قبيل: سطحية النتاج، تكراره، أو كونه خطاباً صحفياً لا يحمل عمقاً معرفياً.

إن هذه الاتهامات، على الرغم من شيوعها، لا تعبّر عن نقد علمي بقدر ما تكشف عن أزمة معرفية ونفسية لدى مُطلقيها.

أولاً: الإنسان المنتج بوصفه اختلالاً في النسق السائد:

في البيئات الكسولة، تُبنى المعايير الضمنية للقبول المؤسسي على الحد الأدنى من الأداء، لا على التميز.

وعليه، فإن الإنسان المنتج يُحدث اختلالاً في هذا النسق؛ إذ يكشف بمحض فعله اليومي هشاشة البنية القائمة، ويعرّي زيف الادعاءات المهنية لأقرانه.

من هنا، يتحول الإنتاج من قيمة إيجابية إلى (خطر رمزي) يستدعي الاحتواء أو الإقصاء.

إن المشكلة لا تكمن في طبيعة النتاج ذاته، بل في كونه يعيد تعريف السقف المقبول للأداء، وهو ما لا ترغب البيئات الكسولة في مواجهته.

ثانياً: اتهام السطحية بين وهم العمق وعجز الفهم:

يُعدّ اتهام النتاج بالسطحية من أكثر التهم تداولاً، وهو اتهام يكشف عن خلطٍ شائع بين الوضوح والابتذال.

فالخطاب الواضح القادر على إيصال الفكرة دون تعقيد مفتعل هو في كثير من الأحيان نتاج فهم عميق، لا دليل ضعف.

أما من يربط العمق بالغموض، فإنه غالباً ما يعوّض عن فقر المحتوى بتعقيد لغوي أو مفاهيمي لا وظيفة له سوى الإخفاء.

وعليه، فإن وصف النتاج بالسطحية لا يصدر غالباً عن تحليل منهجي، بل عن عجز عن قراءة العمل في سياقه العلمي والوظيفي.

ثالثاً: تهمة التكرار وسوء فهم التراكم المعرفي:

يُتهم الإنسان المنتج كذلك بتكرار أفكاره أو أعماله، في تجاهلٍ واضح لمفهوم التراكم المعرفي الذي تقوم عليه كل المشاريع العلمية الرصينة.

فالإنتاج الحقيقي لا يقوم على القفز الاعتباطي بين الموضوعات، بل على الاشتغال المستمر على مسارات محددة تتطور مع الزمن.

المفارقة أن من يطلقون تهمة التكرار هم في الغالب الأكثر جموداً، غير أن جمودهم غير مرئي لغياب أي نتاج يُقاس أو يُراجع.

رابعاً: (كلام الجرائد) كاتهام نخبوي زائف:

يندرج توصيف النتاج بأنه (كلام جرائد) ضمن نزعة نخبويّة زائفة تحتقر الخطاب العام لا لقصوره، بل لوصوله.

إن القدرة على مخاطبة شرائح متعددة بلغة مفهومة هي إحدى علامات النضج العلمي، لا دليلاً على التسطيح.

غير أن البيئات الكسولة تميل إلى تقديس الخطاب المغلق؛ لأنه يحفظ لها وهم التفوق دون جهد حقيقي.

خامساً: الحسد المؤسسي بوصفه دافعاً خفياً للنقد:

لا يمكن فصل هذه الاتهامات عن ظاهرة الحسد المؤسسي، حيث يتحول الفارق في الإنجاز إلى شعور بالتهديد، فبدلاً من رفع مستوى الأداء، يُصار إلى خفض قيمة المتميّز عبر تشويه نتاجه، وفي هذا السياق، يصبح النقد أداة دفاع نفسي، لا ممارسة علمية.

الواقع أن الفجوة بين الإنسان المنتج ومنتقديه ليست فجوة وقت أو فرصة، بل فجوة عقلية ومنهجية؛ إذ إن امتلاك الزمن وحده لا يصنع إنتاجاً، ما لم يُدعّم بالجدية والقدرة والرؤية.

إن معاناة الإنسان المنتج في البيئات الكسولة ليست معاناة فردية، بل مؤشر خلل مؤسسي عميق.

فحين يُدان الإنتاج، ويُكافأ الركود، تصبح المؤسسة عدوةً لذاتها.

مع ذلك، يبقى أثر الإنسان المنتج هو الباقي؛ لأن القيمة الحقيقية لا تُقاس بقبول الكسالى، ولا باعتراف الحاسدين، بل بما يُحدثه العمل من تحول معرفي وعملي ملموس.

***

الشيخ الدكتور ليث عبد الحسين العتابي

الجذور السومرية، البعد المعرفي، والتفسير الديني

يُعدّ علم الفلك من أقدم العلوم التي ارتبطت بنشأة الحضارات الإنسانية، وقد شكّل ركيزة معرفية أساسية في حضارات وادي الرافدين، ولا سيما الحضارة السومرية. هذا الإرث العلمي لم ينقطع بانقطاع الدول، بل انتقل وتوارثته جماعات دينية وثقافية، كان من أبرزها الصابئة المندائيون، الذين حافظوا على معرفة دقيقة بحركة النجوم والكواكب، وربطوها بنظام كوني وروحي قائم على التوحيد وفهم قوانين الخلق، لا عبادتها.

الجذور السومرية لعلم الفلك

السومريون من أوائل من:

راقبوا حركة الأجرام السماوية بشكل منهجي.

وضعوا تقاويم فلكية وزراعية

ربطوا بين حركة الكواكب وتنظيم الزمن والطقوس.

استخدموا الحسابات الفلكية لتحديد الفصول والفيضانات.

لقد كانت مراقبة السماء عند السومريين عملاً علمياً ومعرفياً لا شعائرياً فقط، وهو ما شكّل الأساس الذي انتقل لاحقاً إلى المندائيين، ليس بالجينات وحدها، بل بالثقافة المتراكمة والمعرفة المتوارثة.

ورث الصابئة المندائيون هذا الإرث الفلكي، وطوّروه ضمن رؤيتهم الدينية والفلسفية الخاصة، حيث:

اهتموا بدراسة حركة النجوم و (الكواكب) وتأثيرها الزمني، لا التعبدي.

استخدموا المعرفة الفلكية في تنظيم الطقوس الدينية وتحديد الأزمنة المقدسة.

ميّزوا بوضوح بين العلم بالمخلوق وعبادة الخالق.

في النصوص المندائية، تُفهم الأجرام السماوية على أنها علامات كونية تدل على النظام الإلهي، وليست آلهة أو موضوع عبادة.

من أكثر المغالطات شيوعاً وصف الصابئة المندائيين بـ”عبدة النجوم”، وهي تهمة ناتجة عن:

جهل بالفرق بين المعرفة الفلكية والعبادة.

خلط بين الرمز الكوني والمعتقد الديني.

قراءة سطحية للنصوص أو الممارسات الطقسية.

الصابئة المندائيون:

يؤمنون بإله واحد أحد، خالق السماء والأرض.

يرفضون عبادة أي مخلوق، بما في ذلك النجوم والكواكب.

ينظرون إلى السماء باعتبارها نظاماً إلهياً دقيقاً يدل على عظمة الخالق.

وعليه، فإن وصفهم بعبدة النجوم لا يستند إلى أساس علمي أو ديني، بل هو إسقاط ثقافي خاطئ.

تميّز الصابئة المندائيون عبر التاريخ بـ:

دقة الملاحظة الفلكية.

الربط بين الفلك، الزمن، والطقوس.

امتلاك معرفة حسابية متقدمة مقارنة بعصورهم.

وقد أسهم هذا العلم في:

تطوير مفاهيم مبكرة عن الزمن الدوري.

فهم حركة الكواكب ضمن نظام ثابت.

التأثير في مدارس علمية لاحقة في الشرق الإسلامي.

في العصر العباسي، حظي الصابئة المندائيون:

بالاعتراف الرسمي كأهل كتاب.

بالاحترام والتقدير من الخلفاء والعلماء. ثابت بن قره والبتاني

بمكانة علمية مرموقة، خصوصاً في الفلك والرياضيات والطب.

وكان يُنظر إليهم على أنهم:

حملة علم ومعرفة.

أهل نباهة وفكر.

مساهمون في النهضة العلمية الإسلامية، لا غرباء عنها.كً

إن علم الصابئة المندائيين في النجوم والكواكب هو امتداد حضاري ومعرفي عريق، جذوره سومرية، وأبعاده علمية، وروحه توحيدية. لم يكن اهتمامهم بالسماء باباً للعبادة، بل نافذة لفهم الخلق والنظام الكوني الذي أبدعه الله الواحد.

ومن الواجب الثقافي والأكاديمي اليوم:

إعادة قراءة هذا التراث بإنصاف.

تصحيح المفاهيم المغلوطة.

الاعتراف بدور الصابئة المندائيين في تاريخ العلم الإنساني.

فالمعرفة لا تُدان، والعلم لا يُعبد، بل يُفهم…

والخالق واحد، والسماء آية من آياته.

خلص البحث إلى أن اهتمام الصابئة المندائيين بالنجوم والكواكب هو امتداد حضاري ومعرفي لعلم فلكي عريق، وقد برز احد احفادهم في العصر الحديث هو العالم المندائي عبد الجبار عبد الله عالم فيريائي وانواء جوية

اذن علم الفلك هو علم لا علاقة له بالعبادة. والصابئة المندائيون يمثلون أحد أقدم الأديان التوحيدية التي تعاملت مع الكون بوصفه نظاماً إلهياً دقيقاً، يستحق الفهم لا التقديس

***

بقلم: خليل الحلي

رئيس تحرير صحيفة العهد/ سدني

في مطلع هذا القرن، بينما كان العالم يعدو بسرعة البرق، وقفت المؤسسات الثقافية وكأنها كائنات من زمن آخر. تخيلوا معي مشهدًا: كائن نبيل، حكيم، يحمل على كتفه أعباء قرون من التراث والفنون، يحاول أن يلتقط أنفاسه في عصر التويتر والتيك توك والذكاء الاصطناعي. كان المشهد يشبه جدًّا حكيمًا يحمل مخطوطات ثمينة في عاصفة رملية يحاول حماية كنوزه بينما العالم من حوله يتغير بشكل لا يعترف بالمخطوطات ولا بالحكمة التقليدية.

لطالما تحدثنا عن الثقافة ككائن حي، وهذا صحيح. الثقافة تتنفس، تنمو، تتألم، وتفرح. والمؤسسة الثقافية هي جسد هذا الكائن الحي. ولكن ماذا يحدث حين يصاب الجسد بالجمود؟ حين تصبح حركته بطيئة، وتفكيره متحجرًا، وعلاقته بالعالم من حوله أشبه بمن يتكلم بلغة قديمة لا يفهمها أحد؟

من الأرشيف المغلق إلى الفضاء الحي

كنت أزور ذات مرة مكتبة عريقة. كانت رائحة الكتب القديمة تعبق في الأجواء، والصمت الثقيل يخيم على القاعات، والموظفون يجلسون خلف مكاتبهم كما لو كانوا حراسًا لمقبرة معرفية. سألت نفسي: أين الحياة هنا؟ أين الضحك؟ أين النقاش؟ أين الاكتشاف؟

لقد تحولت العديد من مؤسساتنا الثقافية من "مساحات للحياة" إلى "متاحف للذاكرة". وأنا أحب المتاحف، لكنني لا أريد أن أعيش فيها. الفرق بين المتحف والبيت أن الأول يحفظ الماضي، بينما الثاني يعيش الحاضر ويستعد للمستقبل.

الأمل موجود. رأيته بعيني في تجارب هنا وهناك. في مكتبة تحولت إلى مكان للقاءات الأدبية وورش العمل وحتى عروض الأفلام. في مركز ثقافي صغير أصبح ملاذًا للشباب يمارسون فيه فنونهم بحرية. هؤلاء أدركوا حقيقة بسيطة: الثقافة ليست شيئًا يعطى، بل هي حوار. والمكان الثقافي ليس وعاء، بل فضاء للحوار.

 أربعة مفاتيح للحل

 الأول: إعادة تعريف الدور

لنتخيل معًا المؤسسة الثقافية كشخصية في رواية. لعقود، لعبت دور "الحارس الأمين" شخصية نبيلة لكنها جامدة. حان الوقت لتغيير الدور. ماذا لو أصبحت "المستكشف الشجاع"؟ أو "الحكيم الذي يتعلم من الصغار"؟ أو "الجسر بين الأزمنة"؟

المؤسسة الثقافية الجديدة لا تنقل الثقافة، بل تنتجها. لا تحفظ التراث فقط، بل تستنطقه ليفهمنا حاضرنا. هي ليست معبدًا للمعرفة، بل ساحة لعب للعقل والخيال.

التكنولوجيا كرفيق، لا كعدو

أذكر كيف كان والدي يخاف من "ذلك الصندوق العجيب" الذي دخل بيوتنا - التلفزيون. قال: سيفسد عقول الأطفال. ولكنه تعلم مع الوقت أن التلفزيون قد يكون نافذة على العالم.

التكنولوجيا اليوم هي نافذتنا الأوسع. المؤسسة الثقافية الذكية لا تخاف من هذه النافذة، ولا ترفضها، تتعلم كيف تفتحها على مصراعيها لتجلب النسيم العليل مع حماية البيت من العواصف.

التحول الرقمي ليس مجرد إنشاء موقع إلكتروني أو حساب على فيسبوك. إنه إعادة تخيل لكيفية عيش التجربة الثقافية. الأرشيف الرقمي قد يصبح لعبة اكتشاف، والمعرض الافتراضي قد يتحول إلى رحلة سحرية.

المفتاح الثالث: المال والاستقلال

هذه معضلة قديمة: كيف تمول الثقافة دون أن تفقد روحها؟ رأينا فنانون يبيعون أرواحهم للدعاية، ومؤسسات تتحول إلى مجرد أماكن ترفيه لجلب المال.

لكن هناك طريقًا وسطًا. طريق الشراكة الذكية مع القطاع الخاص، طريق المشاريع الإبداعية التي تجذب التمويل دون أن تفقد الجوهر، طريق المجتمع نفسه الذي يدعم ما يحبه.

المؤسسة الثقافية قد تتعلم من الشجرة: جذورها ثابتة في تراب الهوية، لكن أغصانها تمتد لتلتقط نور الشمس من كل الجهات.

المفتاح الرابع: لن نستيقظ وحدنا

لا تستطيع مؤسسة ثقافية واحدة أن تغير العالم. لكن شبكة من المؤسسات قد تفعل.

تخيلوا معي خريطة للعالم العربي، وعلى كل مدينة نقطة مضيئة تمثل مؤسسة ثقافية حية. ثم تخيلوا خطوطًا من الضوء تربط بين هذه النقاط – خطوط التعاون، تبادل الخبرات، المشاريع المشتركة. ستصبح الخريطة شبكة مضيئة من الإبداع تتجاوز الحدود السياسية التي قسمتنا.

 عقبات على الطريق

طريق النهضة ليس مفروشًا بالورود، لكن بالأحرى مفروشًا بالأسئلة الصعبة والعقبات الملتوية. هناك وحش البيروقراطية ذلك الكائن الغريب الذي يحول الأفكار الرائعة إلى أوراق متراكمة، ويحول الحماس إلى ملل، والإبداع إلى روتين.

وهناك شبح النخبوية – ذلك الوهم بأن الثقافة للقلة فقط. كأننا نقول: الطعام للنخبة فقط، والهواء للنخبة فقط. الثقافة حاجة إنسانية أساسية كالهواء والماء.

وهناك تحدي اتساع المفهوم - فالثقافة اليوم لم تعد فقط الشعر والرواية واللوحة. الثقافة أصبحت تشمل العلوم، التكنولوجيا، البيئة، الرياضة، وحتى ألعاب الفيديو. المؤسسة الثقافية التي تتشبث بتعريف ضيق للثقافة تشبه من يصر على أن الموسيقى هي فقط عزف العود، بينما العالم يسمع سيمفونيات كاملة.

السؤال الأهم: هل نستورد النموذج الغربي؟ الإجابة: لا. لكن هل نغلق نوافذنا؟ أيضًا لا.

النموذج الذي نبحث عنه هو كالشاي العربي – نأخذ أوراق الشاي من هنا وهناك، ولكننا نصنعه بطريقتنا، بنكهتنا، وبكأسنا الخاص.

هذا النموذج يجمع بين أصالة الجذور وحداثة الأغصان. بين حكمة التراث وطموح المستقبل. بين هويتنا العربية وانفتاحنا على العالم.

النموذج العربي سيكون كالسوق القديم (الخان) – مكانًا للتجارة وللقاء، للبيع وللحديث، للمنتجات المحلية وللبضائع القادمة من بلاد بعيدة. مكانًا تسمع فيه لغات متعددة، لكنك تشعر أنك في بيتك.

إيقاظ المؤسسة الثقافية عملية مستمرة، كالتنفس تمامًا. نستيقظ كل صباح ونتنفس من جديد.

هذه الرحلة تبدأ بسؤال بسيط: لماذا نفعل ما نفعله؟ وتستمر بخطوة صغيرة: ماذا لو جربنا شيئًا جديدًا؟ وتتوج بتغيير جذري: أن نتحول من حراس للتراث إلى بناة للمستقبل.

في النهاية، الثقافة هي الحياة في أرقى تجلياتها. والمؤسسة الثقافية المستيقظة هي التي تدرك أنها تحمل ليس ماضيًا فحسب، بل مستقبلًا أيضًا. مستقبل أكثر جمالًا، أكثر إنسانية، أكثر إشراقًا.

هذه الرحلة قد بدأت بالفعل. أراها في عيون شاب يفتح كتابًا في مكتبة حديثة، في ابتسامة طفلة تلمس لوحة في معرض تفاعلي، في حوار بين أجيال في مقهى ثقافي.

الصحوة ليست مستحيلة. بل هي ضرورية. وكما يقول المثل: "من يظن أن الصحوة مستحيلة، هو في الحقيقة يصف حالته هو".

***

د. عبد السلام فاروق

كمدخل الى الموضوع، لابد من الإشارة إلى ان الثقافة العامة هي تراكم من المعارف والخبرات، التي يمتلكها الفرد خلال حياته، تمكنه من التفاعل الواعي مع محيطه، والتأثير الإيجابي فيه. وفي الوقت الذي اصبحت فيه الثقافة العامة ضرورة للفرد، نتيجة تسارع تداعيات الحداثة، وتوالي معطيات العصرنة، فانها في نفس الوقت، باتت تواجه تواجه تحديات كبيرة في تحصيلها، بين ضرورات التخصص الأكاديمي العمودي، ومتطلبات التراكم المعرفي الافقي، واهتمامات الفرد، ورغبته في المواكبة، وتطوير قدراته الثقافية.

وتظل الثقافة العامة ليست مجرد معلومات عامة، وحسب، بل هي وسيلة عصرية لفهم العالم، والتفاعل مع المحيط بوعي، يوازن بين التخصص المهني، والمعرفة العامة، ليكون المثقف عندئذ قادرا على التفاعل مع المجتمع، والتعايش معه، بحكمة عالية، ورشد مقتدر، يتجاوز كل التحديات.

ويظل التخصص الأكاديمي لبناء المعرفة المتخصصة مهما، في مجال تكوين الاختصاص العلمي الرصين، مواكبة للتطورات التقنية، والعلمية الحديثة، إلا أن ذلك ينبغي أن لا يمنع الأكاديمي من تكوين معرفة أفقية، تمكنه من الألمام بمعلومات إضافية، في العلوم، والمجالات الأخرى، ليكون مثقفا موسوعيا، غير مقيد بحدود الإختصاص الضيق، كلما كان ذلك ممكنا.

فالاكاديمي المتخصص في الفيزياء، مثلا، لابد له من معلومات عامة، تمكنه من الحوار، وتعينه في مناقشة بعض الأمور الإجتماعية، أو الفلسفية، عندما يتطلب الأمر منه ذلك، حيث ان الانغلاق المعرفي، والتقوقع في دائرة الإختصاص، قد يفقد المتخصص الرؤية الشاملة، ويعزله عن الواقع الحي، وبالتالي فإن المبالغة في تحصيل التخصص، قد لاتخدم المتخصص في القضايا العامة، بذريعة أن حجم المعرفة صار واسعا، وبات يتسارع بمعطيات الحداثة، ويتضاعف في كل لحظة، مما يجعل من الصعب مواكبتها في كل المجالات.

ومع ان التكنولوجيا الرقمية المعاصرة، وما افرزته من سرعة كبيرة في تبادل المعلومات والمعارف، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قد وسعت مدارك الناس، ووضعتهم في صورة تطورات العصر، لكنها أفرزت معرفة افقية مشوهة، وثقافة سطحية ممسوخة.

ولذلك بات من الضروري تحقيق التوازن المطلوب، بين متطلبات التخصص الاكاديمي الصرف، وبين ضرورة بناء المعرفة الافقية، وعدم تهميش الثقافة العامة وتسطيحها، أمام التخصصات الدقيقة، وذلك باعتماد نهج تعليمي شامل، وحس اجتماعي متحمس، يحقق الربط المتوازن، بين التخصص العمودي، والثقافة العامة.

***

نايف عبوش

منذ القدم والشعوب تحتفل باعيادها الوطنية والقومية والدينية وكانت بلدان الشرق في طليعة الشعوب بهذه الاحتفالات كبلاد الرافدين وبلاد النيل والشام وقد ارتبطت هذه الاعياد بمظاهر الطبيعة كالفيضانات وخصوبة الارض وفصل الربيع حيث تقام طقوس احتفالية في بلاد سومر واكد وبابل واشور بمراسيم خاصة في بداية كل سنة.

لقد كانت اقامة مثل هذه الاحتفالات كل عام امراً ضرورياً وحيوياً من وجهة نظر الفرد في العصور القديمة لانه كان ينطلق من فهمه وتفسيره للظواهر الطبيعية والتي يعدها قوى خارقة غير منظورة لذلك اصبحت شيئاً مقدساً عليه اعادتها كل سنة لانها تفسر له اسرار الكون واسرار خلق الانسان من قبل الهة غير مرئية ولهذا كان السومريون والبابليون يقيمون احتفال راس السنة حيث تجري خلال هذه الاحتفالات اعادة مسرحية واسطورة التكوين والتي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالخصوبة والتكاثر (بالنسبة للانسان والحيوان والنبات) وعلى النحو الذي جاءت به اسطورة تموز وعشيقته عشتار ويرمز تموز إلى الخصوبة والنمو بينما ترمز عشتار إلى الحب وكان ارتباطهما وزواجهما مقدساً يجب اعادته (اي اعادة تمثيله) في كل عام وفي فصل معين هو الربيع لما له من اهمية في ازدهار الطبيعة والنمو، وهكذا تعاد وقائع ذلك الزواج الالهي كل عام حين يقوم الكاهن الاعظم بتمثيل شخصية (تموز) بينما تقوم الكاهنة بدور الزوجة (عشتار) حيث يجري احتفال مهيب داخل المعبد يسميه قدماء العراقيين (الزواج المقدس) وقد كان هذا الزواج معروفاً لدى العراقيين (في حدود عام 2750 ق.م) وهكذا يقترن عيد راس السنة السومري والبابلي بمظاهر الطبيعة والزواج المقدس، وسبب هذا الاقتران ان السومريين والبابليين كانوا من الشعوب التي تعتمد اساساً على الزراعة والرعي وهي لذلك تهتم اهتماماً كبيراً بدورة الفصول وتعاقبها لذا فأن تجديد الطبيعة يتحتم وجود زواج مقدس وولادة جديدة وكان السومريون والبابليون يقدمون القرابين للمعابد في هذه المناسبة التي يجري الاحتفال بها في بداية شهر نيسان ولمدة سبعة ايام من 1-7 نيسان حيث الاعتدال الربيعي ويكون الاحتفال مصحوباً بالتراتيل الدينية والاناشيد والرقص الجماعي من شهر نيسان كونه موسم سقوط المطر وفيضان دجلة والفرات ونضج المحصول الزراعي التي تتم بعده عملية الحصاد، ولايزال سكان المناطق الريفية في وسط وجنوب العراق يعدون شهر نيسان (شهر الحصاد) وهذا معروف حتى في اهازيجهم الشعبية التي يرددونها اثناء وبعد الحصاد .

المعروف ان سكان بلاد الرافدين هم الذين بدأو بممارسة الاحتفالات بعيد راس السنة غير ان المؤرخين والمهتمين بالتاريخ الفرعوني يرون عكس ذلك اي ان مصر هي التي لها قصب السبق في هذا الاحتفال، فقد ورد في احد اعداد مجلة الهلال المصرية مقالاً بعنوان (عيد راس السنة اخترعته مصر) بقلم الدكتور (سيد كريم) (ان مصر تحتفل بعيد رأس السنة قبل 7546 سنة اي قبل ميلاد السيد المسيح بحوالي (5) الاف سنة ونصف واعتبرته عيداً دينياً وقومياً)

صحيح ان هناك تشابه بين البلدين في الطقوس والاحتفال حيث ربط المصريون عيد راس السنة بفيضان نهر النيل الذي يكون في فصل الصيف نظراً لسقوط الامطار وبكميات كبيرة على منابعه كما فعل العراقيون ايضاً، كما ان احتفالات المصريين تجري عادة في الشوارع والمعابد والساحات كمعبد الكرنك ويقوم المصريون بتزيين المنازل واعداد الزهور اثناء الاحتفال، كذلك كان البابليون يقيمون الاحتفال بالشوارع والمعابد والساحات وهناك شارع يسمى (شارع الموكب) في بابل وقد سمي بهذا الاسم لان مواكب الاحتفالات تمر عبر هذا الشارع وقد سمي ايضاً باسم (شارع المسيرة) وهكذا نجد التشابه واضحاً بين الحضارتين ولكن اي بلد منهما الاسبق فهذا اختلاف في اراء المؤرخين العراقيين والمصريين وكل منهما يدعو إلى العودة إلى الرقم الطينية بالنسبة للعراق والبرديات بالنسبة لمصر لتحديد الاسبقية في هذا الميدان، ويبدو من التفاصيل التي ذكرها الاستاذ المشار اليه في مجلة الهلال المصرية ان المصريين قد سبقوا العراقيين في هذا المضمار فيذكر الدكتور في مقالته قائلاً .. ((مع بداية الدولة القديمة وخلال عصر الاهرام تحول الاحتفال بعيد راس السنة بجانب الاحتفال الديني والقومي الرسمي . كانت جميع طبقات الشعب المصري تشارك في الاحتفال به في المنتديات العامة والساحات والميادين والحدائق وداخل القصور مصحوبة بالاناشيد والرقص والاغاني والتراتيل الدينية والمساكن التي تزين بسعف النخيل والزهور والمشاعل التي تضاء مع غروب الشمس لتنير ارجاء المدينة طوال ليلة العيد . وكان القصر الملكي بفتح ابوابه لاستقبال الجماهير التي تأتي من جميع انحاء البلاد لتحية الفرعون فيغدق عليهم بالكثير من الهدايا والاوسمة على حكام الاقاليم ويعفو عن الكثير من السجناء (كما يحدث اليوم)، وكان المصريون في هذا العيد يزورون مقابر موتاهم وينشرون الزهور على قبورهم ويوزعون على حراس المقبرة (الفطائر) وماتزال هذه العادة موجودة في مصر حتى اليوم

ومن عادات المصريين في هذا اليوم عقد قران الزواج لكي تكون بداية حياة زوجية سعيدة وقد خصصت ساحات لعقد القران الجماعي باحتفال كبير تعزف فيه الموسيقى ويتم فيه الرقص الجماعي .

وبعد شروق شمس اليوم الجديد يوزع المصريون الفطائر المزينة بالفواكه الطازجة وخاصة زهرة اللوتس وتقدم الحلوى، كما يقدم المصريون في عيد (الكرسمس) (ديك الكرسمس) الذي يتصدر مائدة العيد او مايسمى بالاوز البري وقد اقتبس الاوربيون هذا التقليد واستبدلوه بالديك الرومي . وقد ابتكر المصريون تقليداً اخر هو شرب عصير العنب الطازج كنخب للعام الجديد، وهكذا كان المصريون القدماء اول من شرب نخب العام الجديد ..).

كل الاماني لشعبنا العراقي النبيل بالامن والسلام لمناسبة العام الجديد .

***

غريب دوحي

يبدو أن الأفكار الثورية لم تكن خاطئة أو خطيئة، وإنما فقدان قدرات تحويل الأفكار إلى برامج عمل، ولهذا كُتب الكثير عن النظريات والتطبيق وغابت الآلية العملية لترجمة الفكرة!!

وبسبب هذا العجز والجهل تخبطوا وتحيروا وتحولوا إلى أعداء بعضهم وأنفسهم فأحرقوا واحترقوا، ولا يزالون بعيدون عن إمتلاك مهارات تحويل الأفكار إلى برامج عملية ذات قيمة وطنية وحضارية.

فالعرب قد أثبتوا بالعمل المكرر الصريح بأنهم عاجزون عن تصنيع الأفكار!!

فمنذ منتصف القرن التاسع عشر وهم يلهجون بالوحدة والتكامل والتفاعل وكتبوا عن علل الإستبداد وإرادة الحرية والعدالة الإجتماعية، والتخلص من الأمية والجهل والمرض وضرورة المعاصرة والمواكبة والعلم والتعليم، وما حققوا ما يجب أن يحققونه، برغم أسبقيتهم للعديد من مجتمعات الدنيا.

والفكرة القومية كأية فكرة يمكنها أن تمتلك القادرين على التعبير عنها بالطريقة المتفقة معها، وقد عجز أبناؤها عن التوصل إلى آليات حضارية معبرة عنها.

فكما أن العيب ليس في الدين وإنما في المتدينين، كذلك العيب ليس في القومية وإنما في المتقوممين.

فكل فكرة يمكن التعبير عنها بسوء او بخير، وهذا يعتمد على زوايا الفهم والإقتراب والتعبير.

وفي هذا القرن نهضت بغتة أو داهمتهم فكرة الديمقراطية، وكأنها لم تكن موجودة أو معهودة من قبل، ووجدتهم كأصحاب الكهف الذين استيقظوا بعد قرن ونصف ليتمنطقوا بها، وها هي تعاني ذات الويلات التي عانت منها أفكارهم النهضوية كالوحدة والحرية، وغيرها من المنطلقات التي يرددونها كالببغاوات.

فالعيب ليس بالديمقراطية وإنما في المتدمقرطين، الذين حولوها إلى حصان لتحقيق الرغبات الفئوية والحزبية وغيرها من الغايات الفاسدة.

فإلى أين أخذ العرب الديمقراطية؟

لنتأملها في البلدان التي تدعيها، إنها تحولت إلى دماء ودموع ودمار وفساد وضياع أمن، وصارت تعني في خلاصتها محاربة الإرهاب والذي يعني تخريب البلاد وسبي العباد.

فهل ينجح أحد في بلداننا ما دامت العقول معطلة، والعواطف والإنفعالات مؤججة، وتنور الويلات في أعلى درجات حرارة الإنسجار؟

إذا الأفكارُ جامدة ٌ لعجزِ

يُعذبها بتضليلٍ وقهرِ

هيَ الدنيا بأفكارٍ تنامَتْ

تصنّعُها عقولٌ بنتُ عَصرِ

لماذا فكرنا ماءٌ برملٍ

وحَسْبُ شبابنا ويلاتُ زجرِ

***

د. صادق السامرائي

(عندما صرخ صلاح عبد الصبور.. خلصوني من صفة الشاعر الشاب.. لقد جاوز عمري نصف القرن)

نستمع في هذا المحفل الادبي، او نقرأ في تلك الوسيلة الاعلامية، اسم كاتب معين مقرونا بصفة شاب، ومع ان هذه الصفة تعتبر شرفا لمن يتصف بها، الا انها عادة ما تخفي في ثناياها نوعا من الاشارة الى محدودية عطاء صاحبها، كونه ما زال شابا يرتاد مطالع الشباب الاولى باتجاه المرتفعات العالية في العمر، فهل من الحق ان نطلق هذه الصفة على الشاب المبدع عامة؟ والى اي عمر مثلا يمكننا ان نطلقها عليه. اكثر من هذا، هل من الحق ان نقسم الكتاب الى شباب وشيوخ؟ وهل يفترق هؤلاء عن اولئك؟ وبماذا يفترقون.. اذا كانوا يفترقون حقا؟

يشهد التاريخ الابداعي والادبي خاصة، ان اعمار اهله لا تقاس بالأعمار الزمنية، السنوات، وانما هي تقاس بما اذخره اصحابها من تجارب ومعارف، وعليه بإمكاننا القول، ان الانسان عامة والمبدع خاصة، انما يقاس عمره بالعمق، وليس بالطول، فكم من مبدع عاش مائة عام ولم يقدم شيئا يذكر وكم من مبدع اخر، في المقابل، لم يعش سوى ربع قرن من الزمان وقدم الكثير الكثير، فالشاعر الجاهلي العظيم طرفة ابن العبد وابو القاسم الشابي وغيرهما كثيرون من المبدعين الاجانب في شتى اصقاع الارض، لم تتجاوز اعمارهم عندما غادروا عالمنا الخامسة والعشرين عاما!! ومع هذا تركوا بصمات لا يمكن محوها من سجل التاريخ الادبي للشعوب الذين انتموا اليها.. وللإبداع الادبي في العالم اجمع.

اعتدنا في حياتنا الادبية العربية خاصة، ان نطلق على المبدع في بداياته صفة الشاب، وذلك ضمن طلب مضمر منا، مفاده انه علينا ان نتساهل في التعامل معه(!!)، وان تكون ايدينا مباركة في تقييمه فلا تقسو وانما تميل الى الحنية المطلوبة منا في الواقع خلال تعاملنا مع اي عمل ابداعي وادبي. ومما يذكر في هذا السياق، ان مجلة "الهلال"، العربية المصرية العريقة، حاولت قبل سنوات بعيدة، في واحدة من حماقاتها النادرة، ان تحل اشكال الاجيال هذا بتكريسها ملحقا خاصا للشباب، اطلقت عليه اسما لامعا في الظاهر هو " الزهور"، وقاسيا في الباطن.. كونه يقسم الادباء كما هو واضح الى زهور واشجار باسقة!!.. هذا الملحق لم يعش طويلا وتم توقيفه بعد صدور عدد محدود منه.

تعقيبا وردا على هذا كله، من صفات تشبه الاتهامات، بإمكاننا القول ان المبدع الحقيقي لا يخرج الى الحياة الابداعية من فراغ، وانما هو يستعد للدخول الى ملكوتها كل الاستعداد، ويهيئ نفسه كل التهيؤ، يقرأ الكثير ويعي الاكثر، ليضيف الى ما سبق وقيل في الماضي.. بصمته الخاصة، تلك البصمة التي تميزه عن سواه مهما صغرت وتضاءل شأنها.

هنا يطرح السؤال هل يمكن اعتبار كل شاب شابا؟ وهل تكفي صفة الشاب لإعطاء صفة المبدع الحقيقي هكذا تعسفا ودون روية واناة؟ هل يمكن لكل من امتشق القلم وصفّ عددا من الكلمات الى جانب بعضها بعضًا، ان يحظى بصفة مبدع؟ كما يحصل في عصر الميديا الراهن؟.. اجيبوا انتم، اما انا فليس بيدي سوى ان اكرر ليس كل شاب شابا، وانما يطلب منك كي تحظى بهكذا صفة ان تجتهد، ان تطلع وان تنمى قدراتك الادراكية لتتخذ مكانك المضيء في القاعة المكتظة.

***

ناجي ظاهر

(عندما خلق الله تعالى الإنسان ليجعله خليفة في الأرض المكان الذي أختاره وهيئه له لغرض أعمار الأرض على أساس العمل بالفطرة السليمة التي جُبل عليها ووسيلة الإدراك المعرفي (العقل) الذي ميزه عن باقي مخلوقاته وأساس هذا الإدراك هو الإيمان بالله تعالى الخالق الواحد الأحد لا شريك له في العبادة والطاعة والملك وأخذ منه العهد والميثاق وكذلك العيش في الأرض وفق منظومة متكاملة من سنن وشرائع منضبطة مع بني جنسه في عيش مبني على السلام والمحبة والحق والمساواة في الحقوق والواجبات والعدل والتقوى على ضوء ذلك تم تكريم آدم أبونا في الدنيا والآخرة (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) الإسراء 70 وكذلك (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات 13 من هنا بدأت مسيرة آدم في الحياة الدنيا الأولية في الجنة بدورة تدريبية في الأرض التي أختارها وأسكنه الله فيها لا يجوع فيها ولا يعرى وهيأ له سبل العيش الرغيد ووصفها بالجنة لكنه فشل في أول اختبار حقيقي له بعدما أطاع الشيطان وعصى أمر ربه لغايتين لتصبحا أكبر وأخطر هاجس بشري إنساني لفنائه في الحياة الدنيا وخسران الآخرة وهي حب الخلود وحب المال والثروة والملك (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) طه 120 فكان هذا الفشل السبب في معانات الإنسان الرئيس في تعاسة باقي أجياله وبعدها تعاقبت وتوالت الأخطاء والتصرفات المنحرفة عن الفطرة السليمة للإنسان في الحياة وتأخذ مسارا آخر مغاير لما أراده الله تعالى لهذا الكائن الناكر للجميل الإلهي حيث أبتعد شيئا فشيء عن مراد ربه وعلة خلقه ونقض العهد وأسس قيما جديدة ومسارا مخالفا لطبيعته واتخاذ شرائع وسنن منحرفة لا تليق بعلة خلقه منها الباطل والشرك والإلحاد والكفر بأنعم الله والفساد الأخلاقي والمالي والتعدي على أبناء جنسه  وعلى الطبيعة التي سخرها الله له وذريته (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت إ يدي  الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) الروم 41 وسعى في خرابها ويفسد فيها ويهلك الحرث والنسل (وإذا تولى وسعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) البقرة 205 وما زال أبن آدم يعاني المشاكل والصعاب بحياته اليومية لأنه كفر بأنعم الله تعالى أولا وثانيا لم يستطيع أن يحرر نفسه من هيمنة الشيطان وأعوانه بل تحول الكثير منهم إلى شياطين في الأرض بامتياز بسلوكهم وطريقة معيشتهم بالرغم من التحذيرات المسبقة والمتواصلة عبر آيات القرآن العظيم كما قال الله تعالى (يا بني آدم لا يفتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) الأعراف 27 وبالرغم من كل المحاولات من الله لإعادة الإنسان إلى جادة الحق والصواب والرشد والهداية وبيان الصراط المستقيم لكنه أصر وبإمعان متواصل على الفساد والخراب النفسي والاجتماعي والأخلاقي وتدمير المجتمعات الإنسانية فلا بد لهذا الإنسان الكائن الضعيف المتكبر والمتجبر العودة الخالصة الواعية والتوبة النصوحة لله تعالى (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) التحريم 8 وكذلك (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدى) الكهف 110 ليعيد برمجة حياته نحو الأفضل للحصول على مجتمعات إنسانية راقية بعملها وعلمها وفكرها وعقيدتها.

***

ضياء محسن الاسدي

منذ القرن التاسع عشر وإلى اليوم، وما يدور في منابرنا الثقافية هو سؤال يبدأ بلماذا، وكُتبت العديد من المقالات ونُشرت مئات الكتب، تبحث عن جواب لسؤال "لماذا تأخرنا"، ولن تجد مقالا أو كتابا يطرح سؤال "كيف نتقدم"!!

لو قرأنا جميع ما كتبه المفكرون العرب، فستجدهم وبلا إستثناء يدورون في حلقة "لماذا" المفرغة، وما توصلوا إلى نتيجة ذات قيمة عملية وتأثيرات إيجابية، بل كلما تنامى إمعانهم في الغوص بعوالم لماذا تزداد المشاكل تعقيدا وتدميرا، وأوضح مثال "القضية الفلسطينية" التي إقتربوا منها بمنظار لماذا، وما إجتهدوا بآليات "كيف" اللازمة للحفاظ على وجودهم فيها.

المفكرون العرب أساتذة تعليلات وتبريرات، وما منهم إستطاع أن يتجاوز التنظيرات البهتانية، ويتعامل مع الواقع القائم بمفردات عملية ناجعة.

فلا توجد مشكلة تناولوها إلا تعقدت وتطورت وتجاوزت المعقول، وتحولت إلى خنجر مسموم في قلب الحياة العربية.

فلا وحدة ولا حرية ولا إشتراكية ولا ديمقراطية، بل فردية وإستبدادية، وعدوانية وتصارعات تحزبية قبلية خالية من المفردات الجامعة والعبارات المانعة للتدهور والإنحطاط.

وهكذا مضت دوامة الإنقلابات والأنظمة الحاكمة المتماحقة، التي يجتث لاحقها ما أنجزه سابقها، فتدهورت الأحوال وتقهقرت إلى ما وراء الوراء، وأضحت الغابرات تحكمنا، والأجداث برميمها تقودنا، ولا نعرف سوى التبعية والخنوع للذي يفوز بإفتراسنا، فما ألذ طعم دور الضحية، وما أبدعنا في التظلم والتشكي والتحرر من المسؤولية، التي نضعها على عاتق الغير الذي يريد كذا وكذا، ونحن كالروبوتات التي يفعل بها مَن تشاء مصالحه  وأطماعه.

لماذا قوةٌ طمرتْ عُلانا

وأوْجدتِ التقهقرَ والهوانا

بها فكرٌ تَساقى من سَرابٍ

وما عَملتْ بموجبها سِوانا

إذا بقِيَتْ تطاردنا لماذا

سَتأخذنا لفاجعةٍ رؤانا

***

د. صاد السامرائي

 

في مدينة كركوك، حيث تتجاور القوميات والأديان والثقافات، يبرز صوت المدرسة كمنارة للتعايش السلمي ومواجهة الفكر المتطرف. فبين جدران الصفوف، لا تُبنى المعرفة وحدها، بل تُصاغ قيم المواطنة والاحترام، ويُغرس في نفوس الطلبة معنى أن السلام حقٌّ من حقوق الإنسان، وأن الحوار والتسامح هما الطريق الوحيد لبناء مجتمع آمن ومزدهر. إن هذه التجربة التربوية ليست مجرد نشاط مدرسي، بل هي رسالة إنسانية تؤكد أن مواجهة العنف تبدأ من النواة الصغيرة: الأسرة، ثم المدرسة، لتنعكس على المجتمع بأسره. 

قال تعالى: "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" [الحجرات: 13]، 

إن مواجهة التطرف العنيف والأفكار التي تهدد وحدة المجتمع تبدأ من النواة الصغيرة المتمثلة بالأسرة والمدرسة، حيث تُغرس القيم الأساسية في نفوس الأجيال. فالأسرة هي الحاضنة الأولى التي تعلم الطفل احترام الآخر وتقبله، والمدرسة هي المؤسسة التي تترجم هذه القيم إلى سلوك عملي عبر الكادر التدريسي والإداري والأنشطة التربوية. إن ترسيخ أسس الديمقراطية ومكافحة الإرهاب لا يقتصر على الإجراءات الأمنية، بل يتطلب نشر ثقافة السلام والتسامح داخل البيئة المدرسية، بما ينسجم مع الدستور العراقي والقوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تؤكد على حقوق الإنسان والعيش المشترك. 

 فدور المدرسة لا يقتصر على التعليم الأكاديمي، بل يمتد ليكون فضاءً للتربية على الحوار وحل النزاعات بالطرق السلمية، والحد من مظاهر العنف والتنمر بين الطلبة، وتعزيز قيم المواطنة واحترام التنوع والاختلاف. ومن خلال إشراك الطلبة في أنشطة إيجابية، يمكن تحويل المدرسة إلى بيئة حاضنة للسلم المجتمعي، حيث يتعلم الطالب أن التعايش هو السبيل الوحيد لبناء مجتمع آمن ومزدهر، وكركوك بما تحمله من تنوع قومي وديني وثقافي، تحتاج إلى مثل هذه المبادرات أكثر من أي وقت مضى، لتتحول إلى نموذج للتعايش السلمي، حيث يصبح الحوار بديلاً عن العنف، والتسامح بديلاً عن الكراهية، والسلام الأهلي أساسًا للاستقرار والازدهار.

 إن هذه الجهود ليست مجرد نشاط تربوي، بل هي رسالة واضحة بأن مستقبل العراق يقوم على التعايش، وأن السلم الأهلي هو الطريق الوحيد لبناء مجتمع آمن ومزدهر، وأن المدرسة هي حجر الأساس في هذا المشروع الكبير. 

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

ولادةُ النورِ الذي ما زال يُربكُ العالم ويُعيدُ كتابةَ معنى الإنسان

ميلادٌ يتجدّد.. وضميرٌ يُمتحَن

في عالمٍ تتسارع فيه الأخبار وتتناقص فيه المعاني يعود ميلادُ المسيح لا بوصفه حدثًا من الماضي، بل باعتباره مرآةً قاسية للحاضر ومرآة تضع الإنسان أمام ذاته وتسأله بلا مواربة: ماذا فعلتَ بكل هذا الإرث الأخلاقي؟

وأين أوصلتك قرونُ التقدم إذا كان الخوف ما زال يحكم والعنف ما زال لغة والإنسان ما زال الحلقة الأضعف؟

ليس ميلادُ المسيح مناسبةً طقسية تُختصر بعبارات التهنئة، ولا ذكرى عاطفية تُستدعى مرة في العام ثم تُطوى وإنه حدثٌ ثقيل الوطأة، لأنّه منذ لحظته الأولى كان حدثًا إشكاليًا: جاء ليقلب منطق العالم لا ليهادنه وليعيد تعريف القوة، لا ليباركها؛ وليضع الإنسان في مركز المعادلة، لا في هامشها.

لقد وُلد المسيح في زمنٍ كانت فيه الإمبراطوريات تتقاسم الأرض، وتُدار الشعوب بمنطق الغلبة، ويُقاس الإنسان بقيمته الاقتصادية أو السياسية، لا بكرامته وعالمٌ يشبه عالمنا أكثر مما نحب الاعتراف عالمٌ يُكافئ القسوة، ويبرر الظلم، ويطلب من الضعيف أن يصمت باسم الواقعية في ذلك الزمن لم يكن الميلاد وعدًا بالراحة بل إعلانًا مبكرًا للصدام الأخلاقي.

لم يولد المسيح في قصر، ولم تحفه الحراسات، ولم تُطلق المدافع احتفاءً به وقد وُلد في الهامش في مكانٍ بسيط بلا مظاهر وكان في هذا الاختيار ما يكفي لإرباك منطق القوة كله فالعالم الذي اعتاد أن يرى العظمة في الأبراج العالية، فوجئ برسالة تقول إن العظمة قد تولد في أدنى الأماكن وإن القيمة لا تحتاج إلى منصة، بل إلى معنى.

منذ اللحظة الأولى بدا هذا الميلاد غير مريح للسلطة. ليس لأنه دعا إلى العصيان المسلح، بل لأنه طرح فكرة أخطر: أن الإنسان، أيّ إنسان، يستحق الكرامة قبل الطاعة، والعدالة قبل الخضوع. وهذه فكرة لا تحبها الإمبراطوريات، ولا تطمئن لها الأنظمة، ولا يروق لها كل من بنى نفوذه على الخوف.

لم يكن المسيح ثائرًا بالسيف، لكنه كان ثائرًا على السيف ولم يأتِ ليبدّل طغاة بآخرين بل ليبدّل طريقة التفكير ذاتها وقال إن الغفران قوة، وإن الرحمة ليست ضعفًا وإن الحب حين يصبح موقفًا، قادر على هزّ أعتى البنى ففي عالمٍ كان يرى في الانتقام عدلًا وفي القسوة حزمًا، جاءت هذه الأفكار كتهديد صريح للنظام القائم.

ومن هنا، لم يكن الميلاد حدثًا دينيًا فقط بل حدثًا أخلاقيًا وسياسيًا بامتياز وقد أعاد طرح سؤال السلطة: لمن هي؟

ولماذا؟

وبأي حق؟

وأعاد تعريف العلاقة بين الإنسان والدين حين رفض أن يكون الإيمان غطاءً للظلم، أو أداةً لإقصاء المختلف والدين في جوهر هذه الرسالة، ليس راية تُرفع في الصراع، بل ضمير يُستدعى في لحظة الاختيار.

لم تكن رسالة المسيح معلّقة في السماء بل نازلة إلى الأرض، إلى بؤس الناس اليومي وانحاز للفقراء لا بوصفهم موضوع شفقة بل بوصفهم معيارًا للعدالة وواجه نفاق المتدينين حين تحالفوا مع السلطة ضد الإنسان ولهذا فإن أي احتفال بميلاده يتجاهل الفقر ويصمت عن الظلم ويبرر الإقصاء هو احتفال أجوف، بلا روح.

لهذا أيضًا تجاوز الميلاد حدوده الدينية ودخل الوجدان الإنساني العام. وجد فيه الفلاسفة سؤالًا أخلاقيًا مفتوحًا، ووجد فيه الفنانون رمزًا للنور في العتمة، ووجد فيه الأدباء مادةً لا تنضب للتأمل في معنى الخير والشر. لقد أصبح الميلاد، عبر القرون، لغة مشتركة لمن يبحث عن إنسانية أوسع.

وفي عالمنا المعاصر، حيث يتجدد العنف بأشكال أكثر تعقيدًا، وحيث تُرتكب الجرائم باسم الله، وباسم الهوية، وباسم الأمن يبدو ميلاد المسيح أشبه بمحاكمة أخلاقية مفتوحة. محاكمة لا تستثني أحدًا فالمسيح لم يدعُ يومًا إلى قتل المختلف، ولا إلى إلغائه، ولا إلى تحويل الإيمان إلى أداة فرز وعداء بل دعا إلى الإنسان، أولًا وأخيرًا.

في الشرق الأوسط حيث وُلد المسيح يصبح الميلاد أكثر من مجرد ذكرى ويصبح سؤال بقاء في أرضٍ أنهكتها الحروب، ومزقتها الطائفية، وأُنهك فيها المعنى قبل العمران يعود الميلاد ليذكّر بأن التعدد ليس تهديدًا بل فرصة؛ وأن الإيمان، حين يتحول إلى خندق، يفقد روحه.

في العراق، في فلسطين، في كل جغرافيا مثقلة بالذاكرة والدم، لا يعود السؤال: هل نحتفل؟

بل: هل نفهم؟

هل نفهم أن هذا الميلاد يدعونا إلى إعادة بناء علاقتنا ببعضنا، وإلى حماية الإنسان من الهويات القاتلة، وإلى تحويل الاختلاف من لعنة إلى قيمة؟

لماذا نكتب عن الميلاد اليوم؟

لأن العالم، رغم كل ما حقق، ما زال عاجزًا عن حماية الإنسان لأن التكنولوجيا سبقت الأخلاق، والسلاح سبق الحكمة، والخطاب سبق الفعل ولأن الميلاد، في جوهره، ليس حدثًا من الماضي بل بوصلة للمستقبل.

ميلادُ المسيحِ الميمون ليس مناسبةً بروتوكولية، ولا زينة شوارع، ولا خطاب تهنئة موسمي إنه مسؤولية عامة، واختبار أخلاقي متجدد واختبار للأفراد وللمجتمعات وللدول.

يسألنا الميلاد، كل عام، لا كيف نحتفل، بل كيف نعيش؟

يسألنا إن كنا نملك شجاعة الرحمة في عالمٍ يعلّمنا القسوة وإن كنا نملك جرأة أن نختار الإنسان، حين يكون اختياره مكلفًا سياسيًا أو اجتماعيًا وإن كنا نؤمن حقًا بأن القوة ليست في البطش، بل في حماية الحياة.

إن الميلاد الحقيقي لا يحدث في التقويم بل في الضمير ولا يحدث حين تُضاء الشوارع بل حين تُضاء القلوب بالعقل والمسؤولية

وحين يصبح الإنسان غاية، لا وسيلة وحين تُقاس السياسات بميزان الكرامة لا بميزان الربح والخسارة.

عندها فقط لا نكون قد كتبنا افتتاحية عن ميلاد المسيح بل شاركنا – ولو قليلًا – في إنقاذ معناه من التآكل وجعلنا من النور موقفًا… لا مجرد ذكرى.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

الفوضوية الدماغية طاغية في مجتمعاتنا ومتمثلة بالسلوكيات المتناثرة المضطربة، التي تعبّر عنها بوضوح وجلاء لا يحتاج إلى برهان أو دليل.

فواقعنا فوضوي الطباع والتفاعلات، إختلطت فيه الحوابل بالنوابل، والفضائل بالرذائل، والدونيات بالنبائل، وما عاد من السهل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، لأن الفساد مذهب، ولكل سيئة فتوى غنيمة ومأرب.

هذه الفوضى الدماغية الطاغية تؤدي إلى سلوكيات تعززها وتزيد تكرارها، وكأن الأدمغة يتحقق برمجتها لتكون متوافقة مع تداعيات الفوضى، وما ينجم عنها من نتائج وإضطرابات.

وعندما تجتاح الفوضى أي مجتمع، فأن الناس سيتحفزون وستنشط ردود أفعالهم الإنعكاسية، لتوفر الهرمونات الدفاعية الفياضة في دمائهم، والتي تؤثر على إستجاباتهم وتدفع بهم إلى الوقوع في مطبات مهلكة متوالدة الإنتكاسات.

إنها فوضى عشوائية متلاطمة متفاقمة مجردة من الضوابط التفاعلية التي يمكن تقدير نتائجها، لأنها مشحونة بالمفاجآت والمباغتات الخسرانية الموجعة الباهضة التكاليف.

ولا يمكن لفوضى أن تدوم لأنها لا تتوافق وإرادة البقاء، وتكون ذات تأثيرات سلبية ثقيلة على الحاضر والمستقبل في أي مجتمع تتحقق فيه، ولا بد من ولادة قدرة مغناطيسية مُرتبه لتفاعلاتها وحركاتها، لكي تستعيد الحياة إيقاعها وتتعرف على مساراتها.

فالفوضى مهما طالت فأنها ستلد قوة تنظمها وتعيدها إلى جادة الصواب والمسار القويم.

فهل نحن على أعتاب ولادة إقتدار سليم؟!!

ولن يدوم الأليم!!

بأفكارٍ مُبعثرةٍ نُحِرْنا

بأدْمغةٍ مُبرمَجةٍ مَشينا

إلى الويلاتِ من غفلٍ ذهبنا

كأنّا في مَواطننا احْترقنا

رؤوسٌ من جَهالتها تخاوَتْ

أصابَتْ جَوهراً وجَنتْ علينا

***

د. صادق السامرائي

لم يعد التعليم في هذا العصر رحلةً متكاملة نحو بناء الإنسان، بل صار مفترق طرقٍ حادّاً، لا يسمح إلا بخيارين متنافرين في الظاهر:

إمّا النظام، وإمّا المعرفة، وكأنّ الأخلاق أُخرجت من المعادلة، أو أُجّلت إلى الهامش، مع أنها الميزان الذي يمنح كليهما معناهما.

فالنظام، كما يُمارَس اليوم، لم يعد انضباطاً واعياً يخدم الإنسان ويهذّبه، بل تحوّل في كثير من الأحيان إلى طقوسٍ جامدة، وأختامٍ تُضرَب، وحضورٍ بلا روح، وغيابٍ عن الجوهر.

نظامٌ بلا أخلاق، لا يربّي، بل يُروّض؛ لا يبني، بل يُخضع.

أمّا المعرفة، فقد أُرهِقت حتى كادت تُختَزل في ملخّصٍ عابر، أو شهادةٍ تُعلّق على الجدار، لا في عقلٍ يُنتج، ولا في وجدانٍ يُضيء.

ومعرفةٌ بلا أخلاق، قد تتحوّل إلى أداة تبرير، أو وسيلة استعلاء، أو رأس مالٍ بلا ضمير.

والجمع بين النظام والمعرفة؟

هو أمرٌ ممكن… لكنه نادر، ندرة الصادقين في زمن الضجيج، وقلّة المجاهدين في زمن الراحة.

أمّا الجمع بين النظام والمعرفة والأخلاق، فهو التحدّي الحقيقي، لأن الأخلاق هي التي تضبط النظام، وتوجّه المعرفة، وتمنع انحرافهما معاً.

الطالب اليوم محاصر:

تحاصره الشاشات، وتشتته التفاهة، ويخذله البيت ـ لا نعمم ـ الذي كان يفترض أن يكون السند، فإذا به في أحسن الأحوال متفرّج، وفي أسوئها شريك في الخراب.

بيتٌ لا يزرع قيمة، ولا يحرس وقتاً، ولا يوقظ همّة، ثم يتساءل بدهشة: لماذا فشل الأبناء؟

وكأن الفشل وُلد فجأة، لا نتيجة فراغٍ أخلاقي سابق.

وفي الضفة الأخرى، يقف بعض الأساتذة ـ لا نعمم ـ وقد أُنهكت رسالتهم، فصار همّهم نهاية الشهر لا بداية العقل، والراتب لا الرسالة، والنجاة الفردية لا البناء الجمعي.

وحين تُنزَع الأخلاق من التعليم، يصبح الأستاذ موظفاً، والصف عبئاً، والطالب رقماً.

كما يقف بعض المسؤولين، مشدودين إلى كراسي القيادة، يعدّون التعليم ملفاً إدارياً لا مشروعاً حضارياً، ويقيسون النجاح بعدد التقارير لا بعدد العقول المستنيرة، وبكثرة الصور لا بتقليل البيروقراطية القاتلة.

إدارة بلا أخلاق، مهما كانت منظّمة، لا تُنتج إنساناً، بل تُنتج وهماً منظّماً.

وفي هذا المشهد المزدحم بالخذلان، تقع الضحية الأولى:

الطالب… الذي لم يُعلَّم كيف يكون إنساناً قبل أن يكون ناجحاً، ولم يُدرَّب على تحمّل المسؤولية قبل المطالبة بالحقوق.

ثم تأتي الضحية الثانية:

الأستاذ الحريص، المجد، الذي يقاوم التيار وحده، ويدفع ثمن إخلاصه تهميشاً أو إرهاقاً أو اتهاماً، لأنه لم يساوم على أخلاقه.

أيها الطالب، اعلم أن النظام بلا معرفة قيد، والمعرفة بلا نظام فوضى، وكلاهما بلا أخلاق خطر.

وأنك إن ضيّعت العلم اليوم، فلن يعوّضك الزمن غداً، فلا تجعل أعذار الآخرين شماعة لكسلك، فالمستقبل لا يرحم من فرّط في نفسه.

وأيها الأستاذ، تذكّر أنك حين تدخل الصف، تدخل محراباً، وأن كلمة صادقة قد تغيّر مصيراً، وأن تقاعسك ـ وإن بدا صغيراً ـ قد يورث أجيالاً من الخواء.

فالتعليم موقفٌ أخلاقي قبل أن يكون مهنة.

وأيها الأب والأم، بيوتكم ليست فنادق نوم، بل مصانع قيم، فإمّا أن تزرعوا فيها معنى العلم والانضباط والمسؤولية، أو تحصدوا فراغاً لا يشبهكم.

وأيها المسؤول، اعلم أن الكرسي زائل، وأن ما يبقى هو أثرك في عقول الناس، فإمّا أن تُذكر ببناء الإنسان، أو تُنسى مع أول تغيير.

إن التعليم ليس نظاماً يُفرض، ولا معرفةً تُكدَّس، ولا شهادةً تُمنح، بل أخلاق تُغرس، وعقل يُدرَّب، وضمير يُبنى.

فإن لم نُحسن الجمع بين النظام والمعرفة والأخلاق، فلا أقلّ من ألا نقتل المعرفة باسم النظام، ولا نبرّر الفوضى باسم الحرية، ولا نُفرغ التعليم من إنسانيته باسم الواقعية.

ففي نهاية المطاف… الأمم لا تنهض بكثرة المباني، بل بصفاء العقول، ولا تُقاس بقوانينها المكتوبة، بل بأخلاق معلّميها، ولا تُحفظ إلا بعلمٍ منضبط، ونظامٍ أخلاقي يخدم المعرفة… لا يدفنها.

***

الشيخ الدكتور ليث عبد الحسين العتابي

يقال إن الأعوام تغير الكثير، فهي تبدل تضاريس الجبال، فكيف لا تبدل شخصيتك؟ وأنا هنا، على حافة عام يلفظ أنفاسه الأخيرة، أتساءل: هل الحياة قد ساءت حقًا، أم إنني لم أعد كما كنت؟ يقف العام على رصيف المحطة، يرفع يده في توديع صامت، برقة خانقة. نعرف جميعًا أن هناك محطات قادمة، لكن زجاج النوافذ متبخر، والعالم الخارجي يمر كحلم ضبابي. نحن نجلس في عربة القطار البارد، نلمس في جيوبنا قطعة معدنية وحيدة، نتصارع مع فكرة شراء قهوة الصباح.

العبقرية في الأمر كله أننا نسمي الأشياء بأسماء جميلة. في عالم صار يشبه مسرح عرائس كبير، تعلن الأرقام عن مؤشرات إيجابية هنا وانتعاش محتمل هناك. صندوق النقد الدولي يبدو كاسم لعطر فرنسي فاخر، لا لجهة تضع شعوباً بأكملها تحت المجهر. والحكومات العظمى تتجادل كأطفال في ساحة المدرسة حول من يمتلك الكرة الأجمل، بينما الكرة نفسها - تلك الكرة الأرضية - تنتظر من يلعب بها حقاً.

معدل النمو؟ مجرد رقم يعرفه المحللون في وول ستريت. مقياسه الحقيقي الوحيد هو ابتسامة طفل حصل على حذاء جديد للمدرسة. أليس من الظريف أن يكون هذا هو المقياس؟ نحن نرقص جميعًا في العتمة، نتابع أضواء المؤشرات وهي تلمع وتخبو، بينما يد كل منا تبحث عن يد أخرى في الظلام.

في معرض فني، رأيت ذات مرة لوحة لعجوز يجلس على كرسي في شارع خال. كان عنوانها: "ينتظر الباص". وقفت أمامها دقائق طويلة.

كم منا ينتظر باصًا لن يأتي؟

باص الحب. باص النجاح. باص الاعتراف.

الفن العصري أصبح مثل تلك الرسائل التي نضعها في زجاجات ونلقيها في البحر. لا نعرف إذا كان أحد سيجدها، لكننا نكتبها لأن قلوبنا ممتلئة إلى حد الانفجار. نكتب لأننا نبحث عن شخص نعرفه بقربنا، نحكي له كل شيء، نقص عليه حكاية الثقب الذي يتسع في الروح. لذلك نحن نصنع الفن: لوحات، مقالات، خواطر. إنها كلها زجاجات نرميها في بحر اللامبالاة، على أمل.

كوب الشاي الأخير

في الليل، حين تغلق شاشة هاتفك، هناك عالم آخر يعيش تنفسه الهادئ. إنه عالم الأسر التي تلتقي على مائدة واحدة نادرة الحدوث وتتحدث عن تفاصيل صغيرة: كيف نمت زهرة البنفسج في الشرفة رغم الإهمال، كيف وجدت الجدة صورة قديمة لها وهي في العشرين.

في هذا العالم الموازي، ما زال الجيران يتساءلون عن بعضهم إذا غاب أحدهم يومين. وما زالت رائحة الطعام تنتقل من شقة إلى أخرى كرسالة سلام غير معلنة. في زمن المواطنة الرقمية، تظهر لنا أن أقوى شبكة اجتماعية لا تزال مصنوعة من نظرات التفاهم في المصعد، ومن كوب سكر مستعار في منتصف الليل.

هنا، على حافة العام، ننتظر دقات منتصف الليل. ربما نتمنى أمنيات صغيرة، لأن الكبيرة تحتاج لطاقة لم نعد نملكها. نتمنى أن نجد موقفاً للسيارة. أن يشفى الجار العجوز من زكامه. أن تستمر الكهرباء. في هذه الحميمة الإنسانية، في هذه الحياة اليومية التي نمضيها رغم كل شيء، تكمن المعجزة. العالم الكبير يدور في فلك المصالح، لكن عالمنا الصغير عالم غرفة الجلوس يدور في فلك القلب.

من نافذتي، أرى الناس يتحركون كظلال في الشتاء. كل منهم يحمل عامه على ظهره كحقيبة سفر ثقيلة. بعضها مليء بذكريات، وبعضها مليء بأحلام مؤجلة.

العام الجديد سيأتي لا محالة. سيقرع الباب ببرود. سنفتح له ونحن نعلم أنه سيأتي بحزنه وأفراحه الصغيرة، بانتصاراته وخيباته. لكننا سنفتح الباب. لأن هذه هي الحياة: استقبال الضيوف الجدد، حتى ولو كنا ما زلنا نحس بفراق القديمين.

في النهاية، المهم كم حلماً ما زلت تجرؤ على أن تحلم به. ليس المهم كم مرة سقطت، بل كم مرة قلت لنفسك: لن أحاول مرة أخرى. في هذه اللحظة، بين نهاية وبداية، نحن مجرد أطفال نلعب بالثلج الذي يذوب بين أصابعنا. نعلم أنه سيزول، لكننا نستمتع ببرودته اللحظية، وبياضه النقي، وبفرحته العابرة.

إلى العام الجديد، الذي سيكتب على جبينه كما نكتب على دفاترنا المدرسية القديمة لنحاول مرة أخرى.

***

عبد السلام فاروق

للمكان فلسفة خفية تتجاوز كونه مساحة نتحرك داخلها أو إطاراً مادياً يحيط بنا، فالمكان ليس فراغاً محايداً، بل كائن حيّ في الوعي الإنساني، يشارك في صياغة ذاكرتنا وهويتنا بقدر ما نشارك نحن في تشكيله. في هذا الأفق، تلتقي الرؤى الفلسفية والأنثروبولوجية لتؤكد أن علاقتنا بالأمكنة ليست علاقة إقامة عابرة، بل انتماء عميق. فالإنسان، كما يرى الفيلسوف هايدغر، لا يوجد إلا بقدر ما "يسكن"، والسكن ليس جدراناً وسقوفاً، بل فعل رعاية واهتمام يحوّل الحيز إلى وطن. ويذهب باشلار إلى أن البيت ليس مأوى للجسد فقط، بل مستودع للأحلام والذكريات، وملاذ يحمي خيالنا ويمنحنا الطمأنينة النفسية. هكذا تتجلى العلاقة التبادلية بين الإنسان والمكان: نحن نصنع الأمكنة بوعينا وثقافتنا، وهي في المقابل تعيد تشكيلنا بصمتها العميقة، في تفاعل لا ينقطع. ومن هذا التلاحم يمكن قراءة حكاية أستراليا بوصفها قصة أرض وهوية تشكلتا معاً عبر الزمن.

فالهوية الأسترالية ليست نتاج لحظة واحدة، بل ثمرة تراكم تاريخي طويل تشابكت فيه جذور متعددة. في عمق هذه الجذور تقف ثقافة السكان الأصليين، أقدم ثقافة إنسانية مستمرة عرفها التاريخ، حيث يمتد حضورها إلى ما يزيد على ستين ألف عام. في رؤيتهم للعالم، لا ينفصل الزمان عن المكان، ولا الأرض عن الروح؛ فمفهوم “الحلم” ليس أسطورة عابرة، بل نظام وجودي يربط الإنسان بالأرض برباط مقدس، ويجعل المكان ذاكرة حية وسردية كونية. ثم جاء الإرث الاستعماري والمهاجرون الأوائل، الذين واجهوا قسوة الطبيعة واتساعها ووحدتها، فصاغت التجربة فيهم قيماً قائمة على التضامن والاعتماد المتبادل، حيث لا نجاة للفرد دون الجماعة. ومع الزمن، أضيف إلى هذا المزيج بعد ثالث تمثل في التعددية الحديثة، التي جعلت من أستراليا مجتمعاً منفتحاً تتجاور فيه الثقافات وتتحاور، لا بوصفها عبئاً، بل بوصفها مصدراً للقوة والتجدد.

ومن هذا الخليط التاريخي تشكلت منظومة قيم باتت تعرف بالطريقة الأسترالية في الحياة، وهي قيم ترفض التعالي والطبقية، وتمجد البساطة والمساواة. تتصدر هذه القيم فكرة الرفقة، التي تتجاوز معنى الصداقة إلى معنى أعمق من الولاء والاستعداد لمد يد العون للآخر، حتى لو كان غريباً. ليست كلمة “Mate” مجرد تعبير لغوي شائع، بل إعلان يومي عن الإيمان بالمساواة والتضامن الإنساني. ويتفرع عن ذلك إحساس راسخ بالمساواة الاجتماعية، حيث يُنظر إلى الجميع باحترام بغض النظر عن المنصب أو المكانة، وتنعكس هذه الروح في سلوكيات بسيطة لكنها دالة، ككسر الحواجز الرمزية بين الناس في تفاصيل الحياة اليومية. ويكتمل المشهد بقيمة “الفرصة العادلة”، ذلك الإيمان بأن لكل إنسان حقاً أصيلاً في المحاولة والنجاح، مع تعاطف خاص مع من يكافحون في الهامش، وكأن المجتمع بأسره يقف في صف “الضعيف” حتى ينهض.

هذه القيم لا تبقى شعارات مجردة، بل تتجسد في نمط حياة يومي يتسم بالعفوية والقرب من الطبيعة. طقوس الشواء في الحدائق والشواطئ، وحتى في المناسبات العامة، ليست مجرد عادة ترفيهية، بل فعل اجتماعي يعيد إنتاج الروابط بين الناس ويؤكد روح الجماعة. والارتباط الوثيق بالطبيعة، خاصة مع تمركز السكان على السواحل، جعل من الأنشطة الخارجية جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، حيث يصبح البحر فضاءً للحرية، والهواء الطلق امتداداً للذات. وتظهر البساطة أيضاً في الملبس واللغة وأسلوب العيش، في ميل واضح إلى الاختصار وكسر الرسميات، وكأن المجتمع بأسره يفضل القرب الإنساني على المسافات المصطنعة. وفي الوقت ذاته، يبرز الاعتراف بالأصل بوصفه ممارسة أخلاقية وثقافية، من خلال طقوس الترحيب بالأرض في المناسبات الرسمية، كإقرار رمزي بأن هذه البلاد لها ذاكرة أعمق من الدولة الحديثة، وأن احترام الجذور شرط لبناء مستقبل عادل.

وتبلغ هذه الصورة اكتمالها في التعددية الثقافية التي تحولت في أستراليا من واقع اجتماعي إلى قوة وطنية. فالتسامح الديني والفكري ليس مجرد نص قانوني، بل ممارسة يومية تتيح للاختلاف أن يكون ثراءً لا تهديداً. لذلك لا نجد هوية غذائية واحدة تختزل البلاد، بل فسيفساء من النكهات تمتد من آسيا إلى أوروبا والشرق الأوسط، كما لو أن المائدة الأسترالية تعكس خريطة العالم. وفي هذا الاندماج الخلاق بين التراث القديم والحياة الحديثة، بين المشي في البرية وصخب المدن، اكتسبت أستراليا عمقاً تاريخياً يميزها عن غيرها من مجتمعات العالم الجديد. إنها قصة مكان صنع الإنسان، وإنسان أعاد تعريف المكان، في حوار مفتوح لا يزال يكتب فصوله حتى اليوم.

***

حميد علي القحطاني

لعل من نافلة القول الإشارة إلى ان الثقافة العامة ابتداء، هي مزيج من الموهبة الفطرية للفرد، والخبرة المتراكمة مع الزمن. فبعض الأشخاص يولدون بموهبة، واستعداد فطري واضح، ومعهم حب للقراءة والإستكشاف، الأمر الذي يجعلهم أكثر استعدادًا، واندفاعا، لاكتساب الثقافة، والمعرفة.

وهكذا إذن، يمكن تطوير الثقافة باستمرار، حيث يلعب استعداد الفرد الفطري، ورغبته الشخصية، دورًا مهما، في تسريع تكوين ثقافته، وتشكيل معرفته.

كما يلاحظ ان الثقافة العامة، هي مزيج من المعرفة، والفهم، الذي يتيح للفرد التفاعل بايجابية، مع محيطه، ومع العالم من حوله، وخاصة عندما يستكشف جدل العلاقة البناءة، بين الموهبة الفطرية، والخبرة المتراكمة، في تحصيل الثقافة العامة.

 واذا ما كانت الموهبة الفطرية تمنح الفرد القدرة على الفهم العميق، وتمكنه من الربط بين الأحداث بشكل سليم، واستخلاص المعاني بسهولة، فإن الخبرة المتراكمة، والتعلم المستمر، والتجارب اليومية، تسرع من عملية بناء الثقافة، وصقلها في نفس الوقت.

على ان التفاعل بايجابية، مع البيئة الإجتماعية، والأوساط الأدبية، والعلمية، والفنية، يتيح للفرد تبادل الآراء، والأفكار، والمعارف، وبالتالي تعميق الخبرة المتراكمة، مما يعزز فهمه للعالم، ويعمق افاق نظرته لما يدور حوله من نشاطات..

ويظل التوازن بين الموهبة، والخبرة، امرا ضروريا، لتعميق الثقافة، وتراكم المعرفة، فالموهبة الفطرية بدون خبرة، قد لا تكون كافية لوحدها، دون تطويرها بالتعلم المستمر، وتعميقها بالتدريب المتواصل.

وبالمثل فإن الخبرة، دون استعداد فطري، قد تكون غير زاخرة، وسطحية، وبطيئة للتعلم.

وهكذا يكون بناء الثقافة العامة

بالقراءة المستمرة، في مختلف المجالات، مثل، التاريخ، والعلوم، والفلسفة، والأدب، والفن، وغيرها، امرا ضروريا، ولا مجال للتهاون فيه.

كما ان تبادل الآراء، والتفاعل مع الآخرين، والمشاركة الفعالة في المناقشات، والحوارات، مع ثقافة من خلفيات مختلفة، يعمق بناء الثقافة العامة، ويعزز المعرفة، ويغني التجربة.

على ان تنمية الحس النقدي البناء، والتأمل، والتفكير، في ما تعلمه الفرد من أفكار، وما حصله من معارف جديدة، باسقاط ماهو سلبي، وتصحيح ماهو خاطيء منها، يثري المعرفة، ويعزز تراكم الثقافة العامة.

***

نايف عبوش

منذ المرحلة المتوسطة لا أعرف كيف ركبتني هذه الفكرة، وخلاصتها أنني في مساء اليوم الأخير من كل عام أجلس فوق قمة الملوية (الجاون)، متأملا الفضاء الشاسع ومتواصلا مع الأكوان، أرقب غروب شمس اليوم الأخير من العام، وأمامي معالم القصور العباسية، فكنت أعيش لحظات روحية مترعة بالنشوة الإبداعية، التي تدفعني للكتابة حتى منتصف الليل.

كل آخر يوم من كل عام صار جلوسي عند المساء على قمة الملوية أشبه بالطقس، الذي تواصلت معه طيلة تواجدي في الوطن.

إستحضرت تلك الساعات التأملية الخلاقة ونحن على أعتاب نهاية عام ميلادي، وودت لو كنت جالسا فوق الجاون، وروحي تخاطب السماء وتحاور التأريخ والحياة!!

وكم تساءلت هل كان يجلس الخليفة المتوكل برفقة البحتري فوق الجاون؟

وأتعجب عن عدم وصف البحتري للمنظر الجميل المترع بالروعة الخلابة، فربما كان الوصف المجاني لا ينفع، فلكل كلمة عند البحتري ثمن، وهكذا وصف لا يمنحه المطلوب، أو ربما لم يخطر على بال المتوكل أن طلب منه وصف المشهد البديع، أو أنهما لم يجلسا فوق الجاون، وهذا إفتراض بعيد!!

ققمة الملوية كما في بعض المدونات كان عليها بناء أشبه بالرابية التاجية، التي يرنو الجالس فيها إلى بانوروما الحياة المتوهجة بأمواج التألق البهيج!!

مما يعني أن القمة كانت مرتعا روحيا وتأمليا للذي يكون فوقها، وهذا ربما يرجح أن المتوكل والبحتري أحيانا كانا يتنادمان عليها وهما في ذروة الإشراق.

مَن يجالس التأريخ عند الغروب فوق قمة الملوية تتكشف له أغطية المحجوب!!

بها روحٌ إلى العلياءِ تَسري

تلوّتْ نحوَ مُطلقِها لتدري

أرادوا عرشَ أكوانٍ تَجلّتْ

موثقةٍ بآياتٍ بذكرِ

لسامقةِ العصورِ أتى زمانٌ

يحدّثنا بلا عِلمٍ ويُفري

جَهولٌ في مَرابعنا تمادى

يُمزّقنا ويَدْعونا لغدرِ

***

د- صادق السامرائي

القرآن الكريم كتاب رب العالمين الذي انزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ليكون النور الذي يُضيء لهم الطريق، والهداية التي تُصلح نفوسهم، وتسعد بالهم، بمحافظتهم على تلاوته، وتطبيق هديه الكريم، قال تعالى (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا") (الإسراء: 9).

فهذه الآية الكريمة تلخص جوهر رسالة القرآن، فهو كتابٌ رب العالمين، جامعٌ لكل ما يحتاجه الإنسان في دينه ودنياه، ليرشده إلى الطريق المستقيم، ويهديه إلى الحقيقة التامة التي لاريب فيها، والتي تُصلح الفرد والمجتمع .

وتقوم هداية القرآن للتي هي أقوم، على قاعدة التوحيد الخالص لله تعالى، والبعد المطلق عن الشرك والضلال، قال تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: 161).

 كما أن القرٱن الكريم يربي الانسان على العدل، والرحمة، والصدق، والتسامح في حياته العملية، وفي ذلك يقول الله تعالى (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن: 9).

وهكذا برسي القرٱن الكريم للانسان أسس التنظيم الاجتماعي السليم في التعامل بين الناس، لحفظ الحقوق، ومحاربة الظلم والفساد، تحقيقا لمجتمع فاضل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) (المائدة: 8).

وبذلك يضع القرآن الكريم أسس الصلاح النفسي لتطهير القلوب من الحسد، والكبر، والغل، وسوء الظن، تحقيقا للطمانينة التامة، والراحة النفسية، والمعنوية الكاملة (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).

ولابد من الإشارة إلى أن هداية القرآن تتحقق بتلاوته، وتدبره، وقراءته، بقلب حاضر، وتأمل عميق لمقاصده، ومعانيه، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (ص: 29)، والعمل على التطبيق العملي لهديه، وجعله منهج حياة، أخلاقا، وتعاملات، وسلوكا عمليا (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(الزمر: 18).فيتحقق عند ذاك المجتمع الرشيد، الذي ينعم بالطمأنينة، ويرفل بالسعادة.

***

نايف عبوش

إن لم أكن أنا، فمن أكون؟، ذاك السؤال العميق الذي يأتينا من حدود الثقب الأسود في الذاكرة النائمة من الزمن الماضي. لن نستطيع لهذا السؤال استيفاء أجوبة قارة ومقنعة، ولا حتى الجواب عن كنهه المعرفي بغباء، ولكن حين نُريد تقمص أدوار المنجمين في تفكيك أنساق الآليات حتى بالأجزاء البسيطة منها، فقد نتواجد ضمن خانة من بات يُماثل فم الثرثار، والذي يُدمر كل شيء بالإطناب وبالإسهاب في تمطيط المبررات التسويغية.

ما يضحكنا من هذا سؤال: (إن لم أكن أنا، فمن أكون؟) والذي قد يجده البعض منَّا غبيا بحد غباء عقل الإنسان المحدود في الزمان والمكان، وقد يماثل سماع صوت رجل ميت في كفنه الأبيض، وينتظر بدايات ختم الدفن والدعاء. سؤال الرجل الميت الذي يتشبث بقشة الخلاص (هيهات ثم هيهات !!!)، ويريد أن يستغل بطولات النهايات لا البدايات، وهو يبحث عن جواب القسط الثاني من السؤال: (فمن أكون؟) ويزيد من نهم التساؤلات: هل أنا في روضة الجنة؟ كيف لي أن أهرب نحو النور بلحاف الموت الأبيض؟ حقيقة مطلقة، المسكين لا يقدر الانزياح أو التململ من مكانه، ومن مصيره الحتمي، لكنه يُشبَّه له أنه يرى جميع الأحياء يوجدون في الظلام!!! ما دامت أن الرؤية العينية الذاتية قد سرقت منه، وهو بالضبط من يتواجد في انعدام فسحة الرؤية !!! فقد يكون صاحب سؤال (فمن أكون؟) يفكر حتى في حتمية موته بأنانية مطلقة لم يفارقها بتاتا في حياته الفانية، وكأنه البطل لكنه في الحقيقة كان عبدا مطيعا للأبطال الحقيقيين. كان سؤال (فمن أكون؟) يسافر بين الأزمنة والأمكنة سريعا، وبين بيانات صفحات كتاب يمينه وشماله من أحداث الماضي إلى حاضر نهايته، وهو بتفكير الثقب الأسود ونهاية عمره بالدفن ينشغل بلا نتائج، كانت حينها بدايات الحياة الدائمة تتحد بالمساءلة والمحاسبة.

تفكيره صاحب سؤال (فمن أكون؟) في تلك اللحظات الحاسمة، كان يماثل تفكير السمك الذي يستبيح الرضا بالتعفن في الرأس من شدة اختلاط الصالح والطالح، حيث يكون شديد البحث عن فجوات الثقوب غير السوداء لكي ينتهي من الشدة في العقاب نحو سعة عيش النهايات، والتي باتت تُلازم كفنه الأبيض، وتُطارده بلا هوادة بقياس ميزان الخير والشر. حتما، لم يتأت له الكشف عن الثقب الأبيض الذي يدفع الدناسة بعيدا حتى تنجلي ذاته بيضاء ناصعة عند الحضور في احتفاليات الحزن وعمليات الدفن بريئا، بل كان صاحب سؤال (فمن أكون؟) يردد وبلا صوت مسموع عند من حضر سنة العزاء: أين ما كنتم أريد أن أبقى معكم؟ إنها بحق أنانية التمسك بالحياة، وبالبطولات والتي كان فقط جسرا طيعا لها !!!

من قريب جاءه صوت من الخلفية غير المرئية، وكان جوابا مربكا ومخيفا: يبدو أننا شيئا ما في الجحيم !!! ويجذبنا الثقب الأسود بقوة !!! ولسنا ممن يدفع به الثقب الأبيض نحو شعاع نور!!! تراجع سمعه لحظتها مثل الأصم، حين تأكد أنه ولد لأكثر من مرة، ولديه أكثر من اسم في دنيا (لم أكن أنا) !!! وبات التأسي يبدو عليه بالارتباك والخوف من تلك المآلات السيئة، وهو لازال حبيس كفنه الأبيض، وبلا حركة ممكنة، ولا دفوعات سجالية، ولا حتى سميع من إنسي يفك عنه لثام الخاتمات والنهايات، ويسانده في أجوبة سؤال (فمن أكون؟).

فكر في ترك (الجمل بما حمل !!!)، وبأن يدفع بذاته نحو التيار البحري الجارف نحو روضة أمان، ويتخلص من تلك الصخرة التاريخية التي تمسك بها حد النواجذ، ولم تقدر على حمايته بتاتا من لطمات الموج غير السارة. حينها اكتشف أنه قد يكون من الناجين بتجربة مقايسة (الخير والشر) والتخلص النهائي من سؤال: إن لم أكن أنا، فمن أكون؟ حتما، لن يكون هو البطل الخرافي، بل قد يبقى يتشبث بالقشة الضعيفة، ليعلن يوم الختم أنه كان الخاسر الأكبر في ركوب أمواج البطولات في بحر الظلمات.

***

محسن الأكرمين

تساؤلات تطرح.. هل الإنسان هو النسخة نفسها منذ ولادته حتى مماته، أم أنه يتعدد ويتحوّل عبر الزمن؟

يقول العلماء من الناحية البيولوجية، يولد الإنسان بهوية جينية شبه ثابتة، تشكل الإطار العام لخصائصه الجسدية وبعض استعداداته النفسية. غير أن هذه الثباتية لا تعني أن الإنسان يظل «نسخة واحدة» بالمعنى الوجودي أو السلوكي. فالهوية الإنسانية ليست مجرد معطى فطري، بل هي بناء تراكمي يتشكل عبر الخبرة والتفاعل مع العالم المحيط، فيما تشير الدراسات النفسية إلى أن الإنسان يمر بمراحل تطورية متعاقبة، تتبدل فيها نظرته إلى ذاته وإلى الآخرين. فقد بيَّن عالم النفس التطوري إريك إريكسون أن الهوية تمر بأزمات وتحولات في كل مرحلة عمرية، من الطفولة إلى الشيخوخة، وأن كل مرحلة تفرز «نسخة» مختلفة من الإنسان، وإن كانت متصلة بما قبلها. فالإنسان ليس كائنًا منقطعًا عن ماضيه، لكنه أيضًا ليس أسيرًا له، ويؤكد علماء المنظور الاجتماعي والثقافي، فإن الإنسان يتعدد بتعدد الأدوار التي يؤديها: فهو فرد داخل أسرته، وشخص مختلف في محيط العمل، ونسخة أخرى في الفضاء العام أو في العالم الرقمي. هذا التعدد لا يعني النفاق أو الازدواجية بالضرورة، بل يعكس قدرة الإنسان على التكيُّف مع السياقات وتتضاعف أسباب هذا التعدد مع تراكم التجارب الحياتية؛ فالصدمات، والنجاحات، والخسارات، والتعليم، والسفر، والاحتكاك بثقافات أخرى، كلها عوامل تعيد تشكيل الإنسان من الداخل. أحيانًا يشعر الفرد أنه «لم يعد الشخص نفسه» بعد تجربة معينة، وهذا الشعور ليس وهمًا، بل تعبير عن تحول حقيقي في منظومة القيم والتصورات

يقال إن الفلسفة هي ابنة زمانها، وإنها المرآة التي تعكس قلق الإنسان وأسئلته الكبرى في كل عصر، فإذا كان القرن الـ20 قرن الأيديولوجيات الكبرى والتنوع الهائل للتيارات الفلسفية المتشابكة مع علوم أخرى قد تميز باستمرار الاهتمام بالقضايا الكلاسيكية كالأنطولوجيا والإيتيقا والإبيستمولوجيا والسياسة والهوية مع ظهور أسئلة جديدة تشكلت بفعل التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية والسياسية والحداثة المتأخرة والشك في العقل واللغة واللسانيات والتحليل النفسي والأيديولوجيات ونهاية التاريخ والإنسان والمؤلف، فإن القرن الـ21 هو قرن التحولات السريعة، العلمية والرقمية والبيئية والسياسية والدينية، التي أعادت طرح السؤال الفلسفي في سياقات غير مسبوقة، علماً أن التفكير الفلسفي في هذا القرن ليس مقطوع الصلة بفلسفات القرون السابقة، بل إن بعض التيارات الفلسفية تعد امتداداً وتطويراً للأفكار الأساسية التي سادت في القرن الـ20 كأعمال جاك دريدا وجان فرنسوا ليوتار في مجال اللسانيات، وجوليا كريستيفا في فقه اللغة، وجان بودريار ورولان بارت في السيميائيات، وجيل دولوز وجاك رانسيير في الجانب الجمالي، وميشيل فوكو في الفلسفة الاجتماعية، وسيمون دو بوفوار وجان بول سارتر في الفكر الوجودي، وكلود ليفي ستروس في الأنثروبولوجيا، وفليكس غاتاري ولوس إريغاراي في التحليل النفسي... إلخ، وأن تأثير مناهج الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية والوجودية والفينومينولوجيا والهيرمينوطيقا ما زال فاعلاً في فكر جان-لوك ماريون وميشال سير وغيرهما،

وهنا يمكن القول إن الإنسان ليس نسخة واحدة جامدة، ولا نسخًا منفصلة، بل هو كيان متحول ذو جوهر مستمر، تعاملنا مع الناس، فهو بالغ الأهمية. فإذا أدركنا أن الإنسان قابل للتغير، وأن ما نراه منه اليوم ليس بالضرورة صورته النهائية، فسنتعامل مع الآخرين بقدر أكبر من التفهم، والتسامح، وعدم التسرع في إطلاق الأحكام. كما يدعونا هذا الفهم إلى إعطاء الناس فرصة للنمو والتصحيح، وألا نختزلهم في ماضيهم أو في أسوأ لحظاتهم.

وتعتبر الذات مصدر الفهم العميق للنفس، فهي تشمل المعتقدات والقيم والمشاعر والتجارِب التي تحدد هوية الشخص وطريقة تفاعله مع العالم من حوله، كما يمكن أن تتأثر الذات بالعوامل المختلفة مثل الثقافة، والتعليم، والتجارب الشخصية، مما يجعلها متطورة ومتغيرة على مر الزمن.

***

نهاد الحديثي

ناجح المعموري، ابو وهب، صديق العمر، من تبقى لنا بعد غيابه، من يتذكر تلك الايام والسنوات والغربة وأحزان الوداع والرحيل؟. فقدناه.. خسارة زمن لا تعد محطاته ولا تحسب درجاته.. اي الم يتركه البعد ويبقيه الغياب؟. كنا في اول الشباب والكتابة والنشر وأمسيات الحوار والنقد الثقافي وهموم القراءة والثقافة والسياسة والوطن. ليست تلك صور للذكرى وليست ذكرى لصور الماضي والحاضر، انها صدق الصداقة ووفاء المعرفة ونزاهة العلاقات.. لا يمكن ان ازور العراق دون ان أزوره ولا يمكن ان نلتقي دون جردة حساب للتاريخ والأمل بوطن حر فعلا وحصاد عمر مزهر.. كتبه ومؤلفاته وعلاقاته شاهد وسؤال له ولنا ولمن يتذكر بمودة واعتزاز. سجل حافل بالجهد ومملوء بالمعرفة وغني بالمحتوى وجامع للإدراك ودافع للوعي والاشتباك الثقافي، المعرفي الرصين. خبر محزن، مؤلم، موجع ان يأتيك وانت تحسب للقاء وحديث واستعادة لمعنى الصداقة في هذه الايام وهذه الاوقات وهذه المنعطفات..التي تبتعد فيها المسافات وترهق فيها أحمال الاغتراب والمنافي، داخل البلاد وخارجها. ابا وهب لك الرحمة والذكر الطيب دائما ومن الصعب ان يحل الوداع بهذه العجلة من الزمن وبهذه الساعات التي لا تعوضها الكلمات ولا تستعيدها الدمعات.. ولأن الحياة هكذا هي دون قدرة اخرى على قضائها وقدرها، فوداعا كما تريد وتظل في الذاكرة والأجيال ضوءا ومقام اخ غال وودود..

***

كاظم الموسوي

في اليوم العالمي للغة العربية في (18\12) من كل عام، تنهال على الصحف والمواقع النصوص النواحية التي تؤبّن لغة الضاد وتشيعها إلى مثواها كما يرى الرثائيون المتشائمون، الذين ينتقدون ولا ينقدون، وبدون وعي منهم يساهمون في توجيه الطعنات للعربية.

العديد من المقالات والنصوص المكتوبة باللغة العربية  تنعاها، مثلما نعاها حافظ إبراهيم قبل أكثر من قرن في قصيدته المعروفة.

فهل الراثون إستطاعوا دفنها؟

اللغة العربية أبّنَت الناعين لها، وتطورت وعاصرت وتحدّت، وهي اللغة المتواكبة مع التطورات الفاعلة في الدنيا، فلا خمدت ولا إنكسرت أو أصابها الإهمال وما تخلى عنها أهلها، لأنها هويتهم ولسان حالهم وصوتهم المتردد في الآفاق.

على الأقلام التي تكتب الإبتعاد عن الإنتقاد المناهض لواقع اللغة ودورها الحضاري، ومن واجبهم الإنساني توجيه النقد لتعديل بعض المسارات المعوجة.

للعربية أعلامها ورموزها، والناطقون بضادها، والقادرون على إستحضار معطيات العصر بها، فلا توجد لغة في الدنيا قاصرة عن إستيعاب وتمثُل ما تأتي به العقول، فكيف يصح إتهام اللغة العربية بما لا يتوافق وقدراتها التعبيرية والإستيعابية.

توقفوا عن الكتابات المستهينة باللغة العربية، والعجيب أنها مكتوبة بها، وتحاول أن تخدع أهلها بأنها عاجزة عن التفاعل مع المعطيات المتلاحقة. فهل أنها كتابات مغرضة؟

لغةُ الأجيالِ دامتْ لغتي

قوةٌ تبقى وفيها عِزّتي

لا تقلْ هانتْ بجيلٍ صاعدٍ

وبها الأفكارُ أذكتْ ثورتي

لغةُ الفرقانِ تأبى ذلةً

إنّها تحيا بروحِ الأمّةِ

***

د. صادق السامرائي

 

لم تعد الصداقة في عالمنا المعاصر علاقة بسيطة تقوم على القرب الانساني وحده، بل أضحت محاطة بأسئلة عميقة تتعلّق بالصدق والمصلحة وحدود الثقة بين الأفراد. فلم يعد الفلم يعد الإنسان يهتمّ بالبعد الروحي والتطوّر الفكري فحسب، بل أصبح يبحث عن صداقات تدرّ عليه ربحا اجتماعيا وماديا. وهنا يتولّد السؤال الجوهري: بين النضج والاستقرار الروحي، والبحث عن صداقات ذات نفع اجتماعي، ايّهما يمثّل العمق الحقيقي للصداقة في عالم معاصر متغيّر؟

لقد فرضت التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية منطقا جديدا على العلاقات الإنسانية، حيث لم تعد الصداقة تُقاس بعمق المشاعر وصدق النوايا فقط، بل بمدى قدرتها على تحقيق منفعة ملموسة في الواقع اليومي. وهنا يمكن فتح قوس للتأمل بالعودة إلى التصوّرات الفلسفية الكلاسيكية حول معنى الصداقة. فقد تساءل سقراط عن ماهية الصديق الحقيقي: أهو مجرّد رفيق طريق أم علاقة أعمق من ذلك؟ ليجيب أفلاطون بأن الصديق هو "روح واحدة تسكن جسدين"، أي امتداد للذات في الآخر. أما نيتشه، فرأى أن الصديق لا ينبغي أن يكون ظلّا لنا، بل "سيفنا أمام الأعداء ومرآتنا أمام أنفسنا" في إشارة إلى الصداقة بوصفها علاقة صدق ومواجهة. ويضيف كونفوشيوس، من زاوية أخلاقية، أن الصديق الصالح هو من يرشدك إلى الفضيلة ويقوّم اعوجاجك

غير أنّ هذه المعاني السّامية للصداقة، بكلّ ما تحمله من عمق إنساني وأخلاقي، تبدو اليوم مهدّدة بالذوبان في ما سمّاه زيغمونت باومان "العصر السائل" حيث باتت العلاقات هشّة، مقيدة بمنطق السرعة والحاجة الاقتصادية، فاقدة لثباتها ومعناها.

وفي هذا السياق، لا يمكن الجزم بأن الصداقة فقدت معناها كليًّا، بقدر ما يمكن القول إن الإنسان المعاصر أصبح ممزقاً بين حاجته إلى العمق، وضغط الواقع الّذي يدفعه إلى علاقات نفعية وسريعة. فلا يمكننا الادّعاء بأن الصداقة الصادقة، أصبحت نادرة أو منعدمة، بل الأجدر أن نسلط الضوء على تغيّر الإنسان نفسه، إذ هو من أعاد تشكيل مفهوم الصداقة، وحوّل جوهرها من علاقة تقوم على القيمة والمعنى، إلى وسيلة نفعية تخدم المصالح الفرديّة أكثر ممّا تخدم الروابط الإنسانيّة.

وعليه، تبقى الصداقة مرآةً صادقة لزمنها، تعكس طبيعة الإنسان أكثر ممّا تعكس طبيعة العلاقة في ذاتها. ومن هنا يُطرح الإشكال الآتي: هل يمكن أن نُعيد للصداقة قيمتها الأخلاقية الهادفة، وأن نجعل منها علاقة ترفع وعي الإنسان في زمنٍ تهيمن عليه المصالح واللامبالاة؟

***

الأستاذة: أميرة رخيس

 

يعد الانتماء النفسي للمنظمة ثقافة أصيلة وجذراً عميقاً من جذور النجاح المؤسسي، فهو ليس مجرد شعور عابر أو شعار يرفع، بل حالة وجدانية متكاملة تنتج طاقة متدفقة من الإخلاص والوفاء، وتشعل في داخل الموظف والمسؤول على حد سواء حساً عالياً من الالتزام والمسؤولية والانتماء الحقيقي.

عندما يتحقق الانتماء النفسي، يشع وجدان الفرد إخلاصاً وثقة بمن حوله، فيدعمهم، ويشاركهم، ويسخر خبراته وطاقاته لخدمة العمل والناس من حوله. يعمل بانسجام وراحة داخلية، دون أن يستشعر ثقل الجهد أو وطأة الإرهاق والجهد المضن، بل يبذل الكثير دون شكوى أو تذمر، لأنه يرى في عطائه معنى، وفي عمله قيمة، وفي منظمته بيتاً ثانياً لا مجرد مكان يتقاضى منه راتباً أو مصلحة يقضيها أو ينتفع منها.

الموظف المنتمي لا ينظر إلى نفسه كأجير ينتظر الأجر آخر الشهر، بل يرى ذاته شريكاً أصيلاً في النجاح، وعنصراً فاعلاً في البناء والنمو والتطوير، ومسؤولاً عن جودة الأداء وسمعة المؤسسة وصورتها المشرقة واستمراريتها نحو التقدم والأزدهار. وهنا يتحول الانتماء النفسي تلقائياً إلى ولاء مؤسسي قائم على حب العمل، والتفاني فيه، وبذل الطاقات والقدرات لإنجاحه وتطويره، حتى تتجسد هذه الجهود في صورة نجاحات ملموسة، وجودة في الأداء، واحترافية مهنية عالية تسخر فيها الإمكانات لخدمة الرؤية التي تحلم بها والرسالة المؤسسية التي تسعى لتطبيقها وتنفيذها من أجل الوصول إلى غاياتها وأهدافها.

وفي المقابل، يبرز الفارق الجوهري – بل الشاسع – بين موظف أو مسؤول يرى عمله محصوراً في الرتبة والمنصب والمنفعة المادية والأجر، ولا يحمل أي ارتباط وجداني أو استعداد للتضحية، وبين موظف أو مدير يرى العمل رسالة وحرفة، ويتعامل معه بإخلاص منقطع النظير، فيبذل كل ما يملك من وقت وجهد وفكر لينجح العمل، ويرتقي به في سلم التميز والتوسع والنمو.

إن بناء الانتماء النفسي لا يحدث صدفة، بل هو نتاج مباشر لأسلوب القيادة والإدارة. فالمسؤول الواعي يسهم بشكل حاسم في صناعة هذا الانتماء من خلال تجويد العلاقة الإنسانية والمهنية مع الموظفين، قائمة على القبول، والاحترام، والتقدير، والدعم، وعدم التخلي عنهم وقت الحاجة. يثمن جهودهم، ويعترف بعطائهم، ويمنحهم أجراً عادلاً يتناسب مع خبراتهم والجهود التي يبذلونها، ويراعي ظروفهم النفسية والاجتماعية والأسرية، إدراكاً منه أن الإنسان هو جوهر المؤسسة وقلبها النابض وركن أصيل وأساس متين في نجاحها.

وشتان بين مسؤول يرى الموظف مجرد أجير يمكن استنزافه واستغلاله دون اعتبار لإنسانيته أو نفسيته، وبين مسؤول يرى فيه شريكاً، فيحتويه، ويدعمه، ويصنع معه بيئة عمل صحية وآمنة. فالأول يقتل الانتماء، ويزرع النفور، وينتج موظفاً منفصلاً نفسياً عن منظمته ومنسلخ من الانتماء والولاء، أما الثاني فيبني الولاء، ويغرس المحبة، ويخلق حالة من التوافق والانسجام تدفع الموظف للعطاء بإرادة داخلية صادقة وهمة قوية.

وخلاصة القول: إن المسؤول المهتم يصنع الانتماء، ويحول العمل إلى مساحة نمو وكرامة وإنجاز، بينما المسؤول الغافل يبدده، ويجعل المنظمة عبئاً نفسياً على العاملين فيها. فالانتماء النفسي ليس ترفاً إدارياً، بل ركيزة أساسية للاستدامة، وجودة الأداء، ونجاح المؤسسات في عالم لم يعد يقيس التفوق بالموارد فقط، بل بالإنسان أولاً وأخيراً.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

23-12-2025

النخلة، تلك الشجرة الصامتة تقف شامخة بين الأرض والسماء، شاهدة على مرور الأيام وتبدّل المواسم وجذورها تمتد في التربة بحثًا عن الماء، وسعفاتها تعانق الشمس والرياح، وثمرها يكتمل بصبرٍ لا يعرف الاستعجال.

تأخذنا النخلة في رحلة، شهرًا بعد شهر وموسمًا بعد موسم لنرى كيف تتفاعل مع الطبيعة من حولها، وكيف تصمد في وجه الحر والبرد، وكيف تمنح الظل والثمار بلا كلل وهنا بين يوم وآخر، نتعلم الصبر والمثابرة والعطاء الصامت ونرى انعكاس الزمن على كل عقدة في جذعها وكل سعفة في قمتها.

من الشتاء البارد إلى حرارة الصيف، ومن المطر إلى الرياح ومن براعم الربيع إلى ثمار الخريف سنتتبع النخلة نسمع صمتها نشعر بحياتها ونرى كيف يمكن للطبيعة أن تكون مدرسة للصبر والقوة والوفاء عبر أشهر السنة:

[كانون الثاني – يناير]

الشتاء لا يزال قاسيًا، والرياح الباردة تهب بلا هوادة وجذور النخلة تمتد في الأرض بحثًا عن أي رطوبة متبقية من الأمطار السابقة، وسعفاتها تتصلب لكنها صامدة تحتفظ بقدرتها على امتصاص أشعة الشمس القليلة، فتغذي نفسها وتعد الثمار القادمة والفلاح يمر عليها يراقبها ويعرف أي سعفة بدأت بالذبول، وكل تفصيلة فيها تبدو كصفحة يومية في سجل الحياة.

[شباط – فبراير]

الندى قد ذاب، والمطر يتكرر، والأرض تتشبع بالماء والجذور تشربه ببطء، والنخلة تتنفس وسعفاتها تتلألأ تحت قطرات المطر وكأنها تغني سر الحياة الصامتة والطلح لم يظهر بعد لكنه يستعد للنمو في عمق عقل النخلة، التي تختزن الطاقة للأشهر القادمة.

[آذار – مارس]

أول علامات الربيع تظهر، السعفات الجديدة رقيقة وخضراء فاتحة، تملأ الفراغ بين سعفات الشتاء الباهتة والفلاح يبدأ بتقليم النخلة يزيل السعفات الميتة ويترك المجال للضوء كي يصل إلى قلب الشجرة والأرض بدأت تدفأ، والجذور تعمل ببطء، تجمع الغذاء وتمتص المعادن وتعد نفسها لمرحلة الإزهار.

[نيسان – أبريل]

الربيع في أوجه، الشمس أدفأ والرياح لطيفة والنخلة تظهر براعم صغيرة على أطرافها علامات الحياة الجديدة والفلاح يراقبها بعين خبيرة يلمس جذعها ويشعر بالصلابة يعرف أن كل عقدة في الجذع تحمل موسمًا سابقًا ودرسًا في الصبر والطيور تحط على سعفها بحثًا عن مأوى ومأكل والنخلة تمنحها الظل والأمان.

[أيار – مايو]

الحرارة تتزايد، الأرض تجف بسرعة والجذور تمتد أعمق للعثور على الماء والنخلة تتحمل، تعلمها الطبيعة الصبر على النقص، تعلمها كيف تعطي بلا شكوى؟

البراعم تتحول إلى أزهار صغيرة تشبه الرؤى، لا يعرف أحد شكلها حتى تكتمل والشمس تصعد عالية، والأوراق تتأرجح مع الرياح وكأنها رقصة خفية مع عناصر الطبيعة.

[حزيران – يونيو]

الحرارة بلغت ذروتها، والنخلة تصمد بلا كلل وسعفاتها تُسقط بعض الرطوبة والجذور تعمل تحت الأرض بلا توقف والأزهار تتحول إلى ثمار صغيرة، البلح لم يتشكل بعد لكنه يحتفظ بنكهته المحتملة في الداخل والفلاح يروي الأرض عند الحاجة يراقبها بعناية، مدركًا أن هذه الأشهر حرجة للثمار القادمة.

[تموز – يوليو]

الحرارة شديدة، الشمس تقسو بلا رحمة النخلة تعلم أن الصمود فن، والظل الذي تمنحه ثمرة جهدها والبلح يبدأ بالنضج تدريجيًا، يتحول من أخضر خفيف إلى أصفر كالذهب، لكنه يحتاج إلى الوقت ليصبح حلو المذاق وكل حركة سعفاتها تحمل حياة وكل ظل على الأرض يروي قصة صبرها.

[آب – أغسطس]

البلح يكاد يكتمل، والشمس لا ترحم والفلاح يتفقد كل ثمرة، يزيل التالفة ويترك الأفضل للنضج الكامل والجذور تمتص الماء بلا توقف، تحافظ على الثمار. النخلة صامتة لكنها تنبض بالحياة، كل ورقة تحمل درسًا وكل عقدة تحكي موسمًا.

[أيلول – سبتمبر]

أيام جني الثمار بدأت، والتمر جاهز والفلاحون يجنونها بعناية، يعرفون أي ثمرة حلوة وأيها ناقصة والنخلة تفرغ قلبها من عطايا الموسم، لكنها لا تضعف، لأنها تعرف أن الحياة مستمرة، والجذور ستواصل العمل للموسم القادم.

[تشرين الأول – أكتوبر]

الحرارة بدأت تنخفض، سعفاتها تتغير تدريجيًا وبعض الثمر المتأخر يُترك والجذور تبدأ بالاستعداد للشتاء والنخلة تعود لتقوية نفسها، تمتص ما تبقى من الماء تجمع الطاقة وتستعد للصمود من جديد.

[تشرين الثاني – نوفمبر]

الأيام أقصر، الضوء أقل والنخلة تتكيف مع قصر النهار والسعفات تصبح أغمق وبعض الفروع القديمة تذبل لكنها لا تموت، والأرض تحتها تبرد، والجذور تتعمق لحماية الشجرة من فقدان القوة.

[كانون الأول – ديسمبر]

الشتاء عاد كما في بداية الدورة، والنخلة واقفة صامدة وجذورها في الأرض الباردة وسعفاتها تتحمل البرد والرياح وكل موسم مضى، وكل ثمرة قطفت، وكل سعفة ذبلت تبقى النخلة ثابتة، صامتة، وشاهدة على حياة متكررة لكنها لا تشبه نفسها أبدًا.

هكذا، طوال العام، تعلم النخلة الإنسان الصبر، تعلمه العطاء دون انتظار، تعلمه أن البقاء ليس مجرد صمود في الظهور بل عمل خفي مستمر، تواطؤ هادئ مع الأرض والماء والحرارة والرياح، حياة صغيرة لكنها مكتملة في تفاصيلها الواقعية.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

في أحضان الحقول الممتدة وتحت شمس الصباح الحارقة تقف المرأة الريفية صامدة تحمل بين يديها ثمار الأرض وحكايا الحياة اليومية وهي ليست مجرد عنصر من عناصر المجتمع، بل هي روح الأرض التي تمنح الحياة، وقلب الوطن الذي ينبض بالعطاء والصبر.

من رعاية الأسرة إلى العمل في الحقول ومن نقل التقاليد والقيم إلى صون النسيج الاجتماعي، تتجلى أهميتها في كل لحظة من حياة الريف وصبرها لا يُقاس، وعطاؤها لا يُحصى، لكنها رغم كل ذلك غالبًا ما تبقى الوجود الصامت الذي يصنع الفرق الكبير.

في هذه المقالة، سنستعرض الدور الحيوي للمرأة الريفية من جميع الجوانب: الاقتصادي، والاجتماعي، والتنموي والتعليمي، لنكشف كيف تتحول المرأة إلى ركيزة أساسية لاستمرار المجتمع وبقاء الوطن نابضًا بالحياة.

وليست المرأة في المجتمع الريفي كائنًا هامشيًا أو تابعًا لدورة الحياة اليومية، بل هي جوهرها العميق، ومحركها الخفي وعمودها الذي لا ينهار مهما اشتدت العواصف فبين الحقول، وتحت شمس المواسم القاسية، وفي تفاصيل البيت الطيني، تتشكّل صورة امرأة لا تعرف الكسل، ولا تتقن الشكوى، لكنها تمارس أعقد أدوار الوجود الإنساني بصمتٍ يشبه الحكمة المتوارثة.

أولًا: المرأة الريفية بوصفها أساس الاقتصاد الزراعي

تلعب المرأة الريفية دورًا محوريًا في الاقتصاد المحلي، خصوصًا في المجتمعات التي تعتمد على الزراعة وتربية المواشي فهي تشارك في زراعة الأرض، وبذر البذور وحصاد المحاصيل، وجمع الأعلاف، ورعاية الحيوانات، وتصنيع المنتجات الغذائية التقليدية كالألبان والأجبان والمخبوزات وفي كثير من الأحيان، تكون المرأة هي اليد العاملة الأكثر ثباتًا واستمرارية، في ظل هجرة الرجال إلى المدن بحثًا عن العمل.

ولا يقتصر دورها الاقتصادي على الإنتاج فقط، بل يمتد إلى إدارة الموارد، وترشيد الاستهلاك، وضمان الأمن الغذائي للأسرة مما يجعلها عقلًا اقتصاديًا عمليًا، يوازن بين الحاجة والقدرة، وبين الحاضر والمستقبل.

ثانيًا: المرأة الريفية حارسة النسيج الاجتماعي

في المجتمع الريفي، تقوم المرأة بدور اجتماعي بالغ الأهمية؛ فهي حافظة العادات وناقلة التقاليد، وذاكرة المكان ومن خلالها تنتقل القيم الأخلاقية، وأعراف التضامن ومبادئ التعاون، واحترام الأرض والجار والعائلة. وهي التي تُصلح ذات البين وتداوي النزاعات الصغيرة، وتعيد التوازن الاجتماعي داخل الأسرة والقرية.

كما أن المرأة الريفية تتحمل عبئًا عاطفيًا كبيرًا؛ فهي الأم، والمربية، والمرشدة الأولى وصاحبة الكلمة الحاسمة في بناء شخصية الأجيال الجديدة، خصوصًا في ما يتعلق بالصبر، والانتماء، والعمل الجماعي.

ثالثًا: المرأة الريفية والتعليم… معركة الوعي الصامتة

رغم التحديات الكبيرة التي تواجه تعليم المرأة في الريف—من فقر، وبعد المدارس وضغط الأعراف الاجتماعية—إلا أن المرأة الريفية أثبتت قدرتها على خوض معركة الوعي بصبرٍ طويل. فالمرأة المتعلمة في الريف لا تغيّر مصيرها فقط، بل تغيّر مصير عائلة بأكملها.

وقد أثبتت الدراسات أن تعليم المرأة الريفية ينعكس مباشرة على:

- تحسين صحة الأسرة

- خفض معدلات الفقر

- زيادة الإنتاج الزراعي

- رفع مستوى الوعي الصحي والبيئي

إن المرأة الريفية المتعلمة تصبح جسرًا بين الحداثة والتقاليد، قادرة على استيعاب التطور دون أن تفقد هوية المكان.

رابعًا: المرأة الريفية والصحة المجتمعية

تلعب المرأة الريفية دورًا حاسمًا في الحفاظ على الصحة العامة داخل المجتمع. فهي المسؤولة الأولى عن التغذية، والنظافة والعناية بالأطفال وكبار السن وفي كثير من القرى، تكون المرأة مصدر المعرفة الصحية الشعبية، مستندة إلى خبرات متراكمة في التداوي بالأعشاب، والوقاية، والتعامل مع الأمراض البسيطة.

كما أنها خط الدفاع الأول ضد سوء التغذية والأوبئة، والإهمال الصحي، خصوصًا في المناطق التي تعاني من ضعف الخدمات الطبية.

خامسًا: التحديات التي تواجه المرأة في المجتمع الريفي

رغم كل هذه الأدوار، لا تزال المرأة الريفية تواجه تحديات جسيمة، أبرزها:

- التهميش الاقتصادي وعدم الاعتراف الرسمي بعملها.

- ضعف فرص التعليم والتدريب.

- القيود الاجتماعية الصارمة.

- قلة المشاركة في صنع القرار المحلي.

- الحرمان من الحقوق القانونية أحيانًا.

هذه التحديات لا تنتقص من دورها، لكنها تكشف حجم الظلم الواقع عليها، وتؤكد الحاجة إلى سياسات تنموية عادلة تعترف بقيمتها الحقيقية.

سادسًا: تمكين المرأة الريفية… ضرورة لا خيار

إن تمكين المرأة الريفية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة تنموية وأخلاقية. فتمكينها يعني:

- تمكين الأسرة

- تمكين الاقتصاد المحلي

- حماية الهوية الزراعية

- تحقيق تنمية مستدامة حقيقية

ويبدأ هذا التمكين من التعليم، مرورًا بالرعاية الصحية، ووصولًا إلى إشراكها في صنع القرار، ودعم مشاريعها الصغيرة وحماية حقوقها القانونية والاجتماعية.

ختاما فأن المرأة الريفية ليست مجرد ظلٍّ للرجل، ولا تفصيلًا ثانويًا في الحياة الزراعية، بل هي العمود الفقري للمجتمع الريفي، وحارسة استمراره، وصانعة توازنه إنها المرأة التي تُنبت الحياة من قلب القسوة، وتحوّل التعب إلى معنى، والصبر إلى إنجاز.

وحين ننصف المرأة الريفية، فإننا لا ننصف فردًا فقط، بل ننقذ مجتمعًا كاملًا من الهشاشة، ونزرع في الأرض مستقبلًا أكثر عدلًا وإنسانية.

***

د.رافد حميد فرج القاضي

 

عندما تصير القراءة عادة يومية فيصبح الكتاب رفيقا للقارئ في أي مكان، حتى في غرفة النوم فجرت العادة أن بعض القراء لهم اماكن مخصصة للقراءة بعيدا عن غرف النوم التي يستسلم فيها الإنسان للراحة والكسل والابتعاد عن متاعب العقل والفكر ولكن بعض الكتاب الذين يقدسون الوقت يتخذون من هذه الغرف أماكن للقراءة والاستمتاع بوجبات فكرية قبل الخلود إلى نوم عميق و أحلام جميلة

يحدثنا المفكر الإسلامي والطبيب الجراح السوري خالص جلبي عن هذه العادة فيقول :"معظم الناس يعتبر أن غرفة النوم هي للنوم، وهذا نصف الحقيقة فيمكن أن يجعل الإنسان حصة من قراءته لوقت ما قبل النوم فينام على الكتاب، وأهميته أنها تذهب إلى اللاوعي فتشحنه بالفكر، وعلى الإنسان أن لا ينسى وضع قلم وورق بجانب رأسه لتسجيل الأفكار المنهمرة فجأة، وابن الجوزي وضع كتابا بعنوان (صيد الخاطر)، وزوجتي ـ رحمها الله ـ كانت زينتها وحليتها في الدنيا كتابا وكتابا مسطورا في رق منشور والقلم وما يسطرون، ولقد هضمت أنا العديد من الكتب في فترة ما قبل النوم، وهي نصف ساعة رائعة؛ فحاول مران نفسك على تشكيل هذه العادة الحميدة......."

فنصف ساعة قراءة كل يوم سيكون لها الأثر الكبير على الفكر والإنتاج وبإمكانك قراءة مجلدات كبيرة وسلاسل ثقافية فلا تحتقر هذه الدقائق الثمينة..

ويقول أيضا: "ومما أذكر من قراءاتي الليلية أنني قرأت بلذة ولفترة أشهر طويلة كتاب عالم الاجتماع علي الوردي العراقي في موسوعته عن التاريخ العراقي الحديث، قرأتها وأنا أحمل قلم فوسفوري وآخر رصاص فأسجل في أول الكتاب ما طاب من أفكار. ولم يكن هذا الكتاب الوحيد بل قرأت كتاب عبدالله عنان في موسوعته عن (التاريخ الأندلسي) في سبعة مجلدات وكذلك كتاب فيكتور فرانكل بعنوان (الإنسان يبحث عن المعنى) وهو كتاب رائع عن تجربته الشخصية في معسكرات الاعتقال...."

فعزيزي الكاتب المثقف القارئ لتتخذ من غرفة نومك مكانا للسباحة في عوالم القراءة السحرية والسفر عبر بحار الكلمات المشعة...فمن غرفة النوم تكون يقظة العقل وتكون الأفكار العظيمة الملهمة...

***

الكاتب: شدري معمر علي - الجزائر

 

لو أردنا تعلم مهارات التفاعل بين البائع والمشتري، علينا أن نعايش اليابانيين في متاجرهم ونرقبهم كيف يتعاملون مع الزبائن!!

أذهلني أسلوبهم وما يبدونه من إحترام وإمتنان، لأنك زرت متجرهم وفكرت في شراء حاجة ما منه.

أنا الشرقي الذي تعود أن تكون العلاقة بينه وبين البائع معركة غالب ومغلوب، أجدني أمام هذا الأسلوب الراقي من التعامل مع الإنسان وهو يتبضع في متجر ياباني، أو محل للبضائع المتنوعة.

ووسط دهشتي نهض سؤال التقدم والتأخر، فما نقوم به من تعاملات بيننا، تعكس واقع حالنا المجرد من الرحمة والإنصاف والإحساس بالآخر.

ذات مرة في مصر مع وفد أجنبي، وجدتني أتعامل مع بائع مصري بطريقتنا المعهودة، وإذا بفتاة أجنبية تقترب مني وتقول: لا داعي لهذا الأسلوب، فكّر لو أعطيته أكثر فأنك ستضع طعاما على مائدة العائلة، فخجلت من نفسي، وغضبت من طباعي الشرقية التي تكنز عدوانية، ولا تريد الرضا والفرح.

ومرة كنت مع صديق مغترب في زيارة لمدينة فيها مراقد مقدسة، وتوجه لشراء حاجة ما، فضاعف سعرها البائع وعندما حاولت المساومة دفع صديقي المبلغ المطلوب وقد تجاهلني، وعرفت بعد سنين أنه كان على حق فتفكيره ربما كان مثل ما ذكرته تلك الفتاة الأجنبية.

مَن علم الغرباء إحترام الآخر وضخ فيهم إراد التصدّق على الآخرين، فهم يرون أن الذي يطلب سعرا إنما يحتاج لذلك المبلغ من المال.

فهل أن كلامنا يناقض أفعالنا؟!!

نُسميهم كما شئنا وإنّا

بلا خُلقٍ حَميدٍ فانْكسرنا

تَراهم في تعاملهم كباراً

وفينا من تعاملنا أذانا

يدومُ الفقر في زمنٍ سَقيمٍ

إذا داستْ على ألمٍ خُطانا

***

د. صادق السامرائي

سؤال الوجود الحارق

سؤال يحلق بداخلي، يجذبني إلى هاوية العدم، يحرقني بلا نار مرئية، ويترك دفئاً أسود في أعماق الروح. إنه سؤال لا يهدأ أبداً، يصر على أن يعرف، على أن يصل إلى الحقيقة المطلقة: من أنا حقاً؟ ومن أنت في هذا الوجود المتشابك؟ ومن نحن جميعاً في هذه المسيرة العابرة؟

حين يسأل الإنسان نفسه أو غيره: "من أنت؟"، يظن واهماً أنه يملك الإجابة الجاهزة. مجرد أسماء، ألقاب، أعداد، وحروف عابرة، جمل مؤقتة تصنع انطباعاً سطحياً لشخص مستقبلي متخيل. لكن الحقيقة أعمق بكثير من كل هذه القشور. الحقيقة المرة هي أن السؤال نفسه هو الجواب الحقيقي: لماذا نحن هنا ولا ندري الهدف؟ ومن أين يجب أن نبدأ رحلة البحث هذه؟

الإنسان كائن فوضوي بطبعه، عشوائي في تصرفاته، ولا يصدق حتى ذاته المتذبذبة. كل فعل نقوم به، كل كلمة نتفوه بها، كل شعور يغمرنا، يُقاد في الواقع من قوة مجهولة كامنة. شيء ما داخلنا يدفعنا، يقوينا أحياناً، ويضعنا في صراع دائم مع أنفسنا والعالم. نظن بغرور أننا الأقوى والمسيطرون، بينما الحقيقة أننا نتبع خيوطاً قدرية لا نراها بالعين المجردة، وننفذ أوامر غامضة، ونتظاهر بالمعرفة الكاذبة، ونبحث عن الذات في ظلالها الوهمية.

هناك من يعارضك بشدة، وهناك من يؤيدك بحماس، وهناك من ينفذ ببساطة بداخلك كالسهم. أنت لست سوى نتيجة حتمية لصراع داخلي مستمر، مجموعة متناقضة من التناقضات الصارخة والحوارات العاصفة. تناقضات تصنع كيانك الفريد، وحوارات قد تهدمك أو تبنيك، وقرارات تفرض عليك قسراً بينما تعتقد بسذاجة أنها كانت محض اختياراتك الحرة. لكن السؤال الوجودي يظل قائماً: من يدفع ثمن هذا الصراع؟ ومن يشتريك كصفقة في سوق الحياة؟

نحن لسنا أكثر من معجزات بيولوجية بلا مرشد حكيم، ولا ندرك من نحن حقاً إلا بالسطحية المميتة التي نعيشها. العقل البشري يحاول السيطرة المنطقية على كل شيء، بينما الفكر يغوص بلا هوادة في بحر أسود عميق، بلا ضوء مرشد، بلا دليل يهدينا سواء السبيل. في هذا البحر، تولد الإجابات بصعوبة من رحم المعاناة الإنسانية المشتركة، وتتبلور من صراعات داخلية لا تنتهي أبداً، ليظل السؤال الأكبر والأكثر إلحاحاً حاضراً دائماً ويتردد صداه في كل مكان: من أنا؟.

***

ايمان عبد الحكيم خريسات

يتمثل الحلم في الوعي الجمعي قيمةً إيجابية: فضاءً للحرية، ومجالًا للأمل، ودليلًا على الحيوية والطموح. غير أن هذه الصورة تخفي سؤالًا جوهريًا قلّما يُطرح وهو: لماذا نحتاج إلى الحلم أصلًا؟

لو كان الإنسان قادرًا على تحقيق مقاصده في الواقع، وعلى تحويل إرادته إلى فعل، فهل كان سيمنح الحلم هذه المكانة في حياته؟

الحلم، في صورته الرائجة لدى الناس، ليس امتدادًا طبيعيًا للفعل، بل غالبا هو بديل عنه. إنه ليس مرحلة أولى من مراحل التحقيق، بل نتيجة مباشرة لتعطّل التحقيق نفسه.

الهدف بطبيعته واقعي، محدد، مشروط بالقدرة والزمان والوسائل.

أما الحلم فهو هدف منزوع الشروط، محرَّر من القيود، لا يُسأل عن إمكانه ولا عن طريقه.

حين يعجز الإنسان عن الانتقال من الإرادة إلى الفعل، ومن التصور إلى الإنجاز، يحدث تحوّل خفي:

الهدف الذي فشل في أن يتحقق، يُعاد إنتاجه في صورة حلم.

بهذا المعنى، الحلم ليس بداية الطريق، بل نهايته المؤجلة. إنه الشكل الذي يتخذه الهدف بعد أن يُسحب من ساحة الواقع ويُنقل إلى فضاء التخيّل.

العجز عن تحقيق الحلم يولّد ألمًا وجوديًا: شعورًا بالنقص، وبالقصور، وبالاصطدام القاسي مع حدود وشروط الذات والواقع.

هنا يتدخل الحلم بوصفه آلية دفاع، يخفف وطأة الفشل دون معالجته. ويمنح الإحساس بالمعنى دون تحقيقه، ويقدّم وهم الإمكان بدل الإمكان نفسه.

الحلم لا يغيّر الواقع، لكنه يغيّر إحساسنا به. ولذلك يُفضَّل على الفعل، لأن الفعل يعرّي القدرة، بينما الحلم يحميها من الإختبار والخيبة.

يرغب الناس في الحلم لأن الحلم لا يطالب ببرهان، لا يفضح العجز، لا يفرض مسؤولية، لا يعرّض صاحبه للهزيمة.

في الحلم، الجميع ناجحون، أحرار، مقتدرون.

أما في الواقع، فالمعايير قاسية، والنتائج مكلفة، والفشل لايرحم.

الرغبة في الحلم ليست محبة للقيمة، بل هروب من المحكّ. إنها تفضيلٌ لحياة بلا امتحان على حياة تُقاس بالنتائج.

في كثير من الحالات، لا يكون الحلم نتيجة قهر خارجي فقط، بل نتيجة قهر داخلي نفسي.

حين يدرك الإنسان بوعي أو دون وعي أن الطريق يتطلب جهدًا وصبرًا، وتضحية واحتمال خيبة، فإنه قد يختار طريقًا أسهل، هو الحلم.

بهذا يصير الحلم شكلًا راقيًا من الكسل: كسل لا يبدو كذلك، لأنه يتزيّا بلباس الطموح، بينما هو في حقيقته تعليق للفعل لا تحفيز له.

وتختلف الرؤية عن الحلم في كونها: مرتبطة بإمكانات واقعية، وخاضعة للتخطيط، وقابلة للتحويل إلى أفعال.

أما الحلم بالمعنى الرائج، فهو تصور بلا جسد، معنى بلا ممارسة، إرادة بلا أثر.

إنه فكرة ارتاحت من عناء المحاولة والمخاطرة وامتلاك المستلزمات.

الحلم، حين يتحول إلى قيمة مستقلة، يصير خطرًا أخلاقيًا.

لأنه يعلّم الإنسان الرضا بالتصور بدل الإنجاز، وبالتمنّي بدل العمل، وبالاحتمال الذهني بدل الحقيقة الواقعية.

ليس المطلوب قتل الحلم، بل كشف وظيفته الحقيقية: فإما أن يكون خطوة في مسار الفعل والإنجاز، وإما أن يكون شهادة صامتة على عجز لم نجرؤ على مواجهته.

ربما، نحن لا نحلم لأننا أقوياء، بل لأننا عجزنا عن أن نكون أقوياء.

***

جميل شيخو

 

يولد الإنسان في مساحة صغيرة، بين دفء أحضان والدته وسريره الخشبي. في هذا العالم المصغر، لا تتجاوز مداركه حدود غرفته المزينة برسومات كرتونية للدببة والأرانب. هنا فقط يجد الأمان والحب، صوت الأم الذي يهدئ جوعه ودموعه، ويد الأب الذي يرفعه عاليًا ليلاعبه ويُضحكه.

مع مرور الأيام، يبدأ هذا العالم الصغير بالتوسع، تنمو عضلات الطفل وتتطور قدراته الذهنية، ليستكشف بيئته شيئًا فشيئًا بفضول لا يعرف الحدود. من الحبو إلى المشي، ومن مسك الأشياء إلى رميها واستكشافها. وفي يوم ما يكتشف أن ما وراء جدران غرفته عوالم أخرى مليئة بالدهشة والوجوه الجديدة. وقتها يسأل بحيرة وبراءة: هل العالم أكبر مما أراه؟

ويأتي دور اللغة، لتصبح أداته لفهم ما حوله والتواصل مع محيطه. الكلمة تربط بين الأشياء ومعانيها: تفاحة، بسكوتة، ألوان وصور. يبدأ بمحاكاة أصوات أمه وأبيه وهما يوجهان فضوله العارم: كل طعامك، انتبه! تدريجيًا تتحول هذه الإرشادات اليومية إلى روابط ذهنية يبني بها الطفل عالمه الإدراكي.

يكبر الطفل، ويبدأ في الجمع بين الكلمات والمعاني الأكثر تعقيدًا. النار خطرة، الخضروات مفيدة، وقواعد الأدب واضحة أمام الغرباء. تتفرع هذه المفاهيم وتتعمق مع اتساع التجارب والتفاعل مع المحيط الأوسع: الأقارب، الأصدقاء، الجيران والمعلمون. لكن ليست كل الروابط التي تتكون طفولية الطابع وساذجة في تفسيرها.

ذات يوم، يتوقف الطفل أمام باب المنزل المفتوح-عالم جديد مغرٍ ينتظره بالخارج، لكنه سرعان ما يُردع بصوت جدته وهي تحكي حكاية عن وحش يلتهم الأطفال الذين يغادرون البيت دون رفقة الكبار. في مخيلته الصغيرة، يُرسخ الطفل مفهوم جديد: خروجٌ وحيد يعني خطر مُحدق. ورغم الطابع المروع لهذه القصة، إلا أنها تحمل مأمنًا مشروطًا بحماية الكبار.

تثبت الأبحاث أن ترسخ هذه الروابط في الطفولة ليس نهائيًا؛ فمع مرور الزمن وتجريب الحياة بأنفسهم، يعيد الإنسان تشكيل هذه الروابط بما يتوافق مع واقعه الحقيقي. يكبر الطفل ليفهم أن جده خُلق الوهم عن "الوحش" لمجرد حماية لازمة لتلك السن.

ومن هنا يضع العلماء فرضية مثيرة مفادها: الحكايات المجتمعية هي عبارة عن دليل سردي يرشد إلى التعامل مع التحديات الثقافية بطريقة موجهة ومعقدة. القصص التي تُروى للأطفال تبدو بريئة وهادئة في ظاهرها لكنها تخدم غايات مجتمعية عميقة—محاولات لنقل خبرات الماضي وإعدادهم للمستقبل.

مع التقدم في مراحل الحياة العمرية واكتساب رؤية أعمق للعالم تتغير هذه القصص البسيطة. إذ تكشف التعقيدات المنبثقة عن الأنظمة الاجتماعية والهوامش الخفية للعلاقات البشرية عن وجه آخر وأكثر تعقيدًا للمجتمع. ينغمس الفرد في طبقات متعددة من السرديات التي تعكس واقع السياسة والحياة الفكرية والانتماءات المختلفة.

خذ مثالًا الفتى الذي يشاهد والده يومًا ما يتحدث بازدراء عن أشخاص فقط بسبب جنسيتهم. أو الشاب المرتبك الذي يخوض نقاشات جانبية مع زملائه عن النساء بناءً على قصص نمطية متوارثة. أو آخر قرر الغوص أكثر في آرائه السياسية مدفوعًا بتاريخ أعيد تفسيره وفق رؤية منحازة. هذه الأحداث اليومية تعكس كيف يتم غرز الأفكار وربطها بالأشخاص والسلوكيات وتكوين تصورات ذات امتدادات مجتمعية طويلة الأمد.

صحيحٌ أن الإنسان لا يتلقى كل تلك السرديات بصدر رحب أو دون تساؤل! عند التفاعل مع مجتمعات جديدة أو تجارب مغايرة، تتحدى الحقائق المكتسبة ما غُرز في داخله سابقًا. القراءة والنقاش والأسفار والمواجهات تحمل تأثيرًا متبادلًا يعيد تشكيل هذه التصورات، فيتكون لدينا مع الوقت نظام قيمي مرن وديناميكي يتفاعل باستمرار مع المستجدات.

***

شاكر عبد موس – العراق - باحث وكاتب

يُحاججني ويقول: لماذا الله غفور رحيم، أ ليس لأننا سنقترف الذنوب، ولا يمكن لمخلوق أن يخلو منها، فيطلب من ربه المغفرة والرحمة، ويتوب بعد أن فعل ما فعل من الآثام والخطايا والذنوب.

قلت: الكتاب حمّال أوجه!!

قال: من حقي أن أرى ما يدلني إليه عقلي، فالعقل قائدنا

قلت: إنها النفس الأمارة بالسوء التي تقودنا

غضب وقال: أنت تحسبنا ملائكة

قلت: العقل مطية النفس الآمرة بما ترغب، وأنت تطيع نفسك وتدّعي أن عقلك الذي يريد

قال: قل ما تقل، إن الله غفور رحيم!!

إحترت في أمره، فالشره والطمع يتوقدان في أعماقه، ويستحضران ما يبرر إندفاعه بما يرضيهما، وينكر المعقول ويحسبه نوع من الخذلان والجبن والقصور.

تلك عجيبة سلوكية يحاول البشر تبريرها بمعتقدٍ ما ليتحرر من تأنيب الضمير، فيلقي باللائمة على قوة أخرى يرى أنها ذات إقتدار مطلق.

فهل يصح القول لأن الله غفور رحيم، إفعل ما تشاء ثم أطلب المغفرة والتوبة؟!!

يُحاسبنا لأنّ العقلَ فينا

لماذا ننكرُ الأمرَ المبينا

نبرّرُ إثمنا برؤى خيالٍ

ونحسبُ ربنا دوماً مُعينا

إذا تَبعَتْ نفوسٌ مُنطواها

تناسَتْ ما جنتْ ذنبا مشينا

***

د. صادق السامرائي

القول المأثور (الأدب يستر قليل العلم، والعلم لا يستر قليل الأدب) مقولة تعكس واقعاً وجدانياً حقيقياً.. إنها مقولة وجدانية، فبغض النظر عن كونها منسوبة ولسنا في صدد دراستها سندياً أو متنياً، فذلك موكل لمحله.

ما تريده المقولة:

ليست المأساة الحقيقية أن يَقلّ علم الإنسان، فالعلم يُكتسب، ويُستدرك، ويُنمّى مع الزمن؛ وإنما المأساة أن يَقلّ أدبه، لأن قلة الأدب تكشف صاحبها مهما تحصّن بالمعارف، ومهما ازدانت سيرته بالألقاب والشهادات، فالعلم بلا أدب لا يُنقذ صاحبه، بل يفضحه.

إن الأدب هو اللغة الخفية التي تتكلم بها العقول قبل الألسن، هو الطريقة التي نختلف بها، وننتقد بها، ونعترض بها، ونعلن بها ثقتنا بأن الحقيقة لا تحتاج إلى صراخ، ولا إلى إهانة الآخر كي تثبت ذاتها، ومن هنا كان الأدب قادراً على ستر محدودية المعرفة؛ لأن المؤدب يعرف متى يصمت، ومتى يسأل، ومتى يعترف بجهله دون أن يشعر بالدونية.

أما قليل الأدب، وإن غاص في بطون الكتب، وتسلّق سلّم التخصص، فإنه سرعان ما يهوي عند أول اختبارٍ أخلاقي، فالعلم لا يمنح صاحبه حق التعالي، ولا يرخّص له احتقار الناس، ولا يبرر قسوة القول وسوء المقصد، وكل معرفةٍ لا تُهذّب صاحبها، فهي معرفة ناقصة مهما بدت مكتملة في ظاهرها.

ومن زاويةٍ أكاديمية، فإن العلاقة بين العلم والأدب ليست علاقة تزيينٍ وتكميل، بل علاقة تأسيسٍ وضبط، فالأدب هو الإطار القيمي الذي يوجّه المعرفة ويمنعها من الانحراف إلى الاستعلاء الرمزي أو العنف الخطابي.

لقد أثبتت دراسات التربية والفلسفة الأخلاقية أن التأثير العلمي لا يتحقق بقوة المعلومة وحدها، بل بأسلوب تقديمها، وبالصورة الإنسانية التي يتجسّد بها صاحبها، فالعقل لا يستجيب إلا حين يشعر بالاحترام، ولا ينفتح إلا حين يُخاطَب بأدب.

لذلك نرى في الواقع المؤسسي والفكري أن أصحاب المشاريع الكبرى لا يسقطون غالباً بسبب ضعف أفكارهم، بل بسبب خشونة خطابهم، وضيق صدورهم، وعدم قدرتهم على إدارة الاختلاف، فقلة الأدب تُحوّل العلم من رسالة إلى أداة صراع، ومن قيمةٍ جامعة إلى سلاح إقصاء.

لقد أدرك الحكماء قديماً أن الأدب هو أول العلم وآخره، فبه يُحفظ العلم من التشويه، وبه يُصان الحوار من الانفجار، وبه يُقاس نضج الإنسان لا سعة اطلاعه فقط، وكانوا يرون أن الأدب علامة الوعي، وأن سوء الأدب دليل على خللٍ عميق، مهما تلون صاحبه بلغة المعرفة.

قد يعذر الناس الجاهل المؤدب، لأن جهله لا يؤذيهم، لكنه يعسر عليهم قبول العالم سيء الأدب، لأن علمه يتحول في يده إلى أذى، فالأدب هو الوجه الإنساني للعلم، ومن فقده فقد القدرة على التأثير، ولو امتلك مفاتيح المعرفة كلها.

***

د. ليث عبد الحسين العتابي

عندما تتحول المشاعر إلى سلعة

في ظل الهيمنة الرأسمالية، لا ينجو شيء من التحول إلى سلعة، حتى أعمق المشاعر الإنسانية. الاحتلال الأمريكي للعراق في ٢٠٠٣ لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل كان أداة عنيفة لإدماج قوى بشرية وموارد جديدة في آلة الاستغلال العالمي، وضمان سيطرة رأس المال الأمريكي وشركائه على منطقة إستراتيجية. لكن هذا المشروع لم يقف عند الاقتصاد والسياسة والجغرافية، بل امتد ليُعيد صياغة الوعي والعلاقات الإنسانية ذاتها، محولاً الحب من حلقة تضامن طبيعي إلى أداة لإعادة إنتاج النظام الطبقي.

إن العلاقات الإنسانية، بما فيها العلاقات العاطفية والأسرية، تشكلها وتحددها علاقات الإنتاج السائدة التي تديرها الطبقة الحاكمة.

وقبل الانغماس في تحليلنا النقدي، لنقف لحظة أمام الظاهرة ذاتها التي نحاول حمايتها من الاختزال: الحب الرومانسي بكل قدسيته وجماله. هذا الحب الذي ظل عبر العصور أعظم ألغاز الوجود الإنساني، القادر على تحويل الروتين إلى شعر، والعادي إلى استثنائي، والزائل إلى خلود في الذاكرة. إنه ذلك الانفجار الداخلي الذي يجعل الإنسان يرى العالم لأول مرة، ليس بعينيه وحدهما، بل بعينين أخرين تشاركانه النظر. إنه التوحد الغامض حيث يختفي الفرد ليبقى الثنائي، ليس كجمع حسابي، بل ككيمياء تولد كيانًا جديدًا.

أسراره لا تُحصى: كيف يمكن لومضة عين أن تروي تاريخًا؟ كيف تتحول اللمسة إلى لغة أعمق من الكلمات؟ كيف يصبح الصمت حوارًا؟ وكيف يتحول الانكسار في حضوره إلى اكتمال؟ هذا الحب هو الثورة الروحية الأولى للإنسان، حيث يتعلم الافلات من ذاته الضيقة نحو فضاء "نحن" الرحب. إنه مدرسة التضحية غير المحسوبة، والشفافية التي لا تخشى الضعف، والهبة التي تفرح بالعطاء أكثر من الأخذ.

في حضرته، تتعطل قوانين المنطق الرأسمالي: فأغلى الهدايا قد تكون زهرة بسيطة، وأعظم الاستثمارات هو الوقت المهدر في الحضور، وأكبر الربح هو الخسارة الطوعية للذات في بحر الآخر. هذا التناقض الجميل هو ما يجعل منه أقوى مقاومة للاختزال المادي. إنه يذكرنا، في خضم آلة الإنتاج والاستهلاك، بأننا كائنات قادرة على التقديس، على اختيار شيء لا يُسعّر، على الانتصار للغزِ على الحساب، وللجمالِ على المنفعة.

لذلك، حين ندافع عن قدسية الحب الرومانسي، فإننا لا ندافع عن مجرد عاطفة، بل ندافع عن إحدى أعلى درجات الوعي الإنساني، عن تلك القدرة الفذة على خلق عالم مشترك قائم على الحرية المطلقة في الاختيار، والثقة العمياء، والجمال غير المشروط. إنه البرهان الحي على أن الإنسان، رغم كل محاولات تشييئه، يظل قادرًا على الخلق والسمو فوق مادية العالم. وهذا بالضبط ما يجعل استعادته من براثن الرأسمالية ضرورة وجودية، قبل أن تكون نضالًا اجتماعيًا.

الغزو الثقافي الذي رافق الاحتلال، عبر الإعلام والسينما والغناء، لم يكن ترفيهيًا بريئًا. لقد كان أداة إيديولوجية فعالة لغرس قيم الفردية الأنانية والمنافسة والاستهلاك. تم تقديم نموذج "الحب" كمشروع فردي يهدف الى "السعادة الشخصية" المحددة بالرفاه المادي والمنزل الفاخر والاستقرار الاقتصادي. بذلك يتلاشى الانتباه عن العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي الى البحث عن "الخلاص الفردي" عبر علاقة خاصة. هذه العملية تُفكك الوحدة الجماعية، مما يخدم مصالح الطبقة الحاكمة التي تسعى لإبقاء الجماهير مشتتة ومنشغلة بصراعاتها الشخصية.

لذلك عندما يصبح الزواج مؤسسة اقتصادية قبل كل شيء، وعندما تُقاس قيمة الصداقة بمنفعة كل طرف، فإن أساس التضامن الاجتماعي ينهار. الرأسمالية تفضل الأفراد الأنانيين، لأنهم أضعف في مواجهة نظام الاستغلال، وأكثر استهلاكًا كوحدات منفصلة، وأقل ميلاً لتنظيم أنفسهم للمطالبة بحقوق جماعية. إن انهيار العلاقات الإنسانية الحقيقية يؤدي لاستمرار تراكم رأس المال، لأنه يحول المجتمع إلى مجموعة من ذرات متفككة يمكن استغلالها والسيطرة عليها بسهولة أكبر.

في المقابل، أن الحب الحقيقي هو شكل من أشكال التضامن الإنساني الخالي من المنفعة. إنه تعبير عن الطبيعة الاجتماعية للإنسان، عن حاجته للارتباط والتعاون والعطاء غير المشروط. هذا الحب موجود في قلب الصداقة، في العلاقات الأسرية الحقيقية الخالية من حسابات الميراث والمنفعة.

تحرير الحب لا يمكن أن يتم بمعزل عن تحرير المجتمع بأسره. وتحرير المجتمع بحاجة الى نظام سياسي يرعى هذا الهدف، حيث يُلغى منطق الربح والمنافسة كقانون رئيسي للحياة، تُفك العواطف من قيود التبادل السلعي. عندها فقط يمكن للحب أن يزهر كعلاقة إنسانية خالصة، قائمة على التقدير المتبادل والتكامل والحرية الحقيقية، وليس على الخوف من الفقر أو البحث عن المنفعة.

الدفاع عن الحب الحقيقي اليوم، في ظل هجمة الرأسمالية المعولمة، هو فعل ثوري بحد ذاته. عندما نرفض أن نحب أو نختار شريك الحياة بناءً على "مصلحتنا"، وعندما نبني علاقات صداقة قائمة على التضامن الحقيقي، فإننا نقاوم منطق النظام السائد. نضالنا من أجل عالم أكثر عدلاً، حيث توزع الثروة بشكل عادل وتُلغى فيه علاقات الاستغلال، هو في النهاية نضال من أجل عالم نستطيع فيه أن نحب بحرية.

الحب هو شرارة اندلاع الثورة كما قال جيفارا.

***

حسام عبد الحسين

في زماننا كانت ثلاث كليات طب، هي بغداد والموصل والبصرة، ويتخرج منها بضعة مئات من الأطباء كل عام، وكانت الخدمات الطبية ذات قيمة إقليمية وعالمية، وأطباء الكليات الثلاث من المتميزين في إبداعهم الطبي في بلدان مهجرهم العربية والأجنبية.

واليوم توجد العديد من كليات الطب وخريجوها يبحثون عن التعينات، ولا توجد مؤسسات معاصرة تستوعبهم، وتعدهم للتخصص والتعبير عن طاقاتهم المعرفية.

فما فائدة زيادة عدد كليات الطب والمتخريجين منها، والرعاية الصحية ليست كما في الدول المجاورة على أقل تقدير؟

العيب في غياب التخطيط، والفساد والمحسوبية، وإنعدام التفكير الواضح الصريح، فالمفردات المتداولة ليست ذات قدرة على البناء.

الجامعات تؤسس كلياتها وفقا للحاجة، ولتوفير القوة الإقتصادية القادرة على تطوير البلاد وتحقبق التفاعل الواعي لها مع عصرها.

إن إنتاج الأعداد الغفيرة من الأطباء يجب أن يكون وفقا لمخططات ستراتيجية، توفر الرعاية الصحية اللازمة للمواطنين، أو أن تكون معامل إنتاج للتصدير، أي أن يتخرج الطبيب ويسمح له بالذهاب إلى دول أخرى يخدم فيها.

إن تحويل الطب إلى وظيفة، والمتخرج يريد تعيينا في دولة لا تتوفر فيها المؤسسات الكافية لإستيعاب ما تضخه الكليات كل عام من الأطباء، الذين عليهم أن يمروا بمتطلبات تعليمية لازمة لإعداد خبراتهم الكفيلة بتقديم الخدمات بسلام وأمان، فالطب ليس دراسة وإمتحان، إنه خبرة تتوارثها الأجيال، وبحاجة إلى معايشة وتدريب وتوجيه ومراقبة، لضبط السلوك العلمي وتأمين الخدمات الصحيحة.

إن زيادة أعداد كليات الطب يجب أن يتواكب مع توفير المؤسسات الصحية القادرة على إستيعاب الخريجين، وإلا فالبطالة لذوي الخدمات الطبية ستسود، وستفقد مهنة الطب قيمتها ودورها في بناء المجتمع المعافى السليم!!

جعلوا الطبَ كسيحاً جاثماً

وأصابوا بخيابٍ حالما

حَسبوا الطبَ عديداً فائضاً

وطبيبٌ عاش فيها نادما

لا مكان لطبيبٍ جاهزٍ

كلّ خريجٍ توارى هائما

***

د. صادق السامرائي

 

(عدم قدرة الحكومة على دفع الرواتب لا يعني انهياراً اقتصادياً)

اليوم شاهدت عن طريق الصدفة فيديو قصير تتحدث فيه مقدمة البرنامج مع احد خبراء الاقتصاد.

هو يقول ان عام ٢٠٣٠ سوف يشهد انهياراً اقتصادياً في العراق اذا استمرت نفس السياسات الاقتصادية، لكنها تسأله قائلة : هل يعني ذلك انه في عام ٢٠٣٠ سوف لن تستطيع الحكومة دفع الرواتب؟

بمعنى آخر انها تعتبر ان الانهيار الاقتصادي يعني عدم قدرة الحكومة على دفع الرواتب!!

لكن الرواتب ودفعها هي أمور ترتبط بالموازنة الحكومية ومدى توفر الاموال اللازمة لتسديد التزامات الحكومة المختلفة وليس فقط الرواتب وماهو في حكمها فقط..

اما الانهيار الاقتصادي فهو يعني تراجع كبير وطويل الأجل في الناتج المحلي الاجمالي وشيوع البطالة وتراجع انتاج القطاعات الاقتصادية المختلفة واغلاق المشاريع وافلاس البنوك وتراجع قيمة العملة وانهيار الاسواق المالية واسعار الاسهم وشيوع الفقر والجريمة كنتيجة لكل ذلك.

وهذا ليس من السهل حصوله، قد يحصل تباطؤ في النمو وترتفع معدلات البطالة وظهور بعض الاختلالات الهيكلية وتتراجع قيمة العملة الوطنية، لكن ذلك لا يصل بالضرورة الى حد الانهيار...

عندما يهبط سعر النفط فان الحكومة تحصل على دولارات اقل مقابل مبيعاتها من النفط وبالتالي تحصل على دنانير اقل مقابل دولاراتها التي تبيعها للبنك المركزي وبالتالي لا تستطيع الايفاء بالتزاماتها المقررة في الموازنة .

اي ان الموازنة سوف تعاني من العجز الذي يجب ان يغطى بواسطة الاقتراض او خفض سعر الدينار لغرض الحصول على دنانير اكثر من البنك المركزي مقابل دولارات الحكومة المحدودة، وهذا له انعكاسات خطيرة على الوضع الاقتصادي للبلد اولها ارتفاع معدل التضخم وانخفاض القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود..

في كل الاحوال فان دولارات النفط سوف تبقى متوفرة لدى البنك المركزي لغرض بيعها لمن يحق له ذلك كالمستوردين مثلاً وبموجب سعر الصرف الذي تقرره السلطة النقدية بالاتفاق مع الحكومة وكما اشرت الى ذلك في اعلاه.

اي ان نشاط القطاع الخاص مثلاً لاغراض الاستيراد التجاري او الاستثماري يمكن ان يستمر بدرجة معينة ويحافظ على مستوى معين من النشاط الاقتصادي.

الانهيار يحصل اذا توقف تصدير النفط تماماً لأي سبب وانقطع المورد الاساسي او شبه الوحيد للعملات الصعبة للبلد..وهذا الاحتمال لايوجد مايدعمه وفق المعطيات المعروفة.

***

د. صلاح حزام

 

تبدأ الحكاية من العبث. من عبث منظم، يرتدي رداء المؤسسة، ويتستر خلف أسماء كبرى، لكن روحه تشي بالفوضى. وزارة الثقافة المصرية، هذا العالم الواسع، الذي يحتضن تحت سقفه ثروة من الهيئات والمجالس: المجلس الأعلى للثقافة، والهيئة العامة للكتاب، وقصور الثقافة، والمركز القومي للترجمة، وأكاديمية الفنون... وغيرها.

لكنك إذا اقتربت، تجد هذه الجزر المنعزلة. كل كيان يعيش في قارته الخاصة، يحرس حدودًا وهمية، ويفتخر بسيادته على أرض لا تزرع سوى الأوراق والإهمال . قل أن تسمع همسة تنسيق، أو نبضًا لرؤية واحدة. وأوضح تجليات هذا التشظي يأتي في أكثر الملفات إثارة للأسئلة: جوائز الوزارة الثقافية. ذلك العالم الموازي الذي يحكمه التخبط، وتسوده معايير مرتجلة، وتلعب به أهواء الاستمرارية والتوقف، كقارب في لجة بلا دفة.

الاسم الواحد والأبواب المتعددة

انظر إلى اسم واحد: "نجيب محفوظ". اسم يملأ العالم، ويكفي أن يرفع راية ليكون مَعلَمًا. فماذا تفعل دولة تفتخر به كأبرز أدباءها؟ تكرره. وتكرره بطريقة تثير الحيرة.

في المجلس الأعلى للثقافة، توجد "جائزة نجيب محفوظ في الرواية العربية". أُطلقت عام 1999، ثم غابت ثمانية عشر عامًا، كأن الاسم ذهب في إجازة طويلة. عادت عام 2017، بجائزة مالية مقبولة، تمنح لمصري وآخر عربي.

لكن المفارقة الأكثر سخرية تأتي هذا العام. فبينما قد يستعد المجلس لإعلان الفائزين يخرج علينا المسئول عن معرض الكتاب، معلنًا ميلاد جائزة جديدة! تحمل الاسم نفسه: "نجيب محفوظ"، لكنها هذه المرة تابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب، وبقيمة أكبر.

سؤال مباشر: ألا تلتقي الهيئتان تحت سقف وزارة واحدة؟ ألا يعلم كل منهما ما يفعله الآخر؟ أم أن الأمر تحول إلى سباق لرفع راية الرمز فوق مبنى، وكفى؟

ثم تأتي المفارقة الأوسع. فهناك جائزة ثالثة، خارج أسوار الوزارة تمامًا: "الجائزة الدولية لنجيب محفوظ" التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ 1996، وهي جائزة محترمة، تترجم الفائز للإنجليزية، ولها ثقلها.

والسؤال الجوهري: كيف تترك الدولة المصرية، بمؤسساتها الرسمية، اسم علمها الأدبي الأبرز يدار - ولو جزئيًا - من قبل جهة أجنبية، مع ما يحمله ذلك من احتمالية تحميل هذا الاسم الرمزي تصورات قد لا تتطابق تمامًا مع سياقه الثقافي الأصلي؟

الحل ليس في منع الآخر، إنما في ترتيب البيت أولاً. لماذا لا تكون هناك جائزة مصرية رسمية واحدة قوية، شفافة، وذات قيمة معتبرة، تحمل اسم محفوظ، وتدار بتنسيق كامل بين المؤسسات، ويكون لها حضورها الدولي المحترم؟ حضور يدار بعقل مصري، ويحفظ للإرث هيبته.

جوائز لا تطعم خبزًا

انتقل من أزمة الأسماء إلى أزمة القيمة. انظر إلى عشرات الجوائز التي تعلن عنها جهات مثل المجلس الأعلى للثقافة وقصور الثقافة. ستجد قيمتها تتقافز بين خمسة آلاف وعشرة آلاف جنيه، بل إن بعضها يهبط إلى ألف أو ألفين. في زمن تضاعفت فيه تكلفة الطباعة، وصار شراء كتاب واحد رفاهية لكثير من المبدعين الشباب.

يأتي التبرير الجاهز: هذه الجوائز للشباب، أو للتحفيز. وكأن الشباب يعيشون خارج كوكب الحياة، لا يدفعون إيجارًا ولا ثمنًا للورق. هل يعقل أن تكون قيمة جائزة "وطنية" لإبداع أدبي، أقل بكثير من مكافأة لاعب كرة قدم مبتدئ في ناد من الدرجة الثالثة؟

النتيجة: تتحول الجائزة من وسيلة لدعم المبدع، إلى مجرد "إعلان شكلي". ورقة تعلق على الحائط، من دون أي أثر فعلي في دفع مسيرته خطوة واحدة للأمام. وغالبًا ما تصاحب هذه الضآلة المالية ظاهرة تكرار الأسماء نفسها في لجان التحكيم أو قوائم الفائزين، مما يحول الجائزة إلى دائرة مغلقة، أو مكافأة داخلية. هنا لا يصبح الحديث عن هزالة مادية فحسب، بل عن هزالة معنوية تدفع بالثقة في المؤسسة إلى الحضيض.

الشروط العجيبة: عقاب التميز!

وإذا خرجنا من دائرة القيمة إلى دائرة المعيار، نجد العجب. خذ ما أعلنته قصور الثقافة عن "جائزة الثقافة الجماهيرية في الآداب". من شروطها: ألا يكون المتقدم قد حصل سابقًا على إحدى الجوائز العربية الكبرى! وأن يكون قد مضى على نشر كتابه الأول عشرين عامًا!

تأمل الشرط الأول: فهو يقصي مبدعًا حصل على "البوكر" أو "زايد" أو "كتارا".. ليمنح الجائزة لمن لم يحصل عليها! أي فلسفة هذه التي تعاقب التميز والنجاح، وكأنها تقول للكاتب: "احتفظ بتميزك لنفسك، فلدينا جوائز للمغمورين فقط"؟

أما الشرط الثاني – عشرون عامًا على الكتاب الأول – فيبدو وكأنه يستهدف جيلاً محددًا من كتاب التسعينيات. فهل الجائزة لفئة عمرية؟ ولماذا عشرون عامًا بالضبط؟ أليس في هذا الشرط التعسفي قتل لروح المنافسة وتحديد مسبق للفائزين؟

هذه الشروط لا تحتاج إلى ناقد أدبي لفك شفرتها. إنها تطرح سؤالاً بسيطًا: ما الفلسفة الثقافية التي تحكم هذه الجوائز؟ أم أنها مجرد قواعد إدارية عشوائية، وضعت على عجل، من دون تفكير في الغاية؟

جوائز بلا ذاكرة

وأخيرًا، تأتي قضية النسيان المؤسسي. فمعظم جوائز الوزارة تعيش في لحظتها الإعلانية فقط. تُعلن، ثم تختفي بعد حفل التسليم، كأنها لم تكن. أين الأرشيف الشامل؟ أين أهدافها ومعاييرها عبر السنين؟ أين قوائم الفائزين منذ البداية؟ والأهم: أين أسماء لجان التحكيم في كل دورة؟ تلك اللجان التي تملك سلطة منح الشرعية.

على النقيض، تأخذك الجوائز الكبرى عالميًا وعربيًا إلى مواقع إلكترونية واضحة، تفصل كل شيء: الفلسفة، الشروط، الأعضاء، الأرشيف. إنها تمتلك ذاكرة موثقة، ووجودًا مستمرًا يضمن الشفافية. أما عندنا، فالكثير من الجوائز تفتقد لأبسط مقومات الاحتراف: الذاكرة. وهذا الغياب ليس تقصيرًا تقنيًا، لكن دليل على نظرة قاصرة للجائزة كـ "فعل إداري" ينتهي بتوزيع الشيكات، وليس كـ "مشروع ثقافي" متكامل يبني تاريخه ويراكم رصيده.

في الختام: الاستثمار في الخيبة

أزمة جوائز وزارة الثقافة هي أزمة رؤية وتنسيق قبل أن تكون أزمة موارد. الدولة تعلن في كل مناسبة دعمها للثقافة كركن من أركان القوة الناعمة. وأول تجليات هذا الدعم الحقيقي يجب أن يكون في إعادة هيكلة هذه المنظومة المضطربة.

لا بد من خطوات عملية عاجلة:

1. التوحيد: تشكيل لجنة عليا تتبع الوزير مباشرة، مهمتها حصر ومراجعة كل الجوائز، ودمج المكرر، ووضع خريطة تكاملية تمنع التضارب. جائزة واحدة قوية لنجيب محفوظ خير من ثلاث.

2. إعادة النظر في القيمة: ربط قيمة الجوائز بتكلفة المعيشة والتضخم، وجعلها قيمة تحفيزية حقيقية تليق بالجهد الإبداعي وتحدث فرقًا.

3. مراجعة المعايير: إلغاء الشروط التعسفية، ووضع معايير واضحة تركز على الجودة الإبداعية، وليس اعتبارات إدارية غامضة.

4. بناء الأرشيف: إنشاء منصة إلكترونية موحدة توثق تاريخ كل جائزة كبرى، وفلسفتها، وأرشيف الفائزين ولجان التحكيم. الجائزة بلا ذاكرة هي جائزة بلا هوية.

5. الشفافية: إعلان أسماء لجان التحكيم مبكرًا، ونشر تقارير مبررات الفوز (ولو مختصرة)، لبناء جسر من الثقة.

الجائزة استثمار. استثمار في المبدع، وفي الإبداع، وفي صورة مصر الثقافية. وهي عندما تكون رشيقة، متماسكة، شفافة، وعادلة، تصبح محركًا حقيقيًا للمشهد. أما وهي على حالها اليوم - متعددة الأسماء، هزيلة القيمة، غريبة الشروط، وبلا ذاكرة - فهي لن تكون أكثر من ضجيج إداري، يضيع في زحام الصور الاحتفالية، ولا يترك وراءه سوى ركام من الخيبة، ومساحة شاسعة من الفراغ، يتساءل فيها المبدع عن مصير الثقافة في بلد يدعي أنه صاحب أعرق حضارة عرفها التاريخ.

***

د. عبد السلام فاروق

 

ينظر متفلسفو الغرب وتابعيهم النقليين الى البدئية العظمى الافتتاحية باستصغار مستهينين بقيمه ومستوى الاختراقية الكونية المتصله باللحظة الابتداء من علاقة العقل بحالته القصورية الابتدائية للكون وظواهره والوجود ومقتضياتيه، ومن هذا المنطلق يمكن ان تلحظ ظاهرة الميل الى تقديس المنجز المتاخر والحداثي في هذا المجال على حساب ماقبله وماكان لحظة الافتتاح في كشف العقل بصيغته المتوفره عن العلاقة بالوجود وهي المهمه الاعظم مقارنة بكل ماقد بني عليها واستند لها.

 وهكذا وضع تسلسل الوعي ضمن متواليه: الاسطورة، الدين، الفلسفه، كما فعل هيغل على سبيل المثال، وكان الفلسفة هي القمه الاعقالية البشرية، مع ان مثل هذه المعادلة تبدو بوضوح مختلة فالدين ليس بالمرحله التي يمكن نسبتها للماضي المنقضي، وهو موجود في الحياة وفي الكينونه البشرية بقوة تفوق بما لايقاس موقع الفلسفة النخبوي المحدود، بحيث يحتل المنظور الماورائي موقع العنصر الوجودي المجتمعي خارج السياقات الجغرافية والكيانيه على مدى يشمل المعمورة بمعظمها بصفته لازمة وجود، بما يمكن، لابل يجب ان يجعل من محاولة وضع مثل التدرجات المذكورة اعلاه في خانة التوهمية غير المدقق فيها، والمرتكزه لاعتبارات السطحية الموكوله الى العجب المتاخر بالذات بناء على مفعول عنصر حضر من خارج العملية المجتمعية بصيغتها الاولى اليدوية، من دون اي قدرة على الارتقاء لمستوى وحقيقة الفعالية العقلية البدئية الوجودية كما عاشتها المجتمعات الاولى ابان تبلورها الافتتاح.

 وتستوجب هذه الظاهرة اعادة قراءة للسردية العقلية الادراكية البشرية، بين منجز الافتتاح البدئي وذلك اللاحق، وبالاخص منه الذي رافق ونجم عن الانقلاب الالي بصيغته الاولى المصنعية الاوربية وتوهماتها، الامر الذي يمكن ان ياخذنا الى القول بان المنطلق الرؤيوي الاول المجتمعي بصيغه الاسطورية السماوية بازاء الوجود والكون المبهم، هو الصيغة العليا من الرؤية العقلية البشرية المؤجله، والتي لم تكن قادرة على التحقق في حينها، لاسباب تتعلق بنوع وسيلة الانتاج المتاحة والممكنه من جهة، وحكم القصورية الاعقالية الابتدائية، ولزوم تجاوزها الى النطقية التحولية الباقية خافيه، تتعدى القدرات المتاحة من الادراكية العقلية حتى اللحظة الراهنه.

 وهنا تقع القصورية الكبرى في النظر الى الحقيقة الوجودية والمسار البشري المقرر والمصمم بنية وكينونه، مع العجز عن التعرف على الحقيقة المجتمعية الاساس اللاارضوية الدالة على خضوع الوجود لقوة التحولية العظمى الى العقلية بدل الجسدية، فالمجتمعات تبداكمنطلق بالتبلور في ارض سومر، لاارضوية ذاهبة الى مابعد ارضوية جسدية وهذا هو جوهر الوجود البشري ومنتهاه، مقابل ذلك الذي يرى المجتمعية جسدية ابدية ونهائية، فيعمد الى تكريس هذا النوع من النظر على انه الواقع، الى ان ذهب ليدعمه لاحقا بما يعتبره "منظور العلم" والعقلانيه، مقابل الماورائية والميتافيزيق، هابطا بالمروية المجتمعية التحولية الى الدرك الارضوي المغلق، بما في ذلك منتهياته المفترضة "الاشتراكية" وعموم صيغ اليوتوبيا الارضوية، التي تقف بالكينونه البشرية عند حدود ونطاق الجسدية الحاجاتية التي هي بالاحرى محطة لازمة مؤقتة وعابره، مفروضة لاجل توفير اسباب الانتقاله العظمى التحولية مابعد الجسدية.

 الابراهيمه العراقية السومرية هي التعبيرية الاولى اللاارضوية اي التعبيرية التحولية الاولى ضمن اشتراطات استحالة التحقق، وتحت وطاة اشتراطات اليدوية وغلبة الارضوية وطفولة العقل، تتكامل برغم مجافاة الواقع نبويا حدسيا بما يوافق اشتراطات الازدواج البشري المجتمعي التفاعلي الانتقالي الطويل، الذاهب الى نهاية الطور اليدوي الانتاجي، حين تبدا بالتبلور ساعتها ومن هنا فصاعدا اسباب التعبيرية الثانيه اللاارضوية، "العليّة / السببية" ويصير الانتقال من الجسدية واقعا معاشا، مع توفر اسبابه على صعيد وسيلة الانتاج العقلية/ التكنولوجية العليا، والرؤية المنتظرة، تلك البدئية الثانيه، الغاية والغرض الاعلى.

 والتعبيرية اللاارضوية التي هي اول رؤية ابتدائية للكون والوجود هي المنظور "العلمي" الاول للكون والوجود قبل اوانه، يقر اولا بوجود قوة عليا خارجة عن الارادة البشرية هي المتحكمه بمسارات الوجود، وهي حين تتم صياغتها في حينه، فانها تاتي ملزمه بالخضوع لما متاح لها من ممنكات التعبير اللاارضوي. وهنا نجد التوافق الضروري بين اشتراطات الوجود البشري الاولى ومستوى الادراكية وبين اجمال البنية الربانيه من دون تجاهل عبقرية الصياغة ضمن المتاح آنيا مقابل المنظور الفرعوني التالهي الارضوي الجسدوي، المادي الارضوي الموكول للحاجة، لنصبح امام رؤية تسحب السلطة من الارض لتودعها في السماء، متعدية الملوك والفراعنه وكل صنوف الحكام، فاذا ادمج حكم الغائية الكونيه العليا ب "الله" فان اللحظة وشروطها وسبل وممكنات التعبير عنها ضمانا لفعلها، تكون مرهونه بممكنات الرؤية الاولى للوجود والعالم والكون، بالاخص ضمن اشتراطات اليدوية، الى ان تنتهي مفاعيلها وتحل ساعة الانتقال الالي التكنولوجي العقلي، ووقتها تحل ساعة العلية السببية اللاارضوية التي يسمونها ارضويا " العلمية" و"العقلانيه" الارضوية، وقد آن اليوم اوان انحسار فعلها المؤقت التوهمي، مع بدء تبلور الاسباب الضرورية للتحوليه العظمى ماديا " تكنولوجيا".

 لم يصل الكائن البشري مستوى يؤهله للتعرف على قوانين تطوره ومسارات وجوده وغاياته، فهو مايزال مجرد موضوع، ثمه قوة عليا هي المتحكمه به وبكل مايخص ترقية ووجهته، فاذا حدث وانبثقت الرؤية الثانيه للوجود من هنا فصاعدا، وغدا الكائن البشري قادرا على التعرف على اليات وجوده ومساراته، فان مفهوم " الله"، اي الغائية الكونيه العليا الناظمه للكون والياته، لابد سيصبح اكثر ملموسية، وياخذ بالتشكل بما يوافق صيغة التحول العظمى البشرية الى "الانسان/ العقل"، على انقاض "الانسايوان" الحالي المنتهية صلاحيته، بما هو محطة انتقالية اخيرة بين "الحيوان" و"الانسان"، ووقتها حين يكون العقل المتحرر بذاته من وطاة الجسدية،هو الحاضر الفعال، فان كل مايخص النظر للذاتيه والكينونه والوجود يصير في عالم اخر مختلف نوعا، لسنا بعد قادرين على وصفه، مع ان العمل على استجلائه صار هو المهمة الاعظم على مستوى التاريخ البشري الممتد عودة الى عصور الحيوانية، ذهابا الى الخليه الاولى.

***

عبد الأمير الركابي

 

العامل المشترك بين علماء الأمة في مسسيراتها الحضارية أنهم حفظوا القرآن في سن مبكرة، فما علاقة ذلك بنبوغهم وتألقهم المعرفي؟

القرآن فيه 77439 كلمة والغير مكررة منها عددها 19209، هذا الثراء اللغوي يعطي حرية وفضائية مطلقة للتفكير.

العقل بحاجة إلى مفردات لغوية لأنها أدوات التفكير وعناصر التعبير عن الفكرة، وبدونها يبدو عاطلا وبليدا، فضخ المفردات يعني إحياء نشاطات العقول وتحفيزها للإتيان بالأصيل.

بينما في واقعنا المعاصر هناك فقر لغوي مدقع، تسبب في تضييق مساحة التفكير وفقدان القدرة التحاورية لغياب عناصر الحوار اللغوية.

وتجد الدول القوية تهتم بضخ المفردات اللغوية في رؤوس الأجيال منذ الصغر، ولهذا يستطيع الطفل عندهم التعبير عما يعتريه بالكلمات، لا بالدموع والصرخات.

فالمجتمعات الفقيرة لغويا ضعيفة ومهزومة، والعكس صحيح، والمخزون اللغوي عندنا يميل للنضوب.

الكلمة ومعناها لا تُدَرس في مدارسنا، بينما المجتمعات المتطورة تعلم أبناءها أصوات الحروف وكيف يتم صناعة الكلمات بها، ومن ثم العبارات التي تشير إلى فكرة بوضوح وسهولة.

الإحتفاء باللغة العربية ليس فخرا وغزلا ورثاءً وتمجيدا، إنه بالعمل الجاد على إظهار مهاراتها المعاصرة، وضخ المفردات اللازمة للتعبير عن الأفكار المتفاعلة مع حاضرنا المعلوماتي الدفاق، وبثورة مَعجمية، لزيادة الثروة اللغوية في رؤوس أبنائها.

فهل يمتلك الواحد منا نصف عدد كلمات القرآن؟!!

مفرداتٌ خاوياتٌ عِندنا

فارْتضينا لقصورٍ هَوننا

لغةُ الضادِ أشادتْ مَجْدنا

وتباهتْ وأنارتْ عَقلنا

فاطلقوا الأضواءَ فينا حُرّةً

أمّتي شعّتْ وطافتْ كَوْننا

***

د. صادق السامرائي

 

الأكاديميون يخاطبوننا بمفردات لا تسترعي تفاعلنا وفهمنا، لأنها إستعلائية تخصصية ذات رمزية وغموضية صعبة، بينما المتعارف عليه في مسيرتنا عبر العصور أنهم يبذلون جهدا متواصلا لتبسيط اللغة التي يعبرون فيها عن أفكارهم وطروحاتهم المتنوعة.

هذا التباعد بين القارئ وما يأتي به الأكاديميون، رغم أهمية طروحاتهم، لكن التفاعل بينهم والمتلقين تكاد تكون معدومة، حتى الصفوة من الناس تعجز عن التواصل مع ما يطرحونه، وكأنهم يحسبون التعقيد والتصعيب في عباراتهم ومفرداتهم يدل على ثقافتهم، بينما الحقيقة تشير إلى أن الذي يعرف مادته الأكاديمية يقدمها بأبسط وأسهل لغة.

فبسّطوا ولا تعقدوا، ففي البساطة قوة وقدرة على التفاعل الإيجابي والتقدم.

من معاضل مجتمعات الأمة أن النشاطات الأكاديمية لا تستند إلى مفردات واقعية ولا تتفاعل مع المجتمع بإيجابية، ولهذا يكون للجامعات دور ضعيف في التوعية وإستنهاض الأجيال، والسير بهم ومعهم نحو آفاق مستقبلية معاصرة.

المطلوب مفردات لغوية سهلة الفهم، وتقدم الفكرة بآليات قادرة على تحويلها إلى سلوك، وكينونة واضحة متفاعلة مع الحياة ومؤسسة لمنطلقاتها الإيجابية.

فلا قيمة للمقالات والخطابات والقصائد الملغزة المبهمة الغامضة، فالمواطن لا يمتلك القابلية على تفتيت العبارات وتشريح النص المنشور، لأن الأساليب التربوية أفقرت معجميته، وكرهته بالكلمة ومعناها، ويبدو أن أبناء الأمة من أقل المجتمعات كنزا للمفردات، ولهذا يعجزون عن الحوار والتفاعل الحضاري، ويكون للعضلات دورها وللقوة المتصورة أثرها في تقرير مصيرهم.

نُخاطبهمْ بترْميزٍ غريبِ

ونَحْسَبُ قولنا صوتَ اللبيبِ

هي الأفكارُ إنْ عَسُرَتْ أغاضَتْ

وجادتْ من تثاقلها بريبِ

محاسنُ ضادِنا أبْدتْ وضوحاً

ويسّرتِ المعارفَ للأريبِ

***

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم