أقلام حرة

أقلام حرة

في الحكم والامثلة والاقوال والشعر غالباً ما يتم طمس تمييز حاسم بشكل مأساوي: الفرق بين الجهل والغباء. لذا، لأولئك الذين يعانون من هذه المعضلة الفلسفية المعقدة، اسمحوا لي ان انير الطريق الى التنوير (أو على الأقل لفهم معتدل).

الجهل ببساطة هو نقص في المعرفة. انت لا تعرف شيئاً ما. ربما لم تتح لك الفرصة لتعلمه ابداً. ربما كانت المعلومات مخفية في مجلد مغبر في مكتبة منسية (او غير متاحة بسهولة على الويكيبيديا). الأمر يشبه عدم معرفة كيفية التحدث باللغة السنسكريتية. هذا لا يجعلك سيئاً، فقط… لديك تحدي في اللغة السنسكريتية. الجهل قابل للشفاء. يمكن علاجه بالكتب او الأفلام الوثائقية او بحث جيد على غوغل، او حتى محادثة مع شخص يعرف بالفعل عما يتحدث.

والجهل هو عكس الذكاء، بصورة عامة. فالذكاء يرتبط بالقدرة على التفكير النقدي، وحل المشكلات، والتعلم من التجارب. بينما الجهل هو غياب هذه القدرات، مما يجعل الشخص غير قادر على فهم العالم من حوله او التفاعل معه بشكل فعال. فالشخص الجاهل يفتقر الى الأدوات المعرفية التي تمكنه من تحليل المعلومات وتقييمها واتخاذ قرارات مستنيرة.

اما الغباء فلا يتعلق بنقص المعلومات وانما يتعلق بالحصول على المعلومات، حتى بعد أن يتم دفعها مباشرة الى مقل عينيك، ثم الشروع في "اتخاذ قرارات غير صحيحة". الأمر يشبه ان تكون متحدثاً بطلاقة للغة السنسكريتية ثم تستخدمها للخطابة كما يفعل بعض قادة العراق الميامين. بالتأكيد، يمكنك فعل ذلك، ولكن… لماذا؟ الغباء وحش عنيد. انه مقاوم للحقائق والمنطق وحتى الحس السليم. انه يزدهر بالمعلومات المضللة ونظريات المؤامرة والايمان الراسخ بأن رأي المرء المعيب بشدة يعادل بطريقة ما الحقيقة القابلة للتحقق.

هل الغباء عكس الذكاء؟ يمكن القول ان الذكاء هو العكس الأكثر شمولاً للغباء، حيث يشمل مجموعة واسعة من القدرات المعرفية والعقلية التي تمكن الشخص من فهم العالم والتفاعل معه بفعالية. ولكن، من المهم ايضا ان نأخذ في الاعتبار المفاهيم الأخرى مثل الفطنة والحكمة والوعي والتعقل، حيث انها تمثل جوانب مختلفة من القدرات العقلية التي تتناقض مع جوانب مختلفة من الغباء.

بأختصار، الذكاء هو القدرة على الفهم السريع والتفكير المنطقي وحل المشكلات والتكيف مع المواقف الجديدة. اما الجهل فهو نقص المعرفة او عدم الالمام بالحقائق. بينما الغباء هو نقص في الفهم والإدراك مع احتمال وجود معرفة ولكن عدم القدرة على تطبيقها بشكل صحيح او اتخاذ قرارات منطقية.

هذه بعض الأمثلة البسيطة للفرق بين الجهل والغباء، وأرحب بمشاركتكم بأمثلة أخرى:

الجهل:

عدم معرفة عدد الأحزاب السياسية المتنافسة في الانتخابات (لأن العدد كبير جدا لدرجة النسيان).

الاعتقاد بأن "القضاء على الفساد" هي خطة حكومية.

عدم التمييز بين تصريح مسؤول حكومي وبين نكتة سمجة.

السؤال عن مكان الاختناقات المرورية في يوم العطلة الرسمية (وكأنها اختفت تماما).

عدم فهم أسباب انقطاء الكهرباء وارتفاع اسعار المواد الغذائية بشكل مستمر.

الاعتقاد بأن المسؤولين الحكوميين جادون في "مكافحة الفساد".

الظن بأن بناء مجّسر آخر سيحل مشكلة الازدحام.

عدم فهم ان الشعب ينتظر حلولا جذرية وليس مجرد "مسكنات مؤقتة" للأزمات.

عدم فهم ان الأمن الحقيقي لا يتحقق بالمليشيات وقوات الامن، بل ببناء دولة قانون عادلة.

عدم معرفة ان ثروات البلاد يجب ان تستغل لخدمة الشعب وليس لتمويل النخب الفاسدة.

الغباء:

انتظار تحسن خدمات الكهرباء دون وجود أي مؤشرات حقيقية لذلك منذ عقود.

التصويت لنفس الوجوه السياسية التي وعدت بالاصلاح في الانتخابات السابقة وفشلت.

تصديق الوعود الانتخابية.

الاحتفال بوضع حجر الأساس لمشروع ستنهب الاموال المخصصة له.

القاء اللوم على "الأصابع الخارجية" في كل مشكلة داخلية، وكأن القوى السياسية الداخلية لا دور لها فيه.

تجاهل التقارير الدولية التي تشير الى مستويات الفساد القياسية، والادعاء بأن "الأوضاع تتحسن".

الاستمرار في اطلاق نفس الوعود والتصريحات في كل مناسبة وكأن الذاكرة العراقية قصيرة جدا.

محاولة تبرير القرارات الخاطئة بمنطق أعوج لا يقنع حتى الأطفال.

تبني سياسات طائفية وعرقية تزيد من الانقسام والكراهية بين مكونات الشعب.

لذا، في المرة القادمة التي تصادف فيها شخصاً يبدو… أقل من مستنير، توقف لحظة للتفكير في التمييز. هل هو ببساطة يفتقر الى المعلومات؟ ام انه يرفضها بنشاط لصالح وهمه المصمم بدقة؟ لأنه في حين يمكن اصلاح الجهل بالتعليم، فأن للغباء قصة مختلفة تماماً. غالباً ما يتطلب بدلة واقية وجرعة كبيرة جداً من الصبر. أو، كما تعلم، مجرد الابتعاد. هذا ينفع ايضاً. ربما أفضل، في الواقع.

***

د. محمد الربيعي

 

الانتماء حاجة فطرية، تميل إليها كل نفس، تمامًا كما تميل إلى الحفاظ على مسافتها الخاصة واستقلاليتها. كلاهما فطرة، ولا تناقض بينهما.

لكن ما لا أقبله، أن يُختزل الانتماء في التماهي الأعمى، كما في القول:

“وما أنا إلا من غزية إن غزت غزوت، وإن ترشد غزية أرشد”.

فالانتماء إن تحوّل إلى ذوبان، يصبح كفرًا بالذات، وتجاوزًا على العقل، وإساءة لتفرّد الروح وتوهّجها الخاص.

مررت بتجارب عديدة، وضعت نفسي فيها، وحاولت أن ألبسها ما يناسب روحي من صور وقيم ورغبات دفينة. لكنني كثيرًا ما شعرت أنني لا أشبه نفسي، ولا أنتمي لذاتي، فأبتعد بهدوء، وينقطع خيط الانتماء من تلقاء نفسه.

لم أنتمِ بعمق لأي عمل، رغم أن تجاربي فيه كانت طيبة، وأثري بقي حسنًا.

ولم أنتمِ لعائلة سوى عائلتي السابقة، حيث جمعتنا السجون، والألم، والقدر المشترك، والمصير الواحد آنذاك.

أما الأشخاص، فكان انتمائي لبعضهم بنسبة بسيطة، حين وجدت بينهم وبين روحي شيئًا من التقاطع، من الفكر، أو الوجدان.

وانتميت بصدق لفعل التدريب، وانتميت لأرواح الشباب الحرة التوّاقة للمعرفة والاكتشاف.

من هنا، اخترت التدريس عملًا أمضي به ما تبقى من عمري معهم، لعلّي أكون قيمة مضافة في بعض أيامهم، ولأني أتعلم منهم بقدر ما أعلّم.

في هذه المساحة، شعرت أن الانتماء يحمل طيفًا من المعنى، وملمسًا من الروح.

ومؤخرًا، أصبحت أحنّ إلى الانتماء للمطلق… إلى الخالق.

بل إنني، وبكل صدق، انتميت للطبيعة: للورد، وللأشجار، وللسماء الصافية…

أصبحت الطبيعة تجلّيات ترافق أيامي، كوسيلة تهديني وتوصلني إلى الله.

أمنيتي الكبرى اليوم أن أنتمي إلى الله.

أدعوه كثيرًا أن يهديني، وأن يلهمني كيف أسلك طريقه بوعي أصفى، وبصيرة متقدة، ونفس أكثر خفة ونقاء.

حتى مع أبنائي وبناتي…

فانتمائي لهم ليس امتلاكًا، بل امتدادٌ لرحمة الله في قلبي.

هم أفراد جاءوا من خلالي، لا إليّ. لكل منهم مساره، وقصته، وأقداره.

لا أتماهى بانتمائي إليهم، بل أحترم خصوصيتهم، وأقدّر المسافة التي تمنحهم حقهم كأرواح حرة.

أتوق إلى علاقة صداقة صادقة وعميقة معهم.

هم جيل أحدث مني، أتعلم منهم، ولا أبخل عليهم بخبرتي المتواضعة من عمرٍ سبقهم في الوجود.

حبي لهم أصبح غير مشروط.

ودعائي لهم دائم: بالبركة، والعافية، وسلام القلب.

أسأل الله أن يرضى عنهم، ويرضيهم، ولا يحمّلهم ما لا طاقة لهم به.

***

د. حميدة القحطاني

 

ان الله تعالى خلق الإنسان وجعل فيه العقل للتدبر والتدبر والتفكر والتميز به في حياته اليومية عليه أن يجعله الوسيلة أو الأداة المدركة للوصول إلى معرفة الله الخالق والسبيل إلى طاعته ومعرفة شرائعه وسننه الكونية والحياتية بالبحث والتقصي والدراسة عن طريق التدبر لمنهاج شريعته ومعتقداته بعيدا عن الإملاءات الخارجية إلا إذا عجز عن ذلك في الأخذ من المنهل الصحيح الصافي المطابق للعقل والوجود البشري في زماننا هذا من رجال دين ومفكرين ومتدبرين الذين لهم البصمة الواضحة في شرح الآيات القرآنية بالتدبر بها بأفكارهم الواقعية التي تأخذ بعقولنا المتفتحة ضمن الاختصاصات العلمية والدينية لنصل بفكرهم وجهدهم الرائع وتعبهم المضني مع استخدام عقولنا وتدبرنا لمعرفة مبادئ ديننا الإسلامي الحنيف المحمدي من الماضين رحمهم الله والموجودين على الساحة الآن الذين يكافحون في إعادة التدبر القرآني الصحيح والتصدي للفكر المنحرف الذي أساء للدين والعقيدة لطرحة للأجيال الجديدة (كذلك بين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) البقرة 219وكذلك (أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) الزمر 18في زمن احتدم النقاش والصراع على أثبات الوجود في الساحة الفكرية والدينية والعقائدية بين التيار الديني الأصولي السلفي المتزمت والتيار الديني الفكري المجدد البعيد عن ما قاله السابقون بحصر تفسير الآيات القرآنية وشرحها وأخذ أصول العقيدة وفق معاييرهم لتنطبق عليهم الآية الكريمة (وإذا قيل لهم أتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أولوا كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) البقرة 170على العكس من الرعيل الجديد من المتدبرين في زمن الحداثة الفكرية واستخدام العقل السليم المساهم في دعم الآيات الكونية للقرآن وبيان وجودها بعد ما كانت مجرد أنباء مذكورة بين دفتي القرآن الكريم علما أن الله تعالى وآياته البينات تحث المؤمن والمسلم الواعي المفكر الذي يسعى في تطوير كيفية فهم الآيات ومرادها من خلال استخدام عقله وفكره الذي سوف يحاسبه الله يوم القيامة ويكون الناطق والشاهد عليه في تلبية مراد السماء لكي لا يكون من أصحاب السعير (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير) الملك 10 و(أن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) الأنفال 22.كما أن الله تعالى أرسل رسله ورسالاته إلى أشخاصا وأقواما على مر الزمن وليس إلى نخبة معينة ليكونوا بدلاء عن الإنسان ذاته كونها واضحة وبينة الفهم والإدراك للعقل متدرجة في قوانينها بدون وسيط من راهب أو حبر أو كاهن أو أي رجل دين خصه الله لبني البشر في شرح آياته وشريعته ولم يجعلهم قوامين أو أربابا على الناس من دون الله لتوضيح وفهم التعاليم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) التوبة 31 أن الله تعالى كفل للناس حصرا فهم الرسالات والعقيدة وتعاليمها (أنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) الزخرف 3 وكذلك (ليدبروا آياته وليتذكر أولوا  الألباب) ص29 لأن القرآن سيكون عليهم حجة يوم القيامة بعدما يختم على أفواههم وقلوبهم وسمعهم (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبهم أقفالها) محمد 24 لذا على كل مؤمن بالله تعالى أن يتدبر ويتفكر بالمنهاج الرباني (القرآن) وشرائعه وسننه التي نزلت له خصيصا كإنسان بعيدا عن إتباع الغير والسير ورائهم كالأعمى وعديم البصيرة مجرد الإتباع بدائرة من القدسية الخاصة والأخذ كل ما يقولوه بدون تفكر وتمعن وتعب وبحث ودراسة متبعين  رجال دين امتهنوا الفقه والفتوى السلفية التي مضى عليها قرون بدون تجديد للعقلية القديمة النمطية.

***

ضياء محسن الاسدي

 

اتخاذ القرار ليس خطوة عشوائية، بل هو مسار مدروس يمر بعدّة مراحل تبدأ بالدراسة والتحليل، ثم الموازنة بين البدائل، فاختيار الوسائل المناسبة لتحقيق الهدف المنشود. كثيرون يتعاملون مع القرار وكأنه لحظة واحدة، فيسقطون في فخ العجلة، ويفقدون دقة الحكم وصواب الاختيار.

القرار السليم لا يُولد من لحظة انفعال، ولا من ضغوط الآخرين الذين قد لا يعون تبعاته كما تعيها أنت. بل يحتاج إلى صفاء ذهني، وهدوء في المزاج، ونظرة شمولية تأخذ في الاعتبار جميع الظروف والعوامل المحيطة. فليس من الحكمة أن يُتخذ قرار مهم وأنت في حالة غضب أو توتر، فالعقل حينها قد لا يرى الصورة كاملة.

الناجح هو من يتحكم في حياته، يرسم مساره بوعي، ويختار قراراته بعناية. لا بأس أن نتعلّم من الآخرين، أن نستلهم من سلوكياتهم وتجاربهم، ولكن دون أن نفقد هويتنا، أو نتحول إلى نسخة عنهم. فالشخصية المتزنة تُبنى على الوعي الذاتي، والتفرّد في التفكير، والثقة في الاختيار.

إن القدرة على اتخاذ القرار تُعد من أبرز سمات الإنسان الناضج. فالحياة لا تخلو من مواقف تتطلب حسمًا، وغالبًا ما يكون القرار هو الفاصل بين النجاح والتعثّر. ومتى ما كان القرار مبنيًا على هدف واضح، ازدادت الحاجة للتأني في اتخاذه، فكلما عظم الهدف، وجب التروي في اختيار الوسيلة الأنسب لتحقيقه.

وقد يجد الإنسان نفسه أمام هدفين قريبين إلى قلبه، وهنا تبرز مهارة المفاضلة والقدرة على قياس المنفعة، سواء في الوقت الحاضر أو المستقبل. وعندها فقط، سيتوصل إلى القرار الصائب الذي يجنبّه العناء لاحقًا.

في النهاية، لا يُختبر نجاح القادة والمسؤولين إلا في مواقف الأزمات، ولا تُقاس كفاءتهم إلا بقراراتهم في لحظات التحدي. إذ إن القيادة الحقيقية، ليست فقط في إدارة الأمور اليومية، بل في صنع القرار الصائب وقت الأزمات، وفي القدرة على التحرك الفعّال بدلاً من انتظار الحلول من الآخرين.

التأني في اتخاذ القرار ليس ضعفًا، بل هو قوة ناعمة تُظهر عمق الرؤية، ورجاحة العقل، وبعد النظر.

***

بقلم: خليل إبراهيم الحلي / سدني

 

القوة في العلم وليست في الشعر، والذين يريدون إيهام الأمة بأن قوتها في الشعر، يسعون لإجهاض وجودها الحي.

العلم قوة والشعر مرآة لواقع الحياة!!

هذا ليس عدوانا على الشعر، بل توضيحا لحقيقة القوة ومعناها، فالأمم تتقوى بالعلم، وما وجدنا أمة تتقوى بالشعر، لأن الشعر تفريغ لطاقات الإبداع.

الشعر كان له دور في تجميع القدرات وشد العزائم لصناعة القوة اللازمة لمواجهة التحديات.

أما في عصرنا العلمي الدفاق فما عاد له دور مهم في هذا المضمار.

وأصبح معبرا عن المشاعر والترفيه عن النفوس، وربما كالموسيقى والرسم والمسرح وغيرها من الفنون.

وهذه النشاطات تكون من نضح قوة الأمم والشعوب وليس العكس، فكلما تقوّت المجتمعات وتألقت قدراتها، فأنها تنعكس على نشاطاتها الفنية بأنواعها.

فالأمم الضعيفة مهما حاولت فلن تقدم إبداعا يضاهي ما تقدمه المجتمعات القوية البارعة بالعلوم.

إن التقدم العلمي من ضرورات التطور الإبداعي، وبدون مجتمعات يقودها العلم، لا يمكن الإتيان بإبداع أصيل معاصر وجدير بالحياة.

هذه حالة نغفلها ونتوهم بأننا نأتي بأدب رفيع، وما نقدمه محاولات نستنسخ فيها عطاءات المجتمعات القوية، لنخدع أنفسنا بأننا نساهم في الإبداع وأقوياء.

 وكل مَن كتب قال أنا وغيري هباء!!

فهل لنا من علم يقوينا وأدب يشافينا بدلا من الخواء؟!!

عقولٌ في متاهاتٍ تداعت

ونفسٌ في مواطنها تعالت

وأفكارٌ بلا أثرٍ ومعنى

نغلفها بأقوالٍ تشاكت

كأن الشعر برهان انطلاقٍ

وحاديةٌ لأجيالٍ أشادت

فأين العلم يا زمن اتباعٍ

وأين الفعل والدنيا تبارت

***

د. صادق السامرائي

 

الجمال كسلاح لا يُقهر 

عالم اليوم تتصارع فيه الأفكار مع القوة الغاشمة، وتتشابك فيه السياسة مع الفن، يبرز الجمال فيه كسلاح لا يُضاهى، أكثر رعبًا للسلطة من أي رصاصة أو تهديد عسكري. هذا ما أثبته الفنان الصيني المعارض ي ويه وي، الذي لم يكتفِ بتحدي النظام برسومات أو منحوتات تقليدية، بل حوّل التابوت - رمز الموت والنهاية المطلقة - إلى عمل فني يسخر من احتكار السلطة لكل شيء، حتى مصيرنا الأخير. في عمله المثير للجدل "إزالة التبعية"، كسر تابوتًا ضخمًا من الرخام بجرأة، معلنًا عبارته الشهيرة: "السلطة تخاف من الجمال أكثر من الرصاص". هذه ليست مجرد كلمات عابرة، بل إعلان عن حقيقة تاريخية تتكرر عبر العصور، من الفلاسفة في أثينا القديمة إلى الثوار في شوارع المدن المعاصرة. الجمال، بقدرته على اختراق القلوب، يصبح تهديدًا وجوديًا لأي نظام يعتمد على الخوف والسيطرة.

الوعي: بداية التحول 

الوعي هو المفتاح الذي يفتح أبواب الحرية الحقيقية. عندما يستيقظ الفرد من سباته الطويل، وينغمس في أعماق ذاته بعيدًا عن ضوضاء العالم الخارجي، تبدأ لحظات التحول. هذه اللحظات ليست مجرد ومضات عابرة أو تأملات مؤقتة، بل هي ثورة صامتة تُفكك الأوهام التي صنعتها النخب الحاكمة بعناية فائقة على مر العقود. تلك الأوهام التي جعلتنا نصدّق أن الحرية تُمنح كهدية من السلطة، وليست حقًا ننتزعه بأيدينا. لكن هذا الوعي لا يأتي بسهولة؛ إنه يتطلب شجاعة نادرة لمواجهة الحقائق المرة، والتخلي عن الراحة المزيفة التي تقدمها الأنظمة مقابل صمتنا. في كل لحظة تحول، يولد إنسان جديد، قادر على رؤية العالم بعيون لا تعرف الخضوع.

ي ويه وي: فنان السخرية المقدسة 

ي ويه وي ليس مجرد فنان، بل رمز للمقاومة الإبداعية. يُطلق عليه "فنان السخرية المقدسة" لأنه يحول الألم إلى جمال، والقمع إلى تحدٍ. في عمله "إزالة التبعية"، لم يكسر التابوت الرخامي فقط، بل حطم فكرة أن السلطة تملك السيطرة المطلقة على حياتنا ومماتنا. السخرية هنا ليست مجرد وسيلة للتهكم أو التسلية، بل سلاح حاد يفضح هشاشة الأنظمة المستبدة وخوفها العميق من أي تعبير حقيقي عن الذات. عندما يقف الفنان أمام النظام، مسلحًا بفرشاة أو مطرقة، فإنه يزرع بذور الشك في عقول الملايين. هذا ما يجعل السلطة ترتعد: ليس خوفًا من العنف، بل من تلك القوة الخفية التي يحملها الفن في إيقاظ الضمائر وتحريرها من قبضة الخوف.

ثمن الحرية الحقيقية 

الحرية ليست مجانية، وأسعارها باهظة تتجاوز مجرد التضحية المادية. إنها تتطلب مواجهة الذات قبل مواجهة الآخرين، واستعدادًا للتخلي عن الأمان الوهمي الذي توفره السلطة كجائزة ترضية لمن يختارون الطاعة العمياء. ي ويه وي يذكرنا أن الفن ليس ترفًا أو هواية للنخبة، بل ضرورة وجودية. إنه الجسر الذي ينقلنا من الاستسلام إلى المقاومة، من التبعية إلى الاستقلال الفكري. لكن هذا الطريق ليس مفروشًا بالورود؛ إنه مليء بالتحديات، من مراقبة النظام المستمرة إلى التهديدات التي تواجه كل من يجرؤ على تحطيم الأصنام. الفنان الصيني، الذي يعيش تحت عين الرقابة، يجسد هذا الثمن بكل وضوح، لكنه يثبت أن الجمال يستحق المخاطرة.

لماذا تخاف السلطة من الفن؟ 

التاريخ مليء بالأمثلة التي تُظهر محاولات السلطات قمع الفن الذي يحمل بذور الوعي. في الصين، يعيش ي ويه وي تحت المراقبة الدائمة، وأعماله تُثير ردود فعل عصبية من النظام. لماذا تخاف السلطة من فنان يحمل مطرقة بدلاً من بندقية؟ لأن الجمال يمتلك قوة تفوق السلاح التقليدي. الرصاص قد يقتل الجسد، لكنه لا يستطيع إسكات الفكرة. أما الفن فيحرر العقل، ويزرع الأمل، ويُلهم الجماهير لتتخيل عالمًا مختلفًا. في لحظة التحول هذه، عندما يدرك الناس أن بإمكانهم رفض الروايات الرسمية وصياغة قصصهم الخاصة، تنهار جدران السجن الذهني الذي شيدته النخب بعناية.

التحرر من الأوهام 

في النهاية، السلطة لا تخشى الرصاص لأنها تملك ترسانة كافية لمواجهته. لكنها ترتعد أمام الجمال لأنه يحمل قوة لا يمكن السيطرة عليها بالقوة الغاشمة. ي ويه وي، بتابوته المحطم، يقدم درسًا لنا جميعًا: لا تخافوا من كسر القيود، سواء كانت مادية أو فكرية. الحرية تبدأ حين نرفض أن نكون مجرد أرقام في لعبة النخب، وحين ندرك أن الوعي هو السلاح الأقوى. الجمال هو أداتنا، والتحول هو طريقنا، وكل عمل فني يتحدى السلطة هو خطوة نحو تفكيك الأوهام التي كبّلتنا لعقود. عندما تنمو بذور الشك والأمل، لن يبقى أمام الأنظمة سوى الانهيار، لأن الجمال، في النهاية، لا يُقهر..

***

ذ. يونس الديدي كاتب مغربي متخصص في الشؤون السياسية والاجتماعية

 

مقترح لإعادة توزيع الكوادر الوطنية وخلق مساحة للكرامة

الملخص التنفيذي:

يهدف هذا المقترح إلى معالجة الأزمة المعيشية التي تعاني منها شريحة المعلمين والمدرسين في العراق، دون الإضرار بسير العملية التربوية. يرتكز المشروع على مبدأ إعادة توزيع الموارد البشرية داخل الدولة، بحسب التخصص العلمي والحاجة الفعلية، من خلال توفير إطار قانوني وتنفيذي لانتقال الموظفين من وزارات أخرى إلى وزارة التربية، بشرط توفر المؤهلات التربوية أو العلمية المناسبة، وإعادة تأهيلهم للمساهمة في العملية التعليمية. وبموازاة ذلك، يتم تقليص عدد ساعات الدوام اليومي لجميع المعلمين (الحاليين والمنتقلين إلى الوزارة حديثاً) عبر نظام التناوب أو الدوام الجزئي، مما يخفف العبء عن الجميع، ويتيح لهم فرصة العمل الإضافي خارج الدوام لتحسين دخلهم، دون المساس بحق الطالب في تلقي التعليم الكامل. يسعى المشروع إلى تحقيق التوازن بين استدامة التعليم وكرامة المعلم، وهو قابل للتنفيذ ضمن إمكانات الدولة الحالية.

مدخل: عندما يتحول التعليم إلى عبء

يواجه المعلم العراقي اليوم تحديات جسيمة، ليس فقط داخل الصفوف وبين المناهج، بل في حياته اليومية التي تزداد قسوة وسط أزمات معيشية وضغوط نفسية متراكمة. التعليم الذي كان يُنظر إليه كرسالة بات في نظر كثيرين "عبئاً لا يُحتمل"، ينهك الجسد ويستنزف الوقت، دون مقابل مادي يحفظ كرامة من يحمل على عاتقه مسؤولية بناء الأجيال.

ومع تكرار الإضرابات والاحتجاجات، بات من الواضح أن الحلول الترقيعية لم تعد مجدية، وأن الدولة مطالبة بتفكير خارج الصندوق يوازن بين استدامة التعليم وصون كرامة المعلم.

بين عجز الدولة وحقوق المعلم

في ظل العجز المالي المزمن الذي تعاني منه الدولة العراقية، أصبح من الواضح أن الاستجابة لمطالب الكوادر التعليمية عبر امتيازات مالية أو عينية مباشرة (كالزيادة الكبيرة في الرواتب، أو توزيع قطع الأراضي السكنية) بات أمراً صعب التحقيق على المدى القريب.

ومع ذلك، لا ينبغي أن يُترك المعلم يواجه مصيره وحده وسط هذه الضغوط. فإذا لم تستطع الدولة أن تُنصفه من خلال الراتب، فعليها أن تنصفه من خلال ظروف العمل.

إن تخفيف العبء الوظيفي وتقليل ساعات الدوام، بما يراعي الضغوط المعيشية للمعلم ويمنحه فرصة لتحسين دخله بطرق أخرى، ويحفظ حقوق الطلبة في تعليم جيّد ومستدام، يُعد امتيازاً وظيفياً معقولاً وممكن التحقيق، ينسجم مع الواقع المالي للدولة ويعزز من صمود المعلم داخل المؤسسة التعليمية.

بهذا الشكل، يتحقق نوع من العدالة النسبية: المعلم يؤدي ما يتناسب مع ما يتقاضاه، دون أن يُسحق تحت نظام دوام مجهد مقابل راتب لا يكفي، ودون أن يشعر بأن الدولة أدارت ظهرها له.

جوهر الفكرة: مشروع وطني لإعادة توزيع الكوادر

يقترح هذا المقال رؤية عملية تقوم على انتقال موظفين من وزارات أخرى إلى وزارة التربية لتوسيع الكادر التعليمي، مما يُتيح للكادر المدرسي (المعلمين الحاليين والمنقولين الجدد) العمل بنظام دوام جزئي مرِن (ساعات محددة يومياً وأسبوعياً)، فيتحسن وضعهم المعيشي من خلال تخصيص وقت كافٍ للعمل الحر أو المشاريع الخاصة، دون التأثير على انتظام الدوام للطلبة أو سير العملية التربوية.

يرتكز المشروع على مبدأ الاستثمار في رأس المال البشري، ومناقلة المِلاكات بين الوزارات، بما يحقق المصلحة العامة.

أولاً: لماذا نحن بحاجة إلى هذا الحل؟

1- أزمة معيشية خانقة تضغط على الكوادر التربوية وتؤثر على دافعيتهم المهنية وأدائهم في الصف وجودة التعليم.

2- فائض وظيفي في عدد من الوزارات، يضم آلاف الموظفين المؤهلين (خريجي كليات التربية والعلوم). إن الترهل الوظيفي في عدد من الوزارات هو مشكلة بيروقراطية ومؤسسية تعاني منها الدولة، وسيسهم هذا المقترح في معالجتها. كما أن هنالك خلل في توزيع الموظفين على الوزارات من حيث التخصص الدراسي، ولذلك فإن نقل خريجي كليات التربية والكليات الساندة إلى وزارة التربية سيعالج هذه المشكلة جزئياً أيضاً.

3- انغلاق فرص تحسين الدخل أمام المعلم بسبب طبيعة الدوام الكامل، مع رغبة قطاع واسع من الكوادر التدريسية في تقليل العبء اليومي مقابل فتح باب العمل الحر لهم.

4- التعليم الخصوصي المُنهك صار الملاذ الوحيد للمعلم لتحسين وضعه، لكنه حل غير عادل للطلاب ولا منصف للمعلمين.

5- ضعف جودة التعليم العام بسبب الإرهاق المزمن الذي يعانيه المعلمون.

6- الدوام الكامل الحالي للمعلمين، في ظل الظروف المعيشية الصعبة، لا يتناسب مع الراتب الذي يحصل عليه المعلم، كما لا يسمح لهم بتحسين دخلهم إلا عبر اللجوء إلى أعمال إضافية مجهدة تؤثر على عطائهم في الصف. الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى معالجة واقعية تضمن تحسين ظروف العمل للمعلمين دون المساس بحق الطالب في تلقي التعليم الجيّد والمتكامل والمستدام.

7- امتصاص نقمة وسخط الكوادر التربوية، لا سيّما في ظل إمكانية تفعيل شراكة حقيقية مع نقابة المعلمين من خلال إدماجها في قيادة الحل بدل معارضته.

8- نقص الكوادر التعليمية في بعض المدارس وتكدّسها في مدارس أخرى، حيث سيُسهم دخول موارد بشرية جديدة إلى العملية التعليمية، وتفعيل الدوام الجزئي واستثمار الطاقات بشكل متوازن، في حل هذه المشكلة.

ثانياً: ملامح المشروع المقترح

1- نقل موظفين إلى التربية:

يُفتح باب النقل الطوعي لموظفي الوزارات الأخرى من خريجي الكليات التربوية والعلمية إلى مِلاك وزارة التربية، ويتم تدريبهم من خلال دورات مكثفة في طرائق التدريس، بإشراف وزارة التعليم العالي.

2- توزيع الشُعب الدراسية على أكثر من معلم:

يتم تقسيم شُعب كل مرحلة دراسية داخل المدرسة الواحدة بين عدد من معلمي المادة الدراسية، فمثلاً: إذا كان هنالك ثلاث شُعب للصف الرابع الابتدائي فتُقسَّم على ثلاثة معلمين مختلفين لمادة الرياضيات. بما يؤدي إلى تقليص دوام كل معلم إلى ساعات محددة يومياً وأسبوعياً، أي بما يعادل التفرّغ لتدريس شعبة واحدة فقط، مع بقاء الدوام كاملاً للطلاب. هذا التقسيم يضمن الاستمرارية التعليمية، ويحدد لكل معلم مسؤولية محددة ومركّزة، كما يمنحه مساحة زمنية حرة.

3- بقاء الدوام كاملاً للطلبة:

يضمن هذا المقترح انتظام العملية التعليمية بالكامل من خلال التغطية الجماعية للعملية التعليمية عبر عمل المعلمين كفريق متناغم داخل المدرسة، دون الإخلال بساعات التدريس أو تفريغ الصفوف أو التسبّب في هدر تعليمي أو تسرّب مدرسي.

4- إعادة هيكلة الجداول المدرسية:

يتم توزيع الحصص بشكل متوازن بين المعلمين الحاليين والمعلمين المنقولين الجدد، مع إعداد دليل إرشادي مرِن لإدارة التناوب أو الدوام الجزئي.

5- إشراك النقابة:

تدخل نقابة المعلمين كشريك للحكومة في هذا المشروع، في بناء الرؤية والتخطيط والتنفيذ والمراقبة، بما في ذلك تقييم نتائج المشروع بعد عام من تطبيقه.

ثالثاً: الآثار المتوقعة

1- تحسين جودة حياة المعلمين نفسياً ومادياً، وتحسين دخلهم دون الحاجة لمغادرة المهنة أو اللجوء للطرق غير الرسمية.

2- تحقيق توازن في الجدول المدرسي وسدّ النقص دون اللجوء إلى التعيينات الكثيفة التي تثقل الموازنة.

3- معالجة ظاهرة البطالة المقنّعة في الدولة، واستثمار الموظفين غير المستغلين في الوزارات ضمن قطاع حيوي ومؤثر هو التعليم.

4- تراجع الحاجة للدروس الخصوصية التي ترهق الطالب والمعلم.

5- خلق ديناميكية جديدة في بنية التعليم الحكومي، وتجديد البنية الوظيفية للمدرسة بما يعزز الكفاءة والتفرغ النوعي.

رابعاً: شراكة لا صِدام مع النقابة

لكي ينجح هذا المشروع، ينبغي أن يُطرح على نقابة المعلمين كشريك تنفيذي لا كخصم. فالنقابة، بصفتها الممثل الشرعي للمعلم، يمكن أن تضطلع بدور رقابي وتنظيمي، وتشارك في تقييم المشروع وتعديله بما يضمن المصلحة العامة. المقترح ليس انتقاصاً من دور المعلم، بل محاولة واقعية لدعمه عبر "تحريره" من عناء الدوام القاسي مقابل دخل لا يكفيه.

خامساً: توصيات للتطبيق المرحلي

1- إطلاق تجربة تطبيقية في محافظة واحدة على الأقل لتقييم الفاعلية والآثار قبل التوسع.

2- تشكيل لجنة مشتركة من وزارة التربية، ووزارة التخطيط، ومجلس الخدمة الاتحادي، ونقابة المعلمين لدراسة الجدوى ووضع خطة تنفيذ.

3- ربط المشروع ببرنامج وطني شامل لتحسين وضع التعليم العام، وبناء القدرات التعليمية، ورفع جودة الخدمة التربوية في العراق، خلال فترة أمدها 5 سنوات.

خلاصة: كرامة المعلم شرط لنجاح التعليم

ليس المعلم آلة تعليمية، بل إنسان له طموحات وحاجات ومطالب مشروعة. وإن كنا نطمح إلى تعليم نافع وشامل، فعلينا أن نبدأ من تحقيق الإنصاف للمعلم، لا بالخطابات، بل بالمشاريع الواقعية.

إن مشروع إعادة توزيع الكوادر الوظيفية وتمكين المعلم وتحسين ظروفه ليس فقط حلاً لأزمة الحاضر، بل خطوة نحو تعليم مستدام وعدالة تربوية وتنمية مؤسسية.

***

همام طه

......................

شكر وامتنان: تم إعداد وتطوير هذه الورقة بدعم من المساعد الذكي "ChatGPT"، الذي ساعدني في بلورة الفكرة، وتنظيم هيكلها، وصياغة وإثراء المقال بشكل يُسهّل تقديمه كحل واقعي للمؤسسات المعنية.

وجودنا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى مفصّل على مقاسات المصالح والمطامع، وآليات التبعية والخنوع للمنتصرين الذين أصبحنا في عرفهم غنائم.

وعينا الجمعي وما ترسخ فيه من ثوابت، مستورَد من بلاد الآخرين، ولهذا تعفنا في مواضعنا وأجدنا المراوحة والتقهقر والإندحار، وإستلطفنا دور الأداة المسخرة لتأمين مصالح الطامعين فينا.

فهل يوجد أصيل في ديارنا؟

نحن ربما غرباء عن كل شيئ يمت بصلة حقيقية إلينا!!

لا نعرف هويتنا وتأريخنا وديننا ورسالتنا ودورنا في صناعة الحياة، وبموجب ذلك إخترنا دور العالة، بالإعتماد على غيرنا للبقاء في مدن الخراب والهوان والإمتهان.

أين الحرية؟

أين قيمة الإنسان؟

نتحرك على هامش الأيام، ونخشى التفاعل مع الواقع، ونميل إلى التلعثم والإندساس في غياهب الإنهزام، ونبرر ما نبديه بأنه من وحي التفاعل مع الأقلام، وهي ترتعش من سطوة الكراسي وجور الحكام.

مَن يكتب بمداد الحق سيكون من المغضوب عليهم، ومن المستهدفين المطلوبين لعدالة الباطل وحكم الأهواء.

الناطق بالحق زنديق، ولا بد له من الهلاك بأمر مسعور يرائي بدين.

نحن كما أريد لنا أن نبدو عليه، وما يدور في واقعنا يتقاطع مع جوهرنا، ويتنافى مع قيمنا وأخلاقنا، وبديهيات ألبابنا، ومعايير بصائرنا.

فهل سننكر المستورَد ونوطن الأصيل المؤكد؟!!

فاسدٌ هذا الزمان الآثم

وطغى فيه الخشيل اللازم

أفسدوه بدعاوى إنطلت

برداءٍ إرتداه الظالم

ضدنا عشنا ودمنا عالة

فأتانا بوعيدٍ غاشمُ

***

د. صادق السامرائي

 

لأنك ببساطة، لست كأحد

ينبت في قلب الإنسان وهم المقارنة كأشواك في حديقة كان يفترض أن تنمو فيها الزهور.

ننظر حولنا، نحدّق في حيوات الآخرين كما لو أنها شرفات مطلة على الجنة، وننسى أن نلتفت إلى حقلنا الداخلي، إلى التربة التي نحرثها بأيدينا كل يوم، وإلى البذور التي سقيناها من وجعنا، من صبرنا، ومن أحلامنا التي لا تشبه أحلام أحد.

المقارنة، ذلك الفخ الهادئ الذي يُنصب في صمت ، داخل الذهن ، تبدأ من حيث لا نشعر، حين نُدهش من نجاح صديق، أو جمال عابر، أو ثراء شخص التقيناه في صدفة عابرة. نتساءل: لماذا هم وليس نحن؟ كيف تسير حياتهم كما يشتهون، بينما نحن نتعثر بأحلامنا كمن يمشي في ضباب كثيف لا يرى فيه موضع قدميه؟.

لكنّ الحقيقة الأعمق، تلك التي لا تراها العين، أن لكل روح حكايتها، وأن ما يبدو "أفضل" قد يكون مجرد قشرة لجرح دفين، أو ستاراً يحجب عنا معارك لم نشهدها، وأحزاناً لم نسمع أنينها. أنت لا تعرف كم مرة انكسر ذاك الذي تحسده على صلابته، ولا كم مرة بكى ذاك الذي تراه يضحك دوماً. لا تعرف كم تاه، كم خسر، كم تألم…

أنت لم تعش طفولته، لم تكن في بيتهم، لم تحمل أفكاره، لم تُربَّ على ما تربى عليه. حتى إن تشابهت الملامح، فالقلوب لا تتشابه. أنت نسيجٌ فريد من التجارب، من المواقف، من اللحظات التي شكلتك كالماء ينحت الصخر. أحلامك ليست أحلامهم، وآلامك ليست آلامهم، ونقطة بدايتك ليست نقطتهم.

لذا فإن المقارنة ظلم. ظلم لنفسك أولاً. أنت تقيس شيئاً غير قابل للقياس، كمن يحاول وزن الريح بأثرها على خصلات شعره أو قياس دفء الشمس بميزان حرارة منزلي . كل واحد منّا يمشي على خط زمني مختلف، في خريطة لا يمكن أن تتطابق مع خريطة غيره. فكيف تُقارن من بدأ السباق قبلك، بمن سار في طريق مبلط بالورود، بينما قد  تشق انت طريقك في صخور الحيرة، تقف ثم تنهض، تنزف ثم تبتسم؟

إنك حين تقارن نفسك بأحد، كأنك تقول لزهرة بنفسج: لماذا لست كالشمس؟ وتنسى أن البنفسج يولد ليكون ظلاً جميلاً، عطراً خفيفاً في قلب الربيع، لا ناراً تحرق السماء.

الحياة ليست سباقاً، بل رحلة. والرحلة ليست عن الوصول قبل الآخرين، بل عن التفتح التدريجي لذاتك، كزهرة تنمو في صمت، لا تستعجل، ولا تستعرض، بل تتفتح حين يحين موعدها، في اللحظة التي كتبها لها القدر.

كن كما أنت، كما خُلقت، بشغفك، بأخطائك، بنجاحاتك الصغيرة التي قد لا يراها أحد سواك. توقف عن النظر في مرآة الآخرين، وابدأ النظر في عينيك… فهناك، فقط هناك، تبدأ رحلتك الحقيقية.

لا تقارن. بل تأمل. لا تحسد. بل تعلم. لا تنسَى أن لكل منا مساره، ولكل روح جراحها، ولكل حلم وقته المناسب ليولد.

واذكر دائماً… أنك لست نسخَة من أحد، بل قصيدة فريدة، تكتبها الحياة حرفاً حرفاً، وجملة جملة، لتكون في النهاية… أنت.

***

 مجيدة محمدي 

رداً على ما كتبه صديقي دكتور قاسم حسين صالح في أصبوحته لهذا اليوم من أن: " ٩ نيسان 2003بوابة الفواجع والأحزان":

تقول الأسطورة الإغريقية أن سيزيف تمكن من خداع إله الموت وكبله بالأصفاد والأقفال فمنعه من ممارسة مهنته في سلب الناس أرواحها وبذلك منع الناس من أن تموت. لكن فعل سيزيف قد اغضب الآلهة فأصدروا عليه حكماً بأن يعيش حياة أبدية بلا موت على أن يقضي حياته الأزلية في عمل غير مجدٍ، بأن يقوم بدحرجة صخرة عظيمة صعوداً الى الجبل لكن الصخرة ما إن تصل الى ثلثي المسافة حتى تعود لتتدحرج الى عمق الوادي السحيق فيعود سيزيف ليكرر المحاولة من جديد فتكرر الصخرة دحرجتها الى عمق الوادي السحيق ويعود سيزيف الى القيام بتنفيذ ما حكمت عليه الآلهة به ومن دون نهاية...

الشعب العراقي وبعد إن أحاله صدام الى مجرد ركام لا يحتكم على قوة سيزيف ولا يملك وعي سيزيف، تمنى مجرد تمني الخلاص من إله الموت لتتوقف عبثية إماتة الناس وبالصدفة المحض تحققت أمنيته بعد إن شارف على الانقراض، فهبطت قوى لا صلة له بها ولا سابق معرفه فكبلت إله الموت ومن ثم سحقته في حفرة اختارها هو نفسه لنفسه.

لكن ذلك أغضب الآلهة فحكمت على الشعب العراقي بما حكمت به على سيزيف بأن يمضي حياته يدحرج الصخرة صعوداً الى الجبل وعندما يبلغ بها مسافة لا بأس بها تعود تتدحرج الى الوادي السحيق في عملية متكررة لا نهاية لها وبلا أفق...

من ذاكرتي السحيقة إن أمي حكت لي عن قريبتها التي تزوجت من صاحب أغنام وكان مربو الأغنام وقتها يسيحون في بادية السماوة الممتدة حتى الحدود السعودية يتنقلون بأغنامهم سعياً وراء العشب والماء لرعي أغنامهم وكانوا ينقلون أمتعتهم على ظهور الحمير فيلتحقون برعاة أغنامهم ، وحصل ان أحد الحمير سقط مغشياً عليه في الطريق من جراء ضعفه وثقل حمله فقام الرجل زوج قريبة أمي بتوزيع حمل ذلك الحمار على بقية الحمير وأمر زوجته قريبة أمي بالمكوث عند الحمار لتلحق بهم والحمار عند افاقته من غيبوبته، انتظرت المسكينة إفاقة الحمار لكن الحمار مات...وفي هذه الحالة فإن زوجها المتخلف والجبار والقاسي لن يقبل منها قولها إن الحمار قد مات إن هي عادت بدونه وسيقسو عليها كثيراً، فقامت بربط قوائم الحمار الميت ورجليه بفوطتها وعلقته برأسها ونهضت والحمار الميت على ظهرها وتبعت أثر الركب الذي أناخ بعد مسافة ليست بالقصيرة وكانت المسكية حاملاً وعندما بلغتهم سقطت والحمار الميت على ظهرها فأسقطت جنينها ، وعندما أفاقت في وقت متأخر عاتبها زوجها المتجبر المتخلف: لماذا فعلت ذلك ...؟! فأجابته منتحبة: لأنك لن تصدقني لو قلت لك ان الحمار مات ...

فأشفق عليها وأطرق برأسه لكنها عاجلته بوهن وانكسار وبعيون مخضله بالدموع: ناشدتك الله أن تعتقني !..

رق لها قلب المتخلف المتجبر وقال: لك ذلك...فطلقها لتعود في نهاية الموسم الى أهلها وتعيش حياتها من جديد...

سيزيف العراقي جريرته إنه لم يتزوج مجرد متخلف متجبر مثل زوج قريبة أمي الذي رغم تخلفه وجبروته رق قلبه في النهاية بعد إن تمثلت أمامه مأساتها فأعتقها، بل كانت جريرة الشعب العراقي وما زالت انه ائتمن الخائن الفاسد فلو كان قد اختار الأمين ما أضطر لأن يمضي حياته مثل أبو الجعل يطمس أرجله بالوحل فينوء بحمله في مسعاه لصعود الجبل فكان كلما قطع شوطاً تدحرج بحمله الثقيل الى الوادي السحيق فيكرر وبالطريقة ذاتها دون أن يتجنب الوحل ...

هذا هو لب القصه وليس بما يختزله صديقي الأثير دكتور قاسم حسين صالح في أن " 9 نيسان 2003 بوابة الفواجع والأحزان."، فالفواجع والأحزان في حياة الشعب العراقي سبقت ذلك اليوم بمدة طويلة وستستمر معه طالما إنه يتمسك بذهنية أبو الجعل فيغمس قوائمه بالوحل ويسعى دونما طائل ليصعد الجبل.

المثل الصيني يقول:"هناك طرق عديدة للنجاة لكن الجبان يختار أقصرها...الهرب." وعندنا فإن طرق الصعود عديدة لكن أبو الجعل يختار الوحل ...فكيف له أن يصعد ...؟!

وعلي يقول:" ما خانك الأمين، ولكنّك ائتمنت الخائن.".

***

د. موسى فرج

 

عندما تكتب الأقلام على هامش نهر الحياة فأنها لا تساهم في التأثير والتغيير، وتكون كتاباتها بلا منفعة ومضيعة للوقت وهرولة وراء سراب.

الكتابات الحقيقية الجادة الصادقة عليها أن تبحر وسط تيار الحياة الجاري، وتشارك في صناعة أمواجه وعنفوانه الوثاب.

الإنسانية تقدمت وشيدت أمجادها بإرادة الأقلام الحرة الكاشفة عن الأفكار الصالحة، بلغة يفهمها القارئ من عامة الناس، فتجعل منه قوة مثمرة وطاقة متفاعلة مع مسيرة الصعود إلى ذرى الرقاء والسموق الحضاري.

الكتابات بأنواعها إن لم تكن ذات مشروع هادف ورسالة لا قيمة لها ولا جدوى منها.

ومن الظواهر المتكررة في تأريخ البشرية، أن لكل عصر أقلام دعائية تكتب بمداد الكراسي وأخرى تريد النطق بلسان الحقيقة وتخشى العواقب، وبعضها القليل يحاول التحرر والكتابة بلا خوف أو تردد.

وفي معظم الأحيان تنتصر الأقلام القريبة من الكراسي، وتتسيد المشهد الثقافي لما تملكه من قدرات تسويقية ودعاية إعلامية صاخبة، تجعل الأسود أبيضا والأبيض أسودا، ولهذا بختلط حابلها بنابلها.

وفي زمن إنفتاح أبواب التواصل على مصراعيها، أصبحت الكتابة على الشاشات، كالكتابة على وجه الماء أو فوق كثبان الرمال.

فما عاد للقلم دور، ولا للكلمة قيمة، وتحول المكتوب، إلا مجرد كلام، وقول تذروه رياح " أنا أعرف"، وتلطخت دواة الأقلام بالرذائل، وديست الفضيلة بالأقدام، وتدثرت القيم والأخلاق بالركام، الذي خلفه حطام الأفهام.

فالعقل موجوع، والخلق مفجوع، والغاب مشروع، ولسان الوحوش مدلوع، والجارحات تجوع، وتهاجم الضعيف الحائر المفزوع.

الأقلام حزينة، والأوراق رهينة، والسطور عنينة، والسيئات مبينة، فهل من كلمة صادقة أمينة؟!!

بكت أقلامنا والحرف يشقى...فهل فيها كلام العقل يبقى؟!!

و"عقول الناس مدونة في أطراف أقلامهم"!!

***

د. صادق السامرائي

ربما يبدو العنوان غريبا، غير أن العديد من الدول لديها بنوك للمياه مثلما لديها بنوك للطعام، ودول الأمة تخلو منها عدا مصر التي فيها بحيرة ناصر وربما تعد بنكا للماء.

المقصود ببنوك المياه، إنشاء البحيرات الإصطناعية لتخزين المياه فيها، ويمكن ربطها بالأنهار، أو نقل الماء إليها بالمضخات، إضافة لمياه الأمطار والسيول.

وهذه البحيرات الإصطناعية ستحيل الأراضي الجرداء إلى واحات خضراء، ويمكن إستغلالها لتربية الأسماك، والنشاطات الترفيهية، كما أنها تحد من هدر مياه الأنهار إلى البحار.

فهل توجد بحيرات إصطناعية في بلداننا؟

إن هذا السلوك إقتصادي وبقائي ويساهم في الإنتعاش الوطني على عدة مستويات.

الإنشغال بإنشاء البحيرات الإصطناعية، يوفر فرصا للقضاء على البطالة، ويدفع لتطوير مشاريع متنوعة منبثقة عنها، كبناء المدن السياحية، والمخيمات وغيرها من النشاطات الإنسانية.

باشروا بالبحيرات الإصطناعية، كما في باقي الدول، وإعتمدوا على خبراتها في صناعتها، وإدامتها، وتوفير المياه لها، ولابد من مهندسين زراعيين ومختصين بهذه الميادين، لرسم الخرائط وتحديد المواقع المناسبة للبحيرات.

لماذا نتشكى ونتظلم ولا نُعمل عقولنا ونحث شبابنا على مواجهة محنة قلة المياه، والتصحر والجفاف، وتحول الأراضي الصالحة للزراعة إلى صبخاء.

فلماذا نهدر مياهنا، ولا نتعلم الحفاظ  عليها وإستثمارها؟

الثروة المائية ستكون أهم من النفطية في المستقبل، وعلينا الإستعداد بمشاريع وقائية لحماية الأجيال من شح المياه.

فانطلقوا في إنشاء البحيرات الإصطناعية ما دام النهران بعافية وجريان، قبل فوات الأوان!!

***

د. صادق السامرائي

 

الواقعية الثقافية تعني إتخاذ موقف عملي مبني على الحقائق ومتفاعل مع عناصر الحياة بعيدا عن الخيال والأوهام.

الكتابة بواقعية دون المثالية والإستعلائية والإندساس بالنخبوية، من ضرورات التفاعل الحيوي مع المجتمع وتأمين قدرات التأثير والتغيير.

الكتّاب في الدول المتقدمة يكتبون بلغة جماهيرية، ويتناولون قضايا تهم المواطنين، فيمعنون بتحليلها وتوضيح أسبابها وطرح المعالجات التي يرونها ناجعة.

فالقارئ يفهم المكتوب ويستفيد منه ويتعلم مهارات، ويستحضر أفكارا ذات قيمة إيجابية، تساهم في صناعة حاضره ومستقبله.

أما الكتّاب في المجتمعات المتأخرة والدول المسلوبة الإرادة، فيتخبطون في معتركات الرمزية والغموضية، ويجيدون النقل الأعمى والإستنساخ المبهم، ويكتبون بلغة معقدة ينفر منها القارئ ويتوهمون بأنهم من النخبة وهم يخاطبون بضعة أفراد في علياء خيال.

وهذه معضلة تعطل التواصل بين أبناء المجتمع، وتساهم في تنمية أعداد ضحايا الدجل والضلال والبهتان، وصناعة القطيع المرهون بالسمع والطاعة، للذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ولأصحاب الكراسي وإمعاتهم، والمبوقين بمدحهم وتنزيههم من المفاسد والموبقات، وهم أشر مَن جلس على كراسي تقرير مصير الشعوب.

الكتابات الإيهامية تنشر الوهم وتعزز الغفلة، وتصيب الناس بالنوام، فهي كالدواء المخدر الذي يتسبب بإنقطاع الشخص عن محيطه، وتدع الطبيب يفعل ببدنه كما يشاء.

الكتابة فن التخدير والتضليل بالكلمات، فأما أن تكون بلسما أو سما مدسوسا بعسل العبارات.

فهل من قدرة على الكتابة بمداد الواقع، لإستنهاضه وتحرير الشعوب من المستعبدين بأنواعهم؟

إذا كتب اليراع لنا مقالا

أزال الصدق أو أحيا ضلالا

فهل سطر الزمان بها أصيلا

وهل عشنا وأنبتنا الجميلا

بلاد العرب تأكلها الخطايا

وصوت مرادها أضحى محالا

فلا تكتب بلا أملٍ وعزمٍ

وجرأة عقلنا صارت وبالا

***

د. صادق السامرائي

 

لا توجد مدينة مثالية فاصلة ولا قائد مثالي في مسيرة البشرية منذ الأزل، الموجود تفاعلات آدمية، لبشر مخلوق من التراب ويمتلك خصال الطين.

منذ أن إنطلق مفهوم المدينة الفاضلة وإلى يومنا المعاصر، بقيت خيالا ووهما وأملا لا يمكن تحقيقه مهما حاولنا وإجتهدنا، فالطبع البشري لا يتوافق مع المثالية، ففيه من العدوانية والغابية ما لا يمكن تصوره، والتنبؤ بمعطياته.

ومَن يدّعي بوجود حالة مثالية فهو في بهتان عظيم.

البشر أيا كان توصيفه، ولا يمكن تقديسه وإعتباره من الملائكة والمنزهين من الخبائث، ويمثل الفضيلة المطلقة.

لا يوجد بشر من جوهر الفضيلة، بل فيه منها ومن الخبيث خليط متنوع التجانس والإنسجام، ويعبر عن الحالتين وفقا للظروف التي يكون فيها.

لا يمكن إخراج الأشخاص من بشريتهم وتحويلهم إلى مخلوقات لا آدمية، وكأنهم لم يخلقوا من طين.

آدم ونسله هذه مادة خلقهم، وإبليس مخلوق من نار حسب ما ورد في القرآن ولهذا أبى السجود لآدم، فهل أن الذي يتحرر من قبضة الطين يكون مخلوقا من نار؟!!

الواقعية الأرضية تخبرنا بأن الأسلاف كافة قد أكلهم التراب وتحولوا إلى رميم، وما منهم مَن لم يمت وينام في رمسه.

لا يوجد ما هو فاضل ومثالي في جميع قادة البشرية، بأنواعهم وتوصيفاتهم ودرجاتهم، ومعظمهم عبروا عن نوازع النفس الأمارة بالسوء الكامنة فيهم، وبعضهم القليل جدا إستطاع أن يهذبها ويبدو مختلفا عن غيره.

فالتصورات المثالية خيالية، والمدينة الفاضلة بعيدة المنال، فالعدوان وسفك الدماء من طبع البشر الساعي فوق التراب.

فهل لنا أن نستفيق من عواصف الأوهام.

***

د. صادق السامرائي

 

حين تُعيدنا كرة القدم إلى أسئلة الوطن الكبرى

الهزيمة ليست مجرد نتيجة

لم تكن خسارة المنتخب الوطني العراقي أمام نظيره الفلسطيني مجرد تعثر رياضي، بل لحظة تستدعي مراجعة شاملة لفكرة الوطنية نفسها، وللمفاهيم التي نعرّف بها النصر والهزيمة، الفخر والانكسار، النجاح والفشل، الربح والخسارة. إقالة المدرب الإسباني كاساس قد تبدو إجراءً فنياً بحتاً، لكن المسألة تتجاوز الرياضة إلى الثقافة السياسية لدى النخبة والجمهور، والمنطق الذي تُدار به مختلف الملفات، حيث تتحكم العقلية ذاتها في السياسة والاقتصاد والرياضة، فتجعل من أي أزمة فرصة للتخلص من شخص بدلاً من مواجهة المشكلة الحقيقية. ليس المنتخب الوطني سوى تعبير رمزي عن حال مجتمع بأكمله، حيث الانتصارات اللحظية كثيراً ما تُستخدم للهروب من مواجهة الواقع، والأزمات غالباً ما تُقابل بمعالجات سطحية سريعة بدلاً من مراجعات بنيوية عميقة.

ما وراء الإقالة: عقليات لا تُقيل نفسها

ربما تكون الوطنية الحقيقية، لا في الاحتفاء بالنتائج المؤقتة، بل في القدرة على تحويل الخسائر إلى لحظات وعي، حيث لا يصبح الألم مناسبة للندب، بل حافزاً لاكتشاف الذات بعيداً عن أوهام التفوق المريح. في بعض اللحظات، لا تكون خسارة مباراة كرة قدم مجرد نتيجة عابرة على لوح الترتيب، بل تصبح مرآة مكبّرة تعكس هشاشتنا الوطنية وأسئلتنا المؤجلة. الهزيمة، حين تمس مشاعر الجمهور، تكشف ما وراء اللعبة: طريقة تفكيرنا، علاقتنا بالنجاح، وهم الفخر الجماعي، نشوة الانتصارات المؤقتة، اختلال الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، غياب الفكر التنموي والفلسفة النهضوية والرؤية الإصلاحية، البحث عن حلول ترقيعية لأزمات متجذرة، الإخفاق في إدراك الأزمات نفسها وتعريفها بصورة سليمة، وعجزنا عن التأمل في واقعنا والتخطيط لمستقبلنا.

في مواجهة المرايا: حين تكشفنا كرة القدم

الوطن ليس مجرد بقعة جغرافية نحيا فوقها، بل هو وعي متجدّد يتشكل عبر التجارب والاختبارات الجماعية. في كل صدمة أو إحباط فرصة لاكتشاف الذات الوطنية بعيداً عن المبالغات العاطفية والانتصارات اللحظية. كيف يمكن للهزائم، حتى في ميدان الرياضة، أن تكون لحظة وعي، لا انكسار؟ وكيف يمكننا إعادة تعريف علاقتنا بالوطن من خلال مواجهة الحقيقة بدلاً من الهروب منها؟

جرح وطني نحتاجه

لأننا نحب أوطاننا، فمن الضروري أن نشكّ بين حين وآخر بالسرديات التقليدية التي ننسجها حولها. أن نعيد اختبار مسلّماتنا الوطنية، وأن نتعرّض لما يكسر غرورنا الجمعي ويهزّ قناعاتنا المريحة. الخسارات ليست مجرد إخفاقات، بل لحظات تُجبرنا على رؤية ما لا نريد رؤيته. كيف يمكن أن تتحول الهزيمة إلى نافذة نطل منها على حقيقتنا دون زيف؟ وكيف يمكن للجرح في كبريائنا الجماعية أن يكون فرصة للنجاة من الغرق في الوهم؟

لأني أحب العراق، فأنا أشعر بسعادة كلما خسر المنتخب الوطني إحدى مبارياته في منافسات كرة القدم. من الجيّد أن يتعرّض المجتمع لصدمة كي يعيد اكتشاف نفسه. بين الحين والآخر نحتاج إلى جرح نرجسي في الكبرياء الوطنية، هزّة وجدانية تستفز الوعي وتوقظ المجتمع من وهم التفوّق الزائف. الوطنية التي لا تحتمل الهزائم ليست إلا قناعاً هشاً، والمنتخب ليس أكثر من مرآة تكشف لنا واقعنا. كلما انخدعنا بأمجاد كروية مؤقتة، ازدادنا غرقاً في الكسل الجماعي، في الهروب من مواجهة أنفسنا. ومن وقت لآخر، لا بأس بجرح في الغرور الجمعي، علّه يجعلنا نتوقف عن العيش على فتات الانتصارات السطحية، ونفكر في بناء شيء يستحق الفخر فعلاً. وعندما نحقق شيئاً عظيماً حقاً، لن نكون بحاجة للفخر أو التفاخر أصلاً، لأن الإنجاز الحقيقي يمنح أصحابه الامتلاء النفسي والرضا الداخلي والثقة العميقة، ويغنيهم عن مشاعر التفوّق وادعاء الأفضلية.

من الهوس إلى الهواية: كيف نُعيد للرياضة معناها؟

هنا تبرز إشكالية عميقة: النهضة الوطنية الحقيقية لا يمكن اختزالها في قطاع الرياضة، ولا تختصر في منتخب قوي يحقق نتائج مرضية. فالتنمية الرياضية لا تعني فقط رفع كؤوس الفوز، بل تعني أيضاً كيف نوظف الرياضة في إعداد وتأهيل الشباب بدنياً وذهنياً وسلوكياً، كيف نحميهم من السقوط في مستنقعات الإدمان والفراغ واللامعنى. التحدي الحقيقي هو كيف نحول الرياضة من انفعال جماهيري إلى فعل فردي ومجتمعي لتطوير الذات وتحسين الصحة العامة، وكيف نحول كرة القدم من هوس شعبي إلى هواية صحية وثقافة عامة ونشاط يومي. والسؤال الأعمق: كيف نجعل الرياضة وسيلة لإثراء المجتمع لا لإلهائه، رافعة للتنمية لا مسكّناً للوهم؟

النجاح يبدأ من العقل

الهوية الوطنية الناضجة لا تُبنى على أوهام المجد اللحظي، بل على وعيٍ حقيقي يتجاوز نشوة الانتصارات الشكلية نحو إنجازات عميقة وأكثر استدامة. حين ندرك أن الفخر الحقيقي لا يكون بالميداليات والكؤوس بل ببناء وطنٍ قادر على هزيمة الفقر والأمية والتصدي لانعدام العدالة وغياب المساواة؛ في تلك اللحظة نكون قد تجاوزنا الحاجة إلى إثبات تفوقنا للآخرين، ووجدنا بدلاً من ذلك الرضا العميق بمعنى الانتماء ذاته.

النجاح لا يُستورد، ولا يُمنح، ولا يأتي صدفة. إنه فكرة تولد أولاً في العقل، وتُربى في المخيلة، وتُنحت في الوعي الجمعي. قبل أن نحقّق الانتصارات في الميدان، علينا أن ننتصر في أذهاننا، أن نحرّر العقل العراقي من عقدة النقص أو من وهم التفوّق الفارغ، من الكسل المزمن أو الفخر الزائف. لن يكون لدينا وطن منتج ما لم نؤمن أولاً أننا قادرون على الإنتاج. ولا يمكننا بناء قطاع رياضي ناضج ما لم نؤمن أن النجاح فيه ليس صدفة أو حظاً أو قراراً سياسياً، بل نتيجة منطقية لعقل يؤمن بالتخطيط والانضباط والاحترام الحقيقي للوقت والقوانين والكفاءة.

بين وهم الفوز ومواجهة الذات

حين يصبح النجاح عقيدة عقلية جماعية، سينعكس تلقائياً في كل القطاعات: من المدرسة إلى الملعب، من المصنع إلى المختبر، من البرلمان إلى الشارع. أما حين نظل نحتفل بالنجاحات المعلّبة، أو ننهار أمام أول خسارة، فإننا لا نعيش فعلاً في وطن، بل في حالة إنكار جماعية، نؤجل فيها كل أسئلتنا الحقيقية خلف ستار النتائج.

لا بأس بالخسارة… بشرط أن نفيق

في النهاية، ليس السؤال: لماذا نخسر؟ بل لماذا نحتاج إلى انتصار حتى نشعر بوجودنا؟ لماذا نبني هويتنا على لحظات مؤقتة بدل أن نخلق لها أساساً متيناً؟ ربما علينا أن نتعلم كيف نتحرر من حاجتنا الدائمة للتفاخر، لأن الامتلاء الحقيقي لا يحتاج إلى استعراض، ولأن الوطن لا يصبح وطناً إلا حين يكون أكثر من مجرد مرآة لغرورنا.

الوطن الذي لا يعرف إلا نشوة الفوز وطن هشّ، والوطن الذي يخشى النظر في مرآة الخسارة وطن خائف من مواجهة نفسه. لا بأس أن نخسر، لكن الأسوأ أن تمرّ الخسارة دون أن تترك أثراً، دون أن تصبح لحظة تأملٍ فيما نحن عليه. ربما تكون أعظم الانتصارات هي تلك التي تأتي بعد أن نتعلم كيف نخسر بوعي، وكيف نحوّل كل سقوط إلى خطوة في طريق طويل لا يفضي إلى مجد زائف، بل إلى وطن لا يحتاج إلى مرايا ولا إلى أوهام كي يرى نفسه.

***

همام طه

كل منا يحن للماضي الجميل زمن الطفولة والشباب الخالي من المسئوليات والمخاوف.. كل منا يراها أيامًا دافئة في عمق العلاقات بين الأهل والأصدقاء والجيران --- وبلا شك سيكون الماضي عبارة عن صور كثيرة تحتشد في الذاكرة.. بعضها بالألوان والبعض منها فاحمة السواد، ولكن الحنين إلى الماضي الجميل بذكرياته الرائعة أكثر التصاقا بجدران الذاكرة، انه الشعور بالأمان الذي يغمر النفس عندما يزور المرء البيت القديم الذي عاش فيه والحي الذي ترعرع فيه، والمدرسة التي تعلم فيها الأبجدية وحروفها، يجسدها الحنين إلى ذكريات الطفولة ومرابع الصبا وذكريات الشباب، وقد نسترجعها من صورة قديمة أو الجلوس تحت شجرة وارفة الظلال كنا نلعب تحتها في السنين الخوالي، أو شجرة سدر تتعلق فيها أعشاش العصافير الصفراء، أو نتذكر الماضي ونراه يتجدد في سيول الصيف المتدفقة في الأودية والسواقي ويغمر الأطيان الظامئة حتى ترتوي

نحن نعشق الماضي، ونصفه بالماضي الجميل، لشعورنا بالانتماء له، ويذكرنا الماضي بالاحترام وحياتنا البسيطة بدون ترف، كنا لا نملك بيوتا فخمة ولا سيارات فارهه، حياتنا هي سقوف المحبة والتألف والطيبة، كنا نعيش اجواء رمضان وامسياته بالفوانيس والمحيبس وحكايات مضانية بصفاء الروح والوجدان والانتماء للعائلة والوطن عكس كليا مما نراه اليوم حيث ضاعت مأثرنا وسحقت بعجلة الزمن التافه الملىء بالنفود والصراعات والفساد والموبقات والمحرمات!!

نحن نولد في الماضي، ونعيش في الحاضر، ونموت في المستقبل – ونهرب من الواقع المؤسف الى الماضي، كم مرة اخبرك أحدهم بأنه يحب أفلام الأبيض والأسود؛ لأنه يشعر براحة مختلفة عند مشاهدتها؟ وكم مرة اخبرك احدهم و ردد أمامك أن عظمة الطرب قد تلاشت بعد عبد الوهاب وأم كلثوم والاطرش والعندليب؟ وأن كل الجديد في هبوط أو تقليد مبتذل؟ أو آمن أن قصص الحب كانت أصدق وأرق بين المكاتيب الورقية وأثناء انتظار العشاق لنظرة تحت الشرفات العالية؟ وكم مرة اخبرك صديق انه كان يتمنى العيش في فترة الخمسينات والستينات؟ واقعنا يقول إن ماضينا أقوى من مستقبلنا، ولا أتصور أن الانعتاق من "وهم الانتماء" أمر ممكن في الوقت الراهن، لأن الصور المشاهدة التي هي "حلول سهلة" تطغى على الذهن، خصوصا مع صعود مجموعة ذات تفكير "قروسطي" تقود المشهد المعرفي والثقافي وبيدها تشكيل صورة المستقبل، الذي يبدو أنه سيكون أحد الحلقات المكررة للماضي

 الزمن الماضي كان أفضل عموماً من الوقت الحالي أو الفترة التي يعيشها الشخص، حيث تختلف عن التعلق بالذكريات تحديداً، أو بالأوقات السالفة التي عاصرها الشخص، فحنين الشخص لماضيه أمر طبيعي بل مفيد في سياقه المعتدل، خصوصاً مع مرور الإنسان بمراحل أو ظروف انتقالية في حياته "الشيخوخة، التقاعد، الهجرة، وفاة أحد المقربين.. إلخ

الماضي تختزن حالة الحنين إلى «المجهول» أو «الأسطوري» الذي يصعب تعريفه أو تحديده بدقة، وهذا أمر متوقع لأن العاطفة تغلب علينا أكثر من التفكير النقدي المحايد. ويذكرنا الماضي الاسهامات العظيمة التي قدمتها الحضارة الإسلامية للبشرية، ويذكرنا الماضي الابتكارات العظيمة التي اندثرت مع الوقت لكن الغرب أحتضنها وتبناها وطورها وبنى حولها معرفة مؤسسية عميقة نقلت الحضارة الإنسانية إلى ما نعيشه اليوم، ويذكرنا الماضي اننا كنا امة ووطن لا نهاب، كنا واقعا اسطوريا فتوحا وعلما وثقافة، فكل ما يذكرنا الماضي هو مجد ومديح لإنجازات العلماء المسلمين الذين أسهموا بلا شك في بناء الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى، والواقع يقول إن المسلمين لم يستطيعوا أن يحولوا اسهاماتهم المبكرة إلى مؤسسة معرفية ولم يصلوا بها إلى مرحلة الإنتاج، والنقد هدفه بحث الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة وليس التقليل من المنجز الحضاري الذي قدمه المسلمون.

***

نهاد الحديثي

عجاف: هزيلة ضعيفة، أو صعبة

البقرات السمان ستأكل البقرات العجاف، ليزداد حليب السمان ويكسبن وزنا وقدرة على محق الضعاف.

الإستقواء بالأقوياء منهج السلوك الدولي المعاصر القاضي بمحق مَن يستجدي الحماية من المهيمنين على مقدرات الدنيا والمتورطين بإفتراس الشعوب وتمزيق المجتمعات، والذين يتخذون من العقائد والأديان والطوائف أسلحة تدمير للوجود البشري على بقعة أرضية غنية بالثروات الطبيعية، فالإستحواذية إرادة الإقتدار العولمي والتناطح الكوكبي الفتاك.

فعن أي سلام يتحدثون؟

هل يعنون به الإستسلام؟

قالت العرب قديما:" إذا لم تكن ذئبا ذؤوبا بالت عليك الثعالب"

فأين الذئاب في سوح الغاب؟

الويل للعرب من الأعراب!!

الويل للعرب من العرب!!

الويل للمسلمبن من المسلمين!!

الويل للوطن من أبنائه!!

الجميع أعداء الجميع، ولا رابح إلا مَن إكتفى بغيره لتأمين مصالحه.

ترابنا يبتلعنا بعد أن تحول إلى حفر وخنادق لردمنا وطمنا، وكلنا نفتخر بدفن بعضنا.

لا نطعم أنفسنا!!

لا نصنع سلاحنا!!

لا نستثمر ثرواتنا!!

نطارد أوهامنا ونحسب خيط الدخان سببا لتحقيق اهدافنا!!

بنا الأيام تمضي نحو ويلِ

فلا أملٌ ولا نجمٌ بليلِ

بأعوامٍ مضمخةٍ بعنفٍ

كأنا في مرابعها كذيلِ

نناشد ذاتنا والجمع داءٌ

يبعثره الضلال بها ويُملي

فهل سنتحرر من دوامة الإندحار الذاتي؟!!

***

د. صادق السامرائي

(إن الرجل هو الرأس، لكن المرأة تديره).. الشاعر الألماني فريدريش شيللر

في خليج فنلندا قامت سيدة الأعمال الأمريكية كريستينا روث باقتناء جزيرة أطلقت عليها اسم "super-she" أو "جنة الجنس اللطيف". وكان الغرض هو إنشاء أو ل تجمع نسوي تطبق فيه ممنوعات ثلاث: السجائر، والكحول، وطبعا الرجال.

يعِدُ هذا الفضاء المرأة بأن تعيد اكتشاف نفسها وتجدد حيويتها بعيدا عن أعين الرجال، من خلال برنامج ترفيهي يتضمن جلسات تدليك، وحمامات ساونا، ووجبات صحية لإنقاص الوزن. غير أنه لم يكن متاحا للنساء جميعا بسبب تكلفته الباهظة، إذ يتعين على كل امرأة دفع مبلغ يفوق ثلاثة آلاف دولار للأسبوع الواحد، عدا عن إجراء مقابلات واختبارات دقيقة لحجز حوالي مئة وأربعين مقصورة لمدة ثلاثة أشهر.

عبّرت بعض النساء عن استيائهن من شروط هذا المنتجع الذي بدا كأنه يخدم الثريات منهن فقط. لكن الطريف في الأمر أن صاحب الفكرة ومصدر تمويلها عو خطيب كريستينا الذي تملك عائلته جزرا قريبة من المنتجع؛ بل إنه المشرف على تصميم المكان، وكأن الرسالة المبثوثة عبر سوبر شي هي: أنت بحاجة للرجل كي تتخلصي منه!

لم تكن جنة كريستينا المحرمة على الرجال فكرة عبقرية، ففي الحكايات القديمة المتوارثة أسطورة مشابهة، تدور أحداثها حول جزيرة للنساء ترابها ذهب لكن لا أحد يهتم به. وفيها صنف من الأشجار تأكل منه النساء فيحملن ويلدن نساء مثلهن، ولو حدث أن اقترب رجل من الجزيرة فسيتعرض للقتل. ويحكى أن مسافرا وصل إلى تلك الجزيرة فأرادت النساء قتله، إلا أن إحداهن رقّت لحاله فوضعته على خشبة وألقت به في البحر.

فهل يمكن حقا للمرأة أن تتخلص من الرجل، أم أنها تعبر عن احتياجها له بشيء من الغموض؟

ولماذا تريد من الرجل أن يشبهها لتشعر بالراحة؟ أليس في الاختلاف بين الطرفين معنى للحياة؟

من المسلم به اليوم الحديث عن اختلافات فسيولوجية تميز الرجل عن المرأة. اختلافات في الجسم وطبقة الجلد ونبرة الصوت، وفي العضلات وتركيب العظام وغيرها. ويستتبع ذلك أيضا اختلاف في الجانب النفسي، ثم أسلوب التربية والمجتمع. لكن هناك معلومة أخرى يقررها العلم الحديث وهي أن كلا من الرجل والمرأة يحملان بداخلهما صفات الذكورة والأنوثة معا، بمعنى عندما يتصرف الرجل بأنانية ولا تهمه سوى مصلحته، فإن قوى الذكورة تطغى على تصرفاته، أما حين ينتبه للآخرين ويهتم بهم وبمشاكلهم، فإنه يبدأ في تلك اللحظة اتصالٌ بقواه الأنثوية. ولا يتحقق هذا الاتصال إلا حين ينجذب الرجل للمرأة، وتنجذب المرأة للرجل.

ومن حيث وظائف الدماغ فإن ما يميز دماغ الرجل هو صفة التخصص، بحيث لا يمكن للجزء الأيمن أن يؤدي وظائف الجزء الأيسر. أما دماغ المرأة فيتميز بصفة التعميم، بمعنى أن كلا الجزأين يعملان بنفس القدر. هذه الحقيقة العلمية تفسر لماذا يُركز الرجل عند أداء مهمة واحدة، بينما يمكن للمرأة أن تؤدي عدة مهام في نفس الوقت.

تلك الطبيعة التركيزية توضح سبب بعض المشاكل بين الأزواج، فقد تغضب المرأة حين تتحدث إلى زوجها وهو يقود السيارة فلا يجيبها، لأنها تجهل أن جل تركيزه منصب على الطريق وعلى السيارات الأخرى، ولا يمكنه أن يُحول انتباهه إليها بسرعة البرق. ويتكرر نفس الشيء تقريبا حين تُحدثه وهو يُجري مكالمة هاتفية فتعتقد أنه يتجاهلها، لكن الحقيقة أن الرجل لا يمكنه التركيز على موضوعين في آن واحد.

ويختلف الرجل أيضا في مسألة الاحتياج العاطفي، فبينما تبحث المرأة عن الاهتمام والرعاية والاحترام، يفتش الرجل في الحب عن الإعجاب والتقدير والثقة. لذا عندما يُبدي رغبته بالمرأة ومشاعرها فهو يتوقع أن تُبادله الإعجاب والارتياح، وتمنحه التقدير الذي يستحقه، وتؤكد قبوله كما هو دون إدخال تعديلات؛ آنذاك يبذل كل جهده لإسعادها.

غير أن المرأة لا تنتبه إلى هذا الاختلاف فتجد في الاعتراف بالحب مناسبة لتشكيل لجنة تطوير، تنتهي أشغالها عادة بالنفور والمشاكل. فعلى سبيل المثال يحتاج الرجل في فترة الخطوبة إلى التعرف على خطيبته، وبث أشواقه وعواطفه لتحقيق الانسجام والتفاهم، بينما تُبدي هي ملاحظاتها على تسريحة شعره، وطريقته في اللبس والأكل. وتستمر التعديلات التي تثير استياءه، وتدفعه للتساؤل عن سبب إعجابها به منذ البداية.

حسب تقريره أعده موقع "هير بيوتي" عن الصفات العشر التي يفضلها الرجل في المرأة، تشكل الثقة والتفهم وتقبل العيوب مزايا أساسية يبحث عنها الرجل في شريك حياته، لأن الحياة المعاصرة تضج بالتحديات والضغوطات التي يحتاج معها الرجل إلى رقة ودفء وتفهم لصراعه اليومي، كما تتطلب قدرا من الثقة وتقبل العيوب لضمان استقرار على المدى الطويل.

ومن صفات الرجل التي تسبب للمرأة قلقا وحيرة هي حالة الصمت التي تنتابه، وتجنبه سماع تفاصيل مطولة. فالكلام بالنسبة لها عملية اكتشاف ومشاركة، لأنها تحب التفكير بصوت مسموع؛ بينما يتحول الكلام عنده إلى مصدر إزعاج. وهنا نستحضر مرة أخرى طبيعته التركيزية، فحين يقع الرجل تحت ضغط العمل مثلا تزداد قوة تركيزه، ويبدو كأنه شارد البال ولا يهتم لوجود أحد؛ والحقيقة أنه في وضعية تفكير صامت، يبحث عن حلول لمشاكله. والمرأة هنا بحاجة إلى مهارات لإخراجه من حالة الانسحاب إلى الجو العام. أما حين تجهل هذا المفتاح لشخصيته فإن جو البيت يتكهرب بشكل يومي. يتعامل هو مع الجهد والتعب بأن ينسحب ويفكر في صمت وهدوء، بينما يشكل الاهتمام طبيعتها الأساسية. لذا تتخلص من الإجهاد بالكلام الذي يُشعرها بالراحة، حتى وإن أثار أعصابه.

حين وجه مركز الأبحاث بولاية مانهاتن الأمريكية سؤالا لحوالي 1900 رجل مفاده: ماذا تكره في المرأة؟ جاء الهوس بالتسوق في المرتبة الأولى، يليه النكد ثم الثرثرة. هل هذا يعني أن الرجل لا يحب الكلام؟

 إن العكس هو الصحيح، فالظاهرة مشتركة بين الاثنين، لكنه يفضل المرأة التي تمنحه الشعور بأنها مسيطرة على مجرى الحديث، ستضيف شيئا جديدا وقيّما. يقول الشاعر الألماني فرِيدريش شيلر: إن الرجل هو الرأس، ولكن المرأة تُديره!

وتبقى الصفة التي يُحذر خبراء علم النفس من ضررها على الحياة الزوجية هي الجدل، والنقاش المنفعل والمشحون بالغضب. إن ما يزعج في الجدل هو طريقة الكلام وليس الكلام بحد ذاته، فالمرأة تشتكي وتتحدى وتوجه النصائح، بينما يرفض هو سماع شيء لأن ذلك برأيه يعني عدم ثقتها وتقديرها لأدواره ومسؤولياته.

إن غيابه خارج البيت على غير العادة يُشعرها بالقلق وعدم الراحة، وقد تُعبّر عن ذلك بأسئلة عادية فيها عنف وعصبية، فيتحول السؤال العادي إلى استجواب، واتهام بعدم المسؤولية. لذا فالثقافة الزوجية بحاجة إلى تعلم فن الإنصات والحوار الهادئ. نتذكر هنا حكاية الريح والشمس حين اختلفتا أيهما يستطيع تجريد الإنسان من لباسه. هبّت الريح بشدة لكن الإنسان تمسك جيدا بملابسه، وتكور على نفسه حتى هدأت. أما الشمس فأشرقت بهدوء مرسلة أشعتها الدافئة، مما اضطره لخلع ملابسه بكل طواعية.

يقودنا النبش في تاريخ الرجل إلى الوقوف على ما يحمله في نفسه من سجلات الحروب والصراعات، والمغامرات الحادة والمخيفة، وما يفرضه ذلك من إظهار الشجاعة. وبينما تسأل المرأة نفسها في عدة مناطق من العالم: " لماذا لا يستطيع أن يُظهر لي مشاعره ببساطة؟" فإن المجتمع والعادات يُقوّيان فيه سلوك الحذر والمنافسة والتحدي. عليه أن يخفي مشاعره ليظل سيد الموقف، ويتألم في صمت لأن الرجال، كما نفثت في روعهم صروف الدهر، لا يبكون.

تُظهر قاعدة البيانات لكل عام في كافة الدول أن متوسط أعمار النساء يتجاوز الرجال. ففي أمريكا مثلا تخطى أربع وخمسون ألف شخص سن المئة عام، بينهم حوالي عشرة آلاف من الرجال مقابل أربع وأربعين ألف امرأة. ويتحمل هرمون التيستوستيرون برأي الباحثين، مسؤولية هذا الفارق المهول باعتباره هرمون البلوغ الذي يمنح الفتيان شعورا بالقوة، فينغمسون في أنشطة مرتفعة المخاطر، كالاقتتال وقيادة الدراجات والسيارات بسرعات جنونية، وتعاطي السجائر والكحول، فضلا عن الانتحار.

نفس الهرمون يمنح الرجل شعورا بأنه سند لحواء في مواجهة المخاوف، وضغوط الحياة اليومية. لذا حين سمع أحد حكام الصين بقصة جزيرة النساء، وجّه سفنه للبحث عنها في أرجاء المحيط، لكنه لم يجد لها أثرا، لتبقى الجزيرة عنوانا على غربة حواء بلا سند!

***

حميد بن خيبش

الأسلاف إبتكروا العديد من الآلات والأدوات ذات القدرات السابقة لعصرها بقرون، لكنها كانت نماذج إختراعية منفردة، لم يتمكنوا من إنتاجها بالجملة فانقرضت معهم، والعلة الفاعلة في أصحاب الأفكار والمخترعات أنهم أنانيون وإحتكاريون فلم يعلموا سواهم، ولم يفكروا بتوريث معارفهم للأجيال، ذلك أن ما عندهم يميزهم ويعيلهم ويمنحهم الجاه والحظوة.

ويشذ عنهم علماء اللغة والدين.

لا يوجد ورثة للعلماء في تأريخ الأمة، أي لا يوجد عندهم تلامذة ومريدين، بسبب الأنانية والإحتكار الفردي للمخترعات، وتقديم نماذج منها ومنع شيوعها بين الناس، لأن العلم لا يليق به أن يكون لدى عامة الناس!!

المخترعات إنتشرت وتطورت بسبب "ماس برودكشن"، فتعامل معها عامة الناس وأضافوا إليها، وتفاعلوا معها بإبتكارية معاصرة.

لو أخذنا أي مخترع لتبين مساره التطوري من كونه نموذج إلى تحوله لسلعة معروضة في الأسواق، هذه العقلية مفقودة لدى مخترعي الأمة عبر مشوارها الحضاري، ربما لأسباب محيطية في حينها.

ولهذا فأن مخترعاتهم ماتت معهم، وما بقي منها إلا الإسم والرسم.

ويبدو أن الأنانية والإحتكارية لا تزال فاعلة في الأجيال، فتمنع التفاعل الإيجابي وتلغي مفردات المصلحة العامة.

أنانيتنا بها وجع ثقيل

فداك بأرضنا قتل الجميل

علائم هوننا إنا احتكرنا

وأمسينا يجافينا الأصيل

صنعنا ما يسابقهم بعصرٍ

نماذجنا إلى حتف تميل

***

د. صادق السامرائي

 

الذين يقولون ان امريكا جاهلة ولا تعرف ماذا تفعل!

تكثر هذا الايام المقابلات مع المحللين الاستراتيجيين العرب في ميدان المال والاقتصاد. وكعادتهم، فأنهم يقدمون النصائح العظيمة للادارة الامريكية ولرئيسها ولخبرائها.!!> يقولون ان ترامب اخطأ وانه مندفع ولا يحسب عواقب قراراته. وان الأمور سوف تنقلب ضد الولايات المتحدة وتضطر الى التراجع عن قراراتها بفرض رسوم على الاستيرادات..

احدهم (وكان عنوانه: كبير المحللين الماليين الاستراتيجيين) قال ان الصين واوربا سوف تتوحد ضد امريكا!.  متناسياً كل الحقائق في ميادين السياسة والقوة العسكرية التي تفرّق بين الصين وأوروبا. لقد تناسى ان بين الصين واوربا خلافات كثيرة في مجال المال والاقتصاد ونسي ان رئيسة المفوضية الاوربية وصفت الصين قبل فترة بانها العدو الاول لاوربا !! بحيث انها عندما زارت الصين بعد ذلك استقبلت بطريقة مهينة!!

الولايات المتحدة، كما يبدو، وجدت ان الاستمرار بالنهج الحالي القائم على فكرة العولمة والتجارة الحرة، سوف لن يساعدها على الصمود امام تقدم الصين الكاسح وانها سوف تتراجع حتماً امام التقدم الصيني..

الولايات المتحدة دولة براغماتية (ذرائعية) وعندما تقتضي مصالحها فانها لا تتردد في القيام بأي شيء والتراجع عن الوعود والاتفاقيات.. كانت هي وراء تأسيس منظمة التجارة العالمية كتعبير عن العولمة والتجارة العالمية الحرة. لكنها الآن تملصت من قيود تلك المنظمة واوقفت التمويل لها.

قد تكون لتلك السياسات آثاراً سلبيةً على التجارة الدولية والنمو الاقتصادي في العالم، لكن الولايات المتحدة تريد اعادة ضبط العلاقات الاقتصادية الدولية بما يخدمها وان تعيد توطين الصناعات الامريكية التي انتقل الكثير منها الى دول اخرى..

انها بصدد عملية اعادة هيكلة حتى لجهازها الاداري الداخلي  وتقليص حجم الحكومة ورفع كفاءتها.

***

د. صلاح حزام

في أزمنة التغيرات العنيفة سواء كانت اقتصادية أو سياسية تحدث فوضى المعايير في المجتمعات فتنهار القيم التي تضبط الإيقاع الاجتماعي ويصبح الحكم على الأشياء والأشخاص مرهونًا بالمصلحة الفردية لا بالمبادئ الراسخة. في الريف المصري يأخذ هذا التغيير شكلًا أكثر خصوصية حيث تتغير الأسماء وتتحول الألقاب وتُعاد صياغة العلاقات بناءً على موازين القوة الجديدة. ذات العائلات التي كانت تُعرف بكرمها ونخوتها قد تصبح متهمة بالاستغلال وذات الوجوه التي كانت رمزًا للتواضع قد تتحول إلى أبراج عاجية مغلقة. كان الريف في الماضي يقوم على منظومة قيمية متماسكة حيث كان "شيخ البلد" هو الحكم الفصل في المنازعات وكانت "الشهامة" و"النخوة" معيارًا أساسيًا في التعامل لكن مع تطور الزمن وتداخل السياسة بالاقتصاد تغيرت هذه الصورة. فمن كان فلاحًا بالأمس أصبح رجل أعمال اليوم ومن كان ابن القرية البسيط صار وجيهًا يُشار إليه بالبنان. في هذا التحول برزت فئة جديدة كانت مختبئة تحت ستار الطيبة والتواضع لكنها في الحقيقة كانت تخبئ رغبة في الهيمنة والاستحواذ. هؤلاء لم يصنعوا أنفسهم بالجهد وحده بل بذكاء الانتهازية واستغلال التحولات الكبرى. فكما أفرزت الحرب في دول أخرى وجوهًا جديدة لم نكن نعرفها أفرز التغيير الاقتصادي والسياسي في الريف أيضًا أشخاصًا لم يكونوا في الحسبان. اليوم أصبح هناك من يُنظر إليه من منظار "الفأس" تمامًا كما يُنظر في الحروب من ناظور البندقية. لم يعد التقييم قائمًا على الأخلاق والموروثات الاجتماعية بل على الحسابات المالية والمصالح المتبادلة. وكما اختُزلت المجتمعات الأخرى في ثنائية حب أو كراهية زعيم سياسي صار الريف أيضًا يختزل الشخص في موقفه من العائلات الكبرى أو من نفوذ رجال الأعمال الجدد. لماذا يُحترم من يملك الأرض والمال أكثر ممن يملك الأخلاق والعلم...؟ لماذا يُختصر الإنسان في موقف سياسي أو في درجة قربه من السلطة والنفوذ...؟

إنها العقلية الاختزالية التي تقتل التنوع وتحول المجتمعات إلى صور نمطية مشوهة حيث يصبح الغني دائمًا هو الناجح والفقير دائمًا هو الكسول ويُنظر إلى المختلف باعتباره تهديدًا لا فرصة. هكذا تتغير الأسماء في الريف لكن المعايير التي تُصنع بها السلطة تظل واحدة. من يملك الفأس هو من يكتب التاريخ.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

العراق لم يحكم من أبنائه على مدى العصور، فهل لديكم حاكم تمكن من الحكم الرشيد حتى سنة 1958. لا يخبرنا التأريخ عن شيئ كهذا.

العراق إعتاد على أن يكون محكوما بغير العراقي. وهذا ربما يفسر عجز العراقيين على إقامة نظام حكم مستقر، وعدم قدرتهم على إستثمار ثروات بلادهم وطاقاته الكبيرة.

تأملوا مسيرته منذ 1958 وحتى اليوم، وستكتشفون معالم هذا العحز والأمية السياسية، والأوهام الثورية والوطنية التي وصلت إلى ما هي عليه.

العراقيون لا يتفقون على مصالح مشتركة، وهم كالفحول التي لا تجتمع بمكان واحد، لأنهم سيتقاتلون ويبيدون بعضهم، فكم قتل العراقيون من العراقيين، وكم ذبحت الأحزاب من بعضها؟!!

هل وجدتم أحزابا عراقية متفاعلة بإيجابية، أم كل يدّعي أنه القائد والسلطان؟

إنها عاهة سلوكية فاعلة في الأجيال، وحان الوقت لمواجهتها والتفاعل معها بأدوات العصر، لكي نشخصها ونعالجها ونتحرر من قبضتها، ونخرج من التوحل في المراوحة والتقهقر، والخطو بثقة وإيمان إلى آفاق المستقبل الفسيح.

وهل أنجب العراق قادة وأنظمة حكم بحجمه؟!!

فارموا المقال بمليون حجر وحجر، وأغمضوا العيون، وتدثروا بالوجيع، والدنيا ربيع.

عراق المجد يا وجع العراقي

بحكمٍ لا يبالي باعتراق

بدورات انقلابٍ وانتقامٍ

تدحرجت الأمور إلى احتراق

فكل وشيجة نكرت أخاها

وأقوامٌ بغلواء افتراق

***

د. صادق السامرائي

..................

* أرجو التفاعل مع المقال بموضوعية وبأدلة وبراهين.

 

على شاشاتنا تتراقص ظلال "الست المصرية" كدمية معلقة بخيوط رخوة.. تارة تهتز بضحك مبالغ يتحول إلى صرخة بلا معنى.. وتارة تتهاوى كشخصية ثانوية في دراما تبحث عن الإثارة بأقل كلفة..

الفنانة والاعلامية الراقية نجوى إبراهيم لمست جرحًا نزف طويلًا.. جرح يختفي وراء أضواء الكاميرات وأصوات المونتاج.. جرح صورة مهشمة تتكرر كالشتيمة نفسها في كل موسم رمضاني.. 

هذه الصورة المشوهة دفعتها للسؤال: عمن يربح عندما تتحول المرأة إلى كليشيهات مبتذلة؟ 

بالطبع هناك من يرى في التشويه تجارة رابحة.. فالإسفاف يبيع أكثر.. والكاريكاتير يعلق في الذاكرة كوشم باهت.. هناك من يخشى المرأة الحقيقية.. تلك التي تحمل تناقضاتها بجمال شرس.. ترفض أن تختزل في دموع مسلسل أو ضحكة مشهد.. هناك من يريدها قناعًا يخفي خلفه عورات المجتمع كله.. 

لكن العالم كله ليس بريئًا من هذه اللعبة.. حتى لو اختلفت الأقنعة.. تظل الأنثى في سينما الأرضِ تصارع من أجلِ ظلها الخاص.. الفارق أن مصر التي صنعت سحر سيدات السينما الذهبية.. أمثال تحية وماجدة.. لم تعد تنجب إلا نسخا مشوهة من ذلك المجد.. كأنما نخلع عن المرأة أجنحتها ونطلب منها أن تحلق بذراعين عاريتين.. 

المؤلم أن التشويه لا يحتاج إلى مؤامرة.. يكفيه صمتنا.. استهلاكنا المتكرر للصورة نفسها.. موافقتنا الضمنية على أن تكون الأنثى مجرد ديكور في خلفية مشهد.. أو كومبارس في سيناريو الذكورة الأزلية.. 

ربما حان الوقت لنسأل: ماذا لو عادت الكاميرا لتصوير المرأة ككون؟ 

كأن تولد من جديد من رحم التعقيد لا من قالب التسطيح.. أن تكون بحرًا له أعاصيره وأمواجه الهادئة.. لا بركة مياهها راكدة تنبت طحالب التشويه.. 

الأمر ليس دفاعًا عن امرأة بعينِها.. بل عن حق الحياة في أن نحب ونكره.. نتعثر وننهض.. نخطئ ونصلح.. دون أن نختزل في صورة تسقط عنا كلما حركنا أيدينا.. 

في النهاية.. السينما مرآة.. لكننا نحن من نرسم انعكاسنا عليها.. فلماذا نصر على أن نكسو المرآة بالأوهام ثم نبكي حين تعكس لنا أشباحًا؟

في عمق الشاشة، حيث تذوب الحكايات في ضجيج المشاهد، تتحول المرأة إلى وهم يباع بالجملة.. كتلة من الصور النمطية تغذيها سيناريوهات جائعة للنجومية الرخيصةِ.. وكأن جسد الأنثى صار سلعة تأخذ شكل الإعلان الأسرع انتشارًا.. لا أحدَ يسأل عن الروح المختبئة خلف الأضواء.. عن ذاك التوتر الخلاق بين القوة والضعف الذي ينسج حياة حقيقية.. 

هنا، في هذا العالم المصغر، تختزل الأنثى إلى أيقونات جامدة: إما ضحية تبكي في صمت، أو مغوية تبيع ابتسامتها في السوق السوداء للمشاهد.. بينما الحياة الحقيقية تعج بنساء يحملن الهزائم والانتصارات كحزم قش ثقيلة.. يمشين على حبل التناقض ببراعة بهلوان.. لكن الكاميرا ترفض تصوير ذلكَ.. تختار الظلال المريحة بدل مواجهة الوهج المربك للحقيقة.. 

السؤال الأعمق: هل نخشى تعقيد المرأة لأنها تذكرنا بتعقيدنا المدفون؟ 

المجتمع الذي يخاف من أنثى لا تُلخص في جملة.. يخشى أن يعترف بأنه هو نفسه لوحة مليئة بالشقوق.. التشويه هنا ليس مجرد استغلال تجاري.. بل هروب من مواجهة المرآة.. نشوه صورة المرأة لأنها الوجه الأوضح لما نرفض رؤيته في أنفسنا: الخوف من الحرية.. العجز عن تقبل التمردِ.. الإدمان على حكايات البطولة الذكورية التي لم تعد تشبهنا.. 

حتى الذاكرة الجماعية تشارك في الجريمة.. نتباكى على أيقونات الماضي الذهبي.. نتغنى بجمال تحية وعبقرية ماجدة.. لكننا ننسى أن تلك العصور لم تكن تقدس المرأة النمطية أيضًا.. لقد جرؤوا يومًا على صناعة نساء سينمائيات يحملن تناقضات الواقع بكل شراسة الحياة.. فلماذا نرفض اليوم أن نرى تلك الشراسة إلا مغلفة بضحكة مزيفة أو دموع رخيصة؟ 

المأساة أن التسطيح لا يقتل المرأة وحدها.. يقتل الذاكرة.. يمحو ألوان الحياة ويبقيها رمادية.. حين تتحول الأنثى إلى دمية في يد السيناريو.. يفقد المجتمع قدرته على رؤية نفسه بإنسانية.. تصير كل العلاقات حوارات مكررة.. كل الصراعات إيماءات فارغة.. 

لكن النور يأتي من حيث لا نتوقع.. من تلك الزوايا المظلمة في الوعي الجمعي.. تطل أصوات نسائية ترفض أن تكون خلفية.. تكتب حكايتها بحروف لا تشبه إلا نفسها.. تذكرنا بأن الثورة الحقيقية ليست في تغييرِ الصورة.. بل في كسر الإطار كلهِ.. 

ربما نحتاج إلى دميِ الشاشات كلها.. إلى سينما ترفض أن تكون سجنًا للأنوثة.. تعيد للمرأة حقها في أن تكون فوضوية.. مقدسة.. عاقلة.. مجنونة.. بشرية.. بكل ما تحمله الكلمة من ثقل.. لا أن تظل حبيسة التعويذة نفسها: "إما ملك.. أو شيطانة".. 

فالمرأة كون.. وحين تختزل إلى جملة.. ينهار الكون.

***

عبد السلام فاروق

المعادلة الكونية عناصرها في تفاعلات وتبدلات، وتنتج مركبات وتحللها وتعيدها إلى موادها الأولية التي دخلت في بنائها.

والبشرية في مسيرتها تخبرنا بأن لكل ما يدور فيها حدود لا يتمكن من تجاوزها، فالأرض كائن محدود القدرات والطاقات، ويحافظ على وجوده بالدوران، ولا يمكن لحالة تبلغ تمامها أن تدوم، لأن النقصان سيداهمها، وهي ظاهرة يخبرنا بها القمر الذي حالما يبلغ تمامه ويكون بدرا، يزحف إليه النقصان وتعاد الكرة كل شهر.

ويبدو أن العالم قد بلغ تمامه في العديد من المجتمعات، وبدأت آفة النقصان تزحرف إليه، والمشكلة أن الدنيا تمتلك ما يفنيها، فما تحقق في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين لا مثيل له فيما سلف من القرون، فالدنيا تجاوزت خيال العصور، وإن دخلت في دوامة النقصان فأنها ستبيد أكثر من ثلثي ما عليها من الموجودات، وستندثر معالم الحياة المعاصرة.

والمخيف في الأمر، ان بوادر الإنزلاق على سفوح النقصان تلوح للناظرين، وتدفع إليها أحداث وقيادات ذات تطلعات وهمية، وتصورات فوضوية، تحسب أنها مخولة من قِوى كبرى للتعبير عن إرادة علوية.

وفي هذا تكمن ماساة لا تخطر على بال بشر.

فهل أن العالم يتدحرج نحو الهاوية؟

وهل سيكون الضعفاء هباءً منثورا؟

وهل ستبتلع الدول القوية دولا؟

بدر الوجود إلى نقصان.. متفاعلن في خافق الإنسان

***

د. صادق السامرائي

 

عندما يرحل الشرفاء ويبقى السؤال؟!

في آخر يوم من شهر رمضان، رحل الشاعر والأديب سمير سعدي، تاركًا خلفه مدينة خرساء، وأصدقاء تحطمت قلوبهم على صخرة الفقد. لم يكن رحيله مجرد خسارة لشاعر مبدع، بل نهاية لعصر من الكرم الفكري، والنبل الإنساني، والوفاء لقيم ثقافية بدأت تذوي في زمن صار "اللصق" فيه فنًا، و"السرقة الأدبية" مهارة، ونسيان الجميل عادة. 

سمير، ابن قنا البار، كان ظاهرة استثنائية. لم تكن قصائده مجرد كلمات تُنسج على الورق، بل كانت هتافًا للكرامة، ورفضًا للصغائر، واحتضانًا لكل من ضاقت بهم السبل. كان بيته مأوى للجوعى إلى الثقافة، وحديثه مائدة يدور حولها المحرومون من الدفء الإنساني. لكن المفارقة التي تدمي القلب هي أن كثيرًا ممن أطعمهم من خبز فكره، وسقاهم من نبيذ قصائده، لم يردوا له التحية حتى بصمت! بل إن بعضهم بنى مجده على أشلاء أفكاره، وحولوا إبداعه إلى سلعة يقتسمون أرباحها في الخفاء. 

لكن سمير سعدي، ككل العظماء، كان سخيًا حتى في غيابه. ترك لنا درسًا عن زمن ينقلب فيه التابعون سادة، والأصدقاء غرباء، والإبداع سلعة. درسًا يقول: "لا تنتظر من جيل القص واللصق أن يرفع الهاتف ليسأل عنك". ومع ذلك، ظل يردد بابتسامة: "دعهم يشبعوا، فالجائع سيظل جائعًا". 

رحل الشاعر سمير سعدي (1963–2025) تاركًا إرثًا أدبيًا يجسد التناقضات بين حياة الصعيد البسيطة وصخب القاهرة، معبرًا عن اغتراب الإنسان في المدينة وانتمائه لجذوره الريفية. يُعد سعدي أحد أبرز شعراء العامية المصرية في جيل الثمانينيات، وتميز بإنتاج أدبي غني يجمع بين الشعر والمسرح والأغنية، فضلًا عن مشاريعه الثقافية الفريدة مثل "دروب الشمس" الذي يوثق تاريخ سكك حديد مصر. 

وُلد سعدي في محافظة قنا عام 1963، وحمل في شعره بصمة الجنوب المتمثلة في التصاقه بالبيئة الصعيدية وتفاصيلها الإنسانية. رغم انتقاله إلى القاهرة للدراسة، ظلت قنا حاضرة في أعماله كـ"حاضن روحي" يظهر في ديوان "هي دى" (1999)، حيث يصور الشوارع والحارات والمقاهي التي تشكل ذاكرة الجنوب. 

في ديوان "ترتيلة بكا" (2000)، يعكس سعدي حنينه إلى طفولته في الصعيد من خلال صور شعرية تمزج بين البساطة والعمق الفلسفي، مثل وصفه لـ"الحيطان العمالة تميل بالضل عليك" كرمز لضغوط الحياة الحضرية. هذا الارتباط العاطفي بالجنوب جعله يهدي أعماله لـ"عمال سكك حديد مصر"، الذين رأى فيهم حماة التاريخ المنسيين. 

انتقل سعدي إلى القاهرة في شبابه، حيث انغمس في الحياة الثقافية لوسط البلد، وتفاعل مع مثقفي جيله. لكن المدينة لم تخف عليه قسوتها؛ ففي ديوان "فوتوغرافيا" (2016)، يصور اغتراب الإنسان في الزحام عبر قصائد مثل "اللحظة"، التي يصف فيها مقهى مليئًا بـ"ناس بوشوش بهتانة وضحك سخيف مرسوم"، ليعكس انهيار القيم الإنسانية في الفضاء الحضري. 

لم تكن القاهرة مجرد مكان إقامة، بل تحولت إلى مختبر فني له؛ إذ تعاون مع فنانيها مثل محمد منير ويولا خليفة، وكتب أغانٍ جمعت بين لهجة الصعيد وإيقاعات المدينة الحديثة. 

في آخر أعماله "حكايات في دروب الشمس" (2024)، يقدم سعدي سيرة ذاتية شعرية تربط بين تاريخ عائلته وتاريخ مصر عبر سكك حديدها. يبرز الديوان شخصية والده "سعد الدين"، العامل بالسكك الحديدية، كرمز للبسطاء الذين بنوا الوطن دون أن يحظوا بالتكريم. يرى سعدي أن السكك الحديدية – وليس النيل – هي من ربطت أطراف مصر، مشيرًا إلى دورها في تشكيل مجتمعات عابرة للطبقات.

هذا المشروع يعكس رؤيته للتاريخ كـ"جغرافيا حية"، حيث يصوغ قصائده من حكايات العمال والمهمشين، معيدًا الاعتبار لهم كـ"صانعي الحدث الحقيقي".   

تميز سعدي بقدرته على المزج بين قصيدة التفعيلة العامية وقصيدة النثر، كما في ديوان "هي دى"، حيث يستخدم لغة بسيطة لكنها محملة بالرمزية. على سبيل المثال، في قصيدة "النظرة"، يصور الشارع كـ"شرك منصوب" ليعكس خداع المدينة. 

كما أظهر مهارة في توظيف اللهجة الصعيدية دون أن تقيده، فاستخدمها لنقل قضايا إنسانية كونية، مثل الهوية والاغتراب، مما جعله صوتًا مميزًا في مشهد الشعر العامي. 

رحيله في آخر أيام رمضان (30 مارس 2025) خلف أسئلة عن مصير الثقافة في زمن يطغى فيه "السرقات الأدبية" على الإبداع الأصيل، لكن إرثه يبقى شاهدًا على أن الشعر يمكن أن يكون ضميرًا حيًا للواقع.

عبر مسيرته، نجح سمير سعدي في خلق توازن فريد بين هوية الصعيد المتجذرة وانزياحات القاهرة الحداثية. لم يكن شاعرًا للمكان فحسب، بل لـ"ناس المكان" الذين حولهم إلى رموز خالدة في قصائده. ربما يختصر ديوانه "فوتوغرافيا" رحلته بأكملها: صور تجمد اللحظات العابرة، لكنها تظل قادرة على إحياء الذاكرة الجماعية. 

***

 د. عبد السلام فاروق

الأمة مرت بفترات أقسى مما هي عليه أضعاف المرات، وتمكنت من تجاوزها والإنطلاق في مسيرتها المعبرة عن رسالتها الإنسانية.

فأعظم الخطوب التي فجعت بها الأمة، ما أصاب بغداد سنة 1258 عندما سقطت دولة بني العباس، وأبيدت بغداد عن بكرة أبيها، وتوهم الناس بأنها القيامة، وإذا بالأمة تنجب قائدا أعاد لها كرامتها وإنتصر على الفلول الغازية في معركة عين جالوت (3\9\1260)، وكان ذلك القائد قطز (1221 - 1260) الذي قتلوه بعد أن إنتصر وأطلق مجد الأمة.

والأمة أنجبت صلاح الدين الأيوبي (1138 - 1193) وغيره من القادة الذين رفعوا رايات وجودها السامي إلى عنان الحياة المشرقة الأبية الرائدة.

الأمة لا تستكين وفيها من الطاقات الحضارية ما لا يُضاهى، والعلة المعاصرة في قادتها الذين قطعوا حبل الوصل ويتمتعون بأمية تأريخية وحضارية مفزعة، وأكثرهم يميلون للتبعية والخنوع ويتعبدون في محراب السلطة والكرسي الذي يمثل لهم كل شيئ.

فما دامت القيادات محجوبة الرؤية ومتحجرة في الكراسي، فأنها تشيع مشاعر اللا أمل بآليات تكرار المآسي والإنتكاسات والإنكسارات المصطنعة لتبرير القنوط والتخاذل والإستسلام.

"وأعدوا لهم ما إستطعتم من قوة...."

فهل أعد القادة ما تستوجبه المنازلات؟

فالواضح المبين لكل مواطن أن القِوى الأخرى متفوقة جويا، فلماذا لا توجد قدرات دفاع جوي مناسبة تتصدى لها؟

إغفال ذلك تهاون وخنوع وتأكيد على أن الهزيمة مقيمة، والنصر يعني المزيد من الضحايا والخسائر الجسام، والبقاء الموجوع المضرج بالدماء.

وهناك العديد من الأمثلة المحزنة التي تقدم مجتمعاتنا قرابين للمعتدين.

أمة تحيا بشعبٍ واعدِ

لا انتصارٌ دون عزمٍ قائدِ

كلما عانت شديدا قاصما

أنجبت فردا حفيد الماجدِ

***

د-صادق السامرائي

 

في قريتنا تلبانة، حيث تُطل البيوت على الترعة كأنها تلقي بظلالها الحنونة على الماء، كان للحب نكهة مختلفة. لم بقلم محمد سعد، من يوميات كاتب في الأرياف.

مجرد نزوة عابرة أو رسائل إلكترونية باردة، بل كان روحًا تحلق في الأفق، يتعانق فيها العشق مع نسيم المساء، ويتشابك صمت العيون مع خرير الماء.

كنت فتى يافعًا، أخطو كفارس فوق جواد، أرتدي جلبابًا أبيض كأنني استعرت خيوطه من سحابة مارقة، وأتطيب بعطر أخفيه عن عيون الكبار، وأدك الأزقة الطينية مرات ومرات، أبحث عن طيفها خلف الشبابيك الخشبية والأواني الفخارية. لم يكن الحب في تلبانة صاخبًا، بل كان حكاية تُروى بالعيون، وموعدًا مكتوبًا على حافة الترعة.

ذات مساء، حين كان البدر بكرًا، والنسمات تحمل سرًّا قديمًا، مشينا بمحاذاة الترعة. إلى يميننا امتدت الحقول الخضراء في سكون، وإلى يسارنا كانت الترعة تغرق في وحشتها، إلا من بقايا قمر يتهادى فوق سطحها. كنا نخشى أن تدركنا العيون، لكن أيدينا تشابكت في حنو لم ندرك معناه إلا حين افترقنا.

مرت السنون، وجبتُ بحارًا، وعبرت مطارات، وعانقت ثقافات مختلفة، وعرفت نساءً من كل الألوان، لكن شيئًا ما كان يرفض الرحيل عني. ظللت أبحث عن ذلك الدرب الريفي، عن لمسة كف محفورة كالوشم في الروح. كأن قلبي لم يغادر تلبانة أبدًا، بل ظل هناك، عند شجر التوت الذي كان على شاطئ الترعة بطريق قرية جديدة الهالة، حيث كنا نتبادل الوعود الصامتة.

جلست أتذكر السدة الشتوية، حين كنا نسبح في الترعة للصيد والاستحمام، ونغسل أجساد المواشي والحمير، بينما تقف أسراب الأوز على شاطئ الترعة تزين المكان، يتقدمها أوز صغير بريش أخضر جميل، كالطفل يحبو وراء أمه في البيت. وعلى الضفاف، كانت أشجار الصفصاف تتمايل مع النسيم، كأنها تهمس بأسرار المكان.

قبل الغروب، كانت الطرقات تمتلئ بعودة المواشي والأغنام من الحقول، والحمير تحمل أحمال البرسيم، سيمفونية تتناغم مع عودة طابور الأوز إلى البيوت. نحتاج إلى لحن حزين بعد أن تبدلنا إلى ذئاب ووحوش في عصر لا يرحم الضعيف.

اليوم، حين أعود إلى قريتنا، أجد الترعة ذاتها، لكنها ليست كما كانت، والبيوت نفسها، لكنها فقدت بعض حكاياتها. ربما تغير المكان، لكن الذكرى باقية، تفوح في الروح عبقًا، حزن وحنين.،،!!

***

بقلم محمد سعد - من يوميات كاتب في الأرياف

يعتمد جزء من صحتنا النفسية على حياة زوجية هادئة وسعيدة، يكون الحب والتفاهم عنصرا حيويا لاستقرارها. حين نحب فنحن على استعداد لفعل أي شيء كي نظل بجوار من نحب. لذا ليس غريبا قولهم: إن الحب يصنع المعجزات.

لكن هذا الشعور الجميل يتطلب المحافظة عليه، خاصة بعد الزواج. فهو حالة استئناس دائم بين زوج وزوجة، هي رأت فيه فارس أحلام رسمه خيالها، وهو التمس فيها صفات شريك يحرك مشاعره.

دلت البحوث وعمليات المسح التي أجريت حول نشاط المخ لدى عينة من رجال ونساء يجمع بينهم رباط الحب، أنه غريزة أساسية كالطعام والشراب، واحتياج سيكولوجي يدفعنا إلى التودد والإلحاح العميق كي نفوز بشريك الحياة. أما الزواج فهو بمثابة سلسلة اختبارات لصدق المشاعر وثباتها.

حين نعبّر عن الحب فنحن بحاجة إلى لغة يفهمها الشريك ليعمّ التوافق. هل تكفي الكلمات الرومانسية والعشاء على ضوء الشموع؟

هل تكفي الرغبات أم أن الأمر بحاجة إلى عطاء واهتمام متواصل، وتضحية بالوقت والجهد؟

إن الوقوع في الحب مجرد بداية، أو لنقل إنه هوس عاطفي بحاجة لأن يتحول إلى حب حقيقي. في الدراسات التي أجرتها عالمة النفس دوروتي تينوف على عشرات الأزواج والزوجات، توصلت إلى أن متوسط عمر تجربة الوقوع في الحب لا يتجاوز عامين، وبعدها نكفّ عن التحليق في السماء ونبدأ بالهبوط إلى الأرض.. تنفتح أعيننا على العيوب الصغيرة والملاحظات، والتصرفات التي تسبب الضيق. كنا نرى المحبوب مثاليا، ثم اكتشفنا فيما بعد أنه شخص عادي، فيتردد بين جوانحنا سؤال: لماذا تزوجنا، فليس بيننا تفاهم أو قواسم مشتركة؟

ما الذي يجب فعله لننتقل إلى حب متجدد وحقيقي؟

وكيف نستثمر الأمان العاطفي لوضع قواعد صلبة للحياة الزوجية؟

وضع غاري تشابمان خمسة مفاتيح أساسية تساعد على توصيل الحب باللغة التي يفهمها الشريك. وهو في ادعائه هذا ينطلق من حصيلة ثلاثين عاما كاستشاري علاقات زوجية، حيث يؤكد أن لغة الحب العاطفية قد تختلف بين الزوجين اختلاف اللغة الصينية عن الإنجليزية. ومن المهم لمن يرغب في توطيد علاقته الزوجية أن يتعلم لغة الحب الأساسية لشريكه في الحياة.

إن أعمق حاجة للإنسان، يقول الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس، هي حاجته للإحساس بالتقدير. وحين يأتي علينا زمن نشعر فيه بعدم الأمان فإن الإطراء والكلمات المشجعة تحفز قوتنا الكامنة. تلك الكلمات ينبغي أن تكون رقيقة، تُعبر عن الرغبات لا عن الأوامر، لأن الحب هو الطلب وليس الأمر.

أما اللغة الثانية فهي تكريس الوقت، ومنح الشريك انتباها كاملا وتركيزا خلال المحادثات اليومية. وبفضل هذا المفتاح يتغير المناخ العاطفي داخل البيت حين يقضي الأزواج وقتهم معا، بدل أن يقضوه على مقربة من بعضهم البعض.

وتأتي الهدايا في المقام الثالث باعتبارها رموزا مرئية للحب. وفي الحقيقة فهي أسهل لغات الحب تعلما، وبإمكانها أن تجعلك مانحا رائعا، سواء كانت قيمة الهدية دولارا واحدا، أو كانت حضورك إلى جانب الشريك في الأوقات الصعبة.

تبعث كل هدية رسالة مفادها:" انظر، إنه يفكر فيّ"، لذا حين يقرر أحدهم وضع خاتم الزواج في جيب سترته، أو ترك ساعة يده معطلة، فتلك علامة بصرية على أن هناك مشكلة خطيرة تكتنف تلك العلاقة.

للحب لغة رابعة هي الأعمال الخدمية اليومية التي يؤديها الشريك أو يسعد بتقديمها. ورغم أن الدور النمطي للرجل والمرأة قد تأثر إلى حد كبير بالتغيرات الاجتماعية التي أفرزها مجتمع التصنيع، إلا أن بعض الأزواج يفضلون التمسك بتلك القوالب كتعبير عن الحب.

وأما اللغة الخامسة التي تعد وسيلة فعالة لتوصيل الحب بين المتزوجين فهي العلاقة الحميمة، بمفرداتها وأساليبها وأشكالها المختلفة. وللزوجين حرية اختيار المناسب و غير المناسب من طرق اللمس والاتصال الجسدي، تبعا للقواعد والعادات التي تضبط المؤشر السلوكي.

لكل لغة وضعها تشابمان لهجات تختلف باختلاف المجتمعات البشرية، فما يبدو وسيلة للتعبير عن الحب في مجتمع ما قد يشكل إيذاء أو إساءة في مجتمع آخر. لكن ما يهم في المقام الأول هو اكتشاف لغة الحب الخاصة بالشريك، والحرص على تنميتها للحفاظ على الخزان العاطفي مملوءا.

أما الزيجات التي تمت على أساس التقاليد والمواضعات الاجتماعية، فمنوط بالحب فيها أن ينمي ما سبق أن أتمه الزواج، وهذا الأمر يتطلب أن نصبح واعين بأن الحب "فن" يمكن تعلمه مثل باقي الفنون، من موسيقى ورسم ونجارة وغيرها. وكأي مجتمع يتمثل القدوة في سلوك أفراده، ويبحث في النماذج عن صيغ التوافق المثلى مع الذات والآخر، فإن السيرة النبوية تُمد المسلم المعاصر بأنبل لغات الحب التي تؤلف بين شريكين.

كانت تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين تجسيدا للغات الحب، وتساميا بهذا الشعور الإنساني الجميل ليصير "عقدة حبل" بين الزوجين. روى أبو نعيم في الحلية عن هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة قالت قلت: يارسول الله، كيف حبك لي؟ قال: كعقدة الحبل، فكنت أقول: كيف العقدة يا رسول الله؟ فيقول: هي على حالها.

ويتعزز صدق المشاعر بالفعل الذي يضاهي القول أو يتقدم عليه، حيث يفيض الحب على جوانب السلوك اليومي في أبسط مظاهره. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الحديث الذي رواه مسلم:" كنت أتعرق العظم- آكل منه بأسناني- وأنا حائض، وأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فمه على الموضع الذي فيه وضعته. وأشرب الشراب فأناوله، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه."

تؤسس لغات الحب ذاك الاتحاد الجميل بين روحين في عالم المشاعر الإنسانية. بل إن المرء حين يحب فإنه يحدث فرقا في الوجود بأسره. يصف القرآن الكريم محبة المؤمنين لربهم بكونها جامعة لخيري الدنيا والآخرة، متى تحقق فيها شرط اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، مصداقا لقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) آل عمران:31

  ***

حميد بن خيبش

الشيء المؤكد أني لا ألتفت إلى العيد، ولا أحفل به، هذه هي الحقيقة التي لا تقبل شكاً أو جدالاً عندي، لم تعد نفسي تخضع لسلطانه، بعد أن باتت فتنته مقبورة في المساجد والبيوت التي نطوف بها على عجل، لم يعد العيد يؤثر في نفسي تأثيراً عميقاً كما كان يفعل في الماضي البعيد، لقد تغيرت نظرتي للعيد، ولم تعد تلك النظرة التي أعرفها له من قبل، لقد كانت نظرة تمتاز بوقع خاص في دواخلي، لم يعد لتلك النظرة بريقها الذي ينفذ إلى قلبي، ويسيطر على عقلي، ويستأثر بثنايا نفسي، وفي الحق   لم أظن  أنه سيأتي عليّ يوماً قريباً أو بعيد تتغير فيه نظرتي تلك إلى العيد، لقد أمسى يوم العيد عندي كسائر الأيام التي قد أعرف فيها الرضى والسخط، وأعرف فيها الابتهاج والاكتئاب، بل قد يمر عليّ يوم العيد وأنا بائسا يائساً مغرق النفس، مكلوم الفؤاد، وليس في الأمر غرابة، ولا أخال أن الأمر قاصراً على شخصي الهزيل، فما ينتابني ينتاب غيري من الناس، فالناس- كل الناس- ودعوني أظهركم على حقائق قد تعرفونها ولكنكم لا تلتفتوا إليها أو تقفون عندها، الناس بعد أن يلموا بالمساجد، ويعكفوا على بيوت جيرانهم وأقاربهم، وينفقوا فيها وقتاً قصيراً أو طويل، يمضون بياض أيامهم، وسواد لياليهم في كسل وتراخي، حتى تنقضي أيام العطلة التي تزدريها المرافق الخاصة ويتطلع إليها العامة، لأنها تتيح لهم التوسع في الدعة والتواني، إذن العيد هو من فتح الباب لهذه الإجازة، ومهد لها طريقها، وأتاح للناس فرصة قلما تتاح لهم، إذن الكبار من الناس شغفوفين بالعيد لأنهم استيقنوا بعقلولهم وأفئدتهم، أن العيد أقصى ما يطمحون إليه فيه أن يهرعوا إلى أسرتهم ومخادعهم، بعد أن تنقضي مراسمة فيلازمونها اشفاقاً من ألا تتاح لهم فرصة أخرى قريبة تجعلهم يبلغوا منها منازل الرضا والحبور.

لم يعد العيد يملأ نفوسنا غبطة، وقلوبنا سعادة، مثلما كان يفعل ونحن في ميعة الصبا، وبواكير الشباب، لقد كان العيد ونحن في تلك السن يمتعنا بأريحيته وفكاهته، لقد كان العيد يسعدنا حقاً دون أن يكلفنا في ذلك مشقةً أو جهداً، لقد كنا نستطيع ونحن في تلك المرحلة العمرية أن نصرف لحظاته كما نحب ونهوى، لأن عواطفنا الجياشة لم يكن هناك شيئاً يدعوها إلى التحفظ والاحتياط، لقد كنا نتخذ من العيد مثلاً وأنموذجاً للمتعة التي لم يكن يعوقنا عنها عائق، لقد كانت كل أيام العيد ثراءً وخصبا، لأن حياتنا في تلك الحقبة لم تكن تعرف اضطراب النفوس وهلعها من الغد، وما يحمله هذا الغد من صعوبات وتعقيد، كنا نعشق العيد وأيامه لأن هناك يداً حانية تغدق علينا، ومهجاً حادبة لا تضيق ذرعاً بحركاتنا، كنت أحب العيد لأن العيد في أروع صوره، وأقوى مظاهره، يتمحور في شخص والدي الذي يقهر المشقات، ويذلل العقبات، وييسر ما لم يكن سبيل إلى تيسيره من أجلي، لأجل ذلك كنت أدب في هذه البسيطة دون خوف أو تردد، كانت أيام العيد هانئة لا تعقبها مرارة،  لأن طيف أمي حاضراً لم يزول، أمي  طاهرة الذيل، نقية الضمير، جوهر حياتي الذي انقضت عهوده ليثير في القلب ذلك الحزن الباق، والأسى المقيم، لم أنكر فرحة العيد، وارتاب فيها، وأنفر منها، إلا بعد أن غاصت بشاشتها، وملامحها الوادعة بعد أن اشتدت على نفسي الأزمات، وأخذتها الخطوب، برحيل حانية انفقت كل جهدها، وأفنت كل عمرها، من أجل آخر العنقود فتاها المدلل، حتى لا تمضي وتيرة حياته متباطئة متثاقلة.

لم يعد بيني وبين فرحة العيد ونشوته حجباً صفاقا، وأستاراً كثافة إلا بعد أن رحل من يمنحوه فضلاً من قوة، وأرتالاً من حنان، وكثيراً من عطف. رحم الله من صاغوا حياتي ونضروا لي أعيادها.

***

د. الطيب النقر

 

لا توجد عقيدة في تأريخ البشرية إلا وتقسمت، ولا دين إلا أصابته إنشطارات متواصلة، فلا دين يبقى على طريق واحد وإن كانت الغايات واحدة، بل وفقا لمفهوم، كل الطرق تودي إلى روما، يتحرك أتباع العقائد والأديان.

فلماذا الإستغراب من عدم التوافق على حالة ما؟

إنه الطبع البشري وما إستطاعت العقائد والأديان أن تطبّعه.

الحقيقة القاسية المغفولة أن كل دين لكي يبقى لابد له أن يتبضع، ويحصل فيه صراع داخلي يزوده بطاقة التواصل الحامي.

فلا دين ولا عقيدة بلا صراع داخلي.

في الإسلام مثلا، لا يتفقون على يوم العيد أو بداية ونهاية شهر رمضان، ويختلفون في قراءة الآيات وتأويلها كل حسب رؤيته، ويؤسس أتباعا له، وبهذا وجدت المذاهب والمدارس والتكتلات والحركات، التي ترفع رايات أنا الأدرى والأعلم والقابض على علم اليقبن، ومَن لا يتبعها ويرى وفقا لما ترى فهو من المارقين.

القرآن فيه أكثر من (150) تفسير، ولا يزال المسلمون منهمكين بالتفسيرات والتأويلات، كل على هواه وما يراه، وكأن الدين منطلقات أهواء وتصورات، وكل يحسب هو الفاهم العليم !!

"وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"

و"إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون"

و"الفتنة أشد من القتل"!!

إختلاف الرأي يحكمه البقاء

وكل فريدةٍ فيها انتهاء

فمن طلب التواجد فوق أرض

تعدد كنهه وعلا اللواءُ

يحارب ذاته والبعض منه

فهل ضاع التآلف والإخاءُ

***

د. صادق السامرائي

(إِن الله يخلص إِلَى الْقُلُوب من بره حسب مَا خلصت الْقُلُوب بِهِ إِلَيْهِ من ذكره فَانْظُر مَاذَا خالط قَلْبك).. الجنيد

كان الخير جنة، فهوى إلى السحيق، وصار بين ميل للماء وآخر للعطش، انعطاف للشبع المجنون، وأخر للجوع الحقير. هكذا تتلمس الأنفس مراعيها وأكنافها لتشحذ سواعدها كسبا ونهبا، عصفا ورصفا، كي تتوهم العيش وترفل في حياض من الدنيا لا تدوم كما تدوم الهناءة والتيسر، فيكون العقل في معدن القناعة والحكمة أشح من دعاء وأبكر من إيمان نظيف.

المجيب بالخير كالباحث عن كنز مجهول، يطاوع الذات في تصريفها وتجريفها، حتى تسال المواجد في فلوات الصحو، فلا يرعوي غير ناظم أو شاخص النظر. مرة يأتي كغيمة مرتابة، تدنو فتنفلت. وحينا يقضم الحسرة قبل الفكرة، فلا ينثني غير آبه بما يؤول ويجزم. فما للأخيار لا يعبرون الساعات المكشوفة في غوغاء السدم اللقيط؟ وما لهم لا يأبهون بما تدس لهم المكائد والصروف الدنية؟ حتى إذا جاء ما يعكس الخير، شرا كان أو ضرا، لزموا عزلة الزهد والتجاهل والإغفال المقصود، ولم يوغروا صدور العداوة ولا أعباءها الغاربة المكذوبة.

إنما يتبقى من شامة هذا اللطف الخيري، ما تشربه أخلاق ذاك المغمور المطمور في جبة الناسك، ذي العفة، المتمنع عن السخف والإسراف وضلالة القول. حتى إنه لا يحقر الصنيع أو الافتراء عليه، مهما كان نذرا من مستصغر الشرر. يقول الشاعر:

لا تحقرن صنيع الخير تفعله

 ولا صغير فعال الشر من صغره

*

فلو رأيت الذي استصغرت من حسن

عند الثواب أطلت العجب من كبره

بل إن في رتاق هذا الصلاح، ما يعدل حصول الوعد بالانتفاع والتجرد والممالأة. حيث يكون السالك فيها، كمن يزرع وينثر دون هوادة، معرفة واقتدارا بالحاصل منه، والناتج المرصود بعين القلب لا حساب اليد والأهواء:

له في ذوي المعروف نعمى، كأنه

 مواقع ماء القطر في البلد القفر

*

إذا ما أتاه السائلون لحاجة

علته مصابيح الطلاقة والبشر

من ثمة لا يعدل الخيرون السائلون، عن مجالسة حالات الإرواء وآثاره في الأرض الخصب والينابيع الموحشة. فلا ينكأ العلة غير افتضاضها بنباهة الدواء وفضيلة التدبير ونبل النية. والمصابيح المضيئة تكشف هذا التناظر المجيد، في أقصى الكينونة البشرية، حيث تكتسي دربة الرائي وتجربته في الحياة والتماس الخير، جدارة الوعي ونقاءه الباعث على الفيض والاستكانة والحلول، كحلول ماء الورد في الورد، فنُسمّى الساري حالاًّ، والمسري فيه محلاًّ، والواصل موصولا، والساكن مسكونا، والمبدع في سراة الليل قمرا مستنيرا.

كما أن للأرزاق أخيار، يزفون إلى مباهجهم، دون قهر أو تعب أو بحث مسرف. أرزاق بخير تمشي وتستدير. وخير بها يبادر إلى التجلي والتهجد، فينأى بشك الانتزاع والاستدبار. ومنها صفات تذكر في الصحف والأذكار، من بينها القناعة عند السخاوة، والرضا والقبول عند الابتلاء، و"كل راحة قناعة ما لم تضم"، كما قال مهيار الديلمي.

وقديما قال حكماء العرب: من نازعته نفسه إلى القنوع، ثم حسد الناس على ما في أيديهم، فليس ذلك لقناعة ولا لسخاوة، بل لعجز وفشل، فمثله كمثل حمار السوء الذي يعرج بخفة حمله، ويحزن إذا رأى العلف يوثر به ذو القوة والحمل الثقيل، فالقانع الكريم أراح قلبه وبدنه، والشره اللئيم أتعب قلبه وجسمه، والكرام أصبر نفوسا، واللئام أصبر أجسادا.".

إنها حجة على من يتوق إلى فعل الخير، فيأنف أن يذكر به إن قصد سحته ورياءه. وما الضائع في تينك الزلة، غير المبادر إلى العطاء والأثرة، من دون أن تعرف يسراه ما صدقت يمناه.

ومن التمس الخير صار خيرا. والأرزاق مقسومة معلومة، ولو نامت في قيعان البحار وصخورها المقبورة:

لعمرك ما الأرزاق من حيلة الفتى

 ولا سبب في ساحة الحي ثاقب

*

ولكنها الأرزاق تقسم بينهم

 فما لك منها غير ما أنت شارب

***

د. مصطفَى غَلْمَان

الدول تبلع بعضها، والتأريخ يبين لنا العديد من الدول التي تم إبتلاعها من قوى ظهرت وهيمنت وتنامت وهوت.

دول حيتانية الطباع، وثعبانية الإبتلاع، فهي تسرط ولا تعرف غير السرط.

الدول القوية حيتانية، وبعضها ثعبانية، وهي تطارد فرائسها وتبتلعها، بعد أن تشلها وتنوَمها لتكون جاهزة للبلع، بعد إستسلمت وتباطأت أنفاسها.

ويبدو أن الواقع في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، يسعى لمتوالية إبتلاعية بدأت بأساليب غير مباشرة، وإنتقلت بعد ذلك إلى المباشرة وبإنفلات لا يعرف الروادع، والدول المؤهلة للإبتلاع هي الفاشلة  الضعيفة الفاسدة التي فقدت معالم وجودها المميز لها.

فكم دولة في المنطقة سيتم إبتلاعها؟

الدول الثرية والصغيرة ستتلقفها الحيتان المتنافسة على الإبتلاع، فالدول القوية تعتاش على الدول الضعيفة، وتبتزها وتبني سعادتها على أشلائها، فالقوية سعيدة والضعيفة تعيسة، والقوية غنية والضعيفة فقيرة ومواطنوها يعانون الفاقة والحرمان ومصادرة حقوق الإنسان، وإن توهمت الثراء والتخمة النفطية.

تلك حقائق التدافع الأرضي المتواصل منذ الأزل، فالصراعات تحركها الموارد والثروات، وكل قوة تطمع بالتنامي والهيمنة والتجبر والإستئساد.

أسماك وحيتان، أسود وأرانب، وهكذا هي أحوال البرايا فوق تراب متعطش للدموع والدماء.

فهل أن القرن الحادي والعشرين قرن الإبتلاع والسرط الخلاق المهين؟!!

مضغة أضحت فنادت ضاريا

دولٌ هانت فأبلت عاليا

قوةٌ دامت وسطوٌ همها

وشعوبٌ إستطابت قاسيا

بنواميس وجودٍ قائمٍ

فاعل الخلق فأرسى باقيا

إستكانت لغفولٍ جاهلٍ

ورأته ملهما أو حاديا

***

د. صادق السامرائي

في ليلة حالكة من السواد، جلست على الناصية، فوق مصطبة عريضة، أراقب ظلال الماضي وهي تتراقص أمامي كأطياف بعيدة. كان الهواء ثقيلاً، مشبعًا بصمتٍ يذكّرني بتلك الليالي الخوالي، عندما كانت السماء تحتضن أحلام الطفولة، ولم يكن للحزن مكانٌ في قلبي.

تذكرت ليلة العيد في قريتي، حيث كانت الأضواء الخافتة المنبعثة من مصابيح الزيت تضفي سحرًا خاصًا على الأزقة الضيقة. كنت أركض حافي القدمين بين الحقول، أستنشق عبير الأرض الندية، وأحلم بعالم لا يعرف سوى الفرح. كان الزمن آنذاك لطيفًا، لا يسرع خطاه كما يفعل الآن، وكأن الأيام كانت تمنحنا فسحةً لنتذوق الحياة دون استعجال.

يا ليلة العيد، ماذا تحملين لنا من الذكريات؟ هل تعيدين لنا الحنين فقط، أم أن العمر مضى وكبرنا، وأصبحنا ذاكرة عابرة ستطويها الأيام؟ ليلة غاب فيها القمر، وبقيت أنا أعيش وسط حنين لا ينتهي، وذكريات تتدفق في داخلي كالنهر، تحملني إلى زمن كنت فيه أكثر امتلاءً بالحياة.

الآن، وأنا جالس في هذه العتمة، أشعر أنني محاط بتراث عابر رمادي، لا لون له سوى الحنين. هل كانت تلك الأيام مجرد سراب، أم أن الحياة هي التي فقدت بريقها؟ أبحث في وجوه العابرين عن ملامح الطفولة، فلا أجد سوى انعكاسات باهتة لما كنّا عليه. أصبح الأمل مثل نجم بعيد، يلوح من حين لآخر لكنه لا يقترب أبدًا.

تمر الأيام، وتمر معها سحابةٌ غير ماطرة، تلوّح لي بأن القادم قد يكون أكثر قسوة. لكنني أتمسك بذرات الضوء القليلة المتبقية، لعلّني أجد فيها طريقًا للخلاص من هذا الظلام الممتد. وربما، في ليلة أخرى، تحت سماء أكثر صفاءً، أتمكن من استعادة ذلك الإحساس العذب الذي كان يملأ روحي ذات يوم....!!

***

من يوميات  كاتب في الأرياف

 محمد سعد عبد اللطيف، كاتب وباحث مصرى.

 

الطبع البشري مشترك وثابت الوضوح، ولا فرق بينهم عندما يتعلق الأمر بالحكم وبناء الدولة، ولا يهذب الطباع أي معتقد أو تصور مهما توهمنا.
فلا فرق بين مؤسسي الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، وبينهم وبين بناة دولهم في القرن العشرين، فمنهم من دمّر ومنهم مَن عمّر، ولكل مثالبه ومحاسنه، ولا يوجد مثالي ومنزه من الخطأ.
لو درسنا بناة الدول منذ فجر الحضارات قبل التأريخ، فلن نجد إختلافا في سلوكهم، وأي إدّعاء غير ذلك يثير أسئلة.
القيام بدور بناء الدولة وتأسيس نظام حكم يتطلب قدرات ذاتية وظروف موضوعية تساهم في تفتح ما فيه، وتجتذب الرعية إليه، وحصر القوة في يديه.
وما يميزهم، التعبير عن سلوك الأسد في الغاب، وما يتصفون به يظهرونه بإنفلاتية مطلقة.
كبرياء، إستبداد وطغيان، وتوحش، ورغبة للإفتراس وسفك الدماء، ومحق الأعداء دون تردد، فالقوة أداتهم التي تمثل وجودهم وتسلطهم، وخضوع الجميع لهم، ومن يرفع رأسه يتم بتره.
وكلهم أعتى من فرعون!!
ولن يتغير لو حاوره ألف نبي، وأكثرهم يتوهمون بأنهم ينفذون إرادة قوة كونية عليا، سخرتهم لتأكيد شرائعها وما تمليه عقائدها، وفي هذا التوافق خطر مروع، لأن السلوك مهما كان قاسيا لن يتسبب بتأنيب ضمير، أو مساءلة ذاتية، فالحاكم ينفذ أوامر وغير مسؤول، ومَن يُفتك به، فهذا عقابه من القوة العليا وهو وكيلها.
لا فرق بين خليفة وملك وأمير وقائد وحاكم ورئيس وغيرها من المسميات، فجميعهم بشر ويعبرون عن خُلق التراب، إلا ما شذ وندر.
فمعادلة العلاقة بين الكرسي والبشر ثابتة، وتخضع لذات القوانين والعوامل المساعدة!!
فالدولة دولة بما تمليه على قادتها، والقوة سلطان مطلق الخصائل والمميزات، فالقوة عامل مشترك ومتجبر وتتمتع بطغيان وإستبداد، وجور مبين، لكنه في عرفها عدل مكين.
فالدول عبر العصور تدين بالقوة والهيمنة على غيرها، ولا شيئ يعلو على القوة في عرفها.
فهل بنبت الدول والإمبراطوريات بغير القوة؟!!


يا سراةً يا حماة الأمة
أبعثوها بصراط القوة
قوةٌ سادت وأمٌ إرتقت
برجالٍ من ذواتٍ القدرة
لا تقل أني وأنا بُعثرت
ورؤانا بعميق الحفرة
خطوة تاهت وأخرى بعدها
وضياعٌ في وخيم الغفلة
***

د. صادق السامرائي

 

في حياة الأمم مؤسسات تشبه السفن العابرة للأعاصير، تحمل في طياتها ذاكرة الشعب وقيمه، وتظل صامدة رغم تقلبات الزمن. الأهرام ليست جريدة فحسب، بل هي حكاية مصر مع الكلمة الحرة، ومع رجال نحتوا تاريخها بحروف من نور. وإبراهيم نافع أحد هؤلاء الرجال، فارس من فرسان الكلمة الذين جعلوا من المهنة هيكلا للشرف، ومن النقابة بيتا يجسد كرامة الصحفي.
ليس غريبا أن تثور قلوب الصحفيين اليوم دفاعا عن رجل مثل إبراهيم نافع؛ فالهجوم على الرموز ليس هجوما على أشخاص، بل هو اختراق لـ"الخط الأحمر" الذي يفصل بين النقد المشروع وبين العبث بتراث أمة. نافع لم يكن مجرد رئيس لتحرير الأهرام، بل كان حارسا لضمير المهنة، وبانيا لمؤسسات ما زلنا نرفع رؤوسنا بها، كـ"مبنى النقابة" الذي تحول إلى صرح يذكر الأجيال بأن الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة.
لا يلام أحد إن اختلف في الرأي حول مرشح أو خيار نقابي، فالحرية والاختلاف هما وقود الديمقراطية. لكن الفارق شاسع بين النقد وبين تشويه سيرة رجال صنعوا مجدا لمصر. إبراهيم نافع لم يخلق من فراغ؛ فقد عاش زمنا كانت الكلمة فيه مسئولية، والصحافة بوصلة ترشد الشعب لا أداة للصراعات.
الأهرام مدرسة تخرج منها عمالقة الفكر والأدب، من توفيق الحكيم إلى نجيب محفوظ، ومن هيكل إلى نافع. فكيف يعقل أن يهان رجل كان جزءا من ذاك النسيج الوطني؟! لقد علمنا نافع أن الصحفي "ابن وقته"، يصارع بالكلمة، ويبني بالعقل، ويدافع عن شرف المهنة كأنها كائن حي.
الزملاء الذين ينهضون اليوم لرد الهجوم عن نافع، إنما يدافعون عن ذواتهم قبل أي شيء. ففي زمن الضجيج الرقمي، حيث يختزل التاريخ في "منشور"، ويبادر البعض إلى تشويه الرموز بحثا عن تفاهة الشهرة، يصبح الصمود أمام هذه العاصفة واجبا. وكما قال هيكل ذات يوم: «الرجال لا يموتون إذا دخلوا الذاكرة الجمعية».
لنعلم أجيالنا الجديدة أن حرية الرأي تكمله أخلاق الرأي. نختلف، ننتقد، نفند، لكننا لا نسمح بأن تتحول الساحة إلى مزبلة تلقى فيها جثث الرموز. إبراهيم نافع، ومرسي عطا الله، وأنيس منصور، وآخرون.. هم أوطان صغيرة داخل الوطن الكبير. فلنحافظ على هذه الأوطان، كي لا نصير أمة بلا ذاكرة.
عندما تهز أركان المهنة بزوبعة الاتهامات، تظهر حقيقة المؤسسات العتيقة وأبنائها. الأهرام، التي ولدت قبل قرن ونصف، لم تكن يوما مجرد صحيفة توزع على الأرصفة، بل كانت – وما تزال – حصنا للكلمة التي تضيء ولا تحرق، تنير ولا تذل. وإبراهيم نافع، كسابقيه من عمالقة الأهرام، عرف أن معركة الصحافة الحقيقية ليست في سباق العناوين، بل في بناء الإنسان. فهل ننسى أن مبنى النقابة، الذي يقف شامخا اليوم، كان حلما راود نافعا وأقرانه، فحولوه إلى حجر يصد عن وجه المهنة عوادي الزمن؟
الهجوم على رموز الأهرام والنقابة ليس حدثا عابرا، بل هو اختبار لضمير جيل. وكما كان هيكل يقول: «الرموز لا تورث، بل تكتسب بالعرق والوقت». إبراهيم نافع لم يصل إلى مكانته بمنشور أو خطاب، بل بصحافة كانت ترفض أن تنحني إلا للحقيقة. فكيف نقبل اليوم أن يتحول "اللا مسئولية" إلى سلاح يشوهون به سيرة رجل أدار الأهرام في أصعب لحظات مصر، وحافظ عليها كـ "بيت كبير" يجمع المختلفين تحت سقف الاحترام؟
لا خلاف على أن النقد حق مقدس، لكن الفارق بين النقد والتدنيس كالفارق بين النهر والسيل؛ الأول يروي، والثاني يدمر. نستطيع أن نختلف مع سياسات أي مرشح، أو نرفض نهجا نقابيا، لكن العبث بميراث رجال صنعوا تاريخا هو جريمة ضد المستقبل. هل ننسى أن الأهرام كانت شاهدة على ميلاد أفكار غيرت وجه الوطن؟ وأن نافعا كان أحد حراس هذه الأفكار؟
اليوم، أمام سيل "الرقمنة" و"الترندات"، يخيل للبعض أن التاريخ يكتب بلغة السخرية والإلغاء. لكن الحقيقة التي يعرفها كل من مشى في رحاب الأهرام أن التاريخ يبنى باحترام السابقين، لا بإعدامهم. الزملاء الشباب الذين ينهضون للدفاع عن نافع إنما يوقظون فينا سؤالا: ماذا سنترك لمن بعدنا؟ هل سنكون جيلا محايدا يراقب عبث العابثين، أم حراسا لـ "خط أحمر" اسمه كرامة الرموز؟
قد يظن البعض أن معركة الدفاع عن إبراهيم نافع معركة أشخاص، لكن الحقيقة أنها معركة ضمير. فالأهرام، كصرح إعلامي، لم تنج من العواصف إلا لأن رجالها آمنوا بأن الصحافة "مهمة مقدسة" لا تباع. نافع، كـ "هيكل" زمانه، كان يرى أن الكلمة سلاح ذو حدين: إما أن ترفع أمة، أو تذلها. فاختار دائما أن تكون كلماته سلما يصعد إلى القمة.
ليس دفاعنا عن إبراهيم نافع دفاعا عن فرد، بل هو إعلاء لمعنى يخشى البعض من صعود: أن تكون الصحافة رسالة، لا وظيفة. وأن تكون النقابة بيتا، لا سوقا. وأن نتعلم من رجال مثل نافع وهيكل أن العمر القصير للإنسان يطول إذا زرع فكرة، أو بنى صرحا، أو دافع عن حقيقة.
فلنقل للعابثين: "كفاكم عبثا بتراث من علمونا كيف نكون".
فالأهرام ورجالاتها.. سير لا تمس.
***
د. عبد السلام فاروق

تبدو ردود الفعل على الإساءة "المفترضة" من بعض المشجعين العرب ضد العراق خلال مباراة كرة قدم، والمطالبات باعتذار حكومات دولهم، وكأنها تعبّر عن إسقاط ثقافي وسياسي، بمعنى محاولة تطبيق مفاهيم تنتمي لسياق اجتماعي أو أيديولوجي معين على سياق مختلف.
ففكرة أن يتم تحميل دولة أو حكومة المسؤولية عن تصرفات مجموعة من مواطنيها في مدرجات ملعب، هي فكرة مثيرة للاستغراب والتأمُّل حقاً!
الدولة ليست عشيرة، والمواطن في الدولة الحديثة ليس "مربوطاً" بديوان العشيرة (كما يُقال في العرف العشائري)؛ ليكون من حقنا، وفق المنطق العشائري، في حال أساء هذا المواطن أن نلجأ إلى شيخ عشيرته ونطالبه بمحاسبته على إساءته أو الاعتذار عن أفعاله. وهو ما يُعرف في الثقافة العشائرية بـ "المكاومة" وتعني تحمّل شيخ العشيرة مسؤولية أفعال أفراد عشيرته، فإذا أخطأ فرد من العشيرة، يُمكن، وفق التقليد العشائري، أن تتم مطالبة شيوخها بالتعويض عن خطئه، كجزء من التضامن العشائري، حيث يُنظر إلى الفرد على أنه ممثل لعشيرته، وليس ككيان مستقل، مما يجعل العشيرة كلها مسؤولة عن تصرفاته.
ليس من المنطقي أن تتعامل الدول مع بعضها كما تتعامل العشائر فيما بينها، أو أن ننقل المفاهيم العشائرية مثل "الفصل" و"المكاومة" و"العطوة" و"الدكة" من المجال العشائري إلى المجال الدولتي والمؤسساتي. فمنطق الدولة الحديثة لا يشتغل بطريقة القبيلة، ومسؤولية المواطن أمام الدولة، ومسؤولية الدولة عن المواطن، يحددهما القانون وليس مجرد انتماء المواطن للدولة.
وهذا ليس تقليلاً من شأن العشيرة، ولكن منطق الدولة الحديثة وفلسفتها يختلفان تماماً عن منطق العشيرة وأعرافها. منطق الدولة يقوم على الفردية والاستقلالية والعقد الاجتماعي، ومنطق العشيرة يقوم على الأبوية والجماعوية والتكافل العصبوي.
كذلك فإن فكرة أن الفرد يذوب في الجماعة، والجماعة تُختزل في الفرد، هي فكرة شمولية وفاشية بامتياز. ففي النظم الشمولية تهيمن الدولة على كل جوانب الحياة، حيث تُلغى استقلالية الأفراد لصالح السلطة أو الجماعة. وفي النظم الفاشية يُعامل الفرد كجزء من الكيان الأكبر (الأمة، الحزب، القائد) وليس ككيان مستقل.
الأمر الذي يجعل ردود أفعالنا على حادثة الإساءة "المفترضة" معبّرةً عن الثقافة العشائرية التقليدية والإرث الأيديولوجي الشمولي اللذين يبدو أنهما ما زالا يؤثران في أنماط التفكير السائدة في المجتمع العراقي.
إن الإسقاط الثقافي والسياسي هو تفسير واقعة أو ظاهرة ما باستخدام مفاهيم ومعتقدات مستمدة من بيئة ثقافية وسياسية مختلفة، دون مراعاة الفروق بين السياقات. وقد حان الوقت للتوقف عن محاولة إسقاط الثقافة التقليدية والإرث الشمولي على فهمنا لفكرة الدولة الحديثة، في العراق، وفي العالم من حولنا.
***
همام طه
...............
ملاحظة (1): وصف المقال للإساءة بأنها "مفترضة" ليس محاولة لإنكارها أو تبريرها أو الدفاع عن المسيئين، ولكن لأن كاتب المقال لم تسنح له الفرصة للتأكّد من صحّة فيديو الإساءة، لا سيّما مع وجود "مزاعم" بأنه "مفبرك".
ملاحظة (2): يحترم هذا المقال جميع أفراد المجتمع العراقي وخياراتهم الشخصية، ولا يسعى للانتقاص من مفهوم العشيرة أو التقاليد والأعراف العشائرية، ولا يهدف للمساس بشعور أو كرامة العراقيين والعراقيات الذي يعتزون بالانتماء لعشائرهم.

الدول المفلسة تكنولوجيا تحولت إلى فرائس لأساطين التكنلوجيا الفاغرة الأفواه.
القوة المعاصرة تكنلوجية، وقدرات العديد من المجتمعات خالية من المفردات التكنلوجية، فهي تتحرك في الفراغ وتتسكع على هامش الزمان والمكان.
العقول التكنلوجية تسعى لتتوطن المريخ، وعقول بعض المجتمعات منهمكة في حل مشاكل الرميم، وتستنزف طاقات أجيالها في مطاردات السحب السرابية الهابة عليها من قمقم إفتح يا سمسم.
و"إن السلاح جميع الناس تحمله...وليس كل ذوات المخلب السبع"
المجتمعات المتأخرة تكنلوجيا، والغاطسة في متاهات الغابرات، والساعية لإحياء الماضيات، والتعلق بالواهيات، ماذا تستطيع أن تعمل في دنيا الهيمنة التكنلوجية؟
هل تستسلم؟
هل تعتمد على الدول القوية تكنلوجيا لحمايتها من آفات السطو والافتراس؟
خياراتها بأنواعها تؤكد أنها مجتمعات عالة على عصرها، ولا بد لها أن تتبع وتقبع وتستكين لإرادة الآخرين الذين يأمرونها، ويجبرونها على الانصياع لإرادة القوة التكنلوجية.
المجتمعات القوية تكنلوجيا مرعوبة من بعضها، وتتهيب من المواجهة والتحدي، لأن في ذلك فناؤها.
ما العمل؟
لا بد من تفعيل العقول، والتعبير عن المهارات السياسية الفائقة، والعمل على تأهيل طاقات المجتمعات للتعبير عن جوهرها الإبداعي الابتكاري، والتأكيد على مراكز البحوث والدراسات، والابتعاد عن المواجهات العسكرية، فالضعيف تكنلوجيا لا قِبل له بمواجهات عمالقة الاقتدار التكنلوجي.
المجتمعات المقموعة تكنلوجيا، خياراتها أن تؤمن بمستقبلها وتستوعب مسيرتها وتدرك طاقاتها وترى أنها ستتوثب بعزيمة مطلقة نحو مستقبل عزيز مقتدر، ومهما تداعت في أوعية الضعف والامتهان، فأنها ستتحرر من قبضة الحفرة وستتسلق سفوح الصعود إلى ذروة ذاتها وموضوعها، وما يعوزها قيادات ذات إبصار واصطبار، ووعي لمعنى أن تكون مجتمعاتها أمة حية وليست دولا ذات أنين وهوان.
فالحياة الحرة الكريمة تنبثق من روح الإنسان!!
تعطلت العقول بما اعتراها
وأسئلة أهانت محتواها
فما انتصرت بها أمم أطاعت
سراةً لا تشاكس من طواها
***
د. صادق السامرائي

الشك بدأ يدب في النصوص المنشورة، ويتهمها بأنها من نتاج الذكاء الاصطناعي. إنه مخترع يتفاعل مع البشر وكأنه عقل آخر، والبعض يرى أنه سيكون منافسا لعقولنا في العقود القادمات، وإن صح هذا التوقع فأن أدمغتنا ستضمحل، وعقولنا ستبيد، وستتحكم بنا الآلة.
قبل عقود قال لي زميل صيني: "سيأتي اليوم الذي نستغني فيه عن عقولنا "، وتعجبت من كلامه وما اتفقت معه، لكننا اليوم نعيش على أعتاب ذلك التطور الاختراعي المرعب.
تطبيقاته تجيبك على أي سؤال، وتنفذ طلباتك، سألته ذات مرة أن يكتب لي قصيدة بالعربية عن الحب، وإذا بها تظهر أمامي على الشاشة، وما احتاجت إلا لبعض التحرير.
أحد الأخوة يقول بأنها خالية من العاطفة وتشير إلا أنها من إبداع الآلة!!
نعم الآلة تبدع!!
فهل ستغلبنا مخترعاتنا؟
الآلات تتحاور، وربما ستتفوق علينا بقدراتها الابتكارية، لقابلياتها على استحضار المعلومات بسرعة فائقة.
ما هذا العالم الذي نحن فيه؟
الدنيا تنطلق كالصاروخ نحو المستقبل البعيد، وتريد استعمار الكواكب الأخرى، وفيها مَن يدور في ناعور الغابرات، ويتمنطق بالماضيات، ويحسب الزمن يتقهقر للوراء.
الذكاء الاصطناعي يحكمنا، ومنا مَن تتحكم به الأموات، ويستهلك عمره في الثأر للأجداث، وفقا لتصوراته المعتقة في أقبية الدجل والضلال.
ترى ماذا سيكون جواب الذكاء الاصطناعي لو طرحنا عليه أسئلة الغابرين؟
"والذكاء الاصطناعي يهدف إلى محاكاة الذكاء البشري، ويتضمن القدرة على التعلم والفهم والتحليل والتكيف مع المواقف الجديدة، واتخاذ القرارات بناءً على البيانات المتاحة".


صنعنا ما ينافسنا كأنا
بآلتنا كشفنا منتهانا
بأجهزةٍ عقول الخلق هانت
بعاديةٍ تخيّب مرتقانا
***

د. صادق السامرائي

 

خرج علينا رئيس الوزراء الاسبق السيد حيدر العبادي، ليعلن ان فرض الفكرة والسلوك على الناس ليس منهجا صحيحا للحكم، ليتطرق الى موضوعة الحجاب ليقول لمقدمة البرنامج: "في مسألة الحجاب مثلاً: هل فرض الحجاب بالقوة في المدينة؟ – يقصد المدينة المنورة في بدايات الدعوة الاسلامية –"، ثم يضيف: "بدليل كانت هناك سافرات، وهن الإماء.. حتى يميزوهن عن المؤمنات المحجبات"، صفق الجميع للسيد حيدر العبادي فالرجل ظهر لنا "مدني " بامتياز، ولم ينتبه الكثيرون للاسف ان السيد العبادي وصف السافرات بالإماء وعندما نرجع للتفاسير والقواميس سنجد ان الإماء هن الجاريات.
ماذا تشعر عزيزي القارئ وانت تسمع إلى مثل هذه الكلمات، بل ما الذي ينتابك وانت تشاهد وتسمع الخطابات التي يلقيها الساسة العراقيون هذه الأيام بمناسبة اقتراب انتخابات "الفرهود"؛ عفوا أقصد مجلس النواب؟، ربما لا تعاني من البطر مثل جنابي لتتابع خطابات قيلت على مدى أكثر من واحد وعشرين عاماً، وجميعها تحمل عبارات، الدولة المدنية، نبذ الطائفية، السلاح بيد الدولة، الإعمار، الخير القادم، ولكن متى؟ لا أحد يعرف. تضاف لها بالتأكيد محفوظات عن التقصير والأخطاء التي ارتكبت واللحمة الوطنية، ويغيب عنها "معجون المحبة " الذي اشتهر به العلامة إبراهيم الجعفري.
منذ أسابيع ونحن نسمع عن الانتخابات القادمة، الجميع يرفع شعار شعار إلى الأمام،، والكل يجري عمليات تجميل لتحالفات سياسية، عشنا معها سنين من الفشل والإصرار على المحسوبية والطائفية.
كنتُ وأنا أستمع إلى السيد حيدر العبادي يقول "إنّ العملية السياسية تحتاج إلى تغيير"، أقرأ في مذكرات الحائز على نوبل بوب ديلان "أخبار الأيام" التي يخبرنا فيها أنّ الإنسان دائماً ما يتعلق بأمل زائف. سيقول البعض؛ بماذا تفكر يارجل؟، الجميع اتفق ولم تتبق سوى خطوات على انتخابات البرلمان، ياسادة لا أعرف بماذا يفكر المواطن العراقي وهو يشاهد ما يجرى في انتخابات الدول التي تحترم ارادة المواطن، نحن من جانبنا "عرّقنا" الانتخابات فأصبح لزاماً أن يشارك فيها ابو مازن، ثم تخبرنا عالية نصيف بانها ستصرخ: "مزوّرة"، لو لم تحصل على كرسي البرلمان للمرة الخامسة، بعدها تتوزع الكراسي على الجميع . بدأ ذلك منذ أن أعلن السيد نوري المالكي عام 2010 عدم رضاه على النتائج، ولا بدّ من إعادة العدّ والفرز، ولا يهمّ أن تنقلب الصناديق على رؤوس الناخبين، أو تضاف صناديق جديدة، فهذا كله يصبّ في مصلحة المواطن .
إسمح لي عزيزي القارئ، لأقول لك بكلّ صراحة، من دون أيّ لفّ أو دوران، إننا، أنا وأنت والملايين مثلنا جميعاً شركاء في ما يجري، الكلّ ساهم لنصل الى اللحظة التي يخرج فيها رئيس وزراء سابق يقول: لنسمح للسافرات ان يتجولن في الشارع فهن لايختلفن عن "الإماء".
***
علي حسين

 

المتغيرات التي حصلت في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، تسببت بتداعيات سلوكية أصابت البشر في أصقاع الدنيا كافة، وإنتشرت في ربوع أماكن صناعة القرارات، مما أدى إلى نكبات تفاعلية بين القوى المهيمنة المحتكرة لأفظع الأسلحة التدميرية.
ويمكن الإشارة إلى بعض نتائجها:
القلق
شعور بالتوتر وعدم الإرتياح، كرد فعل لما يدور في الدنيا من تقلبات مصيرية، مما يتسبب بتحفيز الغدد الصماء، ومعاناة البشر من تسارع ضربات القلب.
الخوف
إستجابة للشعور بالتهديد، وما يتوفر من معلومات متسارعة، توحي بالأخطار، وتستدعي التفكير بأساليب البقاء، وربما تؤدي إلى إستجابات إنعكاسية سلبية.
تشتت الإنتباه
القدرة على التركيز لفترة طويلة إضمحلت، وتسببت بضعف الإنجازية، وعدم القابلية على متابعة القراءة والتفاعل مع الكتاب، لأن الهاتف النقال صار سيد المكان والزمان، ولا بد له أن يتدخل فيما يقوم به الأشخاص من أعمال، فيحجب إنتباههم ويمزق سلسلة أفكارهم.
عدم الشعور بالطمأنينة
الراحة النفسية والسلام الداخلي في خطر للقلق والتوتر، وبسبب العزلة والتحول إلى التصورات المادية، وضمور التوجهات الإيمانية، فالبشر يركض وكأنه يطارد سرابا.
العدوانية
العنف والرغبة في إلحاق الأذى بالغير، منبعها الإحباط والغضب، والتوجهات العقائدية المتطرفة، والغلو المسرف بالأفكار، وتغذيها المعلومات المتدفقة على الشاشات.
إنكماش التفاعل الإجتماعي
إستخدام التكنولوجيا المفرط والإدمان على وسائل التواصل المعاصرة، أضعفت التواصل الحي بين البشر، خصوصا الأجيال المولودة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وخيمت العزلة ومعطياتها على السلوك.
زيادة الفقر
بسبب الأنظمة الإقتصادية الفاشلة، والحكم القهري، العاجزة عن توفير الطعام والسكن والرعاية الصحية، وتزايد النزاعات والحروب، والكوارث الطبيعية والأزمات الإقتصادية والتضخم والبطالة وقلة الأجور.
فقدان قيمة البشر
عدم إحترام كرامة الإنسان وحقوقه، للتهميش الإجتماعي، والظلم بأنواعه، والعنف والإساءة، والإقصاء المتحامل بين أنظمة الحكم وأبناء المجتمع.
اليأس
الشعور بالعجز وفقدان الأمل، بدوام التحديات، والعزلة والضغوط النفسية والتعرض للإحباط والظلم والخسائر المتواصلة.
تصنيع الآراء
تشكيل آراء الناس حول موضوع ما، بواسطة الإعلام الموجّه والمضلل وبالتكرار، وغيرها من الأساليب الخداعية اللازمة لإسقاط الناس في حبائل الهدف الطلوب.
التغيرات البيئية
الأرض تتعرض لمخاطر وخيمة تزعزع مكوناتها اللازمة للحفاظ على الحياة، فهي حاضنة كونية لصناعة الحياة والحفاظ على ديمومتها، وبإضطراب ما فيها من معززات الإحتضان، تتحقق سلوكيات متوافقة مع ذلك، مما يعني تهديد آليات البقاء والنماء.
ويمكن التوسع بالمعطيات وما يتصل بها من سلوكيات متوالدة ومتراكمة، ولطول الموضوع إقتضى الإختصار والإشارة.
***
د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم