أقلام حرة

أقلام حرة

في رحاب الحياة يسير الإنسان غالباً وفق فسطاطين متناقضين الفسطاط الأول مؤنس لذاته يستلهم رؤيته من آفاق عميقة تنبع من قيم أخلاقية وربانية ومن مبادئ توازن وجوده وتحكمه في مسيرته. هذا المرء يقيم أفعاله وفق ضوابط واضحة وينظر في قراراته بعقل وضمير فلا تجره العواطف السلبية أو الأهواء الخاطفة إلى الهلاك والدمار بل توجهه نواميس الحياة السليمة ومنطلقاتها إلى الرشاد والصواب.

أما الفسطاط الثاني فهو مضل يسير على هوى مطاع وتخبط عشوائي لا يعرف له قواعد تحكم أفعاله فيضل في ظلام دامس وقد يقوده ذلك إلى الندم والخراب فهذا هو شيطان النفس الذي يستغل ضعفنا ويجرنا وراء الأهواء والمصالح الشخصية الضيقة متجاهلاً عواقب أفعاله وينسى ضوابط العقل والفطرة السليمة السمحاء التي خلقنا بها مذ ودلاتنا وخروجنا ورؤيتنا النور في هذه البسيطة.

في الحياة الأسرية:

في الحياة الأسرية الوالدين الذين يربي أبناءهم وفق قيم الاحترام والتفاهم يزرعون فيهم الثقة والمسؤولية ويكسبون محبتهم وولاءهم، مثال ذلك الأم أو الأب الذي يستمع إلى أولاده بحنان ويشاركهم اهتماماتهم ويعلمهم تحمل المسؤولية، بينما من يتصرف وفق أهوائه يغضب بلا سبب فيفرض قيوداً تعسفية أو يتجاهل احتياجات الأسرة فإنه يزرع الفوضى وعدم الاستقرار النفسي كما يحدث مع أحد الآباء الذي يتأفف من كل تصرف صغير لأطفاله وينسى أن يراعي ظروفهم ومشاعرهم واحتياجاتهم بما يتلائم مع مراحل نموهم ونشأتهم.

في بيئة العمل:

ففي بيئة العمل الموظف الذي يتصرف وفق قيم النزاهة والانضباط والامتثال يحصد احترام زملائه وثقة رؤسائه ويصبح مؤثراً في تقدم نفسه والمنظمة التي يعمل بها ويثري نجاحها بتميز وتألق. فعلى سبيل المثال موظف يلتزم بمواعيده ويكمل مهامه بجدية ويقدم دعماً لزملائه عند الحاجة يزرع جواً من الإنسجام والألفة والاحترام والمحبة ، ويرسي قواعد من التعاون والشراكة الإيجابية، بينما الموظف الذي يستسلم لهواه في سلوكيات وممارسات الكذب أو التملق أو الاستغلال الشخصي والمنفعة الأنية فغالباً ما يؤدي ذلك إلى فقدان مصداقيته وأمانة تصرفاته مكانته ويصبح عبئاً على نفسه والجميع كأن يتفتقد الإخلاص في عمله، لا ينتمي ولاءاً له، يتجاهل أخطاءه ويتهرب من المسؤولية الملقاة على عاتقه، يغش ويدلس، يقرب ذاك ويبعد آخرين، لا يتورع عن التزييف في عمله وتقاريره حتى يخفي ضعفه وتقصيره.

في التعامل مع الذات:

في التعامل مع الذات الشخص الذي يلتزم بالصدق مع نفسه يعترف بأخطائه ويتعلم منها يعيش مطمئناً وسعيداً بنموه الشخصي وما يحمله من قيم وأخلاص وقواعد وضوابط في حياته المهنية والاجتماعية. مثال ذلك الشخص الذي يراجع قراراته بعد أي خطأ ويصحح مساره ويحرص دوماً على النقاء والجودة في حركاته وسكناته، دائم التطلع إلى ما هو أفضل وأصوب في عمله ومهامه، لا يهمه تعبه وما بذل من جهود في الأداء الذي يبذله ويقدمه، همه أن يسعد نفسه ويميزها ويقدم الأداء الذي يليق بطموحه ورؤيته.

بينما من يبرر أفعاله السلبية ويدافع عنها باستماته وكل ما أوتي من قوة، يترك نفسه تحت تأثير الشهوات أو الغضب الذي يسكن بداخله، فإنه يترك للشيطان الداخلي مجالاً ليقوده نحو القرارات المدمرة كأن يصر على عادة غير إيجابية أو قرار متهور رغم معرفة العواقب التي قد تحصل له ولغيره، لا يهمه سوى مصلحته والمنفعة التي يجنيها من وراء ما يفعل ويعمل. فشتان ما بين صاحب رؤية صادقة وعظيمة تدفع للمنفعة والمسرة وما بين سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً سوى الخداع والكذب البواح.

الخلاصة والرسالة النهائية

الرسالة الأساسية هي لا تكن شيطان نفسك ولا تترك أهواءك تقودك إلى الظلام تمسك بالقيم والضوابط واتبع الفطرة السليمة فالحياة لا تعطي فرصة ثانية لكل من يضيع مساره الإنسان القوي ليس من يحقق كل رغباته بل من يسيطر على رغباته ويقودها نحو الصواب وفي النهاية كل فسطاط تختاره لنفسك يحدد مسار حياتك ويصنع من داخلك ضوءاً أو ظلاماً.

***

بقلم د. أكرم عثمان

تاريخ: 26-11-2025

قد يكون مانحن بصدد التطرق له عسير المقاربه وغير مالوف، لابل وغير مسبوق مع انه قد صار من هنا فصاعدا مسالة لازمه وآنية، ان لم تكن ملحه، تلك هي مسالة التحري العقلي للعقل كما مستخدم من قبل الكائن البشري الحي الى الساعة، من ناحية كونه ليس "العقل" المجردـ بل "العقل اليدوي الجسدي"، وهو الذي انبثق وقتها مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين والنطقية، وهي لحظة بلاشك رغم نوعيتها الانقلابيه، ليست نهائية، ولم تتحقق مكتمله، وان راى العقل الجسدي انه هو "العقل" بالاطلاق، من دون ان تخطر له احتمالية ان تكون عملية وديناميات التحولية ماتزال سائرة بالكائن الحي، من الخلية الاولى الى اللبونات، ومن ثم الحضور العقلي بصيغته الاولى المجتمعية اليدوية، نحو مرحله اخرى تتوفر اسبابها بالتفاعلية المجتمعية، ذهابا الى مابعد جسدية، وبعدعقل جسدي محكوم لاشتراطات اليدوية.

هذا يعني ان العقل الحاضر والمستعمل الى اليوم، هو "طفولة العقل" ومحطته الاولى الذاهبه الى الكمال بفعل تراكم التفاعلية المجتمعية، ونقلة العبور من "اليدوية" الى الالية التكنولوجية، ساعة يخرج العقل الابتدائي الاول الجسدي من دائرة الفعل، ولايعود قادرا ولاقابلا لمواكبه اشتراطات التحولية البشرية المجتمعية، ويناظر هذا المسارالذهاب الضروري من العنصر او المادة الحية الموجودة باعتبارهاموضوعا"غير واع" لاشتراطات مساره التحولي، وهو ماكانت تضطلع به الطبيعه لوحدها من دون حضور، وبلا تدخل من الكائن البشري او الحيواني، قبلا، والخاضع سيرورة كليا لفعل ديناميات "ديالكتيك الطبيعه"، وماهي مصممه لكي تنطوي عليه من عملية حيوية، فالحيوان وتنقلاته التحولية الذاهبه بعد اللبونات الى الانتصاب واستعمال اليدين، "الانسايوان"، هو ماده خاضعه كليا لصناعه الطبيعه بلا اي دور يذكر من قبله، الامر الذي يستمر على ماهو عليه بعد انبثاق العقل وحضوره، بصيغته الابتدائية الغالبة الى اللحظة الراهنه، من دون ان يعي باي قدر كان، بان ماهو عليه، ومايكتنف وجوده وصيرورته هو طور انتقالي "انسايواني"، ومحطة انتقاليه اخيرة بين الحيوان والانسان، بل يظن بكل اعتداد بانه كائن فاعل استثنائي، وفعال، مع العلم ان اجمالي فعله وجملة مساره الطويل هو فعل الطبيعة التي تحتويه ك "موضوع"،وهو ماقد نوه له البعض مثل "ماركس" بغض النظر عن معتقده هو نفسه بوحدانيه الحقيقة البشرية الراهنه، ونهائية وكمال القائم منها اليوم.

ينطوي الكائن البشري دائما على موجبات ومستلزمات انتقالاته التحولية، بالذات على مستوى محور التحولية الاساس العقلي، فاذا انتقل الحيوان من طور اللبون الى المنتصب على قائمتين، وتغير قوامه الجسدي، وهو الظاهر، فان العقل الذي هو غاية التحول الجسدي يكون حاضرا، لابل هو الاساس الذي وفقا له ولمقتضياته يكون قد حدث ماقد حدث من التحول المادي الجسدي الشكلي الهائل، وكل شيء يحصل هنا بناء على موجبات و"قرارات"، تكون الطبيعه قد اتخذتها لوحدها وفقا لاحتسابات مقرره من لدنها، وهذا مايحدث للمجتمعية المحطة ووسيلة انضاج التحولية في خطوتها الاخيرة الفاصلة، ساعة يبدا الانقلاب الالي، وتظل اداة الادراكية والوعي المفترض دون مقتضيات وموجبات الحدث التحولي الفاصل، قبل الانتقال نهائيا من عالم الحيوان والجسد ومتبقياته ومحمولاته.

هذا يعني لحظة هي الاعظم الاخطر في التاريخ الحيوي البشري التحولي، مع مايمكن تخيله من منطوياتها الهائلة، ولنتصور حالة انتقال من الكائن البشري غير الفعال ولا الحاضر في تعيين مسارات وجوده ككائن باعتباره مجرد" موضوع"، الى مخلوق سائر الى التحكم بمجريات وجوده ومستقبله، مع مايتطلبه ذلك من اسباب، ومن مستويات ادراك خارج التخيل بحسب المتاح للعقل الانسايواني الجسدي الارضي، عقل الحاجاتية اليدوية، والارض المسطحة قبل الطائرة الكروية لاحقا، ومافيها وماتتيحه ومن ثم تفرضه من اشتراطات غير مكتوبه، مقارنة بانقلابيه تحوليه وجودا وموضعا بعيدا عن الارض، لابل عن الكون الملامس والبادي منه بحسب قدرات العقل الراهنه، وهو ضئيل للغاية، مايزال بغض النظر عن "علوم" الفضاء واستكشافاته البدائية، هو الاخر، مع الارضوية التي تخضع الكون لاشتراطات كوكب زائل، موجود لاداء مهمه محسوبه، يزول يوم يؤديها، ولايعود الكائن المتحول الحي بحاجة لها كمحطة مؤقته ضرورية.

ليس العقل قوة الابتداء المحسوبه والفاعله على نسق الحاجاتيه الارضوية، تترقى متشكله بصفتها قوة كونيه، الحري بان توجد لها نظرية نشوئية ترقوية غير الجسدية الحالية محكومة بداهة لمقصد اعلى متعد للارضوية المحطة الابتداء الضرورية، تصاغ بافق مافوق ارضي لتقارب موجبات محطات ثلاث كبرى : اولى هي الكمون العقلي الكلي ضمن شروط الغلبه الكاسحة للجسد وتحولاته محطاته ومراحله وصولا الى اللبونات ومابعدها، وهي التي استغرقت الملايين من السنين، قبل ان تنبثق المحطة الثانيه المستمرة الى الان، يتحقق فيها حضور العقل بشروط الجسدية، بحكم فعل اليدوية الانتاجية، والطوران الآنفان هما طوري الكائن الحي والبشري المنزوع القدرة على وعي اشتراطات واليات ومستهدفات وجوده، لصالح فعل الطبيعة ومستهدفاتها التحولية العظمى، قبل ان تبدا المرحلة او الطور الراهن الثالث الفاصل الحاسم انتقاليا تحوليا، حيث يحضر العقل باعتباره العنصر الفاعل الرئيس، وتصير النسبه العظمى المدخرة والمؤجله الفعل والحضور منه وهو مايزيد على الثماتنين بالمائة منه، هي نقطة التفاعل الرئيسة، بالضد من متبقيات الجسدية، وبالذات ابتداء مواطن الفعل " الحاجاتية" داخل الجسد، و"دكتاتورية" الموت الجسدي على العقل الذي هو من صنف ونوعيه اخرى على مستوى الاستمرارية ومدى الحياة بحسب الكينونه الكونيه المباينه للجسدية.

هذا الانقلاب لن يحدث الا اذا توفرت الاسباب " المادية" لتحققه، وهو مايظل غير ممكن لحين الانقلاب الالي، وبعد وقوعه بوقت، لحين وصول تحورات الاله الى الوسيلة الانتاجية العقلية التكنولوجية العليا، ماقد صار من هنا فصاعدا على الابواب، بانتظار الانقلاب الادراكي واسقاط القصورية العقلية التاريخيه، وهو ماتكون " الطبيعه" هي ايضا من سبق ووفرت المدخل اليه، بحكم ماقد قررته ابتداء وكينونه من تمييز اصل، لازم من دون تحقق، الظاهرة المجتمعية كصيغة مجتمعية موجودة خارج الطاقة الاعقالية، يمنعها من الحضور القصور العقلي المنوه عنه، بما هي مجتمعية لاارضوية، تتداخل ساعة نطقيتها مع لحظة التازم الاكبر المجتمعي الارضوي، وقت الانتقال الى فعل التكنولوجيا العليا، لنصبح وقتها في رحاب لحظة وحدة فعالية (التكنولوجيا العليا + النطقية اللاارضوية).

ـ يتبع قسم اخير رابع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

حالة نفسية وسلوكية ناجمة عن تعرض الشخص لمواقف سلبية متكررة دون إمتلاك القدرة على التحكم بها، مما يتسبب بإعتقاده بأن محاولاته بلا جدوى فيخنع ويستكين.

أي هي حالة يشعر فيها الإنسان بالعجز بعد تكرار الفشل أو الإحباط فيتوقف عن المحاولة حتى لو أصبحت لديه القدرة على النجاح.

وفي بعض المجتمعات التظاهرات قُمِعَت وما غيرت، والإنتخابات أسفرت عن ذات الوجوه، والكتابات لا تُقرأ والإنتقادات لا تعني شيئا، والقول بالفساد والتبعية ونهب ثروات البلاد والعباد لا قيمة لها ولا أثر، ولهذا فأن هكذا مجتمعات لن تأتي بجديد، وستبقى تدور في ناعور الخيبات والإحباطات، ودولها تضع على رأسها تاج الفشل.

والعجز المتعلم تكوّنه التجارب السلبية المتكررة، والبيئة القمعية، والنقد الخلبي المستمر، وعدم وجود دعم إيجابي، مما يؤدي إلى فقدان الثقة بالنفس وإنعدام الحوافز للمحاولة والتعلم، وإلى القلق والكآبة، والإستسلام السريع أمام التحديات.

ولابد من التغلب عليه بإعادة بناء الثقة بالنفس والقدرة على التأقلم، ومعرفة آليات حل المشكلات، وإشاعة الأمل والتفاؤل.

ودول الأمة ومنذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، في دوامات العجز المُتعلم وتطبَّق على مجتمعاتها نظرياته وأخواتها، القاضية بتعطيل العقول وتقنيط الأجيال، ودفنها في خنادق الخيبات والنكسات والإنكسارات والنكبات، حتى إنطمرت في تراب عجزها وكسلها وإمعانها بالتبعية والتوكل على غيرها لتأمين حاجاتها، فصارت تستورد طعامها وتئن من عدد أبنائها، وفقدت قدرات تفعيل عقولها والإستثمار في ثرواتها البشرية.

ويلعب الإعلام العالمي والمحلي الدور الأكبر في تأمين السلوك المؤدي للتحول إلى ضحية سهلة، ووجود روباتي الملامح، فيكون أبناء المجتمع أدوات نافعة لتحقيق الأهداف القاضية بإفتراسهم ومصادرة حقوقهم وهم في غاية الشكر والإمتنان.

أي أن عناصر الهدف تكون قوة ضده ولا يحتاج المستهدف لبذل جهد وخسائر، لأنه قد إصطاد الهدف بعناصره، وقيّده بما عنده من القوة والإقتدار، أي أن الهدف يطعن نفسه، وهذا سلوك إنتحاري تؤهَّل له المجتمعات لتقضي على نفسها وتبيد.

ومن الأمثلة أن بعض دول الأمة إعتمدت على ما تمنحها الأرض من ريع، فتعطلت قواها وفقدت الكثير من المهارات التي تواصلت بها الأجيال، وأصبحت تستورد كل شيئ ولا تستطيع توفير المواد الغذائية الأساسية لمواطنيها.

وهذا العجز الجمعي تسبب بتداعيات متراكمة وإتكالية مروعة، لا تجدها في مجتمعات دول الدنيا الأخرى.

فكيف بالنعمة تتحول إلى نقمة، وللطاقات أن تخمد وتتبدد؟!!

"وشر العالمين ذوو خمولٍ...إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا"!!

تكررتِ النواكبُ والرزابا

وشاهدُها المواجعُ والخطايا

قنوطٌ من تأسّنها تنامى

فدامتْ في مَعاقلها البلايا

خنوعٌ نهجُها دونَ اكْتراثٍ

يؤهلها لحاديةِ المنايا

***

د. صادق السامرائي

....................

*Learned Helplessness

على مدى أكثر من ثلاثة عقود من العيش والعمل في بريطانيا وأوروبا، وفي مؤسسات ومنظمات مجتمع مدني بريطانية وأوروبية وعالمية تُعنى بالطفولة والتربية، لم نشهد يومًا زجّ الأطفال في حفلات ليلية مخصّصة للكبار. لم نرَ طفلًا يصعد إلى مسرح مطرب يغني أغاني عاطفية لا تناسب عمره، ولم نصادف أسرة تسمح لصغارها بالتواجد في أجواء صاخبة ليلية أو محتوى موجّه للكبار.

هنا في بريطانيا رغم تحفظنا على العديد من القضايا التي تخص الطفولة إلا أن الثقافة المجتمعية قبل القانون ترسم حدودًا واضحة:

الطفولة لها عالمها الخاص، والحفلات الليلية للكبار فقط، وخلط العالمين يُعدّ تخلفًا إجتماعيًا وانتهاكًا لحقوق الطفل. أما مشاهد “الإعجاب المبالغ” من طفل تجاه مطرب، فيراها المجتمع الأوروبي مؤشرًا على خلل أسري يجب معالجته، لا الاحتفاء به.

ما حدث في حفلة الفنان الشامي الأخيرة في بغداد أثار صدمة إجتماعية واضحة. ظهور أطفال بين 7 و13 عامًا وهم يبكون لصعودهم إلى المسرح واحتضانهم المطرب في فعالية للكبار فقط يعكس فجوة ثقافية خطيرة.

فالمشهد الذي رآه البعض “لطيفًا” هو في الحقيقة صورة لغياب فهم الطفولة وحدودها. فالطفل الذي يُدفع إلى منصة الكبار لا يدرك معنى الأغاني أو سياق الحدث، وتُختطف براءته للحظة إستعراضية كان يجب أن يكون بعيدًا عنها.

غياب وعي الأسرة…

الأسرة هي الحامي الأول للطفل، لكن ما حدث كشف ضعفًا في الوعي التربوي، وتخليًا عن مسؤولية الحماية، واندفاعًا نحو ما يسمى “تطورًا” بينما هو في الواقع تطور مخادع فارغ.

فالطفل الذي يُؤخذ إلى حفلة ليلية يُعرَّض لضغط نفسي، وتجرِبة تتجاوز عمره، ومحتوى قد يؤثر على نموه العاطفي والأخلاقي مستقبلًا. إن هذه الممارسات ليست “انفتاحًا”، بل إضرارًا مباشرًا بالطفولة.

يمتلك العراق عشرات المنظمات التي ترفع شعار حماية الطفولة، لكنها غابت تمامًا أمام هذه المشاهد وهذا التجاوز. لم يصدر بيان أو تحذير أو حتى مطالبة بتنظيم حضور الأطفال للحفلات.

وهذا الغياب يكشف أن كثيرًا من هذه المنظمات تعمل بصورة شكلية، دون تأثير حقيقي في القضايا الجوهرية التي تمس مجتمعنا ومستقبل أجيالنا.

دور الرقابة الحكومية.. ثغرة يجب سدّها

الحفلات العامة تتطلب رقابة لحماية الفئات الأضعف، وعلى رأسهم الأطفال. لكن ما جرى يطرح تساؤلات مهمة: من سمح بدخول الأطفال؟ لماذا غابت ضوابط العمر؟ وكيف صعد الأطفال إلى المسرح دون حماية؟

غياب الرقابة لا يعني مجرد خطأ تنظيمي، بل تهديد مباشر للطفولة، ما زال البعض يرى بكاء طفل في حضن مطرب “لقطة عاطفية”، بينما يراها العالم الواعي خللًا نفسيًا واجتماعيًا يجب التعامل معه ومعالجته نفسياً .

المشكلة ليست في عدم فهم الطفل للأغاني العاطفية، بل في وضعه في مساحة لا تخصه وتجربة تفوق وعيه. إن ما جرى في حفلة الشامي جرس إنذار ثقافي واجتماعيّ. إستمرار إدخال الأطفال إلى فضاءات الكبار يعني أننا نسير نحو اضطهاد الطفولة باسم التطور.

حماية الطفل مسؤوليتنا جميعاً تبدأ بالأسرة، والمدرسة مرورًا بمنظمات المجتمع المدني، وتنتهي برقابة حكومية صارمة.

فلنحترم الطفولة كما يحترمها العالم المتقدم، ولنتوقف عن استنزافها تحت شعارات زائفة.

قد يكون الوقت قد حان ليصبح السؤال الحقيقي: هل نحمي أطفالنا.. أم ندفعهم مبكرًا إلى عالم لم يُخلق لهم بعد؟

*** 

بقلم: سامي الفارس

في كتابه «عالم الأمس»، فتح الفيلسوف ستيفان تسفايغ نافذة تطل على أوروبا التي كانت ذات يوم تظن نفسها خالدة، فإذا بها تتبخر مثل فقاعة صابون في صباح التاريخ. أوروبا التي وصفها تسفايغ لم تكن قارة، بل متحفًا للوهم. قصور من ورق، وجوه تبتسم بثقة العميان أمام الهاوية. كل شيء كان مرتبًا كصندوق موسيقى بورجوازي يعزف نغمة الرخاء الأبدي، حتى نفدت البطارية.

في مذكراته، التي كتبها كمن يدوّن نعيَ عصره، يرثي تسفايغ انقراض الإيمان بالتقدّم، وسقوط فكرة الأمن كقيمة كونية. كان جيله، كما قال، يعيش الانتقال من عالم الهويات المتعددة إلى زمن الهويات المتخشبة، حين صار كل إنسان اختصارًا لوطنه أو حزبه أو طائفته، لا لذاته.

في الصفحات الأولى، يرسم تسفايغ صورة أوروبا الوادعة: بيوت رصينة لا تضحك بصوت عالٍ، آباء يدّخرون كالعناكب، وفنّ يُناقش بجدية أكبر من السياسة. كان المال موجودًا، لكنه لا يُعرض في واجهات الحياة. الكرامة تقاس بعدد السلالم التي تصعدها ببطء، لا بسرعة. وكان الاحترام الاجتماعي مرتبطًا بمدى قدرتك على التثاؤب بوقار. يا لها من جنة! جنة تخاف الفوضى وتؤمّن نفسها ضد المفاجأة، حتى ضد القدر.

لكن ما إن اهتزّت الريح حتى اكتشف سكان القصور الورقية أن بيوتهم ليست من حجر، وأن التأمين لا يشمل نهاية العالم. جاء الانفجار العظيم للحضارة، ومعه الحروب، والمنافي، والدماء. خسر تسفايغ كل شيء تقريبًا: بيته، لغته، وطنه، وحتى إيمانه بأن الإنسان يمكنه التعلم من أخطائه. ومع ذلك، قال بمرارة الفلاسفة: لقد عشنا أكثر من آبائنا، لأننا تعلمنا أكثر مما ينبغي.

كتب تسفايغ: «لقد مرّ على حياتي كل خيول القيامة: الثورة والجوع، التضخم والرعب، الأوبئة والمنفى. رأيت بأمّ عيني ولادة الأيديولوجيات الكبرى، من الفاشية إلى النازية، ورأيت كيف تسمّم القومية زهرة الثقافة الأوروبية.»

كأنه كان يكتب عن الحاضر، هذا القرن الذي أعاد تدوير كوابيس القرن الماضي. فالتاريخ اليوم لا يسير، بل يلهث. كل شيء يتسارع: المال، الأخبار، السلاح، وحتى الغباء. التقدم التقني الذي وعدنا بالفردوس الرقمي، صار قطارًا بلا مكابح. ظننا العالم متوقعًا، فاكتشفنا أننا كنّا نعيش في شاشة عرض، لا في واقع. انتقلنا من عصر الأمان إلى عصر القلق المزخرف بلغة «الابتكار» و«التحول الأخضر» — مفردات أنيقة لإخفاء موت العمل، ونهاية نموذجنا الصناعي المتغطرس.

ولأن العبث لا يشيخ، ها نحن نعيش زمنًا كان يُفترض أن يكون ما بعد الحرب، فإذا بالحرب تعود إلينا مرتدية بذلة حديثة. حروب اليوم تذكّرنا بأن الماضي لا يموت، بل يغيّر زيه فقط. الغريب ليس في أن التاريخ يعود، بل في أننا نصدّق أنه غادر أصلاً.

أما الصراعات الحديثة التي تتغنّى بالتغيير، فهي مجرد حفلات تمويه، صالحة للاستعمال تحت مظلة الرأسمالية، لا ضدها. كان تسفايغ يكتب في زمن انهارت فيه الديمقراطيات واحدة تلو الأخرى، بينما كنا نظن أن التاريخ انتهى عند أبواب بروكسل!. ما زالت الإنسانية تعيد نفس المسرحية الرديئة، فقط غيّرت الديكور واستبدلت موسيقى المارش بالبوب.

تسفايغ لم يكن عرافا، لكنه كان يرى النهاية قبل أن تصل. نحن، أحفاد تلك النهايات، نعيش في عالمٍ من ورق إلكتروني، نظنّ أنه من فولاذ. الفرق الوحيد بيننا وبين أهل عالم الأمس أننا نملك إنترنت أسرع… لنشاهد سقوطنا في بث مباشر.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

قبل اكثر من ألفي عام أطلق الفيلسوف اليوناني سقراط مقولته الشهيرة (تكلم حتى أراك) وبعدها جاءت مقولة الأمام علي (ع) (تكلموا تُعرفوا، فان المرء مخبوء تحت لسانه) وكلتا المقولتين تعنيان ان الانسان يُعرف من خلال كلامه وليس من مظهره، وأن أفكاره وشخصيته الحقيقية تتجلى في حديثه وليس في ملابسه واناقته ووسامته، كما تؤكد المقولتان انه ليس هناك من وسيلة تكتشف فيها جوهر الانسان ومستوى تفكيره ومقدار عقله اكثر من الاستماع الى طروحاته، وللأسف البعض لا يدرك هذه الحقيقة ولا يأبه لنتائج تجاوزها حيث تراه ومن خلال منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي يتكلم وينشر كلاما فارغا ويخوض في موضوعات لا قيمة لها يعكس من خلالها خواءه الفكري والثقافي وهوسه النفسي بأشجان الماضي، فهذا البعض عندما لا يجد شيئا نافعا يقوله لا يركن الى السكوت الذي الذي يصفونه بالذهب انما يلجأ الى اقحامنا بخصوصياته وأموره الشخصية ومنشوراته العديمة اللون والطعم والرائحة وكان الأجدر بهؤلاء ان يكرمونا بسكوتهم بدلا من إضاعة وقتنا بكلام لا يجدي نفعا، ان حالة هؤلاء تعيدني الى قصة حدثت في عام 1945 عندما شاهد (ميغيل زاماكويس 1866 – 1955) وهو كاتب وروائي وشاعر وصحفي فرنسي مسرحية تافهة، وبعد انتهاء العرض قال (هناك اشياء كثيرة لذيذة في هذا العالم يمكن القيام بها، مثل عدم القيام بأي شيء) فعدم القيام بشيء غير نافع هو ألذ ما يفعله بعض الناس، وهذا ما يحدث اليوم حيث بعد اكثر من ثمانية عقود ما تزال هذه المقولة تناسب المئات من البشر من الذين يصرون على هذا السلوك الغبي في التعامل ويستغلون فضاء الحرية لابراز موهبة الثرثرة لديهم والتي يعتقدون انها سوف تجعلهم ذي أهمية لدى القراء.

وكثيرا ما ينخدع الناس بالمظاهر فيبالغون باحترام شخص حسن المظهر في حين المظهر خداع ويغلب أحيانا على المضمون فبمجرد ان يبدأ هذا الشخص بالكلام تكتشف عدم التطابق بين المظهر والمضمون، والكثير منا قرأ قصة ذلك الرجل الذي تبدو عليه امارات الوقار والحشمة عندما دخل على مجلس عالم جليل اثناء إعطائه دروسا لتلاميذه وكان هذا العالم يمد رجليه بسبب الآم مزمنة وما ان رأى الرجل قام العالم بعقص رجليه الى الخلف وتربع مهابة لقدوم الشخص ولكن عندما بادر هذا الشخص بسؤال العالم وكان السؤال تافها ينم عن جهل فما كان من العالم الا ان يعيد مد رجليه بعد ان اكتشف ان مضمون الرجل الذي يخاطبه غير ظاهره ولو كان قد جلس للاستماع دون كلام لكان ذلك اسلم له. لذا يكون الصمت في كثير من الأحيان غطاء وخلاص من الوقوع في مهاوي السخرية، ولكن كيف يتحقق الصمت والانسان ــ حسب وصف الشاعر حمزاتوف ــ يَحتاج إلى سنتين ليتعلم الكلام وستون عاماً ليتعلم الصمت.

***

ثامر الحاج امين

ليس الانقلاب "الالي" عملية مادية حصرا، بل انقلابيه عقلية، لااكتمال للتحولية الحاصلة مابعد اليدوية من دونها، او مع استمرار ماكان يرافق وتولد عن التفاعلية اليدوية واشتراطاتها المغايرة كليا لماهو حاصل اليوم. وليس هذا الجانب من الانتقالية الانقلابيه الراهنه غائب كليا ابان الفترة الاولى من التحول الالي، وثمه  من المؤشرات على هذا الصعيد ما لايمكن التغاضي عنه، وبالذات من بينها مايعود الى ضرورة الخروج من القصورية العقلية،لمقاربة الحقيقة المجتمعية، وخضوع المجتمعات والوجود البشري لقوانين مضمرة في التفاعلية ومنها الطبقات واصطراعها، وما اعتبر تفريقا بين العقلاني و"العلمي" بمقابل الميتافيزيقي، وغير ذلك من مظاهر التحفيزيه الاحتداميه التي سببتها الالة، وممكناتها ضمن اشتراطات الارضوية واحاديتها، قبل ان يصبح المطلوب على هذا الصعيد حاضرا كشرط لاكتمال الانقلاب الراهن، مع بدء انبثاق المنظور والرؤية "اللاارضوية" التي تظل ابتداء مطوية ومسقطه من الحسبان، بالاخص ابان فترة التحور الالي من المصنعي الى التكنولوجي الانتاجي المتجه من هنا فصاعدا الى التكنولوجي الاعلى.

 هذا يعني ان الانتقال الالي هو تحول من المجتمعية اليدوية الارضوية الجسدية، الى المجتمعية مافوق الارضية، وان الطور الاول من عملية الانتقال المشار لها هو طور اولي انتقالي ارضوي محكوم بالاشتراطات اليدوية، وقوة حضورها التاريخي التي تظل مستمرة بالذات وعلى وجه الخصوص بسبب القصورية العقلية التاريخيه، ممثلة في العجز عن ادراك الحقيقة المجتمعية الازدواجية الكبرى الفصل، بانتظاربدء تحقق هذا الاختراق ومغادرة القصورية العقلية وحدودها الادراكية، الامر المرهون بالتفاعلات الاصطراعية الناشئة بحكم ابتداء دخول الاله بصيغها الاولى المصنعية والتكنولوجية الابتدائية الانتاجية، وفعل  التوهمية المرافقة لها، وتداعياتها الذاهبة الى انغلاق الافق التصوري، وتعاظم التفارق بين مستوى الوعي والادراك الحاصل، ومقتضيات التفاعلية الواقعية المجتمعية غير المنظورة، وهو ماصار غالبا على اجمالي الحياة، يسير بخطى متسارعه نحو الانغلاق الكلي، المشحون باسباب الانهيار الشامل.

 اعتمدت التوهمية الارضوية سردية بداهية تعاقبيه للانقلاب التحولي الالي/ التكنولوجي، تتركز على الاله ونوعها الاني، بغض النظر عن تحوليتها المستقبلية،  ومحطات تغير فعلها غير المتاح تبينها باية حال في حينه، ولا على المفترض من انقلابيه "مجتمعية" من اليدوية  الارضوية الجسدية، الى طور نوعي من المفترض ان تتحول وتتغير المجتمعات وفقا لمفعوله بعدما صرنا ضمن تفاعلية ( البيئة/ الكائن البشري/ الاله) بعد ان كانت المجتمعات نوعا اخرنتاج تفاعلية ( البيئة / الكائن بشري)، ماكان من اللازم توجيه النظر اليه كمستجد انقلابي مجتمعي بنيويا، مع مايتطلبه من السعي لتحري ومتابعه منطوياته، على اعتباره مجال" العلم"، بدل البداهة التبسيطية اليدوية القائله بالانتقال بين وسيلتي انتاج، بلا مترتبات مجتمعية بديهية، عجز العقل القاصر في حينه عن مقاربتها، ماخوذا بما قد تهيأ له وتحقق على مستوى الافضلية السيادية، وعموم الدونية الارضوية مجسدة بحمى الهيمنه الكوكبيه، المشفوعة بادعاء التميزوالمركزية.

  واذا اعتمد بالحكم على الظاهرة الغربية وتداعياتها الضخمه، لابل الجبارة، الجانب القيمي  فان مايفترض توصيفها واطلاق الصفة  المناسبة عليها هو "التخلف الرهيب"،  بدالة الجشع الاستغلالي والتسلطي على الاخرين، ومستوى العنف الرهيب المعمم على العالم، وابتداء على الغرب ذاته وحروبة  المليونية الضحايا ووسائل التدمير التي ابتدعها وصولا الى الدمار الشامل، و"علوم الذرة " التي يفخر بها الغرب،  فضلا عن القائمىة التي لانهاية لها من وسائل القتل الجماعي، ووسائل  الاستهانه غير المتصورة بالوجود البشري، الممارس باسم " التقدم" ومدفعية السلعه، ومالايوصف من اشكال القسوة والجريمه التي لم تعرفها البشرية ايام "تخلفها" ليس فقط لنقص في الوسائل المتاحه، في حين كان الامر يتطلب في حينه "تحريم السلاح" و"جريمة الحروب"، واي شكل من اشكال الهيمنه على الشعوب والامم الاخرى كتصرف بديهي ملزم، وكشرط لاقرار كون العالم قد قفز بالفعل "حضاريا"، لاان يتحول الى جمع من المجرمين، جيوشهم الى اليوم بالملايين،  ووسائل القتل والابادة التي يملكونها، قابله لان تغير الحياة البشرية اذا اسقط الاصرار الجنون الاحترابي على انه مظهر تقدم يستوجب اهدار الترليونات على التسلح، هذا غير ارتهان "التقدم العلمي" الى ابعد حد بالسلاح وحمى تطويره لاجل "الحضارة"، لابل وتتحول الجريمه ضد البشرية الى تيارات حاكمه، صنعتها الجريمه والابادة، مثلما الحال مع ظاهرة المعروف ب "الفاشية" التي يطلقون عليها  ايغالا في الجريمه " الورم السرطاني للراسمالية"  وليس الراسمالية بذاتها، وكل هذا يعني فعليا جريمه اخرى تخص علاقة العقل بذاته ووجوده، فلا يجري التساؤل: ترى هل كان الغرب قفزة على صعيد قيم الوجود، او مايطلقون علية "قيم الحضارة الانسانيه"  الزائفه الانسايوانيه.

  من المعيب،  ومن مظاهر النكوص القصوري النظر للظاهرة الغربية من زاوية " التقدم" في الوسائل الناجمه  عن انبجاس الاله من دون قياس مستويات "التقدم" على صعيد القيم المجتمعية البشرية، بغض النظر عن اللغو الانشائي الفارغ، والدال على القصور باجلى اشكاله اذا ماقيس بحجم الجريمه المستمرة الدائرة من حينه الى اليوم، مع تفاقمهما المطرد بحيث تحولت الى ممارسه حياتيه كوكبيه، بلا اي داله او اشارة الى حدوث اي تغير على هذا الصعيد، ففي القرن الواحد والعشرين من السهل ان تحدث عمليات ابادة للبشر امام سمع وبصر العالم، دون يؤدي ذلك الى اي  اهتزاز فعلي في الموقف، او في مايمكن ان يعرف بالوجدان، مايدل على  سير الجانب القيمي من الظاهرة الغربية الى التردي المستمر، لدرجة  تصير الجريمه الجماعية والحرب القذرة اليوم، اعتى  واكثر دونية من تلك التي كانت عرفت في القرن الماضي، وكل هذا تحت يافطة "الوطنيات"، و"الكيانات " ،و"الامم" القوميات، شكل التجمعات البيئية الارضوية التاريخيه وقد تحولت  مع القوة الاليه الى  جريمه مخالفة بحد ذاتها للكينونه البشرية المجتمعية، الفظيع انها مدعمه ومسندة بالايديلوجيا الكسيحه وبالتردي الانحطاطي  العقلي البشري.

 لم يكن للغرب الا ان يضع الاله من الناحية القيميه  تحت طائلة الماضي ومفاهيمه، بما انه ماكان منتظرا ان يقفز وقتها عقليا نحو مقتضيات الانقلابيه التحولية،  ماقد ابقى الكائن البشري يدويا على مستوى العقل، رغم انه قد دخل  واقعيا بداية الزمن الالي  المتناقض مفهوميا ومقتضيات حياة ووجود مع ماسبقه، بما في ذلك وفي مقدمته، تشكلات راسخه من نوع الكيانيه الوطنيه، والامه، والقومية، اشكال التنظيم البيئي الارضوي الاول، التي ماعادت متناسبه مع الطور الوليد اليوم، ومع مقتضيات الانقلابيه مابعد الارضوية، وفي مشهد كهذا كان  منطقيا، لابل عاشت البشرية فعليا مرحلة من التناقض والتضارب الاقصى، الانتقالي نحو المرحلة المجتمعية مابعد اليدوية،  الالية التمهيدية المصنعية ابتداء ولزوما، الى ان تتهيأ بعد لأي الاسباب الانتقالقة الفعلية التكنولوجية/ العقلية المقصد.

  ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

يُعد عمر السبعين عامًا من أكثر الفترات ازدهارًا وإبداعًا في حياة الإنسان لأسباب متعددة ترتبط بالنضج الشخصي، التراكم المعرفي، وتعزيز الروابط مع الأجيال المختلفة. فكل مرحلة في حياة الإنسان تحمل ميزاتها الخاصة، إلا أن هذه المرحلة تحديدًا تبرز كفرصة ذهبية لاستثمار الخبرة والحكمة بأساليب مبتكرة.

أولاً: مع بلوغ السبعين، يكون الفرد قد مرّ بتجارب حياتية متنوعة شكّلت لديه مخزونًا كبيرًا من المعرفة والإدراك. هذا التراكم يتيح للفرد النظر إلى الأمور بمنظور شامل ومغاير، ما يجعله قادرًا على توليد أفكار جديدة وإيجاد حلول مبتكرة. كما أن النضج الفكري المتحقق في هذا العمر يمنحه القدرة على استكشاف أبعاد فكرية أعمق دون رهبة من الفشل أو التحديات.

إضافة إلى ذلك، تنشأ في هذا العمر رغبة متزايدة في ترك بصمة واضحة تُخلّد الذكرى للأجيال المقبلة. هذا الوعي بالإرث الشخصي يدفع نحو الأعمال المبدعة التي تترك أثرًا إيجابيًا، سواء من خلال الفن، الأدب، المشاريع الاجتماعية أو المبادرات المؤثرة.

إن هذا السعي للإنجاز يُثري الروح ويحافظ على حيوية الذهن، ما يُفضي إلى مُنجزات إبداعية تستهدف تحسين جودة الحياة للآخرين.

ثانياً: على صعيد آخر، يشهد هذا العمر تطورًا ملحوظًا في ديناميكية العلاقات الاجتماعية. إذ يصبح الفرد أكثر انفتاحًا على التواصل مع الأجيال الشابة، ما يفتح أبوابًا للحوار وتبادل الأفكار. هذا التفاعل مع شباب يحملون رؤى وأفكار متجددة يُحفّز الخيال ويُثرِي التفكير بخبرات وأبعاد جديدة. كذلك، يُعتبر تمكين هذه الروابط وسيلة لإيجاد الإلهام المتبادل والابتكار المشترك.

ثالثاً: ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يمنح هذا العمر فرصة ذهبية للتعبير عن الذات بوسائل مختلفة تتناسب مع الفرد واهتماماته. سواء عبر الكتابة أو التكنولوجيا أو الفنون، يُمكن للمكتسبات والخبرات السابقة أن تُوظَّف في أشكال رائعة من الإبداع. هذه الجهود الإبداعية لا تضيف فقط إلى شخصية الفرد بل تُلهم الآخرين وتُعلمهم كيف يمكن للتجارب الحياتية أن تتحول إلى أدوات للتميز والإبداع.

ختامًا، سن السبعين ليس مجرد محطة زمنية عابرة، بل هو بداية لمغامرة جديدة تستكشف فيها الإمكانيات الكامنة داخل كل فرد. ومع ما يتمتع به من إرث معرفي كبير، وشغف لإنجاز قيمة مضافة للمجتمع، واستعداد لاحتضان أفكار جديدة، يُمكن اعتبار هذه المرحلة فصلًا مُثمرًا يثبت أن الإبداع لا يرتبط بعمر معين، بل هو بوابة مفتوحة لآفاق غير محدودة تعود بالنفع على الفرد والمجتمع.

***

شاكر عبد موس

العراق- باحث وكاتب

العلاقة بين الأشحار والأمطار ذات قوانين فيزيائية خفية، فالسماء تستجيب لنداءات الشجر، وعندما تكون الأرض قاحلة، تنعدم العلاقة المطرية بين السماء والثرى، وحالما يتم إستصلاح الصحارى وتحويلها إلى واحات خضراء سينهمر المطر ويساهم في الإرواء.

تلك معادلة بيئية متعارف عليها عبر الأجيال، فالطبيعة تحكمنا وتساهم في إدامة بقائنا، وتوهمنا بقدرتنا على الإنتصار عليها يتسبب بتداعيات ضارة بوجودنا.

أي إعتداء على البيئة الجغرافية تترتب عليه نتائج لا تخطر على بال، ذات مآلات صعبة.

من واجب المخلوقات إحترام قوانين الطبيعة، لتكون ذات عطاءات متنامية ومساهمات متجددة في إثراء مدينة الوجود، وتحقيق التواصل المتعافي من صولات النكبات الشنعاء.

عصرنا آلي الطباع، وبما أبدعه العقل صرنا نتكبر على الطبيعة ونتحداها، ونسعى لتغيير إيقاعاتها وتمرير رغباتنا الأنانية المدمرة لنا، فالطبيعة رؤيتها شاملة ورؤيتنا ضيقة قاصرة، وكأننا نطعن ذاتنا وموضوعنا بإختيارنا دون تبصر، وإدراك لما يترتب عليه فعلنا من أخطار جسيمة.

فيضانات مرعبة، هزات أرضية مدمرة، أعاصير شديدة، وتفاعلات غاضبة بين السماء والأرض، تتناسب طرديا مع ما يكنزه خلقها من مشاعر وتطلعات.

الأنانية العمياء وعدم المشاركة في الخيرات والموارد من أفظع أعداء الطبيعة، ومن منغصات الدوران، ومحفزات العدوان الأرضي على ما فوق التراب.

التجربة مع الطبيعة فوق الجبال وبينها وفي السهول تعلمنا، أن هناك لغة خفية بين السماء والأرض، وأن للزرع نداءات تسمعها السماء وتستجيب لها.

فالصحارى تأنس بتصحرها وترفض نزول المطر، والمرابع تأنس بعشبها فتستدعي الغيوم فيهطل المطر.

فهل تصلي الأشجار مثلما يصلي البشر صلاة الإستسقاء؟!!

شجرٌ نادى سماءً إمْطري

نزلَ الماءُ عليها كالوَري

لغةُ الزرعِ خفيٌّ صَوتُها

تدركُ المنطوقَ قلبُ الأقدرِ

لمُروجٍ من نباتٍ يانعٍ

وفدَ الغيمُ قتيمَ المنظرِ

***

د. صادق السامرائي

لاشك ان الذكاء الإصطناعي، في ضوء ما تحقق من تقدم هائل في تقنيات تطبيقاته الرقمية مؤخرا، بات يقدم فوائد عديدة ولا حصر لها، بعد ان شاع استخدامه بشكل واسع، في مختلف مجالات الحياة، الصناعية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها.

 فمع التطور السريع الحاصل في تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتوسع الكبير في استخدامه في الكثير من المجالات في الحياة اليومية، فقد أصبح الإعتماد عليه في مختلف تلك مجالات أمرًا شائعًا، ومألوفا، ويصعب الإستغناء عنه.

ومع كل تلك الفوائد، والايجابيات، فان الفقدان التدريجي للمهارات البشرية، مع التوسع في استخدام الذكاء الإصطناعي، وما قد يؤدي إليه من تراجع في المهارات الفكرية، والعملية، ياتي في مقدمة التداعيات السلبية، للاعتماد الزائد على الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يتطلب الحرص على توخي التوازن، بين التوسع في استخدام تقنيات الذكاء الإصطناعي، والحفاظ على المهارات البشرية، وادامة التواصل الاجتماعي، لضمان ديمومة حياة انسانية متمكنة، ومتوازنة.

 كما ان الاعتماد الزائد على الذكاء الاصطناعي، قد يؤدي أيضًا إلى زيادة الاعتماد على التكنولوجيا والتوسع في توظيفها في جميع جوانب الحياة، مما سيؤدي إلى الغاء الكثير من الوظائف، ويضاعف من حجم البطالة.

ولاريب ان التوسع في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في اتمتة الكثير من الصناعات، سيجعلنا أكثر عرضة للتعطل، في حال حدوث أعطال تقنية، أو حصول انقطاع للإنترنت، ومايترتب على ذلك من ارباك في الاداء.

ومن التداعيات الأخرى للاعتماد الزائد على الذكاء الاصطناعي، هي مخاطر اختراق الخصوصية، اذ مع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي في جمع البيانات وتحليلها، تزداد المخاطر المتعلقة بالاختراق الأمني، واستغلال المعلومات الشخصية.

كما تجدر الإشارة إلى ان الاعتماد الزائد على الذكاء الاصطناعي يمكن أن يؤثر سلبا على التواصل الاجتماعي الحي، حيث انه مع قضاء المزيد من الوقت في التفاعل مع الأجهزة الذكية، والإنغماس التام فيها، حد الادمان، سيتقلص التواصل الفعلي الحي بين الأفراد تبعا لذلك، مما يؤدي إلى شعور بالعزلة، والإنفصال الاجتماعي، وما يترتب على تلك الظاهرة من مشاعر الاكتئاب، والإحباط.

***

نايف عبوش

الأرض كائن حي، شئنا أم أبينا، "وقيل يا أرض إبلعي ماءك..." والتحرش بكيانها البيئي يتسبب بتداعيات خطيرة، ويدفع إلى تحولات عقابية للذين عبثوا بهيأتها الجغرافية.

والأنهار أوعية الأرض التي تمنحها ديمومة الحياة، وتوفر لها طاقات الدوران اللازمة لإدامة وجودها الكوني الفعال.

إن التلاعب بإرادة الجريان للأنهار الأبهرية كدجلة والفرات والنيل، سيؤدي إلى دمارات إرتدادية ذات آثار سلبية على المكان وأهله.

فعندما يتعثر الجريان في الشرايين يصاب المخلوق بأضرار وخيمة قد تؤدي إلى موته، أما إذا تم الإعتداء على شريانه الأبهر فأن الموت القوري والحتمي لا مفر منه.

والأنهار الكبرى شرايين الأرض الأبهرية التي تمنحها الحياة المنسجمة مع إيقاع الدوران، وسلطة التجاذب المتبادل مع أخواتها في المجموعة الشمسية التي تحافظ على بقائنا الآمن.

كما أن قطع الروافد ومنعها من الإنصباب في الشرايين الدفاقة، سيتسبب بإنخفاض نسبة عناصر الحياة وذبول كيان الأرض المصابة بالحرمان من نسغها الجاري.

إن الإعتداءات المتواصلة على بدن الأرض يتسبب بالفيضانات والهزات الأرضية والأعاصير المدمرة، والعدوان على القاطنين في البيئة الجغرافية المخربة بفعل فاعل بلا بصر ولا بصيرة.

في مدينة أعرفها تحقق الإعتداء على جغرافية المكان، فطفحت الشوارع وهاجمها الفيضان، وحوّلها إلى مستنقع راكد لا يستوعب الأمطار، فالأرض ممنوعة من إبتلاع مائها، وتحرير ترابها من غمراته!!

رافداها نبضُ روحٍ وحياةِ

وبعصرٍ يَستجيبا للأباةِ

وبنيلٍ لا يُبارى بعطاءٍ

قد جرى دهرا غنيا بالدهاةِ

كلّ حيٍّ شربَ الماءَ وغنّى

وضفافُ النهر قرطاسُ الرواة

***

د. صادق السامرائي

تزداد وطاة حالة التردي العقلي على مستوى المعمورة بينما تصبح ملموسة اكثر فاكثر علامات التفارق، بين المعاش والممكن قياسا الى الوعى والمنظور، ولعله من البيّن ان العالم لم يعد يعرف حضورا فكريا مميزا لمفكرين يعتد بآرائهم،  ولايمكن تحاشي العودة اليهم، وهو ماقد زال من الساحة كليا، من دون ان يلحظ او يستحث تساؤلات تتحرى اسباب مثل هذا المتغير المسجل لصالح مايكاد يقارب السلطات المطلقة، على تهافتها وانعدام مبررات تميزها، فضلا عن احتلالها مواقع القرار على مستوى العالم كما هو الحال مع الظاهرة الترامبية كمثال صارخ غير متابع، ويقع خارج التحليل المستند الى مايمكن ان يعد من قبيل البديل حتى بمعنى الثوابت، لابل حتى الاوليات.

وتسود العالم حالة من الركود لصالح متبقيات منتهيه الى فشل، كمثل الليبراليه والاشتراكية، لابل وتكرس حالة قسر لمفاهيم  المفترض ان تقع في باب المراجعه واعادة القراءة، لابل وتسود حالة من الخلط تخص الطور الاوربي من تاريخ الانقلاب الالي، بما يجعل من المعتمد كمنظورات اقرب الى الخداع المتعمد، بغض النظر عن كونه دليل عجز، فالتاريخ الغربي اليوم امريكي بثوب اوربي، مع تفارقهما الكلي عن بعضهما، مابين تجربة مصنعية ساحتها مجتمعية مزدوجه "طبقيا"، واخرى مجتمعية بلا تاريخ، مفقسه خارج الرحم التاريخي، هي التي منحت الانقلاب الآلي اسباب استمراره وانتقاله الاستثنائي، من "المصنعية" الاوربية الى"التكنولوجية الانتاجية"،  بينما يستمر اسقاط  السردية الانقلابيه الاليه الاوربية على نوع تجمع بشري مستجد، مازال العقل عاجزا عن التعرف عليه، وكشف النقاب عن سر تصدره، لابل وتزعمه للحداثية الغربية التي كانت قد ذهبت الى الانهيار مع القرن العشرين والحربين العالميتين و70 مليون ضحيه، لولا الحضور الامريكي  المبني على  افناء مايزيدعلى 60 مليون من سكان امريكا الاصليين، مع انه سيخلص الغرب لاحقا من  القطبيه، بما يوفره من اسباب الانتاجية التكنولوجية،  ومرونتها التي افضت الى تفكك الاتحاد السوفيتي وتكلسه المجتمعي الانتاجي.

والاكيد الواضح ان امريكا برغم ماقد حققته من انتقاله غير عادية انتاجيا، وعلى مستوى الاله والانتقال من "الوطنيه" الى "العولمه"، عاجزه عن ان ترفق منجزها المادي  بما من المفترض ان ينتج عنه مفهوميا، مايقتضي تجديد مفاهيم "الحداثة" و "النهضة"، فهذا جانب متعلق بالارث المجتمعي، وبتاريخ المجتمعات ومنجزها المتراكم، من الانتاجية اليدوية الى الاليه، وهو مالا علاقة للولايات المتحدة به، بل على العكس هي بحاجه اليه كمبرر لوجودها باعتبارها مجتمعية فكرة، تبدا بالابراهيمية عندما كان المهاجرون على سواحل القارة الجديده يرفعون شعار "سنبني مدينه على جبل" و "بناء اورشليم الجديده"، واحتوائها على  1586 جماعه دينيه 700 منها " غير تقليدية"(1)، ناهيك عن فكرة " الرساليه" التي تنسب للكيانيه الامريكيه، مع المزج اللازم والالحاق الضروري لحد المصادرة، بما يتصل بالانقلابيه الاليه الاوربيه، نموذجها وافكارها، وممارساتها الليبراليه، اعلى صيغة تفكير وتطبيق كياني مجتمعي، وان يكن غير موصول بالدور الامريكي الثاني، ولا بحقيقته فوق الوطنيه، والعاجز كينونة عن النطق الذاتي  نيابه عن المجتمعية البشرية كما كان ممكنا لاوربا ان تفعل.

وكل هذا ناجم عن التوهمية الاساس التي رافقت ظهور الالة وما ولدته اوربيا من مفهوم مصادرة  من قبل الموضع المزدوج طبقيا، والاعلي ديناميات ضمن صنفه الارضوي حيث انبجست الاله، من دون ترك مجال للتفريق بين "الاله بذاتها" وماتنطوي عليه من ممكنات انقلابية عامه تحفيزية للاليات المجتمعية، وبين المجتمعية نمطا و "نوعا" ومايمكن ان ينتج عن اختلافاتها من تفاعليه مجتمعية متعدده، لم تكن غائبة في الماضي، يوم بدات الانتاجية اليدوية، ماقد انتج الاختلافات المعروفه وقتها بين المجتمعات،  فلم تنشأ واحدة، فلا الصين هي الهند، ولا اوربا هي امريكا اللاتينيه حيث نموذج اللادولة عدا افريقيا، او امريكا الاصل ك"لادولة" هي الاخرى، ولا مصر هي ارض مابين النهرين، فالبيئة وتبايناتها حرية بان  تولد تباينات في النمطية متعدية لوسيله الانتاج بذاتها، هي في صلب الضرورة التفاعلية المقرونه بهدف ومقصد مضمر مستقبلي، توجد المجتمعات محكومة بان تصل اليه.

ولايمكن الافتراض بان "الاله" هي ذاتها "اليد" التي تمسك بالمنجل كما اعتقد الغرب، ليس لها سوى صيغة وشكل وممكنات فعل واحدة لاتتغير، بما يعني ان العقل البشري كان وقت انبثاق الالة بحاجة  للانتقال الى "عقل آلي"، مالم يكن قد اصبح متاحا وقتها، فظل يتعامل مع الالة  وينظر لها  وفقا لموروثه من معطيات  وطريقة نظر ترسخت بقوة كما متوقع، بفعل طول الطور المنقضي والمختلف نوعا عمابعده ومايباينه جوهرا، هذا مع اخذ ظاهرة القصور العقلي الملازم  للادراكية البشرية والمتمثل في اهم جوانبه، في العجز عن مقاربة المسالة المجتمعية، وهو مالم تبدا افتتاحيات التخلص منه  سوى مع القرن التاسع عشرمن قبيل البداية، مع ماقد عرف بآخر العلوم، "علم الاجتماع" الحديث، بغض النظر عن المبالغه التي رافقته واستمرت تلازمه كمنجز مايزال في طور الابتداء والاوليه، محكوم لاشتراطات الارضوية.

والمجتمعات بحسب المنظور الغربي واحده موحدة نمطا ونوعا، ثمه من بينها ماقد اصبح اليوم "مركزا"، وهذا يبرر الاعتقاد بان الالة واحدة وانها ستظل كذلك، وهو ماقد استمر معتمدا الى اليوم  برغم التحور الواضح الذي اصاب الاله المصنعية، لصالح التكنولوجيا الانتاجية، ومع كل مايمكن تلمسه من مظاهر دالة على قرب الانتقال الى شكل اخر، يمكن الافتراض بانه " تكنولوجيا عليا" متلائمه مع منطويات الانقلاب الالي،  ومتفقه مع تدرجاته تحورا،من الانتاجية اليدوية الارضوية الجسدية، الى "العقلية"، وقت يصبح محور الانتاجية هو احضار القوة العقلية المضمرة وغير المستعمله بنسبه قد تزيد على ال85 ،فالكائن الحالي الانسايواني الارضوي الجسدي الحاجاتي، هو كائن بلغ منتهاه  وقمته تطورا بحسب دارون نفسه، وقت بلغ العضو البشري قمة كماله، لنغدو امام حالة، الجسد فيها ثابت غير قابل للتطور، يحمل عقلا لايستعمل منه الا مايقل عن العشرين بالمائة، الاحتدامية المجتمعية الانتاجية، والانقلاب الكبير الالي الذاهب الى الاكتمال بالتكنولوجيا العليا، عملية حضوره الاكبر المستعاد بقوة حضور العقل نفسه، بعد تجاوز اشتراطات اليدوية الحاجاتيه، وشروطها،  وضيق حدودهاالمفروضة على العقل، وفي مقدمها القصور العقلي السابق، الذي ظل يحول دون اكتشاف حقيقة ان المجتمعات هي ازدواج مجتمعي، لاارضوي/ ارضوي، الاول هو مجتمعية العقل الاعلى، مسقطة الجسدوية، وان  تفاعلية المجتمعات يدويا واليا، هي تفاعلية الارضوية الجسدية، واللاارضوية اللاحقة، التكنولوجيه العليا، على الابتداء المجتمعي  الذي ينبت اولا،ويظل تنقصه ممكنات التحقق، وعيا صار من غير الممكن عدم حيازته، وعلى مستوى وسيلة الانتاج، مع توفر اشتراطات الانتقال الى مابعد تكنولوجيا انتاجية راهنه.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

مفردات القرن العشرين غير مفردات القرن الحادي والعشرين، فكيف يصح مخاطبة أجياله بمفردات القرن الذي سبقه؟

أجيال القرن الحالي هم ما دون الثلاثين ولديهم مفرداتهم ورؤاهم وتطلعاتهم، وما يسود في الساحة الإعلامية والثقافية أن أجيال القرن العشرين أو ما تبقى منهم، يهيمنون عليهما، وينشرون ما عندهم من الأفكار بمفردات القرن الذي كانوا فيه، مما يتسبب بفقدان التواصل وتأمين أسباب الإنقطاع، ولهذا لا تؤثر الكتابات والخطابات، فلا علاقة متوالدة بين أجيال القرنين.

عندما نتصفح المدونات وما كتبته الأجيال الغابرة عبر العصور يتبين أن لكل زمن مفرداته، فالحياة تتبدل ومعها مفرداتها وآليات التخاطب فيها.

فالتواصل بين البشر بدأ بالرسائل المتنوعة التي تحتاج إلى أيام وأسابيع وربما أشهر لتصل إلى بلد آخر، ويعلم بها قلة من الناس حتى وصلنا إلى زمننا الذي إنطلقت فيه المعارف، وتحقق التواصل المتسارع الآني الإخبار.

وما يدور في أذهان أجيال القرن الحادي والعشرين غير الذي يقبع في أذهان أجيال القرن العشرين، ولا يمكن فرض مفردات ورؤى وتصورات القرون الغابرة عليهم.

إن أدعياء ما مضى وما إنقضى سينقرضون في هذا القرن، ولن تنفع طروحاتهم ولن تؤثر في أنوار العصر المتوهج، الدفاق بالصور والمشاهد المعبرة عن جوهر الحياة.

إنهم سيذهبون في غياهب المجهول وسيدثرهم النسيان وستلعنهم الأجيال القادمة، وستهزأ من خداعاتهم وأضاليلهم المضمخة بما يوهم بالإدراك الغيبي والمعرفة الواضحة لكُنه الآتي والمجهول.

ترى هل سنستطيع تحسس مواضع أقدامنا، ونرى بوضوح، ونتفاعل مع عصرنا الفياض بالمعارف والعلوم؟

عصورٌ ذاتُ إبداعٍ وفكرِ

وأشخاصٍ منوّرةٍ وتدري

مساراتٌ بها الأيامُ ترقى

وتأخذها لآفاقٍ وتجري

إذا انْطلقتْ نَواهيُها لشأوٍ

أجادتْ من مَواهبها بذخرِ

***

د. صادق السامرائي

 

في خضم الحياة، وبين ثنايا تعقيدات العمل الوظيفي وضغوطه وتوتراته، تتكشف أمام أعيننا مشاهد كثيرة تكاد تجمع على حقيقة واحدة لا ثاني أو ثالث لها أن غياب البعد الإنساني هو أكبر الأخطاء التي يمكن أن نقع فيها في مسيرة حياتنا المهنية والوظيفية والاجتماعية في تعاملاتنا مع البشر، فحين يبتعد الإنسان عن الشعور بالآخرين ونسيان ذاك الكيان الذي يبنغي أن يولي الاهتمام به وإدراك ظروفهم واحتياجاتهم، تتبلد وتتجمد القيم وتضيع البوصلة الأخلاقية التي تهدي مساراتنا وتصحح رؤيتنا.

نعيش في زمن تتشابك فيه الأزمات وتتراكم فيه التحديات والمعضلات، وخصوصاً في سياق يشهد صراعات وحروباً تهدد وتفتك بالحجر والشجر والبشر. كل ذلك يترك ندوباً وشرخاً في النفوس والكيانات البشرية، ويكشف هشاشة الإنسان مهما بلغ من قوة أو تصنع بها أمام غيره لكي يثبت نفسه ومكانته. ومع ذلك يبقى هناك ضوءٌ لا ينطفئ ولا يخبو وهجه ولمعانه، إنه ضوء المواقف الإنسانية التي تبرهن أن الخير ما زال حاضراً وأن النفوس مهما تغيرت تعود لطبيعتها وفطرتها السليمة، وأن القيم الحقة قادرة على أن تنتشلنا من القسوة وغياب الرعاية والاهتمام، إن نحن تمسكنا بها وجعلنا نبراس تطلعاتنا وعنوان أصيل في مسيرتنا ونهج حياتنا.

إن جوهر السمت الإنساني ليس ترفاً ولا ضرباً من الخيال الذي لا يمكن تحقيقه أو تنفيذه، ولا شعاراً يستهلك لكي يرفع في المناسبات والتجمعات، بل هو ممارسة يومية تتجسد في اهتمامنا بالبشر ورعايتنا لظروفهم وقدرتنا على مشاركتهم العاطفية ودعمهم. هي مسؤولية موزعة على الجميع: كل بحسب موقعه، وبحسب ما يستطيع تقديمه من جهد، أو وقت، أو كلمة، أو حتى نظرة طيبة تخفف عن شخص مرهق أو متعب أو مهموم.

وهنا تتجلى أعظم القيم الإنسانية في التعلم من الأحداث والمواقف، فالحياة مدرسة صارمة، والأزمات مهما بلغت قسوتها وحدتها تبقى دروساً عميقة تنحت وعينا وتعيد تشكيل أولوياتنا وتدفعنا للعودة من جديد لجادة الصواب والاستقامة في الفكر والشعور والتصرف. ومن لا يتعلم من معاناته أو من معاناة غيره، يظل يدور في دائرة فارغة لا أثر لها ولا نفع يطاله.

مشاهد من واقع الحياة والعمل

في أحد الأيام، رأيت موظفاً شاباً قليل التجربة والخبرة انشغل بإنجاز معاملاته متجاهلًا مراجعة رجل كبير في السن يقف على باب مكتبه منذ دقائق طويلة. لا يقوى على تحمل رجليه لتلك الوقفه، فقد كان الرجل يترقب مبتسماً دون أن يهمس بكلمة أو تأفف، ربما يخشى أن يثقل على أحد. كان صاحب دراية وخبرة واسعة وحكمة في التصرف، لم يكن المشهد عابراً… فقد كشف أن الموقف ظهرت فيع ضعف الخبرة وقلة الوعي لغياب الحس الإنساني والمشاعري في استقبال الضيف وإراحته وتقديم الخدمات له بأسرع فرصة ممكنة، حتى لا يتحول أبسط المواقف إلى عبء كبير على الآخرين.

وفي مشهد آخر، شاهدت موظفة تنهي دوامها، لكنها لاحظت دمعة في عين زميلتها التي تواجه ظرفاً عائلياً صعباً. لم تغادر المكان. بقيت معها حتى هدأت، وقدمت لها دعماً معنوياً كبيراً لا يقاس بمال. ذاك الموقف كان أعظم قيمة من عشرات الخطب والدورات التدريبية في " امتلاك مهارات التواصل والعمل الجماعي ضمن فري قفعال ويناء قدرات الذكاء العاطفي في العمل مع الزملاء والزبائن".

وهناك مشهد ثالث لن أنساه: عامل بسيط في مؤسسة ما، لم يملك سوى أن يرفع يده دعاء لمديره الذي ساعده في ظرف صحي صعب كان في حجاة ماسة لذلك الدعم. قال يومها " والله لا أنسى ذلك موقفه معي ودعمه لي طول العمر". عندها أدركت أن بعض الأعمال الصغيرة تصنع أثراً عظيماً يتجاوز الزمن والمناصب والأموال التي تقدم لمحتاجيها.

قيمة المساندة… من الدنيا إلى الآخرة

إن أجمل ما في المشاهد الإنسانية أنها تعود إلى أصحابها، إما بهجة في الدنيا، أو تيسيراً وتسهيلاً للأمور في حياتهم، أو دعاءً صادقاً يرفع البلاء ويحمي المرء من ثرات الزمان وتقلباته، أو بركة لا نعرف مصدرها وكنهها. وربما يقع أحدنا في يوم من الأيام تحت وطأة الاختبار والامتحان، فيكون أحوج ما يكون ليد تمتد إليه لتسعفه وتنتشله من دركات ومصائب الدنيا، أو كلمة تنصفه، أو موقف يشبه الذي قدمه يوماً لغيره.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من نفَّس عن مؤمن كربة من كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». رواه مسلم

هذا الحديث ليس مجرد نص ديني، بل قانون كوني: ما تقدمه يعود إليك، وما تمنحه يعود مضاعفاً في وقت أنت أحوج إليه للخير والأجر العظيم.

ختاماً: تبقى إنسانيتنا هي رأس مالنا الحقيقي والاستثمار الذي يدر علينا الخير والبركة.

وتبقى المواقف الصادقة هي التي تخلد أسماءنا في سجلات قد تمتد ليوم القيامة.

وفي عالمٍ يمتلئ بالضغوط والصراعات، فإن أعظم ادخار يمكن أن نحققه هو أن نكون سنداً وعوناً لغيرنا. فالإنسان أولاً،،،، وسيظل وسيبقى أولوية مهما تغيرت الظروف والمواقف.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

19-11-2025

 

يتجسد الإبداع بما هو ملكة إنسانية ذاتية، يتميز بها الإنسان المبدع عن غيره، بابتكار معطيات جديدة في مختلف المجالات، والانشطة، الأدبية منها، والفنبة، والعلمية، والتقنية والموسيقية، وغيرها .

ويتطلب الإبداع بما هو ملكة ذاتية، قدرة على توليد أفكار جديدة، ومبتكرة، المبادرة إلى تحويل تلك الافكار إلى واقع حي، يتلمسه المتلقون، مثل النتاجات السردية، والقصائد الشعرية، والانجازات الفنية، وغيرها.

ولابد من الإشارة إلى أن الإبداع يتطلب حسًا مرهفًا، وموهبة متوهجة، وقدرة متمكنة على التفكير خارج المالوف من تقييدات السياقات التقليدية للأداء.

فعندما يتوهج الحس المرهف، بفيض من العواطف الرقيقة، والمشاعر المتوقدة، فلا ريب انه سيدفع الانسان المبدع إلى طرح نتاجات إبداعية وملهمة.

وهكذا يكون المبدعون الذين يمتلكون حسًا مرهفًا، وعاطفة جياشة، أكثر حساسية، للتفاعل مع المنظور من عناصر بيئتهم، مما يجعلهم أكثر استجابة، واستشعارا لعناصر الجمال، حتى في الأشياء البسيطة.

ولعل التأمل المتطلع، يمكن أن يكون عاملا مهما في تحفيز الحس المرهف للمبدع، بما يجعله أكثر استجابة، للعواطف الوجدانية، والمشاعر المرهفة.

ويظل التفاعل مع ربوع المكان، ومع الآخرين، عاملا فعالا في تفجير الإبداع، بما يجعل المبدع في تعالقه مع الآخرين، أكثر قدرة على توليد أفكار جديدة، وانجاز نتاجات متميزة.

ولا شك ان التجربة الزاخرة، بما تحمله من تراكمات ابداعية، يمكن أن تساهم في تطوير القدرة على الإبداع، وجعل المبدع أكثر عطاء، واوسع إمكانية في توليد أفكار جديدة، ورؤى مبتكرة.

***

نايف عبوش

الفكر يصنع الحضارة ويبني القوة ويشيد معالم السيادة والحرية وقيمة الإنسان ويضع الأسس الصحيحة للعطاءات الأصيلة، والمجتمعات الخالية من القيادات الفكرية، تجر أذيال التأخر والإنكماش في أحواض الغابرات ومستنقعات الباليات.

التقدم الذي إنطلق منذ بدايات القرن العشرين قاده المفكرون بشتى صنوفهم وتنوع نشاطاتهم، وتمكنوا من التأثير بمراكز القرارات، فلا توجد مؤسسة حاكمة دون أنوار فكرية ذات رؤى وتصورات مستقبلية ثاقبة.

فهل للمفكرين دور في مسيرة الأمة؟

المفكرون كثيرون ونشاطاتهم نائمة في الكتب المرفوفة في غياهب النسيان، وكل منهم صار في خبر كان، وإن نطق بالحق تعرض لقطع اللسان، فالكراسي ألد أعداء المفكرين والمبدعين، خوفا على عروشها ولكي يأنس أصحابها بغنائمهم، ولا يعنيهم المواطن المقهور والمعذب بالحرمان من حقوقه.

ويبدو أن مفكري الأمة تركوا إهتماماتهم العملية المتحدية، لأنها تجلب سوء المصير، وتحقق العيش العسير، فصار معظمهم يبرر ويسوّغ ويلقي بما يحصل على الذي كان، فاللاحق ملائكي والسابق شيطاني ومجرم وظالم كبير.

المفكرون بوصلة مجتمعاتهم، وعندما تنكرهم تتيه وتتلاطمها أمواج وأعاصير الويلات العظام.

العقائد الدينية ليست فكرا قياديا جمعيا، وإنما رواسخ فاعلة في الأعماق الفردية وقد تؤثر في السلوك، بمنعه من التورط بالشرور، لكن أكثرها تدعو للتناحر والتصارع الفتاك.

المفكرون الحقيقيون يجمعون، كما فعل المفكر الياباني (نشيدا كيترو)، الذي وضع اليابانيين في بودقة وطنية جامعة.

و"الفكر بحر لؤلؤه الحكمة"

و"كرامة الإنسان تكمن في فكره"

و"الفكر قوة فعالة دونها كل قوة هائلة"

بلاد الفكر موطنها سموقُ

إلى الأعلى بما ملكت تتوقُ

بفكرٍ سارتِ الدنيا لمجدٍ

ودامت في مرابعها تفوقُ

علائم عزها أفكار جيلٍ

يبرهنها بأفعالٍ تروقُ

***

د. صادق السامرائي

 

يبدو أن العلم قد انتصر في المعركة، لكنه خسر الحرب. فبعد قرون من التجريب والتمحيص والمختبرات، ما زال كثير من البشر يثقون أكثر في “بوست” على إنستغرام يحمل صورة فاكهة عضوية أكثر من ثقتهم في مجتمع العلماء. نحن أبناء “العصر الرقمي”، نعم، لكن عقولنا لا تزال تلبس رداء القرون الوسطى. دعونا نراجع، بهدوء ساخر، بعضًا من هذه “الأساطير الحديثة” التي تُصرّ على الحياة رغم إعلان وفاتها مرارًا من قبل المنطق.

1. اللقاحات: مؤامرة شريرة ضد البشرية: في عام 1998، قرر طبيب بريطاني اسمه أندرو ويكفيلد أن يضيف نكهة درامية للطب الحديث. فنشر “دراسة” تربط بين اللقاحات والتوحّد. بعد سنوات، تبيّن أن الرجل زوّر نتائجه، فطُرد من المهنة، واحتفت به صفحات “محاربي الحقيقة” على الإنترنت كشهيد للعقل الحر!

العلم أنكر، والإحصاءات دحضت، لكن الأسطورة ولدت من رحم الفهم الجمعي، وصارت حركة فكرية لها زعماؤها ومؤتمراتها، تمامًا كما للكنائس قساوستها.

2. حمية “التخلص من السموم”: العصير الذي يطهّرك من خطايا البيتزا: يُقال إن كوبًا من عصير السبانخ والزنجبيل قادر على غسل جسدك من “السموم” التي خلفتها سنة كاملة من المشاوي والسكريات. الحقيقة؟ الكبد والكليتان تقومان بهذا العمل منذ ملايين السنين دون أن تطلبا منك عصيرًا أخضر.

لكن الإنسان الحديث يحب أن يشعر بأنه في مهمة بطولية حتى وهو يشرب السبانخ. فيصدق أن “التطهير” في العصير، لا في العقل الذي صدّق.

3. المعالجة المثيلة: حيث تُباع القطرات الفارغة بثمن الذهب: فكرة المعالجة المثيلة بسيطة: خذ شيئًا يسبب المرض، خفّفه حتى يختفي تمامًا، ثم بِعه على أنه دواء. إنها عبقرية التسويق في أنقى صورها.

يقول العلم إن هذه المستحضرات لا تحتوي شيئًا فعالًا. ويقول المؤمنون بها: “نعم، لكنها تشفينا بالإيمان”. بهذا المنطق، يصبح كوب الماء المقدس أعظم من البنسلين.

4. الكيمتريل: الطائرات التي ترشّنا بالسموم لأن الحياة الوردية مملة: بينما تنظر إلى السماء وتتأمل خطوط الطائرات، هناك من يرى فيها “مشروع إبادة جماعي كيميائي”. هؤلاء لا يرضيهم تفسير فيزيائي عن تكاثف بخار الماء، بل يحتاجون إلى مؤامرة ذات طابع سينمائي.

فكر قليلاً: لو كانت الحكومات فعلاً ترش السماء بالكيماويات، فهل كانت ستتركك لتغرد عنها على تويتر؟

5. الأبراج: الفلكيون الجدد في زمن الذكاء الاصطناعي: منذ البابليين وحتى صانعي المحتوى على إنستغرام، لم يتوقف البشر عن ربط حياتهم بحركة المشتري.

“هو لم يتركني لأنني مزعجة… بل لأن القمر كان في برج الجدي!”

لا شيء يفسد منطق القرن الحادي والعشرين مثل عبارة “أنا لا أتناسب مع مواليد برج السرطان”. فالعلم فشل في ربط النجوم بمصيرك، لكن المنجّمين نجحوا في ربط مصيرك ببطاقتك الائتمانية.

ورغم التجارب العلمية التي أثبتت أن نسبة دقة الأبراج لا تتجاوز نسبة التخمين، فإننا نقرأها كل صباح لنشعر أن الكون يفكر بنا، أو على الأقل يتآمر ضدنا.

لا توجد دراسة واحدة أثبتت صحة الأبراج، لكن هناك دراسات كثيرة أثبتت أننا نحب تصديق ما يجعلنا مميزين. العلم يقول: لا علاقة بينك وبين نجم يبعد عنك ملايين السنين الضوئية.

الخيال يقول: “أنا لست متقلباً، أنا برج الجوزاء”.

ربما لا نحب الحقيقة لأنها بلا ألوان، بلا موسيقى خلفية، بلا مؤامرات. العلم صارم، أما الخرافة فحنونة، تربت على كتفك وتقول: “كل شيء يحدث لسبب”. ولعلّ هذا هو سر بقائها…فالعلم يشرح، لكن الخرافة تعزّي.

لقد غزونا الفضاء، لكن لا زلنا نرتجف من لقاح الإنفلونزا. صنعنا الروبوتات، لكن نصدق أن المريخ يتحكم في مزاجنا. يبدو أن المشكلة ليست في التكنولوجيا، بل في البرنامج التشغيلي المسمى “الإنسان”.

ربما نحتاج إلى تحديث عاجل للعقل، نسخة 2.0، تُصلح هذا الخلل الأزلي بين حب المعرفة وعبادة الجهل.

***

محمد إبراهيم الزموري

المجتمعات الحية والمتقدمة هي التي تنقب عن تاريخ أعلامها وشخصياتها المؤثرة لتنفض عنها غبار النسيان وتبعث سيرتها ليتعرف عليها الجيل الجديد فتكون لهم قدوات مؤثرة وفاعلة.. فهؤلاء الأعلام والشخصيات في مختلف المجالات العلمية والفكرية هم منارات هادية تعطي ثراء للمجتمع..

فما هو دورهم في تنمية المنطقة أو الوطن؟

يمكن أن نحصر هذا الدور في أمرين اثنين:

أولا: دورهم في التنمية الثقافية

يقوم هؤلاء الأعلام بدور محوري في التنمية الثقافية وصناعة الوعي من خلال إنجازاتهم العلمية والفكرية التي تنقل إلينا معارف وأفكارا عميقة تساهم في فهم قضايا المجتمع، وتقديم حلول مستنيرة، ونشر الوعي المجتمعي عبر التثقيف ونشر العلم والتوعية

كما أنهم يسهمون في مكافحة الجهل والتحيز من خلال إنتاج محتوى موثوق، ودعم كل ما هو نافع ..

فإنتاج المعرفة: فالكتب التي ألفها هؤلاء الأعلام في مختلف المجالات تساهم في التنمية الثقافية للمنطقة الولاية أو الوطن بأكمله فتحفز الأجيال على الإبداع والإنتاج الفكري ونشر العلم اقتداء بتلك الشخصيات الفاعلة المؤثرة..

الأمر الثاني صناعة الوعي: قد يتساءل المتلقي كيف تصنع هذه الأعلام الوعي في المجتمع؟ فعندما نتأمل سيرة هذه الشخصيات التاريخية وكيف قاومت الظروف الصعبة القاسية واستطاعت أن نترك بصمتها في التاريخ بإنجازاتها العلمية والفكرية فبعث تراثها العلمي والمعرفي والديني يساهم في نشر الوعي لدى الأجيال فتتحصن بثقافة عميقة ضاربة في الجذور فلا يمكن أن تتزعزع شخصيتها أمام الغزو الفكري والثقافي فعندما يقتبس الجيل الجديد من حياة هؤلاء الأعلام كل نافع ومفيد يتسلحون بالوعي وعندما نعرفهم بسيرتهم وندرسها لهم في المناهج التربوية لحظتئذ نصنع فيهم الوعي بكل تجلياته

الوعي الثقافي والاجتماعي والأمني..

لهذا هناك مسؤولية ملقاة على صانعي المناهج والنخب الثقافية فعليهم أن يؤدوا رسالتهم الحضارية ويتشروا تراث الأعلام والشخصيات في كتب سهلة ميسرة تدرس في المدارس وتحول حياتهم إلى أعمال فنية أفلام ومسلسلات حتى رسوم متحركة، لتقتبس منها الأجيال نور العلم والإيمان والتحدي ومواجهة صعاب الحياة بإرادة قوية لا تتزعزع...

لحظتئذ نكون قد نجحنا في الحفاظ على ذاكرتنا من النسيان..

***

الكاتب شدري معمر علي

الجزائر

الرياضة انواع: رياضة كرة القدم، ورياضة الكرة الطائرة، ورياضة كرة السلة، ورياضة ألعاب القوى، ورياضة كمال الأجسام، ورياضة السباحة، ورياضة المشي، ورياضة الجري، ورياضة كرة المضرب، ورياضة التمارين اللياقية، ورياضة ركوب الخيل، ورياضة الرماية، ورياضة الدراجات: الهوائية، والنارية، والمائية. وغيرها من ألوان الرياضات الجماعية، والفردية. وفيها يكتسب الجسم صحةً، ولياقةً، وطاقةً، وقوة، فيصبح قادراً على أداء أنماط حياته بشكل مرن، إضافة إلى كون الرياضة وسيلة ناجعة – بعد الله تعالى - لاتقاء كثير من الأمراض، والأعراض، والأخطار. وكلما حاول الإنسان تدريب جسمه على أصناف مختلفة من الرياضة حقق كثيراً من المتعة، والحيوية، والنشاط ، ويحرصُ كثير من الناس على الرِّياضة؛ لأنها تساعدهم على عيش حياة صحية، وبناء جسم سليم، ، والرياضة تركز على بناء عضلات الجسم كقوة ولكنها اهملت اعضاء اخرى مهمة في جسم الانسان كالعينين، واللسان، والشفتين، والأنف، والأذنين، مع أنها من أهم أعضاء الجسم، بل هي الأعضاء الأكثر دقة، وحساسية؛ لأنها مرتبطة بالذوق، والحس، والإدراك، وقد قال تعالى في سورة البلد: «أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ  وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ  وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ،، فهذه الأعضاء مهمة جداً، ويُغفِل كثير من الناس قيمتها، ومن هنا فإن استشعار هذه النعمة، والاعتناء بوظائفها، أمر في غاية الأهمية، وأظن أن المتخصصين في الطب، وعلوم الأعضاء، يؤكدون على ضرورة وجود رياضة تخصّ تلك الأعضاء

الاديب والكاتب والناقد والمثقف يركزون على مهارة القلم واللسان ، والخطيب يستعمل لسانه في أي شأنٍ تواصلي، عليه أن يمنح لسانه جانباً من التمرن على النطق السليم، والصوت الواضح، ولفت اهل الاختصاص إلى ضرورة تحريك اللسان، وتمرينه، اللسان عضوٌ إذا مرّنته، مَرَن، وإذا أهملته خار، كاليد التي تُخشّنها بالممارسة، والبدن الذي تقوّيه برفع الحجر وما أشبه، والرِّجل إذا عُوِّدَتْ المشي مَشَت». فقد جعل تمرين اللسان، لا يقل عن تمرين سائر الأعضاء، بل يربطه برفع الأثقال، وكثرة المشي، وهنا تكمن المفارقة

في المجتمعات المتقدمة، يعتبرون الرياضة ليست ترفا بل ممارسةٌ يومية تدخل في نسيج الحياة العامة، يتسع تأثيرها من الملاعب إلى المدارس، ومن الشاشات إلى الوعي الجمعي، إنها مرآةٌ لمدى رقيّ الثقافة العامة، فحيثما تزدهر الثقافة الرياضية يزدهر معها الانضباط، والتعاون، والمسؤولية، والاحترام ، كما يعتبرون الرياضة  لغة من لغات الوعي،لأنها تعلمنا كيف نتحرّك دون أن نتصادم، وكيف نتنافس دون أن نتحاسد، وكيف نحيا بروح كبيرة ترى في الملعب صورة مصغّرة للعالم الذي نريد أن نعيش فيه..

ليست الرياضة مجرّد عرقٍ يتصبّب في الميادين، ولا صخبَ مدرجاتٍ يملؤه الهتاف؛ إنها لغة الوعي حين يتحوّل الجسد إلى فكرة، والفكرة إلى سلوكٍ يعكس ما في الإنسان من اتزانٍ ونضج، فكل مجتمعٍ يدرك قيمة الرياضة لا يراها حركةً عضلية فحسب، بل منظومة فكرٍ وثقافةٍ متكاملة تصوغ علاقة الفرد بذاته وبالآخرين، وتعيد تعريف معنى الحياة المتوازنة بين العقل والجسد،، الثقافة الرياضية لم تعد هامشًا من هوامش الوعي، بل أصبحت ركناً أصيلاً في تشكيل الشخصية الاجتماعية، فهي التي تزرع مفاهيم الجهد، والمثابرة، والروح الجماعية، وتعيد صياغة السلوك العام بمنطقٍ حضاري يجعل من الفرد كائناً أكثر وعياً بنفسه وبمجتمعه.

إنها ثقافة تعيد تعريف القيم، وتحوّل الممارسة إلى مرآةٍ للأخلاق، فكل تمرينٍ رياضي هو درسٌ في الصبر والانضباط، وكل مباراة هي مختبرٌ عملي للقيم الإنسانية من شجاعةٍ وعدلٍ وتعاونٍ واحترامٍ للخصم قبل الصديق، ومن هنا فإن الرياضة لا تعلّم الجسد فحسب، بل تهذّب الروح وتربّي الضمير، الجهل بالرياضة وجهٌ من أوجه الفقر الثقافي، فإن نشر الثقافة الرياضية يصبح مسؤولية جماعية تتقاطع فيها أدوار المدرسة والإعلام والنوادي والمؤسسات، المدرسة مثلاً ليست ملعباً بدنيًّا فحسب، بل ينبغي أن تكون منبراً للفكر الرياضي، تُعلِّم النظري قبل العملي، وتغرس مفاهيم الصحة والمسؤولية، وتربط بين الرياضة والعلم، فلا تبقى مكونات وبناءات الرياضة مجرّد درسٍ عابر، بل فلسفة تربوية شاملة

الأكاديميون وخريجو كليات التربية الرياضية، فدورهم لا يقف عند حدود التدريب أو التعليم، بل يمتد إلى الوعي الاجتماعي، عبر نشر الفكر الرياضي في فضاءات المجتمع كافة، فهم حملة رسالة ثقافية تتجاوز الأجساد إلى العقول، وتحوّل الرياضة من نشاطٍ فردي إلى وعيٍ جماعيٍّ مستنير، ونشر  الوعي الرياضي يخلصنا من التوتر وضغوط الحياة بأسلوبٍ صحيّ، فالثقافة الرياضية لا تصنع أجساداً قوية فقط، بل تصنع عقولاً متّقدة وضمائرَ حية تدرك أن الحركة حياة، وأن السكون موتٌ بطيء.

***

نهاد الحديثي

غنّتْ على المجوز والطبلة والطبل والرباب والعود والناي والشبّابة أو المنجيرة أغنيةً ذاعت في أربع أرجاء المعمورة وسُرَّ أو فرِحَ أو إنطربَ بها الملك والأمير والشيخ والفتى الصغير والطفل الرضيع المقمّط بالسرير. وحكايةُ هذه الأغنية أنّ أحدَهم عشق إحداهنّ عشقاً أين منه عشق قيس لليلى أو عشق جميل لبثينة أو عشق كُثير لعزّة أو عشق عنترة لعبلة أو عشق سلفادور دالي لغالا أو عشق شاه جهان لممتاز محلّ أو عشق روميو لجوليات، وإذا الآباء العذريّون صرّحوا بما يتلاطم في أرواحهم وقلوبهم وصدورهم فإنّ صاحبنا آثرَ الكتمان، وما إنقضتْ أشهر قليلة حتى غلبَ عليه ما هو فيه مِنِ إنحباسٍ وتيه وصارَ عقلُه يلعب به وعيناه تغشّانه، ومثالاً رأى في مرّة طاولة صغيرة ظنّها مأدبة لفرد واحد، جرى إليها لكي يمسك منها بنيانه، وهو قريب رآها لا تعدو أن تكون ذات حبيبته وقد إنحنتْ بوضعيّةٍ رياضيّة تلامس كفّاها الأرض، أصابَه ذعر أنّ يكون قد فكّر بإلتهامها، قالَ لروحه المذعورة وهو يُدبِر: "وإحسبيني يا روحي غولاً، هل سمعتِ يوماً أنّ غولاً أكلَ غولتَه"؟. وفي مرّة إستبدّ به العطش، ورأى جرن ماء طافحاً إلى جمامه يتلألأ في عين الشمس، ركض إليه وفي نيّته أن يفرغه في جوفه، ورأى، وهو عند  الجرن، وجهها الذي لم يكن غير وجهه منعكساً في الماء، إندهش فيما هي  مندهشة، ظنّ أنّها تستحم وغطست خجِلةً، فرّ مبتعداً أن تكون قد ظنّت به الظنون مثل أن يكون مصاباً بداء البصبصة. 

وعلى هذا النحو طولاً وعرضاً حتى أصابَه نحولٌ مهول، وحتى برزتْ عظامُه كأنّه  مصاب بداء النحافة _ أنيروكسيا. ونهضتْ له روحُه وهي تكاد مثله تلفظ  أنفاسَها الأخيرة وقالت: "يا نور عينيّ، ما ذنبي أنا لأنفقَ إذا أنت تريد أن تنفق؟، وإذا أنت تريد أن تنفق إلى أين من بعدك سأذهب وماذا سيحلّ بي؟، لماذا لا تطلعها  على ما فيك؟، فإذا قبلتْ قلْ  بلغتَ مرادَك وإذا رفضتْ قلْ كما قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي: "سلام عليها ما أحبّت سلامنا، فإن كرهته فالسلام على أخرى"!. قاطعَها لكي تكفّ عن هذه الثرثرة بكلّ ما أوتي من حياة بعدُ فيه وقال: "لا أظنُّكِ تعتقدين أن الشمسَ هي من إختراعك، ماذا لو صارحتُها وهي صدّتني؟، ماذا إذا روّجت، ولو مِنْ باب التباهي، أنّها حبّوبة، محبوبة، مرغوبة ومطلوبة، أو مِنْ باب المراسلة المُشفَّرة لكي يعلم آخَر هي تحبّه أنّ حديدان ليس وحده في الميدان، ولكي يفوز بها عليه أن يُسرِع إليها؟، أو مِنْ بابِ الكلام بكلام وبلغ عاذلاً إستغلّها فرصة للتشويش والتعريض بي وإستعجل مِنْ حقلٍ إلى حقل ومن بيدر إلى بيدر ومن معلف إلى معلف ومن إسطبل إلى إسطبل متقوّلاً إنّها أنكرتْني لأنّي أشهق وأزفر عوض أن أزفر وأشهق أو لأنّ ذيلي  عصعوص _ عصاص _ عصّ _ لا نبريش ماء وإنّ يديَّ وقدميَّ حزوز جبنة "لافاش كي ري" - البقرة الضاحكة - وليستا حوافر أو صخوراً؟، وبأسرع مِمَّا تلتهمُ النارُ في الهشيم سأغدو على كلِّ شفة ولسان، وستقولُ العجائز: "ويله، مَن غشّنا ليس منّا"، وسيتبعني الأولاد في الأزقّة قارعين على التنك وصائحين: "الجاسوسْ أَهُوْ أَهُوْ، الجاسوسْ أَهُوْ أَهُوْ"، وإذّاك، يا روحي، كم سألعنكِ، وكم سألعن الداية التي سحبتْ رأسي، وسأتمنّى من أعمق أعماق قلبي لو تظهر الضبع أمّ عامر وتزلطْني مثلما يتمنّى المنفيّون عن أهلهم وأحبّتهم وأوطانهم لو تنشقّ الارض وتبتلع القومَ الظالمين". 

وفيما روحُه تتّهمه بالجنون وهو يتّهمها بالحمرنة وهي ترجوه أن يكفّ عن جنونه وهو يقطّب لها جبينَه إستنكاراً لعقلها الذي لا عقل فيه، أو فيما هي تكاد تفرّ منه وهو يكاد يفرّ منها وإذْ محبوبته مُقبِلة على "الدقّه ونصّ" كأنّها ترقص وتحاذيه مُضيّقةً عليه، ويلمسُ بطنُها العامرُ بطنَه الضامرَ، وتقف تحت أنفه، ويفرك عينيه ويتشمّم عطرها ويقول لذاته: "هذه هي محبوبتي سالبة عقلي ولبّي بجسمِها المنطاد وذراعيها وساقيها الخيطان ويديها وقدميها الكَشَاتْبين"، ويضيف لروحه: "أنظري، إنّها تموت بتلابيبي"!. وعوض أن يناغيها سرعان ما يجافيها ويتأخّر عنها. قالت له روحه وقد أخذتها المفاجأة: "ماذا دهاك؟، إنّها أمامك على طبق من فضّة أو ذهب"!. وأشارَ أن تكفّ عن السخف وقال إنّه سيلفّ وسيدور، وهل حضارة الإنسان إلاّ من اللفّ والدوران؟، وإنّه سيسأل أهلَه أن يسألوا أهلَها بعد لفٍّ ودوران، وسيقولون وهم يلفّون ويدورون إنّ إبنهم ولا مثله بالعمل مِنَ الفجر إلى النجر  ويحمل على ظهرِه ما ينوء به جمل، وأهلُها سيلفّون وسيدورون وسيقولون إنّ إبنتهم آية، وقولوا لها: "حااااا" وستمشي، وقولوا لها: "هشششششْ" وستقف، وسيعطوني، وسيباركون لي، وستكون أفراح وليالٍ ملاح، وسيدكّ الخلاّنُ الأرضَ بأقدامهم، وسيلوِّحون بمحارمِهم، ولسانُ حالهم يقول وأعمار الكرام تطول: "نحن هنا وسنظلّ هنا"، وسأطلب ألاّ تكون فرقعة أو كركعة لئلا تتأذّى فراشة أو بعوضة، أنا أريد فرَحاً لا ترَحاً، وسيلبّون جميع طلباتي".

وعلى هذا النحو أيضاً كانت روحُه تسمع وترى وتلطم وتولول حتى مِنْ لا مكان برز جحشٌ إسمه جحشان مقبلاً عدواً على خمس سيقان وعيناه على فاتنة الألباب التي كانت في ذهاب وإياب إنتظاراً لحمار الحمير حتى يَفرغ مِنْ حوارِ الطرشان مع روحه. وقفز جحشان، وزقزقَ عصفور، وفاضت القدور، وإستيقظَ نائمٌ من بين النيام متوعّدَاً البرَّ بمزيدٍ مِنَ البعر والزفيرِ والشهيق بعد تسعة أشهر بالتمام والكمال.

وعصرَ يومٍ تصادفا عند بعضِ الماء، قالَ لجحشان بصوت قرضته الجراذين والفئران: "يا حمار الحمير، أنا أخوك وأنت أخي، بأي شريعة تغدر بي؟، كيف طاوعَك ضميرُك، لا صبر بي بعدُ، إعطني خنجراً مسموماً أريد أن أنتحر.. وعلى الدنيا العفا والسلام"!.

وسمعَ رعاةٌ وتسامروا بما سمعوا في العشيّات، ونقل عنهم ركبانٌ الى أبعدِ البلدان، وقامَ شاعرٌ نظّام وشالَ وحطَّ وأنقص وأضاف وحملَ ما صنع إلى ملحِّن عملَ ما عمله، ومعاً إستعرضا مطربين ومطربات ومغنّين ومغنّيات ومؤدّين ومؤدّيات، وصار عقْدٌ مع غنّوجةٍ من الغنّوجات الفرعونية العينين، التفاحيّة الخدّين، العبليّة الزندين، التي صنعتْ فيديو كليب، غنّت وتشخلعتْ وعملتْ حركات سويديّة، وحقّقَ الفيديو نجاحاً، وأكثر من أُعجب به قادة ورؤساء وملوك وقياصرة وأكاسرة قصّوا الألسن، صلموا الآذان، جدعوا الأنوف، سملوا العيون، قطعوا الأيدي والأرجل مِنْ خلاف، وأُمهِلوا ولكنْ لم يُهمَلوا قطّ.   

***

شوقي مسلماني

الزمن والوعي: الطريق إلى الحكمة

يمر الإنسان عبر مراحل عمرية تتغير فيها خبراته ورؤاه، ليس فقط في الجسد، بل في وعيه العميق للذات والعالم، ومع مرور الزمن، تتبدل المواقف وتتعمق الإدراكات، ويصبح فهم الحياة أكثر شمولية، فهنا يظهر الدور الفلسفي للوعي بالتغيير المرتبط بالعمر، كطريق مباشر نحو اكتساب الحكمة.

أولًا: الوعي بالعمر.. حين نكبر في الداخل لا في السنوات

ليس التقدّم في العمر مجرّد حركة زمنية ميكانيكية، بل هو تحوّل في الوعي، يُعيد تشكيل نظرتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا. فالإنسان، منذ بداياته الأولى، يعيش بين صورتين: ما يظنه عن ذاته، وما تكشفه له الأيام عن تلك الذات. وكلما اتسعت المسافة بينهما، ازداد الوعي عمقًا. هنا يبدأ ما يمكن تسميته الوعي بالتغيير المرتبط بالعمر، وهو وعيٌ يفتح أبواب الحكمة لمن يمتلك شجاعة النظر في مرآة الزمن دون خوف.

قال سقراط: «اعرف نفسك»، وكأنّه كان يدعونا إلى إدراك أن معرفة الذات لا تحدث دفعة واحدة، بل تنمو معنا كما ينمو الجسد. فكل مرحلة عمرية تكشف وجهًا جديدًا من وعينا، وتعلّمنا كيف نفهم ما تغيّر فينا لا لايعده فقدًا، بل اكتسابًا لفهمٍ أعمق. أما أرسطو فكان يرى أن الحكمة هي «العلم بالأسباب الأولى»، أي إدراك ما وراء الظواهر من علل وغايات. ومع مرور الزمن، يكتسب الإنسان هذا المنظور الهادئ للأشياء، فلا يتعامل مع الأحداث كوقائع معزولة، بل كجزء من نسق أوسع للحياة والمعنى.

ويضيف هيغل بُعدًا جدليًا لهذا الفهم حين يقول إن الوعي يتطوّر عبر التناقضات. فالإنسان، كلما واجه صراعًا بين ما كان عليه وما أصبحه، نما وعيه، وتحوّل التناقض في داخله إلى طاقة فهم. أما شوبنهاور فيقدّم وجهًا أكثر تأمّلًا، إذ يرى أن الشيخوخة لا تمنحنا الحكمة تلقائيًا، لكنها تُهدّئ فينا انفعالات الشباب، وتجعلنا أكثر تسامحًا مع ضعفنا وضعف الآخرين، فيتجلّى فينا نوع من الرحمة الوجودية التي تشبه النضج الروحي.

أما نيتشه، فيقف عند الضد تمامًا، مؤكدًا أن الوعي بالتغيير لا يجب أن يقود إلى الاستسلام، بل إلى تجاوز الذات، لأن كل مرحلة من العمر ينبغي أن تكون انبعاثًا جديدًا للروح، لا انطفاءً لها. وهكذا، فإن من يعي تغيّره لا يذوي، بل يتجدّد، بمعنى انه رأى ان الألم والتأمل يصنعان فينا القوة والحكمة.

ثانيًا: من الوعي إلى الحكمة.. الزمن مرآة الداخل

الحكمة لا تولد من كثرة السنين بل من الوعي بما تصنعه السنين فينا. فالعمر كما يقول الفيلسوف الفرنسي مونتين، لا يعلّمنا شيئًا ما لم نتأمّل ما يحدث فينا أثناء مروره. إن من يعيش عمره بغير وعي يكرّر أخطاءه، ومن يتأمّلها بصدقٍ يتعلّم كيف يحوّل التجربة إلى بصيرة.

الوعي بالتغيير هو إذًا عملية فهم للذات في حركتها، والاعتراف بأننا لسنا الكائن نفسه في كل لحظة. وكلما زاد إدراكنا لذلك، اقتربنا من جوهر الحكمة: التصالح مع الزوال، دون أن نفقد الشغف بالوجود.

الخاتمة: الحكمة ثمرة الوعي لا السنين

ليس العمر ما يجعل الإنسان حكيمًا بل ما يفعله بوعيه أثناء مروره في الزمن. فالحكمة لا تسكن في عدد الأيام بل في نوع التجربة، ولا تُقاس بطول الحياة بل بعمقها. إن من يعي تغيّره لا يخشى الشيخوخة، بل يراها مرحلة صفاء، يتبدّى فيها المعنى الأصدق للوجود. فحين نفهم أن الزمن لا يسلبنا، بل يُعيدنا إلى جوهرنا، ندرك أن الوعي بالتغيير هو أرقى أشكال الحكمة، وأن النضج الحقيقي هو أن نكبر في فهمنا، لا في أعمارنا.

***

ندى صباح اسدالله

 

كثيرا ماكنت أقف حائرة، أشعر باغتراب موحش، تتضارب في أعماقي أسئلة حيرى، قد أكون أنا المخطئة فانكفأ على نفسي، أحاول البحث عن إجابات تنقذني من هذا التيه..

عالم متسارع، التغيرات التي عاصرناها تتجاوز حدود إدراكنا أحيانا، كل ما حولنا يتغير بسرعة مفرطة، لا أنكر دهشتي وإعجابي كثيرا أمام هذه التطورات العلمية، والتحولات التكنولوجية، فنحن أمام نتائج الذكاء الصناعي بما فيها من إيجابيات وسلبيات نبهر مذعنين كمعاجز موسى وعيسى..

هذه العالم الذي أخذنا معه فبتنا أبناء الصورة رضينا أم أبينا ثقافتنا تشكلها الصورة أكثر من الكلمة، وسائل التواصل والعالم الافتراضي بات يتحكم برؤانا وعلاقاتنا وأسرنا والأهم قيمنا وأخلاقنا، فما عدنا نعرف هل نحن حقيقة ذات وجود ومعنى، أم دمى في عالم تاهت فيه المعالم.

لا شيء ثابت، وكل ما في هذه الحياة ينمو ويتغير، حقيقة إن لم ندركها ونستوعب معطياتها، قد نقذف خارج التاريخ.

هل هذا يعني أن القيم والأخلاق تتغير، قد تتغير مصاديقها، ما كان جرأة قد يكون شجاعة، وما كان حياء قد يبدو ضعفا، لست ضد تغير المصاديق من حيث الزمان والمكان، ولكن السؤال الذي أقف أمامه حائرة :

حين أكون بمجلس وتدخل كبيرة بالسن فاجدني أتقزم وأنا بنت الخمسين، لعدم أفساحي لها المكان، وأنظر حولي لأجد بنات العشرين والثلاثين يتوسطن الأماكن المريحة دون أن يهتز لها جفن؟!

وفي الشارع والسوق كثيرا يستوقفني المنظر الأم تحمل شنطة أغراضها سواء كانت ثقيلة أم خفيفة وابنتها بجانبها تمشي بكامل أناقتها تأبى حمل ما يعكر برستيجها؟؟!!

كيف كنا نخجل من النوم في فراش وثير وهناك من تكبرنا سنا تنام على الأقل؟!

نسارع لحمل ما يثقل كاهل الكبير حتى وأن لم نعرفه، والآن المساعدة تحسب بالميزان، وما خلف الشاشة لا يعبر أبدا عما تظهره؟!

قد نكون نحن جيل التضحيات على خطأ حين تنازلنا عن كل ما يسعدنا، راحتنا لأجل الآخرين تحت مسميات عدة، ولكن أنا ومن ورائي الطوفان لغة الحاضر إلى أين ستأخدنا؟!!

قد نكون على خطأ حين أعطينا الآخرين أولوية على حساب أنفسنا، وتحملنا عقد الأهل وأمراضهم، والعادات والتقاليد فحملنا أمراضهم معنا ونسينا أنفسنا، دون أن نتشفى؟!

هل تضخمت الأنا بتضخم الآلة أم أم أنها فتحت أعينهم مالم نكن نبصر؟!

ولكن ما أراه الآن أقف عاجزة عن تحليله؟!

هل تقييمنا للآخر بما يلبس من ماركات وأنا لست ضدها، ولأنفسنا بمقدار تناسق مظهرنا وجمالها، ولست ممن يقلل أهمية ذلك، ولكن؟

حين أقف أمام المرأة كيف أجد نفسي؟

هل هناك معنى أعمق من المظهر؟!

هل توقير الكبار وأحترام الآخر، ومد يد المساعدة لمن يحتاج، ودفع الأذى عن الآخر و حق الطريق وووو.. كيف نوزنها الآن وبأي ميزان؟؟!!

لست بصدد مدح جيل وذم آخر، ولا بتسليط الضوء على سلبيات نعاني منها بل تساؤلات حيرى تبحث عمن يتعمق فيها.

***

منى الصالح

هناك لحظات، لا تطرق الباب ولا تستأذن، تشعر فيها بأن كل شيء حولك يتحرك بإيقاع لا يشبهك. الناس يتحدثون، يضحكون، يخططون لغدٍ يبدو ثابتًا في أذهانهم، بينما أنت تشعر وكأنك تقف خلف زجاج لا يكسره أحد. تراقب، وتهزّ رأسك كأنك تفهم، لكن شيئًا داخلك لا يشاركهم هذا العالم بالكامل.

الغربة ليست سفرًا، وليست مدينة جديدة، ولا حتى ابتعادًا عن بيت تعرف زواياه. إنها شيء أكثر خفاءً.. شيء يتسلل إلى الروح في اللحظة التي تدرك فيها أن العالم لا يشبهك كما كنت تتخيل. وكأنك تبحث عن ملامحك في مرايا كثيرة، لكنك لا تجد إلا أطيافًا لا تطابق وجهك.

أحيانًا تأتي الغربة كحزن هادئ، وأحيانًا تأتي كحنين لا تعرف مصدره. حنين لشيء لم تعشه أصلًا. وكأن الروح تعرف طريقًا كانت تمشيه قبل أن تولد، ثم ضلّت عنه. ولهذا يبدو كل شيء جديدًا وسطحيًا، وكل لقاء مؤقتًا، وكل تعلق هشًّا. الغربة ليست نقصًا.. بل شعور زائد عن الحاجة.

في القرآن لم يكن العالم موطنًا دائمًا للإنسان؛ كان دائمًا “متاعًا”، محطة لا إقامة. وربما لهذا نشعر بهذا الثقل الداخلي؛ لأن أرواحنا تتعامل مع الدنيا كأنها مكان مؤقت، بينما نحاول نحن أن نعيشها كأنها وطن ثابت. هناك تعارض خفي بين طبيعة الروح وطبيعة العالم، بين ما نحتاجه وما يُقدّم لنا. ولذلك تبدو الأيام أحيانًا كأنها تُعاش على الهامش، بلا انتماء كامل.

الغريب الحقيقي ليس من ابتعد عن أرضه، بل من فقد اتفاقه الداخلي مع الحياة. من يشعر أن هناك معنى ما يفلت منه، رغم كل المحاولات لإمساكه. الغريب هو الذي يجلس في مكان مزدحم ويشعر بالفراغ. الذي يضحك صدقًا، لكنه يعود إلى صمته كأنه يعود إلى بيته الأصلي.

وربما.. ربما تكون الغربة هي أوضح دليل على أن الروح أكبر من هذا المكان. أنها تتذكر شيئًا لا نتذكره نحن، وتحنّ لشيء لا يمكن أن نسمّيه. وهذا الحنين ذاته هو ما يجعلنا نسعى ونفكر ونكتب ونتأمل. لولا هذا الشرخ الخفيف داخل الروح، لما بحث الإنسان عن المعنى أصلًا.

الغربة ليست لعنة، رغم قسوتها. إنها البوصلة التي تشير إلى أن القلب لا يزال يقظًا، وأن الروح لم تستسلم بعد لبلادة العيش. وكلما أحسّ الإنسان بهذا الثقل الداخلي، فهم أكثر أنه لم يُخلق ليستقر هنا. وكأن الغربة تذكير خافت بأن الطريق الحقيقي ليس خلفنا ولا أمامنا.. بل فوقنا.

في النهاية، لا أحد ينجو تمامًا من الغربة. لكن يمكن للمرء أن يتصالح معها، أن يعاملها كظلّ ثابت لا كوحش مطارد. أن يفهم أن الشعور بعدم الانتماء ليس دائمًا علامة ضعف، بل قد يكون أرقى درجات الوعي. فمن رأى هشاشة العالم، لا بد أن يشعر أنه أكبر قليلًا من مقاس المكان.

***

بقلم الكاتب مازن جراي

أدب العرب شعر ونثر (سجع ومرسل)، وفي الشعر تألقت الكتابة وفقا للبحور التي إكتشفها الفراهيدي، والنثر طغى في الخطابة والمراسلات، وما أكثر النثر المرسل بالكتب والمدونات، والمرسل كتابة حرة غير مقيدة بقافية أو وزن، والسجع أن تتشابه نهايات العبارات.

ومن المجددين في الكتابة عبد الحميد الكاتب (60 - 132) هجري، الذي لازم آخر خليفة أموي وما خانه، وتم قتله من قبل العباسيين.

والتجديد في الكتابة بأنواعها محاولات منذ أزمان بعيدة، وفي الشعر ظهر العديد من الشعراء المجددين كأبي تمام، وبشار بن برد، والمعري، وأبي نؤاس، وشعراء الأندلس، وغيرهم.

وفي النثر ومنذ عصر ما قبل الإسلام ومسيرات التفاعل الإبداعي المتواكبة مع عصورها في إزدهار وتألق.

وتواصل التجديد وفقا لمعطيات الزمان والمكان، وسيستمر في التوالد الإبداعي المفيد.

والكتابة بصنوفها المتنوعة لها توصيفاتها وضوابطها وأشكالها، ولا يصح الخلط بينها، والتجني عليها، بحشر ما لا يمت بصلة لجوهرها فيها.

فالشعر شعر والنثر نثر ولا يجوز الخلط بينهما، فلكل أصوله وضوابطه وقواعده، كما إعتادت عليها الذائقة العربية منذ أقدم العصور، فكيف يصح في الأفهام الخلط المناهض للذوق والطبيعة السليمة؟

والأواني تنضح بما فيها، ولا تنضح بما في وعاء غيرها، وما يحصل في واقعنا أننا نتوهم بأن ما تنضحه أوعية الآخرين، يمكننا أن ننضحه من أوعيتنا، وهذا يتنافى مع طبائع الأمور وبديهيات الحياة ومنطلقات الدوران، فلكل مقام مقال، ولكل حالة ملامحها ومميزاتها المعبرة عنها، ولا يجوز الخلط والتفاعل الإفتراضي المتصور ما بين الحالات.

من يريد أن يعرف لماذ يكتب اليابانيون الهايكو عليه أن يعيش معهم ويتفهم لغتهم وأساليب حياتهم وآليات تفاعلاتهم، وكذلك الذي يكتب على النهج الغربي وغيره.

إن الشعر العربي له خصائصه ومواصفاته الراسخة المتوارثة المتوافقة مع نبضات النفوس لأبناء الأمة، ولهذا فأن المنتشر في وسائل التواصل هو الشعر المتعارف عليه عبر الأجيال، ومن النادر أن تجد نصوصا أو مقاطع مما يسمى بالشعر الحر، حتى لأبرز شعرائه.

هناك من كتب (الشعر المر) لسنوات طويلة، وعندما حوّل نصوصه إلى مقالات لم يقل أحد عنها بأنها شعر، بل نثر كأي نثر جميل.

ذلك واقع علينا وعيه لننجب الأصيل!!

الشعر طاقة إبداعية تنتشل المجتمع مما هم فيه وعليه، وتأخذهم إلى آفاق التواصل مع عصرهم، ولا يجوز أن يكون إنتكاسيا مهرولا وراء الآخرين.

بإبهامٍ وترميزٍ كتبنا

لخالية وخابيةٍ مَشينا

حسبنا الشعر تنضيدا وثردا

وهرولةً وإبداعا حزينا

مضينا في مجاراةٍ لغيرٍ

فضاع عطاؤنا وغدى هَجينا

***

د. صادق السامرائي

‏ كشفت صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية مؤخرًا أن الولايات المتحدة تنوي فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي أثار قلق المحكمة وموظفيها، علمّا بأن بنيتها التحتية ترتبط تقنيّا بالمورّدين الأمريكيين.

 ولعلّ أحد الأسباب الأساسية هو أن المحكمة تجرأت في تشرين الثاني / نوفمبر 2024 على إصدار مذكرتي اعتقال بحق بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت لشنّ إسرائيل حرب إبادة على غزة وبقية الأراضي الفلسطينية.

فمنذ أن تولّى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سدّة الرئاسة، وهو يعلن جهارًا نهارًا أنه لا يتورّع عن فرض عقوبات على كل من يعارض الولايات المتحدة، وتلك إحدى تجليات السياسة الراهنة التي اتبعتها واشنطن لفرض نهجها وحليفتها إسرائيل على العالم. وتستمرّ سياسة ترامب وديبلوماسيته الدولية بالتقليل من شأن الأمم المتحدة وبقية المنظمات الدولية، وقد قامت بحرمانها من جزء غير قليل من الدعم المالي، وذلك بهدف فرض الهيمنة الكليّة عليها وتهميشها، بحيث تصبح سياستها نسخة أخرى من سياسات واشنطن، والأمر يشمل المحكمة الجنائية الدولية، حتى قبل حرب الإبادة على غزة، لكي يفلت المرتكبون من العقاب، الأمر الذي يستبعد مساءلة الجنود الأمريكيين المتهمين بارتكاب جرائم ترقى إلى جرائم حرب، وكذلك إرتكابات إسرائيل المتكرّرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وما يزيد قلق المحكمة الجنائية الدولية هو توقّعها قيام واشنطن بقطع خدماتها التقنية والمصرفية، ولذلك فهي تسعى لإيجاد بدائل عنها، بما فيها تأمين رواتب الموظفين حتى نهاية العام الجاري. الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات في وقت سابق على أفراد (قضاة ومدّعون)، وهي اليوم تدرس إمكانية فرض عقوبات على المحكمة برمّتها.

وكانت واشنطن في 13 شباط / فبراير 2025 قد فرضت عقوبات على المدّعي العام للمحكمة كريم خان بعد أيام من توقيع الرئيس ترامب أمرًا تنفيذيًا يقضي بمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية لإصدارها مذكّرة اعتقال بحق نتانياهو وغالانت.

‏وبالطبع هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها واشنطن المحكمة الجنائية الدولية، التي تأسست في روما وأُبرم ميثاقها فيها العام 1998، فقد ناصبتها العداء منذ قيامها، ودعت الدول إلى عدم الانضمام إليها، وقبل انتهاء المدة المحدّدة للانضمام العام 2000، انضّمت إليها قبل دقائق من إغلاق باب الانضمام لتصبح دولة مؤِّسسة، وتبعتها إسرائيل، لوضع عراقيل وألغام في ميثاقها، وخصوصًا الامتناع عن مساءلة جنودها عن ارتكابات محتملة يمكن أن تقوم بها، مستبعدةً اعتبار الاستيطان جريمة دولية، وكذلك جريمة شن الحرب والعدوان، وحين اكتمل توقيع وتصديق 60 دولةً عضوةً على المعاهدة، كما تقتضي مدوّنتها، انسحبت منها الولايات المتحدة في اليوم التالي وتبعتها إسرائيل، وذلك حين دخلت حيز النفاذ في 1 تموز / يوليو 2002.

‏كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على المدّعية العامة السابقة في المحكمة الجنائية الدولية السيدة فاتو بنسودا التي أعربت عن نيتها في إجراء تحقيق بخصوص جرائم الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة على أفغانستان، والتي تشير إلى تورّط جنود أمريكيين، كما فرضت عقوبات على أحد القضاة في مكتبها.

‏ومنذ اليوم الأول للمناقشات بشأن ميثاق روما، حاولت واشنطن وضع العصي في عجلة المحكمة، مستفزّة دولّا مثل إيطاليا وفرنسا والعديد من الدول الأوروبية المتحمسة لإنشاء المحكمة وإبرام ميثاقها، ومن جملة اعتراضات واشنطن على الميثاق اعتباره مليء بالعيوب، وينبغي أن تخضع المحكمة لمجلس الأمن الدولي الذي تمتلك فيه "حق الفيتو".

وكان الكونغرس قد دعا إلى إقرار قانون أطلق عليه "قانون حماية أعضاء الخدمة الأمريكية"، وهو ما عُرف بقانون الضد من قانون لاهاي، واعتبر الكونغرس ميثاق المحكمة يمثّل خطرًا ليس على الولايات المتحدة فحسب، بل على الرئيس الأمريكي، وكان هذا الأخير قد أكّد أن أي حالة اعتقال أو احتجاز من جانب المحكمة الجنائية الدولية لأي من الأشخاص الذين تشملهم الحماية الأمريكية، فيحق للرئيس الأمريكي استخدام جميع الوسائل الضرورية المناسبة لإطلاق سراح المعتقل أو المحتجز، سواء لدى المحكمة الجنائية الدولية أو من ينوب عنها، ومثل هذه النصوص عادة ما تدخلها الولايات المتحدة في الاتفاقيات الدولية التي توقّعها مع الدول لاستثناء الجنود الأمريكيين من المساءلة، وهو ما ورد في المعاهدة العراقية – الأمريكية، التي تم التوقيع عليها في العام 2008.

وإذا كانت وظيفة القضاء تحقيق العدالة ومساءلة المذنبين أو المخالفين للقواعد القانونية، فإن واشنطن وضعت نفسها فوق القضاء الدولي، وهي التي قامت بمعاقبته، لأنه أراد تحقيق العدالة، وإن بحدّها الأدنى.

***

عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي

لو قُيِّضَ للأنهار كتابة يومياتها، لكان دجلة أكثرها أحداثاً، فكم حضارة، سادت ثم بادت، نشأت على شاطئيه، وغمرها ماؤه، مِن أول جريانه وحتَّى جفافه، هكذا تناقلت الأخبار، أنَّ المنبع حُجب بالسُّدود العملاقة حجباً مُحكماً، مع أنَّ العدالة في المياه مِن حقّ الدول المتشاطئة، بينما جريانه داخل العِراق (1400كم) مِن (نحو 1800كم)، فماذا يحدث بجفافه، سيكون وادٍ «غير ذي زرع»، يُبحث فيه عن الماء. حسناً فعل مَن سبق الحدث وصنّف لتاريخ دجلة «فيضانات بغداد»، قصّ فيه أحمد سوسة قصة النَّهر العملاق، الذي كان مِن أربعة ذُكرت في «الكتاب المقدس»(حداقل).

مَنْ لم يوظف الكناية: «إذا حضر الماء بطل التيمم»! في الإشارة إلى المفاضلة بين شيئين أو شخصين، ولا أظن أنَّ أهل العراق أكثروا من توظيف الكناية، مثلما لا أظن أن لجأ أهل الأهوار والمجاورين للشطّ والنهرين والزابين إلى أداء صلاة الاستسقاء لزرعهم وضرعهم! إلا أن المصيبة لم نسمع بدولة تحولت مياهها إلى تراب، ونباتها الطري شوكاً وعاقولاً، ونسيمها بريح السموم، مثلما حصل لدلتا النهرين الأهوار، وعيون الماء في الجبال!

وهناك ما يُشبع الفضول في ربط العراق بالماء، حيث أقام، ونما على أرضه الصابئة المندائيون، ومعلوم أن عبادتهم تعتمد ماء الأنهر الحي. ومثالاً على شهرة هذه البلاد بالماء يُروى أن أحدهم سأل النبي محمد(ص)، وهو يتجّه مع رجل من أصحابه إلى موضع بدر (رمضان 2 من الهجرة)، بلا سابق معرفة: «ممَنْ أنتما؟ فقال رسول الله (ص): نحن من ماء! ثم انصرف عنه. قال: يقول الشيخ: ما من ماءٍ؟ أمِنْ ماء العراق!» (الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك). وفي اقتران العراق بالماء قال الشاعر: «ارفق بعبدك إنّ فيه فهامةً/ جبليةً ولك العراق وماؤها».

هذا، والحديث حول ماء العراق ذو شجون، فإن تحدثنا عن دجلة وروافدها، والزابين، والفرات، لأشار البردي والقصب بأطرافهما، وليس لنا إهمال ما أورده عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255ه) في أهوار جنوب العراق، حيث دلتا دجلة والفرات، من كلام موجز وبليغ.

قال: «لو اجتهد أعلم الناس، وأنطق الناس أن يجمع في كتاب واحد منافع هذه البطيحة، وهذه الأجمة لما قدر عليها. قال زيد: قصبة خير من نخلة. وبحق أقول: لقد جهدت جهدي أن أجمع منافع القصب ومرافقه وأجناسه، وجميع تصرفه وما يجيء منه فما قدرت عليه حتى قطعته، وإنما معترف بالعجز مستسلم له» (كتاب البلدان).

وهذا بشار بن بُرد قال في صفاء ماء الرافدين رداً على الكوفيين، وهو ينساب إلى البصرة عبر البطائح (الأهوار): «الرافدان توافى ماء بحرهما/ إلى الأبلة شرباً غير محضور».

عندما يجفُّ دجلة لا يجفُّ ماؤه فقط، تجفُّ ثقافة وأدب، ويهاجر البشر، فقد بنوا مدنهم على الماء، سيرحل الصَّيادون، وينعدم الغذاء، الذي كان يهبُه ماؤه، من أسماك وطيور وزروع، ستتصل كرخ بغداد برصافتها بلا جسور، وما بنيت بغداد ومُصرت عاصمة إلا بوجود دجلة، سيمتد أذى الجفاف إلى العراق كافة، وستتأثر البحار التي تُغذيه بالماء.

ستتأثر الأمطار، فلم تنشأ السُّحب منه، وتشتد عواصف الأغبرة. إنَّ جفاف دجلة أكثر خراباً مِما تتركه الحروب، باجتياح أو غزو، لأنه يقضي على واحد مِن أهم وأخطر أسباب الحياة، وكم مِن غزو شهدتها بغداد، وأحالتها خراباً، ويُعاد إعمارها بماء نهرها.

يُفهم مما تقدَّم أن العراق مقرون بماء رافديه، وها هو القرين بخطر، ولو بيع لبيع مثلما يباع النَّفط عبر صهاريج، وأنابيب بلا عدادات، ولتقاسمت الأحزاب الأنُهر والشطوط، لكنهم فرطوا ولم يحافظوا على النَّهر.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

من الاسئلة التي أثارت جدلاً واسعاً بين من أرخ لتاريخ تنظيم الدعوة الاسلامية وطُرحت حولها اجابات مختلفة هي:

ـ من هو صاحب فكرة تأسيس هذا التنظيم؟

ـ وفي أي سَنة تأسس؟

ـ ومن هم مؤسسوه الأوائل؟

لقد اثبتنا في حلقة سابقة ان المفكر الشهيد محمد هادي السبيتي هو صاحب فكرة تأسيس تنظيم الدعوة الاسلامية، وهذا الاثبات يغنينا عن اثبات انه كان ضمن قائمة مؤسسي التنظيم وحاضر في اجتماعاته التداولية والتأسيسية الأولى لأنه من غير المعقول ان يكون صاحب الفكرة خارج نطاق المؤسسين وهذا أمر غريب ربما لم يحدث إلاّ في تنظيم الدعوة الاسلامية، وان استبعاد اسمه من قائمة المؤسسين للحزب من قبل بعض المؤرخين هو خطأ تاريخي ومنهجي تختفي وراءه أسباب غير منهجية.

 لقد حصل تخبط كبير من قبل بعض الباحثين في تحديد عدد واسماء مؤسسي الدعوة الاسلامية، ووضعوا لذلك بعض الشروط والمقاييس:

منها: ان المؤسسين هم الثمانية الذين حضروا اجتماع النجف الاشرف.

ومنها: ان المؤسسين هم الذين حضروا اجتماع  كربلاء.

ومنها: ان المؤسسين هم من حضروا اجتماعي النجف وكربلاء.

 لقد حدد بعض الباحثين ان عدد المؤسسين ثمانية ثم أصبحوا تسعة ثم عشرة عندما اضيف لهم الدكتور المرحوم جابر العطا. وعلى هذا النمط من التخبط والعشوائية وعدم الموضوعية جرى تحديد عدد واسماء المؤسسين، ونسجل على هذا التخبط بعض الملاحظات:

الملاحظة الاولى: إن مسألة تحديد مؤسسي الدعوة ليست خاضعة للبحث العلمي الانتقائي لأنه ليس كل من حضر في اجتماعي التأسيس في النجف وكربلاء أو في أحدهما يعتبر مؤسس وغيره ليس كذلك، بل يجب ان تؤخذ هذه المعلومة إما من المؤسسين الأحياء او من المنتمين الأوائل الذين عايشوا تلك المرحلة وعاشوا الحدث. وهم من يحدد ذلك.

الملاحظة الثانية: لم يعرف يومذاك في عرف المنتمين لتنظيم الدعوة الاسلامية وجود مؤسس حضر الاجتماع وغيره لم يحضر الاجتماع التأسيسي، بل كان قادة ومؤسسي الدعوة معروفين للدعاة ولم يكن في المسألة يومذاك لبس ولا غموض كما يقول الاستاذ محمد صالح الاديب: (ففي ذلك الوقت كان الأمر يختلف فلم يكن الأمر مشخصاً على أساس أن هؤلاء هم قيادة الحزب وإنما هم أخوة يقومون بمثل هذا العمل بشكل طبيعي دون ان يشكل هذا الأمر امتيازاً..)(1).

الملاحظة الثالثة: ان بعض مؤسسي تنظيم الدعوة الاسلامية كانوا لا يحفظون ولا يتذكرون بشكل دقيق الاشخاص الذين حضروا الاجتماعات التأسيسية الاولى ومنهم الاستاذ محمد صالح الأديب الذي يقول: (فأنا شخصياً لم احفظ أسماء جميع من حضر الاجتماع التأسيسي ولكن عندما أجلس مع أخواني.. وأقول لهم تعالوا نتذكر من حضر الاجتماع التأسيس فقد يتذكر احدنا اثنين أو ثلاثة وينسى البقية...)(2).

 ورغم الملاحظات التي ذكرناها يمكن ان نثبت حضور الاستاذ السبيتي في اجتماعات التأسيس من خلال الشهادات التالية:

أولاً: شهادات المؤسسين:

شهادة السيد مرتضى العسكري:

يقول السيد مرتضى العسكري (رحمه الله): (اجتمعنا أربعة أشخاص، أنا والسيد مهدي الحكيم، والشهيد الصدر والرابع لا استطيع ذكر اسمه لأنه لا يزال حياً وقررنا تشكيل الحزب، وبعد ذلك دعا كل منّا من يعرفه فدعوت محمد هادي السبيتي ومحمد صادق القاموسي وصالح الأديب، ودعا السيد مهدي الشهيد عبد الصاحب دخيّل، وعقدت هذه المجموعة اجتماعها الأول...)(3).

شهادة الأستاذ محمد صالح الأديب:

رغم ان الاستاذ الاديب (رحمه الله) لم يذكر حضور الاستاذ السبيتي بشكل مباشر في اجتماع كربلاء ولكنه يشير الى نقطة مهمة وغير مباشرة تدل على حضور الاستاذ السبيتي في ذلك الاجتماع، فقد بقي عالقاً  شيء في ذاكرته من ذلك الاجتماع إذ يقول: (والذي اتذكره من ذلك الاجتماع بأنه خُتم بالدعاء الذي يردده كل من ينتمي الى حزب الدعوة الاسلامية في قنوت صلاته وهو الدعاء المعروف: "اللهم إنا نرغب اليك في دولة كريمة تُعز بها الاسلام وأهله وتُذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة الى طاعتك والقادة الى سبيلك، وترزقنا فيها كرامة الدنيا والآخرة"..)(4). وهذه النقطة التي يذكرها الاستاذ الاديب لها ربط بشهادة السيد مرتضى العسكري (رحمه الله) إذ يقول: (فقد أقترح علينا محمد هادي السبيتي أن نقرأ في القنوت أثناء الصلاة دعاء "اللهم إنّا نرغب اليك في دولة كريمة..الخ")(5) وأغلب الظن ان هذا المقترح طرحه الاستاذ السبيتي في اثناء اجتماع كربلاء وهو يدل بشكل واضح على حضوره فيه.

ثانياً: شهادات غير المؤسسين:

شهادة السيد محمد حسين فضل الله

يقول السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله): (..التقت هذه المجموعة، والتقيتُ معها لأن أعضاءها كانوا في معظمهم أصدقاء لي. لكن الجلسات كانت أقرب إلى الحديث العام منه إلى الخاص. لم يكن هناك تنظيم عندهم. ثم التقت هذه المجموعة مع السيد محمد باقر الصدر الذي بدأ يفكر إسلامياً بعد أن كان مستغرقاً في عالم الفقه والأصول في دراسته الحوزوية التي برز فيها مبكراً. وبرز من المجموعة المتحركة السيد مهدي الحكيم ابن المرجع السيد محسن الحكيم، الذي اغتالته المخابرات العراقية في السودان في عهد الصادق المهدي. ومن أعضائها أبو حسن السبيتي الذي بدا ايضاً ان المخابرات العراقية اغتالته بالتعاون مع المخابرات الأردنية. والى جانبهما، الحاج عبد الصاحب دخيل الذي اعتقله النظام العراقي وذَوَّبه بـ"الأسيد". وهناك أسماء غير بارزة..)(6).

شهادة الشيخ علي الكَوراني:

يقول الشيخ علي الكوراني (رحمه الله): (كان لأبي حسن دور في تأسيس الدعوة، وكان في قيادتها الى أن استشهد (رحمه الله)، وقد شارك في جلسات القيادة باستمرار)(7).

شهادة الحاج كاظم يوسف التميمي:

يقول الحاج كاظم يوسف التميمي "ابو صاحب" (رحمه الله): (كانت فكرة اللقاءات في البداية بين اسلاميين حركيين من السُنة والشيعة، وكانت الفكرة تدور بشأن حركة دعوة اسلامية عامة تضم أبناء الطائفتين، وفي آخر اجتماع تأسيسي لم يحضره ممثلو السُنة، فأقتصر الاجتماع على محاور الشيعة التنظيمية فقط. تلك الاجتماعات الأولية كانت تضم اسماء كثيرة، لكن فيما بعد اقتصرت هذه الاجتماعات على [تسعة] اشخاص فقط، وهم الذين شكّلوا الدعوة الاسلامية، ولم تُعرف باسم حزب الدعوة في ذلك الوقت، فتشكلت الدعوة حسب علمي بدايات ١٩٥٩ أو نهاية ١٩٥٨م، وكان مؤسسوها [التسعة] الأوائل هم الدكتور جابر عطا، والسيد محمد باقر الصدر، وطالب الهندسة محمد هادي السُبيتي، ورجل الدين السيد مرتضى العسكري، ورجل الدين السيد محمد مهدي الحكيم نجل المرجع آية الله السيد محسن الحكيم، ومحمد صالح الاديب، والسيد طالب الرفاعي، والسيد محمد باقر الحكيم،[وعبد الصاحب دخيّل])(8).

شهادة السيد هاشم ناصر الموسوي:

يقول السيد هاشم الموسوي "ابو عقيل": (.. فحضر الاجتماع التأسيسي كل من السيد محمد باقر الصدر ومحمد باقر الحكيم ومهدي الحكيم ومحمد هادي السبيتي والحاج صالح الأديب وأبو عصام صاحب دخيل وعقد الاجتماع في بيت الحكيم بكربلاء، ونُقلت لي رواية هذا الاجتماع وما دار فيه من قبل الحاج صالح الأديب ومن السيد مرتضى العسكري. هذه المجموعة شكلت النواة الأولى لتأسيس حزب الدعوة الإسلامي..)(9).

اعتقد ان ما ذكرنا من ملاحظات وشهادات تثبت ما اردنا اثباته وستخرج مستقبلاً ادلة ومؤيدات أخرى تكشف الحقيقة وتنصف المظلومين.

***

أزهر السهر

 

تدور الكثير من أحاديثنا حول التعب، نقص الوقت، القلق، والإنهاك الذي نشعر به يوميًا عند مواجهة واجباتنا والتزاماتنا – مهما كانت ملحّة أو متطلبة. كثيرًا ما يُستحضر ما يسمى بـ متلازمة الاحتراق النفسي (burnout)، الناتجة عن التعرض الطويل للضغط المهني. لكن علينا أن نتساءل: أليست هذه الحالة المزمنة من الضيق نتيجة سبب أعمق؟ طريقة العيش المفروضة علينا، الشكل الذي ينظم وجودنا في العالم، والذي اعتدنا عليه مضطرين.

ألا يكون هذا التعب نتيجة ترويض صامت وصبور لإيقاعاتنا، لإرادتنا، ولأفكارنا؟ ترويض يستنزف طاقتنا يومًا بعد يوم دون أن نكاد ننتبه. ولهذا فقد حان وقت العصيان؛ والعصيان، في أصله اللغوي، يعني التوقف عن الامتثال لأوامر تخدم مصالح تسلبنا حريتنا.

لسنا متعبين بسبب ما ننجزه، بل بسبب ما لا ننجزه (خارج حدود الإنتاجية والنفعية)، وبسبب الجوهر الوجودي الخانق الذي تعبر فيه حياتنا. ما المنطلقات الأنثروبولوجية والاجتماعية والوجودية التي أجبرنا على قبولها كي نعيش كما يُملى علينا أن نعيش؟ المشكلة ليست فينا (كما يقال لنا بلهجة اتهامية: "أنت لست كفء"، "أنت لا تتأقلم"، "اذهب إلى العلاج")، بل في كل ما نُحرم من فعله حين لا نستطيع إلا أن نقول نعم لنظام فُرض علينا العيش فيه، ولا يمكننا رفضه إلا بثمن النفي، العزلة، والاقتلاع. كتبت سيمون فايل: "غرس الجذور ربما يكون أهم حاجة – وأكثرها إهمالًا – في النفس البشرية".

اليوم تُثار نقاشات كثيرة حول النوستالجيا، وهل ينبغي استعادة عناصر من الماضي لإسقاطها على الحاضر. لكن لا أحد يفكر في الأساس: في الحرمان العاطفي المتعمد الذي يعيشه الإنسان المعاصر، وفي شعور التخلي الذي يجعله يبحث عن ملاذ في الماضي أو المستقبل لأنه يشعر مطرودًا من حاضره وضائعًا فيه. نحن منهكون لأننا صدقنا السردية القائلة إن الحرية تعني أن نضطر للاختيار بين أفق لا محدود وضاغط من الإمكانيات. نُسينا أن هذا الخيار نفسه يقيدنا في عجلة إنتاجية شرهة، قائمة على التوتر والمراقبة والإنجاز، يُرغموننا أن نتأقلم معها – باسم المرونة.

إنها ليست مجرد حالة نفسية أو طبية، بل حالة وجودية (أنطولوجية) تفسر شعورنا بالإنهاك، وخيبة الأمل، والحزن إزاء حياتنا العادية. ومن هنا أطرح مفهوم "الإرهاق البنيوي": إنه ليس مرضًا، بل كسْر صامت تولّده أوامر تجبرنا على الاحتمال والطاعة والامتثال.

لم يعد الذهاب إلى العلاج النفسي كافيًا، لأن العلاج غالبًا يساعد الإنسان على التكيف مع واقع معيب بدلًا من تغييره. نحن بحاجة إلى زلزلة مجتمعية واعية تجعلنا نفكر لا في الأحداث فقط ("ما الذي يحدث؟")، ولا حتى في آثارها ("لماذا نشعر هكذا؟")، بل في أصل الواقع نفسه: ما الذي يجعل ما يحدث ممكنًا؟

هذا الإرهاق البنيوي أشبه بعَرَض بلا مرض، حزن بلا سبب ظاهر. أعتقد أنه يعود إلى حداد لم نكمله بعد: إنه اختفاء ما هو خالد. على مر التاريخ، ظل الإنسان مفتونًا بما يتجاوز الفناء: بالسماء، بالبحر، بالخلود. أما اليوم، فقد أُخضعت أجسادنا لإملاءات "التحمل" و"المرونة"، وسُرقت منا القدرة على التوجه إلى ما يسمو على قيودنا. صارت حياتنا أسيرة فراغ تافه، تسلية استهلاكية، ومنطق إنتاجي بلا معنى.

لكن ثمة شيء في داخلنا يرفض أن تختزل الحياة في دورة الاستهلاك والسرعة والجدوى. نحن نُحسّ بفقدان الخالد، ونعاني من نوستالجيا المطلق (كما سماها الشاعر نوفاليس). كتبَت ماريا ثامبرانو: "بينما تمتلئ الحياة بالأدوات التقنية والعجائب الميكانيكية، تبقى الروح والقلب فارغين، وتُستعبد الساعات بفراغ زمن ميت، حتى يستولي الفراغ على الحياة."

في النهاية، نحن نتوق – ربما بلا وعي – إلى ما لا يذبل ولا يفنى. نتوق إلى الجمال، إلى الخلود، إلى مجتمع يعترف بأن الآخر ليس "آخر" بل هو نحن في الجوهر، كما قال أفلوطين: "النفوس كلها واحدة".

لقد دُرِّبنا على العيش كأن كل شيء له تاريخ انتهاء: المشاعر، الروابط، حتى الكلمات. لكن ما يجعلنا بشرًا، ما يربطنا ويمنع عزلتنا، هو ذاك الحنين إلى المطلق، إلى ما لا يشيخ. ومن هنا، علينا أن نحرس ونحافظ على ما هو خالد فينا، لأنه وحده ما يمنحنا الحرية والجذور.

***

محمد إبراهيم الزموري

مؤلم جداً أن نرى دولنا تتذيل قوائم التصنيف العالمي والدولي فيما يخص مستويات العلم والخدمات وغيره من مواكبة التطور الذي يشهده العالم. مؤلم جداً أن ترى تراجع نصنيف مستويات الجامعات العراقية عالمياً أو تعرضها لأحتمال سحب الثقة بينما ترتقي جامعات شابَة أخرى لم تكن في يوم من الأيام منافسة لجامعاتنا وقد يكون هذا الأرتقاء بجهود وعقول عراقية. بل مؤلمٌ أكثر عندما لا يُصَنّف بلدنا بالأساس ضمن قائمة تصف ميَزة إيجابية أو خاصية أساسية او سلوك عام يخدم المواطن نفسه.

في دراسة عالمية بقيادة مايلز ريتشاردسون، أستاذ الارتباط بالطبيعة في جامعة ديربي ضمت العديد من الباحثين من بريطانيا والنمسا ونشرتها مؤخراً مجلة أمبيو وأعادت نشرها الكارديان تركزت حول تفاعل الأنسان مع الطبيعة وارتباطه بها، تبين أن النيبال هي الدولة الأكثر ارتباطاً بالطبيعة، تليها إيران وجنوب أفريقيا وبنغلاديش ونيجيريا. كرواتيا وبلغاريا هما الدولتان الأوروبيتان الوحيدتان ضمن العشرة الأوائل، تليها فرنسا في المركز التاسع عشر. تأتي هولندا، وكندا، وألمانيا، وإسرائيل، واليابان، وإسبانيا في مرتبة متأخرة عن بريطانيا، وهي الأقل ارتباطاً بالطبيعة من بين الدول الـ 61 التي شملها الاستطلاع. الدراسة التي شملت 57 ألف شخص، بحثت في كيفية تشكيل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والثقافية لمواقف الناس تجاه الطبيعة. الارتباط بالطبيعة مفهوم نفسي يقيس مدى قرب علاقة الفرد بالآخرين وبالطبيعة. وقد وجدت الدراسات أن الأشخاص الذين يتمتعون بمستويات أعلى من الارتباط بالطبيعة يتمتعون برفاهية أفضل، وهم أكثر ميلاً للتصرف بطرق صديقة ومحبة للبيئة. وقد تم تحديد انخفاض مستويات الارتباط بالطبيعة كأحد الأسباب الرئيسية الثلاثة الكامنة وراء فقدان التنوع البيولوجي، إلى جانب عدم المساواة وإعطاء الأولوية للمكاسب المادية الفردية. قال ريتشاردسون، الذي أقر بأنه لم يُفاجأ بتدني مستوى بريطانيا في قائمة الارتباط بالطبيعة: "لا يقتصر الارتباط بالطبيعة على ما نفعله فحسب، بل يشمل أيضاً مشاعرنا وتفكيرنا وتقديرنا لمكانتنا في العالم الحي."

لكي لا أبتعد في مقالتي هذه عن عنوانها، فأنا لا أبحث هنا في تعزيز عوامل الطبيعة واقامة حدائق عامة ولا في تشجيع الحكومة على أنشائها والناس على زيارتها والعناية بها، رغم أهمية ذلك للراحة النفسية والصحة العامة وتحسين الظروف اليئية ولا أُريد التذكير هنا بأنها تُعَد مقياساً يُجريه البنك الدولي لمدى ملائمة الدولة للأعمال التجارية. الا أنني أتسائل، أين نحن من هكذا دراسات وبحوث وتصنيفات؟ أين يقع العراق في هذه القائمة؟ خصوصاً وأن الدراسة شملت دول مجاورة! لماذا لا يعتبرنا علماء العالم ويدرجونا ضمن دراساتهم وبحوثهم؟ هل أصبحت صحتنا النفسية والعقلية لا تهم؟ وماذا عن التلوث البيئي في سمائنا وهوائنا ومائنا؟ هل هنالك من يراقبه ويهتم لمراقبته؟ الأسوأ، أنه حتى في الدراسة الأولى من هذا النوع فأنه لم يتم اعتمادها البيانات التي تم جمعها من العراق والسبب كان (عدم امكانية اعتمادها لتدني النوعية)! الا يوجد عندنا من يُعتَمَدْ عليه لجمع البيانات حسب المقاييس العالمية؟

أقول، أذا كانت دول مثل بريطانيا وايرلاندا التي تمتلك أجمل مواقع الطبيعة، فالريف البريطاني ومزارع ايرلآندا تعتبر مزاراً يتوافد اليه السائحين من جميع أنحاء العالم وهما محط انظار أغنى مستثمرين العالم ورغم ذلك فأن هذا الريف الذي تتخلله البحيرات والأنهار وتزينه شلالات المياه الجميلة لم تعد تستقطب الناس وتثير مشاعرهم ليتفاعلوا ويرتبطوا به.  في هذا الصدد، تقترح الدراسة أعلاه أن من العوامل الأكثر تحديدًا التي وجدتها والمرتبطة بانخفاض الارتباط بالطبيعة، مستويات التحضر، ومتوسط الدخل، واستخدام الإنترنت.

السؤال الأخير للمواطن والحكومات في منطقتنا منطقة الشرق الأوسط ودول العالم الثالث، هل تستوعبون أين العالم الآن وأين نحن منه؟ أذا كانت دول اوربية مثل بريطانيا وأيرلاند في ذيل قائمة لأرتباط الناس بالطبيعة، فأين سنكون نحن لو دخلنا هذا التصنيف؟ أعتقد ان الجواب على هذا السؤال يُعَدُّ موجود ضمنياً وهو أننا (خارج نطاق التغطية) 2120 obaydi الدول العشرة الأكثر أرتباطاً بالطبيعة 2121 obaydi

 

الدول العشرة الأقل أرتباطاً بالطبيعة

***

الدكتور مهند العبيدي

قالَ مبارَك بالقهقهة - وهي لسانُ القرد - إنّ النهيق منطِقُ الحمار، وإن المُطفأ لا يَعرِف أكثر ممّا عرفَ على أبويه اللّذين لم يعرفا أكثر ممّا عرفا على أبويهما، تسلسلاً حتى رأس ناحية البراري والإسطبلات وآذانِ ناطحاتِ السحاب. تعلّمْ يا مبروك أنّ لون اللّون الأبيض أحمر ياقوت"!. وشخرَ مبروك ونخر وسبَّ الشمسَ والقمر وقال: "لا يستقيم الظلُّ والعُودُ أعوج"، اللّون الأبيض لونه أخضر زمرّد وليس غير أخضر زمرّد"!. ونعقا على بعضيهما البعض أو نهقا أو زعقا. وسمعَ أخوهُما برَكة وركض نحوهما وضحك بعدما سمع ما قالاه حتى إنقلب على ظهرِه ضحكاً، ومثلما يُقال "ذهبَ الحمارُ يطلبُ قرنين عادَ مصلومَ الأذنين" قال وهو لا يزال على ما هو فيه: "لا يا مبارك ولا يا مبروك، لا أحمر ياقوت ولا أخضر زمرّد، هو أزرق فيروز ". غضب مبارَك ومبروك أن يكون أخوهما بَرَكة على هذا القدر من التيه، قالَ مبارَك لابطَاً بالطول والعرض: "على الباغي يا بركة تدور الدوائر، اللّون الأبيض لونه أحمر ياقوت"، وقالَ له مبروك وعيناه تكتظّان بالتحدّي فيما يوسّعهما: "لا يا برَكة، لا أحمر ياقوت ولا أزرق فيروز، بل هو أخضر زمرّد وليس غير أخضر زمرّد". واختلطَ الحابل بالنابل عواءً ونباحاً، وكان في الجوار ظربّان - دويّبة فوق جرو الكلب منتنُ الريح.

وفي اليوم التالي وهم عند أجران الماء قالَ مبارك كأنّما إعتذاراً عن حديثِ الأمس: إنّ "أعْقَل الناس أعذرُهم للناس"، وقالَ مبروك: إنّ "مَنْ طلبَ أخاً بلا عيب بقي بلا أخ"، وقالَ بركة: "شُخْبٌ في الإناء وشُخْبٌ في الأرض - مثلٌ يُضرَب للرجل حين يصيب في فعلِه أو منطقِه مرّة ويُخطئ مرّة، وأصل المثل في الحالِب الذي تارةً يُخطئ فيحلب في الأرض وتارةً يصيب فيحلب في الإناء، والشُخْبُ هو الحليب يخرج مِنَ الضرع - وقيل: "بكلّ وادٍ أثرٌ مِنْ ثعلبة - مثَلٌ قالَه رجل مِنْ بني ثعلبة رأى في قومِه ما يسوؤه، فإنتقل إلى غيرهم، فرأى منهم مثل ذلك - وحثَّ شقيقيه مبارك ومبروك أن يكون لهم معاً كلام واحد في لون اللّون الأبيض. قالَ مبارَك لذاته: "تلبَّدي تَصِيدي - والتلبّد هو اللّصوق بالأرض لختْلِ الصيد - وقال لأخويه: "كلامنا الموحّد هو أنّ لون اللون الأبيض أسود بلون الماس الأسود". ارتعدتْ مفاصلُ مبروك وقالَ: "موقفُنا هو إنّ لون اللون الأبيض أصفر بلونِ زهرِ الصبّار الأصفر وكلُّ كلام آخَر لا إعتبار له حتى يشيب الغراب"، ونظرَ إلى برَكة وقال له: "ويلك يا أزرق العين" - ويُقال: يا أزرق العين للعدوّ، ويقولون في معناه: هو أسود الكبد - وضربَ الأرضَ بقدمِه، وتقدّم وتأخّر، والتفتَ إلى مبارَك وقال: "لون اللون الأبيض أصفر بلونِ زهرِ الصبّار الأصفر وهذا آخر كلام عندي". وقالَ برَكة: "خذوا لبيطاً إذا شبع اللئيم، وإذا هو من مدينة عبقر قولوا هو حمار إبن حمار أو حمار الحمير لا يكفّ عن التخاطب مع غيرِه باللغة التي لا يفقهها أحد غيره، لون اللون الأبيض بلون الياقوت الكشميريّ الأزرق السماويّ وليس بغير الياقوت الكشميريّ الأزرق السماويّ". قاطعاه، مبارك ومبروك، باللّطم، وحثّاه على الإهتداء. ومَنْ كان نعجة أكلَه الذئبُ، ونهشتِ الحيّةُ ولدغتِ العقرب، ومبارك ينعق نعوقَ الغراب ومبروك يهدر هديرَ الجَمَل وبرَكة يعزف عزيفَ الجنّ حتى رأوا أسداً مقبلاً على صهوة الريح. فرّوا لا يلوون على شيء خوفاً من الموت المحتّم.

وفي اليوم الثالث كانوا إلى مأدبة، قالَ مبارك: "لكلِّ صارمٍ نبوة" - ونبا السيفُ: تجافى عن الضربة - و"لكلّ جوادٍ كبوة" - وكبا الحصانُ: عثر - و"لكلّ عالِمٍ هفوة" - وهفوةُ العالِم: زلّتُه - والتقاه مبروك وقال: "النهيق مُنتَج طبيعيّ وطبعه المرح فيما الزعيق مُنتَج صناعيّ مثل أزيز الرصاص وجعير الصواريخ وغيرهما مِنْ لغاتِ اللّصوصيّةِ والكراهيّة". وافق بركة وقال: "إذا تكاثرتِ الحوافرُ تكاثرت المشاجرات وحوادثُ المرور". وإتّفقوا أنَّ الكلب الحيّ خير مِنَ الأسد الميْت وأنّ المهراجا أو الخواجا أو الكونت أو الباشا أو اللّورد نار على عَلَم - والعَلَم هو الجبل المرتفع - وأنَّ صاحبَ الحاجة أعمى، وأنّ العبدَ مطيّة الإقطاعيّ، وأنَّ الكومبرادور ذيل البرجوازي أو الرأسماليّ أو الإمبريالي.

وطاروا إلى كبيرِهم، ودخلوا عليه وحدّثوه فيما اختلفوا فيه وهم جاهزون لسماع ما سيقول فقال: يُقال "أعقلْ لسانَكَ إلاّ في أربعة: حقّ توضحه وباطل تدحضه ونعمة تشكرها وحكمة تظهرها"، والرجالُ أربعة: "رجلٌ يدري ويدري أنّه يدري فذلك عالِمٌ فاتبعوه، ورجلٌ يدري ولا يدري أنّه يدري فذلك نائمٌ فأيقظوه، ورجلٌ لا يدري ويدري أنّه لا يدري فذلك مسترشدٌ فعلّموه، ورجلٌ لا يدري ولا يدري أنّه لا يدري فذلك جاهلٌ فارفضوه". ضقتُ بكم ذرعاً، ألسنا على العهد إذا أُشكِل علينا أو غُرِّر بنا نحتكم من فورنا إلى ميدان الطعان والمنتصِر يكون قد نطق بأصدق المقال والمهزوم يكون قد نطق بالباطل أو المحال"؟.

وقال الراوي يا سادة يا كرام، ولا يطيب الكلام إلاّ بحضرة ذوي الأفهام، إنّ أبي العيناء سأل رجلاً عن دربِ الحمير؟، قال الرجل: "أدخلْ أيّ دربٍ شئت". يكذب مَنْ يقول إنّ الحضارة هي مُنتَجُ العنف، ولو ذلك صحيح لرأيتم الحمران، وأيديهم حوافر، قد سبقوا إلى القمر، وربّما هم يغتذون على الضوء ملتهمينه لا لا بالملعقة أو المغرفة بل بالشوكة والسكّين".

وخرج الأخوة الأعداء إلى ميدان الطعان، وتقاتلوا بالسيوف الحدب والرماح المكعّبة، وكان مبارَك أخْيَر بمواقع الطعن وأرشق، وأتتْ طعنةٌ منه في صدرِ أخيه مبروك، ثمّ فرغ لأخيه برَكة، وصارَ بينهما طعنٌ يقصف الأعمار، وشخصتْ لهما الأبصار، وتعاكستْ بينهما ضربتان وإذْ كلٌّ منهما يبري رقبةَ الآخر كما يبري الكاتبُ القلم.

ورأى الكبيرُ وسمع، وزفرَ وشهق، وقالَ كأنّه في تياترو: "دواءُ الدهر الصبرُ عليه، ماذا عندي في هذه الفانية؟، ما لي ثاغية ولا راغية" - والثاغية هي النعجة والراغية هي الناقة - ولو اتّجرتُ بالأكفان ما ماتَ أحد". وقبل إسدال الستارة إنهارَ على الأرض، ورفع يداً والدمع لا يكفّ عن خدّيه وقال: "ماتوا جميعاً، ليتَ واحداً منهم نجا لأعلم به ما ربّ لون اللّون الأبيض"؟!.

***

شوقي مسلماني

 

ناقم: ساخط، غاضب، مستاء

ما أن يبرز شخص له علاقة بنا كأمة، حتى تنهض الأقلام الناقمة من بيننا لتنهال عليه بالقدح والتراشق بما يؤكد بأننا لا يمكننا أن نكون، وعلينا أن ننغمس في مستنقعات الدونية والأنين.

أبناء أمتنا يفرضون وجودهم ونبوغهم وقدراتهم الحضارية النادرة في دول الدنيا، ونحن نتنكر لهم ونتبرأ منهم ونتهمهم بما يسيئ إلينا وإليهم، وكأننا مسخرون للعمل ضد أمتنا.

يفوزون بجوائز نوبل وبمناصب سياسية ولا نقف معهم بل نطاردهم بالكلمات، التي تحط من قدرهم وتبحث عن مثالبهم وسيئاتهم البعيدة والقريبة.

أصحاب المواقف المناوئة لأي نجاح، لا يستطيعون الخروج من خنادق الهوان والإمعان بالدونية وتقنيط وجود الأمة وتحنيط الأجيال في قمقم كان.

من الواضح أن الأجيال السابقة قد قهرت رموزها وأنوارها الذين نفتخر بهم ونعلي من شأنهم، علماء وأعلام بأنواعهم كانت نهايات معظمهم مأساوية، حتى فقهاء الدين أصابهم القهر والعدوان المروع.

ويبدو أن ما يحصل في واقعنا المتشائم لا يختلف عما حصل في العهود الماضيات، وكأننا نعادي أنفسنا وننكر عقولنا، ونميل للتبعية للقوي الشديد، وما أن يتهاوى حتى تظهر حقيقة نوايانا تجاهه، وهذا ما أصاب العديد من قادتنا في القرن العشرين، نخضع لهم في حياتهم ونعاديهم ولا نعارضهم مثل باقي شعوب المجتمعات المتحضرة، وننال منهم في مماتهم، فتفاعلاتنا إقتلاعية إجتثاثية وإمحاقية، لا بد من إبادة مَن لا نستطيع موازاته لكي نبقى ونتمكن.

إن هذا السلوك يرتد على أصحابه بأشد مما فعلوه، وتلك الموازين الفاعلة في دنيا الأكوان، ومنها الأرض التي دبت على ظهرها الخلائق.

و"يرتكب المنتقم نفس الخطيئة التي ينتقم لأجلها"

علينا أن نفتخر بأعلامنا ونتخذهم قدوة لأجيالنا، بدلا من هذا التفاعل السلبي مع منجزاتنا الحضارية، وإيهام الأجيال بأن البطولة ليست عقلية وإبداعية، وإنما عضلية تفوح منها روائح الدم والعدوان والفتك بروح الإنسان.

أعلامُنا عقولهمْ أنوارنا

فلنهتدي بعطائهم في يومنا

إبداعهم توهّجت آفاقه

وتواكبت بمرابعٍ ليست لنا

آهٍ على حضارةٍ بمسيرةٍ

تآفلت بديارنا من جهلنا

***

د. صادق السامرائي

 

كان صوتاً نادراً يعلو فوق ضجيج الوهم، وبصيصاً من نور في ظلام الجهل الذي يلف عقولنا. رحل الدكتور أحمد شوقي.. راهب المعرفة الذي اختار أن يكون حارساً للعلم في زمن باتت فيه البهلوانية علماً، والخرافة معرفة، والصراخ فصاحة، والتفاهة عمقاً. عاش بيننا كأنه نبياً من أنبياء العقل، يحمل لوحاً من نور في يد، ومشعل حق في اليد الأخرى، يسير بهما بين ظلام هذا العصر الموبوء بالخرافات.

أتذكر حين قدمني إليه أستاذي الراحل الدكتور أحمد مستجير قائلاً: "هذا هو الرجل الذي يحمل مشعل العلم الأصيل في زمن الدجالين". نظرت إلى عينيه الهادئتين فوجدت فيهما ذلك النبل والنقاء الذي يميز العلماء.. الذين وهبوا حياتهم لشئون لا تشترى بالمال ولا تكال بالميزان. كان تشع من وجهه الطمأنينة التي لا توجد إلا في عيون العارفين، أولئك الذين اختبروا عمق الحياة وغور المعرفة.

كان الدكتور أحمد شوقي - كما عرفته- عاشقاً للعلم بروح المتصوفة. كان يجلس في مكتبه المتواضع بكلية الزراعة في جامعة الزقازيق، محاطاً بالأبحاث والمراجع، وكأنه في محراب. كان ينفق من راتبه الضئيل على نشر "الكراسات العلمية" التي كان يعدها بنفسه، وكأنه يقدم القربان لمعبد العلم. كم مرة رأيته يحمل حزمة من الأوراق بين ذراعيه، متجهًا إلى المطبعة، يدفع من جيبه الخاص وهو يبتسم تلك الابتسامة الهادئة التي تقول: "هذا هو دوري في الحياة".

اليوم يرحل هذا العالم الجليل، ولا أحد يعلم. لا تكريم ولا نعي في الصفحات الأولى، ولا خبر في التلفزيون. انشغلت بلادنا بالمهرجين، وبمن يشرحون لك كيف يسرقك الجن ويعاشر زوجتك! وانشغل الإعلام بمن يحذرونك من النظر الذي قد يفسد صيامك! في عصرنا هذا، أصبحت الشاشات مسرحاً لبيع الوهم، وباتت الصحف منابر للجهل المُعلب، بينما يموت العارفون في صمت، وكأنهم أخطاء تاريخية يجب محوها.

في بلادنا.. يموت العقلاء في صمت، ويعيش الباعة على الأضواء. يموت أمثال الدكتور أحمد شوقي كمداً واحتقاراً، بينما يرقص باعة الوهم على شاشاتنا، ويحتلون الصفوف الأولى في مؤتمراتنا. صار التطبيل للجهل صناعة، والتسويق للخرافة مهنة، بينما يحمل العلماء على أعناقهم نعوشهم وهم يصارعون النسيان.

أحمد شوقي كان آخر فرسان موكب نبيل.. الموكب الذي ضم مستجير، وسمير حنا صادق، وشوقي جلال، ومصطفى فهمي ورفعت لقوشة. رحلوا جميعاً وتركوا وراءهم فراغاً هائلاً، وتركونا في برية موحشة يصول فيها ويجول أدعياء العلم. كلما رحل واحد منهم، انطفأ مصباح من مصابيح المعرفة، وازداد الظلام قتامة وكثافة.

كان الدكتور شوقي يجسد تلك الروح النادرة.. روح العالم الحقيقي الذي يرفض أن يكون بضاعة، ويأبى أن يكون سلعة. كان يرى أن العلم رسالة، والمعرفة خدمة للإنسان. كان خفيض الصوت، منطقي التفكير، شريف الخصومة. كان يجادل بالحجة، لا بالصوت العالي أو بالشتيمة الرخيصة. كم مرة استمعت إليه وهو يحاور خصومه، فيقول: "أختلف معك تماماً، لكنني أحترم عقلك" - كانت هذه هي أقصى درجات الخلاف عنده.

اليوم وقد رحل، أتساءل: من سيروي ظمأ الأجيال الجديدة للمعرفة الحقيقية؟ من سيحرس بوابة العلم الأصيل في زمن طغت فيه الأوهام والخرافات؟ من سيعلم شبابنا أن العلم ليس مجرد شهادة على حائط، ولا وسيلة للثراء السريع، وإنما هو رحلة بحث عن الحقيقة، وشغف لا ينتهي؟ من سيقف سداً منيعاً في وجه هذا الطوفان الجارف من اللامعرفة، وهذا التسويق الممنهج للجهل؟

رحل أحمد شوقي، لكن إرثه باق. باق في كل عقل استنار بمعرفته، وفي كل نفس تعلمت منه أن العلم رسالة وأمانة. باق في تلك الكراسات العلمية التي أنفق عليها من راتبه، وكتبها بحبر روحه. كم طالب فقير وجد في هذه الكراسات ملاذه، وكم باحث شاب استضاء بها في بداية طريقه.

إلى الدكتور أحمد شوقي.. الذي رحل بصمت كما عاش.. إلى حارس العلم الحقيقي في زمن المزيفين.. إلى الراهب في محراب المعرفة.. السلام لك حين رحلت، والسلام للعلم في بلاد لا تعرف قدر أبنائها البررة.

والآن.. من للعلم؟ من يحميه من المدعين؟ من يقف على أبوابه في عصر التسول الفكري؟ كنا نظن أن الموت وحده هو الذي يمكن أن ينتزعهم من بين أيدينا، لكننا اكتشفنا أن هناك منتزعات أشد قسوة.. هناك الإهمال، والنسيان، والاحتقار، ولوعة القلب التي تسبق الموت.

كان يمكن للدكتور أحمد شوقي أن يكون نجماً إعلامياً، لو أراد أن يسلك طريق الدعاة الجدد.. طريق التلاعب بعواطف الناس، واستغلال جهلهم، وبيعهم الوهم المعطر بالآيات. لكنه آثر أن يظل في مختبره، بين المعامل والكروموسومات، يفسر أسرار الحياة لمن يريد أن يعرف، لا لمن يريد أن يسمع ما يسر. كان يرفض أن يكون تاجر وعظ، ويأبى أن يكون مساحاً للضمائر.

أتذكر مرة قال لي بهمسة المحبط: أحياناً أشعر أنني أحارب طواحين الهواء.. أنشر العلم بينما ينتشر الجهل بتمويل من كبار التجار! ثم صمت برهة وأضاف: لكنني سأستمر، لأن رسالة العالم مثل شمعة تحترق لتنير لغيرها. كانت عيناه تفيضان بإيمان لا يتزعزع، بإيمان من يعرف أن الحق قد يغيب وقتاً، لكنه لا يموت أبداً.

اليوم احترقت الشمعة حتى آخر فتيل فيها، وانطفأت في صمت.. بينما كانت الأضواء الكاشفة مسلطة على "الداعية" الذي يفسر كيف يدخل الجن جسد الإنسان، وكيف يمكن للشيطان أن يعاشر المرأة في فراشها! في أيامنا المقلوبة، أصبح الترهات علماً، والعلم ترهات، وأصبح ناشروا الخرافة مرشدين، والعلماء منبوذين.

في بلادنا.. يتحول بائعو الوهم إلى نجوم، ويحاصر العقلاء في زوايا النسيان. يموتون موتا مزدوجا.. موت عندما يلفظهم المجتمع، وموت عندما تلفظهم أجسادهم. يذهبون كما جاءوا.. بصمت العارفين، وكرامة العظماء، وعبقرية المفكرين الذين لم تلههم المساومات عن البحث عن الحقيقة.

في وداع الدكتور أحمد شوقي، لا نودع رجلاً فقط، بل نودع نموذجاً كاملاً للإنسان العالم.. الإنسان المتواضع الذي لا يتعالى، المتسامح الذي لا يتعصب، المنطقي الذي لا يهذي، الشريف الذي لا يدلس. نودع ذلك الجيل الذي كان يعتقد أن العلم رسالة وأمانة، وليس وسيلة للشهرة والثراء.

نودع ذلك الجيل الذي كان يؤمن بأن الثقافة العلمية هي أساس تقدم الأمم، وليس الطقوس والشعوذة. جيل كان يرى في المعرفة نوراً يجب أن يصل إلى كل إنسان، وليس حكراً على نخبة أو سلعة لأغنياء. جيل كان يعتبر البحث العلمي ضرباً من ضروب العبادة، والعلم محراباً للتفكر في عظمة الخالق.

رحل أحمد شوقي ومشروعه الطموح "الكراسات العلمية" الذي كان يحلم بأن يصل إلى كل طالب، وكل معلم، وكل إنسان يريد أن يفهم العالم من حوله. رحل وهو يحمل أحلاماً لم تتحقق، ومشاريع لم تكتمل، ورسائل لم تصل. لكنه رحل وهو يعلم أنه بذل كل ما في وسعه، وأنه وقف في وجه الجهل حتى آخر نفس.

لكن.. سيظل نوره باقياً في كل عقل تنور به، وكل روح أضاءها. سيظل نموذجه شاهداً على أن مصر أنجبت رجالاً حقيقيين، لم تلههم المساومات الرخيصة عن البحث عن الحقيقة. سيظل حياً في ذاكرة كل من عرفه، وكل من قرأ له، وكل من استفاد من علمه.

إلى الدكتور أحمد شوقي.. الذي صعد إلى حيث لا أضواء كاشفة، ولا صفوف أولى، ولا تكريمات مزيفة.. إلى العالم الحقيقي في زمن المزيفين.. إلى الراهب في معبد العلم.. إلى آخر فرسان الموكب النبيل.. السلام لك.. ولأمثالك الذين رحلوا فخبا ضوء العقل، وتراجع سيف المعرفة، وتقدمت جيوش الظلام.

السلام لعصر مضى.. ولرجال لن يعودوا. السلام لزمن كان فيه العالم عالِماً حقاً، والعلم علماً صحيحاً، والمعرفة معرفة نقية. السلام لأيام كنا نرى فيها وجوه العلماء في الشاشات، ونقرأ لهم في الصحف، ونستمع إليهم في الإذاعات. السلام لزمن كان فيه العقل مصوناً، والعلم محترماً، والعالم مكرماً.

الآن وقد رحل آخر الفرسان، من بقي يحمل الراية؟ من بقي يحرس المعبد؟ من بقي يصون العقل؟ أسئلة تتداعى في الذهن، وأجوبة تتساقط كأوراق الخريف.. لا جواب إلا صمت القبور، وهدير الموج المتكسر على شاطئ النسيان.

***

د. عبد السلام فاروق

 

تظل المشاعر العاطفية، والحس المرهف، والتفاعل الحي مع معطيات الحياة، حالة إنسانية حية، ومواهب شخصية، مرتبطة بالذات الإنسانية، التي تميزه عن الجمادات، وعن غيره من المخلوقات.

وهكذا يكون الإنسان بهذه الخواص الفريدة الحية، التي حباه الخالق، جل وعلا بها، قادرا على التفاعل بحيوية، مع الموثرات المحفزة لمشاعره، والمدغدغة لعواطفه، سلبا أو ايجابا، حزنا أو فرحا، جدا او هزلا.

وفي ضوء التطور السريع للثورة الرقمية، ولاسيما تلك القفزات النوعية التي تحققت حتى الآن، في مجال الذكاء الاصطناعي، وما تراكم منها من منجزات مدهشة، فاقمت السعي المحموم، لطرح الإنسان الرقمي الآلي، الذي سيحل مكان الانسان الحيوي في كل مجالات العمل، والانشطة المعروفة، فان التخوف من أن يحل الذكاء الاصطناعي، بما سيحققه من قدرات خارقة، وامكانيات هائلة، في التصرف، واتخاذ القرارات، محل العقل البشري، بما قد يعطل الكثير من قدراته، ويمسخ الكثير منها، يظل تخوفا مشروعا حقا، ولاسيما عندما تكون خوارزميات تطبيقاته، متعمدة، وغير محايدة.

ولذلك بات الأمر يتطلب تعزيز الوعي الجمعي بمخاطر مثل هذا النهج، بحيث يكون الجميع على دراية تامة بالتأثير المحتملة للذكاء الاصطناعي على مشاعرنا ووعينا، وعواطفنا مستقبلا، وهو ما يتطلب ان يكون التفكير الجمعي نقديا صارما، عند التعامل مع موضوعة استخدامات الذكاء الاصطناعي، بحيث لا يتم التسليم بكل ما يقدمه من معطيات مطلقا، وان لا يتم القبول بكل ما يتم التوصل إليه من انجازات، دون تقييم، أو تمحيص.

ولعل الحفاظ على التواصل الإنساني الحقيقي الحي، في واقع الحياة اليومية، بعد فجوة الانفصال عن الواقع الاجتماعي الحي، بالانغماس التام في فضاء الواقع الافتراضي الموازي، هو ما ينبغي المحافظة عليه، وعدم السماح باستبدال العلاقات الإنسانية الاجتماعية الحية، بالعلاقات الآلية للذكاء الاصطناعي، التي تؤثر على سلبا على مشاعرنا، وتمسخ الكثير من قيمنا، وذلك تعزيزا للمشاعر والمناقبيات الإنسانية الأساسية الحية، وعدم فسح المجال للذكاء الاصطناعي أن يستلبها، ويستبدلها بقيم الية مصطنعة .

ولذلك بات الأمر يتطلب تعزيز الرقابة العلمية والتقنية والاجتماعية، على مسارات، واتجاهات التطور، في مجال الذكاء الاصطناعي، والعمل على تنظيم استخدامه، بحيث لا يستخدم للمس السلبي بالوعي، ومصادرة العقل، واستلاب مشاعر الحس المرهف عند الإنسان بتاتا، مع التوكبد على أن يكون الذكاء الاصطناعي، اداة لخدمة مصالح الإنسان، والحفاظ على طبيعته البشرية في كل الأحوال.

***

نايف عبوش

لا يجوز الخلط بين أنوار العصور وتقديس بعضها، فما كان صائبا في أوانه لا يصح في غير عصره.

بعض المجتمعات تعاني من غياب الفواصل بين العصور، ويتسيّد في وعيها الجمعي عصر تنتقيه على ما يليه من العصور، ويفترس وجودها المعاصر.

قراءة الأحداث يجب أن تكون بعيون عصرها، لتتأكد الموضوعية النسبية، ويضمحل التضليل والتوظيف المنحرف للأحداث لغايات خفية.

قراءتنا للأحداث بعيون عصرنا إعتداء على الأجيال التي عاصرتها وأحدثتها، فلكل حدث أسبابه الموضوعية ونوازعه البشرية، وتفعل فيه النفوس الأمّارة بما فيها، ما دامت عناصره بشرية، عاشت وماتت، فلا يمكن القول بأنها ليست للبشر بصلة، مهما كان مركزها وتوصيفها.

لكل حدث أسباب وأفعال، وعندما يُنظر إليه بعد زمان، يكون الصدق في التعبير عنه محال، لأنه سيكون صورة لما يراه الشخص الذي تناوله، فهو يكتب ما أثاره فيه وأيقظه في أعماقه، ولهذا فالكتابات التي تسمى تأريخية بحاجة لتمحيص وتنقية أو غربلة مبنية على مناهج وأسس ذات قيمة علمية ومنطقية.

كيف تصح في الأفهام موضوعية الكتابة عن حدث حصل قبل أكثر من قرن أو قبل عدة قرون، فمهما كان المنهج المستعمل فأنه سيكون ثرياً بالتصورات ومعطيات الخيال.

لا توجد كتابات تأريخية تتحدث عن أي موضوع في حينه، بل لا بد له أن يحصل ويؤثر ويثير ويبلغ مرتبة الإستحقاق للكتابة عنه، وفقا للرؤى والتصورات التي تحيطه، والمشكلة أن صناع التأريخ لا يكتبونه.

إن الذين يكتبون عن وقائع أصحابها رميم، وبعد عشرات القرون، إنما في الأوهام يغطسون، وعلى أنفسهم وأجيالهم يجنون، ويبيعون النفيس بالرخيص، لأن أكثرهم يعتمدون على قال وقيل، وتندر لديهم المصادر الموثوقة والأدلة الدامغة.

"إن التأريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق"

"نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا...فكيف بأمر الغابرين نصدق"

إذا قالوا فهل صدقوا بقولِ

ندونه ولا ندري بأصلِ

حوادثها بما فيها توارتْ

نصورها كما وردت كفعلِ

بتكرارٍ وأجيالٍ توالتْ

تنامتْ في مرابعنا لجهلِ

***

د. صادق السامرائي

إرادة التأريخ أقوى من إرادة البشر، فما هي إرادة التأريخ؟

إنها ليست الدور الذي يلعبه وعي الإنسان وقدراته وأفعاله في توجيه مسار الحياة، إنها قوة خفية تجري بين المخلوقات وتقرر مصيرها وتلد عناصرها المؤهلة لتنفيذها وهي من مجاهيل الغيوب، لكنها تفعل فعلها ويظهر أثرها في مسيرات الحياة.

بغتة وأنت ترى الأيام هامدة والجهود خامدة، والأهداف جامدة، وإذا بإنطلاق طاقة ذات قدرات إجتياحية، كالفيضان أو الإعصار الشديد، تغيّر الأوضاع وتضع المسيرة على سكة جديدة تأخذها إلى مواطن رؤاها.

هذه الطاقة يعجز عن غلبتها أعتى العتاة، وأثرى الأثرياء، إنها إنبثاق روح الحياة المتآلفة مع مكانها وزمانها، فللدوران مؤثراته وإتجاهاته الدافعة نحو ما ينفع الأرض وما عليها وفيها.

والأمثلة عديدة وهي تعبر عن هذه الرؤية الإدراكية لإيقاعات الدوران على الموجودات التي تسري فيها الروح، والأمم بقادتها، ولو تأملنا قادة البشرية لتبين أنهم موجودات إنطلقت من مكامنها، كالبذور التي تنبت في التراب وتصبح أشجارا وغابات، فلا فرق بين البذور بأنوعها، ما دامت تكنز الحياة.

"دع المقادير تجري في أعنتها...ولا تبيتن إلا خالي البال"

هارون الرشيد كان حريصا على أن تستمر دولته بقوتها وتألقها، فعهد بالولاية لثلاثة من أولاده، فمحقوا بعضهم من بعده، ولم يخطر بباله أن المعتصم سيكون خليفة فما أعده لذلك، لكنه أصبح خليفة ومضت الخلافة في ذريته.

إن المتسائلين عن لماذا ولماذا، ومن المفروض أن يكون كذا وكذا، إنما في غفلتهم يعمهون، فالدنيا لا تخضع لإرادة الأشخاص والأحداث، إنها ذات إيقاع مرسوم وهدف معلوم، لا نرى مفرداته بسهولة لكنها فاعلة فينا، وتقودنا إلى حيث تريد.

إنها تعثر على من فيه المؤهلات التي ترضيها فتتعهده وتسلمه راية المسير إلى حيث تريد، إنها بذرة تنبت في تربتها الصالحة التي إحتوتها.

إرادة التأريخ تستخدمنا لتأكيد ما تختزنه من التطلعات وتكنزه من الطاقات، حتى لنتوهم بأننا المقتدرون والمهيمنون، لكنها تصرعنا دون إشعار، وتدوسنا سنابكها، فتتبدل الدنيا من حال إلى حال، وفقا لسلطة الدوران السرمد.

نرى زمنا بهِ الأزمانُ ضاقتْ

ولا ندري بما فعلتْ ورامتْ

تخبّرنا الحوادثُ عن عَجيبٍ

وترْدعُنا بقاضيةٍ توالتْ

فما عَرفَ النجاةَ بها خليقٌ

إذا انْهمَرتْ أعاصيرٌ ودامتْ

***

د. صادق السامرائي

 

ليس سراً أن الوضع الصحي في العراق يعاني من تدهور ملحوظ وممنهج. طوابير الانتظار الطويلة، ونقص الادوية الاساسية، وتردي خدمات الطوارئ، إضافة الى المستشفيات المتهالكة والبيئة غير الصحية، وهجرة الكفاءات الطبية بأعداد مخيفة، ليست سوى أعراض سطحية لأزمة عميقة الجذور. غالبا ما يُلقى اللوم على الاطباء او الظروف الاقتصادية، متجاهلا التشخيص الحقيقي للازمة: السياسات الحكومية الخاطئة والفاسدة التي قادت قطاعا حيويا الى حضيض التدهور، مفضلة الادارة البيروقراطية للازمات على التخطيط الاستراتيجي لمنعها.

اول حلقات التدهور

تبدا الحلقة الاولى من هذه الازمة من جذرها المالي. فالمبالغ المخصصة للصحة في الموازنة العامة للدولة لا تتناسب مع حجم الاحتياجات الفعلية للسكان. هذا القصور المالي المزمن لا يترجم فقط الى نقص في الاسرة والمستلزمات، بل يؤدي الى تجميد التعيينات، واهمال صيانة البنى التحتية التي اصبحت بعضها اشبه بخرابات، في وقت كان فيه العراق يمتلك منظومة صحية كانت تُعد ضمن الاكثر تطورا في المنطقة.

تدهور التعليم الطبي وتحويله الى سلعة

كان العراق من اوائل الدول التي اسست كليات طب مرموقة ومستشفيات تعليمية ذات سمعة اقليمية ودولية. الا ان السياسات الحكومية في العقود الاخيرة، وخصوصا في مجال التعليم العالي، عملت على تفريغ الطب من مضمونه الاكاديمي والانساني. فاتجهت الوزارات المعنية الى التوسع الكمي غير المدروس، بفتح الكليات الطبية الاهلية في بيئة تفتقر الى المعايير الاكاديمية الصارمة. هذه السياسات ادت الى:

1- التوسع الكمي غير المدروس: تمت الموافقة على إنشاء عدد كبير من الكليات الطبية الأهلية في بيئة تفتقر إلى المعايير الأكاديمية الصارمة.

2- اضعاف التعليم السريري والبحثي: حيث يتخرج الاف الطلبة دون تدريب كاف في المستشفيات التعليمية، مما ينعكس سلبا على كفاءتهم.

3- تفريغ الطب من رسالته الانسانية: تآكل القيم والأخلاق الطبية بين اوساط العديد من الخريجين، حيث ادى ضعف التأهيل الأكاديمي والانساني الى ممارسات غير مهنية، مثل انتهاك خصوصية المرضى وضعف التواصل معهم، والترويج للعلاج في العيادات الخاصة، وعدم المساواة في معاملة المرضى، ووصف اعداد كبيرة من الادوية حتى وان لم تكن الحاجة لها، والاتفاقات غير النزيهة للاطباء مع الصيدليات ومختبرات التحليل الطبي، ما يمثل خروجاً صارخاً عن المعايير الأساسية لمهنة الطب.

4- غياب تسعيرة رسمية وشفافة للأدوية ادى الى فوضى عارمة، تجلت في تفاوت غير مبرر في الأسعار، التلاعب بالجودة والنوعية (مما يهدد سلامة المرضى)، وتفشي الفساد الذي يهيمن على قطاع استيراد المواد الدوائية والصيدلانية بأكمله.

5- ارتكاب الاطباء لاخطاء كبيرة بعضها قاتلة ولكنهم وفي معظم الاحيان ينجون من المحاسبة ولم يسمع لليوم ان طبيبا منع من ممارسة مهنته او تعرض للمحاسبة القانونية.

ويرى الدكتور محمد العبيدي في مقال له حول ازمة التعليم الطبي: "ان بقاء التعليم التقليدي في كليات المجموعة الطبية على ما هو عليه الآن والذي لا يتماشى إطلاقاً مع التطور الحاصل في هذا الجانب من التعليم، فإن التعليم الطبي في العراق سيبقى يسير من سئ إلى أسوء".

الخصخصة غير المنظمة

يقابِل تقشف القطاع الصحي الحكومي تساهل مريب مع القطاع الخاص، الذي تحول في كثير من الاحيان الى سوق للمضاربة على صحة المواطن. فسياسات الخصخصة غير المنظمة ادت الى:

1. انتشار المستشفيات الاهلية: التي تقدم خدماتها باسعار باهظة، دون رقابة حقيقية على جودة خدماتها او الالتزام بالاخلاقيات الطبية.

2. الاهمال المتعمد للمستشفيات الحكومية: التي تواصل معاناتها من نقص حاد في الادوية، وتردي البنية التحتية، وهجرة الكفاءات الطبية المدربة.

3. غياب التخطيط الصحي الوطني: حيث لا توجد استراتيجية واضحة لتوزيع المستشفيات او الكوادر الطبية حسب الحاجة السكانية والفئوية.

ويشير الدكتور نشوان الطائي في منتدى العراق للنخب والكفاءات الى ان "القطاع الصحي الحكومي بات عاجزا عن تقديم ابسط الخدمات، ما دفع المواطن الى اللجوء للقطاع الخاص، رغم كلفته العالية".

غياب العدالة الصحية وتفاقم الازمة

نتيجة حتمية لهذه السياسات المتخاذلة، برزت كوارث اجتماعية وصحية:

1. تفاقم الفجوة الطبقية: فاصبح العلاج الجيد حكرا على القادرين ماديا، بينما يعاني الفقراء من الاهمال والانتظار الطويل في المستشفيات الحكومية المتهالكة.

2. تراجع المؤشرات الصحية الوطنية: حيث تشهد معدلات وفيات الامهات والاطفال انتشارا متزايدا، دون وجود انظمة فعالة للمتابعة والرعاية.

3. هجرة العقول الطبية: تهرّب الكفاءات الطبية والاطباء الاختصاصيين الى الخارج بحثا عن بيئة عمل لائقة، مما خلق نقصا حادا يزيد من عبء من تبقى منهم ويُعمق الازمة.

رؤية للاصلاح

بناءً على هذا التحليل، فان انقاذ المنظومة الصحية في العراق يتطلب ارادة سياسية حقيقية وتبني حزمة من الاصلاحات الاستراتيجية، منها:

1. مكافحة الفساد في القطاعين الصحي والأكاديمي: من خلال تعزيز النزاهة والشفافية في مؤسسات التعليم الطبي والخدمات الصحية، وتطبيق أنظمة رقابية صارمة للقضاء على الممارسات الفاسدة.

2. زيادة موازنة الصحة بشكل جذري: لضمان توفير المستلزمات الاساسية، وصيانة البنى التحتية المتدهورة، وتوسيع نطاق الخدمات لتشمل جميع المحافظات.

3. اعادة هيكلة التعليم الطبي: وربطه عضويا بالمستشفيات التعليمية الحكومية وضرورة ارتباط كل كلية طب بمستشفى تعليمي، مع اعتماد معايير الاعتماد الاكاديمي الدولية لضمان جودة المخرجات التي حددها المجلس الوطني لاعتماد كليات الطب وفقا للمعايير الدولية.

4. وقف التوسع العشوائي في الكليات الاهلية: وربط فتح اي كلية جديدة بمعايير صارمة تضمن جودة البيئة التعليمية والتدريب السريري.

5. اطلاق خطة وطنية شاملة: لاعادة تاهيل المستشفيات الحكومية وتوفير بيئة عمل محفزة وجاذبة للكفاءات الطبية لمنع هجرتها.

6. فرض رقابة صارمة على القطاع الخاص: من خلال هيئات رقابية فعالة لضمان جودة الخدمات ومنع الاستغلال ووضع تسعيرة عادلة.

7. تأكيد الرعاية الصحية المجانية كـحق دستوري اساسي للمواطن العراقي، وليس مجرد خدمة هامشية، مع وضع استراتيجية متكاملة جديدة لرحلة المريض من التشخيص إلى العلاج.

8. توفير الحماية اللازمة للأطباء من التدخلات العشائرية، مقابل تطبيق النقابة اجراءات تأديبية صارمة بحق أي اهمال مهني مثبت، بما في ذلك سحب الاجازات.

9. تأسيس صناديق دعم متخصصة لتقديم المساعدة المادية الكاملة أو الجزئية للمرضى من ذوي الاحتياج الاقتصادي.

10. مكافحة الممارسات الاحتكارية وتضارب المصالح في قطاع الرعاية الصحية، خصوصاً ما يتعلق بتجهيز الأدوية، واجراء الفحوصات المخبرية، والتصوير الاشعاعي (المرتبطة بتحالفات بين الاطباء والصيادلة واصحاب المختبرات).

فالاستثمار في الصحة ليس تكلفة، بل هو ركيزة اساسية لامن المجتمع العراقي واستقراره وتقدمه، واحياء لارث طبي كان العراق يفخر به.

***

أ. د. محمد الربيعي

على طريق بناء ثقافة وطنية ديمقراطية جُعلت من الثقافة الوطنية بتنوعها الثري مرادفا للتقدم والديمقراطية والابداع اذ ان التحركات بما احتوته من اشكال ثرية ومتنوعة تؤشر في الحقيقة بالظروف  المجتمعية الشعبية التي تخوض مضمارها بمختلف قطاعاتها وطبقاتها وفئاتها وشرائحها الاجتماعية و، تبرز الاهمية المحورية للعمل الجماهيري والنشاط المطلبي، باعتباره أحد روافع النشاط السياسي للقوى الحاملة للمشروع العابر للطوائف، والتي لن يكون بمقدورها أن تؤدي رسالتها التنويرية والحداثية، إلا إذا اعتمدت بجدارة على الجماهير واجتذبها الى النضال من منطلق الاهداف والمهمات والشعارات التي تنسجم مع المصالح والحاجات الحيوية لهذه الجماهير في اللحظة التاريخية الملموسة، ان أزمة العقل البشري في العالم الثالث تُخيِّلُ له أن العمل لتغيير الواقع لا يمكن أن يتم إلا من مدخل السياسة وهي مع الاسف أزمةٌ عامة تُعبِّر عن ثقافةٍ في هذه المجتمعات. وإن إحداث تغييرٍ حقيقي في موقعٍ يتفنَّنُ أهله في مثل تلك الممارسات، إن للاستبداد السياسي حدوداً لا يملك تجاوزها بحال، ومواقعَ لايُمكن أن يصل إليها على الإطلاق.

ان مواقع المسؤولية في الحكومات لا تمن على شعوبها، ولا تتصدق عليهم من جيوبها أو جيوب كبار مسؤوليها، والوزراء يعتاشون على رواتبهم من ضرائب الشعب، والمواطن هو السيد وليس العكس، والحكومة مجرد مجري أو موظف يذهب لحال سبيله إذا قدم خدمات فاشلة للمواطن أو أساء إدارة مال شعبه او احيل على المعاش وفقا للقانون.

واثبتت التجارب أنه بدون العمل الجماهيري لن تحل الأزمات البنيوية المتفاقمة وهي الوسيلة المثلى لتغيير الواقع، ومن المعلوم ان لا تنهض المجتمعات الكبرى ولا تستقر من دون حكومة معينة، حتى لو كانت هذه الحكومة عاجزة عن تحقيق تطلعات الشعب وإن كانت أكثر الحكومات في العالم رجعية، ولا تواكب العصر الحالي وإذا لم تساير الحكومات تغيرات العصر وتحاول اعطاء الشعوب حقوقها والاهتمام الأهداف القصيرة المدى على أن تتواصل من أجل تحقيق الأهداف طويلة المدى حتما سوف ستقل قدرتها تدريجيا على ادارة شعوبها، ويزداد السخط الشعبي عليها، ويشعر المواطنون أنهم حُرموا من حقوقهم التي يكفلها لهم القانون لذلك سوف تتحرك من اجل تحقيق مطالبها سلباً وايجاباً.

ان الاوضاع الصعبة التي يمر بها العالم اليوم يتطلب إدارات نموذجية من الحكومات وهذا لا يمكن ان يتحقق إلا بشرط منها الكفاءة وتجفيف بؤر الفساد بأنواعه' ما من بلد محصن من الفساد، وتؤدي إساءة استخدام الوظيفة العامة لغرض تحقيق كسب خاص وإلى تقويض ثقة الشعوب في حكوماتها ومؤسساتها، وإضعاف فعالية السياسات العامة والانتقاص من عدالتها، وتحويل اموالها بعيدا عن الإنفاق على المدارس والطرق والمستشفيات'، مما يتطلب إخضاع جميع الانشطة الادارية او السياسية وغيرها للاختبار والتقويم، حيث تخضع لمعايير النجاح والفشل، لذا تتحدد قيمة الإدارة استنادا الى معياريّ النجاح والفشل وحيث يقسّم الادارة وفقا لشرطيّ النجاح والفشل والادارة الناجحة لا تكون إلا بمقوماتها، من شروط ومقتضيات وإلا ستكون فاشلة. ومن أهم مقومات الإدارة الناجحة هي المداراة لشعوبها وفي إدارة شؤون المجتمع والتعامل مع الناس مما يُعبّر عنه بمدرسة التعايش بدل تخير السلطة الحاكمة المواطن الذي لا حول له ولا قوة بين أمور كلها غير منطقية أصلا ولا علاقة بين بعضها والبعض الآخر منها مثلا، بناء الدولة أو الحصول على خدمات عامة، وبناء مشروعات وبنية تحتية أو توفير سلع للجماهير التي لا يمكن الاستغناء عنها أصلا،

***

عبد الخالق الفلاح- باحث واعلامي

 

وتغير حياتك وغيرك للأفضل

في زحمة الحياة وضجيج المسؤوليات والركض وراء الطموحات والأماني، يغفل كثيرون عن تلك القوة الخفية التي تمنح الوجود لوناً جميلاً وطعماً مختلفاً، إنها " قوة المحبة التي تكمن في داخلنا ". فالمحبة ليست كلمة عابرة نتبادلها في اللقاءات والمناسبات، ولا شعوراً مؤقتاً يسكن القلب لبعض الوقت وتتخلله القسوة في معظمها، بل هي سلوك عملي يتجلى في تفاصيل صغيرة، يترك أثراً كبيراً لا يمحى، وقيمة لها وقعها وبصمتها.

تخيل رجلاً مسناً يجلس وحيداً في الحديقة، تخلى عنه من عاش معهم سنوات عمره وقدم لهم من حياته كل ما يملكه من رعاية وخدمة وتربية، فهو الآن يفتقد من يؤنسه أو يبادله الحديث ويذكره بماض عاشه ووهب لغيره الكثير، وهو يفتقر لمن يخدمه ويسر حياته ويدخل عليه السرور والسعادة. يقترب منه شاب مبتسم، يلقي التحية، يجلس بجانبه لبضع دقائق يتحدث معه ويسأله عن أحواله وصحته وأجمل ذكرياته التي عاشها عبر سنوات من سجلات الحياة. بعد أن يغادر، يبقى العجوز ينظر إليه بعين الامتنان والشكر، وكأن الحياة منحت روحه دفئاً إنسانياً بعد برودة الوحدة وقسوة أفرادها.

ذلك الشاب لم يقدم مالاً ولا جهداً كبيراً، لكنه منح ما هو أعمق: المحبة في صورة اهتمام بغيره، وربما أنقذ بتصرفه البسيط قلباً وحيداً من الغرق في العزلة والانكفاء بالنفس والغرق في تحديات همومها ومشاكلها.

ناهيك عن نشر الأنس والمشاعر الإيجابية في العمل الوظيفي، في العناية بمن نعمل معهم، نقف بجوارهم في السراء والضراء، نسهم في رفع ألم ينتابهم وندخل البهجة في نفوسهم، ونسرهم بابتساماتنا وكلماتنا التي كأنها بلسم على الجروح النازفة والنفوس المثقلة بالهموم والآهات.

هكذا تعمل المحبة والاهتمام بغيرنا مفاعيل السحر في العقول والقلوب، تسرها وتثلج الصدور وتحيطها قوة ومنعة، تحول الأرض القاحلة إلى خضراء، وتنبت النبت بعد الجفاف، وتزين النفس بعد الجفاء.

كل عمل نفعله بدافع صادق لمساعدة الآخرين، مهما بدا بسيطاً وهيناً، يضاعف قيمتنا ويمنح حياتنا معنى أعمق. ليس لأننا ننتظر مقابلاً لأفعالنا وممارساتنا، بل لأن العطاء يولد سعادة داخلية لا تساويها مكاسب الدنيا بمادياتها ولا يعادلها شيء. فالمشاعر المخلصة تصل إلى القلوب وتترك فيها بصمة وتأثيراً كبيراً في نفوس الآخرين.

إن المحبة تضاعف قيمتنا لأنها تجعلنا بعداً مهماً من قصص الآخرين. عندما نمنح حبنا واهتمامنا، نترك وجوداً في القلوب لا ينسى. فالمناصب تزول، والأموال تنفد، لكن الأثر الإنساني يبقى خالداً.

فالناس لا يتذكرون كلماتنا بقدر ما يتذكرون كيف جعلناهم يشعرون بالانبساط والبهجة في نفوس تتراكم فيها إحباطات وأحزان الحياة وبؤسها؟.

حين نمنحهم الأمان والطمأنينة والدعم في أوقات ضعفهم ومشكلاتهم، نزداد قيمة في نظرهم، وتتعاظم قيمتنا في نظر أنفسنا. ورسالتها وأفعالها وما نقدمه من مشاعر وأحاسيس نبيلة تعرف قيمتها في عيون من نتعامل معهم، وترفع معنوياتهم، وتلامس قلوباً تحتاج منا عظيم أفعال تدعم وتساند من يثقل الهم نفسه ويكثر عليه حمل الحياة.

ولكي نحيا بالمحبة كل يوم، يمكن أن نجعلها أسلوب حياة عملياً:

ابدأ صباحك بابتسامة مشرقة وبكلمة طيبة تبعث الأمل في قلب من حولك.

مارس أفعال العطاء الصغيرة، كأن تساعد زميلاً وتقف معه في محنته ومشكلاته.

أنصت بقلبك لا بأذنيك فقط، فالإصغاء الحقيقي الفعال أصدق صور المحبة والمشاعر الفياضة.

اصنع لحظات فرح بلا مقابل؛ لأبنائك، لعائلتك، لأصحابك ومعارفك، أو حتى لزميل أنهكه التعب وأضعفته نكد الحياة.

واختتم يومك بتأمل صادق: ما الذي فعلته اليوم بدافع المحبة والاهتمام بغيرك؟ وكيف يمكن أن أزيده غداً؟

إن الحياة قصيرة والأيام تمضي سريعاً، وما يبقى بعد رحيلنا ليس ما جمعناه، بل ما منحناه وقدمناه بمحبة خالصة وقلب صاف رقراق.

قد تكون كلمة، أو لمسة حنان، أو بشاشة، أو موقف عطاء يصدر من القلب.

فلنجعل حياتنا لوحة من ألوان العطاء، نترك فيها أثراً لا يمحوه الزمن.

عِش المحبة والقرب في كل يوم، فكل عمل نابع منها يضاعف قيمتك، لا عند الآخرين فقط، بل في أعماق نفسك وصميم فؤادك حيث يسكن المعنى الحقيقي للحياة وقيمتها.

***

د. أكرم عثمان

  5-11-2025

مع التقدم التكنولوجي المتسارع في كل المجالات، وما افرزه من ثورة رقمية هائلة، وما تمخض عنه من تطور هائل من مخرجات لا حصر لها، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بجدية هو : ما هو حجم التأثير المتوقع للذكاء الاصطناعي على وعي الإنسان؟ وبالتالي هل يمكن أن يمسخ الذكاء الاصطناعي وعينا مستقبلا؟ ويغير من طبيعة تفكيرنا؟ ويمسخ هويتنا البشرية؟

ولا ريب أن الذكاء الاصطناعي، بما بات يتمتع به من قدرات خارقة، يمكنه أن يؤثر على وعينا بطرق متعددة، وذلك من خلال قدرته الفائقة على تحليل البيانات الضخمة، وتقديم التوصيات بالخصوص في اللحظة، وبالتالي فإنه يمكن أن يؤثر الذكاء الاصطناعي على قراراتنا وآرائنا بشكل او بآخر إلى حد بعيد، ولاسيما في ظل سياق التوجه العام للانسان، في الوقت الراهن، بالاستمرار في الاعتماد الكبير على التكنولوجيا في كل المجالات الفنية، والعلمية، والطبية، وغيرها.. مما يعزز الإعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي سيتغلغل في كل مفاصل حياتنا، مما سيؤدي إلى تغيير في طريقة تفكيرنا، وتعلمنا، بشكل كبير، ولاسيما عندما تكون خوارزميات تطبيقات الذكاء الاصطناعي غير محايدة.

ولعل الخطر الحقيقي يمكن عند ذاك، في فقدان السيطرة على مقاليد التكنولوجيا، وخاصة إذا ما ترك المجال مفتوحاً أمام الذكاء الاصطناعي، لكي يتطور دون رقابة، أو ضوابط، تحكم مسار تطوره، الأمر الذي سيؤدي إلى تداعيات خطيرة، ونتائج غير متوقعة، يمكن أن يصبح معها الذكاء الاصطناعي عندئذ، أكثر ذكاءً من الإنسان، بحيث يكون هو المسيطر الحقيقي على كل تفاصيل، ومجريات الحياة.

ويطرح التوسع غير المنضبط للذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى ما تقدم من تداعيات، تحديات صاخبة، واشكاليات أخلاقية كبيرة، تتعلق بتحديد المسؤولية عن قرارات الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن ضمان أن تكون قرارات الذكاء الاصطناعي عادلة، وموضوعية، وغير متحيزة، وبما يضمن استخدام الذكاء الاصطناعي على نحو مقبول، وبطريقة مسؤولة.

 وفي الوقت الذي يمكن أن بكون الذكاء الاصطناعي أداة قوية لتحسين قدرات الإنسان، والإرتقاء بأدائه، ومن ثم، تطوير حياته نحو الأفضل، إلا أنه لابد من أن نكون على دراية تامة بكل التحديات، والمخاطر المحتملة للتوسع في قدراته، وبالشكل الذي يضمن قيام الذكاء الاصطناعي بخدمة مصالح الإنسان، دون أن يشوه تفكيره، او يمسخ وعيه، او يمس عواطفه، وهو ما يتطلب ضمان استخدام الذكاء الاصطناعي مستقبلا، بطريقة آمنة، ومسؤولة، ومطمئنة تماماً.

***

نايف عبوش

أقلامنا تخط بمداد الرثاء والاستياء على مر العصور، ولا تزال في أوج تعبيراتها البكائية وإبداعات الندب والقسوة على الذات والموضوع.

دموع دموع، إيقاع تفاعلاتنا دامع حزين، يفوح منه الأسى والأنين، ولا توجد كوة للفرح أو نافذة لدخول أنوار الحياة إلى دياجير مآسينا.

ثراء وخواء، ومعاشر مساكين وفقراء، يعيشون بإملاقٍ وعناء، وبعض يثرى ويبني كروشا، وأكثرية جائعة تستجدي العطاء من سراق حقوقها الأجلاء.

إستياء إستياء وما آمن من خوف ولا أطعم من جوع، بل أسهم في تعاظم البلاء.

نعمتنا نقمتنا، صناديق ثرواتنا تنانير لسجرنا، معتقداتنا تفرقنا، قبليتنا تقودنا، وفرقتنا وسيلتنا للتباهي بوجودنا المتهالك الأبعاد.

يقولون الإستياء والرثاء لسان حالنا، ولا يمكننا أن نأتي بما ليس فينا، والحقيقة أننا قتلنا ما عندنا وإستحضرنا الأدغال من بلدان الآخرين، فمات زرعنا وتنامت أدغال الهيمنة على حياتنا، فأصبحنا نتوجع من الأشواك التي تحاوطنا وتنغرز في بصائرنا، فذهبت عقولنا، وتسيّدت نفوسنا الأمّارة بالسوء والبغضاء، وهي منبع إبداعاتنا، ومداد أقلامنا الأليمة.

لماذا لا نتحدى ونتوثب، ونتمسك برؤى وتصورات مشتركة ترعى مصالحنا، وتعين أجيالنا على بناء الأفضل، والتفاعل المعاصر مع دول الدنيا التي خرجت من شرانقها الصفراء؟

تساؤلات كثيرة والإستياء أمير والرثاء قدير، ومن العجب أن إبداع الإستياء مرغوب، وقول الرثاء محبوب، ذرف الدموع مطلوب، وكل ملمة برروها بما هو مكتوب، والأيام أظهرت قولهم الكذوب، فالملمات يصنعها الشعب المغلوب، الغاطس بالذنوب!!

رثاءٌ واستياءُ مستدامُ

وبعضٌ في تفاعله الخصام

دموع مسيرنا طفحت وفاضت

يبررها التتحامل والحطام

فرائسها لغيرٍ إستكانت

مجندةً يعززها انتقامُ

***

د. صادق السامرائي

4\11\2025

في المثقف اليوم