أقلام حرة

رشيد الخيّون: عندما يجفُّ دجلة!

لو قُيِّضَ للأنهار كتابة يومياتها، لكان دجلة أكثرها أحداثاً، فكم حضارة، سادت ثم بادت، نشأت على شاطئيه، وغمرها ماؤه، مِن أول جريانه وحتَّى جفافه، هكذا تناقلت الأخبار، أنَّ المنبع حُجب بالسُّدود العملاقة حجباً مُحكماً، مع أنَّ العدالة في المياه مِن حقّ الدول المتشاطئة، بينما جريانه داخل العِراق (1400كم) مِن (نحو 1800كم)، فماذا يحدث بجفافه، سيكون وادٍ «غير ذي زرع»، يُبحث فيه عن الماء. حسناً فعل مَن سبق الحدث وصنّف لتاريخ دجلة «فيضانات بغداد»، قصّ فيه أحمد سوسة قصة النَّهر العملاق، الذي كان مِن أربعة ذُكرت في «الكتاب المقدس»(حداقل).

مَنْ لم يوظف الكناية: «إذا حضر الماء بطل التيمم»! في الإشارة إلى المفاضلة بين شيئين أو شخصين، ولا أظن أنَّ أهل العراق أكثروا من توظيف الكناية، مثلما لا أظن أن لجأ أهل الأهوار والمجاورين للشطّ والنهرين والزابين إلى أداء صلاة الاستسقاء لزرعهم وضرعهم! إلا أن المصيبة لم نسمع بدولة تحولت مياهها إلى تراب، ونباتها الطري شوكاً وعاقولاً، ونسيمها بريح السموم، مثلما حصل لدلتا النهرين الأهوار، وعيون الماء في الجبال!

وهناك ما يُشبع الفضول في ربط العراق بالماء، حيث أقام، ونما على أرضه الصابئة المندائيون، ومعلوم أن عبادتهم تعتمد ماء الأنهر الحي. ومثالاً على شهرة هذه البلاد بالماء يُروى أن أحدهم سأل النبي محمد(ص)، وهو يتجّه مع رجل من أصحابه إلى موضع بدر (رمضان 2 من الهجرة)، بلا سابق معرفة: «ممَنْ أنتما؟ فقال رسول الله (ص): نحن من ماء! ثم انصرف عنه. قال: يقول الشيخ: ما من ماءٍ؟ أمِنْ ماء العراق!» (الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك). وفي اقتران العراق بالماء قال الشاعر: «ارفق بعبدك إنّ فيه فهامةً/ جبليةً ولك العراق وماؤها».

هذا، والحديث حول ماء العراق ذو شجون، فإن تحدثنا عن دجلة وروافدها، والزابين، والفرات، لأشار البردي والقصب بأطرافهما، وليس لنا إهمال ما أورده عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255ه) في أهوار جنوب العراق، حيث دلتا دجلة والفرات، من كلام موجز وبليغ.

قال: «لو اجتهد أعلم الناس، وأنطق الناس أن يجمع في كتاب واحد منافع هذه البطيحة، وهذه الأجمة لما قدر عليها. قال زيد: قصبة خير من نخلة. وبحق أقول: لقد جهدت جهدي أن أجمع منافع القصب ومرافقه وأجناسه، وجميع تصرفه وما يجيء منه فما قدرت عليه حتى قطعته، وإنما معترف بالعجز مستسلم له» (كتاب البلدان).

وهذا بشار بن بُرد قال في صفاء ماء الرافدين رداً على الكوفيين، وهو ينساب إلى البصرة عبر البطائح (الأهوار): «الرافدان توافى ماء بحرهما/ إلى الأبلة شرباً غير محضور».

عندما يجفُّ دجلة لا يجفُّ ماؤه فقط، تجفُّ ثقافة وأدب، ويهاجر البشر، فقد بنوا مدنهم على الماء، سيرحل الصَّيادون، وينعدم الغذاء، الذي كان يهبُه ماؤه، من أسماك وطيور وزروع، ستتصل كرخ بغداد برصافتها بلا جسور، وما بنيت بغداد ومُصرت عاصمة إلا بوجود دجلة، سيمتد أذى الجفاف إلى العراق كافة، وستتأثر البحار التي تُغذيه بالماء.

ستتأثر الأمطار، فلم تنشأ السُّحب منه، وتشتد عواصف الأغبرة. إنَّ جفاف دجلة أكثر خراباً مِما تتركه الحروب، باجتياح أو غزو، لأنه يقضي على واحد مِن أهم وأخطر أسباب الحياة، وكم مِن غزو شهدتها بغداد، وأحالتها خراباً، ويُعاد إعمارها بماء نهرها.

يُفهم مما تقدَّم أن العراق مقرون بماء رافديه، وها هو القرين بخطر، ولو بيع لبيع مثلما يباع النَّفط عبر صهاريج، وأنابيب بلا عدادات، ولتقاسمت الأحزاب الأنُهر والشطوط، لكنهم فرطوا ولم يحافظوا على النَّهر.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم